ومباشرته بنفوسهم ، وهذا نهاية الحزم والاحتياط في الدين .
وأما جلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا فإن المروي انه عليه السلام جلده بنسعة لها رأسان فكان الحد ثمانين كاملة : وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ )
.
وأما الجهر بتسمية الرجال في القنوت فقد سبقه ( عليه السلام ) إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وتظاهرت الرواية بأنه ( صلى الله عليه وآله ) كان يقنت في صلاة الصبح ويلعن قوما من أعدائه بأسمائهم فمن عاب ذلك أو طعن به فقد طعن على أصل الإسلام وقدح في الرسول صلى الله عليه وآله .
وأما قبول شهادة الصبيان فالاحتياط للدين يقتضيه ، ولم ينفرد أمير المؤمنين عليه السلام بذلك ، بل قد قال بقوله بعينه أو قريبا منه جماعة من الصحابة والتابعين .
وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في شهادة الصبي يشهد بعد كبره ، والعبد بعد عتقه ، والنصراني بعد إسلامه أنها جائزة .
وهذا قول جماعة من الفقهاء المتأخرين كالثوري وأبي حنيفة وأصحابه .
وروى مالك بن انس عن هشام بن عروة ان عبدالله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح .
وروي عن هشام بن عروة انه قال سمعت ابي يقول يجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض ، يؤخذ بأول قولهم .
وروي عن مالك بن أنس انه قال : المجمع عليه عندنا يعني أهل المدينة أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح ، ولا تجوز على غيرهم إذا كان ذلك قبل ان يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا ، فإن تفرقوا فلا شهادة لهم إلا ان يكونوا قد اشهدوا عدولا على شهادتهم قبل ان يتفرقوا ، ويوشك أن يكون الوجه في الأخذ بأوائل أقوالهم لان من عادة الصبي وسجيته إذا أخبر
بالبديهة ان يذكر الحق الذي عاينه ، ولا يتعمل لتحريفه .
وليس جميع الشهادات تراعى فيها العدالة ،
وجماعة من العلماء قد أجازوا شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد مسلم ، وتأولوا لذلك قول الله عز وجل : ( اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )
(1) وقد أجازوا أيضا شهادة النساء وحدهن فيما لا يجوز انت تنظر إليه الرجال ، وقبلوا شهادة القابلة .
وإنما أردنا بذكر قبول شهادة النساء ، أن قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) مخصوص غير عام في جميع الشهادات .
ألا ترى ان ذلك غير مانع من قبول اليمين مع شهادة الواحد ، وبعد فليس قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) بمقتض غير الأمر بالشهادة على هذا الوجه ، وليس بمانع من قبول شهادة غير العدلين ولا تعلق له بأحكام قبول الشهادات .
فأما أخذ نصف الدية من أولياء المرأة إذ أرادوا قتل الرجل بها فهو الصحيح الواضح الذي لا يجوز خلافه ، لان دية المرأة
(2) عشرة آلاف درهم ودية المرأة نصفها فإذا أراد أولياء المرأة قتل الرجل ، فإنما يقتلون نفسا ديتها الضعف من دية مقتولهم ، فلا بد إذا إختاروا ذلك من رد الفضل بين القيمتين ولهذا لو أراد أخذ الدية لم يأخذوا أكثر من خمسة آلاف درهم .
وهكذا القول في أخذ نصف الدية من المقتص من الأعور ، لان دية عين الأعور عشرة آلاف درهم ودية إحدى عيني الصحيح خمسة آلاف درهم .
فلا بد من الرجوع بالفضل على ما ذكرناه ، وما أدري من أي وجه تطرق العيب في تخليفه عليه السلام من يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم ، وذلك من رأفته ( عليه السلام ) بالضعفاء ورفقه بهم ، وتوصله إلى ان يحظوا بفضل هذه الصلاة من غير تحمل مشقة الخروج إلى المصلى .
---------------------------
(1) المائدة : 106 .
