مستحقا منا ومنه تعالى الاستخفاف والإهانة : وأي نفس تسكن إلى مستخف بقدره مهان موبخ مبكت ؟ وما يجيز مثل ذلك على الأنبياء ( ع ) إلا من لا يعرف حقوقهم ولا يعلم ما تقضيه منازلهم .
( مسألة ) فإن قال قائل فما قولكم في قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )
أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضي وقوع المعصية من آدم ( ع ) لأنه لم يتقدم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام إليه إلا ذكر آدم ( ع ) وزوجته ، لأن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء .
فالظاهر على ما ترون ينبي عما ذكرناه ، على أنه قد روي في الحديث أن إبليس لعنه الله تعالى ، لما أن حملت حواء عرض لها وكانت ممن لا يعيش لها ولد .
فقال لها أحببت أن يعيش ولدك فسميه عبد الحارث ، وكان إبليس قد سمي الحارث ، فلما ولدت سمت ولدها بهذه التسمية ، فلهذا قال تعالى : ( جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) .
( الجواب ) : يقال له قد علمنا أن الدلالة العقلية التي قدمناها في باب أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر والشرك والمعاصي غير محتملة ، ولا يصح دخول المجاز فيها ،
والكلام في الجملة يصح فيه الاحتمال وضروب المجاز ، فلا بد من بناء المحتمل على ما لا يحتمل ، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل ، لكنا نعلم في الجملة أن
تأويلها مطابق لدلالة العقل .
وقد قيل في تأويل هذه الآية ما يطابق دليل العقل ومما يشهد له اللغة وجوه .
( منها ) أن الكناية في قوله سبحانه : ( جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) غير راجعة إلى آدم ( ع ) وحواء ، بل إلى الذكور والإناث من أولادهما ، أو إلى جنسين ممن اشترك من نسلهما .
وإن كانت الكناية الأولى تتعلق بهما ويكون تقدير الكلام : فلما آتى الله آدم وحواء الولد الصالح الذي تمنياه وطلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى .
ويقوى هذا التأويل قوله سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
وهذا ينبئ على أن المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين ، وليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدمة راجعة إلى آدم ( ع ) وحواء ، أن يكون جميع ما في الكلام راجعا إليهما ، لأن الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره ، ومن كناية إلى خلافها .
قال الله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ )
(1) فانصرف من مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله إلى مخاطبة المرسل إليهم ، ثم قال : ( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ )
(2) يعني الرسول ، ثم قال ( وَتُسَبِّحُوهُ ) يعني مرسل الرسول .
فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والكناية مختلفة كما ترى .
وقال الهذلي : يا لهف نفسي كأن جدة خالد * وبياض وجهك للتراب الأعفر ولم يقل بياض وجهه .
وقال كثير : أسيئ بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت فخاطب ثم ترك الخطاب .
---------------------------
(1) الفتح الآية : 8 ـ 9 .
(2) الفتح الآية : 9 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 31 _
وقال الآخر : فدى لك ناقتي وجميع أهلي * ومالي أنه منه أتاني ولم يقل منك أتاني .
فإن قيل ، كيف يكنى عمن لم يتقدم له ذكر ؟ .
قلنا : لا يمتنع ذلك ، قال الله تعالى : ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ )
(1) ولم يتقدم للشمس ذكر ، وقال الشاعر : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بي الصدر ولم يتقدم للنفس ذكر .
والشواهد على هذا المعنى كثيرة جدا على أنه قد تقدم ذكر ولد آدم ( ع ) ، وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة )
(2) ومعلوم أن المراد بذلك جميع ولد آدم عليه السلام .
وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) لأن المعنى أنه لما أتاهما ولدا صالحا ، والمراد بذلك الجنس ، وإن كان اللفظ لفظ وحدة ، وإذا تقدم مذكوران وعقبا بأمر لا يليق بأحدهما ، وجب أن يضاف إلى من يليق به .
والشرك لا يليق بآدم عليه السلام، فيجب أن ننفيه عنه ، وإن تقدم ذكره وهو يليق بكفار ولده ونسله فيجب أن نعلقه بهم .
( ومنها ) ما ذكره أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني ، فإنه يحمل الآية على أن الكناية في جميعها غير متعلقة بآدم ( ع ) وحواء ، فيجعل الهاء في ( تَغَشَّاهَا ) والكناية في ( دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا ) و ( آتَاهُمَا صَالِحاً ) راجعين إلى من أشرك .
ولم يتعلق بآدم ( ع ) من الخطاب إلا قوله تعالى : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) قال : والإشارة في قوله : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) إلى
---------------------------
(1) ص الآية : 32 .
(2) الأعراف الآية : 189 (*)
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 32 _
الخلق عامة .
