نحط بها علما ، يجب القطع على من شهد تلك الحال لم تكن له ظاهرة ، فإنا نعلم ان للمشاهد وحضوره مزية في هذا الباب لا يمكن دفعها ، والعادات تقتضي بأن الحال على ما ذكرناه .
فإنا نجد كثيرا ممن يحضر مجالس الظلمة من الملوك يمتنع من انكار بعض ما يجري بحضرتهم من المناكير ، وربما أنكر ما يجري مجراه في الظاهر ، فإذا سئل عن سبب إغضائه وكفه ذكر أنه خاف لامارة ظهرت له ، ولا يلزمه ان تكون تلك الأمرة ظاهرة لكل أحد ، حتى يطالب بأن يشاركه في الظن والخوف كل من عرفه ، بل ربما كان معه في ذلك المقام من لا يغلب على ظنه مثل ما غلب على ظنه من حيث اختص بالأمرة دونه .
ثم قد ذكرنا في كتابنا في الإمامة من أسباب الخوف وامارات الضرر التي تناصرت بها الروايات ، ووردت من الجهات المختلفة ما فيه مقنع للمتأمل ، وانه ( ع ) غولط في الأمر وسوبق إليه وانتهزت غرته ، واغتنمت الحال التي كان فيها متشاغلا بتجهيز النبي صلى الله وآله عليه ، وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة ، وجرى لهم فيها مع الأنصار ما جرى ، وتم لهم عليهم كما اتفق من بشير بن سعد ما تم وظهر ، وانما توجه لهم من قهرهم الأنصار ما توجه ان الإجماع قد انعقد على البيعة ، وأن الرضا وقع من جميع الأمة وروسل أمير المؤمنين عليه السلام .
ومن تأخر معه من بني هاشم وغيرهم مراسلة من يلزمهم بيعة قد تمت ووجبت لا خيار فيها لاحد ، ولا رأي في التوقف عنها لذي رأي ثم تهددوه على التأخر ، فتارة يقال له لا تقم مقام من يظن فيه الحسد لابن عمه ، إلى ما شاكل ذلك من الأقوال والأفعال التي تقتضي التكفل والتثبت ، وتدل على التصميم والتتميم ، وهذه امارات بل دلالات تدل على ان الضرر في مخالفة القوم شديد .
وبعد ، فان الذي نذهب إليه من سبب التقية والخوف مما لابد منه ، إذا فرضوا ان مذهبنا في النص صحيح ، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على أمير المؤمنين ( ع ) بالإمامة في مقام بعد مقام وبكلام لا يحتمل
التأويل ، ثم رأى المنصوص عليه أكثر الأمة بعد الوفاة بلا فصل ، اقبلوا يتنازعون الأمر تنازع من لم يعهد إليه بشئ فيه ، ولا يسمع على الإمامة نصا لان المهاجرين قالوا نحن أحق بالأمر ، لان الرسول صلى الله عليه وآله منا ولكيت وكيت ، وقال الأنصار نحن آويناه ونصرناه فمنا أمير ومنكم أمير ، هذا ، والنص لا يذكر فيما بينهم .
ومعلوم ان الزمان لم يبعد فيتناسوه ومثله لا يتناسى ، فلم يبق إلا أنه عملوا على التصميم ووطنوا نفوسهم على التجليح ، وأنهم لم يستيجزوا الاقدام على خلاف الرسول صلى الله عليه وآله في اجل أوامره وأوثق عهوده ، والتظاهر بالعدول عما أكده وعقده ، إلا لداع قوي وأمر عظيم يخاف فيه من عظيم الضرر ، ويتوقع منه شديد الفتنة .
فأي طمع يبقى في نزوعهم بوعظ وتذكير ؟
وكيف يطمع في قبول وعظه والرجوع إلى تبصيره وإرشاده من رآهم لم يتعظوا بوعظ يخرجهم من الضلالة وينقذهم من الجهالة ؟
وكيف لا يتهمهم على نفسه ودينه من رأى فعلهم بسيدهم وسيد الناس أجمعين فيما عهده وأراده وقصده ؟
وهل يتمكن عاقل بعد هذا أن يقول أي امارة للخوف ظهرت ؟
اللهم الا أن يقولوا إن القوم ما خالفوا نصا ولا نبذوا عهدا ، وإن كل ذلك تقول منكم عليهم لا حجة فيه ، ودعوى لا برهان عليها ، فتسقط حينئذ المسألة من أصلها ، ويصير تقديرها إذا كان أمير المؤمنين ( ع ) غير منصوص عليه بالإمامة ولا مغلوب على الخلافة ، فكيف لم يطالب بها ولم ينازع فيها ؟ ومعلوم انه لا مسألة في ان من لم يطالب بما ليس له ، ولم يجعل إليه ، وإنما المسألة في ان لم يطالب بما جعل إليه .
