هذين الخطين يعني أن هذين الخطين إنما يمثلان توجها واحدا ويحققان نتيجة واحدة .
ارتباط الإمام بمواجهة هذين الخطين يعني استمرارهما في مواجهة الإسلام النبوي على مر الزمان .
فالإمام علي هو ممثل الإسلام النبوي ورمز الحق على مر الزمان ...
والخط الأموي وخط الخوارج يمثلان الإسلام الزائف ويرمزان للباطل على مر الزمان ... ومنهج الخوارج سوف يظل باقيا وإن كان قد ضرب عسكريا وتقوقع فكريا ـ في مواجهة الإسلام النبوي خط آل البيت .
ولن يتمكن المسلمون من تجنبه واعتزاله إلا بفقه حركة الإمام علي وخط آل البيت ، فمن حاد عن هذا الخط وقع فريسة للخوارج ، ومن استبصر هذا الخط أمكن له أن يحصن نفسه في مواجهته ...
ولقد كان الإمام علي يواجه كل هذه الأحداث وهو مستبصر بها عالم بنتائجها ودلالاتها حتى أنه كان يعلم طريقة موته كما أخبره بها الرسول صلى الله عليه وسلم ... (1)
من هنا فإن نتائج صراع الإمام مع هذه الجبهات الثلاث يمكن أن يمنحنا المعالم التي ترشدنا إلى فقه حقيقة الإسلام ، وفقه حقيقة الرجال الذين موهوا على هذا الإسلام وزيفوا نصوصه ومفاهيمه بما اخترعوه من روايات واجتهادات أضلت الناس عن سبيل الله ... إن ارتباط الإمام بمواجهة عائشة ومعاوية والخوارج ليس محض صدفة إنما هو عمل تشريعي للأمة تهتدي به على الدوام ... اختيار الإمام لهذا الدور اختيار إلهي فلم يكن من بين الصحابة من هو مؤهل للقيام به ، وقد دفعت الأمة ثمنا باهظا لتقاعسها عن نصرة الإمام والالتزام بخطه ... دفعته فرقة وشتاتا ... ودفعته دما ورجالا ... ودفعته فقها وعلما ...
---------------------------
(1) أنظر مسند أحمد وتأريخ بغداد والبداية والنهاية ج 7 / 325 ، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم وأن قاتل الإمام هو أشقى الآخرين ، وروى الإمام : عهد إلي الرسول أن لا موت حتى أؤمر ثم تخضب هذه ـ يعني لحيته ـ من دم هذه يعني هامته ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 137 _
معاوية والحسن
بعد أن قضى الإمام علي على شوكة الخوارج تجهز لقتال أهل الشأم إلا أن أهل العراق افترقوا وتنازعوا أمرهم بينهم مما أدى إلى تعطيل الحملة العسكرية المتجهة لقتال معاوية ...
ولقد عانى الإمام من أهل العراق كثيرا فقد تسببوا بتقاعسهم وتخاذلهم في عرقلة مسيرته وإضعاف شوكته أمام معاوية وأمام الخوارج ...
يقول الإمام في أهل العراق : أما بعد يا أهل العراق فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت قيمها وطال تأيمها وورثها أبعدها ، أما والله ما أتيتكم اختيارا ولكن جئت إليكم سوقا ، ولقد بلغني أنكم تقولون : علي يكذب ، قاتلكم الله فعلى
من الكذب ؟ أعلي ؟ فأنا أول من أمن به ، أم على نبيه ؟ فأنا أول من صدقه ، كلا والله ، ولكنها لهجة غبتم عنها ولم تكونوا من أهلها ، ويل أمه كيلا بغير ثمن ، لو كان له وعاء ، ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) ... (1)
ومثلما خذل أهل العراق الإمام علي خذلوا أيضا الإمام الحسن من بعده ودفعوه دفعا إلى معاوية ثم نقموا عليه واستباحوه ... (2)
يروي ابن حجر نقلا عن الطبري : جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عباده وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت ، فقتل علي فبايعوا الحسن بن على بالخلافة ، وكان لا يحب القتال ولكن كان يريد أن يشترط على معاوية لنفسه فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه على الصلح فنزعه وأمر عبد الله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن ... (3)
---------------------------
(1) أنظر نهج البلاغة ج 1 / خطبة رقم 69 ...
(2) أنظر كتب التأريخ ... والإصابة ج 1 حرف الحاء ، القسم الأول ...
(3) أنظر فتح الباري ج 13 / 63 (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 138 _
ويروي ابن حجر : سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله وسنة نبيه ، ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب ، وبايع معاوية كل من كان معتزلا للقتال كابن عمر وسعد بن أبي
وقاص ومحمد بن مسلمة ، وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل ... وانصرف إلى المدينة وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة والبصرة عبد الله بن عامر ورجع إلى دمشق ... (1)
ويروي البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن : إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ... (2)
ويحاول المؤرخون أن يؤكدوا على أن معاوية هو الذي رغب في الصلح مع الحسن وسعى إليه وأنه عرض عليه المال ورغبه فيه وحثه على رفع السيف وذكره ما وعده به جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الاصلاح به فقبل الحسن العرض وصالح معاوية ... (3)
ويؤكد الكثير من المؤرخين أن الحسن اشترط على معاوية أن يجعل له الأمر من بعده وقبل معاوية هذا الشرط ... (4)
ومن الواضح أن هذه الروايات تفوح منها رائحة السياسة والهدف منها هو التمويه على حركة الإمام الحسن وطمس معالمها وتشويه أهدافها ...