وكذلك قوله : ( وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) ثم خص منها بعضهم ، كما قال الله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ )
(1) فخطاب الجماعة بالتسيير ، ثم خص راكب البحر .
وكذلك هذه الآية أخبرت عن جملة أمر البشر بأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها ، وهما آدم وحواء .
ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ، أدعى له الشركاء في عطيته ، قال وجايز أن يكون عنى بقوله : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) المشركين خصوصا ، إذا كان كل بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها ، ويكون المعنى في قوله تعالى : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) .
وهذا قد يجئ كثيرا في القرآن وفي كلام العرب ،
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً )
(2) والمعنى فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة .
وهذا الوجه يقارب الوجه الأول في المعنى وإن خالفه في الترتيب .
( ومنها ) أن تكون الهاء في قوله : ( جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ) راجعة إلى الولد لا إلى الله تعالى ، ويكون المعنى أنهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح ، فشركا بين الطلبتين .
ويجري هذا القول مجرى قول القائل : طلبت مني درهما فلما أعطيتك شركته بآخر ، أي طلبت آخر مضافا إليه ، فعلى هذا الوجه لا يمتنع أن تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحواء عليهما السلام .
فإن قيل : فأي معنى على هذا الوجه لقوله : ( فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وكيف يتعالى الله عن أن يطلب منه ولد بعد آخر .
---------------------------
(1) يونس الآية : 22 .
(2) النور : 4 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 33 _
( قلنا ) لم ينزه الله تعالى نفسه عن هذا الإشراك ، وإنما نزهها عن الإشراك به ، وليس يمتنع أن ينقطع هذا الكلام عن حكم الأول ، ويكون غير متعلق به ، لأنه تعالى قال : ( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ )
(1) فنزه نفسه تعالى عن هذا الشرك دون ما تقدم ، وليس يمتنع انقطاع اللفظ في الحكم عما يتصل به في الصورة ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب
(2) ، لأن من عادة العرب أن يراعوا الألفاظ أكثر من مراعاة المعاني ، فكأنه تعالى لما قال جعلا له شركاء فيما آتاهما ، وأراد الاشتراك في طلب الولد ، جاء بقوله تعالى عما يشركون على مطابقة اللفظ الأول ، وإن كان الثاني راجعا إلى الله تعالى ، لأنه يتعالى عن اتخاذ الولد وما أشبهه .
ومثله قول النبي قد سئل عن العقيقة فقال : " لا أحب العقوقة ، ومن شاء منكم أن يعق عن ولده فليفعل " . فطابق اللفظ وإن أختلف المعنيان وهذا كثير في كلامهم .
فأما ما يدعي في هذا الباب من الحديث فلا يلتفت إليه ، لأن الأخبار يجب أن تبنى على أدلة العقول ، ولا تقبل في خلال ما تقتضيه أدلة العقول .
ولهذا لا تقبل أخبار الجبر والتشبيه ، ونردها أو نتأولها إن كان لها مخرج سهل .
وكل هذا لو لم يكن الخبر الوارد مطعونا على سنده مقدوحا في طريقه ، فإن هذا الخبر يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة وهو منقطع ، لأن الحسن لم يسمع من سمرة شيئا في قول البغداديين .
وقد يدخل الوهن على هذا الحديث من وجه آخر ، لأن الحسن نفسه يقول بخلاف هذه الرواية فيما
---------------------------
(1) الأعراف : 191 .
(2) في نسخة زيادة هكذا قال الشريف المرتضى في قوله تعالى : ( جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فايدة : إذا كان الثاني غير الأول لأن من عاده : الخ ، (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 34 _
رواه خلف بن سالم عن إسحاق بن يوسف عن عوف عن الحسن في قوله تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) قال هم المشركون .
وبإزاء هذا الحديث ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن وغيرهم ، من أن الشرك غير منسوب إلى آدم وزوجته عليهما السلام وأن المراد به غيرهما وهذه جملة واضحة .
اتنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 35 _
تنزيه نوح عليه السلام
تنزيه نوح عما لا يليق به
( مسألة ) فإن سأل سائل عن قوله تعالى : ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )
(1) فقال : ظاهر قوله تعالى إنه ليس من أهلك ، فيه تكذيب ، لقوله عليه السلام إن ابني من أهلي .
وإذا كان النبي ( ع ) لا يجوز عليه الكذب فما الوجه في ذلك ؟ قيل له في هذه الآية وجوه ، كل واحد منها صحيح مطابق لأدلة العقل
(2) .
( أولها ) أن نفيه لأن يكون من أهله لم يتناول فيه نفي النسب ، وإنما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم ، لأنه عز وجل كان وعد نوحا عليه السلام بأن ينجي أهله في قوله : ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ )
(3) فاستثنى من أهله من أراد إهلاكه بالغرق .
