مضت خمسة أعوام على هجرة النبيّ . . . والمدينة ما تزال تنعم ببركات السماء . . . تبني وتزرع وتنتج وتقدّم الى العالم الكلمة الطيبة ولكنت قريشاً واليهود يفكّرون باجتثاث شجرة غرستها السماء ليعود الناس القهقرى الى زمان لا عودة اليه . . .
  دخل فصل الشتاء . . . ورياح باردة تهبّ من ناحية الشمال ، الغيوم تتجمع في السماء . . . ثم سرعان ما تتبدد . . . تاركة الأرض عطشى والزروع أيدي متضرعة تنشد المطر ، العواصف تشتدّ يوماً بعد آخر ولا قطرة مطر . . .
  وهناك رياح اخرى . . . رياح جهلية تهبّ من ناحية الجنوب . . . قريش تعدّ العدة لغزو المينة . . . والسامريّ الذي حطّ رحله في خيبر يخطط لإطفاء النور في جزيرة العرب ، اشتعلت في القبائل حمى السلب والنهب . . . ويثرب لقمة دسمة . . . وكذلك سوّل لهم السامريّ . . .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 116 _

  دقّت طبول الحرب بين مضارب القبائل وسيوف الغدر تشحذ ، تومض في بطون نجد وكنانة وقريش تطرب على رقصة الحرب وهند تلوك كبد حمزة ، وأبو سفيان يحلم بالمجد . . . يهتف : اعل هبل .
  رياح الشتاء ما تزال تعصف بالمدينة والغيوم تغبر السماء كسفن تائهة ، حلّ شهر رمضان ، القى رحله في الجزيرة غريباً لا يعرفه أحد إلا في أرض طيبة . . .
  صامت يثرب لله . . . امتنع أهلها عن الأكل والشرب . . . وصامت جوارحهم . . . والمعدة توقفت عن الانبساط والتقلّص . . . فانتفض القلب يخفق بقوّة . . . واستيقظ العقل من سباته متوتراً . . . يرى ما لا تراه العيون . . . ويدرك ما لا تدركه الأبصار . . .
  جاء رمضان يعلّم الانسان كيف يجوع فينتصر ، كيف يظمأ لتولد إرادته . . . كيف يهزم الوحش القابع في داخله لينتصر الانسان المضطهد في الأعماق . . . رمضان نهر يجري . . . تتدافع أمواجه برفق ، يغسل القلوب من الدرن . . . يعيدها بيضاء بيضاء كحمائم بريّة تطير في الفضاء . . . خفيفة حرّة تسبح في ملكوت الله.
  الرياح الباردة ما تزال تهبّ من ناحية الشمال . . . والغيوم ما تزال تفرّ مذعورة باتجاه الجنوب . . . ولا قطرة مطر والعالم عام جفاف . . . والرسول يشدّ على بطنه حجر المجاعة ، ويصغي الى انباء تأتي من

وكانت صديقة ( رواية ) _ 117 _

  ناحية الصحراء .
  ـ انهم عشرة آلاف مقاتل . . . قبائل غطفان وقريش وكنانة . . . وقد نقض بنو قريظة العهد وهم داخل المدينة . . . ألف خنجر في خاصرة يثرب .
  ـ وهناك أعداء موجودون بيننا لا نعلمهم ، الله يعلمهم .
  ـ كفانا الله شرّ المنافقين .
  ـ يثرب في خطر .
  ـ انهم يزحفون باتجاه المدينة من فوقنا ومن أسفل منّا .
  ـ لا تنسوا الله فينساكم . . . واذكروه يذكر كم ويثبّت أقدامكم .
  وفي المسجد كاد اليأس يعصف بالقلوب المؤمنة والقلق يزعزع شجرة غرسها النبيّ لتؤتي اكلها كل حين بإذن ربّها .
  وبعد حيرة ووجوم نهض رجل من أهل فارس . . . يلوّح بطوق نجاة ليثرب فالطوفان قادم :
  ـ يا رسول الله إنّا كنّا بأرض فارس اذا خفنا العدوّ خندقنا .
  فكرة لم تكن العرب لتعرفها ، هتف الأنصار :
  ـ سلمان منّا .
  وردّد المهاجرون :
  ـ سلمان منّا .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 118 _

  وتنازع الفريقان رجلاً جاب الأرض بحثاً عن رجل يدعى محمّد .
  هتف النبيّ وقد رنت اليه العيون :
  ـ سلمان منا أهل البيت .
  رياح الشتاء تعصف بعنف . . . والعام جفاف والبطون خاوية . . . ولكن الإرادة التي ايقظها رمضان تكاد تلوي التاريخ .
  من الشمال ستهبّ عاصفة الأحزاب ، ضرب النبي الأرض بمعول من حديد وببأس شديد ، وهوت المعاول تفتت الأرض على طول خمسة آلاف ذراع وعرض تسعة أذرع وعمق سبعة أذرع .
  ومرّت الأيام والرياح ما تزال تهبّ شديدة البرودة والأجساد تذوي لاتجد ما يسدّ رمقها . . . ولكن الإرادة كانت تشتدّ . . . تفتت الصخور وتغوص في أعماق الأرض ، فأسراب الجراد قادمة . . . تريد أن تحيل كل ماهو أخضر إلى يباب لاشيء فيه إلاّ سراب يحسبه الظمآن ماء .
  جلس النبي ليستريح قليلاً . . . جفّف حبّات رق كانت تتألّق فوق جبينه وبدا معوله قطعة نادرة أو كنزاً منحته الأرض . . . شدّ حجر المجاعة إلى بطنه أكثر . . . ثلاثة أيام تمرّ وهو لايجد شيئاً يطعمه .
  لم يذكره أحد . . . الجوع والبرد والاعياء وهواجس الصحراء تنسي المرء أقرب الأشياء اليه ولكن فاطمة لم تنس الرجل الذي

وكانت صديقة ( رواية ) _ 119 _

  اختارته السماء رسولاً الى الأرض المنكوبة .
  الرجل الذي اكتسبت يثرب مجدها به جائع . . . يشدّ حجر المجاعة الى بطنه لا يجد شيئاً يأكله حتى ذكرته فاطمة على حين غفلة من أهل يثرب .
  غابت الشمس ، وفاحت رائحة الخبز في فضاء المدينة توهجت المواقد في البيوت تمنح الصائمين الدفء والشبع . . . والنبيّ في خندقه يصلّي لله :
  ـ ربّ اني لما أنزلت إليّ من خير فقير .
  وجاءت فاطمة من بعيد تحمل اليه قلبها وخبزاً انضجته قبل قليل .
  شاعت البهجة في وجه النبيّ . . . بهجة تشبه بهجة الحواريين يوم نزلت اليهم مائدة من السماء .
  وفاطمة حوراء أنسية جاءت تحمل له الخبز والدفء والشبع ، تمتم النبيّ :
  ـ والله ما دخل جوفي طعام من ثلاث .
  عادت فاطمة الى منزلها . . . تكفكف دموعها . . . تبكي الرجل الذي حمل مشعل السماء الى الأرض يريد له أن يبقى مضيئاً بوجه العاصفة القادمة .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 121 _

  انطوت ليالي رمضان وابتسم هلال شوّال يحمل للقوب فرحة عيد الفطر . . . وامتزجت فرحة العيد بفرحة اخرى .
  لقد أتمّ الرسول والذين آمنوا حفر خندق امتدّ خمسة آلاف ذراع وعرض تسعة أذرع وعمق سبعة أذرع .
  تجمّع بعضهم فوق التلال المشرفة وراحوا ينظرون الى عمل انجزته الإرادة . . . إرادة الانسان الذي اضاءت نفسه شعلة سماوية .
  ـ أيّة قوّة أنجزت هذا العمل العظيم ؟
  ـ انّها قوّة الايمان يا أخي .
  ـ أجل . . . المؤمن أقوى من الجبل .
  ابتسم هلال شوال يعلن نهاية رحلة الجوع والظمأ . . . وعاد المؤمنون يحملون معاولهم وقد نفضوا تراب يوم حافل بالعمل .
  عسكرت جيوش مكة في ( مجمع الاسيال ) بين ( الجرف )

وكانت صديقة ( رواية ) _ 122 _

  و ( زغابة ) . . . وعسكرت غطفان بـ ( ذنب نقمى ) في الجهة الغربية من جبل احد . . . وكان حيّ بن أخطب من سلامة السامريّ يكيد من أجل احتلال يثرب وقتل النبي الاميّ الذي يجده مكتوباً في التوراة . . . في أعماقه يتردّد خوار عجل . . . عجل عبدوه من دون الله.
  تحطمت أحلام أبي سفيان أمام خندق لم يكن ليخطر على باله يوماً .
  تمتم حانقاً وهو يهمز فرسه بالسوط .
  ـ مكيدة لا تعرفها العرب .
  ـ انها من تدبير ذلك الفارسي .
  ـ لا يمكن اقتحام الخندق أبداً .
  ـ ليس أمامنا سوى ضرب الحصار .
  حلّ المساء . . . ورياح الشتاء تهبّ من ناحية الشمال . . . رياح تخترق الجلد وتصلّ في العظم . . . جلس أبو سفيان قبالة النار المشتعلة والريح تعبث بأطراف الخيمة وكانت ظلاله تتراقص فوق وبر الخيمة كشيطان مريد . . .
  تمتم عكرمة وهو يحاول كسر الصمت الجاثم :
  ـ انّهم بعيدون عن مرمى النبال .
  أجاب أبو سفيان وهو يحدّق في المجمر :

وكانت صديقة ( رواية ) _ 123 _

  ـ لبحثوا عن ثغرة لاقتحام الخندق فإطالة أمد الحصار ليس في صالحنا ، علّق عمرو بن العاص :
  ـ أنا لا أثق بقريظة انهم يطلقون أقوالهم جزافاً ، وإلاّ فأين أفعالهم . . . ألف مقاتل في خاصرة يثرب . . . وهم ما يزالون يختبئون خلف حصونهم .
  قال عكرمة يائساً :
  ـ ولا تنس قبائل غطفان . . . انهم يلوحون بالصلح مع محمّد مقابل حفنة من التمر .
  صرخ أبو سفيان هائجاً :
  ـ وهل جاءوا إلاّ من أجل ذلك . . .
  سكت هنيهة وأردف وقد التمعت عيناه ببريق مخيف :
  ـ غداً سأحسم الأمر .
  اطلّ الصباح بارداً برود الموتى ، وقد بلغت القلوب الحناجر . . .
  كان ( العامري ) يجول بفرسه في ( السبخة ) بين الخندق وجبل ( مسلع ) . . . لقد تمكّن مع قوّة من فرسانه من اقتحام الخندق .
  أمر النبي مفرزة من قوّاته بقطع طريق العودة .
  صرخ الفارس المعلّم بكبرياء :
  ـ هل من مبارز . . .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 124 _

  وخيّم صمت رهيب وكانت القلوب الخائفة تدقّ بعنف كطبول الحرب .
  ـ هل من مبارز . . . ألا من مشتاق إلى جنته ؟ !
  وقهقه فرسان كانوا ينظرون اليه باعجاب ونهض عليّ للمرّة الثالثة يطلب المواجهة فأذن له الرسول . . . وتقدّم فتى الاسلام .
  رفع النبيّ يديه الى السماء . . . الى عالم لا نهائي :
  ـ اللهم انك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم احد وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين .
  ثم تمتم وهو يشيع عليّاً بنظراته :
  ـ برز الايمان كلّه إلى الشرك كلّه .
  وتقابل فارس وراجل ، مشرك ومؤمن .
  ـ من أنت ؟
  ـ علي بن أبي طالب .
  ـ ليبرز اليّ غيرك . . . اني أكره أن اقتلك . . .
  لقد كان أبوك صديقاً لي .
  ـ لكني أحبّ أن اقتلك .
  قال ( ابن ودّ ) وقد لاحت له طيوف من بدر يوم التقى الجمعان :
  ـ أكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك . . . ارجع خير لك .
  أجاب عليّ بعزم :

وكانت صديقة ( رواية ) _ 125 _

  ـ ان قريشاً تتحدّث عنك انّك تقول :
  لا يدعوني أحد إلى ثلاث خلال إلاّ أخذت واحدة منها .
  ـ أجل .
  ـ فإني أدعوك إلى الاسلام .
  ـ دع عنك هذه وهات لي غيرها .
  ـ ادعوك الى أن ترجع بمن تبعك من قريش الى مكة .
  ـ اذن تتحدّث عني نساء مكّة ان غلاماً خدعني .
  ـ أدعوك إلى القتال راجلاً .
  اشتعل غضب متأجج في عينيه ، واقتحم عن فرسه . . . واحتدم الصراع بين سيفين ، سيف الاسلام وسيف الجاهلية . . . الايمان والكفر . . . الغضب السماوي والحمية . . . حمية الجاهلية . . . وكان الرسول يدعو :
  ـ اللّهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين .
  وهوى سيف كصاعقة غاضبة . . . ليسقط رجل اقتحم الخندق على حين غفلة . . .
  وعاد علي وبشائر نصر عظيم تموج فوق وجهه .
  هتف عمر و مدهوشاً :
  ـ هلا سلبته درعه فانه ليس في العرب درع مثلها .
  أجاب عليّ وقد أطلّ الانسان من عينيه :

وكانت صديقة ( رواية ) _ 126 _

  ـ استحييت أن أكشف سوأته .
  وفي حصن ( فارع ) كان حسّان مع النسوة والأطفال . . . وقد بلغت القلوب الحناجر ، كانت رائحة الغدر تتصاعد من حصون بني قريطة .
  جلست فاطمة قرب صفية تراقبان شوارع المدينة ، فجأة ، لاح الخطر . . . عينان يهوديتان تتلصّصان ورائحة الغدر تزكم الانوف .
  هتفت صفية :
  ـ يا حسان هذا يهودي يطوف حول الحصن كما ترى فانزل اليه واقتله . . . والاّ دلّ علينا .
  أجاب حسان وهو يبلع ريقه :
  ـ غفر الله لك يا ابنة عبد المطلب .
  نهضت صفية وقد أخلد حسان الى الارض، شدّت وسطها ، كانت فاطمة تراقب ملامح لحمزة في وجهها في عزمها والايمان الذي غمر قلبها .
  هبطت صفية درجات الحصن وفي قبضتها عمود .
  ودوّت ربة هاشمية على رأس ( السامريّ ) . . . وشخصت العينان وبريق الغدر يخبو شيئاً فشيئاً . . .
  هتفت صفية :
  ـ يا حسان انزل اليه واسلبه .
  تشبث حسّان بالأرض ، وقد ذعر الجرذ القابع في أعماقه .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 127 _

  الخيول تدكّ بسنابكها الارض على طول الخندق وقد مضت اسابيع ثلاثة . . . كان مع النبي ثلاثة آلاف. . . ولكن ثلاثة أسابيع من الخوف والرعب كافية لامتحان إرادة الانسان . . . في المساء وعندما يخيم الظلام تنسلّ أطياف كالاشباح . . . وقد ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً . . . ورفع ( ابن قشير ) ـ وكان رجلاً ذا وجهين ـ عقيرته :
  ـ محمّد يعدنا كنوز كسرى وقيصر . . . وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .
  مضت أسابيع أربعة . . . ولا شيء سوى مناوشات بالسهام . . . والرياح ما تزال تعصف بشدّة . . . تمزّق الخيام وتقلب القدور وتطفئ النار . . . ولم يبق مع النبيّ إلا تسعمئة من الذين امتحن الله قلوبهم بالتقوى .
  وفي ليلة سوداء كسواد الكحل مدّ الرسول كفيه الى السماء ينشد

وكانت صديقة ( رواية ) _ 128 _

  نصر الله :
  ـ اللّهم منزل الكتاب ، سريع الحساب اهزم الأحزاب ، اللّهم اهزمهم وانصرنا عليهم وزلزلهم اللّهم ادفع عنّا شرهم ، وانصرنا عليهم ، واغلبهم لا يغلبهم غيرك .
  أضاءت نجمة في السماء . . . وقد غضبت الريح فراحت تعدو مجنونة بين القبائل .
  قال النبيّ وقد استدعى ( حذيفة ) :
  ـ اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثنّ شيئاً حتى تأتيني .
  وانطلق ( حذيفة ) عبر الخندق وتسلل بين خيام مزّقتها رياح الشتاء . . . كان الظلام دامساً وراح يتلمّس طريقه الى خيمة أبي سفيان حيث تحاك خيوط العناكب .
  دسّ حذيفة نفسه في زواية مظلمة وأخذ مكاناً بين رجلين كانا يحدّقان بأبي سفيان ، قال صخر بن حرب متوجساً :
  ـ يا معشر قريش ليتعرّف كل امرئ جليسه واحذروا الجواسيس والعيون .
  هتف حذيفة وهو يشدّ على يد جليسه :
  ـ من أنت ؟

وكانت صديقة ( رواية ) _ 129 _

  ـ معاوية بن أبي سفيان .
  ـ وأنت ؟
  ـ عمرو بن العاص .
  خفتت الأصوات وقد بدا حذيفة كأحدهم ، قال أبو سفيان :
  ـ يا معشر قريش انكم ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف . . . واخلفتنا بنو قريظة العهد ولقينا من شدّة الريح ما ترون . . . ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فاني مرتحل .
  انفجرت السماء بالصواعق . . . وهطلت الأمطار غزيرة . . . وهبت الرياح شديدة . . . تحتثّ الخيام وتبثّ الرعب في القلوب . . .
  فكّر ( طلحة بن خويلد ) أو لعلّه راى أشباحاً تعبر الخندق فهتف مذعوراً :
  ـ انّ محمّداً قد عبر اليكم باصحابه . . . فالنجاة النجاة .
  تمزّقت جيوش الأحزاب، مزقتها الرياح وجنود لم يروها حتى اذا أطلّ الصباح كان كلّ شيء هادئاً في الجانب الآخر من الخندق .
  وأرسل النبيّ ( حذيفة ) مستطلعاً فاذا كلّ شيء يشير الى هزيمة ساحقة . . . الخيام الممزقة متناثرة هنا وهناك . . . وأكوام التبن . . . ومواقد منطفئة وقدور منكفئة . . . والرماد يغطي الأرض الموحلة ، وعاد

وكانت صديقة ( رواية ) _ 130 _

  ( حذيفة ) يحمل البشرى .
  وأصدر النبيّ أمره بالعودة الى المنازل بعد ثلاثين يوماً من الحصار والخوف والقلق .
  وكان بنو قريظة منكمشين في حصونهم يترقبون بخوف المصير الذي ينتظرهم . . . فالغدر يعقبه انتقام .
  هاهي الأفاعي تلوذ بجحورها وتمدّ ألسنتها متوجسة . . .
  هتف الرسول، وقد حانت لحظة الاقتصاص :
  ـ من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين العصر إلاّ في بني قريظة .
  هزّ النبيّ اللواء ودفعه إلى عليّ :
  ـ كن في مقدمة الجيش واسبقنا الى بني قريظة .
  وانطلق عليّ واللواء يخفق فوق رأسه حتى اذا دنا من الحصن ركزه في الأرض بقوّة وأيقن الذين مسخوا قردة وخنازير انها الحرب ولا شيء سواها .
  وسمع عليّ شتائم تنهال على النبيّ الامّي فهتف بغضب :
  ـ السيف بيننا وبينكم .
  واستمر الحصار عشرين يوماً . . . والمناوشات بالسهام والنبال مستمرة . . . والشتائم تنهال من فوق جدران الحصون فهتف النبيّ :
  ـ يا اخوان القردة ! . . . هل أخزاكم الله وأنزل فيكم نقمته .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 131 _

  وشنّ عليّ أول هجوم عنيف ، فارتفعت راية بيضاء فوق الحصون . . . وكان الاستسلام دون قيد أو شرط .
  وهتف سعد وقد رضي الجميع حكمه :
  ـ آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم .   كان سعد يعرف ( توراتهم ) حيث حرّفوا الكلم عن مواضعه ليسوموا البشر الموت والفناء . . .
  كان يدري ما في الصحاح من التثنية من ريح صفراء لا تبقي ولا تذر ( حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح فان أجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وان لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها واذا دفعها الربّ الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، واما النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة غنيمة تفتحها لنفسك وتأكل غنيمة اعدائك التي أعطاك الرب الهك ) .
  وأذاقهم سعد حكم التوراة وكانوا أذاقوها الامم .
  وهكذا تساقطت رؤوس الخيانة والغدر . . . وسقط رأس حي بن أخطب مخطط فكرة الغزو والفناء وفرّ السامريّ الى ( خيبر ) لا يفتأ يعبد العجل من دون الله.

وكانت صديقة ( رواية ) _ 133 _

  عاد السلام يرفرف فوق المدينة وكلمات السماء تتردد بين سعف النخيل وعروش الأعناب .
  وعاد عليّ يعمل في الأرض. . . يسقي الزرع يفجّر الينابيع يريد للأرض أن ترتدي حلّة خضراء . . .
  عاد الاطفال يلعبون في الأزقة . . . ضحكاتهم البريئة تتردد في الفضاء الأزرق.
  ومرّ النبي في طريقه الى المسجد تحفه كوكبة من أصحابه .
  وركض الحسن والحسين وكانا يلعبان مع الأطفال وخف النبيّ لاستقبال ريحانتيه من الدنيا ، والبسمة تطوف فوق وجهه . . .
  حمل النبيّ ولديه . . . شمّ الجنّة فيهما . . . استنشق عبير الرياحين . . . وحملهما على عاتقه . . .
  والتفت الى اصحابه :

وكانت صديقة ( رواية ) _ 134 _

  ـ من أحب هذين الغلامين وامّهما و أباهما فهو معي في الجنّة .
  قال عمر مغتبطاً وهو يرى أجمل منظر :
  ـ نعم الفرس فرسكما .
  فأجاب النبيّ مبتسماً :
  ـ ونعم الفارسان هما .
  شمّ المهاجرون رائحة وطن بعيد وتلفتت العيون صوب الجنوب وتلفتت القلوب ، وطافت صور جميلة لمكة مرابع الصبا وذكريات الطفولة فإذا الحنين نهر حزين يجري بصمت والخريف فصل الوداع يستثير هواجس العودة واللقاء وهاهي ستة أعوام تنطوي والمهاجرون ما يزالون يقاومون عواصف الصحراء والزمان . . . يحلمون بالعودة الى ديار الحبيب . . . الكعبة بيت ابراهيم واسماعيل . . . وغار حراء في جبل النور . . . وذكريات الجهاد .
  وأطلّ ( ذوالقعدة ) يوقظ في النفوس نداء ابراهيم فتنطلق القوافل بين الأودية . . . فالقلوب تهوي إلى بقعة مباركة حيث أول بيت وضع للناس .
  وعمّت الفرحة المدينة . . . لقد اعلن النبيّ رغبته في أداء العمرة وزيارة البيت العتيق . . . وانّه لا يريد حرباً مع أحد ، انه ينش السلام . . . وهل الاسلام يعني شيئاً سوى السلام .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 135 _

  وطار النبأ في الجزيرة رايةً بيضاء بياض حمائم في الفضاء الأزرق.
  واجتمع الف واربعمئة ممن تخفق قلوبهم لمكة واداء شعائر الحج . . . وتقدّم النبيّ على ناقته ( القصواء ) زورقاً ينساب فوق امواج الرمال . . . وكان ( اللواء ) يخفق فوق هامة عليّ . . . وساق النبيّ من الهدي سبعين . . . والسيوف في الأغماد ، حتى اذا بلغ ذا الحليفة ، أحرم فيها ولبّى .
  ردّدت الصحارى هتافات التوحيد :
  ـ لبيك اللّهم لبيك . . . لبيك لا شريك لك لبيك . . .
  وفي ( عسفان ) حطّ النبيّ الرحال . . . يمدّ يد السلام . . .
  وجاء رجل من ام القرى يسعى :
  ـ يارسول الله هذه قريش قد سمعت بك ، فلبست جلد النمر . . . وقد اجتمع الرجال والنساء والأطفال ( بذي طوى ) . . . وخيلها الآن في ( كراع ) الغميم .
  قال النبي بحزن :
  ـ يا ويح قريش . . . لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب . . . ما تظنّ قريش . . . والله لا أزال اجاهد أو تنفرد هذه السالفة .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 136 _

  وكان الرجل يتأمّل سوالف النبيّ المتلألئة وقد انفرت عن شعر النبيّ المتموّج تموج الصحارى وهو يكاد يلامس منكبيه .
  وجلس النبيّ يفكّر . . . يفكّر في قوم كذّبوه وآذوه . . . وألّبوا العرب عليه يريدون أن يطفئوا نور الله . . . والله متمّ نوره .
  قال النبي وقد أحدق به أصحابه :
  ـ من يدلّنا على طريق غير طريقهم ؟
  فنهض رجل من أسلم وكان عالماً بخفايا الصحراء وبطون الاودية .
  وسار ألف وأربعمئة رجل يتقدّمهم آخر الأنبياء وقد هبّت نسائم وطن بعيد .
  كانت المفازات وعرة كثيرة الحجارة كأنها شظايا بركان انفجر قبل آلاف السنين ، حتى اذا وصلوا ارضاً سهلة انعطفوا جهة اليمين حيث الجادة المؤدية الى ( ثنية المراد ) مهبط ( الحديبية ) من أسفل مكة .
  توقفت القصواء ثم بركت . . . وتوقّفت الجموع ، قال قائل :
  ـ حرمت الناقة وأجهدت .
  فقال النبيّ : لا . . . ولكن حبسها الذي حبس الفيل عن مكة . . . وأردف وهو ينزل عن ( القصواء ) :

وكانت صديقة ( رواية ) _ 137 _

  ـ والله لا تدعوني قريش إلى خطة تسألني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم ايّاها . . .
  والتفت الى الجموع :
  ـ انزلوا .
  قال أحدهم وهو يستعرض الوادي ببصر نافذ :
  ـ يا رسول الله ما بالوادي ماء .
  أخرج النبيّ سهماً من كنانته وأشار الى بئر معطّلة .
  ـ اغرزه في جوفه .
  كانت هالة من النور تغمر رجلاً ارسلته السماء ليحيي الأرض بعد موتها .
  انفجرت البئر بالماء نميراً فخشع الذين هاجروا والذين قالوا انّا انصار الله.

وكانت صديقة ( رواية ) _ 139 _

  كان الجوّ مشوناً بالقلق ما بين ( الحديبية ) ومكة ، قريش لا تذعن للحقّ ولا تصيخ السمع لصوت العقل ، فتفتح أبواب مكة لقوافل الحجيج ، وبعث النبيّ ( عثمان ) فله قرابة بأبي سفيان :
  ـ اخبر قريش انّا لم نأت لقتال أحد ، وانّما جئنا زوّاراً للبيت ، معظمين لحرمته ومعنا الهدي ننحره وننصرف .
  ومضى عثمان الى مكة ولم يعد . . . مضت ثلاثة أيام . . . اختفت فيها أخباره ، وسمعوا شائعات عن مصرعه مع عشرة من المهاجرين دفعهم الشوق الى زيارة أهليهم .
  عندها وقف النبيّ تحت ظلّ شجرة في الوادي أسند جذعه الى جذعها . . . وأحدق أصحابه وهم يعاهدون على الموت من أجله . . . وباركت السماء عهد المؤمنين . . . وقد رضي الله عنهم .
  الجوّ يزداد تأزّماً ولما يعد عثمان بعد . . .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 140 _

  وجاءت رسل السلام . . . وقد أدركت قريش أن الخطر قاب قوسين أو أدنى.
  جاء ( سهيل ) يفرض على النبي شروط قريش :
  ـ أن تضع الحرب أوزارها بين الفريقين عشر سنين .
  ـ أن يردّ محمّد من يأتيه من قريش مسلماً ولا تلتزم قريش برد من يأتيها من عند محمّد .
  ـ أن يعود محمّد وأصحابه هذا العام دون عمرة وأن يأتوا في العام القادم .
  ـ من أراد الدخول في عهد قريش فله ذلك ومن أراد الدخول في عهد محمّد جاز له ذلك .
  كان النبيّ يصغي الى عرض قريش يلقيه ( ابن عمرو ) وقد بدا بعض الصحابة متعضاً وكاد عمر أن ينفجر بعد ان سمع النبيّ يستدعي علياً :
  ـ اكتب يا عليّ : بسم الله الرحمن الرحيم .
  اعترض سهيل :
  ـ لا أعرف هذا . . . اكتب باسمك اللّهم .
  استأنف النبيّ :
  ـ اكتب ذلك واكتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل

وكانت صديقة ( رواية ) _ 141 _

  بن عمرو .
  قال سهيل :
  ـ لو شهدت انك رسول الله لم اقاتلك . . . ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
  أطلّ الحزن من عيني الرسول :
  ـ والله اني رسول وان كذبتموني . . . اكتب يا عليّ محمّد بن عبدالله وامح رسول الله.
  رفع عليّ رأسه وقد شعر بالغضب يتفجّر في صدره .
  ـ ان قلبي لا يطاوعني . . . والله لا أمحوها .
  تناول النبيّ الصحيفة ومحاها . . .
  واستأنف عليّ يثبت بنود السلام .
  ونهض الوفد عائداً الى مكّة . . .
  لم يتمالك ( عمر ) اعصابه فتقدّم من النبيّ بطوله الفارع وعيناه تبرقان بغضب عارم :
  ـ ألست نبيّ الله حقّاً ؟
  أجاب النبيّ بهدوء :
  ـ بلى .
  ـ أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار ؟

وكانت صديقة ( رواية ) _ 142 _

  ـ بلى يا عمر .
  هتف عمر وقد اهتزت دعائم الايمان في قلبه :
  ـ فلم نعطي الدنية في ديننا اذن ؟ !
  أجاب النبيّ وهو يحاول إعادة الطمأنينة الى قلبه :
  ـ اني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري .
  قال عمر بحدّة :
  ـ أولست كنت تحدّثنا انّا سنأتي البيت فنطوف به ؟
  أجاب محمّد بصبر الأنبياء :
  ـ بلى يا عمر . . . أفأخبرتك انك تأتيه عامك هذا ؟
  أجاب عمر مخذولاً :
  ـ لا .
  ـ فانك آتيه ومطوف به .
  وظلّ ( عمر ) هائجاً لم تفلح كلمات الرسول في إعادة السلام إلى نفسه .
  هرع الرجل الفارع إلى صاحبه وقال بعصبية :
  ـ يا أبا بكر أليس هو برسول الله ؟
  ـ نعم .
  ـ أولسنا بالمسلمين ؟