|
مناحات مكّة ما تزال تتصاعد في فضاء الجزيرة كخيوط الدخان ، وقريش تعدّ العدّة للثأر تحدّ سيوفاً وخناجر ، ( أبو سفيان ) يصرّ على نواجذه غيظاً يحاول أن يفعل المستحيل وقد تحوّلت زوجه الى أفعى رهيبة في عينيها يسكن حقد يحيل السلام الى حرب ضروس والأخضر الى رماد ودخان ، هند لاتنام الليل ، تبحلق في الظلام كأفعى اسطورية ، وأبو سفيان يقود خيلاً ورجالاً ، يغير على المدينة في قلب الليل ، يتسلّل كحيّة تسعى ، ويجد ( ابن مشكم ) زعيم بني النظير ينتظره يدلّه على نقاط الضعف في المدينة ، يعلّمه كيف يقتل محمّداً عدوهما المشترك .
كان كعب بن الأشرف يصغي بصمت ، يراقب سيّده كيف يحوك خيوط العنكبوت وأبو سفيان يتلمظ كحيّة عيناه تستعران كجمرتين وبدت ظلاله على الحائط شيطاناً مريداً .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 88 _
قال أبو سفيان وقد أثاره صمت كعب ، ربما تعجب من حماس اليهود لقتل محمّد وهم أهل كتاب :
ـ أقسم عليك بالتوراة ، ديننا خير أم دين محمّد .
انتبه كعب كما لو لسعته عقرب وقال بغيظ :
ـ بل دينكم يا أبا سفيان أهدى من دين محمّد .
قال ابن مشكم بخبث يهودي :
ـ أتراه كاذباً يا أبا سفيان ؟ !
ردّ أبو سفيان وقد ملّ :
ـ كيف وقد كنّا ندعوه الصادق الأمين .
ـ فلم تقاتلونه إذن ؟
شعر أبو سفيان بالنار تشتعل في رأسه :
ـ كنّا وبنو هاشم مثل فرسي رهان كلما جاءوا بشيء جئنا بمثله . . . حتّى ظهر محمّد فماذا يبقى لنا .
قال كعب وهو يصب الزيت في النار :
ـ لو اجتمعت قبائل العرب عليه ما وصل الأمر الى هذا الحد ، قوافلكم ، هيبتكم وحتى آلهتكم في خطر ، تغدّوا به قبل أن يتعشى بكم .
نهض أبو سفيان حانقاً وهتف بعصبية :
ـ لن يطلع القمر حتى تسمع بمناحة في بيوت يثرب .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 89 _
أسرع أبو سفيان وأمعن في الصحراء الى حيث يعسكر مئتان من خيله ورجاله .
المدينة تغفو هادئة تنتظر الفجر . . . تترقّب صياح الديكة ليوم جديد تزرع وتبني وتفجّر الصخر ينابيع . . .
سنابك خيل مجنونة تهزّ الأرض وتثير غباراً امتزج مع غبش الفجر .
في ( العريض ) من أطراف المدينة شبت النار في منزلين وفرّت النسوة والأطفال وذبح رجال . . . واحترقت بساتين النخيل وفرّ المغيرون لا يلوون على شيء .
كان أبو سفيان يراقب متلذذاً منظر النار وهي تلتهم أهداب يثرب ، ودّ ان هنداً كانت حاضرة علّها تطفئ غليلها .
صراخ الأطفال والنساء يملأ الفضاء المفعم بالسكينة ، وتناهت الى اذنيه صهيل خيل غاضبة فهمز فرسه تسبق الريح باتجاه مكّة .
استيقظت مكّة وقد سادتها حمى الحرب وراحت تنفث في الفضاء روح الثأر . . . ثلاثة آلاف محارب يلتفون حول أبي سفيان ، والتفت حول هند أربع عشرة امرأة . . . وثارت الحمية . . . حمية الجاهلية .
وتصاعد دخان البخور لهبل إله الحرب ليأخذ لهم ثأرهم من محمّد .
على ضوء سراج واهن بدا ( العباس ) مهموماً وهو يكتب الى ابن
وكانت صديقة ( رواية )
_ 90 _
اخيه رسالة يحذّره فيها من حملة وشيكة لقريش ، وفي جوف الليل انطلق فارس يسابق الريح ويطوي رمال الصحارى لا يلوي على شيء .