ويدل على صحة هذا التأويل قول نوح عليه السلام : إن ابني من
---------------------------
(1) هود الآية : 45 ـ 46 .
(2) راجع قصص الأنبياء ـ قصة نوح (عليه السلام) ـ المسألة الخامسة .
(3) هود الآية : 40 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 36 _
أهلي وإن وعدك الحق .
وعلى هذا الوجه يتطابق الخبران ولا يتنافيان .
وقد روي هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين .
( والوجه الثاني ) أن يكون المراد من قوله تعالى : ( لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي إنه ليس على دينك ، وأراد أنه كان كافرا مخالفا لأبيه ، فكأن كفره أخرجه من أن يكون له أحكام أهله ، ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى على سبيل التعليل : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) فتبين أنه إنما خرج عن أحكام أهله بكفره وقبيح عمله ، وقد حكي هذا الوجه أيضا عن جماعة من أهل التأويل .
( والوجه الثالث ) أنه لم يكن ابنه على الحقيقة ، وإنما ولد على فراشه ، فقال ( ع ) إن ابني على ظاهر الأمر ، فأعلمه الله تعالى أن الأمر بخلاف الظاهر ، ونبهه على خيانة امرأته ، وليس في ذلك تكذيب خبره ، لأنه إنما أخبر عن ظنه وعما يقتضيه الحكم الشرعي ، فأخبره الله تعالى بالغيب الذي لا يعلمه غيره .
وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريج ، وفي هذا الوجه بعد ، إذ فيه منافاة للقرآن لأنه تعالى قال : ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ) فأطلق عليه اسم البنوة ، ولأنه تعالى أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى : ( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) ، ولأن الأنبياء عليهم السلام يجب أن ينزهوا عن هذه الحال لأنها تعبير وتشيين ونقص في القدر ، وقد جنبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيما لهم وتوقيرا ونفيا لكل ما ينفر عن القبول منهم .
وقد حمل ابن عباس قوة ما ذكرناه من الدلالة على أن تأويل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط ، فخانتاهما ، أن الخيانة لم تكن منهما بالزنا ، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون ، والأخرى تدل على الأضياف .
والوجهان الأولان هما المعتمدان في الآية ، فإن قيل أليس قد قال جماعة من المفسرين أن الهاء في قوله تعالى : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) راجعة إلى السؤال ؟ والمعنى أن سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير صالح ، لأنه قد وقع من نوح ( ع ) السؤال والرغبة في قوله : رب إن ابني من
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 37 _
أهلي وإن وعدك الحق ، ومعنى ذلك نجه كما نجيته ، قلنا ليس يجب أن تكون الهاء في قوله إنه عمل غير صالح ، راجعة إلى السؤال بل إلى الابن يكون تقدير الكلام : إن ابنك ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ويشهد لصحة هذا التأويل ، قول الخنساء
(1) :
ما أم سقب على بو (2) تطيف به قد ساعدتها على التحنان أظئار ترتع ما رتعت حتى إذا iiذكرت فإنما هي إقبال وإدبار |
وإنما أراد أنها ذات إقبال وذات إدبار ، وقد قال قوم في هذا الوجه : إن المعنى في قوله : إنه عمل غير صالح ، أن أصله عمل غير صالح من حيث ولد على فراشه وليس بإبنه .
وهذا جواب من يرى أنه لم يكن ابنه على الحقيقة ، والذي اخترناه خلاف ذلك ، وقد قرئت هذه الآية بنصب اللام وكسر الميم ونصب غير ، ومع هذه القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام إلى الابن دون سؤال نوح ( ع ) ، وقد ضعف قوم هذه القراءة فقالوا : كان يجب أن يقول إنه عمل عملا غير صالح ، لأن العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن ، حتى يقولوا عملا غير حسن .
وليس هذا الوجه بضعيف ، لأن من مذهبهم الظاهر أقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس ، فيقول القائل : قد فعلت صوابا وقلت حسنا ، بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا .
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي
(3) ؟ .
أيها القائل غير iiالصواب أخر النصح واقلل عتابي |
وقال أيضا :
وكم من قتيل ما يباء به iiدم ومن علق رهنا إذا لفه الدما (4) |
---------------------------
(1) شاعرة عربية ( 575 ـ 664 ه ) اشتهرت برثاء أخويها .
(2) هكذا وردت في الأصل ولعلها ( بوق ) كما يدل سياق المعنى .
(3) شاعر غزلي شهير ( 644 ـ 711 ه ) تزهد في آخر حياته .
(4) ومن علق رهنا إذا ألفه غنما ـ خل ( * ) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 38 _
ومن ما لي عينيه من شئ iiغيره إذا راح نحو الحمرة البيض كالدما أرادوكم من انسان قتيل |
وقال رجل من بجيلة :
كم من ضعيف العقل منتكث iiالقوى ما أن له نقض ولا إبرام أرادكم من انسان ضعيف العقل والقوى |
فإن قيل : لو كان الأمر على ما ذكرتم فلم قال الله تعالى : ( فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) فكيف قال نوح عليه السلام من بعد : ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ )
(1) .
قلنا ليس يمتنع أن يكون نوح ( ع ) نهي عن سؤال ما ليس له به علم ، وإن لم يقع منه ، وأن يكون هو ( ع ) تعوذ من ذلك ، وإن لم يواقعه ، ألا ترى أن نبينا صلى الله عليه وآله قد نهي عن الشرك والكفر ، وإن لم يقعا منه ، في قوله تعالى : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) .
وإنما سأل نوح عليه السلام نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع ، فلما بين الله تعالى أن المصلحة في غير نجاته ، لم يكن ذلك خارجا عما تضمنه السؤال .
فأما قوله تعالى : ( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ، فمعناه لئلا تكون منهم ، ولا شك في أن وعظه تعالى هو الذي يصرفه عن الجهل وينزهه عن فعله ، وهذا كله واضح .
---------------------------
(1) هود الآية : 47 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
ـ 39 ـ
تنزيه إبراهيم عليه السلام :
تنزيه إبراهيم ( ع ) عن الكفر والعصيان :
فإن قال قائل : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ )
(1) أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنه عليه السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات الإلهية للكواكب ، وهذا مما قلتم إنه لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام .
( الجواب ) : قيل له في هذه الآية جوابان : أحدهما أن إبراهيم عليه السلام إنما قال ذلك في زمان مهلة النظر ، وعند كمال عقله وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه وتحريك الدواعي على الفكر والتأمل له ، لأن إبراهيم ( ع ) لم يخلق عارفا بالله تعالى ، وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله تعالى عقله وخوفه من ترك النظر بالخواطر والدواعي ، فلما رأى الكواكب : وقد روي في التفسير أنه رأى الزهرة وأعظمه ما رآها عليه من النور
---------------------------
(1) الأنعام الآيات : 76 ـ 78 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 40 _
وعجيب الخلق ، وقد كان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون أنها آلهة ، قال هذا ربي على سبيل الفكر والتأمل لذلك ، فلما غابت وأفلت وعلم أن الأفول لا يجوز على الإله ، علم أنها محدثة متغيرة منتقلة .
وكذلك كانت حالته في رؤية القمر والشمس ، وأنه لما رأى أن أفولهما قطع على حدوثهما واستحالة الهيتهما ، وقال في آخر الكلام : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى ، وعلمه بأن صفات المحدثين لا يجوز عليه تعالى .
فإن قيل : كيف يجوز أن يقول عليه السلام هذا ربي ، مخبرا ، وهو غير عالم بما يخبر به ، والإخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون كاذبا فيه قبيح ، وفي حال كمال عقله ولزوم النظر لا بد من أن يلزمه التحرز من الكذب ، وما جرى مجراه من القبح .
قلنا عن هذا جوابان : أحدهما : أنه لم يقل ذلك مخبرا ، وإنما قال فارضا ومقدرا على سبيل الفكر والتأمل ، ألا ترى أنه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظرا في شيئ ومتأملا بين كونه على إحدى صفتيه ، أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة ، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها إن يفرض كونها قديمة ، ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد .
والجواب الآخر : أنه أخبر عن ظنه ، وقد يجوز أنه يظن المفكر والمتأمل في حال نظره وفكره ما لا أصل له ، ثم يرجع عنه بالأدلة والعقل ، ولا يكون ذلك منه قبيحا .
فإن قيل الآية تدل على أن إبراهيم عليه السلام ما كان رأى هذه الكواكب قبل ذلك ، لأن تعجبه منها تعجب من لم يكن رآها ، فكيف يجوز أن يكون إلى مدة كمال عقله لم يشاهد السماء وما فيها من النجوم قلنا لا ؟
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 41 _
يمتنع أن يكون ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت ، لأنه على ما روي كان قد ولدته أمه في مغارة خوفا من أن يقتله النمرود ، ومن يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ وبلغ حد التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وفكر فيها ، وقد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم يفكر في أعلامها ، لأن الفكر لم يكن واجبا عليه ، وحين كمل عقله وحركته الخواطر فكر في الشئ الذي كان يراه قبل ذلك ولم يكن مفكرا فيه .
