المسلمين ، وقد كان عليه السلام يتصدق بكثير من أمواله ويواسي الفقراء ويصل المحتاجين ، ولعل في جملة ذلك هذه الحقوق .
  فأما إظهاره ( عليه السلام ) موالاته ، فما أظهر عليه السلام من ذلك شيئا كما لم يبطنه . وكلامه فيه بمشهد معاوية ومغيبه معروف ظاهر يشهد بذم معاوية ومعائبه ، ولو فعل ذلك خوفا واستصلاحا وتلافيا للشر العظيم لكان واجبا ، فقد فعل أبوه عليه السلام مثله مع المتقدمين عليه وأعجب من هذا كله دعوى القول بإمامته ومعلوم ضرورة منه ( عليه السلام ) خلاف ذلك ، وأنه كان يعتقد ويصرح بأن معاوية لا يصلح أن يكون بعض ولاة الإمام ولا تباعه فضلا عن الإمامة نفسها ، وليس يظن مثل هذه الأمور الا عامي حشوي قد قعد به التقليد .
  وما سبق إلى اعتقاده من تصويب القوم كلهم عن التأمل وسماع الأخبار المأثورة في هذا الباب فهو لا يسمع إلا بما يوافقه . وإذا سمع لم يصدق إلا بما أعجبه والله المستعان .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 227 _

  أبو عبد الله الحسين بن على (عليهما السلام) :
  بيان الأسباب في قدوم الحسين الكوفة وقتاله :
  ( مسألة ) : فإن قيل : ما العذر في خروجه عليه السلام من مكة بأهله وعياله إلى الكوفة والمستولى عليها أعداؤه ، والمتآمر فيها من قبل يزيد منبسط الأمر والنهي ، وقد رأى عليه السلام صنع أهل الكوفة بأبيه وأخيه ، وأنهم غدارون خوانون ، وكيف خالف ظنه ظن جميع أصحابه في الخروج وابن عباس يشير بالعدول عن الخروج ويقطع على العطب فيه ، وابن عمر لما ودعه يقول استودعك الله من قتيل ، إلى غير ما ذكرناه ممن تكلم في هذا الباب .
  ثم لما علم بقتل مسلم بن عقيل ( رضي ) وقد أنفذه رائدا له ، كيف لم يرجع لما علم الغرور من القوم وتفطن بالحيلة والمكيدة ، ثم كيف استجاز ان يحارب بنفر قليل لجموع عظيمة خلفها ، لها مواد كثيرة ، ثم لما عرض عليه ابن زياد الأمان وأن يبايع يزيد ، كيف لم يستجب حقنا لدمه ودماء من معه من أهله وشيعته ومواليه .
  ولم القى بيده إلى التهلكة وبدون هذا الخوف سلم أخوه الحسن عليه السلام الأمر إلى معاوية ، فكيف يجمع بين فعليهما بالصحة ؟
  ( الجواب ) : قلنا قد علما أن الامام متى غلب في ظنه يصل إلى حقه والقيام بما فوض إليه بضرب من الفعل ، وجب عليه ذلك وان كان فيه ضرب من المشقة يتحمل مثلها تحملها ، وسيدنا أبو عبد الله عليه السلام لم

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 228 _

  يسر طالبا للكوفة الا بعد توثق من القوم وعهود وعقود ، وبعد ان كاتبوه عليه السلام طائعين غير مكرهين ومبتدئين غير مجيبين .
  وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرائها ، تقدمت إليه في أيام معاوية وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن ( عليه السلام ) فدفعهم وقال في الجواب ما وجب .
  ثم كاتبوه بعد وفاة الحسن ( عليه السلام ) ومعاوية باق فوعدهم ومناهم ، وكانت أياما صعبة لا يطمع في مثلها .
  فلما مضى معاوية وأعادوا المكاتبة بذلوا الطاعة وكرروا الطلب والرغبة ورأى ( عليه السلام ) من قوتهم على من كان يليهم في الحال من قبل يزيد ، وتشحنهم عليه وضعفه عنهم ، ما قوى في ظنه ان المسير هو الواجب ، تعين عليه ما فعله من الاجتهاد والتسبب ، ولم يكن في حسابه أن القوم يغدر بعضهم ، ويضعف أهل الحق عن نصرته ويتفق بما اتفق من الأمور الغريبة .
  فإن مسلم بن عقيل رحمة الله عليه لما دخل الكوفة أخذ البيعة على أكثر أهلها .
  ولما وردها عبيد الله بن زياد وقد سمع بخبر مسلم ودخوله الكوفة وحصوله في دار هاني بن عروة المرادى رحمة الله عليه على ما شرح في السير ، وحصل شريك بن الأعور بها جاءه ابن زياد عايدا وقد كان شريك وافق مسلم بن عقيل على قتل ابن زياد عند حضوره لعيادة شريك ، وأمكنه ذلك وتيسر له ، فما فعل واعتذر بعد فوت الأمر إلى شريك بأن ذلك فتك ، وأن النبي صلى الله عليه وآله قال أن الإيمان قيد الفتك .
  ولو كان فعل مسلم بن عقيل من قتل ابن زياد ما تمكن منه ، ووافقه شريك عليه لبطل الأمر .
  ودخل الحسين على السلام الكوفة غير مدافع عنها ، وحسر كل أحد قناعه في نصرته ، واجتمع له من كان في قلبه نصرته وظاهره مع أعدائه .
  وقد كان مسلم بن عقيل أيضا لما حبس ابن زياد هانيا سار إليه في جماعة من أهل الكوفة ، حتى حصره في قصره وأخذ بكظمه ، وأغلق ابن زياد الأبواب دونه خوفا وجبنا حتى بث الناس في كل وجه يرغبون الناس ويرهبونهم ويخذلونهم عن ابن عقيل ، فتقاعدوا عنه وتفرق أكثرهم ، حتى أمسى في شر ذمة ، ثم انصرف وكان من أمره ما كان ، وإنما أردنا بذكر هذه

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 229 _

  الجملة أن أسباب الظفر بالأعداء كانت لا يحة متوجهة ، وان الاتفاق السئ عكس الأمر وقلبه حتى تم فيه ما تم .
  وقد هم سيدنا أبو عبد الله عليه السلام لما عرف بقتل مسلم بن عقيل ، وأشير عليه بالعود فوثب إليه بنو عقيل وقالوا والله لا ننصرف حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أبونا .
  فقال عليه السلام : لا خير في العيش بعد هؤلاء .
  ثم لحقه الحر بن يزيد ومن معه من الرجال الذين انفذهم ابن زياد ، ومنعه من الانصراف ، وسامه ان يقدمه على ابن زياد نازلا على حكمه ، فامتنع .
  ولما رأى أن لا سبيل له إلى العود ولا إلى دخول الكوفة ، سلك طريق الشام سائرا نحو يزيد بن معاوية لعلمه عليه السلام بأنه على ما به أرق من ابن زياد وأصحابه ، فسار عليه السلام حتى قدم عليه عمر بن سعد في العسكر العظيم ، وكان من أمره ما قد ذكر وسطر ، فكيف يقال انه القى بيده إلى التهلكة ؟
  وقد روى أنه صلوات الله وسلامه عليه وآله قال لعمر بن سعد : اختاروا منى إما الرجوع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو ان أضع يدي في يد يزيد ابن عمى ليرى في رأيه ، وإما ان تسيروني إلى ثغر من ثغور المسلمين ، فأكون رجلا من أهله لي ماله وعلي ما عليه .
  وان عمر كتب إلى عبيد الله بن زياد بما سئل فأبى عليه وكاتبه بالمناجزة وتمثل بالبيت المعروف وهو :
الآن  علقت  مخالبنا  iiبه      يرجو النجاة ولات حين مناص

  فلما رأى ( ع ) إقدام القوم عليه وان الدين منبوذ وراء ظهورهم وعلم أنه إن دخل تحت حكم ابن زياد تعجل الذل وآل امره من بعد إلى القتل ، التجأ إلى المحاربة والمدافعة بنفسه وأهله ومن صبر من شيعته ، ووهب دمه ووقاه بنفسه .
  وكان بين إحدى الحسنيين : إما الظفر فربما ظفر الضعيف القليل ، أو الشهادة والميتة الكريمة .
  وأما مخالفة ظنه عليه السلام لظن جميع من أشار عليه من النصحاء

