عليه السلام بالإنذار لقتال أهل النهروان وكيفيته ، والاشعار بقتل المخدج ذي الثدية ، وإنما كان عليه السلام ينظر إلى السماء ثم إلى الأرض ويقول ما كذبت ولا كذبت استبطاء لوجود المخدج ، لأنه ( ع ) عند قتل القوم أمر بطلبه في جملة القتلى ، فلما طال الأمر في وجوده وأشفق ( ع ) من وقوع شبهة من ضعفة أصحابه فيما كان يخبر به وينذر من وجوده فقلق ( ع ) لذلك واشتد همه وكرر قوله ما كذبت ولا كذبت ، إلى ان اتاح الله وجوده والظفر به بين القتلى على الهيئة التي كان ( ع ) ذكرها ، فلما احضروه اياه كبر ( ع ) واستبشر بزوال الشبهة في صحة خبره .
  وقد روى من طرق مختلفة وجهات كثيرة عنه ( ع ) الإنذار بقتال الخوارج وقتل المخدج على صفته التي وجد عليها ، وأنه عليه السلام كان يقول لأصحابه أنهم لا يعبرون النهر حتى يصرعوا دونه ، وأنه لا يقتل من أصحابه إلا دون العشرة ، ولا يبقى من الخوارج إلا دون العشرة ، حتى أن رجلا من أصحابه قال له يا أمير المؤمنين ذهب القوم وقطعوا النهر .
  فقال ( ع ) لا والله ما قطعوه ولا يقطعونه حتى يقتلوا دونه عهدا من الله ورسوله ، فكيف يستشعر عاقل ان ذلك من غير علم ولا اطلاع من الرسول صلى الله عليه وآله على وقوعه وكونه .
  وقد روي عن ابن أبي عبيدة اليماني لما سمعه ( ع ) يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بقتال الخوارج قبل ذلك بمدة طويلة وقتل المخدج ، شك فيه لضعف بصيرته فقال له : أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ؟ فقال أي ورب الكعبة مرات .
  وقد روي أمر الخوارج وقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم وإنذار الرسول صلى الله عليه وآله بذلك جماعة من الصحابة ، لولا ان في ذكر ذلك خروجا عن غرض الكتاب لذكرناه ، حتى أن عائشة روت ذلك فيما رفعه عامر عن مسروق

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 202 _

  قال : دخلت على عائشة ، فقالت من قتل الخوارج ؟ قلت قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام ، فسكتت ، فقلت لها يا امة أسألك بحق الله وحق نبيه وحقي ، فإني لك ولد إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهم شيئا لما اخبرتنيه ، قالت سمعت رسول الله يقول هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة .
  وعن مسروق أيضا عن عائشة أنها قالت من قتل ذا الثدية ؟ قلت علي بن أبي طالب ، قالت لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه كتب إلي يخبرني انه قتله بالاسكندرية ، إلا انه لا يمنعني ما في نفسي ان أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه سمعته يقول يقتلهم خير أمتي بعدي .
  وروى فضالة بن أبي فضيلة وهو ممن كان شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا ، قال اشتكى أمير المؤمنين عليه السلام بينبع شكاة ثقل منها ، فخرج أبي يعوده ، فخرجت معه ، فلما دخل عليه قال لا تخرج إلى المدينة ، فإن أصابك أجلك شهدك أصحابك وصلوا عليك وإنك هاهنا بين ظهراني أعراب جهينة ، فقال عليه السلام اني لا أموت من مرضي هذا لأنه فيما عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وآله اني لا أموت حتى أؤمر واقتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وحتى تخضب هذه من هذا وأشار ( ع ) إلى لحيته ورأسه ، وذكر المروي في هذا الباب يطول والأمر في إخباره عليه السلام بقصة الخوارج وقتاله ( ع ) لهم وإنذاره بذلك ظاهرا جدا .

  بيان أن عليا قد يعرض في كلامه خدعة الحرب :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه السلام من قوله : إذا حدثتكم عن رسول الله بحديث فهو كما حدثتكم ، فوالله لان أخر من السماء أحب إلي من أن اكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإذا سمعتموني احدث فيما بيني وبينكم ، فإنما الحرب خدعة ، وأليس هذا مما نفاه النظام ايضا وقال لم

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 203 _

  يحدثهم عن رسول الله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، وذكر ان هذا يجري مجرى التدليس في الحديث .
  ( الجواب ) : قلنا ان أمير المؤمنين عليه السلام لفرط احتياطه بالدين وتخشنه فيه وعلمه بأن المخبر ربما دعته الضرورة إلى ترك التصريح واستعمال التعريض ، أراد أن يميز للسامعين بين الأمرين ويفصل لهم بين ما لايدخل فيه التعريض من كلامه مما باطنه كظاهره ، وبين ما يجوز ان يعرض فيه للضرورة ، وهذا نهاية الحكمة منه وإزالة اللبس والشبهة ، ويجري البيان والإيضاح بالضد فيما يوهمه النظام من دخوله في باب التدليس في الحديث ، لان المدلس يقصد إلى الإبهام ويعدل عن البيان والإيضاح طلبا لتمام غرضه ، وهو عليه السلام ميز بين كلامه وفرق بين أنواعه حتى لا تدخل الشبهة فيه على احد .
  وأعجب من هذا كله قوله انه لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، لانه ما اعتذر كما ظنه ، وانما نفى ان يكون التعريض مما يدخل روايته عن رسول الله ، كما انه ربما دخل ما يخبر به عن نفسه قصدا للإيضاح ، ونفي الشبهة ، وليس كل من نفى عن نفسه شيئا واخبر عن براءته منه فقد فعله .
  وقوله عليه السلام لان أخر من السماء يدل على انه ما فعل ذلك ولا يفعله ، وإنما نفاه حتى لا يلتبس على احد خبره عن نفسه ، ومما يجوز فيه مما يرويه ويسنده إلى رسول الله .