(2) هكذا وردت والاصوب ( الرجل ) .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 217 _
فأما ما حكاه من إحراقه اللوطي ، فالمعروف أنه عليه السلام ألقى على الفاعل والمفعول به لما رآهما الجدار ، ولو صح الإحراق لم ينكران يكون ذلك الشئ عرفه من الرسول صلى الله عليه وآله .
وقد روى فهد بن سليمان عن القاسم بن أميه العدوي عن عمر بن أبي حفص مولى الزبير عن شريك عن إبراهيم بن عبدالاعلى عن سويد بن غفلة ، أن أبا بكر أتى برجل ينكح فأمر به فضربت عنقه ، ثم أمر به فأحرق ولعل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احرقه بالنار بعد القتل بالسيف كما فعل أبو بكر ، وليس ما روي من الإحراق بمانع من ان يكون القتل متقدما له .
وقد روي قتل المتلوطين من طرق مختلفة عن الرسول صلى الله عليه وآله وكذلك روي رجمهما .
روى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اقتلوا الفاعل والمفعول به .
وروي عبد العزيز عن ابن جريح عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مثل ذلك .
وعن عمر بن أبي عمير عن عكرمة عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال فيمن يوجد يعمل بعمل قوم لوط مثل ذلك .
وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال الذي يعمل عمل قوم لوط ارجموا الأعلى والأسفل ارجموهما جميعا .
وسئل ابن عباس ما حد اللوطي ؟ ينظر إلى ارفع بناء في القرية فيرمى به منكسا ، ثم يتبع بالحجارة .
وروي ان عثمان اشرف على الناس يوم الدار ، فقال : ألم تعلموا أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا أربعة : رجل قتل فقتل ، ورجل زنى بعد ان أحصن ، ورجل ارتد بعد إسلام ، ورجل عمل عمل قوم لوط .
فلا شبهة على ما ترى في قتل اللوطي ، ولا ريب في وجوب ذلك عليه ، وكيف يتهم بحيف في حد يقيمه من يتحرى فيما يخصه هذا التحري المشهور ،
فيقول عليه السلام لما ضربه اللعين ابن ملجم احسنوا أسره ، فإن
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 218 _
عشت فأنا ولي دمي ، وان مت فضربة بضربة ،
ولا تمثلوا بالرجل فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن المثلة ولو بالكلب العقور .
فمن ينهى عن التمثيل بقاتله مع الغيظ الذي يجده الإنسان على ظالمه وميله إلى الاستيفاء والانتقام ، كيف يمثل بمن لا ترة بينه وبينه ولا حسيكة له في قلبه ؟ وهذا ما لا يظنه به ( عليه السلام ) إلا مؤف العقل .
فأما حبسه ( عليه السلام ) المال المكتسب من مهور البغايا على غنى وباهلة ، فله ان كان صحيحا وجه واضح ، وهو ان ذلك المال دني الأصل خسيس السبب ، ومثله ما ينزه عنه ذو الأقدار من جلة المؤمنين ووجوه المسلمين ، وإن كان حلالا طلقا فليس كل حلال يتساوى الناس في التصرف فيه ، فإن من المكاسب والمهن والحرف ما يحل ويطيب ويتنزه ذوو المرؤات والأقدار عنها .
وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله نظير ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنه روي عنه انه ( صلى الله عليه وآله ) نهى عن كسب الحجام ، فلما روجع فيه أمر المراجع له ان يطعمه رقيقه ويعلفه ناضحه ، وإنما قصد ( صلى الله عليه وآله ) إلى الوجه الذي ذكرناه من التنزيه ، وان كان ذلك الكسب حلالا طلقا ، وهاتان القبيلتان معروفتان بالدناءة ولؤم الأصل مطعون عليهما في ديانتهما أيضا ، فخصهما بالكسب اللئيم وعوض من له في ذلك المال سهم من الجلة ، والوجوه من غير ذلك المال ، وكل هذا واضح لمن تدبره .