وإذا فرضنا ان ذلك إليه ، جاء منه كل الذي ذكرناه . ثم يقال لهم إذا سلمتم ان وجوب إنكار المنكر مشروط بما ذكرناه من الشروط ، فلم أنكرتم ان يكون أمير المؤمنين عليه السلام انما أحجم عن المجاهدة بالإنكار ، لان شروط إنكار المنكر لم تتكامل ، إما لأنه كان خائفا على نفسه أو على من يجري مجرى نفسه ، أو مشفقا من وقوع ضرر في الدين هو أعظم مما أنكره ، وما المانع من أن يكون الأمر جرى على ذلك ؟ .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 187 _
فان قالوا أن امارات الخوف لم تظهر .
قلنا : وأي امارة للخوف هي أقوى من الاقدام على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله في أوثق عهوده وأقوى عقوده ، والاستبداد بأمر لاحظ لهم فيه .
وهذه الحال تخرج من أن يكون امارة في ارتفاع الحشمة من القبيح إلى أن يكون دلالة ، وإنما يسوغ أن يقال لا امارة هناك تقتضي الخوف وتدعو إلى سوء الظن إذا فرضنا ان القوم كانوا على أحوال السلامة متضافرين متناصرين متمسكين بأوامر الرسول صلى الله عليه وآله ، جارين على سنته وطريقته .
فلا يكون لسوء الظن عليهم مجال ولا لخوف من جهتهم طريق .
فأما إذا فرضنا انهم دفعوا النص الظاهر وخالفوه وعملوا بخلاف مقتضاه ، فالأمر حينئذ منعكس منقلب وحسن الظن لا وجه له ، وسوء الظن هو الواجب اللازم ، فلا ينبغي للمخالفين لنا في هذه المسألة ان يجمعوا بين المتضادات ، ويفرضوا ان القوم دفعوا النص وخالفوا موجبه ، وهم مع ذلك على أحوال السلامة المعهودة منهم التي تقتضي من الظنون بهم أحسنها وأجملها على أنا لا نسلم انه ( ع ) لم يقع منه إنكار على وجه من الوجوه ، فإن الرواية متظافرة بأنه عليه السلام لم يزل يتظلم ويتألم ويشكو أنه مظلوم ومقهور في مقام بعد مقام وخطاب بعد خطاب .
وقد ذكرنا تفصيل هذه الجملة في كتابنا الشافي في الإمامة وأوردنا طرفا مما روي في هذا الباب ، وبينا ان كلامه ( ع ) في هذا المعنى يترتب في الأحوال بحسب ترتبها في الشدة واللين ، فكان المسموع من كلامه عليه السلام في أيام أبي بكر لا سيما في صدرها ، وعند ابتداء البيعة له ما لم يكن مسموعا في أيام عمر ، ثم صرح عليه السلام وبين وقوى تعريضه في أيام عثمان ، ثم انتهت الحال في أيام تسليم الأمر إليه إلى انه ( ع ) ما كان يخطب خطبة ولا يقف موقفا الا ويتكلم فيه بالألفاظ المختلفة والوجوه المتباينة ، حتى اشترك في معرفة ما في نفسه الولي والعدو والقريب والبعيد .
وفي بعض ما كان ( ع ) بيديه ويعيده
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 188 _
أعذار وإفراغ للوسع ، وقيام بما يجب على مثله ممن قل تمكنه وضعف ناصره ، فأما محاربة أهل البصرة ، ثم أهل صفين ، فلا يجري مجرى التظاهر بالإنكار على المتقدمين عليه ( ع ) ، لأنه وجد على هؤلاء أعوانا وأنصارا يكثر عددهم ويرجي النصر والظفر بمثلهم ، لان الشبهة في فعلهم وبغيهم كانت زايلة عن جميع الأماثل وذوي البصائر ، ولم يشتبه أمرهم إلا على اغنام وطغام ولا إعتبار بهم ولا فكر في نصرة مثلهم .
فتعين الغرض في قتالهم ومجاهدتهم للأسباب التي ذكرناها ، وليس هذا ولا شئ منه موجودا فيمن تقدم ، بل الأمر فيه بالعكس مما ذكرناه لان الجمهور والعدد الجم الكثير ، كانوا على موالاتهم وتعظيمهم وتفضيلهم وتصويبهم في أقوالهم وأفعالهم .
فبعض للشبهة وبعض للانحراف عن أمير المؤمنين عليه السلام والحبة لخروج الأمر عنه ، وبعض لطلب الدنيا وحطامها ونيل الرياسات فيها .
فمن جمع بين الحالتين وسوى بين الوقتين كمن جمع بين المتضادين .
وكيف يقال هذا ويطلب منه ( ع ) من الإنكار على من تقدم مثل ما وقع منه ( ع ) متأخرا في صفين والجمل ، وكل من حارب معه ( ع ) في هذه الحروب ، إلا القليل كانوا قائلين بإمامة المتقدمين عليه ( ع ) ومنهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الأمة ، فكيف يستنصر ويتقوى في اظهار الإنكار على من تقدم بقوم هذه صفتهم ، وابن الإنكار على معاوية وطلحة وفلان وفلان من الإنكار على أبي بكر وعمر وعثمان لولا الغفلة والعصبية ، ولو انه ( ع ) يرجو في حرب الجمل وصفين وسائر حروبه ظفرا ، وخاف من ضرر في الدين عظيم هو أعظم مما ينكره ، لما كان إلا ممسكا ومحجما كسنته فيمن تقدم .
في بيعة علي (ع) للمتآمرين :
فأما البيعة ، فإن أريد بها الرضا والتسليم ، فلم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام القوم بهذا التفسير على وجه من الوجوه ، ومن ادعى ذلك كانت عليه
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
ـ 189 ـ
الدلالة ، فإنه لا يجدها ، وان أريد بالبيعة الصفقة وإظهار الرضا ، فذلك مما وقع منه ( ع ) ، لكن بعد مطل شديد وتقاعد طويل علمهما الخاص والعام ، وانما دعاه إلى الصفقة وإظهار التسليم ما ذكرناه من الأمور التي بعضها يدعو إلى مثل ذلك .
في حضوره مجالسهم :
واما حضور مجالسهم فما كان عليه الصلاة والسلام ممن يتعمدها ويقصدها ، وإنما كان يكثر الجلوس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فيقع الاجتماع مع القوم هنا ، وذلك ليس بمجلس لهم مخصوص .
وبعد ، فلو تعمد حضور مجالسهم لينهى عن بعض ما يجري فيها من منكر ، فإن القوم قد كانوا يرجعون إليه في كثير من الأمور ، لجاز ولكان للحضور وجه صحيح له بالدين علقه قوية ، فأما الدخول في آرائهم ، فلم يكن عليه السلام ممن يدخل فيها إلا مرشدا لهم ومنبها على بعض ما شذ عنهم ، والدخول بهذا الشرط واجب .
في الصلاة خلفهم :
وأما الصلاة خلفهم ، فقد علمنا ان الصلاة على ضربين : صلاة مقتد مؤتم بإمامه على الحقيقة ، وصلاة مظهر للاقتداء والائتمام وان كان لا ينويها فإن ادعي على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام انه صلى ناويا للاقتداء ، فيجب أن يدلوا على ذلك ، فإنا لا نسلمه ولا هو الظاهر الذي لا يمكن النزاع فيه ، وان ادعوا صلاة مظهر للاقتداء فذلك مسلم لهم ، لأنه الظاهر .
إلا انه غير نافع فيما يقصدونه ، ولا يدل على خلاف ما يذهب إليه في أمره ( ع ) ، فلم يبق إلا أن يقال فما العلة في إظهار الاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به ؟ فالعلة في ذلك غلبة القوم على الأمر وتمكنهم من الحل والعقد ، لان الامتناع من إظهار الاقتداء بهم مجاهرة ومنابذة ، وقد قلنا فيما
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 190 _
يؤدي ذلك إليه في ما فيه كفاية .
في أخذه أعطيتهم :
فأما أخذه الأعطية ، فما اخذ عليه السلام إلا حقه ولا سأل على من اخذ ما يستحقه ، اللهم الا أن يقال ان ذلك المال لم يكن وديعة له ( ع ) في أيديهم ولا دينا في ذممهم ، فيتعين حقه ويأخذه كيف شاء وأنى شاء .
لكن ذلك المال انما يكون حقا له إذا كان الجابي لذلك المال والمستفيد له ممن قد سوغت الشريعة جبايته وغنيمته ، ان كان من غنيمة ، والغاصب ليس له ان يغنم ولا ان يتصرف التصرف المخصوص الذي يفيد المال ، عن ذلك انا نقول : ان تصرف الغاصب لأمر الأمة إذا كان عن قهر وغاية ، وسوغت الحال للأمة الإمساك عن النكير خوفا وتقية يجري في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز اخذ الأموال التي تفئ على يده ، ونكاح السبي وما شاكل ذلك .
وان كان هو لذلك الفعل موزورا معاقبا ، وهذا بعينه عليه نص عن ائمتنا عليهم السلام لما سئلوا عن النكاح في دول الظالمين والتصرف في الأموال .
في نكاح السبي :
فأما ما ذكر في السؤال من نكاح السبي فقد قلنا في هذا الباب ما فيه كفاية لو اقتصرنا عليه لكنا نزيد في الأمر وضوحا ، بأن نقول ليس المشار بذلك فيه الا إلى الحنفية أم محمد رضي الله عنه ، وقد ذكرنا في كتابنا المعروف بالشافي انه عليه السلام لم يستبحها بالسبي بل نكحها ومهرها ، وقد وردت الرواية من طريق العامة فضلا عن طريق الخاصة بهذا بعينه فان البلاذري
(1) روى في كتابه المعروف بتاريخ الأشراف ، عن علي بن المغيرة بن
---------------------------
(1) البلاذري : ( أحمد بن يحيى ) مؤرخ عربي ولد في بغداد ودرس فيها ، واشتهر بالنقل عن الفارسية ، أهم مصنفاته كتاب فتوح البلدان وكتاب أنساب الاشراف ، اعترف له الجميع بصحة الرواية والنقد .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 191 _
الاثرم وعباس بن هشام الكلبي ، عن هشام عن خراش بن اسمعيل العجلي ، قال أغارت بنو أسد على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر وقدموا بها المدينة في أول خلافة أبي بكر ، فباعوها من علي عليه الصلاة والسلام ، وبلغ الخبر قومها فقدموا المدينة على علي عليه السلام فعرفوها واخبروه بموضعها منهم ، فاعتقها ومهرها وتزوجها ، فولدت له محمدا وكناه أبا القاسم .
قال وهذا هو الثبت لا الخبر الأول ، يعني بذلك خبرا رواه عن المدايني ، انه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام إلى اليمن ، فأصاب خولة في بني زبيدة وقد ارتدوا مع عمرو بن معد يكرب ، وصارت في سهمه ، وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ان ولدت منك غلاما فسمه بإسمي وكنه بكنيتي ، فولدت له ( ع ) بعد موت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها فسماه محمدا وكناه أبا القاسم ، وهذا الخبر إذا كان صحيحا لم يبق سؤال في باب الحنفية .
فأما انكاحه عليه السلام إياها ، فقد ذكرنا في كتابنا الشافي ، الجواب عن هذا الباب مشروحا ، وبينا انه ( ع ) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعد وتهدد ومراجعة ومنازعة بعد كلام طويل مأثور ، أشفق معه من شؤون الحال ظهور ما لا يزال يخفيه منها ، وان العباس رحمة الله عليه لما رأى ان الأمر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفرقة سأله ( ع ) رد أمرها إليه ففعل ، فزوجها منه .
وما يجري على هذا الوجه معلوم معروف انه على غير اختيار ولا إيثار ، وبينا في الكتاب الذي ذكرناه انه لا يمتنع أن يبيح الشرع أن يناكح بالإكراه ممن لا يجوز مناكحته مع الاختيار ، لا سيما إذا كان المنكح مظهرا للإسلام والتمسك بسائر الشريعة .
وبينا أن العقل لا يمنع من مناكحة الكفار على سائر انواع كفرهم ، وانما المرجع فيما يحل من ذلك أو يحرم إلى الشريعة .
وفعل أمير المؤمنين عليه السلام أقوى حجة في أحكام الشرع ، وبينا الجواب عن الزامهم لنا ، فلو اكره على انكاح اليهود والنصارى لكان
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 192 _
يجوز ذلك ، وفرقنا بين الأمرين بأن قلنا إن كان السؤال عما في العقل فلا فرق بين الأمرين ، وان كان عما في الشرع فالإجماع يحظر ان تنكح اليهود على كل حال ، وما اجمعوا على حظر نكاح من ظاهره الإسلام وهو على نوع من القبيح لكفر به ، إذا اضطررنا إلى ذلك واكرهنا عليه .
فإذا قالوا فما الفرق بين كفر اليهودي وكفر من ذكرتم ؟
قلنا لهم : وأي فرق بين كفر اليهودية في جواز نكاحها عندكم وكفر الوثنية .
فأما الدخول في الشورى ، فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصى ، ومن جملته انه عليه السلام لولا الشورى لم يكن ليتمكن من الاحتجاج على القوم بفضائله ومناقبه ، والأخبار الدالة على النص بالإمامة عليه ، وبما ذكرناه في الأمور التي تدل على ان أسبابه إلى الإمامة أقوى من أسبابهم ، وطرقه إلى تناولها اقرب من طرقهم ، ومن كان يصغي لولا الشورى إلى كلامه المستوفى في هذا المعنى .
وأي حال لولاها لكانت يقتضي ذكر ما ذكره من المقامات والفضائل ، ولو لم يكن في الشورى من الغرض الا هذا وحده لكان كافيا مغنيا .
وبعد ، فان المدخل له في الشورى هو الحامل له على إظهار البيعة للرجلين ، والرضا بإمامتهما وامضاء عقودهما ، فكيف يخالف في الشورى ويخرج منها وهي عقد من عقود من لم يزل ( ع ) ممضيا في الظاهر لعقوده حافظا لعهوده ، وأول ما كان يقال له انك انما لا تدخل في الشورى لاعتقادك ان الإمامة إليك ، وان اختيار الأمة للإمام بعد الرسول باطل ، وفي هذا ما فيه ، والامتناع من الدخول يعود إليه ، ويحمل عليه ، وقد قال قوم من أصحابنا انه انما دخل فيها تجويز ان ينال الأمر منها ، ومعلوم ان كل سبب ظن معه ، أو جواز الوصول إلى الأمر الذي قد تعين عليه القيام به يلزمه ( ع ) التوصل به الهجرة له ، وهذه الجملة كافية في الجواب عن جميع ما تضمنه السؤال .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 193 _
عن عدم إفتائه بمذاهبه في أيام المتآمرين :
( مسألة ) : فإن قيل : إذا كنتم تروون عنه ( ع ) وتدعون عليه في أحكام الشريعة مذاهب كثيرة لا يعرفها الفقهاء له مذهبا ، وقد كان عليه السلام عندكم يشاهد الأمر يجري بخلافها ، فإلا أفتى بمذاهبه ونبه عليها وارشد إليها ،
وليس لكم أن تقولوا انه ( ع ) استعمل التقية كما استعملها فيما تقدم ، لأنه ( ع ) قد خالفهم في مذاهب استبد بها وتفرد بالقول فيها ، مثل قطع السارق من الأصابع ، وبيع أمهات الأولاد ، ومسائل في الحدود ، وغير ذلك مما مذهبه ( ع ) فيه إلى الآن معروف .
فكيف اتقى في بعض وأمن في آخر ؟ وحكم الجميع واحد في انه خلاف في أحكام شرعية لا يتعلق بإمامة ولا تصحيح نص ولا إبطال اختيار ؟
( الجواب ) : قلنا : لم يظهر أمير المؤمنين عليه السلام في أحكام الشريعة خلافا للقوم إلا بحيث كان له موافق وان قل عدده ، أو بحيث علم ان الخلاف لا يؤول إلى فساد ولا يقتضي إلى مجاهرة ولا مظاهرة .
وهذه حال يعلمها الحاضر بالمشاهدة أو يغلب على ظنه فيها ما لا يعلمه الغائب ولا يظنه ، واستعمال القياس فيما يؤدي إلى الوحشة بين الناس ونفار بعضهم من بعض لا يسوغ ، لانا قد نجد كثيرا من الناس يستوحشون في ان يخالفوا في مذهب من المذاهب غاية الاستيحاش ، وان لم يستوحشوا من الخلاف فيما هو أعظم منه وأجل موقعا ، ويغضبهم في هذا الباب الصغير ولا يغضبهم الكبير ، وهذا انما يكون لعادات جرت وأسباب استحكمت ، ولاعتقادهم ان بعض الأمور وان صغر في ظاهره ، فإنه يؤدي إلى العظائم والكبائر ، أو لاعتقادهم ان الخلاف في بعض الأشياء وان كان في ظاهر الأمر كالخلاف في غيره ، لا يقع الا مع معاند منافس .
وإذا كان الأمر على ما ذكرناه لم ينكر أن يكون أمير المؤمنين ( ع ) انما لم يظهر في جميع مذاهبه التي خالف فيها القوم إظهارا واحدا ، لأنه ( ع ) علم أو غلب في ظنه ان إظهار ذلك يؤدي من
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 194 _
المحتمل الضرر في الدين إلى ما لا يؤدي إليه إظهار ما أظهره ، وهذا واضح لمن تدبره .
وقد دخل في جملة ما ذكرناه الجواب عن قولهم : لم لم يغير الأحكام ويظهر مذاهبه ، وما كان مخبوا في نفسه عند افضاء الأمر إليه وحصول الخلافة في يديه ، فإنه لا تقية على من هو أمير المؤمنين وإمام جميع المسلمين ، لانا قد بينا ان الأمر ما افضى إليه ( ع ) إلا بالاسم دون المعنى ، وقد كان عليه السلام معارضا منازعا مغصصا طول أيام ولايته إلى ان قبضه الله تعالى إلى جنته ، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدمين عليه ( ع ) رجل من تابعه وجمهورهم شيعة اعدائه ( ع ) .
