ـ هذا دين لم نعرفه من قبل .
ـ هذا ابن أخي محمد بن عبدالله وامرأته خديجة وهذا الفتى عليّ بن أبي طالب وما على وجه الأرض من يعبد الله بهذا إلاّ هؤلاء الثلاثة .
ساد الوجوم وجوه الرجال وهم يراقبون موكباً صغيراً يغادر الكعبة حتى توارى خلف جدران البيوت .
وتمر الأيام وتمرّ الشهور ويكبر الحمل . . . ويتألّق وجه خديجة بالنور . . . يشتدّ سطوعاً . . . وتبدأ آلام المخاض .
وبين صخور ( حراء ) كان محمّد يتأمل مكة ، يفكر في مصير العالم وطريق الانسان .
بدا وجهه حزيناً كسماء مزدحمة بالغيوم . . . يفكّر في قومه . . . يحزن من أجلهم . . . يريد أن يفتح عيونهم على النور الذي اكتشفه فوق الجبل ، لكنّهم صدّوا عنه . . . اعتادوا حياة الخفافيش في الظلام . . . أعرضوا عن ملكوت السماوات . . . فسقطوا في حضيض الأرض. . . ضاعوا بين عناصر التراب والطين .
لم يدعوا شيئاً إلاّ وفعلوه . . . آذوه . . . سخروا منه . . . عيّروه ، قالوا :
إنه ساحر كذّاب . . . أبتر سيموت ويموت ذكره . . . فليس له ولد .
شعر بسكين حادّة تغوص في قلبه وهو يتذكّر سخريتهم منه . . . ينادونه بالأبتر ، النبي يفكّر في قومه حزيناً حزن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم ، آخر الأنبياء يفكّر غير ملتفت لما يجري حوله .
تكهرب الفضاء . . . غلالة شفافة كالضباب تملأ المكان . . . وقد غمر الصمت جميع الأشياء . . . اختفت الأصوات . . . تلاشت ولم يعد ( محمّد ) يسمع شيئاً سوى كلمات . . . تنفذ في اعماقه نفوذ النور في المياه الرائقة . . .
كلمات مؤثّرة عميقة جفّ لها ريقه . . . تصبب لها جبينه . . . فبدا كحبّات لؤلؤ منثور . . . الكلمات تضيء في أعماقه كالنجوم :
ـ إنّا أعطيناك الكوثر ، فصلّ لربّك وانحر ، ان شانئك هو الأبتر .
وانقلب الرسول إلى بيته فرحاً . . . ولما دخل على زوجته وجدها هي الأخرى فرحة . . . تنظر اليه بعينين تفيضان حبّاً . . . هتفت بصوت يشوبه اعتذار :
ـ إني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى .
تمتم النبي وهو يحتضن هدية السماء بحب :
ـ إنّا أعطيناك الكوثر . . . اسميها فاطمة . . . ليفطمها الله من الشرور .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 13 _
كلؤلؤة في حنايا صدفة بدت فاطمة بفمها الدقيق . . . بعينيها الواسعتين كنافذتين تطلاّن على عالم واسع . . . عالم يموج بالصفاء والسلام .
أضاه الأمل منزلاً صغيراً من منازل مكّة . . . وتفتّحت فاطمة للحياة كما تتفتح الورود والرياحين ، ونمت في أحضان دافئة تنعم بقلبين ينبضان حبّاً لها وبنظرات تغمرها حناناً ورأفة .
وكبرت فاطمة . . . نمت وبدأت تعي شيئاً ممّا يجري حولها تنظر إلى أمّها يغمره الحزن . . . وربّما شعرت بمرارة تعتصر قلب أبيها وهو لا تعرف بعد سبباً لذلك . . . تهفو نحو أمّها . . . تقبل أباها . . . فتعود البسمة الى الوجهين الحزينين . . . وتشرق الفرحة من جديد كما تشرق الشمس من بين الغيوم لتغمر الأرض بالدفء والنور والأمل .
