|
تنمو وتهب ظلالها وثمارها . . .
اشاعت كلمات سعد روح الأمل شحذت الهمم بعد خوف وقلق . . . طافت في الوجه السماوي فرحة ورضا وهتف النبيّ برجاله :
ـ سيروا على بركة الله وابشروا ، فإن الله وعدني احدى الطائفتين ، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم .
عبّأ النبيّ قوّاته وغادر ( ذفران ) وسلك طريق ( الاصافر ) ثم هبط منها ، وبدا ( كثيب السحنان ) كجبل شامخ ، وقاد النبي رجاله الى يمين ( الكثيف ) حتى اذا اصبح قريباً من مياه بدر أصدر أمراً بالتوقّف ريثما ينجلي الموقف .
بعث النبيّ ( عليّا ) على رأس دورية استطلاع للحصول على معلومات عن قوّات قريش ، أوغل علي في المسير ووصل آبار بدر ، فالماء حيوي لرجال في الصحراء ، وألقت الدورية القبض على رجلين كانا يستقيان وساقتهما إلى معسكر المسلمين .
كان النبيّ يصلّي . . . مستغرقاً في رحلة في عوالم سماوية بعيداً عن ويلات الأرض وما يجري فوق كثبان الرمال ، ولما عاد الى الأرض وجد بعض المسلمين ينهالون عليهما ضرباً . . . تمتم النبيّ مستنكراً :
ـ إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ؟!!
وكانت صديقة ( رواية )
_ 60 _
ونظر النبيّ اليهما وهتف :
ـ صدقا والله. . . انهما لقريش انهما لذات الشوكة .
وأردف متسائلاً :
ـ كم القوم ؟
ـ كثيرون .
ـ ما عدّتهم .
ـ لا ندري .
ـ كم ينحرون ؟
ـ يوماً تسعاً ويوماً عشراً .
التفت النبي إلى أصحابه :
ـ القوم ما بين تسعمائة والألف .
ثمّ تساءل :
ـ فمن فيهم من أشراف قريش ؟
ـ قال أحدهما :
ـ عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة . . . النضر بن الحارث ، وأضاف الآخر :
ـ وفيهم أميّة بن خلف ونبيه بن الحجاج واخوه منبه وعمرو بن ود . . .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 61 _
التفت النبيّ الى اصحابه وقال بحزن :
ـ هذه مكّة قد القت اليكم أفلاذ كبدها .
تفجّر في قلوب المهاجرين غضب مقدّس هاهي رؤوس الشرك تزحف اليهم وقد حان وقت يثأر فيه المظلوم من الظالم .
كان بلال منسحباً داخل نفسه وقد تداعت في أعماقه صور سوداء وكان وجه ( امية بن خلف ) محفوراً في ذاكرته بقسوة . . . ما يزال جسده يئن من سياط امية وشعر بثقل صخرة رهيبة تجثم فوق صدره فندّت عنه آهة ألم :
ـ آه . . . اميّة لا نجوت إن نجا .
برقت عيناه غضباً وحانت منه التفاتة فرأى عمّاراً ، وقد علت وجهه مسحة من وجوم . . . أدرك بلال ان صاحبه هو الآخر يستعيد حوادث رهيبة ، لقد شهد مصرع والديه بحراب ( أبي جهل ) ذلك القرشي المتوحش .
أصدر النبيّ أمره بالتحريك صوب آبار ( بدر ) حتى اذا وصلوا أدنى المياه نزل النبيّ وكان ( الحباب ) وهو رجل رشيد يمسح الأرض بعينين ثاقبتين ، اقترب من النبيّ وقال بأدب :
ـ يارسول الله! أكان اختيارك للمكان أمراً من الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخّر عنه أم هو الرأي والحرب ؟
وكانت صديقة ( رواية )
_ 62 _
أجاب النبيّ باهتمام :
ـ بل هو الحرب والمكيدة .
ـ ليس هذا بمنزل يا رسول الله. . . انهض بالناس حتى نعسكر أدنى الماء نشرب ولا يشربون .
ـ لقد اشرت بالرأي .
وسرعان ما اتخذ المسلمون مواقعهم في الجهة الشرقية من الوادي الفسيح . . .
حلّ المساء وغفت العيون تترقب ما يسفر عنه عالم الغد .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 63 _
أشرق يوم الجمعة والتاريخ يشير الى السابع عشر من شهر رمضان ، عسكرت قوات قريش ، في ثنايا التلال القريبة من وادي بدر ، وبدا أبو جهل أفعى رقطاء تتلمظ ، هتف ساخراً وهو يشير إلى قلّة المسلمين :
ـ ماهم إلاّ أكلة رأس لو بعثنا اليهم عبيدنا لاخذوهم باليد .
تساءل عتبة بن ربيعة :
ـ ربّما كان لهم كمين أو مدد .
ـ كلا يا صاحبي لقد بعثت ( ابن وهب ) وطاف حول مواقعهم فلم ير شيئاً .
قال شيبة معقّباً :
ـ لكنه قال شيئاً آخر غير هذا .
امتعض أبو جهل ، فتساءل عتبة :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 64 _
ـ وماذا قال ؟
ـ جاء مبهور الأنفاس ونثر كلماته كالنبل : مارأيت شيئاً ولكني وجدت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا . . . نواضح يثرب تحمل الموت الناقع .
أطرق عتبة ، كان يفكّر في المصير . . . ألقى أبو جهل نظرة حانقة وبصق على الأرض ثم غادر المكان .
ارتقى عتبة جملة الأحمر وقد دوّت فكرة العودة الى مكة في رأسه وأصغت عشرات الرجال الى ما يقول صاحب الجمل الأحمر :
ـ يا معشر قريش ! لن تصنعوا شيئاً بلقاء محمّد وأصحابه ، وبين أصحابه رجال من بني عمومتكم أو أخوالكم . . . وهل يقتل المرء ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته . . . ارجعوا وخلّوا بين محمّد وسائر العرب . . .
يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، انّ محمّداً له إلّ وذمّة . . . فان يكن صادقاً فانتم أعلى عيناً به ، وان يكن كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره .
جحظت عينا ( أبي جهل ) وخرجت الكلمات من فمه ممزوجة بالبصاق :
ـ انظروا ماذا يفعل الجبن في النفوس . . . انظروا الى سيد من
وكانت صديقة ( رواية )
_ 65 _
سادات قريش وهو يرتعد من سيوف يثرب .
وفي أدنى الوادي كان الرسول يراقب عن كثب ما يجري في أقصى الوادي . . . هناك على جمل أحمر رجل يحذّر قومه سوء العواقب .
تمم النبيّ بلهجة يشوبها اليأس :
ـ إن يكن في أحدهم خير ففي صاحب الجمل الأحمر .
اتصلت السماء بالأرض وهبط جبريل كوكب الأرض في تلك البقعة من دنيا الله. . . وسرت كلمات السماء في قلب محمّد : ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) .
هتف النبيّ وجبينه يتلألأ :
ـ يا معشر قريش ! ارجعوا من حيث أتيتم فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم أحبّ إليّ من أن تلوه أنتم .
تمتم عتبة وهو يصغي إلى ابن مكة الذي فرّ منذ عامين :
ـ ماردّ هذا قوم ثم افلحوا .
تجمعت في السماء النذر ، وبدت السيوف بروقاً مخزونة بالرعود ، نزل عتبة عن جمله الأحمر ، وتقدّم مع أخيه شيبة وابنه الوليد الى الأرض التي تفصل ما بين الجبهتين ونادى عتبة بصوت غاضب وكان أبو جهل قد استفزّه :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 66 _
ـ يا محمّد اخرج الينا أكفاءنا من قريش :
التفت النبيّ الى عبيدة .
ـ قمّ يا عبيدة بن الحارث .
وإلى حمزة بن عبدالمطلب وإلى عليّ بن أبي طالب .
كانت راية ( العقاب ) تخفق في قبضة عليّ فركزها في الآرض ثم انطلق إلى ميدان الصراع . . . وتراءى امام عينيه طيف جميل ، كان وجه ( فاطمة ) يبتسم له وقد شعّ من عينيها نور سماويّ .
ران الصمت على الجبهتين ، ما خلا ستة سيوف كانت تلمع وسط الغبار كبروق غاضبة ، فجأة ارتفع السيف ( ذوالفقار ) ثم هوى فهوت معه جمجمة الوليد ، ثم ارتفع مرّة اخرى ليهوي على عتبة ثم على شيبة وتساقطت رؤوس الشرك . . . تعفرّت بالرمال وكانت العيون جاحظة تنظر برعب الى شيء ما .
كبرّ النبيّ وكبّر معه المسلمون وانتقل اسمّ عليّ على الألسن في الفضاء . . . وفي التاريخ . . .
وسمع النبيّ يقول :
ـ والذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلاّ أدخله الله الجنّة .
وتراءت للذين سمعوا كلمات الرسول جنّات تجري من تحتها
وكانت صديقة ( رواية )
_ 67 _
الأنهار . . . فإذا السيوف ظلال لجنّة عرضها السماوات والأرض.
كان سقوط صناديد قريش صرعى فوق الرمال إيذاناً ببدء معركة رهيبة ، وبدأت قريش هجوماً عنيفاً تساقطت السهام والنبال كالمطر . . .
وقف المسلمون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، وصمدوا أمام هجمات مدمّرة كعاصفة هوجاء . . . تصاعد غبار كثيف وتساقط القتلى والجرحى كجراد منتشر ، وشيئاً فشيئاً خفّت حدّة الهجوم . . . وفي هذه اللحظة الحاسمة دوّت كلمة القائد العظيم مختصرة ومصيرية :
ـ شدّوا
اندفع المسلمون كالسيل وكانت راية العقاب تخفق في قبضة عليّ قوّية ثابتة ، واختلطت أصوات عديدة بين صهيل الخيل ورغاء الجمال وقعقعة الاسلحة وصيحات الرجال وكانت : ( أحد . . . أحد ) تتردد في فضاء المعركة .
وتفجّر غضب مقدّس في القلوب وقد رأى المعذبون جلاّديهم . . . وغادر النبيّ مقرّ القيادة وبقي أبو بكر وحيداً ، اندفع النبيّ يقاتل في الخطوط الاولى وظهرت في الافق سحب بيضاء شفافة . . . تشبه أجنحة الملائكة وكان النبيّ يهتف بحماس :
ـ سيهزم الجمع ويولّون الدبر ، بل الساعة موعدهم والساعة
وكانت صديقة ( رواية )
_ 68 _
أدهى وأمرّ . . .
استمر القتال مريراً . . . واقتربت المعركة من نهايتها بعد ان تمزّقت خطوط المشركين ولاحت في الافق هزيمة وشيكة .
هتف النبيّ غاضباً وهو يقذف حفنة من الحصى :
ـ شاهت الوجوه !
انفجرت ساعة الانتقام وقذف بركان الثأر حممه مدوّية وهتف بلال وهو يرمق جلّاده بغضب :
ـ اميّة ! رأس الكفر لا نجوت إن نجا . . . حاول بعض المسلمين اعتراض بلال ، أرادوا عدوّهم أسيراً فصاح بلال :
ـ يا أنصار الله. . . إنّه اميّة رأس الكفر . . . لا نجوت ان نجا . . .
انقض بلال على جلّاده فهوى كأنما سقط من شاهق . . . ولأوّل مرّة تنفّس بلال الصعداء وانزاحت عن صدره صخرة قاسية كانت تجثم فوق اصلاعه فدمعت عيناه وراح ينظر الى السماء في امتنان .
حاول أبو جهل في عناد قديم أن يمنع هزيمة قريش وكان يقاتل سياج من رماح رجاله وفي مقدمتهم ابنه عكرمة . . . ولكن أنّى لهؤلاء الحفنة من الحمقى الوقوف بوجه رياح النصر وهي تعصف بعنف من أدنى الوادي . . . اقتربت هتافات : أحد . . . أحد . . . وماهي إلاّ لحظات حتى هوى ابو جهل وارتطم رأسه بالأرض .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 69 _
وضع عبدالله بن مسعود قدمه على عنق أبي جهل الذي رمقه متسائلاً :
ـ لمن الدائرة ؟
ـ لله ولرسوله وللمؤمنين .
كانت قدم ابن مسعود تدقّ عنق أبي جهل ، فتمتم حانقاً :
ـ لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم .
حاول أن يبصق كعادته فسقط البصاق فوق وجهه وجحظت عيناه ، كان هو الآخر ينظر برعب الى شيء ما .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 71 _
يثرب تألق فرحاً وقد عاد النبيّ ورايات النصر تخفق فوق رأسه ، كانت سعفات النخيل تتمايل طرباً . . .
توجّه النبيّ الى المسجد فصلّى ركعتين . . . كان المسجد هادئاً والسكينة نبع يتر قرق في جوانبه ، نهض النبيّ واتجه صوب منزل فاطمة كعادته . . .
هبّت الفتاة لا ستقبال ابيها العظيم ، وكانت ابتسامة مشرقة تضيء قسمات وجهها الأزهر .
طبع الأب قبلة دافئة على جبين ابنته أودعها كلّ معاني الابوّة والحبّ . . . ووجدت فاطمة نفسها في أحضان امّها الدافئة . . . دخلت عائشة وكانت تغار من فاطمة فقالت مستنكرة :
ـ اتقبّلها وهي ذات بعل ؟
أجاب النبيّ مدارياً :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 72 _
ـ والله لو علمت ودّي لها لازددت لها حباً .
أجابت ممتعضة :
ـ أنت لا تفتأ تكرّر ذلك وتذكر امّها العجوز وقد هلكت في الدهر الأول فابدلك الله خيراً منها .
أجاب النبيّ بحزن :
ـ لا والله ما أبدلني خيراً منها . . . آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدّقتني إذ كذبني الناس ، وانفقت مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها ذرّية دون النساء ، ارتفع صوت عائشة فقالت فاطمة وهي تنسحب بهدوء :
ـ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ .
ردّت عائشة وقد احمّر وجهها غيظاً :
ـ والله يا بنيّة خديجة ما ترين إلاّ أن لأمّك علينا فضلاً وأيّ فضل كان لها علينا ؟ !
ما لهذه المرأة لا تفتأ تذكر امرأة توسّدت التراب من ثلاث سنين إلاّ لأنها ولدت فاطمة ؟ وفاطمة فتاة تنم عن سيدة كما ينمّ البلور عمّا فيه وقد ولدت سيّدة النساء ، تدخّل النبيّ غاضباً :
ـ يا حميراء ان الله بارك في الودود الولود .
وأردف وهو يكفكف دمعة شرقت من عينيه :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 73 _
ـ رحم الله خديجة .
صرخت عائشة ثائرة :
ـ إنّك تحبّ فاطمة وعليّاً اكثر مني ومن أبي .
ماذا تقول فاطمة لهذه المرأة ، هل تقول لها كيف لا يحبّ علياً وقد ربّاه في حجره ، فلما اشتدّ عوده آمن به وفداه بنفسه يوم هاجر ، وفي بدر وقد نصر الله المسلمين وهم قلّة ، أتقول لها أن أباك كان مختبئاً في ( العريش ) وكان عليّ يقاتل . . . يقات بضراوة فصرع لوحده خمسة وثلاثين من صناديد قريش من أصل سبعين ، ماذا تقول لهذه المرأة التي أفقدتها الغيرة صوابها ، ماذا تريد من أبي وزوجي . . . كانت لوعة تتأجج في روحها .
ـ لك الله يا أبي .
وماذا بوسعها أن تقول . . . لا لا . . . لن تقول شيئاً . . . لن تضيف همّاً جديداً إلى هموم النبي وقد تألّب العرب عليه . . . لقد تعلّمت فاطمة الصبر . . . رضعته مع لبن امّها . . . مرّاً حنظلاً لكنها تعودت مذاقه حتى بات شيئاً مألوفاً .
وفي البيت نادت فاطمة أباها :
ـ يا رسول الله.
ولكن ، لا جواب . . . ونادت مرّة اخرى يا رسول الله.
وكانت صديقة ( رواية )
_ 74 _
كانت كلمات الله تترقرق في اعماقها : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) .
هتف فاطمة :
ـ يارسول الله!
التفت الأب العظيم وكان ينتظر منها كلمة أقرب الى قلبه :
ـ يا فاطمة ! انّها لم تنزل فيك . . . أنت مني وأنا منك . . . قولي يا أبه ، فانّها أحيى للقلب وأرضى للرب .
سأل عليّ مبتسماً وقد أراد أن يشيع البهجة في الحجرة :
ـ يا رسول الله ، أنا أحبّ اليك أم فاطمة ؟
ضحك النبيّ وقال بود :
ـ أنت عندي أعزّ منها وهي أحبّ منك ، طافت الابتسامة الوجوه كفراشة تدور بين زهرات ثلاث .
التفت النبيّ الى ذكرى خديجة وقال مستفسراً :
ـ يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس ؟
سكتت فاطمة ، لاذت بالصمت . . .
لقد اكتشف أبوها اذن انها جاءته لحاجة ثم عادت دون ان تسأله ، وهاهو اليوم يسألها وهي تودّ أن لا تسأله ، على أن منظرها يشفّ عمّا بها خاصّة كفيّها فيما تزالان تؤلمانها من كثرة ما طحنت بالرحى .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 75 _
تدخّل عليّ وقد عرف ان فاطمة لن تقول شيئاً :
ـ أنا أخبرك يا رسول الله. . . انّها استقت بالقربة حتى أثرت في صدرها وجرّت بالرحى حتى مجلت يداها وانّها تسألك جارية تكون لها عوناً في ذلك . . .
شعر النبيّ بالحزن يعتصر قلبه وانبجست من عينيه الدموع وقال بلهجة تنم عن اعتذار عميق لابنته :
ـ يا بضعة محمّد ، انّ في المسجد اربعمائة رجل مالهم طعام ولا ثياب . . . فتعجلي يا بنتاه مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة . . .
وأقبل النبيّ على عزيزته يرفدها من روحه العظيمة فقال :
ـ ألا أعلمك ما هو خير لك من الخادم .
ـ أجل يا أبه .
ـ تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين مرّة وتحمدين ثلاثاً وثلاثين مرّة وتكبّرين أربعاً وثلاثين ، تلك مئة باللسان وألف حسنة في الميزان .
ابتسمت فتاة الأنبياء ، ظهر البشر في عينيها العميقتين عمق البحار . . . وهمست في نفسها :
ـ طلبنا الدنيا فجاءت لنا الآخرة .
ويمرّ عام ، تعاقبت فصوله الأربعة وانطوت أيامه ولياليه .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 77 _
اطلّ شهر رمضان وتألقت لياليه الجميلة . . . السماء تكتظّ بالنجوم . . . وصفاء لا عهد ليثرب به يسود المدينة ، وطافت آيات القرآن بساتين النخيل والأعناب .
فاطمة صائمة ، والهلال الذي بزغ في سماء يثرب ينمو يكبر ، وجنين في بطن فاطمة يتحرّك يفيض بالحياة . . . والعيون تترقب كوكباً سيشرق على الدنيا .
كبر الهلال أصبح نصف دائرة من فضة . . . وتدور الليالي حتّى إذا أصبح القمر بدراً ، بدأت لحظة المخاض .
تألق الأمل في بيت عليّ . . . وأطلّ على الدنيا صبي عليه سيماء محمّد .
خفّ النبيّ الى منزل فاطمة ، والبشرى تطوف فوق جبينه .
هتف النبيّ بأسماء وكانت عند فاطمة :
ـ هاتي إليّ إبني .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 78 _
تقدّمت اسماء تحمل طفلاً ملفوفاً بمنديل أصفر .
احتضن النبيّ حفيده وطوّح بالمنديل الأصفر بعيداً وقال :
ـ يا أسماء ألم أعهد اليكم ان لا تلفّوا المولود بخرقة صفراء . . .
أسرعت اسماء وأحضرت منديلاً أبيض ، وبدا الوليد حمامة بيضاء ، أو غمامة هبطت من سمائها إلى الأرض.
تساءل النبيّ عن اسمه فقال عليّ :
ـ ما كنت لأسبق رسول الله.
ـ يا عليّ أنت مني بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون .
ـ وما كان اسمه يا نبيّ الله.
ـ اسمه شبّر .
ـ العرب لا تعرف هذا الاسم .
ـ سمّه حسناً .
ـ كانت فاطمة سعيدة وكانت سعادتها انعكاساً لسعادة والدها كما ينعكس النور في المرايا . . .
كانت فاطمة فرحة لأنها لم تر أباها سعيداً كهذا اليوم ، طافت أمام عينيه سعادة قديمة يوم قدّمت خديجة طفلته الحبيبة فاطمة . . . يوم بشّره جبريل بالكوثر .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 79 _
مرّت سبعة أيام . . . أيام ملوّنة كقوس قزح . . . حتّى اذا أطلّ اليوم السابع . . . نحر النبيّ كبشاً وعقّ عن حفيده . . . لقد فدت السماء اسماعيل بكبش وهاهو حفيد ابراهيم يفدي الوليد المبارك بكبش أملح . . . واعطى القابلة فخذاً و ديناراً . . .
وضع النبيّ الوليد في أحضانه وحلق شعره وتصدّق بوزن الشعر فضة .
وأدرك الذين رأوا النبيّ وحفيده وتلك السعادة التي كات تتدفّق في وجه النبيّ ان حبّاً عظيماً قد تفجّر في قلب الرسول وان لهذا الوليد المبارك شأناً عظيماً .
وتدور الأيّام والقلب الصغير ينبض بهدوء كنهر هادئ . . .
استعادت فاطمة نشاطها بل شعرت ان قوّة كامنة قد تولّدت في روحها . . . قوّة تدفعها الى العمل . . . الى ان تلمس الأشياء فتمنحها اسمها وجمالها .
رشت الفناء بالماء . . . تناثرت من بين أصابع كفّها حبّات باردة كانت تتألّق في ضوء الشمس . . . وامتلأ الفضاء برائحة طيّبة تشبه رائحة الأرض المرشوشة بالمطر . . . رائحة تشدّ المرء إلى أن يفتح صدره فيستنشق الهواء يملأ به رئتيه .
كان الحسن في مهده غافياً . . . وطيف ابتسامة يلوح فوق فمه
وكانت صديقة ( رواية )
_ 80 _
الدقيق كوردة تتفتح للربيع . . . ربما كان يحلم باشياء جميلة . . . أشياء أودعها الله في النفس يوم خلق الانسان .
كانت فاطمة ترنو الى الوليد الذي صيّرها امّاً ، وقد ولدت فاطمة الامّ . . . تدفق نبع الامومة في قلبها فيّاضاً رقيقاً . . .
جلست إلى الرحى ومسّتها فدارت حول قطبها هادئة .
وبصوت رخيم راحت بنت النبيّ ترتّل آيات جاء بها جبريل من السماوات البعيدة لشدّ ما تحب فاطمة تلك الفتاة الطاهرة . . . مريم ابنة عمران . . . انساب الصوت رقيقاً مؤثّراً كساقية :
( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) .
رنت فاطمة نحو وليدها . . . حرّكت مهده بقدمها وراح المهد يتهادى على هون كزورق في بحيرة رائقة .
الرحى تدور بهدوء . . . وكلمات السماء تنساب بخشوع . . . والمهد يتأرجح برفق . . . وتلتقي هذه الأشياء لتملأ حياة فاطمة حيث الزمن نهر تتدافع امواجه في رحلة نحو البحر الكبير ، أورحى كببيرة تدور حول قطب ثابت لا يعرف الدوران .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 81 _
جلس أبو حفصة يفكّر ، والليل والظلام فلاة واسعة يبذر المرء فيها ما يشاء ويزرع ما يشاء ويحصد ما يشاء ، يطير في السماء أو يمشي في الأرض يخرقها أو ينافس الجبال طولاً . . .
جلس أبو حفصة وحيداً وبدا جبينه الواسع برّاقاً في ضوء القنديل . . . كان يفكّر في ماضيه . . . شجرة قصيرة النسب . . . ليس لها جذور في أرض الجزيرة . . . في مكة كان يهرب من نفسه يشرب الخمر كؤوساً تنسيه ماضيه فيعيش في بعض خيالاته . . . أو ربما ثأر من بعض أهل الشرف ، فيتغاضون عنه . . . والسكر عذر .
تذكر فرحته يوم ( أسلم ) . . . محمّد منحه الأمل في حياة لا حسب فيها ولا نسب إلاّ التقوى ولكن خابت آماله في المدينة ما يزال البعض ينظرون اليه نظرات مستفهمة . . . فكان يزيد التصاقه بالنبيّ ، زوّجه ابنته حفصة ، أصبح صهراً لرجل عظيم في الجزيرة كلّها ،
وكانت صديقة ( رواية )
_ 82 _
صادق أبا بكر ، وأبو بكر له منزلة ، هاجر مع النبيّ . . . بات معه في الغار .
امتدّ به الليل . . . وأضحت النجوم أشدّ لمعاناً . . . اشتعلت في أعماقه رغبة مجنونة في الهرب . . . تناول جفنة صغيرة فملأها خمرة معتّقة وأفرغها في جوفه ، شعر بأن أعماقه تشتعل ، وزاد وجهه حمرة كجمرة متوقّدة في الظلام . . . صبّ لنفسه جفنة اخرى واخرى . . . اشتعلت عيناه . . . تراقصت فيهما اضواء القنديل . . . عوت ذئاب ، وولد وحش في أعماقه ، كان الوحش يكبر ويكبر . . . يزداد شراسة ، فجأةً هبّ واقفاً حتى كاد راسه أن يرتطم بالسقف . . . سوف يحطّم بيوت يثرب . . . اتّجه الى منزل ( ابن عوف ) لشدّ ما يكره هذا الرجل . . . يفاخر بنسبه يتباهى بذهبه وفضته . . . طرق الباب بعنف . . . فخرج الرجل وهو يحاول فتح عينيه بصعوبة ، التمعت عينا ابي حفصة وهو يهوي على رأس ابن عوف بقبضته ، ارتدّ الرجل مذعوراً وما لبث أن تهاوى في عتبة الباب .
راح عمر يجتاز البيوت حتى اذا جعلها وراءه وبدت الصحراء أمامه بعيدة والسماء تكتظّ بالنجوم . . . تذكّر ما جرى قرب آبار بدر . . . تذكّر صناديد قريش . . . وهم يسحبون فوق الرمال ثم يرمى بهم في القليب ، راى أبا جهل جثّة هامدة . . . ورأى اميّة بن خلف وعتبة وشيبة والوليد ، رآهم صرعى وكانوا يملأون مكّة هيبة . . . لقد أخذهم الموت
وكانت صديقة ( رواية )
_ 83 _
دون عودة . . . وخلّفوا وراءهم ذهباً وفضة ونساءً جميلات وخلّفوا شجرة مجدهم الرفيع .
انطلق أبو حفصة يتغنى بشعر الأسود :
وكـاين بـالقليب قليب iiبدر من القينات والشرب iiالكرام وكـاين بـالقليب قليب iiبدر من السرب المكامل iiبالسنام أيدعونا ابن كبشة ان سنحيا وكـيف حـياة اصداء وهام أيـعجز أن يرّد الموت iiعني ويـنشرني اذا بليت iiعظامي |
سمع بعضهم صوت عمر يشقّ صمت الليل ففضّل السكوت . . . رجل عنيف حادّ الطبع .
ولكن ( ابن عوف ) لم يتحمّل كان يشقّ طريقه في الظلام الى منزل النبيّ . . . انّه يعرف رسول الله، سوف يجده مستيقظاً يعبد الله ، وربما ينتظر أوبة رجال بعثهم في الصحراء يستطلعون له أخبار القبائل وأخبار قريش فقريش لا تنام على الثأر .
طرق ابن عوف الباب وانتظر . . . اطلّ النبيّ بوجهه المضيء . . . رأى
وكانت صديقة ( رواية )
_ 84 _
صاحبه ابن عوف ، وخيط من الدم يلون راسه وقطرات حمراء فوق ثوبه .
تمتم ابن عوف بشيء من العتب :
ـ عمر يا رسول الله . . .
أدرك النبيّ كلّ شيء . . . ما يزال صاحبه يشرب الخمرة ويفعل ما يحلو له . . .
بان الغضب على وجه النبيّ بعدما عرف بأن صاحبه يتغنى بشعر اعدائه . . . يردده كلمة بكلمة وحرفاً بحرف . . . والأنكى من ذلك أنّه يحرض المشركين لإطفاء النور الذي توهّج في الجزيرة .
وربّما لاوّل مرّة ، رأى المسلمون رسول الله يتميّز غضباً . . . حتى اذا وقف على رأس صاحبه ، هتف أبو حفصة وقد عاد الى وعيه :
ـ أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله .
كاد الرسول أن يهمّ به لو لا كلمات سمعها هدأت نفسه وكظم غيظه . . . يا للإرادة تضع نفسها فوق فوهة بركان ثائر . . . وهكذا تعرف الرجال في مواقف كهذه دونها لهوات الحرب وظلال السيوف .
عاد النبيّ الى منزله يفكّر في آفة العقول هذه ماذا تفعل بالناس . . . هؤلاء الفارّون من ضوء النهار الى هلوسة الظلام .
نهض أبو حفصة يجرجر قدميه عائداً هو الآخر الى بيته . . . وكانت
وكانت صديقة ( رواية )
_ 85 _
العيون تحاصره . . . تستنكر هذيانه . . . رفع عمر يديه الى السماء وهتف :
ـ اللّهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر .
وفي الصباح سمع أبو حفصة بآية حملها جبريل من قلب السماوات :
ـ ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .
هتف عمر وهو يحطّم آنية الخمر بعصبية :
ـ نعم انتهينا . . . نعم انتهينا .
سادت المدينة حركة غير عاية وتوالت الحوادث . . . اليهود يتآمرون خلف حصونهم يحرّضون المشركين كافة على غزو المدينة . . . والنبيّ قلبه على المدينة يخاف عليها الغدر . . . وكانت السماء تحرس مدينةً آوت النبيّ . . . تحميها من دسائس اليهود .
|