وقد كان الرسول يوطن فيه من صغره الشجاعة والمواجهة والخشونة ، وكان اختياره له ليبيت في مضجعه ليلة الهجرة صورة من صور التربية النبوية له والتي تعده ليكون قائدا فذا يحمل راية الإسلام النبوي من بعده .
وتروي كتب التاريخ ، أن عليا كان صاحب لواء الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر وفي كل المشاهد (1) وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي في حجة الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة والمسلمين في تاريخ الدعوة إنما تؤكد هذه الخاصية وهذا الدور الذي وكل إليه ، وهي تؤكد من جانب آخر شرعية هذا الدور وارتباط خطوات الإمام ومواقفه المستقبلية بحدود الشرع وبالإسلام النبوي ...
يروى أن عليا نشد الناس قائلا : من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام ، فقام اثنا عشر بدريا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين قالوا : بلى قال : اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (2) .
ويوم غدير خم أيضا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم : أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي (4) .
وغدير خم موضع ماء يقع في واد بين مكة والمدينة توقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حين عودته من حجة الوداع وخطب فيه خطبة طويلة جزء منها كان خاصا بالإمام علي وبأهل البيت وهم علي وفاطمة والحسن والحسين .
---------------------------
(1) أنظر طبقات ابن سعد ج 3 .
(2) أنظر مسند أحمد 1 .
(3) أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب علي ...
(4) المرجع السابق ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 112 _
وكون الرسول يوصي بعلي وأهل البيت في خطبة الوداع فكأنه يؤكد للأمة ضرورة الالتزام بالإسلام النبوي الذي سوف يمثله علي من بعده ، ويحذرها من الانحراف عن هذا الإسلام بترك موالاة الإمام علي وأهل البيت .
لقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة الكتاب وربط هذا الكتاب بآل البيت بزعامة الإمام علي فمن التزم بالكتاب التزم بآل البيت ، ومن حاد عن الكتاب حاد عن آل البيت .
إن ربط الكتاب بالإمام يضفي المشروعية على كل خطوات الإمام ومواقفه ، فهو قد اختير من قبل الرسول ليكون مفسر هذا الكتاب والمعبر عنه والناطق بلسانه .
ومن هنا يتبين لنا أن شخصية الإمام ومكانته ودوره لا يقاس به أحد ، وإن محاولة فهم حركة الإمام علي بمعزل عن هذه الرؤية سوف يموه على حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين أنصار الخط القبلي بقيادة أبي بكر وعمر وعثمان والذي تطور إلى الصدام العسكري مع عائشة وطلحة والزبير ومع الخوارج ثم في النهاية مع بني أمية بقيادة معاوية ، وأن محاولة رفع بني أمية أو التقليل من شأن الإمام علي أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة أهل السنة ليست فقط سوف تؤدي إلى التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بين الإمام وخصومه كما هو الهدف الظاهر منها ، وإنما سوف تؤدي إلى التمويه على حقيقة الإسلام النبوي الذي يمثله الإمام نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي سوف تكون النتيجة هي ارتفاع الإسلام القبلي إسلام بني أمية وعلو مكانته على حساب الإسلام النبوي (1) .
وتلك هي النتيجة التي استقرت عليها الأمة بعد وقعة صفين وبعد اختفاء الإسلام النبوي وسيادة الإسلام القبلي على يد بني أمية ذلك الإسلام الذي تعبر عنه عقيدة أهل السنة والذي تحول إلى دين الأغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية وحتى اليوم .
---------------------------
(1) يروى عن عبد الله بن حنبل قال : سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية ؟ فأطرق ، ثم قال : إعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوه ، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيادا منهم لعلي ...
وقال ابن حجر معلقا على هذا الكلام ، فأشار بهذا ـ أي ابن حنبل ـ إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له ...
أنظر فتح الباري ج 7 / 104 (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 113 _
رجال الإمام
إن المتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يكتشف أن هناك عدد من الصحابة كان يناصر الإمام علي ويلتف حوله وكما زكى الرسول الإمام علي وجعل له خصوصية زكى أيضا هؤلاء الصحابة وباركهم .
ولكثرة ما ورد في علي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب هذا على المؤمنين المخلصين أن يشايعوه ويتبعوه لكون مشايعته واتباعه هو امتداد للالتزام بنهج الرسول ، فما دام حب عليا من الإيمان وبغضه من النفاق ولكون القرآن مع علي وعلي مع القرآن أصبح موالاة الإمام علي مسألة شرعية وواجب إيماني
(1) .
ومن الصحابة الذين شايعوا الإمام علي في حياة الرسول وبعد وفاته : أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وبلال بن أبي رباح والمقداد وحذيفة بن اليمان ، وجابر بن عبد الله وخباب بن الأرت وسلمان الفارسي وحجر بن عدي ، وحسان بن ثابت .
وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس والعباس بن عبد المطلب وأبو أيوب الأنصاري وخزيمة ذي الشهادتين وأبي بن كعب وسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة والبراء بن مالك وعثمان بن الأحنف وخالد بن سعيد بن العاص وهند بن أبي هالة وأبي الطفيل عامر بن وائلة وأنس بن الحرث بن نبيه وجعدة بن هبيرة المخزومي وأبي التيهان ورفاعة بن مالك الأنصاري
(2) .
ومن الواضح أن هذه النماذج من الصحابة ذات مكانة ودور خاص في واقع الدعوة وبمقارنتها بالنماذج الأخرى التي التفت حول معاوية يتضح لنا مدى الهوة السحيقة بينهما ، إن النماذج التي تحالفت مع الإمام علي وناصرته هي من خلص الصحابة الذين توفي الرسول وهو عنهم راض .
هذه النماذج لم يقتصر دورها في حدود مناصرة الإمام علي أثناء صراعه مع معاوية ، بل إن دور هذه العناصر بدأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وقفت هذه
---------------------------
(1) حديث علي مع القرآن رواه الحكم ج 3 / 124 ، وانظر مناقب الخوارزمي وتاريخ الخلفاء للسيوطي ...
(2) أنظر ترجمة هؤلاء في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ، وأسد الغابة لابن الأثير ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 114 _
العناصر مع الإمام في مواجهة الخط القبلي كما وقفت معه في موجهة عثمان وعائشة والخوارج .