وتمرّ الأيام . . . وتنمو فاطمة . . . ويعصف القدر بقسوة . . . وتجد الطفلة نفسها بين ذراعي والدتها في واد غير ذي زرع . . . حيث أيام الجوع والخوف و الحرمان . . .
تصغي إلى أنّات المظلومين . . . وتتأمّل سيوفاً مسلولة في الظلام ، كبرت فاطمة في الشعب ، فطمت اللبن ودرجت فوق الرمال ، ومرّ عام .
ومرّ بعده عامان آخران . . . فجأة اختطف القدر امّها . . . فقدت نبعاً ثرّاً من الحبّ . . .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 14 _
فاطمة تبحث عن أمّها ، تسأل أباها الحزين .
ـ أبه أين امي ؟
ويجيب الأب المقهور وهو يحتضن ذكراه الغالية :
ـ أمّك في بيت من قصب لا تعب فيه ولا نصب .
تلوذ بالصمت . . . تفكّر في أمّها ، عيناها تبحثان عن نبع سماوي ولكن دون جدوى .
كبرت فاطمة في زمن الحرمان . . . في زمن الحصار . . . في زمن اليتم . . . في زمن القهر . . . لهذا نشأت الطفلة نحيلة القوام كغصن كسير ، رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحة حزينة منظراً ساكناً يغمره الصمت . . . تفكّر . . . تنطوي على نفسها في استغراق يشبه صلاة الأنبياء ، نشأت فاطمة في زمن الجدب . . . فغدا عودها صلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور . . . فبدت أكبر من سنّها ونهضت تملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل والدتها . . . نهضت سيّدة صغيرة . . . أمّاً رؤوماً لوالدها الذي أضحى وحيداً .
وتمرّ الأيام . . . وذات مساء خرج المحاصرون في ( الشعب ) الى مكّة ، عادوا إلى ضجيج الحياة لتبدأ فصول اخرى من تاريخ مثير يزخر بالأحداث منذ الساعة التي التقت فيها السماء بالأرض في غار حراء .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 15 _
ملأ رغاء الجمال فضاء مكّة ، فقد آبت القوافل التي انطلقت الى اليمن ، في رحلة الشتاء ، كان الجوّ بارداً والسماء تزدحم بغيوم رمادية ، وصخور الجبال الجر داء بدت وكأنها تتضرّع إلى السحب تنشدها قطرات المطر .
وشيئاً فشيئاً خفتت الأصوات وآبت الطيور إلى أوكارها ساعة المغيب ، وبدا البيت خالياً موحشاً كصحراء مقفرة ، كانت ( فاطمة ) مستغرقة في تفكير عميق تطوف في خيالها سورة ( مريم ) تلك الفتاة البتول التي انقطعت عن العالم في صومعتها تعبد الله تتبتل اليه وحيدة . . . تستكشف آفاق السماء متخففة من أثقال الأرض.
جلست فاطمة تترقب أوبة أبيها ، وبدا المنزل خالياً من كل شيء ( لا زينب ، ولا رقية ) ولا ( ام كلثوم ) ذهبن ثلاثتهن الى بيوت أزواجهنّ ، زينب استقرت في بيت ( أبي العاص بن الربيع ) و ( ام جميل )
وكانت صديقة ( رواية )
_ 16 _
اختطفت ( رقية ) و ( ام كلثوم ) لولديها ( عتبة ) و ( عتيبة ) ، وكل هذا يهون أمام مصيبة كادت أن تعصف بكلّ شيء . . . لقد رحلت أمّها . . . ( خديجة ) ذلك النبع المتدفق حناناً وحبّاً ودفئاً . . .