---------------------------
(1) المرجع السابق ...
(2) البخاري كتاب الفتن ، ومناسبة هذه الرواية كما جاءت في أن الحسن لما سار بالكتائب إلى معاوية ، قال ابن العاص لمعاوية : أرى كتيبة لا تولي حتى تدبر أخراها ، فقال معاوية : من لذراري المسلمين ؟ فقال أي ابن العاص ـ أنا ، فقال عبد الله بن عامر و عبد الرحمن بن سمرة نلقاه فنقول له الصلح ، فقبل الحسن الصلح متذرعا بهذه ، الرواية .
أنظر منسد أحمد ج 5 ، والبخاري كتاب الاصلاح بين الناس ، والترمذي كتاب المناقب ،
(3) أنظر فتح الباري ج 13 / 61 ، والإصابة ج 1 حرف الحاء ، والإستيعاب باب الأفراد في الحاء
(4) يروي ابن حجر : لما قتل علي سار الحسن بن علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشأم فالتقوا فكره الحسن القتال وبايع معاوية على أن يجعل العهد للحسن من بعده .
وانظر فتح الباري والإصابة ، (*) =
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 139 _
ويبدو من رواية الطبري أن الإمام الحسن لم يكن يرغب في السير على نهج الإمام علي ومواصلة القتال ضد معاوية وهو بمجرد أن بويع بالخلافة قرر الاستلام لمعاوية وتصفية المعارضين لنهج الصلح معه .
وكيف لإمام يقود أربعين ألف مقاتل بايعوا على الموت أن يميل إلى السلم بهذه البساطة ؟
كيف له أن يضحي بمبادئه وعقيدته وجنده في مقابل أن يشترط لنفسه ؟
إن مثل هذه الرواية تعد طعنا في الإمام علي ونهجه كما تعد طعنا في الإمام الحسن ، فكأنها تشير إلى أن الإمام فشل في القيام بدوره وخلف من بعده شخصا ضعيفا لم يتعلم منه شيئا وهواه مع الدنيا ونفسه وليس مع الآخرة والإسلام ...
وتأتي رواية ابن حجر لتؤكد رواية الطبري وتسير على منوالها في تشويه الإمام الحسن والتمويه على حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين معاوية ، فهي تشير إلى أن الإمام الحسن بايع معاوية وأدخله الكوفة وقبض منه ثمن ذلك ثلاثمائة ألف وألف
ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل وفي هذا تشويه ما بعده تشويه للإمام الحسن وتعتيم ما بعده تعتيم على حقيقة الصراع ... أما رواية البخاري فهي رواية واهية لا يستقيم معناها وطبيعة الحدث وقد غاب عن مخترعيها الحقائق التالية :
---------------------------
=
ويروي ابن عبد البر في الإستيعاب : ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياته لا غير ثم تكون له من بعد ، وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد في ذلك ورأى الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء في طلبها وإن كان عند نفسه أحق بها ...
ويروي أيضا : سم الحسن بن علي ، سمته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي ، وقال طائفة : كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك ...
ويروي أن الحسن لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه يا أخي إن أباك لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه ، فصرفه الله عنها ووليها أبو بكر ، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوف لها أيضا فصرفت عنه إلى عمر ، فلما احتضر
عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم فلم شك أنها لا تعدوه ، فصرفت عنه إلى عثمان ، فلما هلك عثمان بويع ثم نوزع حتى جرد السيف وطلبها فما صفا له شئ منها ، وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النبوة والخلافة فلا أعرفن ما استخفك سفهاء الكوفة
فأخرجوك ... ومن الواضح أن هذه الرواية تهدف إلى التشكيك في الإمام علي والإمام الحسن والحسين ثلاثتهم فهي تصورهم طلاب للملك وهذا من شأنه أن يطمس أطروحتهم وخطهم ويبرر من جهة أخرى سلوك ومواقف الطرف الآخر ...
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 140 _
ـ أن الروايات الأخرى تشير إلى أن الإمام الحسن تنازل لمعاوية لا اصطلح معه ...
ـ أن المصلح إنما يكون عادة من خارج دائرة الصراع لا أن يكون أحد طرفي الصراع ...
ـ أن الرواية لا تفيد الجزم بوقوع الاصلاح ...
ـ أن قوله بين فئتين من المسلمين يعني أن دعواهما واحدة بينما فئة الإمام الحسن وفئة معاوية ليست دعواهما واحده ...
ـ أن الإمام الحسن مات مقتولا بالسم بينما جعل معاوية ولده يزيد خليفة له وفي هذا إشارة إلى أن الصراع لم ينته بين الحسن ومعاوية حتى مقتله ...
أن تولية معاوية ولده يزيد هو غدر بالأمة بأكملها لا بالإمام الحسن وحده وهو برهان ساطع على عدم وجود صلح من الأصل إذ لو كان هناك صلحا ما كان هناك غدرا من قبل معاوية ، فالغدر لا يكون إلا إذا كان معاوية مغبونا بهذا الصلح إن كان
واقعا ... وما حدث بين الحسن ومعاوية إنما هو أمر أشبه بأمر التحكيم لم يرضخ له الإمام الحسن كما لم يرضخ الإمام علي لنتيجته مما اضطر معاوية إلى التآمر والغدر للخلاص من الحسن ...
وتركيز الفقهاء والمؤرخون على رواية صلح الحسن هذه إنما يهدف إلى تبرير سلوك معاوية بنص منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم لا يتطرق إليه الشك من قبل المسلمين ، وهم بهذا قد وقعوا في الفخ الذي نصبه مخترعو الرواية ...
يقول ابن حجر : وفيه ـ أي في حديث الصلح ـ فضيلة الاصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين ، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية وشفقته على المسلمين وقوة نظره في تدبير الملك ونظره في العواقب ، وفيه ولاية المفضول الخلافة
مع وجود الأفضل لأن الحسن ومعاوية ولى كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان ، وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحا للمسلمين والنزول عن الوظائف الدينية والدينوية بالمال
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 141 _
وجواز أخذ المال على ذلك . واستدل به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي ... (1)
لقد بنى الفقهاء أحكاما على رواية الصلح هذه كما هو واضح من كلام ابن حجر الذي بالغ في الاستنباط إلى درجة جواز النزول عن الوظائف الدينية مقابل المال ، وهذا الأمر أن دل على شئ فإنما يدل على أن فقه القوم ينظر إلى الوظائف الدينية نظرة استخفاف .
وهذه النظرة هي التي بررت سلوك الفقهاء مع الحكام وتعايشهم معا ... فما دام الحسن قد تقاضا مالا على الصلح مع معاوية وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكم أن الطائفتين من المسلمين ... وما دام سعد أو سعيد كلاهما أفضل من الحسن فإذا ذلك كله يبرر التنازل عن العقائد والمبادئ من أجل المال ... ويبرر القعود عن نصرة الحق ما دامت الطائفتين من المسلمين ... ويبرر أن يحكم المسلمين المفضول مع وجود الأفضل ... وعلى أساس هذه التبريرات قامت عقائد وتأسست مفاهيم في فقه القوم انعكست على فكرة الدولة والحكم وعلاقة الحاكم بالرعية ، وعلاقة الفقيه بالحاكم ...
---------------------------
(1) أنظر فتح الباري ج 13 / 66 / 67 ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 142 _
كربلاء
كانت وقعة كربلاء آخر صورة من صور الصدام المسلح بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي استتر بعدها الإسلام النبوي بينما أخذ الإسلام الأموي امتداده وانتشاره وسيادته ... منذ ذلك الحين حلت لغة البيان والقلم مكان لغة السيف في خط المواجهة بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي ...
حمل أئمة آل البيت وشيعتهم لواء البيان والقلم لتبصير الأمة بحقيقة الإسلام النبوي ودعوتها للالتزام به ...
وتبنى حكام بني أمية خطة الدفاع عن الإسلام الأموي وتشويه الإسلام النبوي ... لقد سطر الإمام الحسين بدمائه نهج الثورة والمواجهة للإسلام الأموي وكل صور الإسلام الزائفة التي نبعت منه .
ووضع الخطوط العريضة للأمة لتبنى على أساسها التصدي ومواجهة الصور الزائفة للإسلام ...
إن ثورة الإمام الحسين هزت واقع الأمة وشهادته زلزلتها ، ووجهت ضربة قوية إلى معاوية ونهجه أيقظت الأمة من ثباتها وبعثت فيها روح التحدي والمواجهة ...
إن هذه الثورة هي نتاج طبيعي لمرحلة الإمام الحسن ورد مباشر على غدر بني أمية ومؤامراتهم وهي تؤكد للأمة أن الصراع لا زال مستمر ولن ينتهي بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي وتبطل من جهة أخرى كل محاولات التشكيك والتعتيم التي أحاطت بحركة الإمام الحسن ...
وكما حاول الفقهاء والمؤرخون تشويه هوية الصراع بين الإمام علي ومعاوية وبين الإمام الحسن ومعاوية حاولوا أيضا تشويه الصراع الذي دار بين الإمام الحسين وبين يزيد بن معاوية والتعتيم عليه وطمس معالمه وتبييض وجه يزيد أو وجه الإسلام الأموي الذي يمثلونه .
يروي ابن عبد البر : لما مات معاوية وأفضت الخلافة إلى يزيد وذلك في سنة ستين وردت بيعته على الوليد بن عقبة بالمدينة ليأخذ البيعة على أهلها أرسل إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير ليلا ، فأتي بهما فقال : بايعا ، فقالا : مثلنا لا يبايع سرا ، ولكننا نبايع على رؤس الناس إذا أصبحنا فرجعا إلى بيوتهما وخرجا من ليلتهما إلى مكة ، وأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وخرج يريد الكوفة فكان
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 143 _
سبب هلاكه يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بموضع من أرض الكوفة يدعى كربلاء قرب الطف ... (1)
ويتضح من خلال هذه الرواية ما يلي :
ـ أن الإمام الحسين كذب على الوليد بن عتبة وخشى أن يواجهه بالحقيقة ...
ـ أن الإمام الحسين فر من المدينة ليلا خوفا من بطش الوليد ...
ـ أن ثورة الحسين كانت حركة عشوائية كان نتيجتها هلاكه ...
ويروي ابن حجر عن ابن عمر أنه قال عندما رأى الحسين مقبلا : هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم وكانت إقامة الحسين بالمدينة إلى أن خرج مع أبيه إلى الكوفة فشهد معه الجمل ثم صفين ثم قتال الخوارج وبقي معه إلى أن قتل ثم مع
أخيه إلى أن سلم الأمر إلى معاوية فتحول مع أخيه إلى المدينة واستمر بها إلى أن مات معاوية فخرج إلى مكة ثم أتته كتب أهل العراق بأنهم بايعوه بعد موت معاوية فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب فأخذ بيعتهم وأرسل إليه فتوجه وكان من قصة قتله ما كان ... (2)
وهذه الرواية إنما تعضد سابقتها إلا أنها تحاول إثبات أن الإمام الحسين أسهم في تسليم الأمر إلى معاوية مع الإمام الحسن ، وهذا الموقف من شأنه أن يثير الشكوك حول حركته ، فما دام قد شارك في تسليم الأمر إلى معاوية وتقاضى الأموال مقابل ذلك فإن حركته ضد يزيد من الممكن أن تشوبها أغراض دنيوية .
ويروى أن الحسين لما بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل هم بالرجوع ، فقال البعض : والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل فساروا ، وكان عبيد الله بن زياد قد جهز الجيش لملاقاته فوافوه بكربلاء منزلها ومعه خمسة وأربعون نفسا من الفرسان
ونحو مائة راجل فلقيه الحسين وأميرهم عمر بن سعد بن أبي وقاص وكان عبيد الله ولاه بعهده عليها إذا رجع من حرب الحسين ، فلما التقيا قال له الحسين : اختر مني إحدى ثلاث : إما أن ألحق بثغر من الثغور ، وإما أن أرجع إلى المدينة .
---------------------------
(1) أنظر الإستيعاب باب الأفراد في الحاء ...
(2) أنظر الإصابة ج 1 / حرف الحاد القسم الأول (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 144 _
وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية ، فقبل بذلك عمر منه وكتب إلى عبيد الله فكتب إليه لا أقبل منه حتى يضع يده في يدي ، فامتنع الحسين فقاتلوه فقتل معه أصحابه وفيهم سبعة عشر شابا من أهل بيته ثم كان آخر ذلك أن قتل وأتى برأسه إلى عبيد الله بن زياد فأرسله ومن بقي من أهل بيته إلى يزيد ومنهم علي بن الحسين وكان مريضا ومنهم عمته زينب فلما قدموا على يزيد أدخلهم على عياله ثم جهزهم إلى المدينة ... (1)
وهذه الرواية تعد من أسوأ الروايات التي رويت حول الصراع بين الإمام الحسين ويزيد فهي تضع الإمام الحسين في موضع غاية في المهانة بينما تبيض وجه يزيد ... وأول ما تحاول إثباته هذه الرواية هو أن الإمام الحسين أصيب بالإحباط فور علمه
بنبأ مقتل مسلم بن عقيل وقرر العودة وفي هذا إشارة إلى أن خروجه لم يكن بهدف الثورة كما لم يكن يقوم على أساس خطة منظمة ... وما تحاول الرواية إثباته ثانيا هو أن أصحاب الحسين قد خالفوه وأصروا على مواصلة المسير طلبا للثأر .
أي أن موقفهم هذا كان مجرد رد فعل لمقتل مسلم ولم يكن نابغا من إيمانهم بالإسلام النبوي الذي يقاتلون تحت لواءه وبالإمام الحسين قائدهم ... ولقد وجهت هذه الرواية طعنة شديدة للإمام الحسين ولأبيه وأخيه وخط آل البيت والإسلام النبوي الذي
يمثله حين طرحت على لسانه هذا الطرح الانهزامي الخانع الذي يعكس شخصية منهارة قدمت التنازلات فور حدوث المواجهة ومن قبل وقوع الصدام ، وبدا وكأن الإمام الحسين لم يكن يحسب حدوث مواجهة ولم يكن يتوقع أي صدام مع بني أمية ... فحين يطلب منحه الفرصة للذهاب للقتال في ثغر من الثغور فكأنه بهذا يطلب تجنيده في جيوش في أمية ليقاتل تحت رايتهم ، وما دام هو يحمل هذا التصور الذي لا يعكس أية صورة من صور العداء لبني أمية فلماذا خرج من الأساس ... ؟
---------------------------
(1) المرجع السابق ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 145 _
وحين يطلب الرجوع إلى المدينة كأنه بهذا يضحي بكل القيم والمبادئ التي آمن بها وتبعة الناس عنى أساسها من أجل النجاة بنفسه ... وحين يطلب أن يضع يده في يد يزيد فكأنه بهذا يضحي بالإسلام النبوي وجهاد أبيه وأخيه وينفي وجود أية بوادر عداء وصراع بين الحق الذي يمثله والباطل الذي يمثله يزيد وبني أمية ...
وكيف للإمام الحسين يطلب وضع يده في يد يزيد ويقدم مثل هذه التنازلات ثم في النهاية يرفض أن يضع يده في يد عبيد الله بن زياد ويقاتل على ذلك ... ؟
أن الذي يقدم مثل هذه التنازلات لا تعجزه مثل هذه الخطوة ولا تشكل له حرجا ، وهو قد قدم هذه التنازلات حتى يتقي شر القتال فكيف يوقع نفسه فيه بهذا السبب ... ؟
أن مثل هذه الروايات وغيرها إنما هي من صنع السياسة واخترعت خصيصا لخدمة الخط الأموي ونصرته وضرب خط آل البيت وتشويهه ...
تروي كتب التأريخ أن عبيد الله بن زياد صعد منبر المسجد الجامع في الكوفة وخطب في الناس بعد مجزرة كربلاء قائلا : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته ... (1)
ويحاول مؤرخو وفقهاء البلاط الأموي أن يدافعوا عن يزيد وتبرأته من تهمة سفك دم الحسين مستغفلين عقل الأمة بروايات واهية لا يستريح لها عقل ولا تطمئن لها نفس ...
يروى أن يزيد حين رأى رؤوس الحسين ورفاقه بكى وقال : كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه ... (2)
---------------------------
(1) أنظر الطبري والكامل والبداية والنهاية ...
(2) أنظر الطبري ج 4 / 352 ، والكامل ج 2 / 298 (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 146 _
ورغم ذلك لم تثبت لنا الروايات التي جاءت عن طريق مؤرخي البلاط أن يزيد أنزل أية صورة من صور العقاب بابن سمية ( ابن زياد ) بل لم يعاتبه على هذا الفعل من الأصل ... وهذا الأمر إن دل على شئ فإنما يدل على تواطئ يزيد وموافقته بل وتحريضه على قتل الحسين وأهل بيته .
وهذا هو السلوك الذي تلائم معه ومع شخصيته ، وهذا هو الموقف الذي يتبناه حكام بني أمية في مواجهة آل البيت ... ولقد قالها عبد الملك بن مروان حين ارتقى منبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة عام 57 ه : أني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف ، والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه ... (1)
---------------------------
(1) أنظر الكامل ج 4 ، والمراجع التأريخية الأخرى ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 147 _
أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم مرتكزات الإسلام النبوي في كثير من وصاياه وتوجيهاته للأمة غير أن سيادة الإسلام القبلي بعد وفاته ثم الإسلام الأموي بعد ذلك قد أديا إلى التعتم على هذه المرتكزات وتضليل المسلمين عنها كوسيلة لضرب الإسلام النبوي ومحوه من واقعهم ...
فهذه الروايات التي جاءت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ، في الإمام علي إنما تؤكد للأمة أن الإمام علي هو مرتكز الإسلام من بعده ...
وهذه الروايات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في شيعة على من صحابته إنما تؤكد أن هؤلاء الصحابة هم ركيزة الإمام وركيزة هذا الإسلام وأنصاره ...
كذلك الروايات الواردة في القرآن الذي ورثه الرسول للأمة إنما تؤكد أن هذا القرآن هو الركيزة الأساسية لهذا الإسلام ... ولقد عمد أنصار الخط الأموي إلى تشويه القرآن والإمام علي وآل البيت وشيعتهم من الصحابة والتابعين واختراع بدائل تحل محلهم ...
فبدلا من القرآن الذي ورثه الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمدوا مصحف عثمان ... وبدلا من الإمام وآل البيت اعتمدوا عائشة ومعاوية وابن عمر وأبو هريرة وابن العاص وغيرهم .
وفي مواجهة الروايات الواردة في الإمام وآل البيت وشيعتهم اخترعوا روايات مناقضة لها تبارك خطهم وتضفي المناقب عليهم ...
إن الإسلام النبوي يرتكز على ركيزتين أساسيتين هما :
ـ القرآن ...
ـ آل البيت ...
ـ القرآن
لقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة بالقرآن وحث عليه في روايات ومواضع كثيرة كانت آخرها حجة الوداع حيث أوصى الأمة بضرورة التمسك بالكتاب والعترة آل البيت ...