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 230 _

  كابن عباس وغيره ، فالظنون انما تغلب بحسب الامارات ، وقد تقوى عند واحد وتضعف عند آخر ، لعل ابن عباس لم يقف على ما كوتب به من الكوفة ، وما تردد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق ، وهذه أمور تختلف أحوال الناس فيها ولا يمكن الإشارة إلا إلى جملتها دون تفصيلها .
  فأما السبب في أنه ( ع ) لم يعد بعد قتل مسلم بن عقيل ، فقد بينا وذكرنا أن الرواية وردت بأنه عليه السلام هم بذلك ، فمنع منه وحيل بينه وبينه ، فأما محاربة الكثير بالنفر القليل ، فقد بينا أن الضرورة دعت إليها وان الدين والحزم ما اقتضى في تلك الحال الا ما فعله ، ولم يبذل ابن زياد من الأمان ما يوثق بمثله . وإنما أراد إذلاله والغض من قدره بالنزول تحت حكمه ، ثم يفضي الأمر بعد الذل إلى ما جرى من إتلاف النفس .
  ولو أراد به ( ع ) الخير على وجه لا يلحقه فيه تبعة من الطاغية يزيد ، لكان قد مكنه من التوجه نحوه استظهر عليه بمن ينفذه معه ، لكن التراث البدوية والأحقاد الوثنية ظهرت في هذه الأحوال ، وليس يمتنع أن يكون عليه السلام من تلك الأحوال مجوزا أن يفئ إليه قوم ممن بايعه وعاهده وقعد عنه ، ويحملهم ما يكون من صبره واستسلامه وقلة ناصره على الرجوع إلى الحق دينا أو حمية ، فقد فعل ذلك نفر منهم حتى قتلوا بين يديه شهداء ، ومثل هذا يطمع فيه ويتوقع في أحوال الشدة .
  فأما الجمع بين فعله ( ع ) وفعل أخيه الحسن فواضح صحيح ، لان أخاه سلم كفا للفتنة وخوفا على نفسه وأهله وشيعته ، وإحساسا بالغدر من أصحابه ، وهذا لما قوي في ظنه النصرة ممن كاتبه وتوثق له ، ورأى من أسباب قوة أنصار الحق وضعف أنصار الباطل ما وجب عليه الطلب والخروج .
  فلما انعكس ذلك وظهرت امارات الغدر فيه وسوء الاتفاق رام

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 231 _

  الرجوع والمكافة والتسليم كما فعل أخوه ، فمنع من ذلك وحيل بينه وبينه ، فالحالان متفقان .
  إلا أن التسليم والمكافة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه ، ولم يجب إلا إلى الموادعة ، وطلب نفسه ( ع ) فمنع منها بجهده حتى مضى كريما إلى جنة الله ورضوانه .
  وهذا واضح لمن تأمله ، وإذا كنا قد بينا عذر أمير المؤمنين عليه السلام في الكف عن نزاع من استولى على ما هو مردود إليه من أمر الأمة ، وأن الحزم والصواب فيما فعله ، فذلك بعينه عذر لكل إمام من أبنائه عليهم السلام في الكف عن طلب حقوقهم من الإمامة ، فلا وجه لتكرار ذلك في كل إمام من الأئمة ( ع ) والوجه أن نتكلم على ما لم يمض الكلام على مثله .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 232 _

  أبو الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) :
  في وجه قبول الرضا ( ع ) لولاية العهد
  ( مسألة ) : إن قيل كيف تولى على بن موسى الرضا عليه السلام العهد للمأمون ، وتلك جهة لا يستحق الإمامة منها ، أو ليس هذا إيهاما فيما يتعلق بالدين ؟
  ( الجواب ) : قلنا قد مضى من الكلام في سبب دخول أمير المؤمنين في الشورى ما هو أصل في هذا الباب ، وجملته ان ذا الحق له أن يتوصل إليه من كل جهة ، وبكل سبب ، لا سيما إذا كان يتعلق بذلك الحق تكليف عليه ، فإنه يصير واجبا عليه التوصل والتحمل والتصرف في الإمامة مما يستحقه الرضا صلوات الله عليه وآله بالنص من آبائه .
  فإذا دفع عن ذلك وجعل إليه من وجه آخر أن يتصرف فيه ، وجب عليه أن يجيب إلى ذلك الوجه ليصل منه إلى حقه .
  وليس في هذا إيهام لان الأدلة الدالة على استحقاقه ( ع ) للإمامة بنفسه تمنع من دخول الشبهة بذلك ، وان كان فيه بعض الإيهام يحسنه دفع الضرورة إليه كما حملته وآبائه ( ع ) على إظهار متابعة الظالمين والقول بإمامتهم ، ولعله ( ع ) أجاب إلى ولاية العهد للتقية والخوف ، وأنه لم يؤثر الامتناع إلى من ألزمه ذلك وحمله عليه فيفضي الأمر إلى المباينة والمجاهرة والحال لا يقتضيها وهذا بين .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 233 _