كان النبي في ( قباء ) على مبعدة أربع أميال جنوب يثرب . . . في تلك الأرض التي وضع قدمه فيها آمناً بعد هجرة مثيرة . وقد جاء ليراقب عن كثب ما تموج به الصحراء من غدر ودسائس . . . القبائل لا تريد ليثرب السلام ، تخطب ودّ قريش حيث مكة ام القرى وبيت الآلهة . . . وقريش لا تنام على الثأر . . .
لا شيء في الافق البعيد سوى الرمال . . . الصمت يهيمن على الأشياء يزيدها رهبةً . . . كان أبيّ بن كعب يدقّق في نقطة سوداء لاحت في الافق . . . فهتف متسائلاً :
ـ اظنّه فارساً يسابق الريح .
ـ اجل يبدو انّه قادم من مكة .
توقّف الفارس بعد أن كبح جماح فرسه بعنف . . . أثارت الفرس الرمال المتوهجة وقفز الفارس مبهور الأنفاس يحمل في يمينه رسالة من قلب ينبض بحبّ النبيّ .
لا أحد يعرف مضمون الرسالة التي قرأها ابن كعب على النبيّ . . . ولكن الوجوم الذي غمر وجه الرسول يشفّ عن أمر مثير وحادثة ستهزّ الصحراء والتاريخ .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 91 _
قمر الربع عشر من شوّال يتألق في السماء يزدهي بهالته بين النجوم ، وقناديل المدينة تتوهج . . . ترسل ضوءاً ذهبياً ، وبدت الكوى ينابيع تتدّفق بالنور .
وفي المسجد التفّ المؤمنون حول الرسول ، شباب وشيوخ وكهول يتداولون أمراً هامّاً ، قريش تزحف صوب يثرب ، قال النبيّ :
ـ نقيم في المدينة وندعهم حيث نزلوا فان أقاموا أقاموا بشرّ مقام . . . وان هم دخلوا علينا قاتلناهم .
اخرج النفاق رأسه إذ قال ابن سلول وقد صادفت الفكرة هوىً في نفسه :
ـ نعم يا رسول الله. . . نقيم في المدينة .
ساد الوجوم الشباب . . . كانوا يتمنون الحرب في الصحراء . . .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 92 _
والحرب في أزقّة المدينة لا يشبع حماسهم . . . وكيف ينعمون بحرب تشارك فيها النسوة والأطفال ، هتف شاب لم يحضر بدراً يتمنّاها منذ عام :
ـ ماذا ستتحدّث العرب . . . جبنّا عن اللقاء وقريش تشنّ علينا الغارات .
هتف آخر :
ـ اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا . . . حتى لا يزدادوا جرأة .
ساد الحماس وبلغ ذروته ، وضاع صوت العقل ، وعندما ينفلت زمام العاطفة تصبح فرساً جموحاً لا تصغي لأحد ولا يقف في طريقها شيء .
هبّت العاصفة لا يعتورها أحد ، وأضحى من الحكمة مماشاتها وتوجيهها ، والحدّ من عنفها .
انتبه بعضهم وقد تأثر لمنظر النبيّ يعدّل درعه ، عرضوا عليه القبول برأيه والبقاء في المدينة ، فقال بحزم :
ـ ما ينبغي لنبيّ لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه .
وأردف ليحكم قبضته على العاصفة :
ـ عليكم بتقوى الله والصبر عند البأس وانظروا ما آمركم فافعلوا .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 93 _
وقفت فاطمة تودّع أباها وبين ذراعيها صبّي له من العمر شهر ، اعتنقه النبيّ . . . راح يملأ صدره من شذى عطر له رائحة الجنّة ، وهمس بحب :
ـ انّه ريحانتي من الدنيا . . . وامّه صدّيقة .
ودّع الرسول يثرب ، ومعه ألف مقاتل ، وفي ثنيّة ( الوداع ) حيث الجادّة التي تؤدي الى مكة ، وعندما وصل ( الشيخان ) وهما جبلان في أطراف المدينة قام النبيّ باستعراض لقوّاته فأرجع من الشباب من كان دون الخامسة عشرة . . .
طلع الفجر ووصل النبيّ ( الشوط ) . . . بستان بين المدينة وجبل ( احد ) . . .
وذرّ رأس النفاق قرنه فأعلن تمرّده على الرسول .
عاد ( إبن ابيّ ) وعاد معه ذيوله وكانوا ثلاثمئة ، فأحدث ذلك شرخاً في جيش النبيّ وهو على وشك الاشتباك .
عسكرت قريش في وادي ( قناة ) وانتشرت في أرض سبخة ، قاطعةً الطريق على جيش المسلمين .
تساءل النبي عن دليل يمكنه هداية الجيش على طريق يؤدي الى احد لايمرّ على جيش المشركين .
هتف ( أبو خيثمة ) :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 94 _
ـ انا يا رسول الله.
ـ سر على بركة الله.
سلك الدليل ( حرّة ) بني حارثة وهي أرض ذات حجارة سوداء منخورة كأنها شويت بالنار . . . كانت المزارع على يمين الجيش المتقدّم وقوّات المشركين على شمالهم واتجه الدليل شمالاً نحو جبل احد ، وقطع وادي ( قناة ) .
دخل الجيش الشعب المطلّ على الوادي ، تاركاً الهضاب والجبل وسفوحه في ظهره .
نظم النبيّ جنوده صفوفاً في ثلاثة أنساق وانتخب خمسين من أمهر الرماة ، وأمرهم بالمرابطة فوق جبل ( عينين ) وهو جبل صغير يقع في الجنوب الغربي من معسكر النبيّ وعلى بعد مئة وخمسين متراً من مقرّ القيادة ، وكان اجراؤه هذا تحسباً من حركة التفاف يقوم بها المشركون ، وكان النبيّ يعلم ان لدى قريش قوّة كبيرة من الفرسان تحت إمرة ( خالد بن الوليد ) وكانت هذه القوّة مصدر قلق للنبيّ .
قال النبيّ لابن جبير قائد الرماة :
ـ انضحوا الخيل بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا . . .
والتفت الى بقية الرماة :
ـ احموا لنا ظهورنا لا يأتونا من خلفنا وارشقوهم بالنبل فان
وكانت صديقة ( رواية )
_ 95 _
الخيل لا تقدم على النبل . . . إنّا لا نزال غالبين ما لبثتم مكانكم ، اللّهم اني أشهدك عليهم .
وللمرّة الأخيرة أوصاهم النبي :
ـ إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل اليكم ، وان رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل اليكم ، وان رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا ، وان رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدافعوا عنّا .
نظّم النبيّ قواته واضعاً في الخط الأوّل رجالاً أولي بأس شديد بدا فيهم عليّ وحمزة وأبو دجانة وسعد بن الربيع ورجال حملوا أرواحهم فوق الأكف ، كما خصّص كتيبة بقيادة المقداد للتنسيق مع الرماة في صدّ هجوم محتمل قد يقوم به فرسان قريش .
تذكّر النبي رؤياه ، عادت تتمثّل أمامه من جديد . . . رأى ابقاراً تسر الناظرين . . . رآها تذبح فتشحط دماً عبيطاً ورأى في حدّ سيفه ثلماً . . .
تجمّعت في السماء النذر وبدت السيوف بين الغبار بروقاً نزلت الى الأرض وشدّ أبو دجانة حول رأسه عصابة الموت كجرح يفور وأدرك الذين رأوه أن الرجل قد اختار الموت طريقاً إلى الحياة .
الرجل الذي اختارته السماء رسولاً الى الأرض يبلّغ رسالته :
ـ ما أعلم من عمل يقرّبكم الى الله إلاّ وقد أمرتكم به ، ولا أعلم
وكانت صديقة ( رواية )
_ 96 _
من عمل يقرّبكم الى النار إلاّ وقد نهيتكم عنه ، وانه قد نفث الروح الأمين في روعي انه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها لا ينقص منه شيء . . . المؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى اليه سائر الجسد .
وفي العسكر الآخر في أرض سبخة تعالت أصوات الدفوف والطبول تشف عن روح همجية متعقشة لرؤية الدماء . . . تسكر على صوت طبول الحرب تدّق بعنف فيستيقظ الشيطان يربد ويدمّر .
خرجت خمس عشرة امرأة ينشدن أناشيد الثأر :
وكان صوت هند له نبرة نمرة متوثبة :
نـحن بـنات iiطارق نمشي على iiالنمارق الـدرّ فـي iiالمخانق والمسك في المفارق ان تـقبلوا iiنـعانق ونـفرش iiالـنمارق أو تـدبروا iiنـفارق فـراق غـير iiوامق |
وحلم رجال بليال حمراء . . . ليال مليئة بالمتعة ، ومنّوا انفسهم
وكانت صديقة ( رواية )
_ 97 _
يسبي من يثرب فيهنّ حسان من الاوس أو الخزرج .
اتّسعت الأحداق وعضّ الرجال على النواجذ . . . وبدأت قريش الهجوم ، بدأت قوّة من المشاة تساندها كوكبة من الفرسان بقيادة عكرمة بن أبي جهل هجوماً على ميسرة الجيش الاسلامي لتدميرها ، ومن ثمّ النفوذ الى عمق الشعب وضرب المسلمين من الخلف .
قوبل الهجوم العنيف برشقات كثيفة من النبال واعترض المقداد بقوّاته سيل المهاجمين وأرغمهم على التراجع ومن فوق سفوح أحد تدحرجت الصخور والحجارة فارتدّ المهاجمون وتشتتوا . . .
عاود الفرسان الكرّة مرّة بعد اخرى ولكن دون جدوى ، وفي تلك اللحظات الحسّاسة أصدر النبيّ أمره بشنّ الهجوم المعاكس... مستهدفاً قلب القوّات المتقهقرة وكان ثقل المعركة يدور حول ( لواء ) قريش من أجل اسقاطه وتحطيم الروح الجاهلية ، وسقط اللواء بضربة من عليّ . . . ثم ارتفع مرّة اخرى ثم هوى على الأرض . . . ثم ارتفع . . . ثم هوى ممزقاً فوق الأرض . . .
تزلزلت معنويات المشركين ودبّت فيهم الهزيمة واطلقت هند ساقيها للريح وسقطت الدفوف وتبعثرت أمنيات زوج أبي سفيان وذهبت أدراج الرياح . . .
وفي غمرة النصر سقط حمزة ، اخترق قلبه رمح وحشي . . .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 98 _
سقطت ثلمة من سيف محمّد .
وفوق جبل ( عينين ) كانت هناك معركة من نوف آخر . . . معركة في داخل النفوس رهيبة مشتعلة . . . أشعلتها الغنائم المبعثرة في الوادي .
وأخيراً وبعد صراع عنيف انتصرت النفوس الأمارة بالسوء . . . وغادر أكثر الرماة مواقعهم ( لايلوون على شيء ) و ( ابن جبير ) يدعوهم . . . يذكّرهم بوصايا الرسول ، غير أن النفوس التي أصغت الى فحيح الشياطين نسيت همسات السماء .
كان خالد بن الوليد ينتظر الفرصة وعندما شاهد منظر الرماة وهم يهبطون الجبل التمعت في عينيه حمى الحرب ، فاندفعت الخيول كالعاصفة وعمّت الفوضى صفوف الجيش الاسلامي . . .
وفر المسلمون لا يلوون على شيء ، والرسول ينادي :
ـ أنا رسول الله. . . هلموا اليّ!
وبعد لأي تمكّن النبي من تجميع أكثر قوّاته والانسحاب بهم نحو سفح الجبل .
صرخ أبو سفيان في بطن الوادي :
ـ اعل هبل .
وجاء صوت الرسول :
ـ الله أعلى وأجلّ .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 99 _
ـ لنا العزى ولا عزّى لكم .
ـ الله ، مولانا ولا مولى لكم .
ـ يا محمّد حنظلة بحنظلة ويوم بيوم بدر والحرب سجال .
أمر النبي عليّاً أن يستطلع قوّات قريش فقد تجتاح المدينة :
ـ انظر فإن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فانهم يريدون مكّة . . . وان ركبوا الخيل فانّهم يريدون المدينة . . .
وأردف النبي وقد برق العزم في عينيه :
ـ والذي نفسي بيده لئن أرادوا المدينة لأناجزنّهم .
جراح النبي تنزف . . . تفور . . . لا تعرف التوقّف ، يالجراح الأنبياء حمراء حمراء بلون الشفق ، تبشّر بالنهار . . . بشمس ساطعة ودفء الربيع .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 101 _
كذئاب مجنونة راح المشركون يجوسون خلال الجثث الهامدة يمزّقون اكباداً وقلوباً كانت تنبض بالحياة ، تحلم بعالم جميل ، بدنيا آمنة مطمئنة .
جثمت ( هند ) على جسد كنسر متوحّش وبدا وجهها الحادّ كغراب شره . . . كان صوتها يشبه فحيح الأفاعي :
ـ حمزة : صيّاد الاسود . . . جثة هامدة . . . انهض يا قاتل أبي وأخي :
استلت هند خنجراً وبقرت بطن أسد الله وأسد رسوله ثم انشبت يدها في بطنه ، كانت المخالب تبحث عن كبد حرّى ولما عثرت عليها انتزعتها . . . وحمزة ما يزال نائماً يعلو وجهه غبار خفيف .
مزّقت الذئبة كبد الانسان ، تريد أن تلوكه . . . أن تبتلعه .
وعلى تلال قريبة كانت نسوة في المدينة يرقبن المعركة ، وقد
وكانت صديقة ( رواية )
_ 102 _
غاظهن فرار المسلمين ، صرخت ( ام أيمن ) وهي تحثو التراب في وجه ( عثمان ) :
ـ هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك .
أراد عثمان أن يخبرها بمقتل النبيّ وانّه سمع أحدهم يهتف وسط المعركة : قتلت محمّداً ، ولكنه فضل الصمت فأمّ أيمن إمرأة في رجل ، سوف تحثو في وجهه التراب مرّة اخرى .
لوى عثمان عنان فرسه وانطلق صوب جبل ( الجلعب ) في ناحية يثرب وتبعه المنهزمون فهو خبير في اكتشاف المخابئ وقد يجتاح أبو سفيان المدينة .
عاد النبيّ إلى المدينة ينوء بجراحاته ، واخفق عليّ وهو يغسل جراحه أن يوقف نزف الدماء، وكادت ( فاطمة ) أن تموت وهي ترى أباها والدماء تسيل من وجهه . . . تدفقت الدموع غزيرة كسماء ممطرة واستيقظت في أعماقها كوامن الأمّ تحاول انقاذ وليدها بأي شيء ، عمدت إلى حصير فاحرقته ، ولما صار رماداً لمّت الرماد وراحت ترش جراح النبي .
نجح الرماد في وقف اشتعال النار ، أطفأ الجراح بعد أن أخفق الماء
كان عليّ يراقب زوجه تضمّد الجراح . . . تمسّها ببلسم يوقف تدفق
وكانت صديقة ( رواية )
_ 103 _
الألم.
تأملت فاطمة سيف أبيها وسيف بعلها وقد جللتهما الدماء وأدركت هول الملحمة التي دارت في جبل احد .
قال علي وهو يناولها سيفه .
ـ خذيه فلقد صدقني اليوم .
فقال النبي :
ـ لقد أدّى بعلك ما عليه وقتل الله بسيفه صناديد قريش حتى نادى جبريل بين السماء والأرض : لا سيف إلا ذوالفقار ولا فتى إلاّ علي .
نظرت فاطمة الى زوجها تشكره بعينين تشعان رحمة . . . الله وحده يعرف الأعماق . . . وحده الذي يعرف روح هذا الفتى الشجاع الذي حمل روحه على كفّه يفدي رسول الله وقد غدا كل شيء في دنياه ، انه لا يعرف للحياة معنى إلاّ بمحمّد . . . محمّد الذي منحه في زمن الرعب الطمأنينة والسلام .
عاد عثمان ومن معه الى المدينة بعد أن مكث في الجبل ثلاثة أيام . . . وقال النبيّ عندما وقعت عيناه عليهم :
ـ لقد ذهبتم فيها عريضة ! ! وتمرّ الأيّام وتندمل آلاف الجراح وعادت الى المدينة روح
وكانت صديقة ( رواية )
_ 104 _
الأمل . . . وانطلق المجتمع الجديد يزرع ويبني ويعمل ويشحذ السيوف . . . وقد أدرك الذين آمنوا ان طاعة الله والرسول هي الطريق الى النصر . . . الى المجد وإلى جنّة عرضها السماوات والأرض.
عادت فاطمة تدير الرحى وتهزّ المهد وتدير منزلها الصغير وتضمّد جراح النبي . . . تعرف مواقعها في روحه العميقة ، وربّما انطلت الى أحد تبكي حمزة سيّد الشهداء . . . تعرف عمق الجرح الذي أحدثه رحيله في قلب أبيها .
وأطلّ عام جديد يحمل معه أفراح النصر ويقدّم الى رسول الله ريحانة اخرى في حنايا فاطمة ، فلقد ولد الحسين وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة ومن المقرّبين .
وهمس النبيّ في اذنيه بكلمات السماء وسمعه الكثير وهو يقبّله قائلاً :
ـ حسين مني وأنا من حسين .
وكان الحسن قريباً فدبّ كنملة وراح يداعب شعر أخيه وقد غمره فرح طفولي ، وتدفق نبع جديد ، نبع في اسرة صغيرة ، اسرة أسسها النبيّ وباركتها السماء .
وتمرّ الأيام والنبيّ يشمر عن ساعديه ويبني الانسان . . . انسان الصحراء . . . يروّض في أعماقه الوحش ويضيء في ظلماته شمعة .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 105 _
وبدت يثرب في أرض الله الواسعة سراجاً في مهب إعصار فيه نار أو قارباً صغيراً وسط الأمواج العاتية ، والنبيّ والذين آمنوا يقاومون المدّ الجاهلي ويحبطون مؤامرات يهودية . . . واليهود عجنوا بالغدر وتشرّبوا تعاليم التلمود . . . نبذوا التوراة بعيداً الاّ ما حرّفوه عن مواضعه ، يبنون حصونهم وقلاعهم ، وظنوا انهم مانعتهم حصونهم ، يخفون وراءها حقداً دفيناً للانسان تناقلته أجيالهم منذ السبي البابلي وإلى ان يقضي الله أمراً كان مفعولا ، يباهون الامم بموسى بن عمران وقد عشعش قارون في نفوسهم ، ترنّ في أعماقهم خشخشة الذهب والفضة ، فتوارثوا عجلاً صنعوه منذ أن سوّل لهم السامريّ ، وظلوا عاكفين عليه حتى اذا نصحهم هارون كادوا ان يفتكوا به ، أداروا ظهرهم للذي أنجاهم من البحر وعكفوا على عجل له خوار .
كان موسى غاضباً وهو يلقي الألواح . . . ويأخذ بمخانق أخيه ، هتف هارون :
ـ انّهم استضعفوني وكادوا يقتلونني .
واتجهت الأبصار الى السامري ، كاد موسى يبطش به :
ـ فما خطبك يا سامري ؟
ـ لا شيء . . . لقد رأيت أثر الملاك . . . وكذلك سوّلت لي نفسي .
ومضى السامري في التيه . . . يشدّ عباءته الى كتفيه يعتصر وجهه
وكانت صديقة ( رواية )
_ 106 _
المخادع بكفيه . . . وعواء ذئب جائع يضجّ في صدره اللاهث . . . ضاع السامريّ بين آثار الجمال والحمير لا يعرف له وطناً سوى تلك البقعة التي خسفت بقارون وخزائنه الزاخرة بالذهب الأصفر . . . في أعماقه امنيات لعجل جديد يعبده من دون الله، لا تكفيه بقعة واحدة ، يريد أن يبتلع سينا وأرض كنعان ، وبابل ورمال جزيرة العرب .
وحطّ السامري رحله هنا وهناك من أرض الجزيرة وراح يبني الحصون والقلاع وينهب الذهب ، القبائل العربية تعبد أصناماً من حجارة تنحتها بأيديها أو أشجاراً ذات رقاع ، وابناء السامريّ يعبدون عجلاً من ذهب يخطف الأبصار ، يظلّون عليه عاكفين حتى جاء محمّد .
توقّف التاريخ يحبس أنفاسه عند حصون بني النضير فقد جاء محمّد ومعه جمع من أصحابه يطالبهم بالوفاء وهم جبلوا على الغدر، يبتسمون لمن يدعوهم فيكشرون عن أنياب تنزّ صديداً .
قالوا وقد رأوا النبيّ عند الحصن في قلّة ودونما سلاح .
ـ نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت .
وجلس النبيّ ينتظر الوفاء .
وخلف جدران الحصون والقلاع ولدت مؤامرة .
اجتمع ابناء السامريّ . . . العيون تبرق بالغدر :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 107 _
ـ هذه فرصتنا للقضاء على محمّد .
ـ أجلّ نتغدى به قبل أن يتعشى بنا .
ـ انطلق يا ( عزوك ) فتحدّث معه وأطل الكلام .
ـ وأنت يا ( جحاش ) اصعد فوق الحصن والق عليه ( رحى الطاحون) .
حاكت العناكب شباكها على عجل ، غير أنّ النبيّ الأمّي الذي يجدون اسمه في التوراة يعرف ما يجول في خواطرهم فغادر الحصن وجاء المدينة يسعى .
وحوصرت حصون السامريّ عشرين يوماً حتى تهاوت جميعاً وقتل عليّ ( عزوك ) ولملم بنو النضير شباك العنكبوت ورحلوا . . . رحلوا بعيداً وتنفس النبيّ والذين آمنوا الصعداء ، وتمت كلمة ربّك بالحق وقيل بعداً للقوم الظالمين .
وعادت يثرب مدينة منوّرة يكاد سنا نورها يضيء التاريخ .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 109 _
الحياة في يثرب ينابيع متدفقة ، والأمل ينمو . . . يكبر . . . غدا شجرة خضراء أصلها ثابت وفرعها في السماء ، والذين نصروا النبيّ يعملون دائبين في زروعهم ، يرعون ماشيتهم ، والذين هاجروا وجدوا لهم متّسعاً من مكان في الأرض وفي القلوب وغدا الجميع اخوة على دين واحد كلّهم من آدم وآدم من تراب ، والرسول لا يفتأ يؤلّف بين القلوب . . . يغسل عنها أدران الجاهلية .
عليّ يعمل . . . يسقي الزرع أو يفجّر الأرض ينابيع ، فيحصل لقاء ذلك صاعاً من شعير أو تميرات من نخيل يثرب .
كانت شمس الأصيل تغمر مسجد النبيّ بأشعتها الذهبية ، ومساقط الضوء تتناثر من بين جريد النخل كدنانير ذهب نثرت فوق عروس .
جلس النبيّ في قبلته بعد ان انفتل من الصلاة وقد تحلّق حوله
وكانت صديقة ( رواية )
_ 110 _
أصحابه فبدا كقمر وسط النجوم ، والزمن نهر يتدفق . . . تتدافع قطراته بانتظام . . . أو وحى كبيرة تدور وتدور ، تهب السنين لمن يشاء ومن لا يشاء ، تفتح عيون الاطفال وتغمض عيوناً متغضنة الأجفان ، تشدّ أعواد الشباب وتقوّس قامات الكهول ، فالجميع الى زوال ويبقى وجه الله. . . الله وحده .
دخل المسجد شيخ عصف به الزمان ، نحت وجهه ومزّق ثيابه ، يدبّ على الأرض دبيب نملة تبحث عن رزقها في يوم بارد .
هتف الشيخ وهو يتطلّع الى النبيّ كأنما يتطلّع إلى شمس تهب النور والدفء :
ـ يانبي الله أنا جائع . . . عريان . . . اشبعني واكسني .
أجاب النبيّ وقلبه يذوب تأثّراً :
ـ ما أجد لك شيئاً . . . ولكن الدالّ على الخير كفاعله . . . انطلق الى من يحب الله ورسوله ، ويحبّه الله رسوله ، يؤثر الله على نفسه . . . انطلق الى فاطمة . . .
التفت النبيّ الى بلال :
ـ قم يابلال . . . فخذه الى منزل فاطمة .
وقف الشيخ عل باب يغضى الى عالم من أمل . . . عالم يهب الخير للجياع .
وكانت صديقة ( رواية )
_ 111 _
هتف الشيخ بصوت واهن ينوء بعبء السنين :
ـ شيخ عصف به الدهر وأضرّ به الفقر . . . واسيني يا بنت محمّد .
نظرت فاطمة حواليها . . . لم تجد شيئاً تسعف به انساناً ينتظر بأمل .
كان هناك في زاوية الحجرة جلد كبش مدبوغ ، فطوته وناولته الشيخ :
ـ خذه ، فعسى الله أن يختار لك ماهو خير منه .
دقّق الشيخ النظر وتمتم :
ـ وما أصنع بجلد كبش يا بنت محمّد !
وأصعب شيء أن تهب المرأة زينتها . . . اساور من ذهب أو فضّة أو عقداً من لآلئ البحر ، ولكن هناك ما يضيء في نفس المرأة ويتألق في أعماقها تألق اللؤلؤ في الأصداف .
انتزعت فاطمة عقداً كان في عنقها وناولته الشيخ الملهوف :
ـ خذه يا شيخ . . . عسى الله أن يعوضك به ماهو خير منه .
عاد الشيخ الهوينى الى المسجد . . . كان النبي ما يزال جالساً بين أصحابه ، قال الشيخ :
ـ يا رسول الله أعطتني فاطمة هذا العقد وقالت بعه عسى الله أن يصنع لك به خيرا .
دمعت عينا النبيّ :
وكانت صديقة ( رواية )
_ 112 _
ـ كيف لا يصنع الله لك ! وقد اعطتك ايّاه سيدة بنات آدم .
سأل عمّار وكان حاضراً :
ـ بكم تبيع العقد يا شيخ ؟
ـ بشبعة من الخبز واللحم ، وبردة يمانية استر بها نفسي واصلّي بها لربي .
ملأ الشيخ كفيه دنانير من ذهب ودراهم من فضة فهتف جذلاً :
ـ ما أسخاك بالمال يا رجل !
غاب الشيخ برهة ثم عا وبريق أمل يشعّ من عينيه ، وكلمات الدعاء وتمتمات الثناء تنساب من بين شفتيه فقد أغناه الله بعد فقر وأشبعه بعد فقر وأشبعه بعد جوع وكساه بعد عري .
انطلق عمّار الى منزله . . . فكسب عطراً غالياً على العقد ثم لفّه ببردة يمانية وقال لفتاه وكان اسمه سهم :
ـ انطلق الى فاطمة وسلّمها العقد وأنت لها .
وانطلق سهم كسهم يجتاز البيوت حتى اذا وقف على باب فاطمة :
ـ السلام عليك يا بنت رسول الله . . . العقد وأنا لك يا بنت محمّد .
ـ العقد لي وأنت حرّ لوجه الله.
كاد الفتى يطير فرحاً . . . كان يفكّر بالحرية . . . يحلم بها . . . وهاهي
وكانت صديقة ( رواية )
_ 113 _
اللحظة التي كاد أن ينساها تتحقق فيدخل الدنيا حرّاً طليقاً . . . انه لن ينسى أبداً فاطمة . . . السيّدة التي أعادت اليه شيئاً غالياً فقده منذ زمن .
عاد مهرولاً والفرحة تطفو فوق وجهه جبينه مشرق وفمه كهلال عيد الفطر ، وجد نفسه يعود إلى عمّار ، هتف عمّار :
ـ ما يضحكك يا سهم ؟
ـ أضحك لبركة هذا العقد . . . اشبع جائعاً وكسى عرياناً وأغنى فقيراً واعتق عبداً ثم عاد الى صاحبه .
وعندما أوت الطيور الى أعشاشها . . . وعاد المزارعون الى بيوتهم وساق الرعاة غنيماتهم . . . في طريق العودة وقد غابت الشمس . . . لتتألّق النجوم في صفحة السماء ويشرق القمر . . . كانت حكايات السمر تتحدّث بقصّة عقد مبارك وهبته بنت محمّد ثم عاد اليها بعد أن مست بركته جياعاً وعراة وعبيداً . . . وهبتهم الخبز والكساء والحريّة .
|