والوجه الآخر في أصل المسألة : هو أن إبراهيم عليه السلام لم يقل ما تضمنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر ، بل كان في تلك الحال موقنا عالما بأن ربه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شئ من الكواكب ، وإنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه والتنبيه لهم على أن ما يغيب ويأفل لا يجوز أن يكون إلها معبودا ، ويكون قوله : ( هذا ربي ) محمولا على أحد وجهين : أي هو كذلك عندكم وعلى مذاهبكم ، كما يقول أحدنا للمشبه على سبيل الإنكار لقوله هذا ربه جسم يتحرك ويسكن .
والوجه الآخر : أن يكون قال ذلك مستفهما ، وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه ، وقد جاء في الشعر ذلك كثيرا : قال الأخطل
(1) : كذبتك عينك أم رأيت بواسط ، غلس الظلام من الرباب خيالا
---------------------------
(1) الأخطل : شاعر الأمويين ( 640 ـ 710 ه ) هو غياث التغلبي لقب بالأخطل لطول لسانه أو لارتخاء أذنيه له ديوان كبير أكثره في الشعر السياسي مدح فيه الأمويين وهجا أعداءهم (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 42 _
وقال الآخر :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان وأنشدوا |
قول الهذلي :
وقوني وقالوا يا خويلد لم iiترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم يعني أهم هم ؟ |
وقال ابن أبي ربيعة :
ثم قالوا تحبها قلت iiبهرا عدد الرمل والحصى والتراب فإن قيل |
حذف حرف الاستفهام إنما يحسن إذا كان في الكلام دلالة عليه وعوض عنه ، وليس تستعمل مع فقد العوض ، وما أنشدتموه فيه عوض عن حرف الاستفهام المتقدم ، والآية ليس فيها ذلك .
قلنا قد يحذف حرف الاستفهام مع إثبات العوض عنه ومع فقده إذا زال اللبس في معنى الاستفهام ، وبيت ابن أبي ربيعة خال من حرف الاستفهام ومن العوض عنه .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ )
(1) قال هو أفلا اقتحم العقبة ، فألقيت ألف الاستفهام . وبعد فإذا جاز أن يلقوا ألف الاستفهام لدلالة الخطاب عليها ، فهلا جاز أن يلقوها لدلالة العقول عليها ، لأن دلالة العقل أقوى من دلالة غيره .
تنزيه إبراهيم ( ع ) عن الكذب :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام لما قال له قومه ( أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ )
(2) وإنما عنى بالكبير الصنم الكبير وهذا .
---------------------------
(1) البلد الآية : 11 .
(2) الأنبياء الآية : 62 ـ 63 (*)
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 43 _
كذب لا شك فيه ، لأن إبراهيم ( ع ) هو الذي كسر الأصنام ، فإضافته تكسيرها إلى غيره مما لا يجوز أن يفعل شيئا لا يكون إلا كذبا .
( الجواب ) : قيل له الخبر مشروط غير مطلق ، لأنه قال إن كانوا ينطقون ومعلوم أن الأصنام لا تنطق ، وأن النطق مستحيل عليها ، فما علق بهذا المستحيل من الفعل أيضا مستحيل ، وإنما أراد إبراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر أن يخبر عن نفسه بشئ .
فقال إن كانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للتكسير ، لأن من يجوز أن ينطق يجوز أن يفعل .
وإذا علم استحالة النطق عليها علم استحالة الفعل عليها ، وعلم باستحالة الأمرين أنها لا يجوز أن تكون آلهة معبودة ، وأن من عبدها ضال مضل ، ولا فرق بين قوله إنهم فعلوا ذلك إن كانوا ينطقون ، وبين قوله إنهم ما فعلوا ذلك ولا غيره لأنهم لا ينطقون ولا يقدرون .
وأما قوله ( ع ) فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، فإنما هو أمر بسؤالهم أيضا على شرط ، والنطق منهم شرط في الأمرين ، فكأنه قال : إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، فإنه لا يمتنع أن يكونوا فعلوه .
وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره : من فعل هذا الفعل ؟ فيقول زيد ، إن كان فعل كذا وكذا ، ويشير إلى فعل يضيفه السائل إلى زيد ، وليس في الحقيقة من فعله .
ويكون غرض المسؤول نفي الأمرين جميعا عن زيد ، وتنبيه السائل على خطئه في إضافة ما أضافه إلى زيد ، وقد قرأ بعض القراء وهو محمد بن علي السهيفع اليماني : فعله كبيرهم بتشديد اللام ، والمعنى فلعله ، أي فلعل فاعل ذلك كبيرهم .
وقد جرت عادة العرب بحذف اللام الأولى من لعل فيقولون عل ، قال الشاعر : عل صروف الدهر أو دولاتها ، تديلنا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 44 _
أي لعل صروف الدهر .
وقال الآخر :
يا أبتا علك أو iiعساكا يسقيني الماء الذي سقاكا |
فإن قيل : فأي فايدة في أن يستفهم عن أمر يعلم استحالته ، وأي فرق في المعنى بين القراءتين ؟ .
قلنا : لم يستفهم ولا شك في الحقيقة ، وإنما نبههم بهذا القول على خطيئتهم في عبادة الأصنام .
فكأنه قال لهم إن كانت هذه الأصنام تضر وتنفع وتعطي وتمنع ، فلعلها هي الفاعلة لذلك التكسير ، لأن من جاز منه ضرب من الأفعال جاز منه ضرب آخر ، وإذا كان ذلك الفعل الذي هو التكسير لا يجوز على الأصنام عند القوم ، فما هو أعظم منه أولى بأن لا يجوز عليها وأن لا يضاف إليها ، والفرق بين القراءتين ظاهر ، لأن القراءة الأولى لها ظاهر الخبر ، فاحتجنا إلى تعليقه بالشرط ليخرج من أن يكون كذبا .
والقراءة الثانية تتضمن حرف الشك والاستفهام ، فهما مختلفان على ما ترى .
فإن قيل : أليس قد روى بشر بن مفضل عن عوف عن الحسن قال : ( بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال إن إبراهيم عليه السلام ما كذب متعمدا قط إلا ثلاث مرات كلهن يجادل بهن عن دينه قوله إني سقيم ، وإنما تمارض عليهم لأن القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم وتخلف هو ليفعل بآلهتهم ما فعل .
وقوله بل فعله كبيرهم ، وقوله لسارة إنها أختي لجبار من الجبابرة لما أراد أخذها ) .
قلنا : قد بينا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر ، أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكذب .
فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه ، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلا
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 45 _
صحيحا لايقا بأدلة العقل ، فإن احتمل تأويلا يطابقها تأولناه ووفقنا بينه وبينها .
وهكذا نفعل فيما يروى من الأخبار التي تتضمن ظواهرها الجبر والتشبيه .
فأما قوله ( ع ) إني سقيم ، فسنبين بعد هذه المسألة بلا فصل وجه ذلك ، وأنه ليس بكذب ، وقوله بل فعله كبيرهم قد بينا معناه وأوضحنا عنه .
وأما قوله ( ع ) لسارة أنها أختي ، فإن صح فمعناه أنها أختي في الدين ، ولم يرد أخوة النسب .
وأما ادعائهم على النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ما كذب إبراهيم ( ع ) إلا ثلاث مرات ، فالأولى أن يكون كذبا عليه ( ع ) لأنه صلى الله عليه وآله كان أعرف بما يجوز على الأنبياء ( ع ) وما لا يجوز عليهم ، ويحتمل إن كان صحيحا أن يريد ما أخبر بما ظاهره الكذب إلا ثلاث دفعات ، فأطلق عليه اسم الكذب لأجل الظاهر ، وإن لم يكن على الحقيقة كذلك .
تنزيه إبراهيم عن الشك في الله :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )
(1) والسؤال عليكم في هذه الآية من وجهين : أحدهما أنه حكي عن نبيه النظر في النجوم ، وعندكم أن الذي يفعله المنجمون من ذلك ضلال ، والآخر قوله ( ع ) إني سقيم ، وذلك كذب .
( الجواب ) : قيل له في هذه الآية وجوه ( منها ) : أن إبراهيم ( ع ) كانت به علة تأتيه في أوقات مخصوصة ، فلما دعوه إلى الخروج معهم نظر إلى
---------------------------
(1) الصافات الآية : 88 ـ 89 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 46 _
النجوم ليعرف منها قرب نوبة علته فقال : إني سقيم .
وأراد أنه قد حضر وقت العلة وزمان نوبتها وشارف الدخول فيها .
وقد تسمي العرب المشارف للشئ باسم الداخل فيه ، ولهذا يقولون فيمن أدنفه المرض وخيف عليه الموت هو ميت .
وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )
(1) فإن قيل : فلو أراد ما ذكرتموه لقال : فنظر نظرة إلى النجوم ولم يقل في النجوم ، لأن لفظة في لا تستعمل إلا فيمن ينظر كما ينظر المنجم .
قلنا ليس يمتنع أن يريد بقوله في النجوم ، أنه نظر إليها لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض ، قال الله تعالى : ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )
(2) وإنما أراد على جذوعها ، وقال الشاعر :
إسهري ما سهرت أم حكيم ، واقعدي مرة لذاك وقومي
وافتحي الباب وانظري في النجوم ، * كم علينا من قطع ليل بهيم
وإنما أراد انظري إليها لتعرفي الوقت .