ومن يرى انهم مضوا على اعدل الأمور وأفضلها ، وأن غاية من يأتي بعدهم ان يتبع آثارهم ويقتفي طرائقهم .
وما العجب من ترك أمير المؤمنين عليه السلام ما ترك من اظهار بعض مذاهبه التي كان الجمهور يخالفه فيها ، وإنما العجب من اظهار شئ من ذلك مع ما كان عليه من شر الفتنة وخوف الفرقة ، وقد كان ( ع ) يجهر في كل مقام يقومه بما هو عليه من فقد التمكن وتقاعد الأنصار وتخاذل الأعوان ، بما ان ذكرنا قليله طال به الشرح وهو ( ع ) القائل : " والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى يظهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول يا رب ان عليا قد قضى بقضائك " .
وهو القائل عليه السلام وقد استأذنه قضاته فقالوا بم نقضي يا أمير المؤمنين فقال ( ع ) : ( اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي ) يعني ( ع ) من تقدم موته من أصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على احوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به ، وهذا واضح فيما قصدناه .
وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما أفضى التصرف في الإمامة إليه ( ع ) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 195 _
في مسألة التحكيم :
( مسألة ) : فان قيل : فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص ؟ وما العذر في ان حكم في الدين الرجال ، وهذا يدل على شكه في إمامته وحاجته إلى علمه بصحة طريقته ؟ ثم ما الوجه في تحكيمه فاسقين عنده عدوين له .
أو ليس قد تعرض لذلك ان يخلعا إمامته ويشككا الناس فيه وقد مكنهما من ذلك بأن حكمهما ، وكانا غير متمكنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله ؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلك مع امكانه واستظهاره وحضور ناصره ؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الكتاب بالإمامة وتنظيره لمعاوية في ذكر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلى الأب كما فعل ذلك به ، وانتم تعلمون ان بهذه الأمور ضلت الخوارج مع شدة تخشنها في الدين وتمسكها بعلائقه ووثايقه ؟ .
( الجواب ) : قلنا كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشكك فيه لأجل أمر محتمل ، وقد ثبت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدلة عقلية وسمعية ، فليس يجوز ان نرجع عن ذلك اجمع ، ولا عن شئ منه ، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره ، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ ولو كان ظاهره اقرب إلى الخطأ وأدنى إلى مخالفة الصواب ، بل الواجب في ذلك القطع على مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل ، أو صرف ماله ظاهر عن ظاهره ، والعدول به إلى موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل .
وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الأدلة العقلية مما يتعلق به الملحدون أو المجبرة أو المشبهة ، وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة ، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية ، كما انها كذلك فيما ذكرناه من الأصول ،
لكننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها كما لم نفعل ذلك
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 196 _
فيما صدرنا به هذا الكتاب من الكلام في تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعاصي .
فنقول : إن أمير المؤمنين عليه السلام ما حكم مختارا ، بل أحوج إلى التحكيم وألجئ إليه لان أصحابه ( ع ) كانوا من التخاذل والتقاعد والتواكل إلا القليل منهم على ما هو معروف مشهور ، ولما طالت الحرب وكثر القتل وجل الخطب ملوا ذلك وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف ، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع إليها وإظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق ، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمرو بن العاص ، والمكيدة التي كادبها لما أحس بالبوار وعلو كلمة أهل الحق ، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف ، فعند ذلك وجد هؤلاء الاغنام طريقا إلى الفرار وسبيلا إلى وقوف أمر المناجزة .
ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه ، وظن ان الذي دعى إليه أهل الشام من التحكيم وكف الحرب على سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا على وجه المكيدة والخديعة ، فطالبوه عليه السلام بكف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع ( ع ) من ذلك امتناع عالم بالمكيدة ظاهر على الحيلة ، وصرح لهم بأن ذلك مكر وخداع ، فأبوا ولجوا فأشفق ( ع ) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسكره وجمهور أصحابه من فتنة صماء هي اقرب إليه من حرب عدوه ، ولم يأمن ان يعتدى ما بينه وبينهم إلى ان يسلموه إلى عدوه أو يسفكوا دمه ، فأجاب إلى التحكيم على مضض .