ـ لك الله يا امّي . . . ما كادت أعوام الحصار تمضي بأيّامها الصعبة ولياليها المضنية حتى ودعتي الدنيا ليبقى والدي وحيداً وهو أشدّ الناس حاجة الى من يؤازره ويقف إلى جانبه . . . ولكن يا امّاه سأجهد نفسي لأملأ الفراغ الذي جثم على البيت بعد رحيلك ، سأكون له بنتاً وامّاً . . . سأمسح دموعه بيدين تشبهان يديك وسأبتسم له كما كنت تضيئين قلبه بابتسامتك .
ولكن يا أمّاه أنا ما أزال صغيرة ليتك صبرت قليلاً ، أبي كان قويّاً بك . . . وكان يتحدّى العاصفة بعزم ( ابي طالب ) شيخ البطحاء تكفله صغيراً وحماه كبيراً غير انكما تركتماه وحيداً واسترحتما من هم الدنيا وغمّها وحقّ لكما أن تستريحا وقد عصفت بكما النوائب من كل مكان وسدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة وحراباً ، أجل يا أمي . . . لقد اظلمت الدنيا نشر المساء ستائره السوداء وهذا عامنا عام حزن . . . ها أنا انتظر أبي . . . أبي الذي يريد تبديد الظلام بنور الإسلام . . . ولكن مكّة ترفض ذلك . . . تتمنع وفيها من يحبّ حياة الظلمات كما الخفافيش لا تهوى النور ولا تحبّ النهار .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 17 _
سمعت ( فاطمة )خطىً هادئة كنبضات قلب يخفق أملاً ، خطىً تعرفها فاطمة . . . لهذا هبّت كفراشة تهوي الى النور بقوامها النحيل بعينيها الواسعتين سعة الصحرا وبابتسامتها المشرقة بالأمل . . . ولكن لم تسمّرت ( فاطمة ) في مكانها كأن خنجراً يطعن قلبها طعنة نجلاء . . .
عاد أبوها حزيناً بدا وجهه كسماء مدلهمة بسحب من رماد ، كان ينقض عن رأسه ووجهه التراب والأوساخ وتمتم الرسول بحسرة :
ـ والله ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه إلاّ بعد موت أبي طالب .
اهتزّت ( فاطمة ) لهول ما ترى وبدت كسعفة أغضبتها الريح . . . يا لصبر الأنبياء . . . شعرت بالانكسار ، كيف سوّلت لذلك السفيه نفسه أن يمسّ بالسوء وجها يسطع بالنور . . .
بكت بانكسار . . . وسالت دموعها حزينة حزن سماء تمطر على هون .
مسح الأب دموع ابنته ثم قال وعيناه تشعّان أملاً :
ـ لا تبكي يا فاطمة . . . ان الله ناصر أباك على أعداء رسالته .
انحسرت الغيوم عن السماء فبدت صافية مشرقة وعادت الابتسامة الى الوجه الملائكي . . . ولكن عتباً كان يموج في قلبها :
ـ ترى أين كان فتى شيخ البطحاء . . . وهو لا يكاد يفارق أباها . . .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 18 _
يتبعه كظلّه . . . يدفع عنه أذى السفهاء من قريش ونسيت فاطمة كلّ شيء بعد أن ناداها أبوها فخفّت اليه كحمامة بريّة تهفو إلى عشّها .
ابتسمت فاطمة . . . فانعكست ابتسامتها في وجه أبيها . . . ابتسم محمّد . . . أشرقت على قلبه شمس تغمره بالدفء والأمل والحياة . . . يالهذه الحورية الصغيرة ذكرى خديجة . . . وباقة ورد من جنّات السماء .
جلست فاطمة بين يدي والدها النبيّ زهرة تتفتح . . . تتشرب كلمات الله، وتضيء الكلمات قلبها كنجوم في سماء صافية .
وتمر ثلاثة أعوام ، ونمت فاطمة . . . وتفتحت للحياة كما تتفتح الأزهار في الربيع .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 19 _
شيء يلوح في سماء مكّة . . . لعلّها خيوط مؤامرة تحوكها قريش كما تحوك العنكبوت بيتاً هو أهون البيوت .