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 149 _
يروي البخاري عن طلحة قال سألت عبد الله بن أبي أوفى أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا ، فقال : كيف كتب على الناس الوصية ، أمروا بها ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله ... (1)
ويروى : عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه ... (2)
ويروى : إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ... (3)
ويروى : تعاهدوا القرآن ، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها ... (4) )
ويروى : اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ... (5)
ويروي مسلم عن الرسول قوله في خطبة الوداع : ... كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ... (6)
ومثل هذه الروايات إنما تشير إلى أن القرآن كان موجودا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة يتناولونه من الرسول ، وقد برز من بينهم من هو ماهر فيه ملتزم به يحفظه عن ظهر قلب ، وعلى رأس هؤلاء كان الإمام علي وابن مسعود وأبي ابن كعب ومعاذ بن جبل ...
روى البخاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب ...
---------------------------
(1) أنظر البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب 18 .
(2) المرجع السابق باب 21 ...
(3) المرجع السبق ...
(4) المرجع السابق باب 23 ...
(5) المرجع السابق باب 37 ...
(6) أنظر مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل على ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 150 _
ويبدو أن أنصار الخط الأموي لم تعجبهم هذه الرواية على الرغم من عدم وجود على فيها لكون الأربعة من أنصار الإمام ومن المناهضين لهم فاخترعوا رواية أخرى تناقضها فيها ثلاثة آخرين ...
يروي البخاري عن أنس قال : مات الرسول ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (1) .
ويروى عن ابن مسعود قوله : والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت (2) .
إلا أن أبا بكر حين قام بجمع القرآن لم يستعن إلا بزيد بن ثابت وحده ، وعثمان حين ألزم الأمة بمصحف واحد اختار مصحف حفصة الذي كان قد جمعه أبو بكر ولم يختر مصحف الإمام علي أو ابن مسعود أو أبي بن كعب أو ابن عباس ولم يستعن بأي من هؤلاء لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان حتى أنه كان هناك مصحف لدى عائشة أيضا لم يستعن به (3) .
إن هذا القرآن الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقاه منه الإمام علي ابن مسعود وابن عباس وأبى وغيرهم هو ركيزة الإسلام النبوي التي حض عليها ووصى بها .
وإن ما ورثه الإمام عن النبي من تفسيرات حوله وورثها عنه شيعته هي الدافع الفعلي الذي دفع أنصار الإسلام القبلي ومن بعدهم أنصار الإسلام الأموي إلى ضرب هذا القرآن واستبداله بقرآن آخر لا يحوي هذه التفسيرات وليس مرتبا على الترتيب النبوي (4) .
---------------------------
(1) أنظر البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب 8 ...
(2) المرجع السابق ، وأنس الراوي من أنصار معاوية والخط الأموي ...
(3) المرجع السابق ، ويلاحظ أن هذه الرواية جاءت على لسان الإمام علي بنفس النص .
أنظر طبقات ابن سعد ج 2 / 338 ...
(4) أنظر البخاري ، وكتب تأريخ القرآن ، وفصل القرآن في : كتابنا الخدعة ...
(5) أنظر المراجع السابقة ، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 151 _
وقوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) (1) يحوي الدليل القاطع على أن القرآن كان مجموعا في عهد الرسول وأن الرسول تلقى بيانه من جبريل والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : أين بيان القرآن ، ولماذا لم يظهر في عملية الجمع ... ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكشف لنا حقيقة المؤامرة التي نسجت خيوطها بعد وفاة الرسول فالقرآن النبوي ببيانه لا يتماشى مع الحظ القبلي والأموي من بعده ، فمن ثم كانت الحاجة إلى تجريد القرآن من هذا البيان حتى يمكن أن يتماشى مع الاتجاه السائد ...
---------------------------
(1) سورة القيامة وانظر الخدعة فصل القرآن ...
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 153 _
الركيزة الثانية : الصحابة
ولقد كانت العناصر التي تحالفت مع معاوية والتي أمكن استقطابها من قبله بمثابة صمام أمن للخط الأموي وركيزة أساسية في بناءه ...
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 155 _
ومن أبرز العناصر التي تحالفت مع معاوية وبني أمية من بعده ودعمت الإسلام الأموي في مواجهة الإسلام النبوي : عمرو بن العاص وعائشة والمغيرة بن شعبة وأبو هريرة وابن عمر وسمرة بن جندب وأنس بن مالك وزيد بن أرقم والأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله .
وجميع هؤلاء من الصحابة الذين احتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم واستثمرهم معاوية ... والمتابع لسيرة هؤلاء في كتب الرجال وكتب التأريخ يتبين له أن التزامهم بنهج الرسول كان ضعيفا ومشبوها وقد وردت على لسان الرسول أحاديث كثيرة بذمهم وكذلك على لسان الإمام علي ولا ترى في كتب السنن أية فضائل لهؤلاء من الممكن أن ترفع مكانتهم وتخرجهم من دائرة الشك (1) .
