فقام المقداد فقال : يا علي، بما تأمرني ؟ والله إن أمرتني لأضربن بسيفي وإن أمرتني كففت ، فقال علي عليه السلام : كف يا مقداد ، واذكر عهد رسول الله وما أوصاك به.
فقمت (2) وقلت: والذي نفسي بيده ، لو أني أعلم أني أدفع ضيما وأعز لله دينا لوضعت سيفي على عنقي ثم ضربت به قدما قدما ، أتثبون على أخي رسول الله ووصيه وخليفته في أمته وأبي ولده ؟ فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء.
وقام أبو ذر فقال : أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها المخذولة بعصيانها ، إن الله يقول : (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)(3)، وآل محمد الأخلاف من نوح وآل إبراهيم من إبراهيم والصفوة والسلالة من إسماعيل وعترة النبي محمد ، أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة والكعبة المستورة والعين الصافية والنجوم الهادية والشجرة المباركة، أضاء نورها وبورك زيتها، محمد خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، وعلي وصي الأوصياء وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وهو الصديق الأكبر والفاروق الأعظم ووصي محمد ووارث علمه وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
---------------------------
(1) سورة النساء: الآية 54.
(2) القائل هو سلمان.
(3) سورة آل عمران: الآيتان 33 و 34.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 157 _
في كتاب الله)(1)، فقدموا من قدم الله وأخروا من أخر الله واجعلوا الولاية والوراثة لمن جعل الله.
فقام عمر فقال لأبي بكر ـ وهو جالس فوق المنبر ـ : ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك ؟ أو تأمر به فنضرب عنقه ـ والحسن والحسين قائمان ـ فلما سمعا مقالة عمر بكيا ، فضمهما عليه السلام إلى صدره فقال : لا تبكيا ، فوالله ما يقدران على قتل أبيكما.
وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت : (يا أبا بكر ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم) فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد وقال: ما لنا وللنساء.
وقام بريدة الأسلمي وقال : أتثب ـ يا عمر ـ على أخي رسول الله وأبي ولده وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك ؟ ألستما قال لكما رسول الله صلى الله عليه وآله : (انطلقا إلى علي وسلما عليه بإمرة المؤمنين) ؟ فقلتما : أعن أمر الله وأمر رسوله ؟ قال : نعم.
فقال أبو بكر : قد كان ذلك ولكن رسول الله قال بعد ذلك : (لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة)، فقال: والله ما قال هذا رسول الله، والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير.
فأمر به عمر فضرب وطرد!
ثم قال : قم يا بن أبي طالب فبايع ، فقال : فإن لم أفعل ؟ قال : إذا والله نضرب عنقك
---------------------------
(1) سورة الأحزاب: الآية 6.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 158 _
فاحتج عليهم ثلاث مرات ، ثم مد يده من غير أن يفتح كفه، فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك منه.
فنادى علي عليه السلام قبل أن يبايع ـ والحبل في عنقه ـ : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي). (1)
وقيل للزبير: بايع ، فأبى ، فوثب إليه عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة في أناس معهم ، فانتزعوا سيفه من يده فضربوا به الأرض حتى كسروه ثم لببوه ، فقال الزبير ـ وعمر على صدره ـ : يا بن صهاك ، أما والله لو أن سيفي في يدي لحدت عني).
ثم بايع.
قال سلمان : ثم أخذوني فوجئوا عنقي حتى تركوها كالسلعة ، ثم أخذوا يدي وفتلوها فبايعت مكرها.
ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين، وما بايع أحد من الأمة مكرها غير علي عليه السلام وأربعتنا ، ولم يكن منا أحد أشد قولا من الزبير، فإنه لما بايع قال : يا بن صهاك ، أما والله لولا هؤلاء الطغاة الذين أعانوك لما كنت تقدم علي ومعي سيفي لما أعرف من جبنك ولؤمك، ولكن وجدت طغاة تقوي بهم وتصول.
فغضب عمر وقال : أتذكر صهاك ؟ فقال : ومن صهاك وما يمنعني من ذكرها ؟
وقد كانت صهاك زانية، أو تنكر ذلك ؟ أوليس كانت أمة حبشية لجدي عبد المطلب، فزنى بها جدك نفيل ، فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب لجدك ـ بعد ما زنى بها ـ فولدته ، وإنه لعبد لجدي ولد زنا ؟ (2)
---------------------------
(1) سورة الأعراف: الآية 150.
(2) روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 295: إن صهاك كانت أمة حبشية لعبد المطلب وكانت ترعى له الإبل فوقع عليها نفيل فجاءت بالخطاب ، ثم إن الخطاب لما بلغ الحلم رغب في صهاك فوقع عليها فجاءت بابنة ، فلفقها في خرقة من صوف ورمتها خوفا من مولاها في الطريق، فرآها هاشم بن المغيرة مرمية فأخذها ورباها وسماها حنتمة ، فلما بلغت رآها خطاب يوما فرغب فيها وخطبها من هاشم فأنكحها إياه فجاءت بعمر بن الخطاب، فكان الخطاب أبا وجدا وخالا لعمر ، وكانت حنتمة أما وأختا وعمة له.
قال سليم بن قيس : فقلت لسلمان : أفبايعت أبا بكر ـ يا سلمان ـ ولم تقل شيئا ؟
قال : قد قلت ـ بعد ما بايعت ـ : تبا لكم سائر الدهر أو تدرون ما صنعتم بأنفسكم ؟
أصبتم وأخطأتم أصبتم سنة من كان قبلكم من الفرقة والاختلاف ، وأخطأتم سنة نبيكم حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها. (1)
فقال عمر : يا سلمان ، أما إذ بايع صاحبك وبايعت فقل ما شئت وافعل ما بدا لك وليقل صاحبك ما بدا له.
قال سلمان : فقلت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (إن عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب جميع أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم جميعا)، فقال : قل ما شئت ، أليس قد بايعت ولم يقر الله عينيك بأن يليها صاحبك ؟
---------------------------
(1) في (د) هكذا : قال : بلى ، قد قلت : تبا لكم ، أصبتم وأخطأتم ، لو تدرون ما صنعتم بأنفسكم ، قالوا : وما الذي أصبنا وأخطأنا ؟ قلت : أصبتم سنة من كان قبلكم من الفرقة والضلالة والاختلاف، وأخطأتم سنة نبيكم حين أخرجتموها من معدنها وأهلها .
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 160 _
فقلت : أشهد أني قد قرأت في بعض كتب الله المنزلة : (إنك ـ باسمك ونسبك وصفتك ـ باب من أبواب جهنم) فقالوا لي : قل ما شئت ، أليس قد أزالها الله عن أهل هذا البيت الذين اتخذتموهم أربابا من دون الله ؟
فقلت له : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول، وسألته عن هذه الآية : (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )(1)، فأخبرني بأنك أنت هو.
فقال عمر : أسكت، أسكت الله نامتك ، أيها العبد، يا بن اللخناء!
فقال علي عليه السلام: أقسمت عليك يا سلمان لما سكت.
فقال سلمان : والله لو لم يأمرني علي عليه السلام بالسكوت لخبرته بكل شئ نزل فيه ، وكل شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وفي صاحبه، فلما رآني عمر قد سكت قال لي : إنك له لمطيع مسلم.
كلمة أبي ذر بعد البيعة
فلما أن بايع أبو ذر والمقداد ولم يقولا شيئا قال عمر : يا سلمان ، ألا تكف كما كف صاحباك ؟ والله ما أنت بأشد حبا لأهل هذا البيت منهما ولا أشد تعظيما لحقهم منهما ، وقد كفا كما ترى وبايعا.
فقال أبو ذر : يا عمر، أفتعيرنا بحب آل محمد وتعظيمهم ؟ لعن الله ـ وقد فعل ـ من أبغضهم وافترى عليهم وظلمهم حقهم وحمل الناس على رقابهم ورد هذه الأمة القهقرى على أدبارها.
فقال عمر : آمين لعن الله من ظلمهم حقهم لا والله ما لهم فيها من حق وما هم فيها وعرض الناس إلا سواء ، قال أبو ذر: فلم خاصمتم الأنصار بحقهم وحجتهم ؟
---------------------------
(1) سورة الفجر: الآيتان 25 و 26، روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 336 : عن الباقر عليه السلام في قوله (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ) قال : زفر ، فلا يعذب عذابه يوم القيامة أحد من خلقه ، راجع تأويل الآيات: ج 2 ص 795.
فقال علي عليه السلام لعمر : يا بن صهاك ، فليس لنا فيها حق وهي لك ولابن آكلة الذبان ؟
فقال عمر: كف الآن يا أبا الحسن إذ بايعت ، فإن العامة رضوا بصاحبي ولم يرضوا، بك فما ذنبي ؟
فقال علي عليه السلام: ولكن الله عز وجل ورسوله لم يرضيا إلا بي ، فأبشر أنت وصاحبك ومن اتبعكما ووازركما بسخط من الله وعذابه وخزيه ، ويلك يا بن الخطاب، لو ترى ماذا جنيت على نفسك لو تدري ما منه خرجت وفيما دخلت وما ذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك ؟
فقال أبو بكر : يا عمر ، أما إذ قد بايعنا وآمنا شره وفتكه وغائلته فدعه يقول ما شاء.
فقال علي عليه السلام: لست بقائل غير شئ واحد ، أذكركم بالله أيها الأربعة ـ يعنيني وأبا ذر والزبير والمقداد ـ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن تابوتا من نار فيه اثنا عشر رجلا، ستة من الأولين وستة من الآخرين، في جب في قعر جهنم في تابوت مقفل (1)، على ذلك الجب صخرة ، فإذا أراد الله أن يسعر جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجب فاستعرت جهنم من وهج ذلك الجب ومن حره.
قال علي عليه السلام: فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنهم ـ وأنتم شهود به ـ عن الأولين، فقال : أما الأولون فابن آدم الذي قتل أخاه ، وفرعون الفراعنة ، والذي حاج إبراهيم في ربه، ورجلان من بني إسرائيل بدلا كتابهم وغيرا سنتهم ، أما أحدهما فهود اليهود والآخر نصر النصارى (2)، وإبليس سادسهم، وفي الآخرين الدجال وهؤلاء الخمسة أصحاب
---------------------------
(1) (د): في جب في قعر جهنم ، ذلك التابوت في تابوت آخر من نار مقفل عليه.
(2) في النسخ هكذا : ( ... والآخر نصر النصارى، وعاقر الناقة، وقاتل يحيى بن زكريا)، وإبليس غير مذكور في النسخ إلا في (ب) خ ل ، ونحن صححناه على ما في كتاب الإحتجاج حيث أورد الحديث بعينه نقلا عن سليم وذكر إبليس ولم يذكر عاقر الناقة وقاتل يحيى.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 162 _
الصحيفة والكتاب وجبتهم وطاغوتهم الذي تعاهدوا عليه وتعاقدوا على عداوتك يا أخي، وتظاهرون عليك بعدي ، هذا وهذا حتى سماهم وعدهم لنا.
قال سلمان : فقلنا : صدقت ، نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال عثمان : يا أبا الحسن، أما عندك وعند أصحابك هؤلاء حديث في ؟ فقال علي عليه السلام: بلى ، سمعت رسول الله يلعنك مرتين (1) ثم لم يستغفر الله لك بعد ما لعنك.
فغضب عثمان ثم قال : ما لي وما لك ولا تدعني على حال ، عهد النبي ولا بعده.
فقال علي عليه السلام: نعم ، فأرغم الله أنفك، فقال عثمان: فو الله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (إن الزبير يقتل مرتدا عن الإسلام)!
قال سلمان : فقال علي عليه السلام لي ـ فيما بيني وبينه ـ: صدق عثمان، وذلك أنه يبايعني بعد قتل عثمان وينكث بيعتي فيقتل مرتدا.
قال سلمان : فقال علي عليه السلام (2): (إن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله غير أربعة).
إن الناس صاروا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون ومن تبعه ومنزلة العجل ومن تبعه.
فعلي في شبه هارون وعتيق في شبه العجل وعمر في شبه السامري.
---------------------------
(1) روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 312: أنه لما توفي أبو سلمة وعبد الله بن حذافة ، وتزوج النبي صلى الله عليه وآله امرأتيهما أم سلمة وحفصة، قال طلحة وعثمان: أينكح محمد نسائنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات ؟ والله لو قد مات لقد أجلنا على نساءه بالسهام وكان طلحة يريد عائشة وعثمان يريد أم سلمة ، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) وأنزل: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ).
(2) في الإحتجاج: قال سليم : ثم أقبل علي سلمان فقال : إن القوم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله إلا من عصمه الله بآل محمد عليهم السلام.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 163 _
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ليجيئن قوم من أصحابي من أهل العلية والمكانة مني ليمروا على الصراط، فإذا رأيتهم ورأوني وعرفتهم وعرفوني اختلجوا دوني.
فأقول : أي رب ، أصحابي أصحابي فيقال : ما تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم حيث فارقتهم ، فأقول : بعدا وسحقا.
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : لتركبن أمتي سنة بني إسرائيل حذو النعل بالنعل وحذو القذة بالقذة ، شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جحرا لدخلوا فيه معهم ، إن التوراة والقرآن كتبه ملك واحد في رق واحد بقلم واحد، وجرت الأمثال والسنن سواء.
عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، قال : سمعت سلمان الفارسي يقول (1):
إذا كان يوم القيامة يؤتى بإبليس مزموما بزمام من نار ، ويؤتى
---------------------------
(1) ينبغي أن أورد بذيل هذا الحديث ما رواه في البحار: ج 8 قديم ص 315 ح 95 عن الإختصاص للشيخ المفيد بأسناده عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : خرجت ذات يوم إلى ظهر الكوفة وبين يدي قنبر ، فإذا إبليس قد أقبل، فقلت : بئس الشيخ أنت فقال : ولم تقول هذا يا أمير المؤمنين ؟ فوالله لأحدثنك بحديث عني عن الله عز وجل ما بيننا ثالث، إنه لما هبطت بخطيئتي إلى السماء الرابعة ناديت : يا إلهي وسيدي ، ما أحسبك خلقت خلقا هو أشقى مني ، فأوحى الله تعالى إلي: بلى ، قد خلقت من هو أشقى منك ، فانطلق إلى مالك يريكه ، فانطلقت إلى مالك فقلت : السلام يقرء عليك السلام ويقول : أرني من هو أشقى مني، فانطلق بي مالك إلى النار ، فرفع الطبق الأعلى فخرجت نار سوداء ظننت أنها قد أكلتني وأكلت مالكا ، فقال لها : اهدئي فهدأت ، ثم انطلق بي إلى الطبق الثاني فخرجت نار هي أشد من تلك سوادا وأشد حمى ، فقال لها : اخمدي، فخمدت ، إلى أن انطلق بي إلى السابع، وكل نار تخرج من طبق هي أشد من الأولى، فخرجت نار ظننت أنها قد أكلتني وأكلت مالكا وجميع ما خلقه الله عز وجل، فوضعت يدي على عيني وقلت : مرها يا مالك تخمد وإلا خمدت ، فقال : إنك لن تخمد إلى الوقت المعلوم، فأمرها فخمدت ، فرأيت رجلين في أعناقهما سلاسل النيران معلقين بهما إلى فوق ، وعلى رؤوسهما قوم معهم مقامع النيران يقمعونهما بها ، فقلت : يا مالك ، من هذان ؟ فقال : أو ما قرأت على ساق العرش ـ وكنت قبل قرأته ، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام ـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أيدته ونصرته بعلي)، فقال : هذان عدوا أولئك وظالماهم ، وروي في البحار : ج 8 قديم ص 298: قال الله تعالى : (لأصلبنه (أي عمر) وأصحابه قعرا يشرف عليه إبليس فيلعنه).
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 165 _
بزفر (1) مزموما بزمامين من نار!
فينطلق إليه إبليس فيصرخ ويقول : ثكلتك أمك، من أنت ؟ أنا الذي فتنت الأولين والآخرين وأنا مزموم بزمام واحد وأنت مزموم بزمامين!
فيقول : أنا الذي أمرت فأطعت ، وأمر الله فعصي .
---------------------------
(1) قال العلامة المجلسي في البحار: ج 22 ص 223 : (زفر) و (حبتر) عمر وصاحبه ، فالأول لموافقة الوزن والثاني لمشابهته لحبتر وهو الثعلب في الحيلة والمكر ، أقول : أستعمل كلمة (زفر) كناية عن عمر في كثير من الروايات، راجع البحار: ج 22 ص 223 و ج 37 ص 119.
وقال سليم : وحدثني أبو ذر وسلمان والمقداد، ثم سمعته من علي عليه السلام، قالوا:
إن رجلا فاخر علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أي أخي، فاخر العرب، فأنت أكرمهم ابن عم (1) وأكرمهم أبا وأكرمهم أخا وأكرمهم نفسا وأكرمهم نسبا وأكرمهم زوجة وأكرمهم ولدا وأكرمهم عما ، وأعظمهم عناء بنفسك ومالك، وأتمهم حلما وأقدمهم سلما وأكثرهم علما.
وأنت أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم بسنن الله(2) وأشجعهم قلبا في لقاء يوم الهيج، وأجودهم كفا وأزهدهم في الدنيا وأشدهم اجتهادا وأحسنهم خلقا وأصدقهم لسانا وأحبهم إلى الله وإلي.
وستبقى بعدي ثلاثين سنة تعبد الله وتصبر على ظلم قريش ، ثم تجاهدهم في سبيل الله عز وجل إذا وجدت أعوانا، تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت معي على تنزيله الناكثين والقاسطين والمارقين من هذه الأمة.
ثم تقتل شهيدا تخضب لحيتك من دم رأسك ، قاتلك يعدل عاقر الناقة في البغض إلى الله والبعد من الله ومني، ويعدل قاتل يحيى بن زكريا وفرعون ذا الأوتاد (3).
---------------------------
(1) في الفضائل: يا علي فاخر أهل الشرق والغرب والعجم والعرب ، فأنت أكرمهم وابن عم رسول الله وأكرمهم زواجا ...
(2) (ب): بسر الله.
(3) زاد في الفضائل: (يا علي ، إنك من بعدي في كل أمر غالب مغلوب مغصوب ، تصبر على الأذى في الله وفي رسوله محتسبا أجرك غير ضائع عند الله، فجزاك الله بعدي عن الإسلام خيرا).
قال أبان: وحدثت بهذا الحديث الحسن البصري عن أبي ذر، فقال : صدق سليم وصدق أبو ذر ، لعلي بن أبي طالب السابقة في الدين والعلم والحكمة والفقه ، وفي الرأي والصحبة وفي الفضل وفي البسطة وفي العشيرة وفي الصهر، وفي النجدة (1) في الحرب ، وفي الجود وفي الماعون وفي العلم بالقضاء وفي القرابة للرسول والعلم بالقضاء والفصل وفي حسن البلاء في الإسلام ، إن عليا في كل أمر أمره علي، فرحم الله عليا وصلى عليه، ثم بكى حتى بل لحيته،
قال : (2) فقلت له : يا أبا سعيد، أتقول لأحد غير النبي (صلى الله عليه) إذا ذكرته ؟
فقال : ترحم على المسلمين إذا ذكرتهم وصل على محمد وآل محمد ، وإن عليا خير آل محمد.
فقلت : يا أبا سعيد ، خير من حمزة ومن جعفر ومن فاطمة ومن الحسن والحسين ؟
فقال : إي والله، إنه لخير منهم ، ومن يشك أنه خير منهم ؟ فقلت له : بما ذا ؟ قال : إنه لم يجر عليه اسم شرك ولا كفر ولا عبادة صنم ولا شرب خمر ، وعلي خير منهم بالسبق إلى الإسلام والعلم بكتاب الله وسنة نبيه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفاطمة عليها السلام: (زوجتك خير أمتي)، فلو كان في الأمة خيرا منه لاستثناه، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله آخى بين أصحابه، وآخى بين علي ونفسه، فرسول الله خيرهم نفسا وخيرهم أخا، ونصبه يوم غدير خم وأوجب له من الولاية على الناس مثل ما أوجب لنفسه فقال : (من كنت مولاه فعلي مولاه)، وقال له : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، ولم يقل ذلك لأحد من أهل بيته ولا لأحد من أمته غيره، وله سوابق كثيرة ومناقب ليس لأحد من الناس مثلها.
قال : فقلت له : من خير هذه الأمة بعد علي عليه السلام ؟ قال : زوجته وابناه، قلت : ثم من ؟
قال: ثم جعفر وحمزة ، إن خير الناس أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير.
---------------------------
(1) أي الشجاعة والغلبة.
(2) القائل أبان يخاطب الحسن البصري.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 168 _
ضم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه وعليا وفاطمة والحسن والحسين ، ثم قال : هؤلاء ثقتي وعترتي في أهل بيتي ، فأذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فقالت أم سلمة : أدخلني معك ومعهم في الكساء، فقال لها : يا أم سلمة ، أنت بخير وإلى خير ، وإنما نزلت هذه الآية في وفي هؤلاء خاصة.
فقلت : الله يا أبا سعيد ما ترويه في علي عليه السلام وما سمعتك تقول فيه ؟
قال : يا أخي ، أحقن بذلك دمي من هؤلاء الجبابرة الظلمة لعنهم الله، يا أخي، لولا ذلك لقد شالت بي الخشب ولكني أقول ما سمعت فيبلغهم ذلك فيكفون عني، وإنما أعني ببغض علي غير علي بن أبي طالب عليه السلام، فيحسبون أني لهم ولي، قال الله عز وجل: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)(1) يعني التقية.
---------------------------
(1) سورة المؤمنون: الآية 96.
افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة
قال أبان: قال سليم : سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:
إن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار وفرقة في الجنة ، وثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين تنتحل محبتنا أهل البيت، واحدة منها في الجنة واثنتا عشرة في النار!
تعيين الفرقة الناجية
وأما الفرقة الناجية المهدية المؤملة المؤمنة المسلمة الموافقة المرشدة فهي المؤتمنة بي المسلمة لأمري المطيعة لي المتبرئة من عدوي المحبة لي والمبغضة لعدوي ، التي قد عرفت حقي وإمامتي وفرض طاعتي من كتاب الله وسنة نبيه ، فلم ترتد ولم تشك لما قد نور الله في قلبها من معرفة حقنا وعرفها من فضلها ، وألهمها وأخذها بنواصيها فأدخلها في شيعتنا حتى اطمأنت قلوبها واستيقنت يقينا لا يخالطه شك.
أئمة الفرقة الناجية
إني أنا وأوصيائي بعدي إلى يوم القيامة هداة مهتدون ، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه في آي من الكتاب كثيرة ، وطهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وخزانه على علمه ومعادن حكمه وتراجمة وحيه وجعلنا مع القرآن والقرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا حتى نرد على رسول الله صلى الله عليه وآله حوضه كما قال .
وتلك الفرقة الواحدة من الثلاث والسبعين فرقة هي الناجية من النار ومن جميع الفتن والضلالات والشبهات، وهم من أهل الجنة حقا ، وهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب.
وجميع تلك الفرق الاثنتين والسبعين هم المتدينون بغير الحق، الناصرون لدين الشيطان الآخذون عن إبليس وأوليائه ، هم أعداء الله تعالى وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين، يدخلون النار بغير حساب ، براء من الله ومن رسوله ، نسوا الله ورسوله (1) وأشركوا بالله وكفروا به وعبدوا غير الله من حيث لا يعلمون ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، يقولون يوم القيامة : (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)(2) ، (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (3).
قال : فقلت : يا أمير المؤمنين ، أرأيت من قد وقف فلم يأتم بكم ولم يعادكم ولم ينصب لكم ولم يتعصب ولم يتولكم ولم يتبرء من عدوكم وقال : (لا أدري) وهو صادق ؟
قال : ليس أولئك من الثلاث والسبعين فرقة ، إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله بالثلاث والسبعين فرقة الباغين الناصبين الذين قد شهروا أنفسهم ودعوا إلى دينهم.
ففرقة واحدة منها تدين بدين الرحمن ، واثنتان وسبعون تدين بدين الشيطان وتتولى على قبولها وتتبرأ ممن خالفها.
فأما من وحد الله وآمن برسول الله صلى الله عليه وآله ولم يعرف ولايتنا ولا ضلالة عدونا ولم ينصب شيئا ولم يحل ولم يحرم، وأخذ بجميع ما ليس بين المختلفين من الأمة
---------------------------
(1) في (د) هكذا : براء من الله ومن رسوله والله ورسوله براء منهم ، سبوا الله ورسوله وأشركوا ...
(2) سورة الأنعام: الآية 23.
(3) سورة المجادلة: الآية 18.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 171 _
فيه خلاف في أن الله عز وجل أمر به ، وكف عما بين المختلفين من الأمة خلاف في أن الله أمر به أو نهى عنه ، فلم ينصب شيئا ولم يحلل ولم يحرم ولا يعلم ورد علم ما أشكل عليه إلى الله فهذا ناج .
وهذه الطبقة بين المؤمنين وبين المشركين ، هم أعظم الناس وجلهم ، وهم أصحاب الحساب والموازين والأعراف ، والجهنميون الذين يشفع لهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون ، ويخرجون من النار فيسمون (الجهنميين). (1)
فأما المؤمنون فينجون ويدخلون الجنة بغير حساب ، أما المشركون فيدخلون النار بغير حساب ، وإنما الحساب على أهل هذه الصفات بين المؤمنين والمشركين ، والمؤلفة قلوبهم والمقترفة والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا والمستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة الكفر والشرك ولا يحسنون أن ينصبوا ولا يهتدون سبيلا إلى
---------------------------
(1) روي في البحار: ج 8 ص 355 ح 8 عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: ثم تأخذ بحجزتي وآخذ بحجزة الله ـ وهي الحق ـ وتأخذ ذريتك بحجزتك وتأخذ شيعتك بحجزة ذريتك ، فأين يذهب بكم إلا إلى الجنة ؟ فإذا دخلتم الجنة فتبوأتم مع أزواجكم ونزلتم منازلكم أوحى الله إلى مالك : أن افتح باب جهنم لينظر أوليائي إلى ما فضلتهم على عدوهم ، فيفتح أبواب جهنم فتطلون عليهم ، فإذا وجد أهل جهنم روح رائحة الجنة قالوا : يا مالك ، أتطمع لنا في تخفيف العذاب عنا ؟ إنا لنجد روحا، فيقول لهم مالك : إن الله أوحى إلي أن أفتح أبواب جهنم لينظر أهل الجنة إليكم، فيرفعون رؤوسهم ، فيقول هذا : يا فلان ، ألم تك تجوع فأشبعك ؟ ويقول هذا : ألم تك تعري فأكسوك ؟ ويقول هذا : يا فلان ، ألم تك تخاف فآويتك ؟ ويقول هذا: يا فلان ، ألم تك تحدث فأكتم عليك ؟ فيقولون : بلى ، فيقولون : استوهبونا من ربكم، فيدعون لهم فيخرجون من النار إلى الجنة فيكونون فيها ملومين ويسمون (الجهنميين)، فيقولون : سألتم ربكم فأنقذنا من عذابه فادعوه يذهب عنا هذا الاسم ويجعل لنا في الجنة مأوى ، فيدعون فيوحي الله إلى ريح فتهب على أفواه أهل الجنة فينسيهم ذلك الاسم ويجعل لهم في الجنة مأوى ، وروي في البحار: ج 8 ص 360 ح 29 عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن (الجهنميين)، فقال : كان أبو جعفر عليه السلام يقول : يخرجون منها فينتهى بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى (عين الحيوان) فينضح عليهم من مائها ، فينبتون كما تنبت الزرع ، تنبت لحومهم وجلودهم وشعورهم .
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 172 _
أن يكونوا مؤمنين عارفين، فهم أصحاب الأعراف، وهؤلاء لله فيهم المشيئة، إن الله عز وجل إن يدخل أحدا منهم النار فبذنبه وإن تجاوز عنه فبرحمته.
فقلت: أصلحك الله، أيدخل النار المؤمن العارف الداعي ؟ قال عليه السلام: لا .
قلت : أفيدخل الجنة من لا يعرف إمامه ؟ قال عليه السلام: لا ، إلا أن يشاء الله.
قلت : أيدخل الجنة كافر أو مشرك ؟ قال: لا يدخل النار إلا كافر ، إلا أن يشاء الله.
قلت : أصلحك الله، فمن لقي الله مؤمنا عارفا بإمامه مطيعا له ، أمن أهل الجنة هو ؟
قال : نعم إذا لقي الله وهو مؤمن من الذين قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) (1)، (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) (2)، (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم) (3).
قلت : فمن لقي الله منهم على الكبائر ؟ قال : هو في مشيته ، إن عذبه فبذنبه وإن تجاوز عنه فبرحمته.
قلت : فيدخله النار وهو مؤمن ؟ قال : نعم بذنبه ، لأنه ليس من المؤمنين الذين عنى الله (إِنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)، لأن الذين عنى الله (إِنَّهُ لِهِمْ وْلِي) و (فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )، هم المؤمنون (4) (َالَّذِين يَتَّقُونَ اللّهِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالَّذِينَ لَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ). (5)
---------------------------
(1) سورة البقرة: الآية 82 ، وتمام الآية هكذا : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
(2) سورة يونس: الآية 63.
(3) سورة الأنعام: الآية 82 ، وتمام الآية هكذا: ( ... أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ).
(4) أي إن المؤمنين الذين عنى الله في تلك الآية هم المؤمنون الذين جاء وصفهم في هذه الآيات ، وهي إشارة إلى قوله تعالى في سورة آل عمران : الآية 68: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) وإلى قوله تعالى في سورة يونس : الآية 62 : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
(5) قد مر الإشارة إلى مواضع الآيات في المصحف.
قلت : يا أمير المؤمنين، ما الإيمان وما الإسلام ؟ قال : أما الإيمان فالإقرار بالمعرفة ، والإسلام فما أقررت به والتسليم والطاعة لهم.
قلت : الإيمان الإقرار بعد المعرفة به ؟ قال : من عرفه الله نفسه ونبيه وإمامه ثم أقر بطاعته فهو مؤمن.
قلت : المعرفة من الله والإقرار من العبد ؟ قال : المعرفة من الله دعاء وحجة ومنة ونعمة ، والإقرار من الله قبول العبد، يمن على من يشاء ، والمعرفة صنع الله تعالى في القلب، والإقرار فعال القلب من الله وعصمته ورحمته.
فمن لم يجعله الله عارفا فلا حجة عليه، وعليه أن يقف ويكف عما لا يعلم ، فلا يعذبه الله على جهله ، فإنما يحمده على عمله بالطاعة ويعذبه على عمله بالمعصية.
ويستطيع أن يطيع ويستطيع أن يعصي ، ولا يستطيع أن يعرف ويستطيع أن يجهل ؟
هذا محال!
لا يكون شئ من ذلك إلا بقضاء من الله وقدره وعلمه وكتابه بغير جبر لأنهم لو كانوا مجبورين كانوا معذورين وغير محمودين.
ومن جهل وسعه أن يرد إلينا ما أشكل عليه ومن حمد الله على النعمة واستغفره من المعصية وأحب المطيعين وحمدهم على الطاعة، وأبغض العاصين وذمهم فإنه يكتفي بذلك إذا رد علمه إلينا.
لهذا الحديث زيادة في (ج) وهي تنطبق على أواسطه هكذا:
... يحاسبون ، منهم من يغفر له ويدخله الجنة بالإقرار والتوحيد، ومنهم من يعذب في النار ثم يشفع له الملائكة والأنبياء والمؤمنون، فيخرجون من النار ويدخلون الجنة
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 174 _
فيسمون فيها (الجهنميين)!
منهم أصحاب الإقرار، وليست الموازين والحساب إلا عليهم، لأن أولياء الله العارفين لله ولرسوله والحجة في أرضه وشهدائه على خلقه المقرين لهم المطيعين لهم يدخلون الجنة بغير حساب ، والمعاندين لهم المنذرين المكابرين المناصبين أعداء الله يدخلون النار بغير حساب ، وأما ما بين هذين ، فهم جل الناس وهم أصحاب الموازين والحساب والشفاعة.
قال (1): قلت : فرجت عني وأوضحت لي وشفيت صدري ، فادع الله أن يجعلني لك وليا في الدنيا والآخرة ، قال: اللهم اجعله منهم.
قال : ثم أقبل علي فقال : ألا أعلمك شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله ، علمه سلمان وأبا ذر والمقداد ؟ قلت: بلى، يا أمير المؤمنين.
قال : قل كلما أصبحت وأمسيت : (اللهم ابعثني على الإيمان بك والتصديق بمحمد رسولك والولاية لعلي بن أبي طالب والايتمام بالأئمة من آل محمد، فإني قد رضيت بذلك يا رب) ، عشر مرات .
قلت : يا أمير المؤمنين، قد حدثني بذلك سلمان وأبو ذر والمقداد، فلم أدع ذلك منذ سمعته منهم ، قال : لا تدعه ما بقيت.
وعن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس قال:
سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام ـ وسأله رجل عن الإيمان ـ فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن الإيمان ، لا أسأل عنه أحدا غيرك ولا بعدك.
فقال علي عليه السلام: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسأله عن مثل ما سألتني عنه ، فقال له مثل مقالتك ، فأخذ يحدثه ، ثم قال له : اقعد ، فقال له : آمنت.
ثم أقبل علي عليه السلام على الرجل فقال : أما علمت أن جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله في صورة آدمي فقال له : ما الإسلام ؟ فقال : (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان والغسل من الجنابة)، فقال :
وما الإيمان ؟ قال : (تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالحياة بعد الموت وبالقدر كله خيره وشره وحلوه ومره).
فلما قام الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (هذا جبرئيل ، جاءكم ليعلمكم دينكم)، فكان كلما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا قال له : (صدقت) ، قال : فمتى الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، قال : صدقت .
ثم قال علي عليه السلام ـ بعد ما فرغ من قول جبرئيل (صدقت) ـ : ألا إن الإيمان بني على أربع دعائم : على اليقين والصبر والعدل والجهاد.
فاليقين منه على أربع شعب : على الشوق والشفق والزهد والترقب.
فمن اشتاق إلى الجنة سلا (1) عن الشهوات، ومن أشفق من النار اتقى المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
والصبر على أربع شعب : على تبصرة الفطنة وتأول الحكمة ومعرفة العبرة وسنة الأولين.
فمن تبصر الفطنة تبين في الحكمة، ومن تبين في الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة أبصر العبرة، ومن أبصر العبرة فكأنما كان في الأولين.
والعدل منه على أربع شعب : على غوامض الفهم وغمر العلم وزهرة الحكم وروضة الحلم.
فمن فهم فسر جمل العلم، ومن علم عرضه شرائع الحكمة، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش به في الناس حميدا.
والجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن والغضب لله وشنآن الفاسقين.
---------------------------
(1) أي طابت نفسه عنه وذهل عن ذكره وهجره.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 177 _
فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الفاسق، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له.
وذلك الإيمان ودعائمه وشعبه.
أدنى درجات الإيمان والكفر والضلالة
فقال له : يا أمير المؤمنين، ما أدنى ما يكون به الرجل مؤمنا، وأدنى ما يكون به كافرا ، وأدنى ما يكون به ضالا ؟
قال : قد سألت فاسمع الجواب: أدنى ما يكون به مؤمنا أن يعرفه الله نفسه فيقر له بالربوبية والوحدانية وأن يعرفه نبيه فيقر له بالنبوة وبالبلاغة، وأن يعرفه حجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة.
قال: يا أمير المؤمنين، وإن جهل جميع الأشياء غير ما وصفت ؟ قال : نعم، إذا أمر أطاع وإذا نهي انتهى.
وأدنى ما يكون به كافرا أن يتدين بشئ فيزعم أن الله أمره به ـ مما نهى الله عنه ـ ثم ينصبه دينا فيتبرأ ويتولى ويزعم أنه يعبد الله الذي أمره به.
وأدنى ما يكون به ضالا أن لا يعرف حجة الله في أرضه وشاهده على خلقه الذي أمر الله بطاعته وفرض ولايته.
فقال : يا أمير المؤمنين، سمهم لي ، قال : الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال : (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) . (1)
قال : أوضحهم لي ، قال : الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر خطبة خطبها ثم قبض من يومه : (إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وأهل بيتي ، فإن
---------------------------
(1) سورة النساء: الآية 59.
كتاب سليم بن قيس الهلالي _ 178 _
اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين ـ وأشار بإصبعيه المسبحتين ـ ولا أقول كهاتين ـ وأشار بالمسبحة والوسطى - لأن إحديهما قدام الأخرى، فتمسكوا بهما لا تضلوا ، ولا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تخلفوا عنهم فتفرقوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).
قال : يا أمير المؤمنين، سمه لي ، قال : الذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم ، فأخبرهم (أنه أولى بهم من أنفسهم)، ثم أمرهم أن يعلم الشاهد الغائب منهم.
فقلت : أنت هو ، يا أمير المؤمنين ؟
قال : أنا أولهم وأفضلهم، ثم ابني الحسن من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسين من بعده أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يردوا عليه حوضه واحدا بعد واحد.
فقام الرجل إلى علي عليه السلام فقبل رأسه، ثم قال: أوضحت لي وفرجت عني وأذهبت كل شئ في قلبي (1).
---------------------------
(1) في البحار بيان مفصل في توضيح عبارات الحديث وغوامضه : راجع : ج 68 ص 365.
عن أبان بن أبي عياش عن سليم ، قال : جاء رجل (1) إلى أمير المؤمنين عليه السلام فسأله عن الإسلام، فقال عليه السلام:
إن الله تبارك وتعالى شرع الإسلام وسهل شرائعه لمن ورده وأعز أركانه لمن حاربه ، وجعله عزا لمن تولاه ، وسلما لمن دخله ، وإماما لمن ائتم به ، وزينة لمن تحلاه ، وعدة لمن انتحله، وعروة لمن اعتصم به ، وحبلا لمن تمسك به ، وبرهانا لمن تعلمه ، ونورا لمن استضاء به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا (2) لمن حاكم به وعلما لمن وعاه ، وحديثا لمن رواه ، وحكما لمن قضى به وحلما لمن جرب ، وشفاء ولبا لمن تدبر ، وفهما لمن تفطن ، ويقينا لمن عقل، وبصيرة لمن عزم ، وآية لمن توسم ، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، ومودة لمن أصلح، وزلفى لمن اقترب وثقة لمن توكل ، ورجاء (3) لمن فوض، وسابقة لمن أحسن ، وخيرا لمن سارع ، وجنة لمن صبر ، ولباسا لمن اتقى، وظهيرا لمن رشد ، وكهفا لمن آمن، وأمنة لمن أسلم ، وروحا للصادقين ، وموعظة للمتقين ونجاة للفائزين.
---------------------------
(1) الرجل هو ابن الكواء، كما صرح به في الكافي: ج 1 ص 49.
(2) أي فوزا وظفرا.
(3) (ب) خ ل : رخاء. وفي أمالي المفيد وأمالي الطوسي وتحف العقول: راحة.
---------------------------
(1) الحلبة: خيل تجمع للسباق من كل ناحية.
(2) السبقة: ما يتراهن عليه المتسابقون.
(3) قال المجلسي: معناه أن القيامة محل اجتماع الحلبة إما للسباق أو لحيازة السبقة.