هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ ، لا يختص بخصوص الظالمين من أبناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية أخرى
( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (1) بينما يقول في موضع آخر
( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (2).
فالعقاب الاخروي دائما ينصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك ، إذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ لاعن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة ، بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الأمة ، سعي الأمة ، جهد الأمة.
( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (3) هذه الآية الكريمة أيضاً تؤكد المفهوم العام ، يقول
( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) ، هذه سنة سلكناها مع الأنبياء من قبلك ، وسوف تستمر ولن تتغير ، أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة لأنهم عجزوا عن إمكانية القضاء عليك ، وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد إخراجك من مكة.
وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي إنشاء اللّه شرحها بعد ذلك يشار إليها في هذه الآية الكريمة ، وهي أنه إذا وصلت عملية المعارضة إلى مستوى إخراج النبي من هذا البلد ، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الأخرى ، فانهم لا يلبثون إلاّ قليلا ، ليس المقصود من انهم لا يلبثون إلاّ قليلا ، يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب اللّه سبحانه وتعالى من السماء ، لان أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة.
استفزوه وارعبوه وخرج النبي (ص) من مكة إذ لم يجد له ملجاً وأمانا في مكة فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وإنما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وإنما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، سوف ينهار هذا الموقع ، لا يمكثون إلاّ قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا ، فان رسول اللّه (ص) حينما أخرج من مكة لم يمكثوا بعده إلاّ قليلا ، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة إلى جز من دار الإسلام بعد سنين معدودة.
--------------------
(1) سورة الانفال آية : 25.
(2) سورة فاطر آية : 18.
(3) سورة الاسراء آية : 76 ـ 77.
المدرسة القرآنية
ـ 27 ـ
إذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول
( ولا تجد لسنّتنا تحويلاً ) ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ) (1).
تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لأحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن من اجل الاعتبار بهذه السنن :
( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ... ) (2) هذه الآية أيضاً تثبّت قلب رسول اللّه (ص) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربط بقانون التجارب السابقة ، توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الأنبياء الذين ما رسوا هذه التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر ، والثبات ، واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر ، ولهذا يقول
( فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) إذن هناك كلمة اللّه لا تتبدل على مر التاريخ ، هذه الكلمة التى لا تتبدل على مر التاريخ ،هذه الكلمة التى لا تتبدل هي علاقة قائمة بين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت من خلال الآيات المتفرقة وجمعت على وجه الجمال هنا.
إذن فهناك سنة التاريخ
( فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (3).
( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (4) هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ
( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (5) المحتوى الداخلي النفسي الروحي للإنسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي إلاّ وفقا لتغيّر القاعدة على ما يأتي انشأ الله شرحه بعد ذلك.
--------------------
(1) سورة آل عمران آية : 137.
(2) سورة الانعام آية : 34.
(3) سورة فاطر آية : 43.
(4) سورة الفتح آية : 23.
(5) سورة الرعد آية : 11.
المدرسة القرآنية
ـ 28 ـ
هذه الآية إذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان ، وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان ، فخارج الإنسان ، يصنعه داخل الإنسان ، مرتبط بداخل الإنسان ، فإذا تغير ما بنفس القوم تغير ما هو وضعهم ، وما هي علاقاتهم وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض.
إذن فهذه سنة من سنن التاريخ ، ربطت القاعدة بالبناء العلوي ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (1) ، ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (2).
يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنة التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر ، وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الأمم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل إلى حد الزلزال على ما عبّر القرآن الكريم ؟ ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان
لارادة الأمة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.
--------------------
(1) سورة الانفال آية : 53.
(2) سورة البقرة آية : 214.
المدرسة القرآنية
ـ 29 ـ
إذن نصر الله قريب لكن نصر الله له طريق.
هكذا يريد ان يقول القرآن ، نصر الله ليس أمرا عفويا ، ليس أمر على سبيل الصدفة ، ليس أمرا عمياويا ، نصر اللّه قريب ولكن اهتد إلى طريقه ، الطريق لابد وان تعرف فيه سنن التاريخ ، لابد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي إلى نصر الله سبحانه وتعالى.
قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي إلى إثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.
إذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصل إلى النصر.
فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ... ) (1) هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات.
هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة وإلا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ) اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع.
هذه العلاقة جز من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، كما سوف يتضح إنشاء اللّه حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين.
--------------------
(1) سورة سباء الايات : 34 ـ 35.
المدرسة القرآنية
ـ 30 ـ
إذن هذه سنة من سنن التاريخ ( ... وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (1) ، هذه الآية أيضاً تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وظلم يسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا.
وهذه العلاقة أيضاً الآية تؤكد إنها علاقة مطلقة ، علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ.
( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... ) (2) ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (3) (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (4) ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (5) هذه الآيات الثلاث أيضاً تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام اللّه سبحانه وتعالى و بين وفرة الخيرات ووفرة الإنتاج ، وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الإنتاج ، القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن تارة بأنه.
( لَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) واخرى بانه ( لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) وأخرى بأنه ( لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل إنشاء علاقات التوزيع على أسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع ، إذن لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة ، لما وقعوا في فقر من هذه الناحية لازداد الثراء ، لازداد المال وازدادت الخيرات والبركات.
لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر تقتضي التقسيم وبالتالي تقتضي فقر الناس ، بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار إلى وفرة الإنتاج والى زيادة الثروة ، إلى ان يفتح على الناس بركات السماء والأرض.
--------------------
(1) سورة الاسراء آية : 16 ـ 17.
(2) سورة المائدة آية : 66.
(3) سورة الاعراف آية : 96.
(4) سورة الجن الآية 16.
(5) سورة الزخرف آية : 22.
المدرسة القرآنية
ـ 31 ـ
إذن هذه أيضاً سنة من سنن التاريخ.
وهناك آيات أخرى أكدت وحثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية ، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) (1) ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (2) ،
( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور ) (3) ،
( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ... ) (4).
من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي أوضحناه ، وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخرى.
وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم ... لأننا في حدود ما نعلم القرآن أول كتاب عرفه الإنسان أكد على هذا المفهوم ، وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الأحداث ، الإنسان الاعتيادي كان يفسر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الأحداث ، يفسرها على أساس الصدفة تارة ، وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر اللّه سبحانه وتعالى ، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري إلى ان هذه الساحة لها سنن ، ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثراً لابد لك أن تكتشف هذه السنن ، لابد لك ان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه القوانين افتح عينيك على هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.
--------------------
(1) سورة محمد آية : 10.
(2) سورة يوسف آية : 109.
(3) سورة الحج آية : 46.
(4) سورة ق آية : 36 ـ 37.
المدرسة القرآنية
ـ 32 ـ
هذا الفتح هذا الفتح القرآنى الجليل هو الذى مهد إلى تنبيه الفكر البشرى بعد ذلك بقرون إلى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهمها علميا بعد نزول القران بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات بدأت على ايدي المسلمين انفسهم ، فقال ابن خلدون بمحاولة الدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ، ثم بعد ذلك بأربعة ـ على اقل تقدير ـ اتجه الفكر الاوربي فى بدايات مايسمى بعصر النهضة ، بداء لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة ، هذا المفهوم الذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة ، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي فى بدايات عصر النهضة وبأت هناك أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ ومدارس متعددة كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ.
وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا في التاريخ نفسه ، إذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقية هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لأول مرة على الساحة على ساحة المعرفة البشرية.
المدرسة القرآنية
ـ 33 ـ