مضى التاريخ يجوس خلال الرمال . . . ينظر بدهشة الى أرض أرادها الله أن تكون نحلة لبنت رسوله ، مضى التاريخ يجوس خلال الرمال . . . ثلاث سنين سويّا يشعل الحوادث هنا وهناك . . .
  وقعت ( مؤتة ) وقد قتل ( جعفر ) . . . قطعت يداه فأبدله الله جناحين يطير بهما في الجنّة .   فتحت مكّة . . . تهاوت الأصنام والأوثان صارت أنقاضاً . . . وقد دخل حفيد ابراهيم المعبد يحطّم بفأس جدّه وجوه الآلهة . . . وعادت حمائم السلام إلى واد غير ذي زرع .
  وتوقّف التاريخ في وادي حنين . . . يوم اعجبت المسلمين كثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين .
  دارت رحى فاطمة ودار الزمن دورته ومرّ عام فإذا رسول الله يتحدّى دولة الروم وجيوش هرقل .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 172 _

  القبائل العربية ترسل وفودها إلى المدينة وقد فاءت إلى دين الله. . . ورأى الناس وهم يدخلون في دين الله أفواجاً .
  وقد أسلم كعب فأعطاه نبي الله ( البردة ) ، وأسلم باذان بن ساسان في اليمن .
  وجاء جبريل يحمل سورة ( براءة ) ، وأذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الأكبر انّ الله بريء من المشركين ورسوله .
  ودوت كلمات عليّ في الكعبة وما حولها :
  ـ لا يدخل الجنّة كافر ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان .
  ثم فرضت السماء الزكاة حتى لا تكون الأرض دولة بين الأثرياء . . . ويضيع الفقراء .
  وبنى المنافقون مسجداً هو مسجد ضرار . . . وان المساجد لله . . . وما كان لله يبقى . . . وما كان لغير الله يذهب هباءً منثوراً . . .
  أرسل النبيّ من يشعل النار في مسجد لم يؤسس على التقوى فإلتهمته ألسنة النار وولّى المنافقون الأدبار . . . ولاذوا بالفرار . . . وذرّت الريح ( ضرار ) . . . رماداً وغباراً .
  ودارت رحى فاطمة ودار عام . . . وجاء وفد من نصارى نجران . . . جاء يجادل في طبيعة المسيح وفي مريم ، جاءوا يقولون انّ عيسى

وكانت صديقة ( رواية ) _ 173 _

  ابن الله، وقد قال الله :
  ـ انّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون . . .
  ـ من تراب ؟ ! !
  ـ كلمته ألقاها إلى مريم .
  ـ بل ابن الله.
  ـ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
  ـ لا ندع الربّ يسوع وقد صلب من أجلنا ، من أجل الانسان الخاطئ .
  ـ تعالوا ندع ابناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين .
  كان ( العاقب ) يراقب موكباً عجيباً . . . رجل يحمل في روحه ملامح المسيح . . . يمسك بيده اليمنى صبيّاً في السابعة وفي اليسرى صبياً في السادسة ومعه شاب يكاد أن يكون له ظلّاً وخلفهم فتاة تشبه مريم .
  نصارى نجران في حيرة ورأى العاقب في السماء دخاناً . . . وتلك الوجوه الخمسة تتألّق في الضوء . . . والفضاء مشحون بالغضب واللعنة

وكانت صديقة ( رواية ) _ 174 _

  قاب قوسين أو أدنى . . .
  تأثرت القلوب ودمعت العيون خشية لله . . .
  ومدّ العاقب إلى النبيّ يد السلام ، فقال النبيّ :
  ـ لنجران جوار الله وذمّة محمّد رسول الله.
  وعاد أهل نجران إلى ديارهم . . .
  وتمرّ الأيّام . . . وينطلق رسول السماء الى حجّ بيت الله . . . واختارت السماء ( غدير خمّ ) في طريق العودة وهبط جبريل :
  ـ يا أيّها الرسول بلّغ ما انزل اليك من ربّك وان لم تفعل فما بلّغت رسالته .
  ـ والناس ؟
  ـ الله يعصمك من الناس .
  الرمال تشتعل لهيباً لا يطاق .
  وتوقف النبيّ فتوقف معه مئة ألف أو يزيدون ، وعلامات استفهام ترتسم على الوجوه وتوقّف التاريخ يصغي لما يقول آخر الأنبياء :
  ـ ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟
  ـ بلى يا رسول الله.
  ـ من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه . . . أيّها الناس ستردون عليّ الحوض وأنا سائلكم عن الثقلين .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 175 _