  في قوله ما حدثني أحد عن الرسول إلا استحلفته :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام من انه قال كنت إذا حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله بحديث استحلفته بالله أنه سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله فإن حلف صدقته وإلا فلا ، وحدثني أبو بكر وصدقني ، أو ليس هذا الخبر مما طعن به النظام وقال لا يخلو المحدث عنده من ان يكون ثقة أو متهما ، فإن كان ثقة فما معنى

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 204 _

  الاستحلاف ؟ وان كان متهما فكيف يتحقق قول المتهم بيمينه ؟ وإذا جاز ان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالباطل جاز ان يحلف على ذلك بالباطل ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا هذا خبر ضعيف مدفوع مطعون على اسناده ، لان عثمان بن المغيرة رواه عن علي بن ربيعة الوالبي عن اسماء بن الحكم الفزاري ، قال سمعت عليا عليه السلام يقول كذا وكذا واسماء بن الحكم هذا مجهول عند أهل الرواية لا يعرفونه ولا روي عنه شئ من الأحاديث غير هذا الخبر الواحد .
  وقد روي أيضا من طريق سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقري عن اخيه عن جده ابي سعيد رواه هشام بن عمار والزبير بن بكار عن سعد بن سعيد بن ابي سعيد عن أخيه عبدالله بن سعيد عن جده عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال الزبير عن سعد بن سعيد أنه ما أرى أخبث منه ، وقال أبو عبدالرحمن الشيباني : عبدالله بن سعيد بن ابي سعيد المقري متروك الحديث ، وقال يحيى بن معين انه ضعيف .
  ورووه من طريق أبي المغيرة المخزومي عن ابن نافع عن سليمان بن يزيد عن المقري وابو مغيرة المخزومي مجهول لا يعرفه أكثر أهل الحديث .
  ورووه من طريق عطا بن مسلم عن عمارة عن محرز عن ابي هريرة عن أمير المؤمنين عليه السلام قالوا : محرز لم يسمع من أمير المؤمنين ( ع ) بل لم يره ، وعمارة وهو عمارة بن حريز وهو ابن هرون العبدي ، قيل أنه متروك الحديث .
  ومما ينبئ عن ضعف هذا الحديث واختلاله ان من المعروف الظاهر أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يرو عن احد قط حرفا غير النبي صلى الله عليه وآله ، وأكثر ما يدعى عليه من ذلك هذا الخبر الذي نحن في الكلام عليه .
  وقوله ما حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا استحلفته ، يقتضي ظاهره أنه قد سمع اخبارا عنه ( ع ) من جماعة من الصحابة ، والمعلوم خلاف ذلك .
  واما تعجب النظام من الاستحلاف ففي غير موضعه ، لانا نعلم ان في عرض اليمين تهيبا لمن

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 205 _

  عرضت عليه وتذكيرا بالله تعالى وتخويفا من عقابه ، سواء كان من تعرض والاقدام عليها يزيدنا في الثقة بصيرة ، وربما قوى ذلك حال الظنين لبعد الاقدام على اليمين الفاجرة ، ولهذا نجد كثيرا من الجاحدين للحقوق متى عرضت عليهم اليمين امتنعوا منها وأقروا بها بعد الجحود واللجاج .
  ولهذا استظهر في الشريعة باليمين على المدعى عليه ، وفي القاذف زوجته بالتلفظ باللعان .
  ولو أن ملحدا أراد الطعن على الشريعة واستعمل من الشبهة ما استعمله النظام ، فقال اي معنى لليمين في الدعاوى ، والمستحلف ان كان ثقة فلا معنى لأحلافه ، وان كان ظنينا متهما فهو بأن يقدم على اليمين أولى ، وكذلك في القاذف زوجته لما كان له جواب إلا ما اجبنا به النظام ، وقد ذكرناه .
  وقد حكي عن الزبير بن بكار في هذا الخبر تأويل قريب وهو انه قال : كان أبو بكر وعمر إذا جاءهما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يعرفانه لا يقبلاه حتى يأتي مع الذي ذكره آخر ، فيقوما مقام الشاهدين ، قال فأقام أمير المؤمنين عليه السلام اليمين مع دعوى المحدث مقام الشاهد مع اليمين في الحقوق ، كما أقاما الرواية في طلب شاهدين عليهما مقام باقي الحقوق .
  فان قيل أو ليس هذا الحديث إذا سلمتوه وأخذتم في تأويله يقتضي ان أمير المؤمنين عليه السلام ما كان يعلم الشئ الذي يخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وانه كان يستفيده إلا من المخبر ، ولولا ذلك لما كان لاستحلافه معنى ؟ وهذا يوجب انه ( ع ) كان غير محيط بعلم الشريعة على ما يذهبون إليه ؟ .
  قلنا : قد بينا الجواب عن هذه الشبهة في كتابنا الملقب بالشافي في الإمامة ، وذكرنا انه ( ع ) وان كان عالما بصحة ما اخبره به المخبر ، وأنه من الشرع ، فقد يجوز ان يكون المخبر له به ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله ، وإن

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 206 _

  كان من شرعه ، ويكون كاذبا في ادعائه السماع ، فكان يستحلفه لهذه العلة ، وقلنا أيضا لا يمتنع ان يكون ذلك انما كان منه ( ع ) في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الاحوال لم يكن محيطا بجميع الأحكام ، بل كان يستفيدها حالا بعد حال .
  فان قيل : كيف خص أبا بكر في هذا الباب بما لم يخص به غيره ؟
  قلنا : يحتمل ان يكون أبو بكر حدثه بما علم أنه سمعه من الرسول وحضر تلقيه له من جهته صلى الله عليه وآله ، فلم يحتج إلى استحلافه لهذا الوجه .

  في حكمه بعد غنيمة المال والذرية :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما ذكره النظام في كتابه المعروف بالنكت من قوله العجب مما حكم به علي بن أبي طالب في حرب أصحاب الجمل ، لأنه ( ع ) قتل المقاتلة ولم يغنم ، فقال له قوم من أصحابه إن كان قتلهم حلالا فغنيمتهم حلال ، وإن كان قتلهم حراما فغنيمتهم حرام فكيف قتلت ولم تسب ؟ فقال ( ع ) فأيكم يأخذ عائشة في سهمه ؟ فقال قوم إن عائشة تصان لرسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فنحن لا نغنمها ونغنم من ليس سبيله من رسول الله صلى الله عليه وآله سبيلها ، قال فلم يجبهم إلى شئ من ذلك ، فقال له عبدالله بن وهب الراسبي : أليس قد جاز ان يقتل كل من حارب مع عائشة ولا تقتل عائشة ؟ قال بلى قد جاز ذلك وأحله الله عزوجل ، فقال له عبدالله بن وهب : فلم لا جاز ان نغنم غير عايشة ممن حاربنا ويكون غنيمة عايشة غير حلال لنا فيما تدفعنا عن حقنا ، فأمسك ( ع ) عن جوابه وكان هذا أول شئ حقدته الشراة على علي عليه الصلاة والسلام ؟
  ( الجواب ) : قلنا ليس يشنع أمير المؤمنين عليه السلام ويعترضه في الأحكام الا من قد أعمى الله قلبه وأضله عن رشده ، لأنه المعصوم الموفق المسدد على ما دلت عليه الأدلة الواضحة ، ثم لو لم يكن كذلك وكان على

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 207 _

  ما يعتقده المخالفون ، أليس هو الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وآله بأنه ( ع ) اقضي الأمة واعرفها بأحكام الشريعة ؟ وهو الذي شهد صلى الله عليه وآله له بأن الحق معه يدور كيف ما دار ؟ فينبغي لمن جهل وجه شئ فعله ( ع ) ان يعود على نفسه باللوم ويقر عليها بالعجز والنقص ، ويعلم ان ذلك موافق للصواب والسداد ، وإن جهل وجهه وضل عن علته .
  وهذه جملة يغني التمسك بها عن كثير من التفصيل ، واستعمال كثير من التأويل ، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل أهل القبلة إلا بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد صرح ( ع ) بذلك في كثير من كلامه الذي قد مضى حكاية بعضه ، ولم يسر فيهم إلا بما عهده إليه من السيرة ، وليس بمنكر ان يختلف أحكام المحاربين فيكون منهم من يقتل ولا يغنم ، ومنهم من يقتل ولا يغنم ، لان أحكام الكفار في الأصل مختلفة مقاتلو أمير المؤمنين عليه السلام عندنا كفار لقتالهم له .
  وإذا كان في الكفار من يقر على كفره ويؤخذ الجزية منه ، ومنهم من لا يقر على كفره ولا يقعد عن محاربته ، إلى غير ذلك مما اختلفوا فيه من الأحكام جاز أيضا ان يكون فيهم من يغنم ومن لا يغنم ، لان الشرع لا ينكر فيه هذا الضرب من الاختلاف ، وقد روي ان مرتدا على عهد ابي بكر يعرف بعلانة ارتد ، فلم يعرض أبو بكر لما له ، وقالت امرأته ان يكن علانة ارتد فانا لم نرتد .
  وروي مثل ذلك في مرتد قتل في أيام عمر بن الخطاب ، فلم يعرض لما له .
  وروي ان أمير المؤمنين عليه السلام قتل مستوردا العجلي ولم يعرض لميراثه ، فالقتل ووجوبه ليس بامارة على تناول المال واستباحته ، على ان الذي رواه النظام من القصة محرف معدول عن الصواب ، والذي تظاهرت به الروايات ونقله أهل السير في هذا الباب من طرق مختلفة ، أن أمير المؤمنين عليه السلام لما خطب بالبصرة وأجاب عن مسائل شتى سئل عنها ، واخبر بملاحم وأشياء تكون بالبصرة ، قام إليه عمار بن ياسر رضي الله عنه فقال

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 208 _

  يا أمير المؤمنين ، ان الناس يكثرون في أمر الفئ ويقولون من قاتلنا فهو وماله وولده فئ لنا .
  وقام رجل من بكر بن وايل يقال له عباد بن قيس ، فقال يا أمير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية ولا عدلت في الرعية ، فقال عليه السلام ولم ويحك ؟ قال لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية .
  فقال أمير المؤمنين ( ع ) : يا ايها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن .
  فقال عباد بن قيس جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات .
  فقال عليه السلام ان كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف .
  فقال رجل يا أمير المؤمنين ومن غلام ثقيف ؟
  فقال رجل لا يدع لله حرمة الا انتهكها .
  فقال له الرجل أيموت أو يقتل ؟
  فقال أمير المؤمنين عليه السلام بل يقصمه قاصم الجبارين يخترق سريره لكثرة ما يحدث من بطنه ، يا أخا بكر أنت امرؤ ضعيف الرأي ، أما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير ، وان الأموال كانت بينهم قبل الفرقة يقسم ما حواه عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم ، فإن عدا علينا احد أخذناه بذنبه ، وان كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره .
  يا أخا بكر والله لقد حكمت فيكم بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل مكة قسم ما حواه العسكر ، ولم يعرض لما سوى ذلك ، وإنما اقتفينا أثره حذو النعل بالنعل .
  يا أخا بكر ، أما علمت ان دار الحرب يحل ما فيها ، ودار الهجرة محرم ما فيها إلا بحق ، مهلا مهلا رحمكم الله فإن انتم أنكرتم ذلك علي ، فأيكم يأخذ أمه عايشة بسهمه ؟
  قالوا يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا وعلمت وجهلنا ، أصاب الله بك الرشاد والسداد .
  فأما قول النظام ان هذا أول ما حقدته الشراة عليه فباطل ، لان الشراة ما شكوا قط فيه عليه السلام ولا ارتابوا بشئ من أفعاله قبل التحكيم الذي منه دخلت الشبهة عليهم ، وكيف يكون ذلك وهم الناصرون له بصفين والمجاهدون بين يديه والسافكون دماءهم تحت رايته ، وحرب صفين كانت

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 209 _

  بعد الجمل بمدة طويلة فكيف يدعى ان الشك منهم في أمره كان ابتداءه في حرب الجمل لولا ضعف البصائر ؟

  في أن الزبير لم يلحق بعلي وهو لم يقتل قاتله :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه ذكره النظام من أن ابن جرموز لما أتى أمير المؤمنين عليه السلام برأس الزبير وقد قتله بوادي السباع ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما كان ابن صفية بجبان ، ولا لئيم ، لكن الحين ومصارع السوء ، فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين ، فقال ( ع ) سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار ، فخرج ابن جرموز وهو يقول :
أتيت   عليا  برأس  iiالزبير      وكنت   أرجى   به  iiالزلفة
فبشر   بالنار   قبل  iiالعيان      فبئس    البشارة    iiوالتحفة
فقلت   له  ان  قتل  iiالزبير      لولا   رضاك   من   الكلفة
فان ترض ذاك فمنك الرضا      وإلا    فدونك    لي   حلفة
ورب  المحلين  iiوالمحرمين      ورب    الجماعة    iiوالألفة
لسيان   عندي  قتل  الزبير      وضرطة  عنز بذي iiالجحفة

  قال النظام ، وقد كان يجب على علي عليه السلام أن يقيده بالزبير وكان يجب على الزبير إذ بان أنه على خطأ أن يلحق يعلي فيجاهد معه .
  ( الجواب ) : أنه لا شبهة في أن الواجب على الزبير أن يعدل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أو ينحاز إليه ويبذل نصرته لا سيما ان كان رجوعه على طريق التوبة والإنابة .
  ومن أظهر ما أظهر من المباينة والمحاربة إذا تاب وتبين خطأه يجب عليه أن يظهر ضد ما كان أظهره لا سيما وأمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحال مصاف لعدوه ومحتاج إلى نصرة من هو دون الزبير

اتنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 210 _

  في الشجاعة والنجدة ، وليس هذا موضع إستقصاء ما يتصل بهذا المعنى وقد ذكرناه في كتابنا الشافي المقدم ذكره .
  فأما أمير المؤمنين ، فإنما عدل أن يقيد ابن جرموز بالزبير لأحد أمرين : إن كان ابن جرموز قتله غدرا وبعد أن آمنه وقتله بعد أن ولى مدبرا ، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أمر أصحابه أن لا يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح فلما قتل ابن جرموز مدبرا كان بذلك عاصيا مخالفا لأمر إمامه ، فالسبب في أنه لم يقيده به أن أولياء الدم الذين هم أولاد الزبير لم يطالبوا بذلك ولا حكموا فيه وكان أكبرهم والمنظور إليه منهم عبدالله محاربا لأمير المؤمنين عليه السلام ، مجاهرا له بالعداوة والمشاقة فقد أبطل بذلك حقه ، لأنه لو أراد أن يطالب به لرجع عن الحرب وبايع وسلم ثم طالب بعد ذلك فانتصف له منه ، وإن كان الأمر الآخر وهو ان يكون إبن جرموز ما قتل الزبير الا مبارزة من غير غدر ولا أمان تقدم على ما ذهب إليه قوم ، فلا يستحق بذلك قودا ولا مسألة ها هنا في القود .
  فإن قيل فعلى هذا الوجه ما معنى بشارته بالنار ؟ قلنا ، المعنى فيها الخبر عن عاقبة أمره ، لان الثواب والعقاب إنما يحصلان على عواقب الاعمال وخواتيمها ، وابن جرموز هذا خرج مع أهل النهروان على أمير المؤمنين عليه السلام ، فقتل هناك ، فكان بذلك الخروج من أهل النار لا بقتل الزبير .
  فإن قيل : فأي فائدة لاضافة البشارة بالنار إلى قتل الزبير وقتله طاعة وقربة ، وإنما يجب ان تضاف البشارة بالنار إلى ما يستحق به النار قلنا : عن هذا جوابان : أحدهما : أنه ( عليه السلام ) أراد التعريف والتنبيه ، وإنما يعرف

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 211 _

  الإنسان بالمشهور من أفعاله ، والظاهر من أوصافه ، وابن جرموز كان غفلا خاملا ، وكان فعله بالزبير من أشهر ما يعرف به مثله وهذا وجه في التعريف صحيح .
  والجواب الثاني : ان قتل الزبير إذا كان بإستحقاق على وجه الصواب من أعظم الطاعات وأكبر القربات ، ومن جرى على يده يظن به الفوز بالجنة ، فأراد ( عليه السلام ) أن يعلم الناس أن هذه الطاعة العظيمة التي يكثر ثوابها إذا لم تعقب بما يفسده غير نافعة لهذا القاتل ، وأنه سيأتي من فعله في المستقبل ما يستحق به النار ، فلا تظنوا به لما اتفق على يده من هذه الطاعة خيرا .
  وهذا يجري مجرى أن يكون لأحدنا صاحب خصيص به خفيف في طاعته مشهور بنصيحته ، فيقول هذا المصحوب بعد برهة من الزمان لمن يريد اطرافه وتعجبه : أو ليس صاحبي فلان الذي كانت له من الحقوق كذا وكذا ، وبلغ من الاختصاص بي إلى منزلة كذا قتلته وأبحت حريمه وسلبت ماله ؟ وان كان ذلك انما استحقه بما تجدد منه في المستقبل ، وانما عرف بالحسن من أعماله على سبيل التعجب وهذا واضح .

  في الاحكام المدعى مخالفة علي فيها لمن سواه :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما عابه النظام به عليه السلام من الأحكام التي داعى أنه خالف فيها جميع الأمة ، مثل بيع أمهات الأولاد وقطع يد السارق من أصول الأصابع ودفع السارق إلى الشهود ، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان وجهره بتسمية الرجال في القنوت وقبوله شهادة الصبيان بعضهم على بعض ، والله تعالى يقول : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) وأخذه ( عليه السلام ) نصف دية الرجل من أولياء المرأة وأخذه نصف دية العين من المقتص من الأعور وتخليفه رجلا يصلى العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم ، وأنه ( عليه السلام ) أحرق رجلا أتى غلاما في دبره ، وأكثره ما أوجب على من فعل هذا الفعل الرجم ،

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 212 _

  وأنه أوتى بمال من مهور البغايا فقال عليه السلام ارفعوه حتى يجئ عطاء غني وباهلة ، فقال النظام لم خص بهذا غنيا وباهلة ؟ فان كانوا مؤمنين فمن عداهم من المؤمنين كهم في جواز تناول هذا المال وان كانوا غير مؤمنين فكيف يأخذون العطاء مع المؤمنين ؟ قال وذلك المال وان كان من مهور البغايا أو بيع لحم الخنازير بعد أن تملكه الكفار ثم يبيحه الله على المؤمنين فهو حلال طيب للمؤمنين .
  ( الجواب ) : إنا قد بينا قبل هذا الموضع أنه لا يعترض على أمير المؤمنين عليه السلام في أحكام الشريعة ويطمع فيه من عثرة أو زلة إلا معاند لا يعرف قدره ، ومن شهد له النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه أقضى الأمة وان الحق معه كيف ما دار ، وضرب بيده على صدره وقال : اللهم أهد قلبه وثبت لسانه لما بعثه إلى اليمن حتى قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فما شككت في قضاء بين اثنين .
  وقال النبي فيه : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب ) لا يجوز أن يعترض أحكامه عليه السلام ، ولا يظن بها إلا الصحة والسداد .
  وأعجب من هذا كله الطعن على هذه الأحكام وأشباهها بأنها خلاف الإجماع وأي إجماع ليت شعرى يكون وأمير المؤمنين عليه السلام خارج منه ولا أحد من الصحابة الذين لهم في الأحكام مذاهب وفتاوى وقيام ، إلا وقد تفرد بشئ لم يكن له عليه موافق ، وما عد مذهبه خروجا عن الإجماع ولو لا التطويل لذكرنا شرح هذه الجملة ومعرفتها وظهورها بغنينا عن تكلف ذلك ولو كان للطعن على أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الأحكام مجال وله وجه لكان أعداؤه من بني أمية والمتقربين إليهم من شيعتهم بذلك أخبر وإليه اسبق ، وكانوا يعيبونه عليه ويدخلونه في جملة مثالبهم ومعايبهم التي تمحلوها ، ولما تركوا ذلك حتى يستدركه النظام بعد السنين الطويلة وفى أضرابهم عن ذلك دليل على أنه لا مطعن بذلك ولا معاب .
  وبعد ، فكل شئ فعله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من هذه الأحكام

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 213 _

  وكان له مذهبا ، ففعله له واعتقاده إياه هو الحجة فيه ، وأكبر البرهان على صحته لقيام الأدلة على أنه عليه السلام لا يزل ولا يغلط ولا يحتاج إلى بيان وجوه زايدة على ما ذكرناه إلا على سبيل الاستظهار والتقرير على الخصوم وتسهيل طريق الحجة عليهم .
  فأما بيع أمهات الأولاد فلم يسر فيهن إلا بنص الكتاب وظاهره ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) (1) ولا شبهة في أن أم الولد يطؤها سيدها بملك اليمين ، لانها ليست زوجة ولا هو عاد في وطئها إلى ما لا يحل ، وإذا كانت مملوكة مسترقة بطل ما يدعونه من أن ولدها اعتقها ، ويبين ذلك أيضا أنه لا خلاف في أن لسيدها أن يعتقها .
  ولو كان الولد قد أعتقها لما صح ذلك ، لان عتق المعتق محال . وهذه الجملة توضح عن بطلان ما يروونه من أن ولدها أعتقها ، ثم يقال لهم أليس هذا الخبر لم يقتض أن لها جميع أحكام المعتقات ، لأنه لو اقتضى ذلك لما جاز أن يعتقها السيد ، ولا أن يطأها إلا بعقد ، وإنما اقتضى بعض أحكام المعتقات .
  فلابد من مزيل فيقال لهم : فما أنكرتم من أن مخالفكم يمكنه أن يستعمله أيضا على سبيل التخصيص كما استعملتموه ، فنقول انه لو أراد بيعها لم يجز إلا في دين ، وعند ضرورة ، وعند موت الولد ، فكأنها يجري مجرى المعتقات فيما لا يجوز بيعها فيه ، وان لم يجز من كل وجه كما أجريتموها مجراهن في وجه دون آخر ، فأما قطع السارق من الاصابع فهو الحق الواضح الجلي ، لان الله تعالى قال ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (2) واسم اليد يقع على جملة هذا العضو إلى المنكب ، ويقع عليه أيضا إلى المرافق والى الزند والى

---------------------------
(1) المعارج : 29 ـ 31 .
(2) المائدة : 38 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) ـ 214 ـ

  الأصابع كل ذلك على سبيل الحقيقة ، ولهذا يقول أحدهم أدخلت يدي في الماء إلى أصول الأصابع والى الزند والى المرفق والى المنكب ، فيجعل كل ذلك غاية .
  وقال الله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (1) ومعلوم أن الكتابة تكون بالاصابع ، ولو يرى أحدنا قلما فعقرت السكين أصابعه لقيل قطع يده وعقرها ونحو ذلك .
  وقال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام ( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) (2) ومعلوم أنهن ما قطعن اكفهن إلى الزند ، بل على ما ذكرناه .
  وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ولم يجز ان يحمل اليد على كل ما تناولته هذه اللفظة حتى يقطع من الكتف على مذهب الخوارج ، لان هذا باطل عند جميع الفقهاء ، وجب ان نحمله على أدنى ما تناوله ، وهو من أصول الاشاجع ، والقطع من الأصابع أولى بالحكمة وأرفق بالمقطوع ، لأنه إذا قطع من الزند فاته من المنافع أكثر مما يفوته إذا قطع من الاشاجع .
  وقد روي ان علي بن أصمع سرق عيبة لصفوان ، فأتى به إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقطعه من أشاجعه ، فقيل له يا أمير المؤمنين افلا من الرسغ ، فقال عليه السلام فعلى أي شئ يتوكأ وبأي شي يستنجي ، ومهما شككنا فإنا لا نشك في أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أعلم باللغة العربية من النظام وجميع الفقهاء والذين خالفوه في القطع ، وأقرب إلى فهم ما نطق به القرآن .
  وان قوله ( عليه السلام ) حجة في العربية وقدوة ، وقد سمع الآية وعرف اللغة التي نزل بها القرآن ، فلم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا عن خبرة ويقين .
  وأما دفع السارق إلى الشهود ، فلا أدري من أي وجه كان عيبا وهل دفعه إليهم ليقطعوه إلا كدفعه إلى غيرهم ممن يتولى ذلك منه ، وفي هذا فضل استظهار عليهم وتهييب لهم من أن يكذبوا فيعظم عليهم تولي ذلك منه

---------------------------
(1) البقرة : 79 .
(2) يوسف : 31 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 215 _

  ومباشرته بنفوسهم ، وهذا نهاية الحزم والاحتياط في الدين .
  وأما جلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا فإن المروي انه عليه السلام جلده بنسعة لها رأسان فكان الحد ثمانين كاملة : وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ) (1) .
  وأما الجهر بتسمية الرجال في القنوت فقد سبقه ( عليه السلام ) إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وتظاهرت الرواية بأنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يقنت في صلاة الصبح ويلعن قوما من أعدائه بأسمائهم فمن عاب ذلك أو طعن به فقد طعن على أصل الإسلام وقدح في الرسول صلى الله عليه وآله .
  وأما قبول شهادة الصبيان فالاحتياط للدين يقتضيه ، ولم ينفرد أمير المؤمنين عليه السلام بذلك ، بل قد قال بقوله بعينه أو قريبا منه جماعة من الصحابة والتابعين .
  وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في شهادة الصبي يشهد بعد كبره ، والعبد بعد عتقه ، والنصراني بعد إسلامه أنها جائزة .
  وهذا قول جماعة من الفقهاء المتأخرين كالثوري وأبي حنيفة وأصحابه .
  وروى مالك بن انس عن هشام بن عروة ان عبدالله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح .
  وروي عن هشام بن عروة انه قال سمعت ابي يقول يجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض ، يؤخذ بأول قولهم .
  وروي عن مالك بن أنس انه قال : المجمع عليه عندنا يعني أهل المدينة أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح ، ولا تجوز على غيرهم إذا كان ذلك قبل ان يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا ، فإن تفرقوا فلا شهادة لهم إلا ان يكونوا قد اشهدوا عدولا على شهادتهم قبل ان يتفرقوا ، ويوشك أن يكون الوجه في الأخذ بأوائل أقوالهم لان من عادة الصبي وسجيته إذا أخبر

---------------------------
(1) ص : 44 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 216 _

  بالبديهة ان يذكر الحق الذي عاينه ، ولا يتعمل لتحريفه .
  وليس جميع الشهادات تراعى فيها العدالة ، وجماعة من العلماء قد أجازوا شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد مسلم ، وتأولوا لذلك قول الله عز وجل : ( اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (1) وقد أجازوا أيضا شهادة النساء وحدهن فيما لا يجوز انت تنظر إليه الرجال ، وقبلوا شهادة القابلة .
  وإنما أردنا بذكر قبول شهادة النساء ، أن قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) مخصوص غير عام في جميع الشهادات .
  ألا ترى ان ذلك غير مانع من قبول اليمين مع شهادة الواحد ، وبعد فليس قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) بمقتض غير الأمر بالشهادة على هذا الوجه ، وليس بمانع من قبول شهادة غير العدلين ولا تعلق له بأحكام قبول الشهادات .
  فأما أخذ نصف الدية من أولياء المرأة إذ أرادوا قتل الرجل بها فهو الصحيح الواضح الذي لا يجوز خلافه ، لان دية المرأة (2) عشرة آلاف درهم ودية المرأة نصفها فإذا أراد أولياء المرأة قتل الرجل ، فإنما يقتلون نفسا ديتها الضعف من دية مقتولهم ، فلا بد إذا إختاروا ذلك من رد الفضل بين القيمتين ولهذا لو أراد أخذ الدية لم يأخذوا أكثر من خمسة آلاف درهم .
  وهكذا القول في أخذ نصف الدية من المقتص من الأعور ، لان دية عين الأعور عشرة آلاف درهم ودية إحدى عيني الصحيح خمسة آلاف درهم .
  فلا بد من الرجوع بالفضل على ما ذكرناه ، وما أدري من أي وجه تطرق العيب في تخليفه عليه السلام من يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم ، وذلك من رأفته ( عليه السلام ) بالضعفاء ورفقه بهم ، وتوصله إلى ان يحظوا بفضل هذه الصلاة من غير تحمل مشقة الخروج إلى المصلى .