ويروى أن عليا كان يقنت في صلاة الفجر وفي صلاة المغرب ويلعن معاوية وعمرا والمغيرة والوليد بن عقبة وأبا الأعور والضحاك بن قيس وبسر بن أرطأة وحبيب بن مسلمة وأبا موسى الأشعري ومروان بن الحكم وكان هؤلاء يقنتون عليه ويلعنونه (2) .
ويقول الإمام علي في ابن العاص : أنه ليقول فيكذب ويعد فيخلف ، ويسأل فيحلف ويسأل فيبخل ويخون العهد ويقطع الآل ـ الرحم ـ إنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه أنية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة ـ ولاية مصر (3) .
وقال في مروان بن الحكم حين أسره يوم الجمل : ... لا حاجة لي في بيعته إنها كف يهودية ، لو بايعني بكفه لغدر بسبته ، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر : الوليد ، سليمان ، يزيد ، هشام (4) .
---------------------------
(1) أنظر كتب تأريخ القرآن ...
(2) أنظر كتب التراجم ، وانظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
(3) شرح نهج البلاغة
(4) نهج البلاغة ج 1 / خطبة رقم 82 ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 157 _
الركيزة الثالثة : الروايات
ولم يكن وقوف هؤلاء الصحابة مع معاوية ومناصرتهم للخط الأموي يقف عند حد القتال معه ونصرته بالسيف والبيان ، بل تجاوز هذا الحد إلى اختراع الروايات المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم والتي تدعم معاوية وتشكك في الإمام علي وتضفي المشروعية على الإسلام الأموي .
وهذه الروايات إنما تنقسم إلى قسمين :
الأول : روايات خاصة بضرب الإسلام النبوي والتشكيك في الإمام علي ...
الثاني : روايات خاصة بالمسلمين وإخضاعهم للإسلام الأموي ...
ومنذ ذلك الحين انقسمت الروايات الواردة في كتب الأحاديث إلى قسمين :
* قسم من رواية أنصار معاوية والإسلام الأموي ...
* وقسم من رواية أنصار الإمام علي والإسلام النبوي ...
ولقد دعمت السياسية رواة القسم الأول وسلطت الأضواء على أحاديثهم المنسوبة للرسول والكتب التي تحويها في الوقت الذي قامت بالتعتيم على رواة القسم الثاني والتشكيك في رواياتهم والكتب التي تحويها ...
ومن هنا قدم البخاري على غيره من الكتب لكونه يحوي روايات أنصار الإسلام الأموي ولا يحوي شيئا من الروايات التي تدعم الإسلام النبوي ...
والروايات الخاصة بضرب الإسلام النبوي أكثر من أن تحصى وهي روايات تقود إلى التشكيك في الإمام علي ويبدو أن القوم لم يكتفوا بهذا فاخترعوا روايات خاصة بالإمام لتهز مكانته وقدره في نفوس المسلمين ...
ومن هذه الروايات القول المنسوب لرسول صلى الله عليه وسلم : الناس تبع لقريش ، ولا يزال هذا الأمر ـ الحكم ـ في قريش ما بقي منهم اثنان (1) .
---------------------------
(1) أنظر البخاري ومسلم وكتب السنن (*) .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 160 _
والقول الأخر : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : كتاب الله وسنتي (1) .
وحديث شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر وعثمان بدخول الجنة (2) .
وحديث ؟ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ (3) .
وحديث أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان أي أبو بكر وعمر وعثمان (4) .
وحديث خصومه على وعم النبي العباس بسبب المال وسب بعضهما البعض (5) .
وحديث خطبة الإمام علي ابنة أبي جهل على فاطمة الزهراء وغضب الرسول لذلك (6) .
وحديث أفضل الرجال أبو بكر ثم عمر ، ثم عثمان (7) .
ومثل هذه الروايات إنما تهدف إلى دعم الإسلام القبلي ورموزه التي تشكل من جانب آخر دعما للإسلام الأموي الذي ارتكز عليه ونبع منه ، وهي من جهة أخرى تشكل طعنا في الإسلام النبوي الذي رفع رايته الإمام وتشكل أيضا طعنا شخصيا له بتشويه صورته وتقديم الآخرين عليه ...
---------------------------
(1) مسلم كتاب الإمارة وانظر موطأ مالك والحاكم ...
(2) رواه مالك في الموطأ والحاكم في مستدركه ...
(3) البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة ... باب فضل أبي بكر وعمر وعثمان ...
(4) أنظر مستدرك الحاكم ...
(5) البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة ...
(6) أنظر البخاري ، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب / 5 ...
(7) البخاري ، كتاب النكاح ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 161 _
أما الروايات الخاصة بالمسلمين والتي تهدف إلى إخضاعهم لخط بني أمية فهي أكثر من أن تحصى :
يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : من يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني (1) .
ويروى : السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك (2) .
ويروى : على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره (3) .
ويروى : إسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (4) .
يروى : تسمع وتطيع للأمير وأن جلد ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع (5) .
ويروى على لسان معاوية أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس (6) .
ويروى : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية (7) .
ويروى : من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية (8) .