( ومنها ) : أنه يجوز أن يكون الله تعالى أعلمه بالوحي أنه سيمتحنه بالمرض في وقت مستقبل ، وإن لم يكن قد جرت بذلك المرض عادته ، وجعل تعالى العلامة على ذلك ظاهرة له من قبل النجوم ، إما بطلوع نجم على وجه مخصوص أو أفول نجم على وجه مخصوص أو اقترانه بآخر على وجه مخصوص ، فلما نظر إبراهيم في الأمارة التي نصبت له من النجوم قال إني سقيم ، تصديقا بما أخبره الله تعالى .
( ومنها ) : ما قال قوم في ذلك من أن كان آخر أمره الموت فهو سقيم ، وهذا حسن ، لأن تشبيه الحياة المفضية إلى الموت بالسقم من أحسن التشبيه .
---------------------------
(1) الزمر الآية : 30 .
(2) طه الآية : 71 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 47 _
( ومنها ) : أن يكون قوله إني سقيم القلب والرأي ، حزنا من إصرار قومه على عبادة الأصنام ، وهي لا تسمع ولا تبصر . ويكون قوله فنظر نظرة في النجوم على هذا المعنى ، معناه أنه نظر وفكر في أنها محدثة مدبرة مصرفة مخلوقة ، وعجب كيف يذهب على العقلاء ذلك من حالها حتى يعبدوها .
ويجوز أيضا أن يكون قوله تعالى : فنظر نظرة في النجوم ، معناه أنه شخص ببصره إلى السماء كما يفعل المفكر المتأمل ، فإنه ربما أطرق إلى الأرض وربما نظر إلى السماء استعانة في فكره .
وقد قيل إن النجوم هاهنا هي نجوم النبت ، لأنه يقال لكل ما خرج من الأرض وغيرها وطلع ، انه نجم ناجم ، وقد نجم ، ويقال للجميع نجوم ، ويقولون نجم قرن الظبي ، ونجم ثدي المرأة ، وعلى هذا الوجه يكون إنما نظر في حال الفكر والاطراق إلى الأرض ، فرأى ما نجم منها ، وقيل أيضا إنه أراد بالنجوم ما نجم له من رأيه وظهر له بعد أن لم يكن ظاهرا .
وهذا وإن كان يحتمله الكلام ، فالظاهر بخلافه ، لأن الإطلاق من قول القائل : نجوم ، لا يفهم من ظاهره إلا نجوم السماء دون نجوم الأرض ، ونجوم الرأي ، وليس كلما قيل فيه إنه نجم ، وهو ناجم على الحقيقة ، يصلح أن يقال فيه نجوم بالاطلاق والمرجع في هذا إلى تعارف أهل اللسان .
وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني : إن معنى قوله تعالى : فنظر نظرة في النجوم ، أراد في القمر والشمس ، لما ظن أنهما آلهة في حال مهلة النظر على ما قصه الله تعالى في قصته في سورة الأنعام ، ولما استدل بأفولهما وغروبهما على أنهما محدثان غير قديمين ، ولا إلهين .
وأراد بقوله إني سقيم ، إني لست على يقين من الأمر ولا شفاء من العلم ، وقد يسمى الشك بأنه سقيم كما يسمى العلم بأنه شفاء ، قال وإنما زال عنه هذا السقم عند زوال الشك وكمال المعرفة ، وهذا الوجه يضعف من جهة أن القصة التي حكاها عن إبراهيم فيها هذا الكلام يشهد ظاهره بأنها غير
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 48 _
القصة المذكورة في سورة الأنعام ، وأن القصة مختلفة لأن الله تعالى قال : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ، أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ، فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )
(1) فبين تعالى كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم ، وإنما أراد أنه كان سليما من الشك وخالصا للمعرفة واليقين .
ثم ذكر أنه عاتب قومه على عبادة الأصنام ، فقال ماذا تعبدون ؟ وسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل ، ثم قال فما ظنكم برب العالمين ؟ وهذا قول عارف بالله تعالى مثبت له على صفاته غير ناظر ممثل ولا شاك ، فكيف يجوز أن يكون قوله من بعد ذلك ، فنظر نظرة في النجوم ، أنه ظنها أربابا وآلهة وكيف يكون قوله إني سقيم ؟ أي لست على يقين ولا شفاء ، والمعتمد في تأويل ذلك ما قدمناه .
تنزيه إبراهيم ( ع ) عن العجز :
( مسألة ) : فإن قال قائل فما قولكم في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ )
(2) وهذا يدل على انقطاع إبراهيم ( ع ) وعجزه عن نصرة دليله الأول ولهذا انتقل إلى حجة أخرى ، وليس ينتقل المحتج من شئ إلى غيره إلا على وجه القصور عن نصرته .
