هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية :
أولاً ـ الإنسان.
ثانياً ـ الأرض أو الطبيعة على وجه عام (انّي جاعل في الأرض خليفة) فهناك ارض او طبيعة على وجه عام وهناك الإنسان الذي يجعله اللّه وتعالى على الأرض.
ثالثاً ـ العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض وبالطبيعة وتربط من ناحية اخرى الإنسان بأخيه الإنسان ، هذه العلاقة المعنوية التي سمّاها القرآن الكريم بالاستخلاف ، هذه هي عناصر المجتمع ، الإنسان والطبيعة والعلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالطبيعة من ناحية ، وتربط الإنسان باخيه الإنسان من ناحية اخرى ، وهي العلاقة التي سميت قرآنيا بالاستخلاف.
ونحن حينما نلاحظ المجتمعات البشرية نجد ان المجتمعات البشرية جميعاً تشترك بالعنصر الاول والعنصر الثاني ، لايوجد مجتمع بدون انسان يعيش مع أخيه الإنسان ، ولا يوجد مجتمع بدون ارض او طبيعة يمارس الإنسان عليها دوره الاجتماعي.
وفي هذين العنصرين تتفق المجتمعات التاريخية والبشرية.
واما العنصر الثالث : وهو العلاقة ففي كل مجتمع علاقة كما ذكرنا ولكن المجتمعات تختلف في طبيعة هذه العلاقة وفي كيفيد صياغة هذه الطبيعة.
المدرسة القرآنية
_ 78 _
فالعنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع وكل مجتمع يبني هذه العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان من جانب وبالطبيعة بالجانب الاخر ، يبني
العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الاخر لهذه العلاقة.
وهذه العلاقة التي هي العنصر الثالث ، العنصر المرن والمتحرك في تركيب المجتمع لها صيغتان اساسيتان :
احداهما : صيغة رباعية وقد اطلق عليها اسم (الصيغة الرباعية).
والاخرى : صيغة ثلاثية.
الصيغة للرباعية : هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والإنسان مع الإنسان ، هذه اطراف ثلاثة فالعلاقة إذا اتخذت صيغة تربط بموجبها بين هذه الاطراف الثلاثة وهي.
الطبيعة والإنسان مع اخيه الإنسان ولكن مع افتراض طرف رابع أيضاً ، في هذه العلاقة فاسمي هذه الصيغة بالصيغة الرباعية ، الصيغة الرباعية تربط بين هذه
الصيغة بالصيغة الرباعية ، الصيغة الرباعية تربط بين هذه الاطراف الثلاثة ولكنها تفترض طرفاً رابعاً ، بعداً رابعاً للعلاقة الاجتماعية ، وهذا الطرف الرابع ليس داخلا
في اطار المجتمع ، خارج عن اطار المجتمع ، ولكن الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية تعتبر هذا الطرف الرابع مقوما من المقومات الاساسية للعلاقة الاجتماعية على
الرغم من انه خارج اطار المجتمع ، وهذه الصيغة الرباعية للعلاقد الاجتماعية ذات الابعاد الاربعة هي التي طرحها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف.
المدرسة القرآنية
_ 79 _
الاستخلاف هو العلاقة الاجتماعية من زاوية نظر القرآن الكريم والاستخلاف عند التحليل نجد انه ذواربعة اطراف لان الاستخلاف يفترض مستحلفا أيضاً.
لابد من مستخلف ومستخلف عليه ، ومستخلف. فهناك اضافة إلى الإنسان واخيه الإنسان والطبيعة يوجد طرف رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلف اذ لا
استخلاف بدون مستخلف ، فالمستخلف هو اللّه سبحانه وتعالى والمستخلف هو الإنسان واخوه الإنسان ، أي الإنسانية ككل الجماعة البشرية والمستخلف عليه هو الارض وما عليها ومن عليها فالعلاقة الاجتماعية ضمن صيغة الاستخلاف تكون ذات اطراف اربعة وهذه الصيغة ترتبط بوجهة نظر معينة نحو الحياة والكون بوجهة نظر قائلة بانه لا سيد ولا مالك ولا إله للكون وللحياة إلاّ اللّه سبحانه وتعالى وان دور الإنسان في ممارسة حياته إنما هو دور الاستخلاف والاستئمام وأي علاقة تنشأ بين الإنسان والطبيعة فهي في جوهرها
ليست علاقة مالك بمملوك وإنما هي علاقة أمين على امانة استؤمن عليها واي علاقة تنشأ بين الإنسان واخيه الإنسان مهما كان المركز الاجتماعي لهذا او لذاك فهي علاقة
استخلاف وتفاعل بقدر مايكون هذا الإنسان او ذاك مؤديا لواجبه بهذه الخلافة وليست علاقة سيادة او الوهية أو مالكية ، هذه الصيغة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي
صاغها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف ترتبط بوجهة النظر المعينة للحياة والكون.