---------------------------
(1) البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، ويروي البخاري على لسان علي أنه أقر بتقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه .
أنظر باب فضل أبي بكر ...
(2) مسلم كتاب الإمارة وانظر البخاري ...
(3) المرجعين السابقين
(4) مسلم كتاب الإمارة .
(5) المرجع السابق ...
(6) المرجع السابق ...
(7) المرجع السابق ، وقد روى هذا الحديث عدة رجال من أنصار معاوية مثل جابر بن سمرة ، وابن عمر ، والمغيرة بن شعبة .
ومروان الفزاري انظر باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق .
(8) المرجع السابق ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 163 _
ويروى : من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ... (1) .
ويروى : من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ... (2) .
وهناك روايات توجب عدم قتال الحكام والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة ... (3) .
ومن الواضح أن هذه الروايات من اختراع السياسة وليس من المعقول أن يحض الرسول على دعم المنكر والظلم وطاعة الحكام الفجرة الذين يسلبون الناس أموالهم ويعذبونهم ، وهل جاء الإسلام ليقر الظلم والفساد ... ؟
وإذا كان الحاكم يسلب الأموال ويجلد الظهور فهو بهذا يكون طاغية أو قاطع طريق وهل مهمة الحكام إلا حفظ الأمن والحقوق والعدل بين الناس ودفع المظالم عنهم ... ؟
إن مثل هذه الروايات إنما تعكس الوجه الحقيقي للإسلام الأموي الذي ساد الأمة حتى يومنا هذا ، فهو إسلام استسلامي مداهن للحكام يبرر الظلم والفساد ... وهو إسلام ينصر الحكام على الشعوب وينصر الأغنياء على الفقراء ...
وهو إسلام يضخم الفروع على حساب الأصول ... وهو إسلام يزرع بذور الشقاق والانقسام في الأمة ... وهو إسلام يهين الرسول وآل البيت ... (4) .
---------------------------
(1) المرجع السابق ...
(2) المرجع السابق ...
(3) المرجع السابق ، وما أسهل إقامة الصلاة على الحكام ما دامت سوف تكسبهم طاعة الجماهير وانقيادها لسياساتهم ...
(4) أنظر لنا كتاب الخدعة ، فصل الرسول والنساء ، وانظر عقائد السنة وعقائد الشيعة باب الرجال ... (*)
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 164 _
هذه هي صورة الإسلام الأموي وأهم معالمه وهي على ما يبدو تتناقض تماما مع صورة الإسلام النبوي الذي رفع رايته الإمام علي الذي يرتبط بالجماهير ويتصدى للحكام وينصر الفقراء والمحرومين ويوحد صفوف الأمة ويركز على الجوهر والأصول ويكرم الرسول ويضعه في مكانته الشرعية كما يضع آل البيت في مكانتهم .
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 165 _
إنعاكسات الإسلام الأموي
ـ الدولة الإسلامية ...
ـ الفكر الإسلامي ...
ـ التيارات الإسلامية ...
السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام المحمدي والإسلام الاموي
_ 167 _
أربعة خطوط برزت بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
خط آل البيت بقيادة الإمام علي وهو يمثل الإسلام النبوي ...
وخط أبو بكر وعمر وهو يمثل الإسلام القبلي ...
وخط عثمان ومعاوية وهو يمثل الإسلام الأموي ...
وخط الخوارج وهو يمثل الإسلام القشري ...
وقد انتهى الإسلام القبلي بمصرع عمر وبقيت في الساحة الخطوط الثلاثة الأخرى ... بقي خط آل البيت في أبناء الإمام علي من بعده ثم في شيعتهم من بعدهم ... وبقي الإسلام الأموي في كنف الحكومات حتى يومنا هذا ...
وبقي الإسلام القشري منبوذا ومحاصرا حتى تبنته الحركة الوهابية وقامت بنشره الدولة السعودية بين صفوف المسلمين والتيارات الإسلامية المختلفة في كل مكان ...
ولقد تغلغل الإسلام الأموي في الفكر الإسلامي على مر الزمان حتى صبغه بصبغته ثم جاء الإسلام القشري ليلقي بظلاله على هذا الفكر مع الحقبة النفطية المعاصرة بينما قدر للإسلام النبوي أن يظل محصورا في فئة قليلة مستضعفة هي فئة الشيعة .
ويظل بعيدا عن الأضواء محاربا من الحكومات حتى قيض الله له دولا رفعت رايته وقوت شوكته في عدة بقاع ولفترة من الزمن ، ومن أشهر هذه الدول الدولة الفاطمية في مصر ، والدولة الصفوية في إيران ، إلا أن البروز المعاصر للإسلام النبوي على يد الثورة الإسلامية في إيران يعد أكثر الصور فاعلية وتأثيرا في التاريخ الإسلامي إذ بعثت الروح في هذا الإسلام بعد أن طمرته السياسة قرونا طويلة ...
من هنا فنحن اليوم نعاصر ثلاث صور للإسلام :
الأول : الإسلام الحكومي الذي تفرخ من الإسلام الأموي ...