---------------------------
(1) المائدة : 106 .
(2) هكذا وردت والاصوب ( الرجل ) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 217 _

  فأما ما حكاه من إحراقه اللوطي ، فالمعروف أنه عليه السلام ألقى على الفاعل والمفعول به لما رآهما الجدار ، ولو صح الإحراق لم ينكران يكون ذلك الشئ عرفه من الرسول صلى الله عليه وآله .
  وقد روى فهد بن سليمان عن القاسم بن أميه العدوي عن عمر بن أبي حفص مولى الزبير عن شريك عن إبراهيم بن عبدالاعلى عن سويد بن غفلة ، أن أبا بكر أتى برجل ينكح فأمر به فضربت عنقه ، ثم أمر به فأحرق ولعل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احرقه بالنار بعد القتل بالسيف كما فعل أبو بكر ، وليس ما روي من الإحراق بمانع من ان يكون القتل متقدما له .
  وقد روي قتل المتلوطين من طرق مختلفة عن الرسول صلى الله عليه وآله وكذلك روي رجمهما .
  روى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اقتلوا الفاعل والمفعول به .
  وروي عبد العزيز عن ابن جريح عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مثل ذلك .
  وعن عمر بن أبي عمير عن عكرمة عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال فيمن يوجد يعمل بعمل قوم لوط مثل ذلك .
  وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال الذي يعمل عمل قوم لوط ارجموا الأعلى والأسفل ارجموهما جميعا .
  وسئل ابن عباس ما حد اللوطي ؟ ينظر إلى ارفع بناء في القرية فيرمى به منكسا ، ثم يتبع بالحجارة .
  وروي ان عثمان اشرف على الناس يوم الدار ، فقال : ألم تعلموا أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا أربعة : رجل قتل فقتل ، ورجل زنى بعد ان أحصن ، ورجل ارتد بعد إسلام ، ورجل عمل عمل قوم لوط .
  فلا شبهة على ما ترى في قتل اللوطي ، ولا ريب في وجوب ذلك عليه ، وكيف يتهم بحيف في حد يقيمه من يتحرى فيما يخصه هذا التحري المشهور ، فيقول عليه السلام لما ضربه اللعين ابن ملجم احسنوا أسره ، فإن

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 218 _

  عشت فأنا ولي دمي ، وان مت فضربة بضربة ، ولا تمثلوا بالرجل فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن المثلة ولو بالكلب العقور .
  فمن ينهى عن التمثيل بقاتله مع الغيظ الذي يجده الإنسان على ظالمه وميله إلى الاستيفاء والانتقام ، كيف يمثل بمن لا ترة بينه وبينه ولا حسيكة له في قلبه ؟ وهذا ما لا يظنه به ( عليه السلام ) إلا مؤف العقل .
  فأما حبسه ( عليه السلام ) المال المكتسب من مهور البغايا على غنى وباهلة ، فله ان كان صحيحا وجه واضح ، وهو ان ذلك المال دني الأصل خسيس السبب ، ومثله ما ينزه عنه ذو الأقدار من جلة المؤمنين ووجوه المسلمين ، وإن كان حلالا طلقا فليس كل حلال يتساوى الناس في التصرف فيه ، فإن من المكاسب والمهن والحرف ما يحل ويطيب ويتنزه ذوو المرؤات والأقدار عنها .
  وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله نظير ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنه روي عنه انه ( صلى الله عليه وآله ) نهى عن كسب الحجام ، فلما روجع فيه أمر المراجع له ان يطعمه رقيقه ويعلفه ناضحه ، وإنما قصد ( صلى الله عليه وآله ) إلى الوجه الذي ذكرناه من التنزيه ، وان كان ذلك الكسب حلالا طلقا ، وهاتان القبيلتان معروفتان بالدناءة ولؤم الأصل مطعون عليهما في ديانتهما أيضا ، فخصهما بالكسب اللئيم وعوض من له في ذلك المال سهم من الجلة ، والوجوه من غير ذلك المال ، وكل هذا واضح لمن تدبره .

  في كذب الخبر بأنه خطب بنت أبي جهل :
  ( مسألة : ) فإن قيل اليس قد روي ان أمير المؤمنين عليه السلام خطب بنت أبي جهل بن هشام في حياة الرسول صلى الله عليه وآله حتى بلغ ذلك فاطمة عليها السلام وشكته إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقام على المنبر قائلا ان عليا آذاني بخطب بنت أبي جهل بن هشام ليجمع بينها وبين ابنتي فاطمة ، ولن يستقيم الجمع بين بنت ولي الله وبين بنت عدوه . أما

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 219 _

  علمتم معشر الناس أن من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ، فما الوجه في ذلك ؟
  ( الجواب ) : قلنا هذا خبر باطل موضوع غير معروف ولا ثابت عند أهل النقل ، وإنما ذكره الكرابيسي (1) طاعنا به أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله ، ومعارضا بذكره لبعض ما يذكره شيعته من الأخبار في أعدائه ، وهيهات أن يشبه الحق بالباطل ، ولو لم يكن في ضعفه إلا رواية الكرابيسي له واعتماده عليه ، وهو من العداوة لأهل البيت عليهم السلام والمناصبة لهم والازراء على فضائلهم ومآثرهم على ما هو مشهور ، لكفى على أن هذا الخبر قد تضمن ما يشهد ببطلانه ويقتضى على كذبه من حيث ادعى فيه أن النبي ذم هذا الفعل وخطب بإنكاره على المنابر .
  ومعلوم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لو كان فعل ذلك على ما حكى ، لما كان فاعلا لمحظور في الشريعة ، لان نكاح الأربع حلال على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، والمباح لا ينكره الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ويصرح بذمه ، وبأنه متأذبه ، وقد رفعه الله عن هذه المنزلة وأعلاه عن كل منقصة ومذمة .
  ولو كان عليه السلام نافرا من الجمع بين بنته وبين غيرها بالطباع التي تنفر من الحسن والقبيح ، لما جاز أن ينكره بلسانه ، ثم ما جاز أن يبالغ في الإنكار ويعلن به على المنابر وفوق رؤوس الأشهاد ، ولو بلغ من إيلامه لقلبه كل مبلغ ، فما هو اختص به ( عليه السلام ) من الحلم والكظم ، ووصفه الله بأنه من جميل الأخلاق وكريم الآداب ينافي ذلك ويحيله ويمنع من اضافته إليه وتصديقه عليه .
  وأكثر ما يفعله مثله ( عليه السلام ) في هذا الأمر إذا ثقل على قلبه ان يعاتب عليه سرا ويتكلم في العدول عنه خفيا على وجه جميل وبقول لطيف ، وهذا المأمون الذي لا قياس بينه وبين الرسول ( صلى الله عليه