  القائم المهدي (صلوات الله عليه) :
  بيان الوجه في غيبته :
  ( مسألة ) : إن قال قائل فما الوجه في غيبته عليه السلام واستتاره على الاستمرار والدوام حتى ان ذلك قد صار سببا لنفي ولادته وإنكار وجوده ؟ وكيف يجوز أن يكون إماما للخلق وهو لم يظهر قط لأحد منهم ، وآباؤه ( ع ) وان كانوا غير آمرين فيما يتعلق بالإمامة ولا ناهين ، فقد كانوا ظاهرين بارزين يفتون في الأحكام ويرشدون عند المعضلات لا يمكن أحد نفي وجودهم وان نفي إمامتهم ؟
  ( الجواب ) : قلنا اما الاستتار والغيبة فسببهما إخافة الظالمين له على نفسه ، ومن أخيف على نفسه فقد أحوج إلى الاستتار ، ولم كن الغيبة من ابتدائها على ما هي عليه الآن ، فإنه في ابتداء الأمر كان ظاهر لأوليائه غائبا عن أعدائه ، ولما اشتد الأمر وقوي الخوف وزاد الطلب استتر عن الولي والعدو ، فليس ما ذكره السائل من أنه لم يظهر لأحد من الخلق صحيحا ، فأما كون ذلك سببا لنفي ولادته ( ع ) فلم يكن سببا لشئ من ذلك إلا بالشبهة وضعف البصيرة والتقصير عن النظر الصحيح ، وما كان التقصير داعيا إليه والشبهة سببه من الاعتقادات ، وعلى الحق فيه دليل واضح باد لمن أراده ، ظاهر لمن قصده ، ليس يجب المنع في دار التكليف والمحنة منه ،

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 234 _

  ألا ترى أن تكليف الله تعالى من علم انه يكفر قد صار سببا لا اعتقادات كثيرة باطلة ، فالملحدون جعله طريقا إلى نفى الصانع ، والمجبرة جعلته طريقا إلى أن القبيح منا لا يقبح من فعله تعالى ، وآخرون جعلوه طريقا إلى الشك والحيرة الدفع عن القطع على حكمه القديم تعالى ، وكذلك فعل الآلام بالأطفال والبهائم قد شك كثير من الناس ، منهم الثنوية وأصحاب التناسخ والبكرية والمجبرة ، ولم يكن دخول الشبهة بهذه الأمور على من قصر في النظر وانقاد إلى الشبهة مع وضوح الحق له لو أراده ، موجبا على الله دفعها ، حتى لا يكلف إلا المؤمنين ولا يؤل إلا البالغين .
  ولهذا الباب في الأصول نظائر كثيرة ذكرها يطول ، والإشارة إليها كافية .
  وأما الفرق بينه وبين آبائه عليهم السلام فواضح ، لان خوف من يشار إليه بأنه القائم المهدي الذي يظهر بالسيف ويقهر الأعداء ويزيل الدول والممالك ، لا يكون كخوف غيره ممن يجوز له مع الظهور التقية وملازمة منزله ، وليس من تكليفه ولا مما سبق أنه يجري على يده الجهاد واستيصال الظالمين .

  المصلحة بوجوده :
  ( مسألة ) : فإن قيل : إذا كان الخوف قد اقتضى ان المصلحة في استتاره وتباعده فقد تغيرت الحال إذا في المصلحة بالامام واختلف ، وصار ما توجبونه من كون المصلحة مستمرة بوجوده وأمره ونهيه مختلفا على ما ترون ، وهذا خلاف مذهبكم .
  ( الجواب ) : قلنا المصلحة التي توجب استمرارها على الدوام بوجوده وأمره ونهيه ، انما هي للمكلفين .
  وهذه المصلحة ما تغيرت ولا تتغير ، وإنما قلنا ان الخوف من الظالمين اقتضى أن يكون من مصلحته هو ( ع ) في نفسه الاستتار والتباعد ، وما يرجع إلى المكلفين به لم يختلف ، ومصلحتنا وإن كانت لا تتم إلا بظهوره وبروزه ، فقد قلنا ان مصلحته الآن في نفسه في خلاف الظهور ، وذلك غير متناقض ، لان من أخاف الإمام وأحوجه إلى الغيبة

اتنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 235 _

  والى أن يكون الاستتار من مصلحته قادر على أن يزيل خوفه ، فيظهر ويبرز ويصل كل مكلف إلى مصلحته ، والتمكن مما يسهل سبيل المصلحة تمكن من المصلحة فمن هذا الوجه لم يزل التكليف الذي ( به ) الإمام لطف فيه عن المكلفين بالغيبة منه والاستتار ، على ان هذا يلزم في النبي صلى الله عليه وآله لما استتر في الغار وغاب عن قومه بحيث لا يعرفونه ، لانا نعلم أن المصلحة بظهوره وبيانه كانت ثابتة غير متغيرة ، ومع هذه الحال فإن المصلحة له في الاستتار والغيبة عند الخوف ، ولا جواب عن ذلك ، وبيان أنه لا تنافي فيه ولا تناقض إلا بمثل ما اعتمدناه بعينه .

  في الوجه في غيبته عن أوليائه وأعدائه :
  ( مسألة ) : فإن قيل : فإذا كان الإمام ( ع ) غائبا بحيث لا يصل إليه أحد من الخلق ولا ينتفع به ، فما الفرق بين وجوده وعدمه ؟ وإذا جاز ان يكون إخافة الظالمين سببا لغيبته بحيث لا يصل إلى مصلحتنا به حتى إذا زالت الإخافة ظهر ، فلم لا جاز أن يكون اخافتهم له سببا لان يعدمه الله تعالى ، فإذا انقادوا وأذعنوا أوجده الله لهم ؟
  ( الجواب ) : قلنا : أول ما نقول إنا غير قاطعين على ان الإمام ( ع ) لا يصل إليه أحد ولا يلقاه بشر ، فهذا أمر غير معلوم ولا سبيل إلى القطع عليه ، ثم الفرق بين وجوده غائبا عن أعدائه للتقية وهو في خلال ذلك منتظر أن يمكنوه فيظهر ويتصرف ، وبين عدمه واح لا خفاء به .
  وهو الفرق بين أن تكون الحجة فيما فات من مصالح العباد لازمة لله تعالى ، وبين أن تكون لازمة للبشر ، لأنه إذا أخيف فغيب شخصه عنهم كان ما يفوتهم من مصلحة عقيب فعل سببوه وإلجائه إليه ، فكانت العهدة فيه عليهم والذم لازما لهم وإذا أعدمه الله تعالى ، ومعلوم أن العدم لا يسببه الظالمون بفعلهم ، وإنما يفعله الله تعالى اختيارا ، كان ما يفوت بالاعدام من المصالح لازما له تعالى ومنسوبا إليه .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 236 _

  ( مسألة ) : فإن قيل فالحدود التي تجب على الجناة في حال الغيبة كيف حكمها ؟ وهل تسقط عن أهلها ؟ وهذا ان قلتموه صرحتم بنسخ شريعة الرسول صلى الله عليه وآله وان أثبتموه فمن الذي يقيمها والإمام ( ع ) غائب مستتر ؟
  ( الجواب ) : قلنا : أما الحدود المستحقة بالأعمال القبيحة فواجبة في جنوب مرتكبي القبائح ، فإن تعذر على الإمام في حال الغيبة إقامتها فالإثم فيما تعذر من ذلك على من سبب الغيبة وأوجبها بفعله ، وليس هذا نسخا للشريعة ، ولان المتقرر بالشرع وجوب إقامة الحد مع التمكن وارتفاع الموانع ، وسقوط فرض إقامته مع الموانع وارتفاع التمكن لا يكون نسخا للشرع المتقرر ، لان الشرط في الوجوب لم يحصل .
  وإنما يكون ذلك نسخا لو سقط فرض إقامة الحدود عن الإمام مع تمكنه ، على أن هذا يلزم مخالفينا في الإمامة إذا قيل لهم كيف الحكم في الحدود التي تستحق في الأحوال التي لا يتمكن فيها أهل الحل والعقد من نصب إمام واختياره ؟ وهل تبطل الحدود أو تستحق مع تعذر إقامتها ؟ وهل يقتضي هذا التعذر نسخ الشريعة فأي شئ اعتصموا به من ذلك فهو جوابنا بعينه .