( الجواب ) : قلنا ليس هذا بانقطاع من إبراهيم عليه السلام ولا عجز عن نصرة حجته الأولى ، وقد كان إبراهيم ( ع ) قادرا لما قال له الجبار الكافر أنا أحيي وأميت في جواب قوله ربي الذي يحيي ويميت ، ويقال إنه دعا رجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر ، فقال عند ذلك أنا أحيي وأميت ، وموه
---------------------------
(1) الصافات الآيات : 83 ـ 89 .
(2) البقرة الآية : 258 (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 49 _
بذلك على من بحضرته على أن يقول له : ما أردت بقولي إن ربي الذي يحيي ويميت ما ظننته من استبقاء حي ، وإنما أردت به أنه يحيي الميت الذي لا حياة فيه ، إلا أن إبراهيم ( ع ) علم أنه إن أورد ذلك عليه التبس الأمر على الحاضرين وقويت الشبهة ، لأجل اشتراك الاسم ، فعدل إلى ما هو أوضح ، واكشف وأبين وأبعد من الشبهة ، فقال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ولم يبق عنده شبهة .
ومن كان قصده البيان والإيضاح فله أن يعدل من طريق إلى آخر لوضوحه وبعده عن الشبهة ، وإن كان كلا الطريقين يفضي إلى الحق ،
على أنه بالكلام الثاني ناصر للحجة الأولى وغير خارج عن سنن نصرتها ، لأنه لما قال ربي الذي يحيي ويميت ، فقال له في الجواب أنا أحيي وأميت ، فقال له إبراهيم : من شأن هذا الذي يحيي ويميت أن يقدر على أن يأتي بالشمس من المشرق ويصرفها كيف يشاء .
فإن ادعيت أنت القادر على ما يقدر الرب عليه فائت بالشمس من المغرب كما يأتي هو بها من المشرق ، فإذا عجزت عن ذلك علمنا أنك عاجز عن الحياة والموت ومدع فيهما ما لا أصل له ، فإن قيل : فلو قال له في جواب هذا الكلام : وربك لا يقدر أن يأتي بالشمس من المغرب ، فكيف تلزمني أن آتي بها من المغرب ؟
قلنا : لو قال له ذلك لكان إبراهيم ( ع ) يدعو الله أن يأتي بالشمس من المغرب فيجيبه إلى ذلك ، وإن كان معجزا خارقا للعادة ، ولعل الخصم إنما عدل عن أن يقول له ذلك علما بأنه إذا سأل الله تعالى فيه أجابه إليه .
تنزيه إبراهيم عن الشك في قدرة الله :
( مسألة ) : فإن قال قائل : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )
(1)
---------------------------
(1) البقرة الآية 260 أنظر قصص الأنبياء ص 96 و 97 الطبعة الثالثة ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت (*) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 50 _
أو ليس هذا الكلام والطلب من إبراهيم ( ع ) يدلان على أنه لم يكن موقنا بأن الله تعالى يحيي الموتى ؟ وكيف يكون نبيا من يشك في ذلك ؟ أو ليس قد روى المفسرون أن إبراهيم ( ع ) مر بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر ، ودواب البر والبحر تأكل منه ، فأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلفا ، مع تفرق أجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البر والبحر ؟ فشك فسأل الله تعالى ما تضمنته الآية ، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم ( ع ) .
( الجواب ) : قيل له ليس في الآية دلالة على شك إبراهيم في إحياء الموتى ، وقد يجوز أن يكون ( ع ) إنما سأل الله تعالى ذلك ليعلمه على وجه يبعد عن الشبهة ، ولا يعترض فيه شك ولا ارتياب .
وإن كان من قبل قد علمه على وجه للشبهة فيه مجال ، ونحن نعلم أن في مشاهدة ما شاهده إبراهيم من كون الطير حيا ثم تفرقه وتقطعه وتباين أجزائه ثم رجوعه حيا كما كان في الحال الأولى ، من الوضوح وقوة العلم ونفي الشبهة ما ليس لغيره من وجوه الاستدلالات ، وللنبي ( ع ) أن يسأل ربه تخفيف محنته وتسهيل تكليفه .
والذي يبين صحة ما ذكرناه قوله تعالى : ( أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، فقد أجاب إبراهيم بمعنى جوابنا بعينه ، لأنه بين أنه لم يسأل ذلك لشك فيه وفقد إيمان به ، وإنما أراد الطمأنينة ، وهي ما أشرنا إليه من سكون النفس وانتفاء الخواطر والوساوس والبعد عن اعتراض الشبهة .
ووجه آخر : وهو أنه قد قيل إن الله تعالى لما بشر إبراهيم عليه السلام بخلته واصطفائه واجتبائه ، سأل الله تعالى أن يريه إحياء الموتى ليطمئن قلبه بالخلة ، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون صحة ما تضمنه الوحي إلا بالاستدلال ، فسأل إحياء الموتى لهذا الوجه لا للشك في قدرة الله تعالى على ذلك .