---------------------------
(1) الكرابيسي : أبو علي ، الحسين بن علي ، محدث ، فقيه ، أصولي ، متكلم ، من أهل بغداد ، صحب الشافعي ، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه ، والجرح والتعديل .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 220 _

  وآله ) .
  وقد انكح أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام بنته ونقلها معه إلى مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لما ورد كتابها عليه تذكر أنه قد تزوج عليها أو تسرى ، يقول مجيبا لها ومنكرا عليها : إنا ما أنكحناه لنحظر عليه ما أباحه الله له ، والمأمون أولى بالامتعاض من غيرة بنته ، وحاله أجمل للمنع من هذا الباب والإنكار له .
  فوالله ان الطعن على النبي صلى الله عليه وآله بما تضمنه هذا الخبر الخبيث ، أعظم من الطعن على أمير المؤمنين عليه السلام .
  وما صنع هذا الخبر إلا ملحد قاصد للطعن عليهما ، أو ناصب معاند لا يبالي ان يشفي غيظه بما يرجع على أصوله بالقدح والهدم ، على أنه لا خلاف بين أهل النقل أن الله تعالى هو الذي اختار أمير المؤمنين عليه السلام لنكاح سيدة النساء صلوات الله وسلامه عليها ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رد عنها جلة أصحابه وقد خطبوها وقال ( صلى الله عليه وآله ) : إني لم أزوج فاطمة عليا ( عليه السلام ) حتى زوجها الله إياه في سمائه ، ونحن نعلم أن الله سبحانه لا يختار لها من بين الخلائق من غيرها ويؤذيها ويغمها ، فإن ذلك من أدل دليل على كذب الراوي لهذا الخبر .
  وبعد ، فإن الشئ إنما يحمل على نضائره ويلحق بأمثاله ، وقد علم كل من سمع الأخبار أنه لم يعهد من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خلاف على الرسول ، ولا كان قط بحيث يكره على اختلاف الأحوال وتقلب الأزمان وطول الصحبة ، ولا عاتبه ( عليه السلام ) على شئ من أفعاله ، مع أن أحدا من أصحابه لم يخل من عتاب على هفوة ونكير لأجل زلة ، فكيف خرق بهذا الفعل عادته وفارق سجيته وسنته لولا تخرص الأعداء وتعديهم .
  وبعد ، فأين كان أعداؤه ( عليه السلام ) من بني أمية وشيعتهم عن هذه الفرصة المنهزة ؟ وكيف لم يجعلوها عنوانا لما يتخرصونه من العيوب والقروف ؟ وكيف تحملوا الكذب وعدلوا عن الحق وفى علمنا بأن أحدا من الأعداء متقدما لم يذكر ذلك دليل على أنه باطل موضوع ؟ .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 221 _

  أبو محمد الحسن بن على (عليهما السلام) :
  الوجه في مسالمة الحسن لمعاوية :
  ( مسألة ) : فإن قال قائل : ما العذر له في خلع نفسه من الإمامة وتسليمها إلى معاوية مع ظهور فجوره وبعده عن أسباب الإمامة وتعريه من صفات مستحقها ، ثم في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بإمامته ، هذا مع وفور أنصاره واجتماع أصحابه ومتابعيه من كان يبذل عنه دمه وماله ، حتى سموه مذل المؤمنين وعاتبوه في وجهه عليه السلام ؟
  ( الجواب ) : قلنا قد ثبت انه عليه السلام الإمام المعصوم المؤيد الموفق بالحجج الظاهرة والأدلة القاهرة ، فلابد من التسليم لجميع أفعاله وحملها على الصحة ، وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل ، أو كان له ظاهر ربما نفرت النفوس عنه وقد مضى تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من كتابنا هذا .
  وبعد ، فإن الذي جرى منه عليه السلام كان السبب فيه ظاهرا والحامل عليه بيا جليا لان المجتمعين له من الأصحاب وان كانوا كثيري العدد وقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية ، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية وامراحه من أحب في الأموال من غير مراقبة ولا مساترة ، فأظهروا له ( عليه السلام ) النصرة وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يورطوه ويسلموه ،

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 222 _

  وأحس عليه السلام بهذا منهم قبل التولج والتلبس ، فتخلى من الأمر وتحرز من المكيدة التي كادت تتم عليه في سعة من الوقت وقد صرح ( عليه السلام ) بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة بألفاظ مختلفة ، وقال إنما هادنت حقنا للدماء وصيانتها وإشفاقا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي ، فكيف لا يخاف أصحابه ويتهمهم على نفسه وأهله ، وهو عليه السلام لما كتب إلى معاوية يعلمه أن الناس قد بايعوه بعد أبيه عليه السلام ويدعوه إلى طاعته ، فأجابه معاوية بالجواب المعروف المتضمن للمغالطة فيه والمواربة وقال له فيه : لو كنت أعلم أنك أقوم بالأمر واضبط للناس وأكيد للعدو وأقوى على جميع الأحوال مني لبايعتك ، لأني أراك لكل خير أهلا .
  وقال في كتابه ان أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأبيك وأمركم بعد وفاة رسول الله دعاه إلى أن خطب خطبة بأصحابه بالكوفة يحثهم على الجهاد ويعرفهم فضله ، وما في الصبر عليه من الأجر ، وأمرهم أن يخرجوا إلى معسكر فما أجابه أحد ، فقال لهم عدي بن حاتم : سبحان الله ألا تجيبون إمامكم ؟ أين خطباء مصر ؟ فقام قيس بن سعد وفلان وفلان فبذلوا الجهاد وأحسنوا القول . ونحن نعلم ان من ضمن بكلامه أولى بأن يضن بفعاله .
  أو ليس أحدهم قد جلس له في مظلم ساباط وطعنه بمغول كان معه أصاب فخذه ، فشقه حتى وصل إلى العظم وانتزع من يده وحمل عليه السلام إلى المداين وعليها سعيد بن مسعود عم المختار ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولاه إياها فأدخل منزله ، فأشار المختار على عمه ان يوثقه ويسير به إلى معاوية على أن يطعمه خراج جوخي سنة ، فأبي عليه وقال للمختار : قبح الله رأيك أنا عامل أبيه وقد أئتمنني وشرفني ، وهبني نسيت بلاء أبيه أأنسى رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أحفظه في ابن بنته وحبيبه ثم أن سعد بن مسعود أتاه عليه السلام بطبيب وقام عليه حتى برئ وحوله إلى بعض المدائن .
  فمن ذا الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم عن النصرة والمعونة ؟ وقد أجاب