أبو جهل بدا مربّد الوجه غاظه محمّد . . . وقد أصبح حديث العرب في الجزيرة . . . السياط تنهال على فقراء المسلمين ، والاسلام ينتشر كنهر دافق تنثال مياهه على الشطآن الرملية .
وأبو جهل لا يروق له ذلك ، غاظه رحيل محمّد الى الطائف يدعو قبائلها الى دينه ، وأفقده صوابه أن يبايعه رجال من يثرب . . .
لقد مات أبو طالب وانتهت زعامته . . . واختفت خديجة وتبددت ثروتها . . . وآن لمحمّد أن يموت . . . ليمت هذا المتمرّد الذي يريد تحطيم الأصنام آلهة الأباء والأجداد وحارسة قوافلنا ومصدر هيبتنا ، ولكن كيف السبيل إلى قتل محمّد . . . إنه لم يعد وحيداً . . . يحوطه رجال أشدّ من الحديد بأساً . . . انّه لاينسى صفعة حمزة صيّاد الاسود ، ولكن
وكانت صديقة ( رواية )
_ 20 _
حمزة قد فرّ من مكة ، ترك ابن أخيه وهاجر ، واذن فان كلّ شيء مهيأ للضربة القاضية ، ويالها من فكرة رهيبة تفتقت عن شيطان مكّة .
شمّت ( فاطمة ) عبير الوحي ورأت أباها وجبينه يتصبب عرقاً . . . اكتنفه جبريل يسرّه كلمات عظيمة يكشف له خيوط العنكبوت .
غمر الليل مكّة ، ملأ أزقّتها بظلمة مخيفة ، وبدت النجوم وهي تومض من بعيد لآلئ متناثرة فوق عباءة سوداء . . .
تقاطر رجال من مختلف القبائل يخفون سيوفاً وخناجر كأشباح ، الليل كانوا يمرقون خلف أبواب مكّة الموصدة وأبو جهل ينتظر اللحظة الحاسمة ، لسوف يغمد شباب مكّة سيوفهم في قلب محمّد وينتهي كلّ شيء . . . وسيرى الحيرة بادية على وجوه بني هاشم . . . لقد قتل محمّد وضاع دمه . . . تفرّق بين القبائل .
كان أبو جهل يعبّ خمرته منتشياً بفكرته . . . ستبقى مكّة تتحدّث في أنديتها عن فطنة أبي جهل .
فرك شيطان مكة يديه وراح ينظر من خلال كوّة تفضي إلى زقاق ملتوٍ منتظراً عودة فتيانه .
تمتم النبيّ بخشوع وقد استدعى ابن عمه عليا :
ـ ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخر جوك . . . ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 21 _
أن يصمد الرجال في المعارك يقاتلون حتى النفس الأخير فتلك شجاعة فريدة تدعو الى الاعجاب . . . ولكن أن يقدّم المرء نفسه للموت تتخطفه سيوف وخناجر فهذا لا يمكن أن تستوعبه أبجدية ما مهما بلغت من دقة التعبير وسمو المعنى .
همس علي وهو يصغي الى حديث رجل رافقه أكثر من عشرين سنة .
ـ أو تسلم يا رسول الله ان فديتك بنفسي ؟
ـ نعم بذلك وعدني ربي .
كان عليّ حزيناً فمكّة تتآمر على قتل انسان بعثته السماء لخلاص الأرض ، ولكن حزنه تبدّل الى فرحة كبرى فتقدم الى فراش النبيّ بخطىً هادئة والتحف ببردته ينتظر السيوف التي ستمزّقه وستتدفق دماؤه نقيّة طاهرة ترسم فوق الأرض قصة رائعة من قصص الفداء .
كانت الأشباح المخيفة تتلصص من خلال شقّ في الباب فترى محمّداً ما يزال يغطّ في نومه هادئاً .
ـ ما يزال نائماً .
ـ ولن يستيقط بعد الليلة أبداً .
ـ سأغمد خنجري في قلبه .
ـ هذا الذي يسخر من آلهتنا .
تطلّع أحدهم من شقّ الباب وعاد ليطمئن أصحابه :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 22 _
ـ ننتظر حلبة شاة ثم ندهمه .
مثل طيف ملائكي انسلّ النبيّ من بيته مهاجراً متّجهاً صوب الجنوب لا يلوي على شيئ ، وهو يدعوالله أن يحمي فتى الاسلام علي :
ـ ربّ اجعل لي وزيراً من أهلي .
لم يخالج النوم عيني فاطمة تلك الليلة ، هاهو والدها العظيم يودّع مكّة خائفاً يترقّب . . . لا تدري عن مصيره شيئاً ، وفي فراشه ينام فتى أبي طالب سوف تتخطفه سيوف القبائل . . . والليلة حبلى بالمفاجآت ، ووجدت فاطمة نفسها تتضرّع الى الله أن ينصر أباها كما نصر موسى من قبل وأن يحمي ابن شيخ البطحاء .
اقتحمت الضباع منزل النبيّ ، وكانت السيوف والخناجر تتجه الى رجل نائم ملتحفاً برداً حضرمياً أخضر .
هبّ الفتى من فراشه كأسد غاضب وانتزع سيف أحد المهاجمين الذين تسمّروا في أماكنهم لهول المفاجأة ، صرخ أحدهم :
ـ أين محمّد ؟
وجاءه الجواب ثابتاً ثبات جبل حراء :
ـ لست عليه وكيلاً .
تنفّس الصبح واستيقظت مكّة على أنباء مثيرة ، لقد أفلت محمّد وهاهو الآن في طريقه إلى يثرب وانطلق فرسان أشدّاء يجوبون
وكانت صديقة ( رواية )
_ 23 _
الصحراء بحثاً عن رجل شريد .
لا أحد يعلم عن مكان النبيّ إلاّ فتىً في العشرين من عمره ، عاد لتوّه من غار في جبل ثور حيث ودّع النبيّ بعد أن أمن الطلب ، عاد علي ينفض عن نفسه غبار الطري ويفكّر في وصايا النبيّ ، لقد بقيت عليه مهمة واحدة أن يؤدي الأمانات إلى أهلها ويحمل الفواطم وضعفاء المسلمين إلى يثرب . . .
ابتاع عليّ ( إبلاً ) ، وأسرّ الى والدته فاطمة بنت أسد أن تتهيأ للهجرة وتخبر فاطمة بنت محمّد وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت الزبير .
تحرّكت قافلة الفواطم يقودها عليّ ماشياً والتحقت بالركب ام أيمن وأبو واقد .
وتسلل ضعفاء المسلمين ليلاً إلى ( ذي طوى ) حيث واعدهم عليّ هناك .
كان أبو واقد يسوق الركب سوقاً حثيثاً ، وأدرك عليّ ما يموج في أعماق أبي واقد من الخوف والهلع فقريش لن تغفر له ذلك أبداً .
هتف عليّ مهدئاً :
ـ إرفق بالنسوة يا أبا واقد .
وقرب ( ضجنان ) لاحت للقافلة ثمانية فرسان يثيرون الغبار . . . كانوا ملثمين وعيونهم تبرق بالشرّ .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 24 _
صاح عليّ بأبي واقد وأيمن :
ـ إنتحيا بالابل واعقلاها .
الصحراء مد البصر تموج بالرمال وعليّ الذي أنهكه المشي هو رجل القافلة الأوّل فتى تعدّى العشرين بثلاث ، كانت العيون تتجه اليه أمّه تراقبه متوجسة ، وبنت محمّد تخاف عليه سيوف أعداء أبيها ، وأبو واقد لا حول له ولا قوّة ، وقف عليّ وعيناه تقدحان شرراً .
هتف فارس لم يكتشف عليّاً بعد :
ـ أظننت يا غدّار انك ناج بالنسوة . . . ارجع لا أبا لك .
ـ فإن لم أفعل ؟ .
ـ لترجعن راغماً .
ودنا أحدهم من النوق لإثارتها فاعترضه عليّ وهوى بسيفه وسقط الفارس فوق الرمال .
تسمّر الفرسان ، لقد أخذتهم المفاجأة ، انهم لم يروا في حياتهم ضربة كهذه ، صاح أحدهم وقد رأى الفتى يستعد للهجوم :
ـ أحبس نفسك عنّا يا ابن أبي طالب .
وهكذا دخل عليّ دنيا الفروسية ، كما دخل دنيا الفداء قبل أيام .
وسارت سفن الصحراء تشقّ طريقها على مهل صوب يثرب ، تسير ليلاً وتكمن نهاراً .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 25 _
السماء مرصّعة بالنجوم . . . تتلألأ من بعيد كلالئ منثورة .
حطّ المهاجرون عصا الترحال في ضجنان وانحنى عليّ يعالج قدميه وقد تفطر تا من المشي مئات الأميال .
بركت النوق فوق الرمال تلتقط أنفاسها وتشمّ رائحة وطن قريب .
عينا فاطمة تسافران بين النجوم تستكشفان آفاق السماء . . . حيث انطلق أبوها في رحلة الاسراء والمعراج على ظهر البراق .
عينا فاطمة ما تزالان مسمرتين في النجوم ، وقد أزهر وجهها كوكب صغير هبط على الأرض ، وبدا القمر في آخر ساعات الليل أصفر الوجه كما لو أجهده السهر ، همست فاطمة في نفسها تناجي :
ـ أنت وحدك الباقي . . . كلّ شيء آخذ طريفه نحو المغيب ، النجوم ، القمر . . . الارواح البيضاء تتجه اليك لا تبالي بأشواك الطريق في الصحراء حتّى لو كانت حافية القدمين . . .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 26 _
أنت وحدك الحقّ ياربّ . . . أنت نور عيني وفرحة قلبي . . . دعني الج ملكوتك اسبّحك واطوف مع النجوم حول عرشك . . . أنت وحدك الحقيقة وما سواك وهم . . . أنت وحدك نبع الحياة وعداك سراب يحسبه الظمآن ماء .
في ( قبا ) هبط جبرئيل يحمل كلمات السماء إلى رجل فرّ من امّ القرى ينبئه عن مسار قافلة فيها ابنته وامرأة ربّته وفتى ربّاه في حجره فلما اشتدّ ساعده وقف إلى جانبه يفديه بنفسه . . .
فاح عبير الوحي . . . ملأ فضاء ( قبا ) حيث بنى الرسول أوّل مسجد في الاسلام :
ـ ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) .
كان النبيّ يترقّب وصول القافلة المهاجرة فيها أخوه وابنته وامرأة ربّته ، كلمات جبريل ما تزال تطوف في خياله وهو ينظر الى الأفق البعيد ولكن لا شيء سوى الرمال السمراء . . .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 27 _
ولو قدّر لأحد كان في ( قبا ) لرأى رجلاً قد ذرّف على الخمسين ليس بالطويل ولا القصير كان ربعة ( وقد جعل الخير كله في الرّبعة ) ، أزهر الوجه ، ناصع البياض مشرباً بحمرة خفيفة لعلّها من أثر الشمس ورياح الصحراء ، رجل الشعر يبلغ شحمة اذنيه ويكاد يلامس منكبيه ، واسع الجبين ، مقوّس الحاجبين كهلالين ، وكانت عيناه نجلاوين واسعتين ، اقنى الأنف ، كأنّ أسنانه لؤلؤ منضود فاذا مشى مشى الهوينى متقارب الخطى كزورق ينساب على هون .
وقف النبيّ يتأمل الصحراء المترامية تمسح عيناه الافق البعيد ، ينتظر أحبّة فارقهم في لحظة ليل وقد حاصرته ذئاب مكة .
غمر الليل الصحراء وآب النبي الى مضارب ( بني سهم ) ، وقد بدا على وجهه حزن كحزن آدم يوم بحث في الأرض عن حوّاء .
وصلت القافلة بسلام ، وخفّ الأب للقاء ابنته ذكراه الغالية من خديجة . . . خديجة التي رحلت بعيداً وتركته وحيداً .
عانقت البنت أباها ، غرقت في عبير رجل سماويّ ، فاضت عيناها دموعاً ، دموع فرح ودموع رحمة .
ـ يالعذاب محمّد . . . يالعذاب الأنبياء .
ربّما دهشت بعض النسوة وهن يتطلعن الى رجل ذرّف على الخمسين يجتاز في لحظة نصف قرن من الزمن ليتحوّل إلى طفل
وكانت صديقة ( رواية )
_ 28 _
يرتمي في أحضان امّه .
تمتم رسول السماء يضع حدّاً لأسئلة تناثرت فوق الرمال :
ـ فاطمة أمّ أبيها .
فاطمة بربيعها الثالث عشر تتحول إلى أمّ لأعظم الانبياء .
ـ وفاطمة بضعة منّي .
نظر محمّد إلى عيني ابنته كان يبحث فيهما عن فتى شرى نفسه لله .
ـ انّه هناك يا أبه . . . تشققت قدماه . . . سال منهما الدمّ . . . الشوك والرمضاء ومشاقّ الصحراء . . . ولا ناقة عنده ولا جمل .
تألقت عينا النبيّ :
ـ انّه أخي .
مضى محمّد للقاء أخيه المهاجر . . .
وهبّ الفتى للقاء رسول السماء . . . نسي آلامه .
رشّ الرسول كفيه برحيق النبوّة ثم مسح على قدمي الفتى المهاجر ، كأمّ رؤوم تمسح رأس وليدها ليغفو وينام . . .
سافرت الآلام ووجد علي نفسه في مهد امّه في أحضان رجل ربّاه صغيراً . . . فغفا ونام ، ونهض الرجل المكي تاركاً وليد الكعبة يلتقط أنفاسه بعد رحلة مريرة في رمال الصحراء .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 29 _
دخلت القافلة يثرب وانطلقت أناشيد الفرح تملأ الفضاء . . .
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا جئت بالامر المطاع
جئت نوّرت المدينة مرحباً يا خير داع
وامتزجت كلمات الفرح مع زغاريد النسوة وارتدت يثرب حلّة جديدة .
ومرّت ( القصواء ) تشقّ طريقها بين الجماهير وتناثرت كلمات رجاء هنا وهناك :
ـ انزل يا رسول الله على الرحب والسعة .
ـ دعوا ( الراحلة ) فإنّها مأمورة .
وسارت ( القصواء ) حتى اذا وصلت بيت ( أبي أيوب ) شمّت
وكانت صديقة ( رواية )
_ 30 _
رائحة وطن فأناخت رحلها وبركت ، وفي تلك البقعة أرض الله ارتفعت قواعد مسجد قدّر له أن يصنع التاريخ والحضارة .
وتساءل بعض المسلمين ترى كيف ندعو إلى الصلاة ، قال أحدهم :
ـ ننفخ بالبوق كما يفعل بنو قريظة . . . ألسنا نتجه في الصلاة إلى قبلتهم ؟ .
ـ الناقوس أفضل . . . ناقوس النصارى له صوت ساحر . . .
وكان للسماء رأي آخر . . . هبط جبريل يحمل النداء ، ان الله يأمركم أن ترفعوا الأذان. . .
وترقرقت في جنبات المدينة كلمات السماء وكان بلال يدعو المسلمين : الله أكبر حي على الفلاح حي على الصلاة .
وتمرّ الأيام ، ويشتدّ عود الاسلام ، ونمت فاطمة . . . تفتحت للحياة الجديدة . . . حياة تنبض بدفء الايمان والأمل . . . وأبوها محمد يرسم الطريق الذي يمرّ عبر يثرب قلب العالم .
توالت الأحداث وتستيقظ جزيرة العرب على انباء ستغيّر مسار التاريخ. اتجه المسلمون الى الكعبة في الصلاة بعدما كانوا يتّجهون الى بيت المقدس . . . واغتاظ اليهود . . . ثم ولد رمضان . . . رمضان الكريم ، وأصبح للمجتمع الوليد أعياد فرح . . . عيد ( الفطر ) وعيد
وكانت صديقة ( رواية )
_ 31 _
( الأضحى ) وتدفّق نهر الزكاة يطهّر الأغنياء ويحيي الفقراء ، ثم هبّت المدينة لتشارك كلّها فرحة النبي والذين آمنوا معه .
كبرت فاطمة سيدة النساء . . . أمّ أبيها . . . نفسي التي بين جنبي . . . وفاطمة بضعة مني . . .
مضى ( أبو بكر ) وهو يحثّ الخطى الى منزل النبيّ . . . وفي قلبه امنية طالما حدّث بها نفسه ، لاشكّ أن رسول الله سيقبل طلبه فهو صاحبه الذي هاجر معه فارّاً من مكة . . . وتحمّل معه مشاقّ الهجرة ومخاطر الطريق . . . ثم انّه قد زفّ اليه ابنته عائشة وهي ما تزال صغيرة بعد . . . وأيّ شرف عظيم من مصاهرة رسول الله. . .
طرق ( الصحابي ) الباب برفق . . . جلس قبالة النبي . . .
ـ جئتك خاطباً يا نبي الله.
تمتم النبي :
ـ أمرها إلى ربّها .
نهض ( أبو بكر ) واستأذن بالإنصراف . . . وفي الطريق كان أبو عائشة يفكّر ـ ألا يكون قد أغضب النبيّ فينزل فيه وحي من السماء .
وسمع ( عمر ) مسرعاً نحو منزل ( الرسول ) واستأذن في الدخول
وكانت صديقة ( رواية )
_ 32 _
عليه . . . انّه لا يحبّ الانتظار أكثر من ذلك فقال على الفور :
ـ جئتك خاطباً ابنتك فاطمة .
قال النبي :
ـ انتظر بها أمر الله. . .
وهيمن صمت ثقيل . . . ونهض ( أبو حفصة ) بعد أن استأذن النبيّ وغدر المنزل مثقل الخطى ووجد نفسه يمضي إلى منزل صاحبه ( أبي عائشة ) ربما ليتحدّث معه بشأن ( فاطمة ) ، ترى من سيحظى بهذا الشرف الرفيع . . . من سيقترن بسيّدة نساء العالمين .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 33 _
نسيم عليل كان يداعب سعفات النخيل ، يحرّكها برفق ، وظلال وارفة تنتشر تطرّز أرض رجل من ( الأنصار ) . . . كان عليّ ما يزال منهمكاً بارواء نخلات باسقات يحمل المياه على بعير له بأجر . . . وقد تصبب عرقاً . . .
جلس الفتى الذي بلغ من العمر خمسة وعشرين سنة . . . جلس يلتقط أنفاسه . . . أسند جذعه إلى جذع نخلة ميساء وطافت أمامه آيات من القرآن . . .
ـ ( ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ) .
من بعيد لاح له رجلان قادمان كانا يحثّان الخطى . . . سرعان ما عرفهما ، عرف أوّلاً عمر يعرف طريقته في المشي ، ثم تعرّف ( أبا بكر ) لأنه طالما شاهدهما معاً . . . فهناك ما يشبه الصداقة بينهما . . .
تمتم أبو عائشة :