في كذب الخبر بأنه خطب بنت أبي جهل :
( مسألة : ) فإن قيل اليس قد روي ان أمير المؤمنين عليه السلام خطب بنت أبي جهل بن هشام في حياة الرسول صلى الله عليه وآله حتى بلغ ذلك فاطمة عليها السلام وشكته إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقام على المنبر قائلا ان عليا آذاني بخطب بنت أبي جهل بن هشام ليجمع بينها وبين ابنتي فاطمة ، ولن يستقيم الجمع بين بنت ولي الله وبين بنت عدوه . أما
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 219 _
علمتم معشر الناس أن من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ، فما الوجه في ذلك ؟
( الجواب ) : قلنا هذا خبر باطل موضوع غير معروف ولا ثابت عند أهل النقل ، وإنما ذكره الكرابيسي
(1) طاعنا به أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله ، ومعارضا بذكره لبعض ما يذكره شيعته من الأخبار في أعدائه ، وهيهات أن يشبه الحق بالباطل ، ولو لم يكن في ضعفه إلا رواية الكرابيسي له واعتماده عليه ، وهو من العداوة لأهل البيت عليهم السلام والمناصبة لهم والازراء على فضائلهم ومآثرهم على ما هو مشهور ، لكفى على أن هذا الخبر قد تضمن ما يشهد ببطلانه ويقتضى على كذبه من حيث ادعى فيه أن النبي ذم هذا الفعل وخطب بإنكاره على المنابر .
ومعلوم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لو كان فعل ذلك على ما حكى ، لما كان فاعلا لمحظور في الشريعة ، لان نكاح الأربع حلال على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، والمباح لا ينكره الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ويصرح بذمه ، وبأنه متأذبه ، وقد رفعه الله عن هذه المنزلة وأعلاه عن كل منقصة ومذمة .
ولو كان عليه السلام نافرا من الجمع بين بنته وبين غيرها بالطباع التي تنفر من الحسن والقبيح ، لما جاز أن ينكره بلسانه ، ثم ما جاز أن يبالغ في الإنكار ويعلن به على المنابر وفوق رؤوس الأشهاد ، ولو بلغ من إيلامه لقلبه كل مبلغ ، فما هو اختص به ( عليه السلام ) من الحلم والكظم ، ووصفه الله بأنه من جميل الأخلاق وكريم الآداب ينافي ذلك ويحيله ويمنع من اضافته إليه وتصديقه عليه .
وأكثر ما يفعله مثله ( عليه السلام ) في هذا الأمر إذا ثقل على قلبه ان يعاتب عليه سرا ويتكلم في العدول عنه خفيا على وجه جميل وبقول لطيف ، وهذا المأمون الذي لا قياس بينه وبين الرسول ( صلى الله عليه
---------------------------
(1) الكرابيسي : أبو علي ، الحسين بن علي ، محدث ، فقيه ، أصولي ، متكلم ، من أهل بغداد ، صحب الشافعي ، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه ، والجرح والتعديل .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 220 _
وآله ) .
وقد انكح أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام بنته ونقلها معه إلى مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لما ورد كتابها عليه تذكر أنه قد تزوج عليها أو تسرى ، يقول مجيبا لها ومنكرا عليها : إنا ما أنكحناه لنحظر عليه ما أباحه الله له ، والمأمون أولى بالامتعاض من غيرة بنته ، وحاله أجمل للمنع من هذا الباب والإنكار له .
فوالله ان الطعن على النبي صلى الله عليه وآله بما تضمنه هذا الخبر الخبيث ، أعظم من الطعن على أمير المؤمنين عليه السلام .
وما صنع هذا الخبر إلا ملحد قاصد للطعن عليهما ، أو ناصب معاند لا يبالي ان يشفي غيظه بما يرجع على أصوله بالقدح والهدم ، على أنه لا خلاف بين أهل النقل أن الله تعالى هو الذي اختار أمير المؤمنين عليه السلام لنكاح سيدة النساء صلوات الله وسلامه عليها ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) رد عنها جلة أصحابه وقد خطبوها وقال ( صلى الله عليه وآله ) : إني لم أزوج فاطمة عليا ( عليه السلام ) حتى زوجها الله إياه في سمائه ، ونحن نعلم أن الله سبحانه لا يختار لها من بين الخلائق من غيرها ويؤذيها ويغمها ، فإن ذلك من أدل دليل على كذب الراوي لهذا الخبر .
وبعد ، فإن الشئ إنما يحمل على نضائره ويلحق بأمثاله ، وقد علم كل من سمع الأخبار أنه لم يعهد من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خلاف على الرسول ، ولا كان قط بحيث يكره على اختلاف الأحوال وتقلب الأزمان وطول الصحبة ، ولا عاتبه ( عليه السلام ) على شئ من أفعاله ، مع أن أحدا من أصحابه لم يخل من عتاب على هفوة ونكير لأجل زلة ، فكيف خرق بهذا الفعل عادته وفارق سجيته وسنته لولا تخرص الأعداء وتعديهم .
وبعد ، فأين كان أعداؤه ( عليه السلام ) من بني أمية وشيعتهم عن هذه الفرصة المنهزة ؟ وكيف لم يجعلوها عنوانا لما يتخرصونه من العيوب والقروف ؟ وكيف تحملوا الكذب وعدلوا عن الحق وفى علمنا بأن أحدا من الأعداء متقدما لم يذكر ذلك دليل على أنه باطل موضوع ؟ .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 221 _
أبو محمد الحسن بن على (عليهما السلام) :
الوجه في مسالمة الحسن لمعاوية :
( مسألة ) : فإن قال قائل : ما العذر له في خلع نفسه من الإمامة وتسليمها إلى معاوية مع ظهور فجوره وبعده عن أسباب الإمامة وتعريه من صفات مستحقها ، ثم في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بإمامته ، هذا مع وفور أنصاره واجتماع أصحابه ومتابعيه من كان يبذل عنه دمه وماله ، حتى سموه مذل المؤمنين وعاتبوه في وجهه عليه السلام ؟
( الجواب ) : قلنا قد ثبت انه عليه السلام الإمام المعصوم المؤيد الموفق بالحجج الظاهرة والأدلة القاهرة ، فلابد من التسليم لجميع أفعاله وحملها على الصحة ، وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل ، أو كان له ظاهر ربما نفرت النفوس عنه وقد مضى تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من كتابنا هذا .
وبعد ، فإن الذي جرى منه عليه السلام كان السبب فيه ظاهرا والحامل عليه بيا جليا لان المجتمعين له من الأصحاب وان كانوا كثيري العدد وقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية ، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية وامراحه من أحب في الأموال من غير مراقبة ولا مساترة ، فأظهروا له ( عليه السلام ) النصرة وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يورطوه ويسلموه ،
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 222 _
وأحس عليه السلام بهذا منهم قبل التولج والتلبس ، فتخلى من الأمر وتحرز من المكيدة التي كادت تتم عليه في سعة من الوقت وقد صرح ( عليه السلام ) بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة بألفاظ مختلفة ، وقال إنما هادنت حقنا للدماء وصيانتها وإشفاقا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي ، فكيف لا يخاف أصحابه ويتهمهم على نفسه وأهله ، وهو عليه السلام لما كتب إلى معاوية يعلمه أن الناس قد بايعوه بعد أبيه عليه السلام ويدعوه إلى طاعته ، فأجابه معاوية بالجواب المعروف المتضمن للمغالطة فيه والمواربة وقال له فيه : لو كنت أعلم أنك أقوم بالأمر واضبط للناس وأكيد للعدو وأقوى على جميع الأحوال مني لبايعتك ، لأني أراك لكل خير أهلا .
وقال في كتابه ان أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأبيك وأمركم بعد وفاة رسول الله دعاه إلى أن خطب خطبة بأصحابه بالكوفة يحثهم على الجهاد ويعرفهم فضله ، وما في الصبر عليه من الأجر ، وأمرهم أن يخرجوا إلى معسكر فما أجابه أحد ، فقال لهم عدي بن حاتم : سبحان الله ألا تجيبون إمامكم ؟ أين خطباء مصر ؟ فقام قيس بن سعد وفلان وفلان فبذلوا الجهاد وأحسنوا القول . ونحن نعلم ان من ضمن بكلامه أولى بأن يضن بفعاله .
أو ليس أحدهم قد جلس له في مظلم ساباط وطعنه بمغول كان معه أصاب فخذه ، فشقه حتى وصل إلى العظم وانتزع من يده وحمل عليه السلام إلى المداين وعليها سعيد بن مسعود عم المختار ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولاه إياها فأدخل منزله ، فأشار المختار على عمه ان يوثقه ويسير به إلى معاوية على أن يطعمه خراج جوخي سنة ، فأبي عليه وقال للمختار : قبح الله رأيك أنا عامل أبيه وقد أئتمنني وشرفني ، وهبني نسيت بلاء أبيه أأنسى رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أحفظه في ابن بنته وحبيبه ثم أن سعد بن مسعود أتاه عليه السلام بطبيب وقام عليه حتى برئ وحوله إلى بعض المدائن .
فمن ذا الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم عن النصرة والمعونة ؟ وقد أجاب
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 223 _
( عليه السلام ) حجر بن عدي الكندي
(1) لما قال له سودت وجوه المؤمنين ، فقال عليه السلام ما كل أحد يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك ، وإنما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم .
وروى عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن أبي الكنود عبدالرحمن بن عبيدة ، قال لما بايع الحسن عليه السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال ، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له ( عليه السلام ) سليمان بن صرد الخزاعي : ما ينقضي تعجبنا من بيعتك لمعاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة ، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم ، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز ، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد ولا حظا من العطية فلو كنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب ، وكتبت عليه كتابا بأن الأمر لك بعده ، كان الأمر علينا أيسر ، ولكنه أعطاك شيئا بينك وبينه لم يف به ثم لم يلبث ان قال على رؤوس الأشهاد أني كنت شرطت شروطا ووعدت عداة إرادة لإطفاء نار الحرب ومداراة لقطع الفتنة ، فأما إذا جمع الله لنا الكلمة والألفة فإن ذلك تحت قدمي ، والله ما عنى بذلك غيرك ، ولا أراد بذلك إلا ما كان بينه وبينك ، قد نقض .
فإذا شئت فأعدت للحرب عدة ، وأذن لي في تقدمك إلى الكوفة ، فأخرج عنها عاملها وأظهر خلعه نبذه ، على سواء أن الله لا يحب الخائنين .
وتكلم الباقون بمثل كلام سليمان ، فقال الحسن عليه السلام : أنتم شيعتنا وأهل مودتنا ، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أربض وأنصب ، ما كان معاوية بأشد مني بأسا ولا أشد شكيمة ولا أمضى عزيمة ، ولكني أرى غير ما رأيتم وما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء ، فارضوا بقضاء
---------------------------
(1) حجر بن عدي الكندي : من صلحاء الصحابة ، قاتل في فتوح فارس ، كان مع علي في الجمل والنهروان وصفين ، قاوم معاوية ، قبض عليه وأمر معاوية بقتله في مرج عذراء شرقي دمشق .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 224 _
الله وسلموا لأمره وألزموا بيوتكم وامسكوا ، أو قال : كفوا أيديكم حتى يستريح برأ ويستراح من فاجر ، وهذا كلام منه عليه السلام يشفي الصدور ويذهب بكل شبهة .
وقد روي انه عليه السلام لما طالبه معاوية بأن يتكلم على الناس ويعلمهم ما عنده في هذا الباب ، قام ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ان أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، أيها الناس انكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابلس رجلا جده رسول الله صلى الله عليه وآله ما وجدتموه غيري ، وغير أخي الحسين عليه السلام ، وان الله قد هداكم بأولنا محمد صلى الله عليه وآله ، وان معاوية نازعني حقا هو لي فتركته لصلاح الأمة وحقن دمائها ، وقد بايعتموني على ان تسالموا من سالمت وقد رأيت ان أسالمه ورأيت ان ما حقن الدماء خير مما سفكها ، وأردت صلاحكم وان يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الأمر ، وان ادري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين .
وكلامه عليه السلام في هذا الباب الذي يصرح في جميعه بأنه مغلوب مقهور ملجأ إلى التسليم دافع بالمسالمة الضرر العظيم عن الدين والمسلمين أشهر من الشمس وأجلى من الصبح ، فأما قول السائل انه خلع نفسه من الإمامة فمعاذ الله ، لان الإمامة بعد حصولها للإمام لا تخرج عنه بقوله ، وعند أكثر مخالفينا أيضا في الإمامة أن خلع الإمام نفسه لا يؤثر في خروه من الإمامة ، وإنما ينخلع من الإمامة عندهم وهو حي بالأحداث والكبائر ، ولو كان خلعه نفسه مؤثرا لكان انما يؤثر إذا وقع إختيارا .
فأما مع الإلجاء والإكراه ، فلا تأثير له لو كان مؤثرا في موضع من المواضع ، ولم يسلم أيضا الأمر إلى معاوية بل كف عن المحاربة والمغالبة لفقدان الأعوان وإعواز النصار وتلافي الفتنة على ما ذكرناه ، فتغلب عليه معاوية بالقهر والسلطان مع أنه كان متغلبا على أكثره ، ولو أظهر التسليم قولا لما كان فيه شئ إذا كان عن إكراه واضطهاد .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 225 _
وأما البيعة فإن أريد به الصفقة وإظهار الرضا والكف عن المنازعة فقد كان ذلك لكنا قد بينا جهة وقوعه والأسباب المحوجة إليه ، ولا حاجة في ذلك عليه عليه السلام .
كما لم يكن في مثله حجة على أبيه عليه السلام لما بايع المتقدمين عليه ، وكف عن نزاعهم وامسك عن خلافهم ، وإن أريد بالبيعة الرضى وطيب النفس ، فالحال شاهدة بخلاف ذلك ، وكلامه المشهور كله يدل على انه ( عليه السلام ) أحوج وأحرج ، وأن الأمر له وهو أحق الناس به .
وإنما كف عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف على الدين والمسلمين ، وأما أخذ العطاء فقد بينا في هذا الكتاب عند الكلام فيما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك من أخذه من يد الجائر الظالم المتغلب جائز ، وأنه لا لوم فيه على الأخذ ولا حرج .
وأما أخذ الصلات فسايغ بل واجب لان لكل مال في يد الجائر المتغلب على أمر الأمة يجب على الإمام وعلى جميع المسلمين انتزاعه من يده كيف ما أمكن بالطوع أو الإكراه ، ووضعه في مواضعه .
فإذا لم يتمكن من إنتزاع جميع ما في يد معاويه من أموال الله تعالى وأخرج هو شيئا منها إليه على سبيل الصلة ، فواجب عليه أن يتناوله من يده ويأخذ منه حقه ويقسمه على مستحقه لان التصرف في ذلك المال بحق الولاية عليه لم يكن في تلك الحال إلا له ، وليس لأحد أن يقول أن الصلات التي كان يقبلها من معاوية إنما كان ينفقها على نفسه وعياله ، ولا يخرجها إلى غيره وذلك ان هذا مما لا يمكن أحد أن يدعي العلم به والقطع عليه ولا شك أنه عليه السلام كان ينفق منها لان فيها حقه وحق عياله وأهله ، ولا بد من أن يكون قد أخرج منها إلى المستحقين حقوقهم وكيف يظهر ذلك وهو عليه السلام كان قاصدا إلى إخفائه ستره لمكان التقية ، والمحوج إليه إلى قبول تلك الأموال على سبيل الصلة هو المحوج له إلى ستر إخراجها وإخراج بعضها إلى مستحقها من