أما النماذج الأخرى التي تحالفت مع معاوية فقد حامت من حولها الشكوك وليس في تاريخها ما يوجب الثقة فيها ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم ، قيل يا رسول الله سمهم لنا ؟ قال : علي منهم ، يقول ذلك ثلاثا ، وأبو ذر والمقداد وسلمان (1) .
وجميع هذه العناصر المذكورة من خواص الرسول صلى الله عليه وسلم وأصفياؤه ولهم تاريخ مشرق ومكانة فذة ... فبلال مؤذن الرسول ... وحذيفة صاحب سره ... وأبي بن كعب من قراء القرآن ... و عبد الله بن عباس حبر الأمة ...
وعمار بن ياسر ابن الشهيدين ... وخزيمة ذي الشهادتين ... وحسان بن ثابت شاعر الرسول ، ولا تجد في صفوف أنصار الخط القبلي أو الخط الأموي من يضاهي هؤلاء .
---------------------------
(1) أنظر الترمذي كتاب المناقب ، وانظر سنن ابن ماجة المقدمة ، ومسند أحمد ج 5 ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 115 _
شخصية معاوية
كان معاوية من الطلقاء الذين أطلقهم الرسول بعد فتح مكة ، وظل هو وأبوه في عداد المؤلفة قلوبهم حتى عهد عمر الذي قام بإلغاء نصيب المؤلفة قلوبهم وتم بالتالي رفع معاوية إلى مرتبة المسلمين هو وأبوه .
إلا أن النصوص التاريخية والنبوية لا تؤكد دخوله هو وأبوه في دائرة الإسلام فلم يظهر من كلاهما ما يبدد شبهة الكفر عنهما لكن فقهاء القوم بدلا من أن يبحثوا هذه المسألة قاموا بدعم بني أمية وعلى رأسهم معاوية وإضفاء المشروعية عليهم ولم يحاول أحد منهم التشكيك في الروايات المخترعة من أجل رفع مكانته ودفع المسلمين إلى الثقة فيه ...
وإذا أردنا تتبع تاريخ معاوية فلن نكتشف له شيئا يذكر في المحيط الإسلامي ، فلا هو بصاحب شجاعة ولا هو رجل سيف ... ولا هو صاحب علم ولا هو صاحب فضل ... ولا هو احتك بالرسول ولا هو احتك بالصحابة .
فمن أين جاءته تلك المكانة التي وضعوه فيها ؟ .
وكيف للقوم إن يساووا مثل هذا بالإمام علي ... ؟
إن أهم ملامح شخصية معاوية هي المكر والخديعة والغدر وهي ملامح عباد الدنيا وأهل الفجور ولولا تحالف ابن العاص وأبو هريرة معه ما استقام له الأمر ولا ظل له ذكر ... فابن العاص دعمه بخططه ودهائه ، وأبو هريرة دعمه برواياته التي نسبها إلى الرسول ( ص ) ...
ثم إن الأحداث خدمته في النهاية ويسرت له الطريق نحو التمكن والسيادة على المسلمين ولم يكن له دور أو فضل في ذلك ... فالذين وقفوا على الحياد خدموه ... والذين حاربوا الإمام علي خدموه ... والذين اغتالوا الإمام علي خدموه ... والذين خذلوا الإمام الحسن خدموه ... والتي اغتالت الإمام الحسن خدمته .
يروي ابن حجر : كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر ، فقالت قم
لا رفعك الله فقال لها أعرابي لم تقولين هذا والله إني لأراه يسود قومه ، فقالت : لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه
(1) .
ويروى عن ابن عباس قوله : ما رأيت أحدا أحلى للملك من معاوية ...
(2)
ويروى على لسان الرسول ( ص ) قوله لمعاوية : يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله وأعدل ، يقول معاوية معلقا : فما زلت أظن أني مبتلى بعمل سويد فيه مقال ...
(3)
---------------------------
(1) أنظر الإصابة ج 3 / 433 / 434 ، ترجمة معاوية حرف الميم ، القسم الأول ... ومثل هذه الروايات لا يحكم أهل السنة بثبوتها فلم تصح في معاوية منقبة كما صرح بذلك إسحاق بن راهويه شيخ البخاري لكن القوم اخترعوها لدعم معاوية تبرير مواقفه وإخفاء المشروعية على حكمه
(2) المرجع السابق ...
(3) المرجع السابق ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 116 _
رجال معاوية
لم تكن لمعاوية مكانة ولا قدرا في الإسلام ، ولم يكن بصاحب علم أو دين ، إنما كان صاحب جاه ونفوذ لذا فإن الذين التفوا من حوله كانوا من أصحاب الدنيا والمغنم ولم يكونوا من أصحاب الدين ...
وكانت وسائل معاوية في جذب الرجال إليه تتركز ، في المال والإغراء بالمناصب كما تتركز في الدعاية المضللة التي تهدف إلى التمويه على الباطل الذي يمثله ويرفع رايته ... المال والمناصب كانت وسيلة جذب من يعرفه وعاصره ...
والدعاية كانت وسيلة جذب من لا يعرفه من التابعين ... وكلا من الطرفين كان يرتبط بمعاوية ارتباطا مصيريا إذ أن تركه معاوية يعني أنه لن يجد مكانا لدى الطرف الآخر طرف الإمام علي ...
ومن أبرز العناصر التي التفت حول معاوية وتحالفت معه : عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري ومروان بن الحكم .
ومثل هذه العناصر صاحبة تاريخ مشبوه وليست بذا ثقل في واقع الدعوة ولم تكن صاحبة مكانة
(1) في حياة الرسول ( ص ) بل كانت منبوذة مذمومة ...
من هنا فقد عملت هذه العناصر على القيام بحملة دعاية واسعة الهدف منها إضفاء المشروعية على مواقفهم وممارساتهم ورفع مكانتهم أمام المسلمين : فكان أن قاموا باختراع الروايات ونسبتها للرسول تلك الروايات التي تزكيهم وتضع الحق إلى جانبهم وتموه على الجانب الآخر وتسهم في جذب المسلمين من التابعين إلى صفوفهم ...