  حاجة الناس للإمام :
  ( مسألة ) : فإن قيل فالحق مع غيبة الإمام كيف يدرك وهذا يقتضي أن يكون الناس في حيرة مع الغيبة ؟ فان قلتم أنه يدرك من جهة الأدلة المنصوبة إليه قيل لكم هذا يقتضي الاغتناء عن الإمام بهذه الأدلة .
  ( الجواب ) : قلنا : أما العلة المحوجة إلى الإمام في كل عصر وعلى كل حال ، فهي كونه لطفا فيما أوجب علينا فعله من العقليات من الإنصاف والعدل اجتناب الظلم والبغي ، لان ما عدا هذه العلة من الأمور المستندة إلى السمع والعبادة به جايز ارتفاعها لجواز خلق المكلفين من العبادات الشرعية كلها ، وما يجوز على حال ارتفاعه لا يجوز أن يكون علته في أمر

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 237 _

  مستمر لا يجوز زواله ، وقد استقصينا هذا المعنى في كتابنا الشافي في الإمامة وأوضحناه ، ثم نقول من بعده أن الحق في زماننا هذا على ضربين : عقلي وسمعي : فالعقلي ندركه بالعقل ولا يؤثر فيه وجود الإمام ولا فقده ، والسمعي انما يدرك بالنقل الذي في مثله الحجة ، ولا حق علينا يجب العلم به من الشرعيات إلا وعليه دليل شرعي .
  وقد ورد النقل به عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة من ولده صلوات الله عليهم ، فنحن نصيب الحق بالرجوع إلى هذه الأدلة والنظر فيها ، والحاجة مع ذلك كله إلى الإمام ثابتة لان الناقلين يجوز أن يعرضوا عن النقل إما بشبهة أو اعتماد فينقطع النقل أو يبقى فيمن ليس نقله حجة ولا دليل ، فيحتاج حينئذ المكلفون إلى دليل هو قول الإمام وبيانه ، وإنما يثق المكلفون بما نقل إليهم ، وانه جميع الشرع لعلمهم بأن وراء هذا النقل إماما متى اختل استدرك عما شذ منه ، فالحاجة إلى الإمام ثابتة مع إدراك الحق في أحوال الغيبة من الأدلة الشرعية على ما بيناه .

  في بيان علة استتاره :
  ( مسألة ) : فإن قيل : إذا كانت العلة في استتار الإمام خوفه من الظالمين واتقائه من المعاندين فهذه العلة زايلة في أوليائه وشيعته ، فيجب أن يكون ظاهرا لهم أو يجب أن يكون التكليف الذي أوجب إمامته لطفا فيه ساقطا عنهم ، لأنه لا يجوز أن يكلفوا بما فيه لطف لهم ثم يحرموه بجناية غيرهم .
  ( الجواب ) : قلنا : قد أجاب أصحابنا عن هذا بأن العلة في استتاره من الأعداء هي الخوف منهم والتقية . وعلة استتاره من الأولياء لا يمتنع أن يكون لئلا يشيعوا خبره ويتحدثوا عنه مما يؤدي إلى خوفه وان كانوا غير قاصدين بذلك ، وقد ذكرنا في كتاب الإمامة جوابا آخر ، وهو أن الإمام ( عليه السلام ) عند ظهوره عن الغيبة إنما يعلم شخصه ويتميز عينه من جهة المعجز

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 238 _

  الذي يظهر على يديه لان النص المتقدم من آبائه عليهم السلام لا يميز شخصه من غيره ، كما يميز النص أشخاص آبائه ( عليهم السلام ) لما وقع على إمامتهم .
  والمعجز إنما يعلم دلالة وحجة بضرب من الاستدلال ، والشبهة معترضة لذلك وداخلة عليه ، فلا يمتنع على هذا أن يكون كل من لم يظهر له من أوليائه ، فلان المعلوم من حاله أنه متى ظهر له قصر في النظر في معجزه ، ولحق به هذا التقصير عند دخول الشبهة لمن يخاف منه من الأعداء ، وقلنا أيضا أنه غير ممتنع أن يكون الإمام عليه السلام يظهر لبعض أوليائه ممن لا يخشى من جهته شيئا من أسباب الخوف ، فإن هذا مما لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه ، وإنما يعلم كل واحد من شيعته حال نفسه ، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره .
  ولو لا أن استقصاء الكلام في مسائل الغيبة يطول ويخرج عن الغرض بهذا الكتاب لأشبعناه ها هنا .
  وقد أوردنا منه الكثير في كتابنا في الإمامة ولعلنا نستقصي الكلام فيه ونأتي على ما لعله لم نورده في كتاب الإمامة في موضع نفرده له ، إن أخر الله تعالى في المدة وتفضل بالتأييد والمعونة ، فهو المؤول ذلك والمأمول لكل فضل وخير قربا من ثوابه وبعدا من عقابه ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين