عز وجل: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) (1) ـ قال : من تحت أقدامكم ـ فلا يبقى من ذلك الجيش أحد غير رجل واحد يقلب الله وجهه من قبل قفاه.
ويبعث الله للمهدي أقواما يجتمعون من أطراف الأرض قزع كقزع الخريف، والله إني لأعرف أسمائهم واسم أميرهم ومناخ ركابهم، فيدخل المهدي الكعبة ويبكي ويتضرع، قال الله عز وجل: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِض)(2)هذا لنا خاصة أهل البيت.
هدف أمير المؤمنين عليه السلام من مراسلاته لمعاوية
أما والله يا معاوية ، لقد كتبت إليك هذا الكتاب وإني لأعلم أنك لا تنتفع به، وأنك ستفرح إذا أخبرتك أنك ستلي الأمر وابنك بعدك، لأن الآخرة ليست من بالك وأنك بالآخرة لمن الكافرين، وستندم كما ندم من أسس هذا الأمر لك وحملك على رقابنا حين لم تنفعه الندامة.
ومما دعاني إلى الكتاب إليك بما كتبت به : إني أمرت كاتبي أن ينسخ ذلك لشيعتي ورؤوس أصحابي لعل الله أن ينفعهم بذلك، أو يقرأه واحد ممن قبلك فيخرجه الله به وبنا من الضلالة إلى الهدى ومن ظلمك وظلم أصحابك وفتنتهم، وأحببت أن أحتج عليك.
أبان عن سليم وعمر بن أبي سلمة ـ حديثهما واحد ، هذا وذلك ـ قالا:
قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين عليه السلام وصالح الحسن عليه السلام، فاستقبله أهل المدينة (1)، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار، فسأل عن ذلك ، فقيل له : (إنهم محتاجون ليست لهم دواب)!
فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار، ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش ؟ فقال قيس ـ وكان سيد الأنصار وابن سيدهم ـ : أقعدنا ـ يا أمير المؤمنين ـ أن لم تكن لنا دواب فقال معاوية : فأين النواضح ؟ فقال قيس : أفنيناها يوم بدر ويوم أحد وما بعدهما في مشاهد رسول الله حين ضربناك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون.
قال معاوية : اللهم غفرا، قال قيس : أما إن رسول الله قال : (إنكم سترون بعدي إثرة)، فقال معاوية : فما أمركم ؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى نلقاه ، فقال: فاصبروا حتى تلقوه !
---------------------------
(1) في المثالب لابن شهر آشوب : فتلقته قريش بوادي القرى والأنصار بأبواء المدينة.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 312 _
ثم قال قيس : يا معاوية ، تعيرنا بنواضحنا ؟ والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا، ثم دخلت أنت وأبوك كرها في الإسلام الذي ضربناكم عليه.
فقال له معاوية : كأنك تمن علينا بنصرتك إيانا، والله لقريش بذلك المن والطول.
ألستم تمنون علينا ـ يا معشر الأنصار ـ بنصرتكم رسول الله وهو من قريش وهو ابن عمنا ومنا ؟ فلنا المن والطول إذ جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.
فقال قيس : إن الله عز وجل بعث محمدا رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة ، إلى الجن والأنس والأحمر والأسود والأبيض ، واختاره لنبوته واختصه برسالته ، فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب وكان أبو طالب عمه يذب عنه ويمنع منه ويحول بين كفار قريش وبينه أن يروعوه أو يؤذوه ويأمره بتبليغ رسالات ربه.
فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه عليا بموازرته ونصرته فوازره علي ونصره وجعل نفسه دونه في كل شديدة وكل ضيق وكل خوف ، واختص الله بذلك عليا من بين قريش وأكرمه من بين جميع العرب والعجم.
فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله جميع بني عبد المطلب فيهم أبو طالب وأبو لهب ، وهم يومئذ أربعون رجلا فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وخادمه يومئذ علي عليه السلام، ورسول الله يومئذ في حجر عمه أبي طالب ، فقال : (أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي )؟
فسكت القوم حتى أعادها رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات ، فقال علي عليه السلام : (أنا يا رسول الله، صلى الله عليك) ، فوضع رسول الله رأس علي في حجره وتفل في فيه
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 313 _
وقال: (اللهم املأ جوفه علما وفهما وحكما)، ثم قال لأبي طالب : (يا أبا طالب، اسمع الآن لابنك علي وأطع، فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من موسى)، وآخى بين الناس وآخى بين علي وبين نفسه.
فلم يدع قيس بن سعد شيئا من مناقبه إلا ذكرها واحتج بها وقال: منهم أهل البيت جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين ، اختصه الله بذلك من بين الناس، ومنهم حمزة سيد الشهداء، ومنهم فاطمة سيدة نساء العالمين، فإذا وضعت من قريش رسول الله وأهل بيته وعترته الطيبين، فنحن والله خير منكم ـ يا معشر قريش ـ وأحب إلى الله ورسوله وإلى أهل بيته منكم.
لقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله فاجتمعت الأنصار إلى والدي سعد ثم قالوا : (لا نبايع غير سعد)، فجاءت قريش بحجة علي وأهل بيته وخاصمونا بحقه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فما يعدو قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار أو ظلموا آل محمد عليهم السلام.
ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق ولا نصيب مع علي بن أبي طالب وولده من بعده.
فغضب معاوية وقال : يا بن سعد ، عمن أخذت هذا وعمن رويته وعمن سمعته ؟
أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته ؟ فقال قيس : سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي وأعظم علي حقا من أبي، قال : ومن هو ؟ قال : ذاك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، عالم هذه الأمة وديانها وصديقها وفاروقها الذي أنزل الله فيه ما أنزل وهو قوله عز وجل: (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (1) فلم يدع قيس آية نزلت في علي عليه السلام إلا ذكرها.
---------------------------
(1) سورة الرعد: الآية 43.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 314 _
فقال معاوية : فإن صديقها أبو بكر وفاروقها عمر، والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام!
قال قيس : أحق بهذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ)(1)، والذي أنزل الله جل اسمه فيه: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (2)، والله لقد نزلت : (وعلي لكل قوم هاد)، فأسقطتم ذلك ، والذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم فقال : (من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه)، وقال له رسول الله في غزوة تبوك : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
وكان معاوية يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة إلى جميع البلدان إلى عماله: (ألا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته وقد أحل بنفسه العقوبة).
وقامت الخطباء في كل كورة ومكان وعلى كل المنابر بلعن علي بن أبي طالب عليه السلام والبراءة منه والوقيعة فيه وفي أهل بيته عليهم السلام بما ليس فيهم، واللعنة لهم.
---------------------------
(1) سورة هود: الآية 17.
(2) سورة الرعد: الآية 7.
ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس، فقال له : يا بن عباس ، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا موجدة في نفسك علي بقتالي إياكم يوم صفين ، يا بن عباس، إن ابن عمي أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما.
قال له ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما، أفسلمتم الأمر إلى ولده، وهذا ابنه ؟ قال : إن عمر قتله مشرك. قال ابن عباس: فمن قتل عثمان ؟ قال : قتله المسلمون قال : فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلا بحق.
قال معاوية : فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك ـ يا بن عباس ـ وأربع على نفسك.
فقال له ابن عباس: أفتنهانا عن قراءة القرآن ؟ قال : لا.
قال : أفتنهانا عن تأويله ؟ قال : نعم.
قال : فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به ؟ قال : نعم.
قال : فأيما أوجب علينا، قرائته أو العمل به ؟ قال معاوية : العمل به.
قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
قال : إنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان أو أسأل عنه آل أبي معيط أو اليهود والنصارى والمجوس ؟ قال له معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيرتنا منهم.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 316 _
قال له ابن عباس : لعمري ما أعدلك بهم ، غير أنك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.
قال معاوية : فاقرؤا القرآن وتأولوه ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم من تفسيره وما قاله رسول الله فيكم ، وارووا ما سوى ذلك.
قال ابن عباس : قال الله في القرآن: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).(1)
قال معاوية : يا بن عباس، اكفني نفسك وكف عني لسانك ، وإن كنت لا بد فاعلا فليكن ذلك سرا ولا يسمعه أحد منك علانية.
ثم رجع إلى منزله ، فبعث إليه بخمسين ألف درهم.
ثم اشتد البلاء بالأمصار كلها على شيعة علي وأهل بيته عليهم السلام، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، واستعمل عليهم زيادا أخاه وضم إليه البصرة والكوفة وجميع العراقين، وكان يتتبع الشيعة وهو بهم عالم لأنه كان منهم فقد عرفهم وسمع كلامهم أول شئ.
---------------------------
(1) سورة التوبة: الآية 32.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 317 _
فقتلهم تحت كل كوكب وحجر ومدر ، وأجلاهم وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل منهم وصلبهم على جذوع النخل وسمل أعينهم وطردهم وشردهم حتى انتزعوا عن العراق، فلم يبق بالعراقين أحد مشهور إلا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.
وكتب معاوية إلى قضاته وولاته في جميع الأرضين والأمصار : (أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي بن أبي طالب ولا من أهل بيته ولا من أهل ولايته الذين يرون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة).
وكتب إلى عماله: (انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته وأهل ولايته والذين يرون فضله ويتحدثون بمناقبه ، فأدنوا مجالسهم وأكرموهم وقربوهم وشرفوهم، واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم فيه واسم الرجل واسم أبيه وممن هو).
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في عثمان الحديث وبعث إليهم بالصلات والكسي وأكثر لهم القطائع من العرب والموالي ، فكثروا في كل مصر وتنافسوا في المنازل والضياع واتسعت عليهم الدنيا، فلم يكن أحد يأتي عامل مصر من الأمصار ولا قرية فيروي في عثمان منقبة أو يذكر له فضيلة إلا كتب اسمه وقرب وشفع ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثم كتب بعد ذلك إلى عماله : (أن الحديث قد كثر في عثمان وفشا في كل قرية ومصر ومن كل ناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فإن فضلهما وسوابقهما أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أهل هذا البيت وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضائله).
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 318 _
فقرأ كل قاض وأمير من ولاته كتابه على الناس، وأخذ الناس في الروايات في أبي بكر وعمر وفي مناقبهم.
ثم كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب والفضائل ، وأنفذها إلى عماله وأمرهم بقرائتها على المنابر وفي كل كورة وفي كل مسجد ، وأمرهم أن ينفذوا إلى معلمي الكتاتيب أن يعلموها صبيانهم حتى يرووها ويتعلموها كما يتعلمون القرآن (1) وحتى علموها بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله. (2)
ثم كتب معاوية إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ولا تجيزوا له شهادة).
ثم كتب كتابا آخر : (من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة أنه منهم فاقتلوه).
فقتلوهم على التهم والظن والشبه تحت كل كوكب ، حتى لقد كان الرجل يغلط بكلمة فيضرب عنقه ، ولم يكن ذلك البلاء في بلد أكبر ولا أشد منه بالعراق ولا سيما بالكوفة ، حتى أنه كان الرجل من شيعة علي عليه السلام ـ وممن بقي من أصحابه بالمدينة وغيرها ـ ليأتيه من يثق به فيدخل بيته، ثم يلقي إليه سره فيخاف من خادمه ومملوكه ، فلا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان المغلظة ليكتمه عليه.
---------------------------
(1) راجع عن المناقب المفتعلة بشأن أبي بكر وعمر وعثمان: الحديث 10 من هذا الكتاب.
(2) زاد هنا في الإحتجاج : وكتب زياد بن أبيه إليه في حق الحضرميين: (أنهم على دين علي وعلى رأيه)، فكتب إليه معاوية : (اقتل كل من كان على دين علي ورأيه)، فقتلهم ومثل بهم ، روي في البحار : ج 44 ص 212 من جملة ما كتبه الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية جوابا لرسالته :
( ... أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم كانوا على دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه أن اقتل كل من كان على دين علي ، فقتلهم ومثل بهم بأمرك ).
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 319 _
وجعل الأمر لا يزداد إلا شدة وكثر عندهم عدوهم وأظهروا أحاديثهم الكاذبة في أصحابهم من الزور والبهتان ، فنشأ الناس على ذلك ولم يتعلموا إلا منهم ومضى على ذلك قضاتهم وولاتهم وفقهائهم.
وكان أعظم الناس في ذلك بلاء وفتنه القراء المراءون المتصنعون، الذين يظهرون لهم الحزن والخشوع والنسك ، ويكذبون ويفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويدنوا بذلك مجالسهم ويصيبوا بذلك الأموال والقطائع والمنازل، حتى صارت أحاديثهم تلك ورواياتهم في أيدي من يحسب أنها حق وأنها صدق ، فرووها وقبلوها وتعلموها وعلموها وأحبوا عليها وأبغضوا، حتى جمعت على ذلك مجالسهم وصارت في أيدي الناس المتدينين الذين لا يستحلون الكذب ويبغضون عليه أهله.
فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا أنها باطل لم يرووها ولم يتدينوا بها ولا تنقصوا من خالفهم. فصار الحق في ذلك الزمان باطلا والباطل حقا والصدق كذبا والكذب صدقا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لتشملنكم فتنة يربو فيها الوليد وينشأ فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة. فإذا غير منها شئ قالوا : أتى الناس منكرا، غيرت السنة)!
فلما مات الحسن بن علي عليه السلام لم يزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ، فلم يبق ولي لله إلا خائفا على دمه أو مقتولا أو طريدا أو شريدا، ولم يبق عدو لله إلا مظهرا حجته غير مستتر ببدعته وضلالته.
فلما كان قبل موت معاوية بسنة حج الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر معه ، فجمع الحسين عليه السلام بني هاشم ، رجالهم ونسائهم ومواليهم وشيعتهم من حج منهم ، ومن الأنصار ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته.
ثم أرسل رسلا : (لا تدعوا أحدا ممن حج العام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعروفين بالصلاح والنسك إلا أجمعوهم لي).
فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل (1) وهم في سرادقه ، عامتهم من التابعين ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وغيرهم.
فقام فيهم الحسين عليه السلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وإني أريد أن أسألكم عن شئ، فإن صدقت فصدقوني وإن كذبت فكذبوني ، أسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله وحق قرابتي من نبيكم ، لما سيرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ودعوتم أجمعين في أنصاركم من قبائلكم من آمنتم من الناس ووثقتم به ، فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا ، فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويغلب ، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
---------------------------
(1) في الإحتجاج: ألف رجل.
وما ترك شيئا مما أنزل الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره ، ولا شيئا مما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: (اللهم نعم ، قد سمعنا وشهدنا)، ويقول التابعي: (اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة)، فقال : أنشدكم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه.
قال سليم : فكان فيما ناشدهم الحسين عليه السلام وذكرهم أن قال : أنشدكم الله أتعلمون أن علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله حين آخى بين أصحابه، فآخى بينه وبين نفسه وقال: (أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة )؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثم ابتنى فيه عشرة منازل، تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي.
ثم سد كل باب شارع إلى المسجد غير بابه، فتكلم في ذلك من تكلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ، ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه)، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله، فولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وله فيه أولاد ؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أفتعلمون أن عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها من منزله إلى المسجد، فأبى عليه، ثم خطب صلى الله عليه وآله فقال : إن الله أمر موسى أن يبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيره وغير هارون وابنيه وإن الله أمرني أن أبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وغير أخي وابنيه؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله نصبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال: (ليبلغ الشاهد الغائب ؟ قالوا : اللهم نعم.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 322 _
قال : أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له في غزوة تبوك : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى وأنت ولي كل مؤمن بعدي )؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه ؟ قالوا: اللهم نعم.
قال : أنشدكم الله، أتعلمون أنه دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال : (لأدفعه إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار يفتحها الله على يديه) ؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعثه ببراءة وقال: (لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني )؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم تنزل به شدة قط إلا قدمه لها ثقة به ، وأنه لم يدعه باسمه قط إلا أن يقول: (يا أخي) و (ادعوا لي أخي )؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى بينه وبين جعفر وزيد (1)، فقال له : (يا علي، أنت مني وأنا منك ، وأنت ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي )؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أنه كانت له من رسول الله صلى الله عليه وآله كل يوم خلوة وكل ليلة دخلة ، إذا سأله أعطاه وإذا سكت أبداه ؟ قالوا : اللهم نعم .
---------------------------
(1) راجع الحديث 11 من هذا الكتاب.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 323 _
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله فضله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة عليها السلام: (زوجتك خير أهل بيتي، أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما) ؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (أنا سيد ولد آدم وأخي علي سيد العرب، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وابناي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة )؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بغسله وأخبره أن جبرئيل يعينه عليه ؟ قالوا :
اللهم نعم.
قال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في آخر خطبة خطبها : (أيها الناس، إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسكوا بهما لن تضلوا) ؟ قالوا : اللهم نعم.
فلم يدع شيئا أنزله الله في علي بن أبي طالب عليه السلام خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيه صلى الله عليه وآله إلا ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة: (اللهم نعم ، قد سمعنا)، ويقول التابعي: (اللهم قد حدثنيه من أثق به ، فلان وفلان).
ثم ناشدهم أنهم قد سمعوه صلى الله عليه وآله يقول : (من زعم أنه يحبني ويبغض عليا فقد كذب ، ليس يحبني وهو يبغض عليا) فقال له قائل : يا رسول الله، وكيف ذلك ؟ قال : لأنه مني وأنا منه ، من أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله )؟
فقالوا : (اللهم نعم ، قد سمعنا)، وتفرقوا على ذلك.
أبان بن أبي عياش عن سليم ، قال : إني كنت عند عبد الله بن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة، قال : فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وموته، فبكى ابن عباس، وقال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الاثنين ـ وهو اليوم الذي قبض فيه ـ وحوله أهل بيته وثلاثون رجلا من أصحابه : ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتابا لن تضلوا بعدي ولن تختلفوا بعدي.
فمنعهم فرعون هذه الأمة فقال : (إن رسول الله يهجر) فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: (إني أراكم تخالفوني وأنا حي ، فكيف بعد موتي) ؟ فترك الكتف.
قال سليم : ثم أقبل علي ابن عباس فقال : يا سليم ، لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتابا لا يضل أحد ولا يختلف.
فقال رجل من القوم: ومن ذلك الرجل ؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل.
فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم، فقال : هو عمر، فقلت : صدقت، قد سمعت عليا عليه السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : (إنه عمر)، فقال : يا سليم ، اكتم إلا ممن تثق بهم من إخوانك، فإن قلوب هذه الأمة أشربت حب هذين الرجلين كما أشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل والسامري.
قال أبان: سمعت سليم بن قيس يقول : شهدت يوم الجمل عليا عليه السلام، وكنا اثني عشر ألفا وكان أصحاب الجمل زيادة على عشرين ومائة ألف.
وكان مع علي عليه السلام من المهاجرين والأنصار نحو من أربعة آلاف ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا والحديبية ومشاهده ، وسائر الناس من أهل الكوفة إلا من تبعه (1) من أهل البصرة والحجاز ليست له هجرة ممن أسلم بعد الفتح، وجل الأربعة آلاف من الأنصار.
ولم يكره أحدا من الناس على البيعة ولا على القتال، إنما ندبهم فانتدب من أهل بدر سبعون ومائة رجل ، وجلهم من الأنصار ممن شاهد أحدا والحديبية، ولم يتخلف عنه أحد.
وليس أحد من المهاجرين والأنصار إلا وهواه معه ، يتولونه ويدعون له بالظفر والنصر ويحبون ظهوره على من ناواه ، ولم يحرجهم ولم يضيق عليهم وقد بايعوه ، وليس كل الناس يقاتل في سبيل الله. (2)
---------------------------
(1) أي مضافا إلى من تبعه من أهل البصرة ومن غير المهاجرين من أهل الحجاز الذين أسلموا بعد فتح مكة.
(2) أي عدم إكراهه عليه السلام لهم لا ينافي عدم خلوص نياتهم في الحرب.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 326 _
والطاعن عليه والمتبرء منه قليل مستتر عنه، مظهر له الطاعة غير ثلاثة رهط، بايعوه ثم شكوا في القتال معه وقعدوا في بيوتهم : محمد بن مسلمة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر.
وأسامة بن زيد سلم بعد ذلك ورضي، ودعا لعلي عليه السلام واستغفر له وبرئ من عدوه وشهد أنه على الحق، ومن خالفه ملعون حلال الدم.
قال أبان : قال سليم : لما التقى أمير المؤمنين عليه السلام، وأهل البصرة يوم الجمل نادى علي عليه السلام الزبير : يا أبا عبد الله، اخرج إلي.
فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، تخرج إلى الزبير الناكث بيعته وهو على فرس شاك في السلاح وأنت على بغلة بلا سلاح ؟ فقال علي عليه السلام: إن علي من الله جنة واقية.
لن يستطيع أحد فرارا من أجله، وإني لا أموت ولا أقتل إلا على يدي أشقاها كما عقر ناقة الله أشقى ثمود.
فخرج إليه الزبير، فقال : أين طلحة ؟ ليخرج، فخرج طلحة.
فقال عليه السلام: نشدتكما بالله، أتعلمان وأولوا العلم من آل محمد وعائشة بنت أبي بكر (أن أصحاب الجمل وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم) وقد خاب من افترى ؟
فقال الزبير: كيف نكون ملعونين ونحن من أهل الجنة ؟ فقال علي عليه السلام: لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم.
فقال الزبير: أما سمعت رسول الله يقول يوم أحد: (أوجب طلحة الجنة، ومن أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض حيا فلينظر إلى طلحة) ؟ أوما سمعت رسول الله
فقال علي عليه السلام: فسمهم ، قال : فلان وفلان وفلان، حتى عد تسعة، فيهم أبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
فقال علي عليه السلام: عددت تسعة ، فمن العاشر ؟ قال الزبير: أنت فقال علي عليه السلام : أما أنت فقد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فإني به لمن الجاحدين، والله إن بعض من سميت لفي تابوت في جب في أسفل درك من جهنم ، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة فأسعرت جهنم ، سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فأظفرك الله بي وسفك دمي بيدك ، وإلا فأظفرني الله بك وبأصحابك!
فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي.
ثم أقبل على طلحة فقال : يا طلحة، معكما نساؤكما ؟ قال : لا ، قال : عمدتما إلى امرأة موضعها في كتاب الله القعود في بيتها فأبرزتماها وصنتما حلائلكما في الخيام والحجال ؟ ما أنصفتما رسول الله صلى الله عليه وآله من أنفسكم حيث أجلستما نسائكما في البيوت وأخرجتما زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أمر الله أن لا يكلمن إلا من وراء حجاب.
أخبرني عن صلاة عبد الله بن الزبير بكما ، أما يرضى أحدكما بصاحبه ؟ أخبرني عن دعائكما الأعراب إلى قتالي ، ما يحملكما على ذلك ؟
---------------------------
(1) في الإحتجاج : أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (عشرة من قريش في الجنة ) ؟ قال علي عليه السلام : سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته ، فقال له علي عليه السلام: لست أخبرك بشئ حتى تسميهم .
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 329 _
فقال طلحة : يا هذا ، كنا في الشورى ستة مات منا واحد وقتل آخر، فنحن اليوم أربعة كلنا لك كاره.
فقال له علي عليه السلام: ليس ذلك علي، قد كنا في الشورى والأمر في يد غيرنا وهو اليوم في يدي ، أرأيت لو أردت ـ بعد ما بايعت عثمان ـ أن أرد هذا الأمر شورى ، أكان ذلك لي ؟ قال : لا، قال : ولم ؟ قال : لأنك بايعت طائعا.
فقال علي عليه السلام: وكيف ذلك ، والأنصار معهم السيوف مخترطة يقولون : (لئن فرغتم وبايعتم واحدا منكم ، وإلا ضربنا أعناقكم أجمعين) فهل قال لك ولأصحابك أحد شيئا من هذا حيث بايعتماني ؟ وحجتي في الاستكراه في البيعة أوضح من حجتك وقد بايعتني أنت وصاحبك طائعين غير مكرهين ، وكنتما أول من فعل ذلك ، ولم يقل أحد:
لتبايعان أو لنقتلنكما!
فانصرف طلحة ونشب القتال، فقتل طلحة وانهزم الزبير.
قال أبان: قال سليم : سمعت ابن عباس يقول : سمعت من علي عليه السلام حديثا لم أدر ما وجهه ولم أنكره، سمعته يقول : (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسر إلي في مرضه ، فعلمني مفتاح ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب).
وإني لجالس بذي قار في فسطاط علي عليه السلام وقد بعث الحسن عليه السلام وعمارا إلى أهل الكوفة يستنفران الناس، إذ أقبل علي علي عليه السلام فقال : يا بن عباس، يقدم عليك الحسن ومعه أحد عشر ألف رجل غير رجل أو رجلين، (1) فقلت في نفسي : إن كان كما قال فهو من تلك الألف باب.
فلما أظلنا الحسن عليه السلام بذلك الجند استقبلتهم، فقلت لكاتب الجيش الذي معه أسمائهم : كم رجل معكم ؟ فقال: أحد عشر ألف رجل غير رجل أو رجلين.
---------------------------
(1) الترديد من الراوي، ورواه في البحار: ج 41 ص 300 بتفصيل أكثر هكذا : قال أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا، يبايعوني على الموت، قال ابن عباس : فجزعت لذلك وخفت أن ينقص القوم من العدد أو يزيدوا عليه فيفسدوا الأمر علينا، وإني أحصي القوم فاستوفيت عددهم تسعمائة ر جل وتسعة وتسعين رجلا، ثم انقطع مجئ القوم، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون، ما ذا حمله على ما قال؟ فبينما أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصا قد أقبل حتى دنا ، وهو رجل عليه قباء صوف ومعه سيف وترس وإداوة، فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال : امدد يديك لأبايعك ، قال علي عليه السلام: وعلى ما تبايعني ؟ قال : على السمع والطاعة والقتال بين يديك أو يفتح الله عليك، فقال : ما اسمك ؟ قال : أويس القرني، قال : نعم ، الله أكبر فإنه أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله أني أدرك رجلا من أمته يقال له (أويس القرني) ، يكون من حزب الله، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر، قال ابن عباس : فسري عنا.
قال أبان عن سليم ، قال : جلست إلى علي عليه السلام بالكوفة في المسجد والناس حوله.
فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله، فوالله ما نزلت آية من كتاب الله إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمني تأويلها.
فقال ابن الكواء: فما كان ينزل عليه وأنت غائب ؟
فقال عليه السلام : بلى ، يحفظ علي ما غبت عنه ، فإذا قدمت عليه قال لي: (يا علي ، أنزل الله بعدك كذا وكذا) فيقرأنيه ، (وتأويله كذا وكذا) فيعلمنيه.
قال أبان: قال سليم : سمعت عليا عليه السلام وهو يقول لرأس اليهود: كم افترقتم ؟ فقال :
على كذا وكذا فرقة ، فقال علي عليه السلام: كذبت!
ثم أقبل على الناس فقال : والله لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل القرآن بقرآنهم.
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت شمعون وصي عيسى عليه السلام، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ وضرب بيده على صدره ـ.
ثم قال : ثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين كلها تنتحل مودتي وحبي، واحدة منها في الجنة واثنتا عشرة منها في النار.
قال أبان: قال سليم: قلت لابن عباس: أخبرني بأعظم ما سمعتم من علي بن أبي طالب عليه السلام، ما هو ؟
قال سليم : فأتاني بشئ قد كنت سمعته أنا من علي عليه السلام.
قال عليه السلام : دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وفي يده كتاب، فقال : يا علي، دونك هذا الكتاب.
فقلت : يا نبي الله، وما هذا الكتاب ؟ قال : كتاب كتبه الله، فيه تسمية أهل السعادة وأهل الشقاوة من أمتي إلى يوم القيامة، أمرني ربي أن أدفعه إليك. (1)
---------------------------
(1) يناسب هنا أن أورد ما رواه في البحار: ج 17 ص 146 ح 40 بأسناده عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السلام قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وفي يده اليمنى كتاب وفي يده اليسرى كتاب ، فنشر الكتاب الذي في يده اليمنى فقرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب لأهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم، لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد)، قال : ثم نشر الذي بيده اليسرى فقرأ : (كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد)،
وروي في البحار أيضا عن أبي جعفر عليه السلام قال : انتهى النبي صلى الله عليه وآله إلى السماء السابعة وانتهى إلى سدرة المنتهى ، قال : فقالت السدرة : ما جازني مخلوق قبلك ، ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى ،
قال : فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين وكتاب أصحاب الشمال ، فأخذ كتاب أصحاب اليمين بيمينه وفتحه ونظر فيه ، فإذا فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، قال : وفتح كتاب أصحاب الشمال ونظر فيه فإذا فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم نزل ومعه الصحيفتان فدفعهما إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال أبان: سمعت سليم بن قيس يقول ـ وسألته (1): هل شهدت صفين ؟ فقال : نعم.
قلت : هل شهدت يوم الهرير ؟ قال : نعم ، قلت : كم كان أتى عليك من السن ؟ قال :
أربعون سنة ، (2) قلت : فحدثني رحمك الله.
قال : مهما نسيت من شئ من الأشياء فلا أنسى هذا الحديث ، ثم بكى وقال:
صفوا وصففنا ، فخرج مالك الأشتر على فرس له أدهم مجنب (3) وسلاحه معلق على فرسه وبيده الرمح وهو يقرع به رؤوسنا ويقول : (أقيموا صفوفكم).
فلما كتب الكتائب (4) وأقام الصفوف أقبل على فرسه حتى قام بين الصفين فولى أهل الشام ظهره وأقبل علينا بوجهه ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال:
(أما بعد ، فإنه كان من قضاء الله وقدره اجتماعنا في هذه البقعة من الأرض لآجال قد اقتربت وأمور تصرمت ، يسوسنا فيها سيد المسلمين وأمير المؤمنين
---------------------------
(1) أي وقد سألت سليما ، وسيأتي في موارد من هذا الحديث قوله : (قال سليم)، ويؤيد ذلك أن سليم كان حاضرا بصفين إلى آخرها كما هو صريح عدة أحاديث في هذا الكتاب.
(2) يستفاد من هذه العبارة أن سليما ولد بسنتين أو أربع سنين قبل الهجرة، وذلك أن وقعة صفين بدئت في سنة 36 وانتهت في سنة 38، فإذا كان عمر سليم آنذاك أربعون سنة يكون ميلاده إما بسنتين قبل الهجرة أو أربع سنوات.
(3) أي كان يقوده إلى جنبه ولم يركبه.
(4) كتب الكتائب أي هيأهم وجعلهم في فئات منظمة.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 335 _
وخير الوصيين وابن عم نبينا وأخوه ووارثه ، وسيوفنا سيوف الله، ورئيسهم ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب يسوقهم إلى الشقاء والنار، ونحن نرجو بقتالهم من الله الثواب، وهم ينتظرون العقاب، فإذا حمى الوطيس وثار القتال (1) وجالت الخيل بقتلانا وقتلاهم رجونا بقتالهم النصر من الله، فلا أسمعن إلا غمغمة (2) أو همهمة.
أيها الناس، غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ من الأضراس فإنها أشد لضرب الرأس، واستقبلوا القوم بوجوهكم وخذوا قوائم سيوفكم بأيمانكم، فاضربوا الهام وأطعنوا بالرماح مما يلي الشرسوف (3) (موتورين بآبائهم وبدماء إخوانهم حنقين على عدوهم، قد وطنوا أنفسهم على الموت، لكيلا تذلوا ولا يلزمكم في الدنيا عار).
ثم التقى القوم فكان بينهم أمر عظيم، فتفرقوا عن سبعين ألف قتيل من جحاجحة العرب (4)، وكانت الوقعة يوم الخميس من حيث استقلت الشمس حتى ذهب ثلث الليل الأول، ما سجد لله في ذينك العسكرين سجدة حتى مرت مواقيت الصلوات الأربع:
الظهر والعصر والمغرب والعشاء. (5)
قال سليم : ثم إن عليا عليه السلام قام خطيبا فقال : (يا أيها الناس، إنه قد بلغ بكم ما قد رأيتم وبعدوكم كمثل فلم يبق إلا آخر نفس ، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها ،
---------------------------
(1) حمى الوطيس أي اشتد الحرب.
(2) الغمغمة: الكلام الذي لا يبين.
(3) الشرسوف: طرف الضلع المشرف على البطن.
(4) أي ساداتهم.
(5) قوله : (ما سجد لله ...) أي كانوا يصلون صلاة الخوف حالة القيام، كما ورد ذلك عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : ( ... وما كانت صلاة القوم يومئذ إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة)، راجع أمالي الصدوق:
ص 332 والبحار : ج 32 ص 615 ح 482.