(2)
من هنا فقد استطاع معاوية بمعونة أبي هريرة وابن العاص أن يشكلوا جبهة دعاية واسعة استطاعوا بواسطتها أن يغرروا بالمسلمين ويعزلوهم من خط آل البيت ... وكان وقوف عدد من الصحابة على الحياد في الصراع الدائر بين الإمام ومعاوية قد شكل وسيلة دعم لمعاوية وضربة للإمام علي .
إذ دفع بكثير من المسلمين إلى التشكك في جدوى الصراع وهذا أمر في صالح معاوية بلا شك ... وعلى رأس الذين وقفوا على الحياد عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة ، وليس من المعقول تصور أن ابن عمر وهؤلاء المحايدين كانوا يجهلون حقيقة الموقف .
وإن سلمنا
(3) لهم بذلك ، فكيف نسلم بجهلهم بحقيقة أبي هريرة وابن العاص ومعاوية ... ؟ .
---------------------------
(1) أنظر لنا فقه الهزيمة باب الرجال ، وكتاب الخدعة ...
(2) نهج البلاغة ، ج 1 / خطبة رقم 198 ...
(3) أنظر تراجم هؤلاء في أسد الغابة والإصابة والإستيعاب ... وابن عمر أحد ركائز الخط الأموي وعقيدة وفقه أهل السنة (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 117 _
المواجهة سيف الإيمان يقارع سيف الشيطان ...
لم تكن المواجهة العسكرية التي حدثت بين الإمام علي وبين عائشة ومعاوية والخوارج يعود سببها إلى الصراع على الحكم كما قد يتصور البعض ممن يقرأون أحداث التاريخ على أسس سياسية بحتة بمعزل عن الدين .
فالإمام لم يواجه هؤلاء كخارجين على الجماعة فلم تكن هناك جماعة إنما كانت هناك شيع وأحزاب ... كانت سيوف القوم على الإمام وقلوبهم مع سواه مما دفع بالإمام إلى نقل عاصمته من المدينة إلى الكوفة حيث توجد القاعدة الجماهيرية العريضة المناصرة له ...
لقد كان الصراع بين الإمام وبين هذه الجبهات الثلاث صراعا عقائديا ولم يكن صراعا سياسيا ... فهذه الجبهات كانت تواجه الإمام بعقيدة ومنهج وراية ... كانت عائشة ترفع راية الخط القبلي ... وكان معاوية يرفع راية بني أمية ... وكان الخوارج يرفعون راية التكفير ...
وكان الإمام في مواجهتهم يرفع راية الإسلام النبوي ... إن عائشة أو معاوية أو الخوارج لم يظهروا من فراغ إنما هم يمثلون خطوطا تهدف إلى فتنة المسلمين .
وإن المتأمل في الروايات الواردة حول هؤلاء في كتب السنن يتبين له هذا الأمر بوضوح ... ولقد بدأت المواجهة بين الإمام وبين هؤلاء فور وفاة الرسول ( ص ) وطوال عهد الخلفاء الثلاثة لم تكن تخرج هذه المواجهة عن حدود الصدام الفكري ، أما حين برز دور الإمام بعد مصرع عثمان خرجت المواجهة عن حدود الصدام الفكري إلى الصدام العسكري بعد أن أحست الجبهات الثلاث بخطورة الأمر وتهديده لوجودها ومستقبلها ... فلم يكن يضر عائشة وجود عثمان على دفة الحكم أو سواه ... ولم يكن يضر معاوية وجوده أو وجود سواه ...
---------------------------
(1) قال الرسول صلى الله عليه وسلم في قبيلة أبي ذر : غفار غفر الله لها ، أنظر سيرته في كتب التراجم ...
(2) أنظر البداية والنهاية لابن كثر ج 7 / 173 وما بعدها وانظر الطبري وابن عساكر ومروج الذهب .
(3) أنظر المراجع السابقة وطبقات ابن سعد والكامل لابن الأثير (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 118 _
أما وجود الإمام فهو يمثل تهديدا صارخا لأنه يرفع راية إسلام آخر يكشف زيف إسلامهم وفي حالة وجود عثمان أو سواه على دفة الحكم كان معاوية سيخرج رافعا رايته .
فقد كانت المسألة بالنسبة له مسألة وقت كان وصول الإمام إلى الحكم قد اختصره ... وأما مواجهة الإمام للخوارج فهي تعكس خصوصيته بمواجهتهم والتصدي لنمطية الفكر والطرح الذي يطرحونه والذي يمثل تهديدا للإسلام النبوي .
ويمثل نمطية ثابتة ومستمرة في مواجهة هذا الإسلام على مر الزمان ، وكما تم القضاء على الخوارج على يد الإمام علي فلن يتم مواجهتهم والقضاء عليهم بعد الإمام إلا بواسطة خط الإمام ...
إن الإمام علي لم يكن يهدف من وراء هذه المواجهة إلى القضاء على عائشة أو معاوية أو الخوارج بقدر ما كان يهدف إلى إقامة الحجة وإظهار الحق وتعرية الباطل ورفع راية الإسلام النبوي .
وهذه هي حقيقة دور الإمام ... إظهار الحق وإن لم يتحقق تمكينه وسيادته ... وتعرية الباطل وإن لم يتم القضاء عليه ...
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 119 _
الجمــل
يروى أن أبا بكر استأذن على النبي ( ص ) فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول : والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي ...
(1)
وسئلت عائشة من كان رسول الله ( ص ) مستخلفا ؟ قالت : أبو بكر ، قيل ثم من ؟ قالت : عمر ، قيل ثم من لله قالت : أبو عبيدة بن الجراح ...
(2)
إن الرواية الأولى تكشف لنا أن هناك موقفا معاديا من علي تتبناه عائشة ، وأن هذا الموقف يعود سببه إلى تفضيل الرسول ( ص ) لعلي على أبيها ...
---------------------------
(1) أنظر أحمد وأبو داود والنسائي ، وفتح الباري ج 7 / 27 .
(2) أنظر فتح الباري ج 7 / 32 ، والحديث رواه مسلم ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 120 _
والرواية الثانية تكشف لنا أن عائشة لم تكن تعترف بخلافة عثمان ولا بخلافة علي ووضعت مكان عثمان ابن الجراح وهو ما لم يقل به أحد من الرواة ولم يذكر على لسان أحد من الصحابة .
ويخالف عقيدة أهل السنة في الاقرار بخلافة علي بعد عثمان ، ومن خلال الروايتين معا يتبين لنا أن موقف عائشة من الإمام علي ليس موقفا هامشيا أو سطحيا عارضا كما يحاول مؤرخو القوم وفقهاؤهم أن يصوروه رابطينه بحادثة الإفك ... (1)
وباستعراض الروايات السابقة الخاصة بعائشة خاصة تلك التي تتعلق بوفاة الرسول ( ص ) يتبين لنا عمق هذا الموقف وجذريته ... (2)
ولقد تبلور هذا الموقف في حياة الرسول ( ص ) حين كانت لعلي مكانته المرموقة والعالية التي فاقت جميع الصحابة وعلى رأسهم أبيها ... (3)
ثم أخذ هذا الموقف امتداده وتطوره بعد وفاة الرسول ( ص ) في حماية أبيها وقد تحقق لها ما كانت تطمح من مكانة ومقام لأبيها وعزل الإمام علي عن واقع المسلمين ...
وطوال عهد أبيها وعهد عمر لم تكن لتهتز مكانة عائشة وسلطانها ولم تكن لترتفع مكانة علي عن الحدود المرسومة من قبل الخليفتين ...
إلا أنه بعد مصرع عمر ووصول عثمان إلى الحكم تغير الوضع إذ برز بنو أمية وناطحوا عائشة وعلى والجميع مما دفع بعائشة إلى التصدي لعثمان ومنابذته ... وعندما ثار المسلمون على عثمان وقتلوه وبايع الناس الإمام علي الخلافة وجدت
---------------------------
(1) يحاول مؤرخي السنة ربط الموقف العدائي الذي اتخذته عائشة من الإمام علي بحادثة الإفك حين قال الإمام للرسول صلى الله عليه وسلم : تزوج يا رسول الله فإن النساء كثيرات ، فحملت عليه عائشة منذ ذلك الحين ، والحق أن هناك شك في أن عائشة هي المقصودة بحادثة الإفك ، أنظر تفاصيل هذه الحادثة في كتب التفسير وكتب التاريخ ...
(2) أنظر الباب الأول من الكتاب ، وانظر تفسير سورة التحريم وموقف القرآن من عائشة وحفصة
(3) كانت عائشة من الحزب المناهض للإمام علي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 121 _
عائشة نفسها بين أمرين ، إما أن تذعن لعلي وتدين له بالطاعة وذلك يعني انتهاء دورها وضياع مكانتها ... وإما أن تخرج على علي وتقاتله من أجل الخلاص منه .
وقد اختارت عائشة الموقف الثاني فكانت وقعة الجمل الشهيرة التي راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف نفس وانتهت بهزيمة عائشة .
يروي البخاري لما بعث علي عمارا والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم ـ أثناء وقعة الجمل ـ خطب عمار فقال : إني لأعلم أنها ـ أي عائشة ـ زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها ... (1) .
ويقول ابن حجر معلقا على هذه الرواية : وقوله في الحديث لتتبعوه أو إياها قيل الضمير لعلي لأنه كان الذي يدعو إليه عمار ، والذي يظهر أنه لله والمراد باتباع الله اتباع حكمه الشرعي في طاعة الإمام وعدم الخروج عليه .
ولعله أشار إلى قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول : لا يحركن ظهر بعير حتى ألقى النبي .
والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الاصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان وكان رأي علي الاجتماع وطلب أولياء المقتول للقصاص ممن يثبت عليه القتل ... (2)
وابن حجر كما هو واضح من كلامه يعترف بأن عائشة خالفت القرآن بخروجها من بيتها بينما التزمت أم سلمة بنص القرآن .
إلا أن ما لم يعترف به ابن حجر هو أن هذا الخروج قد كلف الأمة الكثير من الرجال والأموال ونتجت عنه مفسدة عظيمة حاول التغطية عليها وسترها بدعوى التأويل كما هو حال فقهاء القوم في مواجهة النصوص والأحداث التي ترتبط بكبار الصحابة وتشكل حرجا لهم ... (3)
---------------------------
(1) أنظر البخاري ، باب فضل عائشة ، وفتح الباري ج 7 / 108 .
(2) المرجع السابق ...
(3) أنظر كتاب العواصم من القواصم ، وانظر لنا كتاب الخدعة ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 122 _
ولم يكن أمام عائشة من مبرر تؤلب عليه الناس ضد الإمام وتدفعهم إلى قتاله سوى المطالبة بدم عثمان .
وهو نفس الشعار الذي رفعه معاوية في مواجهة الإمام علي ...
وكان انضمام طلحة والزبير إلى عائشة ونقضهما لبيعة الإمام قد دعم موقفها وزاد من حميتها للقتال وأسهم في تنظيم صفوفها .
وهو نفس ما حدث مع معاوية حين انتمى إلى صفه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، إن تبني كلا من عائشة ومعاوية قضية عثمان في مواجهة الإمام يدل دلالة واضحة على افتقادهما للمبررات الشرعية في مواجهته ، ومن جهة أخرى هو يدل على ضعف موقفهما ويضفي عليه الانتهازية .
يقول الإمام علي ذاما أهل البصرة أنصار عائشة : كنتم جند المرأة وأتباع البهيمة رغا فأجبتم وعقر فهربتم ، أخلاقكم دقاق ، وعهدكم شقاق ، ودينكم نفاق ، وماؤكم زعاق والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه ...
كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها ... بلادكم أنتن بلاد الله تربة ، أقربها من الماء وأبعدها من السماء وبها تسعة أعشار الشر ، المحتبس فيها بذنبه والخارج بعفو الله ... (1)
ويقول الإمام في ذم عائشة بعد حرب الجمل : معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان ، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول ... فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر ... (2)
---------------------------
(1) نهج البلاغة ج 1 / خطبة رقم 13 ...
(2) المرجع السابق ج 1 / خطبة رقم 78 ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 123 _
والإمام ليس مخيرا في الانحياز لأي من الطرفين ، وإنما هو مقيد بالحق ويدور معه حيث دار ، والحق واضح وضوح الشمس والباطل كذلك .
ولعل موقف الإمام هذا هو الذي استثمره معاوية فيما بعد في تزكية نار الصراع بينه وبين الإمام من أجل تحقيق مآربه في التسلط على المسلمين ، وقد كان بإمكانه نصرة عثمان وإنقاذه لكنه رأى أن التضحية به أنفع له في صراعه مع الإمام (1)
---------------------------
(1) أنظر المراجع السابق ، وانظر كتاب عثمان إلى معاوية يستنصر .
في الطبري ج 1 / 185 يقول الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلى من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول ... وانظر ابن كثير ج 7 / 185
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 124 _
وقعة صفـين
أصدر الإمام علي قراره بعزل معاوية عن الشام بمجرد أن تولى أمر الخلافة ، إلا أن معاوية رفض الانصياع لقرار الإمام وأعلن العصيان رافعا قميص عثمان على منبر دمشق داعيا الناس إلى الثأر من قتلته مشيرا بإصبع الاتهام إلى الإمام علي وشيعته ...
ويحاول المؤرخون توجيه اللوم للإمام علي وتخطئته لإصداره قرار عزل معاوية فور توليه الحكم وكان الواجب عليه أن يتركه على الشام حتى تنجلي الأمور ... ومثل هذا التصور إنما ينبع من رؤية سطحية لطبيعة الصراع .
رؤية تنبنى على أساس أن المسألة لا تخرج عن كونها مجرد ـ صراع داخلي بين حاكم وواحد من ولاته ، وتنبنى أيضا على أساس أن معاوية يتحرك وفق دائرة المصلحة ... ولو كان هؤلاء المؤرخون يفقهون شخصية الإمام علي ويقدرون دوره ويعطونه مكانته لكان من الممكن أن يفهموا أن موقف الإمام من معاوية إنما هو موقف يفرضه المبدأ الإسلامي ... لوفقه هؤلاء شخصية معاوية وتاريخه ومكانته الوضيعة ما تبنوا هذه الرؤية ... إن هؤلاء .
المؤرخين كغيرهم من الفقهاء سقطوا ضحية السياسة وسلموا بما بين يديهم من أطروحات وروايات دون أن يعقلوها ويراجعوها على أساس أن هذا الأطروحات والروايات إنما وصلتهم من رجال عدول ثقات ...
(1)
لقد حكم معاوية الشام سبعة عشر عاما مكن لنفسه فيها وارتبط مصيره بها وكانت بالنسبة له بمثابة دولة وليست ولاية ... ولأن الإمام كان يفقه حقيقة معاوية والاتجاه الذي يمثله والدور الذي سوف يلعبه كان لا بد من أن يتبنى هذا الموقف تجاهه
حقيقة معاوية أنه شيطان هذه الأمة ... والاتجاه الذي يمثله هو الباطل ... والدور الذي سوف يلعبه هو ضرب الإسلام النبوي وأمام شخص كهذا لا تصح المساومات والمداهنات وأنصاف الحلول لأنها سوف تكون على حساب الحق وسوف ينتج عنها دعم الباطل ... من هنا كان السيف هو الحل الذي فرض نفسه ، فلم يكن أمام معاوية سواه ليواجه به الإمام فهو لا يملك أية مقومات أخرى ليواجهه بها ...
---------------------------
(1) أنظر لنا كتاب فقه الهزيمة فصل الحديث وانظر باب انعكاسات الخط الأموي ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 125 _
لا يملك الشرعية ... ولا يملك العلم ... ولا يملك الرصيد التاريخي ...
وعندما بدأ الصدام كان في صف الإمام ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة أما في صف معاوية فكان عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أما أبو هريرة فلم يكن من المقاتلين وإنما كان يتزعم جهاز الدعاية لمعاوية ...
أعلن الإمام في عسكره : لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم وأنتم بحمد الله على حجة وترككم قتالهم حجة أخرى فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا شيئا من أموالهم ولا تهيجوا امرأة وأن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم ... (1)
وهذا الخلق النبوي الذي التزم به الإمام في المعركة واجهه معاوية بالغدر والخديعة حين رأى الهزيمة به لا حقة خاصة بعد مصرع رجل الإمام عمار بن ياسر الذي أخبر الرسول بمصرعه على يد الفئة الباغية ... (2)
ولقد شكل مصرع عمار هزة كبيرة لمعاوية وابن العاص خاصة بعد أن شاع بين جيش الشام خبر نبوءة الرسول في عمار .
يقول أبو بكر الجصاص : قاتل على الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم وكان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته واتباعها .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية وهذا خبر مقبول من طريق التواتر حتى أن معاوية لم يقدر على جحده لما قال له عبد الله بن عمر ، فقال : إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا ، رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام ... (3)
---------------------------
(1) أنظر الطبري ج 4 / 6 ، والكامل لابن الأثير ج 3 / 149 .
(2) أنظر سلم كتاب الفتن وابن كثير ج 7 / 267 ، والإستيعاب وسيرة ابن هشام ...
(3) أنظر أحكام القرآن للجصاص ، وانظر ابن كثير والطبري وكتب التاريخ ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 126 _
ويروي ابن عبد البر : وتواترت الآثار عن النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال تقتل عمار الفئة الباغية وهذا من إخباره بالغيب وإعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو من أصح الأحاديث ... (1)
ويروي ابن حجر : وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم ... (2)
ويروي مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار تقتلك الباغية ... (3)
وعلى الرغم من اعتراف الفقهاء بأن الحق كان في جانب علي إلا أن اعترافهم هذا لا يعني الحكم بأن معاوية كان على باطل عندهم ، فهم يعتبرون معاوية مجتهدا مأجورا على ما فعل لكونه قاتل عليا بقصد الخير لا بقصد الشر ... (4)
يقول النووي : هذا الحديث حجة ظاهرة في أن عليا كان محقا مصيبا والطائفة الأخرى بغاة لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك ... (5)
ومثل هذا النهج التبريري يتبناه القوم على الدوام في مواجهة النصوص التي تدعم الإمام علي وخط آل البيت وشيعتهم وتشكك في الجانب الآخر جانب الخصوم والمخالفين والمنحرفين عن هذا الخط ، خاصة عثمان وعائشة ومعاوية ... (6)
ويروي المؤرخون أن عليا بارز في أيام صفين وقتل خلقا كثيرا ، وكان أحد فرسان معاوية قد قتل أربعة من رجال الإمام ثم صاح هل من مبارز ؟ فبرز إليه الإمام فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قتل ثلاثة بعده ثم تلا قوله تعالى : ( والحرمات قصاص ) ... ثم نادى الإمام : ويحك معاوية أبرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك .
---------------------------
(1) أنظر الإستيعاب ترجمة عمار بن ياسر ...
(2) أنظر الإصابة ج 2 / 502 .
(3) أنظر مسلم وابن كثير والإستيعاب والحاكم ...
(4) أنظر العواصم من القواصم ، والبداية والنهاية وفتاوى ابن تيمية ، والفصل في الملك والنحل لابن حزم ...
(5) مسلم هامش ترجمة عمار ، كتاب فضائل الصحابة ...
(6) أنظر منهاج السنة لابن تيمية ، والعواصم ، والفصل في الملك والنحل (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 127 _
فقال عمرو بن العاص لمعاوية : اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة فقال معاوية : والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط ، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي ، اذهب إليك ، فليس مثلي يخدع ... (1) .
وأغار الإمام علي جيش معاوية وحمل علي عمرو بن العاص وضربه بالرمح فألقاه على الأرض فبدت سوءته فرجع عنه ولم يقتله ... فقال له أصحابه : ما لك يا أمير المؤمنين رجعته ... ؟ فقال الإمام : أتدرون ما هو ؟ قالوا : لا ... قال : هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحمن فرجعت عنه (2) .
وأمام الضربات القاتلة التي كان يوجهها الإمام وجنده لقوات معاوية التي أخذت في التقهقر والانهزام أشار ابن العاص على معاوية بحيلة خبيثة لا تنم عن دين أو تقوى له إنما تنم عن ضلال وكفر وخديعة .
وقد تمثلت هذه الحيلة في تمزيق المصحف ورفع أوراقه على أسنة الرماح أمام جنود الإمام والمطالبة بتحكيمه في الصراع الدائر بينهما ... يقول ابن العاص : فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبل فتكون فرقة بينهم ، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل ... (3) .
أن مثل هذا العمل إنما يدل على مدى استخفاف معاوية وابن العاص بكتاب الله فهما لم يفعلا ذلك بهدف تحكيم كتاب الله وإنما بهدف التقاط الأنفاس والوقيعة بين جند الإمام ... ولقد تصدى الإمام بقوة لهذه الخدعة وأصر على استمرار القتال إلا أن أصحاب الهوى وضعاف العقول من جنده طالبوه بالتحكيم ووقف القتال وقبل الإمام هذا الأمر على كراهية وغضب .
وقام معاوية بتنصيب ابن العاص حكما من جهته بينما أوفد جند علي أبو موسى الأشعري بدلا من عبد الله بن عباس الذي كان قد اختاره الإمام (4) .
---------------------------
(1) أنظر البخاري ومسلم ، باب فضائل علي ، ومسند أحمد ج 2 .
(2) الفارس الذي قتله علي هو عمرو بن الود .
(3) أنظر طبقات ابن سعد ج 3 .
(4) أنظر مسند أحمد 1 (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 128 _
ودار بين ابن العاص وأبي موسى الأشعري الحوار التالي : قال عمرو : كيف ترى الأصوب في هذا الأمر ... ؟
قال الأشعري : أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا .
قال عمرو : والرأي ما رأيت ... ثم خرجا على الناس وهم خليط من طرف علي ومن طرف معاوية ... فقال عمرو : يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق ...
قال الأشعري : إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها من أمر قد أجمع عليه وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا وإني قد خلعت عليا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا ...
قال ابن العاص : أن هذا قد قال ما سمعتموه وأنا أخلع صاحبه ( يعني عليا ) كما خلعه وأثبت صاحبي ( معاوية ) فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه ...
فصاح الأشعري في غضب : ملك لا وفقك الله غدرت وفجرت ... (1)
وقد وجد هذا الفعل المنكر من قبل ابن العاص تبريرا في فقه القوم إذ يقول ابن كثير : وكان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة والاجتهاد يخطي ويصيب (2)
وهذا التبرير الساذج إنما يكشف لنا مدى تفاعل فقهاء القوم مع خط بني أمية واستسلامهم لأطروحتهم والعمل على ترقيعها والدفاع عنها ...
---------------------------
(1) البداية والنهاية ج 7 / 283 .
(2) أنظر الطبري ج 4 / 57 ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 129 _
وفي مواجهة هذه الخدعة قال الإمام : ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن واتبع واحد منهما هواه بغير هدى من الله فحكما بغير حجة بينة ولا سنة ماضية واختلفا في حكمها وكلاهما لم يرشدا ... (1)
---------------------------
(1) أنظر البداية والنهاية لابن كثير ج 7 ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 130 _
جرائم معاوية
لم يكن معاوية يتحلى بشئ من خلق الإسلام أو يتأدب بأدبه كما لم ينهل شيئا من العلم كذلك كان حال من تحالف معه وكان من جنده ... وكانت رايته راية دنيا وهوى ولم يكن للدين فيها أدنى نصيب ...
من هنا فإنه يمكن القول أن معاوية ربما يكون أول من ابتدع قاعدة الغاية تبرر الوسيلة وعلى أساسها حطم القيم والمبادئ وانتهك الحرمات وأراق الدماء ونقض العهود وغدر بالمسلمين وبدل أحكام الدين ...
ولقد استعان معاوية بشرار الخلق من أجل تصفية المعارضين والقضاء على شيعة الإمام علي ومحو ذكره ... وعلى رأس الذين استعان بهم معاوية في تصفية المسلمين الملتزمين بالإسلام النبوي من أنصار الإمام بسر بن أرطأة .
تلك الشخصية الدموية التي لم ترحم شيخا ولا امرأة ولا طفلا وارتكبت من الفظائع والمنكرات ما تقشعر له الأبدان ...
تروي كتب التاريخ أن معاوية أرسل بسر بن أبي أرطأة ليستخلص الحجاز واليمن من الإمام علي ، ولما دخل المدينة صعد منبرها وقال : أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس ( يعني عثمان ) ثم قال يا أهل المدينة عليكم ببيعة معاوية وأرسل إلى بني
سلمة فقال ما لكم عندي أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله وكان من شيعة الإمام ثم قام بهدم دورا بالمدينة ، وانطلق إلى مكة ففر منه أبو موسى الأشعري فقيل ذلك لبسر ، فقال ما كنت لأقتله وقد خلع عليا ، وأتى إلى اليمن فقتل عاملها وابنه ثم قتل ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس الذي كان قد فر من وجهه إلى الكوفة ، وقد صاحت في وجه بسر امرأة من بني كنانة قائلة في غضب : يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام ، والله يا ابن أبي أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ ، الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء ... (1)
ولم تقف جرائم بسر عند هذا الحد بل تجاوزه ... إلى ارتكاب جريمة لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الإسلام وهي سبي نساء المسلمين ...
يروي ابن عبد البر : أغار بسر بن أرطأة على همدان ، وكانت في يد علي - وسبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام ، وقتل أحياء من بني سعد ... (2)
ويروى أن بسر بن أرطأة كان من الأبطال الطغاة وبارز عليا يوم صفين فطعنه علي فصرعه فانكشف له ـ أي كشف عورته له ـ فكف عنه كما عرض له مع عمرو بن العاص ... (3)
ويروى بخصوص بسر وعمرو : إنما كان انصراف علي عنهما وعن أمثالها من مصروع أو منهزم لأنه كان لا يرى في قتلا الباغين عليه من المسلمين أن يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسير وتلك كانت سيرته في حروبه في الإسلام (4)
وبسر هذا الذي ارتكب هذه الفظائع من أجل معاوية يعده القوم من الصحابة لأنه ولد في حياة الرسول ورآه وعلى هذا يدخل بسر في دائرة العدالة حسب قاعدة عدالة الصحابة وبالتالي تتحول جرائمه إلى اجتهادات فعلها متأولا ويثاب عليها .
وجميع من تحالف مع معاوية هو من نموذج ابن أرطأة من الصحابة المختلقين الذين تحص بهم معاوية وجاء أهل السنة فأضفوا عليهم المشروعية ...
---------------------------
(1) أنظر الإستيعاب ترجمة بسر بن أرطأة وكذلك الإصابة وأسد الغابة ، والمراجع السابقة ...
(2) أنظر الإستيعاب ...
(3) المرجع السابق ...
(4) المرجع السابق (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 131 _
ومن هنا فقد روى بسر عدة أحاديث في كتب السنن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سنن أبي داود روى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : لا تقطع الأيدي ـ للسارق ـ في السفر .
وعند ابن حبان روى عن الرسول قوله اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وقال فيه ابن حبان : كان يلي لمعاوية الأعمال وكان إذا دعا ربما استجيب له وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها ... (1)
وكان معاوية أول من ابتدأ بقطع الرؤوس في الإسلام ، وكان قد قطع رأس عمار بن ياسر ورأس عمرو بن الحمق وهو أحد الذين قادوا الثورة ضد عثمان ، كذلك فعل مع محمد بن أبي بكر في مصر حين دخلها عمرو بن العاص ووضعوا جثته في حمار ميت وأحرقوها ، وقد أصبحت سنة قطع الرؤوس التي سنها معاوية من السنن التي التزم بها الحكام من بعده ... (2)
ومن جرائم معاوية أمره بسب الإمام علي ولعنه على المنابر ومثل هذه الجريمة لا تعد موقفا شخصيا عدائيا من الإمام إنما هي تعبر عن عدائية معاوية للإسلام النبوي الذي يمثله وخوفه من أن تتسرب مفاهيم هذا الإسلام للمسلمين فيكتشفوا زيفه وضلاله .
ولقد تصدى شيعة الإمام لهذه الحملة الإعلامية الشيطانية التي قادها معاوية ضد الإمام علي بعد مصرعه ومصرع الحسن وسيطرته على الحكم ... وعلى رأس الذين تصدوا لحملة معاوية هذه الصحابي الجليل حجر بن عدي وعدد من أنصار الإمام في ولاية زياد بن أبيه بالعراق .
فكان أن قبض عليه زياد وعدد من رفاقه وأرسلهم إلى معاوية في الشام بكتاب يحرضه فيه عليهم متهما حجرا وأصحابه بالدفاع عن علي والبراءة من عدوه وأهل حربه ، وقد طلب من حجر وأصحابه البراءة من علي ولعنه فأبوا .
---------------------------
(1) أنظر الإصابة ج 1 ، ترجمة بسر بن أرطاة ... وتأمل تعريف الصحابي في مقدمة الإصابة ...
(2) أنظر كتب التاريخ والتراجم (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 132 _
وقال حجر : لا أقول ما يسخط الرب ، فأمر معاوية بقتله وعدد من أصحابه في مرج عذراء عام 51 ه ... (1)
ومن جرائم معاوية تآمره على قتل الإمام الحسن بالسم وتوليه ولده يزيد خليفة له فكان أن شرع للملكية في الإسلام لتذوق الأمة على يد ولده وملوك بني مروان من بعده ألوان العذاب والظلم والاستبداد ...
يقول الحسن البصري : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة ، انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب
الطنابير ، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقتله حجرا وأصحاب حجر فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر ... (2)
وعلى يد يزيد بن معاوية وقعت جريمتان بشعتان : الأولى قتل الحسين وأهل بيته في كربلاء ، والثانية استحلاله مدينة رسول الله وذبح أهلها وهتك أعراض نساءها ...
تروي كتب التاريخ أن أهل المدينة عصوا يزيد وشقوا عصا الطاعة بعد مصرع الحسين فكان أن سير إليهم جيشا استباح المدينة ثلاثة أيام وقتل آلاف الأنفس من الأشراف وغيرهم وهتك أعراض النساء حتى قيل أنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زواج ... (3)
وعلى الرغم من هاتين الجريمتين بالإضافة إلى منكرات يزيد الأخرى فإن فقهاء
---------------------------
(1) أنظر الطبري ج 4 / 190 وما بعدها ، وانظر الإصابة ج 1 / 333 حرف الحاء القسم الأول والإستيعاب بهامشه ج 1 / 381 / 382 .
(2) أنظر الكامل ج 3 / 242 ، والبداية والنهاية ج 8 / 130 ...
(3) أنظر الطبري ج 4 / 372 وما بعدها ، والكامل ج 3 / 310 وما بعدها ، والبداية والنهاية ج 8 / 372 وما بعدها (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 133 _
القوم قد انقسموا على أنفسهم تجاهه ، فمنهم من أجاز لعنه وهم قلة ، بينما توقف أكثرهم فيه بحجة أن ذلك سوف يفتح الباب للعن والده أو غيره من الصحابة ... (1)
يقول الحسن البصري عن أهل الشام : قبحهم الله وبرحهم أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتلون أهله ثلاثا قد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر ذوات الدين لا ينتهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين حجارها وأستارها عليهم لعنة الله وسوء الدار ... (2)
ويلاحظ أن الحسن البصري يلعن أهل الشام بالعموم دون تحديد وهو بهذا يسير على نهج القوم من عدم جواز لعن المعين ، كما أن هذا الموقف كان في العصر العباسي .
أما ابن تيمية فقد دافع من يزيد ونفى عنه كل الشبهات بقوله : كان من شبان المسلمين ولا كان كافرا ولا زنديقا وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم ، وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه وهو لم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله ... لكن أمر بمنع الحسين وبدفعه عن الأمر ولو كان بقتاله ... (3)
---------------------------
(1) أنظر البداية والنهاية ج 8 / 223 ، واستدل أحمد على جواز لعن يزيد بقوله تعالى : فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله سورة محمد ... ثم قال : وأي فساد وقطع رحم أكبر مما ارتكب بزيد ...
(2) أنظر الكامل ج 4 / 170 .
(3) فتاوى ابن تيمية ج 3 / 410 ، وما بعدها ... وابن تيمية معذور في موقفه هذا إذ أن كبير فقهاء الصحابة في نظر أهل السنة عبد الله بن عمر قد بايع يزيد وهدد أهل المدينة الذين خلعوا يزيد بقوله إني لا أعلم عذرا أعظم من أن يبايع رجل ـ يزيد ـ على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ـ أي يزيد ـ إلا كان الفيصل بين وبينه ، ولما جاء جيش يزيد واقتحم المدينة وفعل بها ما فعل بعد مصرع الحسين أمن ابن عمر وحزبه ولم يمسهم بسوء ، وما حدث لأهل المدينة على يد جنود يزيد لا يعد جريمة ولا فاحشة في نظر ابن تيمية ، أنظر البخاري كتاب الفتن ، وانظر تبريرات فقهاء السنة لهذا الحدث الأليم في البداية والنهاية لابن كثير وغيره من كتب التأريخ ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 134 _
إن مثل هذه الجرائم من معاوية وولده إنما تؤكد أن الصراع بينهما وبين آل البيت هو صراع مصيري بين عقيدتين متناقضتين ومتباعدتين ليس بينهما لقاء بأي صورة من الصور .
مثل هذه الجرائم لا يمكن أن تنسب إلى أناس ينتمون إلى الإسلام ... والذين يصفون هذا الصراع بأنه صراع في دائرة الإسلام ويضفون على معاوية صفة المجتهد ويحاولون تبرئة ولده إنما يرتكبون جريمة كبرى في حق الإسلام والمسلمين من أخطر نتائجها تلميع الإسلام الزائف الذي فرضه معاوية على الأمة ...
الخوارج
عاد الإمام إلى الكوفة بعد التحكيم وأخذ يعد العدة لقتال معاوية إلا أن الخوارج الذين خرجوا عليه بعد التحكيم أصبحوا يعيقون مسيرته ويهددون شيعته بعد أن فشلت الجهود السلمية في إعادتهم إلى الصف وإقناعهم بالتنازل عن أفكارهم ...
ولما كثرت اعتداءاتهم على المسلمين دخل الإمام معهم في مواجهة عسكرية فاصلة انتهت لصالح الإمام وقتل فيها عدد كبير منهم فيما سمي بواقعة النهروان ... (1)
والإمام علي في قتاله هؤلاء الخوارج إنما كان على علم وبصيرة بهم وبأحوالهم وجرائمهم كما قاتل عائشة ومعاوية من قبل على علم وبصيرة ... لقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالخوارج كما تنبأ بدور الإمام علي في مواجهتهم ...
يروي مسلم أن الإمام علي بعث من اليمن بذهب إلى الرسول في المدينة فقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة ، فغضبت قريش ... فقال الرسول : إنما فعلت ذلك لأتألفهم ، فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين نائي الجبين محلوق الرأس فقال اتق الله يا محمد ، فقال الرسول فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمننوني ... ثم أدبر الرجل ... فقال الرسول إن من ضئضى هذا
---------------------------
(1) كانت وقعة النهروان في التاسع عشر من صفر عام 38 ه بعد صفين ، أنظر كتب التأريخ ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 135 _
قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ... (1) .
ويقول الإمام علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة ... (2)
ويقول : أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشئ ولا صيامكم إلى صيامهم بشئ ، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لا تكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله ... (3)
ويروى أن الخوارج لما خرجوا على الإمام قالوا : لا حكم إلا لله ، فقال الإمام : كلمة حق أريد بها باطل ، أن رسول الله وصف : ناسا أني لأعرف صفتهم في هؤلاء ... (4)
إن مثل هذه الروايات إنما تكشف لنا مدى خطورة خط الخوارج على الإسلام والمسلمين وهي خطورة لا تقل عن خطورة الخط الأموي ، وارتباط الإمام بمواجهة
---------------------------
(1) أنظر مسلم كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض على قتلهم ...
(2) أنظر مسند أحمد ج 1 ، وأبو داود الطيالسي ، وانظر مسلم والبخاري ...
(3) أنظر مسلم كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج والتحريض على قتلهم ...
(4) المرجع السابق ... (*)