ورد من كان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف على التمكن منه ، حتى انهم قالوا للاشتر رحمه الله تعالى وقد امتنع من ان يكف عن القتال وقد أحس بالظفر وأيقن بالنصر ، أتحب انك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين عليه السلام بمكانه قد سلم إلى عدوه وتفرق أصحابه عنه .
وقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا على حقكم ، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 197 _
اعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، انهم والله ما رفعوا المصاحف ليعملوا بها وانما رفعوها خديعة ودهاء ومكيدة .
فأجاب ( ع ) إلى التحكيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف ، وتلافيا للضرر الأعظم بتحمل الضرر الأيسر ، وأراد ان يحكم من جهته عبدالله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا كما لجوا في أصل التحكيم ، وقالوا لابد من يماني مع مضري .
فقال ( ع ) فضموا الاشتر وهو يماني إلى عمرو ، فقال الأشعث بن قيس : الاشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه ، واختاروا أبا موسى مقترحين له ( ع ) ملزمين له تحكيمه ، فحكمهما بشرط ان يحكما بكتاب الله تعالى ولا يتجاوزاه ، وانهما متى تعدياه فلا حكم لهما .
هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ ، لانا نعلم انهما لو حكما بما في الكتاب لاصابا الحق ، وعلمنا ان أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أولى بالأمر ، وانه لا حظ لمعاوية وذويه في شئ منه ، ولما عدلا إلى طلب الدنيا ومكر أحدهما بصاحبه ونبذا الكتاب وحكمه وراء ظهورهما ، خرجا من التحكيم وبطل قولهما وحكمهما ، وهذا بعينه موجود في كلام أمير المؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحكيم ، وكل ما ذكرناه في هذا الفصل من ذكر الأعذار في التحكيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من كلامه عليه السلام ، وقد روي ذلك عنه عليه السلام مفصلا مشروحا .
فأما تحكيمهما مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه ، إذ كنا قد بينا ان الإكراه وقع على أصل الاختيار وفرعه ، وأنه عليه السلام ألجئ إليه جملة ثم إلى تفصيله ، ولو خلى عليه السلام واختياره ما أجاب إلى التحكيم أصلا ، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم ، لكنه أجاب إليه ملجأ كما أجاب إلى ما اختاروه بعينه كذلك .
وقد صرح ( ع ) بذلك في كلامه حيث يقول : لقد أمسيت أميرا وأصبحت مأمورا ، وكنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 198 _
وكيف يكون التحكيم منه ( ع ) دالا على الشك ، وهو ( ع ) ناه عنه وغير راض به ومصرح بما فيه من الخديعة ؟ وانما يدل على شك من حمله عليه وقاده إليه ، وانما يقال ان التحكيم يدل على الشك إذا كنا لا نعرف سببه والحامل عليه ، أو كان لا وجه له إلا ما يقتضي الشك .
فأما إذا كنا قد عرفنا ما اقتضاه وادخل فيه ، وعلمنا انه ( ع ) ما أجاب عليه إلا لدفع الضرر العظيم ، ولان تزول الشبهة عن قلب من ظن به ( ع ) أنه لا يرضى بالكتاب ولا يجيب إلى تحكيمه ، فلا وجه لما ذكروه .
وقد أجاب ( ع ) عن هذه الشبهة بعينها في مناظرتهم لما قالوا له : أشككت ؟ فقال عليه السلام : أنا أولى بأن لا أشك في ديني أم النبي صلى الله عليه وآله ؟ أو ما قال الله تعالى لرسوله : ( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )
(1) .
واما قول السائل ، فإنه ( ع ) تعرض لخلع إمامته ومكن الفاسقين من ان يحكما عليه بالباطل ، فمعاذ الله ان يكون كذلك ، لانا قد بينا انه ( ع ) انما حكمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه ، لأقرا إمامته واوجبا طاعته ، لكنهما عدلا عنه فبطل حكمهما ، فما مكنهما من خلع إمامته ولا تعرض منهما لذلك .
ونحن نعلم ان من قلد حاكما أو ولى أميرا ليحكم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه ، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومكنه من العدول عن الواجب ، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلك ، بل كان اللوم عائدا على من خالف ما شرط عليه ، فأما تأخيره جهاد الظالمين وتأجيل ما يأتي من استيصالهم ، فقد بينا العذر فيه ، وان أصحابه ( ع ) تخاذلوا وتواكلوا واختلفوا ، وان الحرب بلا أنصار وبغير أعوان لا يمكن ، والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه .
---------------------------
(1) القصص : 49 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 199 _
فأما عدوله عن التسمية بأمير المؤمنين واقتصاره على التسمية المجردة ، فضرورة لحال دعت إليها .
وقد سبق إلى مثل ذلك سيد الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله في عام الحديبية ، وقصته مع سهل بن عمرو ، وأنذره عليه السلام بأنه : ستدعى إلى مثل ذلك وتجيب على مضض . فكان كما أنذر وخبر رسول الله صلى الله عليه وآله . واللوم بلا إشكال زايل عما اقتدى فيه بالرسول صلى الله عليه وآله . وهذه جملة تفصيلها يطول ، وفيها لمن أنصف من نفسه بلاغ وكفاية .
في أن عليا لم يندم على التحكيم :
( مسألة ) : فان قيل فإذا كان عليه السلام من أمر التحكيم على ثقة ويقين فلم روي عنه ( ع ) انه كان يقول بعد التحكيم في مقام بعد آخر : لقد عثرت عثرة لا تنجبر ، سوف اكيس بعدها واستمر واجمع الرأي الشتيت المنتشر أو ليس هذا اذعانا بأن التحكيم جرى على خلاف الصواب ؟ .
( الجواب ) : قلنا قد علم كل عاقل قد سمع الأخبار ضرورة ان أمير المؤمنين عليه السلام وأهله وخلصاء شيعته وأصحابه كانوا من أشد الناس إظهارا لوقوع التحكيم من الصواب والسداد موقعه ، وان الذي دعي إليه حسن ، والتدبير أوجبه ، وأنه ( ع ) ما اعترف قط بخطأ فيه ولا أغضى عن الاحتجاج على من شك فيه وضعفه ، كيف والخوارج انما ضلت عنه وعصته وخرجت عليه ، لأجل انها إرادته على الاعتراف بالزلل في التحكيم فامتنع كل امتناع وأبي اشد إباء وقد كانوا يقنعون منه ويعاودون طاعته ونصرته بدون هذا الذي أضافوه إليه ( ع ) من الإقرار بالخطأ وإظهار الندم .
وكيف يمتنع من شئ ويعترف بأكثر منه ، ويغصب من جزء ويجيب إلى كل هذا مما لا يظن به احد ممن يعرفه حق معرفته ، وهذا الخبر شاذ ضعيف ، فإما ان يكون باطلا
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 200 _
موضوعا أو يكون الغرض فيه غير ما ظنه القوم من الاعتراف بالخطأ في التحكيم .
فقد روي عنه عليه السلام معنى هذا الخبر وتفسير مراده منه ، ونقل من طرق معروفة موجودة في كتب أهل السير ، انه عليه السلام لما سئل عن مراده بهذا الكلام ، قال كتب إلى محمد بن أبي بكر بأن اكتب له كتابا في القضاء يعمل عليه ، فكتبت له ذلك وانفذته إليه ، فاعترضه معاوية فأخذه ، فأسف ( ع ) على ظفر عدوه بذلك ، وأشفق من أن يعمل بما فيه من الأحكام ، وتوهم ضعفة أصحابه ان ذلك من علمه ومن عنده ، فتقوى الشبهة به عليهم .
وهذا وجه صحيح يقتضي التأسف والتندم ، وليس في الخبر المتضمن للشعر ما يقتضي ان تندمه كان على التحكيم دون غيره . فإذا جاءت رواية بتفسير ذلك عنه ( ع ) ، كان الأخذ بها أولى .
في أن قتله للخوارج كان بعهد من رسول الله :
( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما فعله أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عند حربه للخوارج يوم النهروان من رفعه رأسه إلى السماء ناظرا إليها تارة والى الأرض أخرى وقوله ( ع ) : والله ما كذبت ولا كذبت ، فلما قتلهم وفرغ من الحرب ، قال له ابنه الحسن ( ع ) : يا أمير المؤمنين أكان رسول الله صلى الله عليه وآله تقدم إليك في هؤلاء بشئ ؟ ، قال : لا ولكن أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكل حق ، ومن الحق أن أقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، أو ليس قد تعلق بهذا النظام في كتابه المعروف بالنكت ، وقال هذا توهيم منه ( ع ) لأصحابه أن رسول الله قد تقدم إليه في أن الخوارج سيخالفوه ويقتلهم ، إذ يقول والله ما كذبت ولا كذبت .
( الجواب ) : إنا لا ندري كيف ذهب على النظام كذب هذه الرواية ، يعني التضمنة لقوله ( ع ) انه لم يتقدم الرسول إليه في ذلك بشئ ، إن كان النظام رواها ونقلها ، أم كيف استجاز ان يضيفها إليه ( ع ) ان كان تخرصها ؟ وكيف ظن ان مثل ذلك يخفى على احد مع ظهور الحال وتواتر الروايات عنه