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 223 _

  ( عليه السلام ) حجر بن عدي الكندي (1) لما قال له سودت وجوه المؤمنين ، فقال عليه السلام ما كل أحد يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك ، وإنما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم .
  وروى عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن أبي الكنود عبدالرحمن بن عبيدة ، قال لما بايع الحسن عليه السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال ، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له ( عليه السلام ) سليمان بن صرد الخزاعي : ما ينقضي تعجبنا من بيعتك لمعاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة ، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم ، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز ، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد ولا حظا من العطية فلو كنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب ، وكتبت عليه كتابا بأن الأمر لك بعده ، كان الأمر علينا أيسر ، ولكنه أعطاك شيئا بينك وبينه لم يف به ثم لم يلبث ان قال على رؤوس الأشهاد أني كنت شرطت شروطا ووعدت عداة إرادة لإطفاء نار الحرب ومداراة لقطع الفتنة ، فأما إذا جمع الله لنا الكلمة والألفة فإن ذلك تحت قدمي ، والله ما عنى بذلك غيرك ، ولا أراد بذلك إلا ما كان بينه وبينك ، قد نقض .
  فإذا شئت فأعدت للحرب عدة ، وأذن لي في تقدمك إلى الكوفة ، فأخرج عنها عاملها وأظهر خلعه نبذه ، على سواء أن الله لا يحب الخائنين .
  وتكلم الباقون بمثل كلام سليمان ، فقال الحسن عليه السلام : أنتم شيعتنا وأهل مودتنا ، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أربض وأنصب ، ما كان معاوية بأشد مني بأسا ولا أشد شكيمة ولا أمضى عزيمة ، ولكني أرى غير ما رأيتم وما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء ، فارضوا بقضاء

---------------------------
(1) حجر بن عدي الكندي : من صلحاء الصحابة ، قاتل في فتوح فارس ، كان مع علي في الجمل والنهروان وصفين ، قاوم معاوية ، قبض عليه وأمر معاوية بقتله في مرج عذراء شرقي دمشق .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 224 _

  الله وسلموا لأمره وألزموا بيوتكم وامسكوا ، أو قال : كفوا أيديكم حتى يستريح برأ ويستراح من فاجر ، وهذا كلام منه عليه السلام يشفي الصدور ويذهب بكل شبهة .
  وقد روي انه عليه السلام لما طالبه معاوية بأن يتكلم على الناس ويعلمهم ما عنده في هذا الباب ، قام ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ان أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، أيها الناس انكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابلس رجلا جده رسول الله صلى الله عليه وآله ما وجدتموه غيري ، وغير أخي الحسين عليه السلام ، وان الله قد هداكم بأولنا محمد صلى الله عليه وآله ، وان معاوية نازعني حقا هو لي فتركته لصلاح الأمة وحقن دمائها ، وقد بايعتموني على ان تسالموا من سالمت وقد رأيت ان أسالمه ورأيت ان ما حقن الدماء خير مما سفكها ، وأردت صلاحكم وان يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر ، وان ادري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين .
  وكلامه عليه السلام في هذا الباب الذي يصرح في جميعه بأنه مغلوب مقهور ملجأ إلى التسليم دافع بالمسالمة الضرر العظيم عن الدين والمسلمين أشهر من الشمس وأجلى من الصبح ، فأما قول السائل انه خلع نفسه من الإمامة فمعاذ الله ، لان الإمامة بعد حصولها للإمام لا تخرج عنه بقوله ، وعند أكثر مخالفينا أيضا في الإمامة أن خلع الإمام نفسه لا يؤثر في خروه من الإمامة ، وإنما ينخلع من الإمامة عندهم وهو حي بالأحداث والكبائر ، ولو كان خلعه نفسه مؤثرا لكان انما يؤثر إذا وقع إختيارا .
  فأما مع الإلجاء والإكراه ، فلا تأثير له لو كان مؤثرا في موضع من المواضع ، ولم يسلم أيضا الأمر إلى معاوية بل كف عن المحاربة والمغالبة لفقدان الأعوان وإعواز النصار وتلافي الفتنة على ما ذكرناه ، فتغلب عليه معاوية بالقهر والسلطان مع أنه كان متغلبا على أكثره ، ولو أظهر التسليم قولا لما كان فيه شئ إذا كان عن إكراه واضطهاد .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 225 _

  وأما البيعة فإن أريد به الصفقة وإظهار الرضا والكف عن المنازعة فقد كان ذلك لكنا قد بينا جهة وقوعه والأسباب المحوجة إليه ، ولا حاجة في ذلك عليه عليه السلام .
  كما لم يكن في مثله حجة على أبيه عليه السلام لما بايع المتقدمين عليه ، وكف عن نزاعهم وامسك عن خلافهم ، وإن أريد بالبيعة الرضى وطيب النفس ، فالحال شاهدة بخلاف ذلك ، وكلامه المشهور كله يدل على انه ( عليه السلام ) أحوج وأحرج ، وأن الأمر له وهو أحق الناس به .
  وإنما كف عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف على الدين والمسلمين ، وأما أخذ العطاء فقد بينا في هذا الكتاب عند الكلام فيما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك من أخذه من يد الجائر الظالم المتغلب جائز ، وأنه لا لوم فيه على الأخذ ولا حرج .
  وأما أخذ الصلات فسايغ بل واجب لان لكل مال في يد الجائر المتغلب على أمر الأمة يجب على الإمام وعلى جميع المسلمين انتزاعه من يده كيف ما أمكن بالطوع أو الإكراه ، ووضعه في مواضعه .
  فإذا لم يتمكن من إنتزاع جميع ما في يد معاويه من أموال الله تعالى وأخرج هو شيئا منها إليه على سبيل الصلة ، فواجب عليه أن يتناوله من يده ويأخذ منه حقه ويقسمه على مستحقه لان التصرف في ذلك المال بحق الولاية عليه لم يكن في تلك الحال إلا له ، وليس لأحد أن يقول أن الصلات التي كان يقبلها من معاوية إنما كان ينفقها على نفسه وعياله ، ولا يخرجها إلى غيره وذلك ان هذا مما لا يمكن أحد أن يدعي العلم به والقطع عليه ولا شك أنه عليه السلام كان ينفق منها لان فيها حقه وحق عياله وأهله ، ولا بد من أن يكون قد أخرج منها إلى المستحقين حقوقهم وكيف يظهر ذلك وهو عليه السلام كان قاصدا إلى إخفائه ستره لمكان التقية ، والمحوج إليه إلى قبول تلك الأموال على سبيل الصلة هو المحوج له إلى ستر إخراجها وإخراج بعضها إلى مستحقها من