في مقابلها يوجد للعلاقة الاجتماعية صيغة ثلاثية الاطراف ، صيغة تربط بين
الإنسان والإنسان والطبيعة ولكنها تقطع صلة هذه الاطراف مع الطرف الرابع ، تجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع ، عن اللّه سبحانه وتعالى ، وبهذا تتحول نظرة كل جز إلى الجز الاخر داخل هذا التركيب وداخل هذه الصيغة.
وجدت الالوان المختلفة للملكية وللسيادة ، سيادة الإنسان على أخيه الإنسان باشكالها المختلفة التي استعرضها التاريخ بعد ان عطل البعد الرابع وبعد ان افترض ان البدآية هي الإنسان ، حينئذ تنوعت على مسرح الصيغة الثلاثية اشكال الملكية واشكال السيادة ، سيادة الإنسان على اخيه الإنسان.
وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين ، الصيغة الرباعية والصيغة الثلاثية يتضح ان اضافه الطرف الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد اضافة عددية ، ليس مجرد طرف جديد يضاف إلى الاطراف الاخرى ، بل ان هذه الاضافة تحدث تغييرا نوعيا في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها من هنا ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد ، بل هذا الواحد الذي يضاف إلى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحا أخرى ومفهوما آخر ، سوف يحدث تغييرا اساسيا في بنية هذه العلاقة ذات الاطراف الاربعة كما رأينا ، إذا يعود الإنسان مع اخيه الإنسان مجرد شركا ، في حمل هذه الامانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل ما عليها ومن عليها مجرد امانة لابد من رعآية واجبها واداء حقها.
المدرسة القرآنية
_ 80 _
هذه الطرف الرابع هو في الحقيقة مغير نوعي لتركيب العلاقة اذن امامنا للعلاقة الاجتماعية صيغتان صيغة رباعية وصيغة ثلاثية والقرآن الكريم آمن بالصيغة الرباعية كما رأينا في الآية الكريمة ، الاستخلاف هو الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية لكن القرآن الكريم اكثر من أنه آمن بالصيغة الرباعية في المقام اعتبر الصيغة الرباعية سنة من سنن التاريخ ، كما رأينا في الآية السابقة كيف اعتبر الدين سنة من سنن التاريخ كذلك اعتبر الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية التي هي صيغة الدين في الحياة.
اعتبر هذه العلاقة بصيغتها الرباعية سنة من سنن التاريخ ، كيف ؟
هذه الصيغة الرباعية عرضها القرآن الكريم على نحوين : عرضها تارة بوصفها فاعلية ربانية من زاوية دور اللّه سبحانه وتعالى في العطاء.
وهذا هو العرض الذي قرأناه ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) هذه العلاقة الرباعية معروضة في هذا النص الشريف باعتبارها عطاءا من اللّه ، جعلا من اللّه يمثل الدور الايجابي والتكريمي من رب العالمين للانسان وعرض الصيغة الرباعية نفسها من زاوية اخرى.
عرضها بوصفها وبنحو ارتباطها مع الإنسان بما هي أمر يتقبله الإنسان.
عرضها من زوآية تقبل الإنسان لهذه الخلاقة وذلك في قوله سبحانه وتعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (1) الامانة هي الوجه التقبلي للخلافة ، والخلافة هي الوجه الفاعلي والعطائي للامانة ، الامانة والخلافة عبارة عن الاستخلاف والاستئمان وتحمل الاعباء ، عبارة عن الصيغة الرباعية هذه الصيغة الرباعية تارة نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل وهو اللّه سبحانه وتعالى ، يأتي قوله ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) واخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول الفلاسفة ، من ناحية دور الإنسان في تقبل هذه الخلافة وتحمل هذه الامانة ، يأتي قوله سبحانه وتعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ... ) وهذه الامانة التي تقبلها الإنسان وتحملها الإنسان عرضت على الإنسان فتقبلها الإنسان بنفس هذه الآية الكريمة ، هذه الامانة او هذه الخلافة او بالتعبير الذي قلناه هذه العلاقة الاجتماعية بصيغتها الرباعية هذه لم تعرض على الإنسان في هذه الآية بوصفها تكليفا او طلبا ليس المقصود من عرضها عل يالإنسان هو العرض على مستوى التكليف والطلب ، وليس المقصود من تقبل الامانة هو تقبل هذه الخلافة على مستوى الامتثال والطاعة ، ليس المقصود ان يكون هكذا العرض وان يكون هكذا التقبل بقرينة ان هذا العرض كان معروضا على الجبال أيضاً ، على السماوات والأرض والجبال أيضاً ، فمن الواضح انه لامعنى لتكليف السماوات والجبال أيضاً ، فمن الواضح انه لامعنى لتكليف السماوات والجبال والأرض.
هذا العرض نعرف من ذلك انه عرض تكويني لاعرض تشريعي ، هذا العرض معناه ان هذه العطية الربانية كانت تفتش عن الموضع القابل لها في الطبيعة ، الموضع المنسجم معها بطبيعته ، بفطرته ، بتركيبه التاريخي والكوني ، الجبال لاتنسجم مع هذه الخلافة ، السماوات والأرض لاتنسجم مع هذه العلاقة الاجتماعية الرباعية ، الكائن الوحيد الذي بحكم تركيبه ، بحكم بنيته ، بحكم فطرة اللّه التي قرأناها في الآية السابقة كان منسجما مع هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة التي بها تصبح أمانة ، تصبح خلافة.
--------------------
(1) سورة الأحزاب آية : 72.
المدرسة القرآنية
_ 81 _
اذن العرض هنا عرض تكويني والقبول هنا قبول تكويني وهو معنى سنة التاريخ يعني ان هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة داخلة في تكوينة الإنسان وفي
تركيب مسار الإنسان الطبيعي والتاريخى ونلاحظ انه في هذه الآية الكريمة أيضاً جاءت الاشارة إلى هوية هذه السنة التاريخية وانها سنة من الشكل الثالث ، سنة تقبل
التحدي وتقبل العصيان ، ليست من تلك السنن التي لا تقبل التحدي ابدا ولو لحظة ، لا ... هي سنة ، هي فطرة ولكن هذه الفطرة تقبل التحدي.
كيف اشار القرآن الكريم إلى ذلك بعد ان وضّح انها سنة من سنن التاريخ ؟ قال :
( وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) هذه العبارة الاخيرة
( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) تأكيد على طابع هذه السنة وان هذه السنة على الرغم من انها سنة من سنن التاريخ ولكنها تقبل التحدي ، تقبل ان يقف الإنسان منها موقفا سلبيا ، هذا التعبير يوازي تعبير
( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) في الآية السابقة.
اذن الآية السابقة استخلصنا منها ان الدين سنة من سنن الحياة ومن سنن التاريخ ومن هذه الآية نستخلص ان صيغة الدين للحياد التي هي عبارة عن العلاقة الاجتماعية الرباعية ، العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة التي يسميها القرآن بالخلافة والامانة والاستخلاف ، هذه العلاقة الاجتماعية هي أيضاً بدورها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم.
المدرسة القرآنية
_ 82 _
فالحقيقة ان الآية الأولى والآية الثانية متطابقتان تماما في مفادهما لانه في الآية السابقة قال ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (1) التعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما هو داخل في تكوين الإنسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم ، يعني أن يكون هذا الدين قيماً على الحياة ، ان يكون مهيمنا على الحياة ، هذه القيومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الايتين ، في آية ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) وآية ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) اذن فالدين سنة الحياة والتاريخ والدين هو الدين القيم ، والدين القيم هو العلاقة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي يدخل فيها اللّه بعدا رابعا لكي يحدث تغييراً في بنية هذه العلاقة لا لكي تكون مجرد اضافة عددية.
هذه مفاهيم القرآن الكريم مستخلصة من هذه الايات عن هذه السنة ، اما كيف ؟
نريد ان نتعرف بصورة اوضح وأوسع عن هذه السنة ، عن دور التاريخ كسنة ، عن دور الدين ، عن دور الدين القيم ودور الخلافة والامانة ، عن دور العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة ، دور الطرف الرابع ، دوره كسنة من سنن التاريخ ، ما هو هذا الطرف الرابع كسنة من سنن التاريخ ؟ وكيف كان سنة من سنن التاريخ ؟ ، وكيف كان مقوما اساسيا لمسار الإنسان على الساحة التاريخية ؟ لكي نتعرف على ذلك لابد من ان نتعرف على الدكنين الثابتين في
--------------------
(1) سورة الروم آية : 30.
المدرسة القرآنية
_ 83 _
العلاقة الاجتماعية ، هناك ركنان ثابتان في العلاقة الاجتماعية : احدهما الإنسان واخوه الإنسان والاخر الطبيعة ، الكون ، الأرض.
هذان الركنان داخلان في الصيغة الثلاثية وداخلان في الصيغة الرباعية ، ومن هنا نسميهما بالركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية لكي نعرف دور الركن الجديد دور هذا الطرف الرابع ، دور اللّه سبحانه وتعالى في تركيب العلاقة الاجتماعية ، يجب ان نعرف مقدمة لذلك دور الركنين الثابتين.
ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ من زاوية النظرة القرآنية ، من زاوية النظرة للقرآن والفهم الرباني من القرآن للتاريخ وسنن الحياة ؟ ما هو دور الإنسان في العلاقة الاجتماعية ؟ وما هو دور الطبيعة في العلاقة الاجتماعية على ضوء تشخيص هذين الدورين وتحديد الموقفين ؟ سوف يتضح حينئذ دور هذا الطرف الجديد ، دور الطرف الرابع الذي تتميز به الصيغة الرباعية عن الصيغة الثلاثية ، ويتضح ان هذا الطرف الرابع عنصر ضروري بحكم سنة التاريخ وتركيب خلقة الإنسان ولا بد وان يندمج مع الاطراف الاخرى لتكوين علاقة اجتماعية رباعية الاطراف.
اذن ففهم هذه السنة التاريخية يتطلب منا ان نتحدث عن دور الإنسان والطبيعة في عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكريم وهذا ما يأتي انشاء اللّه.
المدرسة القرآنية
_ 84 _