  ـ وما الثقلان يا نبيّ الله ؟
  ـ كتاب الله وعترتي أهل بيتي .
  ـ ومضى التاريخ لا يلوي على شيء . . . وعادت قوافل الحج الأكبر تستأنف رحلة العودة إلى الديار وقد دخل الناس في دين الله أفواجاً وهبط جبريل يتلو على الرسول آخر آيات السماء . . .
  ـ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا .
  وشعر النبي ان مهمته في الأرض قد انتهت وآن له أن يستريح ولكن . . .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 177 _

  كانت فاطمة تقرأ القرآن . . . في يدها مصحف . . . فجأة سقط المصحف على الأرض . . . ثم حلّق في السماء يخترق الغيوم . . . ويتيه بين النجوم . . . ورأت فاطمة نفسها تطير وراءه . . . تريد اللحاق . . .
  وكان القرآن ينادي :
  ـ هلمي إليّ. . . هلمي إلى السماء .
  ونظرت فاطمة رواءها فرأت الأرض زيتونة مشحونة بالبرق وبالرعود .
  هبّت فاطمة من نومها . . . وهواجس الخوف تحاصرها .
  قالت لأبيها :
  ـ يا أبتي اني رأيت قرآناً يسقط من يدي .
  قال الذي عنده علم الكتاب :
  ـ يا فاطمة . . . يوشك أن أدعى فأجيب . . . وقد عرض عليّ جبريل

وكانت صديقة ( رواية ) _ 178 _

  القرآن في هذا العام مرّتين .
  تجمّعت في عينيها الدموع . . . ضرب الحزن اطنابه في القلب الكسير . . . دق أوتاد خيامه .
  قال الأب ليسرّي عن ابنته :
  ـ لا تحزني . . . أنت أول أهل بيتي لحوقاً بي .
  أشرقت شمس الأمل . . . وجدت لها طريقاً خلال الغيوم فاعادت البسمة تموج فوق وجه أزهر . . . وجه يتألّق بنور الله ، والله نور السماوات والأرض.
  وتمرّ الأيّام متوجسة والأرض تفتقد جبريل .
  سقط رسول السماء مريضاً فوق الأرض . . . عصفت به الحمى . . . عجز الماء عن اطفائها . . . وشعر الرجل السماويّ بأنّ الافق مشحون بالمؤامرة وان هناك عيوناً تبرق في الظلام تريد الاستحواذ على أمانة . . . تهيّبت حملها السماوات والأرض.
  هناك في الخفاء وبعيداً عن العيون كانت العنكبوت تنسج شبكة مخيفة ، وكانت هناك فراشة قادمة . . . تحلم بالربيع دفعتها ريح صفراء فهي توشك ان تسقط في بيت هو أهون البيوت .
  في الليل والناس نيام حطّم الشيطان أغلاله وذرّ قرنيه يريد الفتنة . . .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 179 _

  كان الجوّ مكفهراً . . . وقد ادلهمت السماء . . . وسكون مهيب يجثم فوق المدينة . . . والقلق عاصفة مدمّرة تهزّ القلوب تريد اجتثاث الطمأنينة منذ بيعة العقبة وبيعة الرضوان ، كانت القلوب خائفة وهي تنطوي على شيء يوشك أن تفقده . . . السلام . . . كان محمّد سلاماً في الأرض. . . والأرض توشك أن تفقد هذا السلام . . .
  ورسول الله يغلي بالحمّى . . . وأفواه القرب تريد اطفاء الجمر ، حتى اذا هدأت الحمى وانتظمت انفاس النبيّ أرسل وراء أصحابه وقد شمّ في الفضاء رائحة غريبة . . .
  طفحت الفرحة فوق الوجوه وهي تنظر الى النبيّ هادئاً قد فارقته الحمّى ، قال الرسول وهو يريد تمزيق شباك العنكبوت :
  ـ ألم آمركم أن تنفذوا جيش اسامة .
  تمتم بعض الصحابة :
  ـ بلى يا رسول الله.
  ـ لم تأخرتم عن أمري ؟
  قال أبو بكر مبرّراً :
  ـ اني خرجت إلى الجرف ثم رجعت لاجدد بك عهداً .
  وعلّق عمر :
  ـ وأنا لم أخرج . . . لا أريد أن اسأل عنك القوافل .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 180 _

  العنكبوت منهمكة في مدّ الخيوط لاصطياد فراشة الربيع والنبيّ يحاول تمزيقها :
  ـ انفذوا جيش اسامة . . . لعن الله من تخلّف عن جيش اسامة .
  تسارعت أنفاس الرسول وكان قلبه يخفق بشدّة وقد عاودته الحمّى ، وشعر بدوار يعصف برأسه . . . حتى غامت الأشياء حوله . . .
  وبكت النسوة . . . وكادت فاطمة أن تموت .
  أفاق النبيّ من غيبوبته وقد شعر بالخيوط الواهنة تسدّ الطريق على فراشة الربيع فحاول للمّرة الأخيرة :
  ـ أئتوني بدواة وصحيفة لأكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً .
  هبّ صحابي ينشد الهداية . . . ولكن العنكبوت كانت قد سدّت الطريق أمام فراشة النور .
  قال عمر آمراً :
  ـ ارجع ! لقد غلب الوجع رسول الله . . . انه ليهجر وحسبنا كتاب الله.
  رمق أبو بكر صاحبه بنظرات ذات معنى .
  وقال الذي نهض :
  ـ هل أحضر لك الدواة يا نبيّ الله ؟
  قال النبيّ بحزن :

وكانت صديقة ( رواية ) _ 181 _

  ـ أبعد الذي قاله عمر .
  واحتجت النسوة من وراء حجاب وكان صوت ام سلمة واضحاً :
  ـ ائتوا رسول الله حاجته .
  هتف عمر بعصبية :
  ـ اسكتن فانكنّ صواحب يوسف . . . إذا مرض عصرتن أعينكنّ واذا صح أخذتن بعنقه .
  نظر النبيّ إلى أبي حفص وتمتم :
  ـ هنّ خير منكم .
  وبكى أحد الصحابة ، وقد شعر بهبوب العاصفة . . . وتفرّق من كان حاضراً . . . ولم يبق مع النبيّ إلاّ شاباً لا يفارقه مذ أطلّ على الدنيا وهاهو اليوم الموعود . . . يوم تعود فيه النفس الى بارئها راضية مرضية . . .
  اليوم هو يوم الاثنين . . . و ( صفر ) لا يريد الانطواء إلاّ بعد أن يشهد رحيل السلام . . .
  كان عليّ يعتنق الرجل الذي ربّاه صغيراً وعلّمه كبيراً وفتح له أبواب الملكوت . . . والنبيّ يشدّ على يد فتى شرى روحه لله والرسول . . . الله وحده الذي يراقب الأعماق . . .
  كان عليّ كالمذهول ، ودّ لو يقيه بروحه . . . الحياة مريرة دون محمّد ، وما أحلى الموت معه أو دونه .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 182 _

  نهضت ( فاطمة ) تجرجر نفسها بعناء وتبعها السبطان . . . فإنّ للنبيّ والوصي ساعة من وداع بعد رحلة دامت ثلاثة وعشرين سنة . . .
  لحظات كالقرون المتمادية والنبيّ ينوء بنفسه ، يصغي إلى ملائكة الرحمن ، ولكن أهل الأرض عن السمع لمحجوبون . . . لم يسمعوا شيئاً سوى كلمات هي آخر ما حفظته الأرض من رسول السماء :
  ـ بل الرفيق الأعلى . . .
  وانطلق ( محمّد ) نحو الله يعبر السماوات مخلّفاً جسده بين ذراعي عليّ . . . وقد هبّت العاصفة ، وحطّم الشيطان أغلاله فراح يوقظ الأوثان العربية .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 183 _

  المدينة هائجة وقد زلزلت الأرض زلزالها . . . فالقلب الذي كان ينبض حبّاً للفقراء والمحرومين قد توقّف الى الأبد . . . وانقطع ذلك الحبل الممدود الذي يربط السماء بالأرض . . . واختفت ظلال جبريل وبدا المسجد خاوياً على عروشه . . .
  العيون تبكي والحناجر تشرق بالعبرات ، ليت السماء اطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السهل .
  هل رأيت قطيعاً من الماشية سقط راعيها فراعها خوف من ذئب قد يشدّ عليها فهي تجري في كلّ اتجاه تبحث عمن يهبها الطمأنينة حتى لو كان وهماً .
  وهل رأيت غريقاً في بحر هائج يتشبث بكلّ شيء غير الماء حتّى لو كان قشّة لا شأن لها . . .
  هكذا كانت المدينة . . . ذلك النهار العاصف كان أبو حفص زائغ

وكانت صديقة ( رواية ) _ 184 _

  العينين يبحث عن صاحبه يترقّب حضوره بين اللحظة والاخرى . . . همس في نفسه حانقاً :
  ـ ما كان على أبي عائشة أن يذهب الى ( السنخ ) في هذه الأيام . . .
  كان منظر ( عمر ) مخيفاً بطوله الفارع وعينيه المتوقدتين وزادت نظراته الغضبة هيبته في النفوس فتنحوا عن طريقه وهو يدخل منزل النبيّ .
  كشف عمر عن وجه النبيّ وتمتم بصرامة :
  ـ لقد اغمي على رسول الله.
  قال أحد الحاظرين مستنكراً :
  ـ قد مات رسول الله.
  أجاب عمر بغضب :
  كذبت ما مات ولقد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، غادر عمر المنزل هائجاً ووقف وسط الجماهير وهو يلوح بسيفه :
  ـ ان رجالاً من المنافقين يزعمون ان رسول الله قد مات وانّه والله ما مات ولكنه ذهب الى ربّه كما ذهب موسى بن عمران والله ليرجعنّ رسول الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته .
  وجد القطيع الممزّق شبحاً لراع فالتفت حوله تلتمس الأمن ،

وكانت صديقة ( رواية ) _ 185 _

  ووجد الغرقى قشّاً فراحوا يتشبثون .
  وعندما يفقد الانسان الأمل فانّه قد يعمد الى وهم يهبه شكل الحقيقة في لحظة يأس مريرة . . .
  تحلق الناس حول رجل يبرق ويرعد ويهدّد من يقول بموت الرسول . . . وما أجمل ما يقوله ( عمر ) انّ محمّد لم يمت ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كلّه . . . لله درّك يابن الخطّاب .
  كان المغيرة ينظر الى أبي حفص يفكّر في لغز استعصى حلّه عليه . . . ارتسمت علامة استفهام كبيرة ما تزال حتى اليوم وربّما إلى يوم الدين .
  من بعيد لاح أبو عائشة يحثّ الخطى . . . ولعلّ ( المغيرة ) قد لاحظ شيئاً . . . فقد بدا الرجل الذي كان يهدّد ويتوعد من حوله بالويل والثبور يخفف من حدّته . . . وانحسرت تلك الزوبعة المدمّرة ليحلّ مكانها سكون رهيب .
  هتف أبو بكر من بعيد :
  ـ على رسلك ايّها الحالف .
  ثم التفت الى الامة المدهوشة :
  ـ ايّها الناس من كان يعبد محمّداً فانّ محمّداً قد مات ومن كان يعبد الله فانّ الله حيّ لا يموت . . . وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من

وكانت صديقة ( رواية ) _ 186 _

  قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً .
  تنفّس أبو حفص الصعداء وهو يرنو الى صاحبه الذي حضر في الوقت المناسب . . .
  كان المغيرة ما يزال يراقب أبا حفص وهو يكاد يصعق . . . لقد انتهت الثورة ، فجأة هدأت العاصفة ، استسلمت عند قدمي أبي عائشة . . .
  وقف عمر الى جانب صاحبه وانظمّ اليهما رجل ثالث هو ( إبن الجرّاح ) وتبادل الثلاثة نظرات هي أبجدية كاملة . . . ربّما كانوا يفكّرون للمستقبل ليومين أو ثلاثة أو ربما للتاريخ كلّه .
  ان كلّ التحولات الاجتماعية الكبرى انما تولد في الضمائر قبل أن تجد طريقها الى الواقع . . . انّها موجودة في دائرة القوّة حتى يأتي من يخرجها الى دائرة الفعل . . . وكان في ضمائر جلّة المهاجرين وقريش قاطبة ألاّ تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم . . . وقد قرأ رجال ما يجول في الخواطر ليخرجوا ما استتر في الضمائر وعجز النبيّ عن هزيمته يوم هزم الاوثان العربيّة .
  النبيّ الذي جاب الصحراء ينشر فيها النور والحياة هو الآن جثّة هامدة . . . وتوقّف القلب الذي ينبض بالحبّ . . . القلب الذي سحر كل القلوب فتآلفت ، ومذ توقف هذا القلب انفرط عقد القلوب جميعاً كما

وكانت صديقة ( رواية ) _ 187 _

  التيار الكهربائي إذا انقطع انطفأت المصابيح وعاد الظلام فلا تسمع سوى أصوات بومة تصيح :
  ـ هوو . . . هوو . . . هوو . . . تبشّر بزمن الخرائب والاطلال ، ياله من صباح مظلم كئيب . . . احترقت شمسه وانتحر ضياؤه . . . عيون غارقة في بحيرات الدمع وعيون تترصد بحذر بيتاً فيه جسد مسجى وقلوب كسيرة ورياحين ذابلة وشموع منطفئة . . .
  وهناك وبعيداً عن كلّ العيون اجتمع رجال من ( الأوس ) برجال من ( الخزرج ) يتشاورون في رجل ( مزمّل ) وقد أوجسوا خيفة من غدر قريش .
  ( السقيفة ) تكتظ برجال نصروا الرسول وآزروه يوم كان شريداً ، وقهروا به الذين شرّدوه عن دياره بغير حقّ .
  طافت خيالات ( بعاث ) في فضاء السقيفة ، نشرت ظلالها سوداء كالحة . . . نكأت جروحاً ضمدها رسول السماء فاندملت . . . الى حين .
  قال سعد وكان دنفا :
  ـ يا معشر الأنصار ان لكم سابقة في الدين وفضيلة ليست لقبيلة من العرب . . . فلا تدعوهم يغلبوكم على أمركم .
  قال زيد مؤيداً :
  ـ وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن تعدو ما أمرت نولّيك

وكانت صديقة ( رواية ) _ 188 _

  هذا الأمر ، فأنت لنا مقنع ولصالح المؤمنين رضى .
  قال ( ابن حضير ) :
  ـ ولكنهم عشيرة النبيّ وهم أولى به من غيرهم .
  أجاب ابن المنذر مستدركاً :
  ـ إذن نقول لهم منّا أمير ومنكم أمير .
  هتف سعد غاضباً :
  ـ هذا أوّل الوهن .
  وتمتم ابن الأرقم متأسفاً بصوت لم يسمعه أحد :
  ـ لك الله يا عليّ . . . ان الملأ يأتمرون بك لي . . .
  وانسلّ من بين الجمع شبحان راحا يحثان الخطى وقد انبعثت في الأعماق اصداء معركة قديمة في يوم من أيام العرب .
  قال عويم يحثّ صاحبه :
  ـ اسرع يا معن قبل أن تعقد لسعد .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 189 _

  بدا ( أبو عائشة ) متردّداً يقدم ويحجم . . . كرجل تاهت به السبل . . . يزن الامور بوقار تاجر قديم ، قال في نفسه : ليقنع بنو هاشم بالنبوّة وليدعوا الخلافة لبطون قريش ولكن ماذا يفعل ووصايا النبيّ في الصدور وفي القلوب .
  أبو بكر غارق في تأمّلاته . . . وكان صاحبه يختلس اليه النظرات . . . نظرات مصممة قويّة ثاقبة لا يعرفها سوى ( الجرّاح ) . . . وبدا أبو حفص في تلك اللحظات قويّاً كالعاصفة جبّاراً كالسيل وقد اشتعلت في أعماقه كلمات قالها يهودي ذات يوم :
  ـ أنت ملك العرب .
  كان عمر غارقاً في هواجسه عندما وصل ( عويم ) و ( معن ) .
  هتف ( أبو حفص ) :
  ـ ماذا ؟!!

وكانت صديقة ( رواية ) _ 190 _

  لم يكن هناك وقت . . . فالفرص تمرّ مرّ السحاب وانطلق ثلاثة رجال . . . لو رأيتهم من بعيد لأدركت أيّة طامّة وقعت لهم أو عليهم . . . كانوا يسرعون الخطى . . . والرسول ما يزال مسجّى . . . في فراشه . . . يتحدّث بلغة الصمت . . . لغة عجيبة لا تفهمها سوى اذن واعية . . .
  رجال من الاوس ورجال من الخزرج يأتمرون قد أوجسوا خيفة . . . ورجال من قريش يحثون الخطى إلى سقيفة لبني ساعدة والنبيّ يدعوهم بلغة الصمت . . .
  ( الغنائم ) تلوح من بعيد شهية يسيل لها اللعاب وقد ترك ( الرماة ) مواقعهم . . . في ( عينين ) والرسول يدعوهم .
  اقتحم الثلاثة ( السقيفة ) ، وبدت الوجوه مخطوفة اللون شاحبة قد عراها اصفرار ، لقد انتقض الغزل وهو في أيديهم . . . كان أبو حفص على وشك أن يثور لولا أبو بكر :
  مهلاً يا عمر : الوفق هنا أبلغ .
  وتوجّه أبو بكر إلى الأوس والخزرج بكلمات هادئة :
  ـ يا معشر الانصار من ينكر فضلكم في الدين وسابقتكم العظيمة في الاسلام ؟ . . . والله رضيكم لدينه ورسوله أنصاراً وانتخبكم محلاً لهجرته وفيكم جلّ أزواجه وأصحابه . . .
  ثم أردف وهو يرمي سهماً في الهدف .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 191 _

  ـ نحن الامراء وأنتم الوزراء .
  اعتراض ( الحبّاب )و قد أخفق في إخفاء وهنه :
  ـ بل منّا أمير ومنكم أمير .
  انتفض عمر ليشدّد الهجوم :
  ـ هيهات لا يجتمع اثنان في قرن . . . والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيّها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع ان تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم وولي امورهم منهم ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجّة الظاهرة والبرهان المبين . . .
  وأردف وقد أخذه حماس المنتصر :
  ـ من ذا ينازعنا سلطان محمّد وامارته ونحن أولياؤه وعشيرته الاّ مبطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هلكة .
  ردّ الحبّاب بغضب :
  ـ املكوا أمركم يا معشر الأنصار ولا تسمعوا مقالة هذا فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر . . . فان أبوا فاجلوهم عن البلاد . . . إنّا أحقّ بالأمر منهم ، بأسيافنا دان العرب لهذا الدين . . .
  وأخذته فورة حماس فراح يطلق التهديدات حمماً :
ـ أنا شبل في عرينة الأسد . . . والله لا يردّ عليّ ما أقول إلاّ حطمت أنفه بالسيف .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 192 _

  انبرى عمر لامتصاص العاصفة بمرونة متكلّفة :
  ـ اذن يقتلك الله.
  ـ بل إيّاك يقتل .
  ونهض رجل من الخزرج وقد رفع راية بيضاء :
  ـ إنّا أول من نصر الله ورسوله وجاهدنا المشركين لانبتغي من الدنيا عرضاً . . . ألا وان محمداً من قريش وقومه أولى به وأحقّ . . . فاتقوا الله يا معشر الأنصار ولا تخالفوهم . . . ولا تنازعوهم .
  تنفّس عمر بارتياح وهو يراقب تهاوي القلاع . . .
  هتف الحبّاب مخذولاً :
  ـ حسدت ابن عمّك ! !
  ـ لا والله. . . ولكن كرهت ان أنازع قوماً حقّاً جعله الله لهم .
  وانبرى أبو بكر لا قتطاف أولى الثمار ، أشار الى عمر وأبي عبيدة وقال :
  ـ قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فايّهما شئتم فبايعوا .
  وبطريقة لم تبد عفوية هبّ عمر مستنكراً :
  ـ معاذ الله. . . أنت أفضل المهاجرين . . . ابسط يدك .
  بسط ( أبو بكر ) يده وقد سقطت التفاحة في قبضته ، ونهض رجل من الخزرج فبايع . . . ورجل من الأوس. . . وتهاوت القلاع والحصون . . .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 193 _

  وتمّت أول ( فلتة ) في تاريخ الاسلام .
  بدا ( الحباب ) متشنجاً كمن أصابه مسّ من الجنون فالتفت اليه أبو بكر مدارياً :
  ـ أتخاف منّي يا حباب ؟
  ـ ليس منك ولكن ممن يجيء بعدك .
  ـ اذا كان ذلك كذلك فالأمر اليك والى أصحابك ليس لنا عليكم طاعة .
  ـ هيهات يا أبا بكر اذا ذهبت أنا وأنت جاءنا من بعدك من يسومنا الضيم .
  وقال أبو عبيدة بلين :
  ـ يا معشر الأنصار أنتم أولي فضل ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي .
  أجاب زيد وقد هزّه اسم عليّ :
  ـ إنّا لا ننكر فضل من ذكرت وان منّا سيّد الانصار سعد بن عبادة وإمام العلماء سعد بن معاذ وذو الشهادتين خزيمة . . . وان بين من ذكرت من قريش لو طلب الخلافة لا ينازعه أحد .
  ـ من ؟!!
  ـ عليّ بن أبي طالب . . . والله ما اجتمع الأنصار في السقيفة إلّا بعد شمّوا رائحة غدر دبّر بليل .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 195 _

  إنطوى يوم الاثنين وقد ألقى الحزن كلاكله فوق الأرض كغراب اسطوري ، فاطمة تنوء بنفسها وقد اسندت رأسها إلى صدر لم يعد النسيم يزوره .
  كانت تصغي الى صمت الأنبياء وللصمت حديث تسمعه القلوب وتصغي إليه العقول ، العينان اللتان كانتا نافدتي نور قد اسدلتا جفونهما واليدان اللتان كانتا مهداً هما الآن مسبلتان ، الروح التي كانت تصنع التاريخ والانسان قد رحلت بعيداً ، غادرت هذا الكوكب الزاخر بالويلات .
  لقد حلّت لحظة الفراق ، وتخفف الانسان السماوي من ثوبه الأرضي ليرحل الى عوالم حافلة بالنور وقد سمع أهل الأرض كلمات النبيّ ، كان ينظر الى السماوات ويهتف :
  ـ بل الرفيق الأعلى .

وكانت صديقة ( رواية ) _ 196 _

  أيّها الصامت . . . صمتك أبلغ من كل أبجديات الدنيا وسكونك المدوّي صرخة حقّ في عالم الأباطيل ، وقد زلزلت الأرض زلزالها ، انهار عمود خيمة كانت تعصف بها الريح . . . وتمزّق الكساء اليماني ، وكان يدّثر نبيّاً هو خاتم الأنبياء ورجلاً يشبه هارون في كلّ شيء إلاّ النبوّة ، وامرأة هي سيدة بنات حوّاء وسبطين هما آخر الأسباط في التاريخ .
  جثا عليّ أمام جسد كانت روحه العظيمة تضيء الجزيرة وبقايا نور في الجبين البارد تشبه شمساً جنحت للمغيب . . . وهناك خلف جدران المنزل الذي جثم عليه حزن سرمدي كانت ترتفع ضجّة رجال . . . كريح صفراء كانت تقترب من المسجد حيث لا يفصله عن المنزل سوى جدار يكاد أن ينهدّ .
  وخفّ رجل هاشمي يحمل انباء السقيفة . . .
  ستهب الريح عاصفة مدمّرة . . . لا تبقي ولا تذر ، تساءل علي :
  ـ ماقالت الأنصار ؟
  ـ قالت منّا أمير ومنكم أمير .
  ـ فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول الله وصّى بأن يحسن الى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم .
  ـ وما في هذا من الحجّة عليهم ؟
  ـ لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم ، سكت هنيهة وسأل :

وكانت صديقة ( رواية ) _ 197 _

  ـ فماذا قالت قريش ؟
  ـ قالت : انا شجرة محمد .
  تمتم علي بأسى :
  ـ احتجّوا بالشجرة واضاعوا الثمرة .
  وقف هارون حائراً يتأمّل رمال سيناء . . . يترقّب عودة أخيه . . . وكان موسى يمم وجهه شطر الجبل . . .
  ـ ما أعجلك عن قومك ياموسى ؟
  ـ هم أولاء على أثري وعجلت اليك ربّ لترضى .
  ـ فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامريّ .
  وعاد موسى غضبان أسفاً يحمل معه ألواح السماء .
  وكان هارون يقاوم العاصفة وكان العجل يخور وسط العاكفين ، قال هارون مشفقاً :
  ـ إنّما فتنتم به وإن ربّكم الرحمن فاتبعوني واطيعوا أمري .
  ـ لن نبرح عليه عاكفين حتى يعود الينا موسى .
  ولمّا عاد موسى ألقى الألواح وقال بغضب :
  ـ بئسما خلفتموني من بعدي .
  وقال هارون بحزن :
  ـ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني .