هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ ، لا يختص بخصوص الظالمين من أبناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية أخرى ( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (1) بينما يقول في موضع آخر ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (2).
  فالعقاب الاخروي دائما ينصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك ، إذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ لاعن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة ، بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الأمة ، سعي الأمة ، جهد الأمة.
  ( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (3) هذه الآية الكريمة أيضاً تؤكد المفهوم العام ، يقول ( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) ، هذه سنة سلكناها مع الأنبياء من قبلك ، وسوف تستمر ولن تتغير ، أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة لأنهم عجزوا عن إمكانية القضاء عليك ، وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد إخراجك من مكة.
  وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي إنشاء اللّه شرحها بعد ذلك يشار إليها في هذه الآية الكريمة ، وهي أنه إذا وصلت عملية المعارضة إلى مستوى إخراج النبي من هذا البلد ، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الأخرى ، فانهم لا يلبثون إلاّ قليلا ، ليس المقصود من انهم لا يلبثون إلاّ قليلا ، يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب اللّه سبحانه وتعالى من السماء ، لان أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة.
  استفزوه وارعبوه وخرج النبي (ص) من مكة إذ لم يجد له ملجاً وأمانا في مكة فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وإنما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وإنما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، سوف ينهار هذا الموقع ، لا يمكثون إلاّ قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا ، فان رسول اللّه (ص) حينما أخرج من مكة لم يمكثوا بعده إلاّ قليلا ، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة إلى جز من دار الإسلام بعد سنين معدودة.

--------------------
(1) سورة الانفال آية : 25.
(2) سورة فاطر آية : 18.
(3) سورة الاسراء آية : 76 ـ 77.

المدرسة القرآنية ـ 27 ـ
  إذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول ( ولا تجد لسنّتنا تحويلاً ) ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ) (1).
  تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لأحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن من اجل الاعتبار بهذه السنن : ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ... ) (2) هذه الآية أيضاً تثبّت قلب رسول اللّه (ص) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربط بقانون التجارب السابقة ، توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الأنبياء الذين ما رسوا هذه التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر ، والثبات ، واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر ، ولهذا يقول ( فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) إذن هناك كلمة اللّه لا تتبدل على مر التاريخ ، هذه الكلمة التى لا تتبدل على مر التاريخ ،هذه الكلمة التى لا تتبدل هي علاقة قائمة بين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت من خلال الآيات المتفرقة وجمعت على وجه الجمال هنا.
  إذن فهناك سنة التاريخ ( فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (3).
  ( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (4) هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (5) المحتوى الداخلي النفسي الروحي للإنسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي إلاّ وفقا لتغيّر القاعدة على ما يأتي انشأ الله شرحه بعد ذلك.

--------------------
(1) سورة آل عمران آية : 137.
(2) سورة الانعام آية : 34.
(3) سورة فاطر آية : 43.
(4) سورة الفتح آية : 23.
(5) سورة الرعد آية : 11.

المدرسة القرآنية ـ 28 ـ
  هذه الآية إذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان ، وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان ، فخارج الإنسان ، يصنعه داخل الإنسان ، مرتبط بداخل الإنسان ، فإذا تغير ما بنفس القوم تغير ما هو وضعهم ، وما هي علاقاتهم وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض.
  إذن فهذه سنة من سنن التاريخ ، ربطت القاعدة بالبناء العلوي ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (1) ، ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (2).
  يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنة التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر ، وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الأمم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل إلى حد الزلزال على ما عبّر القرآن الكريم ؟ ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان لارادة الأمة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.

--------------------
(1) سورة الانفال آية : 53.
(2) سورة البقرة آية : 214.

المدرسة القرآنية ـ 29 ـ
  إذن نصر الله قريب لكن نصر الله له طريق.
  هكذا يريد ان يقول القرآن ، نصر الله ليس أمرا عفويا ، ليس أمر على سبيل الصدفة ، ليس أمرا عمياويا ، نصر اللّه قريب ولكن اهتد إلى طريقه ، الطريق لابد وان تعرف فيه سنن التاريخ ، لابد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي إلى نصر الله سبحانه وتعالى.
  قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي إلى إثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.
  إذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصل إلى النصر.
  فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ... ) (1) هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات.
  هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة وإلا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا ) اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع.
  هذه العلاقة جز من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، كما سوف يتضح إنشاء اللّه حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين.

--------------------
(1) سورة سباء الايات : 34 ـ 35.

المدرسة القرآنية ـ 30 ـ
  إذن هذه سنة من سنن التاريخ ( ... وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (1) ، هذه الآية أيضاً تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وظلم يسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا.
  وهذه العلاقة أيضاً الآية تؤكد إنها علاقة مطلقة ، علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ.
  ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... ) (2) ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (3) (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (4) ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (5) هذه الآيات الثلاث أيضاً تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام اللّه سبحانه وتعالى و بين وفرة الخيرات ووفرة الإنتاج ، وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الإنتاج ، القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن تارة بأنه.
  ( لَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) واخرى بانه ( لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) وأخرى بأنه ( لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل إنشاء علاقات التوزيع على أسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع ، إذن لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة ، لما وقعوا في فقر من هذه الناحية لازداد الثراء ، لازداد المال وازدادت الخيرات والبركات.
  لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر تقتضي التقسيم وبالتالي تقتضي فقر الناس ، بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار إلى وفرة الإنتاج والى زيادة الثروة ، إلى ان يفتح على الناس بركات السماء والأرض.

--------------------
(1) سورة الاسراء آية : 16 ـ 17.
(2) سورة المائدة آية : 66.
(3) سورة الاعراف آية : 96.
(4) سورة الجن الآية 16.
(5) سورة الزخرف آية : 22.


المدرسة القرآنية ـ 31 ـ
  إذن هذه أيضاً سنة من سنن التاريخ.
  وهناك آيات أخرى أكدت وحثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية ، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) (1) ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (2) ، ( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور ) (3) ، ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ... ) (4).
  من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي أوضحناه ، وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخرى.
  وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم ... لأننا في حدود ما نعلم القرآن أول كتاب عرفه الإنسان أكد على هذا المفهوم ، وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الأحداث ، الإنسان الاعتيادي كان يفسر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الأحداث ، يفسرها على أساس الصدفة تارة ، وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر اللّه سبحانه وتعالى ، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري إلى ان هذه الساحة لها سنن ، ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثراً لابد لك أن تكتشف هذه السنن ، لابد لك ان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه القوانين افتح عينيك على هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.

--------------------
(1) سورة محمد آية : 10.
(2) سورة يوسف آية : 109.
(3) سورة الحج آية : 46.
(4) سورة ق آية : 36 ـ 37.


المدرسة القرآنية ـ 32 ـ
  هذا الفتح هذا الفتح القرآنى الجليل هو الذى مهد إلى تنبيه الفكر البشرى بعد ذلك بقرون إلى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهمها علميا بعد نزول القران بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات بدأت على ايدي المسلمين انفسهم ، فقال ابن خلدون بمحاولة الدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ، ثم بعد ذلك بأربعة ـ على اقل تقدير ـ اتجه الفكر الاوربي فى بدايات مايسمى بعصر النهضة ، بداء لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة ، هذا المفهوم الذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة ، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي فى بدايات عصر النهضة وبأت هناك أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ ومدارس متعددة كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ.
  وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا في التاريخ نفسه ، إذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقية هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لأول مرة على الساحة على ساحة المعرفة البشرية.

المدرسة القرآنية ـ 33 ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
  وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.
  من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية الكريمة التي أوضحت فكرة السنن التاريخية وأكدت عليها ، يمكننا أن نستخلص من خلال المقارنة بين تلك النصوص ثلاث حقائق أكد عليها القرآن الكريم بالنسبة إلى سنن التاريخ.

الحقيقة الأولى :
  هي الاطّراد بمعنى أن السنة التاريخية مطردة ليست علاقة عشوائية وليست رابطة قائمة على أساس الصدفة والاتفاق وإنما هي علاقة ذات طابع موضوعي لا تتخلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة ، وكان التأكيد على طابع الاطراد في السنة تأكيدا على الطابع العلمي للقانون التاريخي ، لان القانون العلمي أهم مميز يميزه عن بقية المعادلات والفروض هو الاطراد والتتابع وعدم التخلف.

المدرسة القرآنية ـ 34 ـ
  ومن هنا استهدف القرآن الكريم ، من خلال التأكيد على طابع الاطراد في السنة التاريخية ، استهدف أن يؤكد على الطابع العلمي لهذه السنة وأن يخلق في الإنسان المسلم شعوراً واعياً على جريان أحداث التاريخ متبصراً لا عشوائياً ولا مستسلماً ولا ساذجاً ، ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ... ) (1) ، ( وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ... ) (2) ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ... ) (3).
  هذه النصوص القرآنية تقدم استعراضها تؤكد هذه النصوص طابع الاستمرارية والاطراد أي طابع الموضوعية والعلمية للسنة التاريخية ، وتستنكر هذه النصوص الشريفة كما تقدم في بعضها ، أن يكون هناك تفكير أو طمع لدى جماعة من الجماعات ، بأن تكون مستثناة من سنة التاريخ ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) (4) هذه الآية تستنكر على من يطمع في أن يكون حالة استثنائية من سنة التاريخ كما شرحنا في ما مضى.
  إذن الروح العامة للقرآن تؤكد على هذه الحقيقة الأولى وهي حقيقة الاطراد في السنة التاريخية الذي يعطيها الطابع العلمي من أجل تربية الإنسان على ذهنية واعية علمية يتصرف في إطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ.

--------------------
(1) سورة الاحزاب آية : 62.
(2) سورة الاسراء آية : 77.
(3) سورة الانعام آية : 34.
(4) سورة البقرة آية : 214.

المدرسة القرآنية ـ 35 ـ
الحقيقة الثانية :
  الحقيقة الثانية التي أكدت عليها النصوص القرآنية ربانية السنة التاريخية ، ان السنة التاريخية ، ربانية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى ، سنة الله ، كلمات الله على اختلاف التعبير ، بمعنى أن كل قانون من قوانين التاريخ ، فهو كلمة من الله سبحانه وتعالى ، وهو قرار رباني ، هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانية السنة التاريخية وعلى طابعها الغيبي ، يستهدف شدّ الإنسان حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون بالله سبحانه وتعالى ، واشعار الإنسان بان الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات ، ليس ذلك انعزالا عن الله سبحانه وتعالى لان الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولان هذه السنن والقوانين هي إرادة الله ، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون.
  وقد يتوهم البعض أن هذا الطابع الغيبي الذي يلبسه القرآن الكريم للتاريخ وللسنن التاريخية يبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ ويجعله يتجه اتجاه التفسير الإلهي للتاريخ الذي مثلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي على يد عدد كبير من المفكرين المسيحيين اللاهوتيين حيث فسروا تفسيرا إليهاً قد يخلط هذا الاتجاه القرآني بذلك التفسير الإلهي الذي اتجه إليه أغسطين وغيره من المفكرين اللاهوتيين ، فيقال بأن إسباغ هذا الطابع الغيبي على السنة التاريخية يحول المسألة إلى مسألة غيبية وعقائدية ويخرج التاريخ عن إطاره العلمي الموضوعي لكن الحقيقة أن هناك فرقاً أساسيا بين الاتجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب وفي إسباغ الطابع الغيبي على السنة التاريخية ، وبين ما يسمى بالتفسير الإلهي للتاريخ الذي تبناه اللاهوت ، هناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين ، وحاصل هذا الفرق هو أن الاتجاه اللاهوتي ، للتفسير الإلهي للتاريخ يتناول الحادثة نفسها ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها وروابطها مع بقية الحوادث فهو يطرح الصلة مع اللّه بديلا عن صلة الحادثة مع بقية الحوادث ، بديلا عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية والتي تمثل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة ، بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات ، لا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرة بالسماء ، لا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل أوجه الانطباق والعلاقات والأسباب والمسببات على هذه الساحة التاريخية بل إنه يربط السنة التاريخية بالله ، يربط اوجه العلاقات والارتباطات باللّه ، فهو يقرر أولا ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية ، إلاّ أن هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية ، إذا أردنا أن نستعين بمثال لتوضيح الفرق بين هذين الاتجاهين من الظواهر الطبيعية.

المدرسة القرآنية ـ 36 ـ
  نستطيع أن نستخدم هذا المثال : قد يأتي إنسان فيفسر ظاهرة المطر التي هي ظاهرة طبيعية فيقول بأن المطر نزل بإرادة من الله سبحانه وتعالى ويجعل هذه الإرادة بديلا عن الأسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر ، فكأن المطر حادثة لا علاقة لها ولا نسب لها ، وإنما حادثة مفردة ترتبط مباشرة بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تيار الحوادث ، هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي الظاهرة المطر ، لكن إذا جاء شخص وقال بأن الظاهرة ، ظاهرة المطر لها أسبابها وعلاقاتها وإنها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء مثلا ، الماء يتبخر فيتحول إلى غاز ، والغاز يتصاعد سحاباً والسحاب يتحول بالتدريج إلى سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر إلاّ أن هذا التسلسل السببي المتقن ، هذه العلاقات المتشابكة بين هذه الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي والتفسير الموضوعي لظاهرة المطر ، لأننا ربطنا هنا السنة بالله سبحانه وتعالى لا الحادثة مع عزلها عن بقية الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها.
  إذن القرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الرباني على السنة التاريخية لا يريد أن يتجه اتجاه التفسير الإلهي في التاريخ ، ولكنه يريد أن يؤكد أن هذه السنن ليست هي خارجة ومن وراء قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة الله ، فهي كلماته وهي سننه وإرادته وحكمته في الكون لكي يبقى الإنسان دائماً مشدوداً إلى الله ، لكي تبقى الصلة الوثيقة بين العلم والإيمان ، فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلى هذه السنن نظرة علمية ، ينظر أيضا إليها نظرة إيمانية.
  وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية وعدم جعلها مرتبطة بالصدف ، ان نفس العمليات الغيبية أناطها في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضا ، عملية الإمداد الإلهي بالنص ، هذا الإمداد جعله القرآن الكريم مشروطا بالسنة التاريخية ، مرتبطا بظروفها غير منفك عنها ، وهذه الروح أبعد ما تكون عن أن تكون روحا تفسر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم وحتى ذاك الإمداد الإلهي الذي يساهم بالنص ذاك الإمداد أيضا ربط بالسنة التاريخية.

المدرسة القرآنية ـ 37 ـ
  قرأنا في ما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنص حينما قرأنا قوله سبحانه وتعالى ( ... أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) (1) الآن تعالوا نقرأ الآيات التي تتحدث عن الإمداد الإلهي الغيبي لنلاحظ كيف ان هذه الآيات ربطت هذا الإمداد الإلهي الغيبي بتلك السنة نفسها أيضاً إذ تقول للمؤمنين ( أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) (2).
  هناك إمداد إلهي غيبي ولكنه شرط بسنة التاريخ ، شرط بقوله : ( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ) أجملت هنا شروط التاريخ التي فصلت في الآيات الأخرى ، إذن هذا الإمداد الغيبي أيضا مرتبط بسنة التاريخ.
  إذن فمن الواضح أن الطابع الرباني الذي يسبقه القرآن الكريم ليس بديلا عن التفسير الموضوعي وإنما هو ربط لهذا التفسير الموضوعي باللّه سبحانه وتعالى من أجل إكمال اتجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.

--------------------
(1) سورة البقرة آية : 214.
(2) سورة آل عمران آية : 124 ـ 126.

المدرسة القرآنية ـ 38 ـ
الحقيقة الثالثة :
  والحقيقة الثالثة التي أكد عليها القرآن الكريم من خلال النصوص المتقدمة هي حقيقة اختيار الإنسان وإرادة الإنسان.
  والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدا إذ سوف يأتي انشأ الله تعالى بعد محاضرتين.
  إن البحث في سنن التاريخ خلق وهما ، وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث عند كثير من المفكرين أن هناك تعارضا وتناقضا بين حرية الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ ، فأما أن نقول بأن للتاريخ سننه وقوانينه وبهذا نتنازل ن إرادة الإنسان واختياره وعن حريته ، وأما أن نسلم بأن الإنسان كائن حر مريد مختار ، وبهذا يجب أن نلغي سنن التاريخ وقوانينه ونقول بأن هذه الساحة قد أعفيت من القوانين التي لم تعف منها بقية الساحات الكونية ...
  هذا الوهم وهم التعارض والتناقض بين فكرة السنة التاريخية أو القانون التاريخي ، وبين فكرة اختيار الإنسان وحريته ، هذا الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم أن يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات ومن هنا أكد على أن المحور في تسلسل الأحداث والقضايا إنما هو إرادة الإنسان ، وسوف أتناول انشأ الله تعالى بعد محاضرتين الطريقة الفنية في كيفية التوفيق بين سنن التاريخ وإرادة الإنسان ، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الأمرين من خلال فحص للصيغ التي يمكن في إطارها صياغة السنة التاريخية ، سوف أتكلم عن ذلك بعد حاضرتين ، لكن يكفي الآن أن نستمع إلى قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (1) ( وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (2) ( ... وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) (3) انظروا كيف أن السنن التاريخية لا تجري من فوق رأس الإنسان بل تجري من تحت يده ، فان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا إذن هناك مواقف إيجابية للإنسان تمثل حريته واختياره وتصميمه وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية ، تستتبع جزاتها المناسبة ، تستتبع معلولاتها المناسبة.

--------------------
(1) سورة الرعد آية : 11.
(2) سورة الجن آية : 16.
(3) سورة الكهف آية : 59.

المدرسة القرآنية ـ 39 ـ
  إذن فاختيار الإنسان له موضعه الرئيسي في الساحة التاريخية ، وذات طابع انساني لأنها لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي ولا تعطل فيه إرادته وحريته واختياره ، وإنما تؤكد أكثر فأكثر مسؤولية على الساحة التاريخية .
  الآن بعد استعراضنا الخصائص الثلاث التي تتميز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم نواجه هذا السؤال : ما هو ميدان هذه السنن التاريخية ؟ كنا حتى الآن نعبر ونقول بأن هذه السنن تجري على الساحة التاريخية ، لكن ، هل أن الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان للسنن التاريخية أو أن ميدان السنن التاريخية يمثل جزأ من الساحة التاريخية بمعنى أن الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية بوصفها قوانين ذات طابع نوعي مختلف عن القوانين الأخرى الفيزيائية والفسلجية والبيولوجية والفلكية ، هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف ، هذا الميدان هل تتسع له الساحة التاريخية ؟ هل يستوعب كل الساحة التاريخية ، أو يعبر عن جز من الساحة التاريخية ؟ التصور القرآني لسنن التاريخ وسوف أعود إلى هذه النقطة مرة أخرى إنشأ اللّه تعالى.
  اذن نستخلص مما سبق أن السنن التاريخية ، ان السنن القرآنية في التاريخ ذات طابع علمي ، لأنها تتميز بالاطراد الذي يميز القانون العلمي ، وذات طابع رباني لأنها تمثل حكمة اللّه وحسن تدبيره على لكن قبل هذا يجب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخية ؟ الساحة التاريخية عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون ، المؤرخون أصحاب التواريخ يهتمون بمجموعة من الحوادث والقضايا يسجلونها في كتبهم والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتم بها المؤرخون ويسجلونها هي الساحة التاريخية ، فالسؤال هنا إذن هو هكذا ، هل أن كل هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرخون وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية هل كلها محكومة بالسنن التاريخية ، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة ، أو أن جزا معيناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ، هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجية أو قوانين الحياة أو أي قوانين

المدرسة القرآنية ـ 40 ـ
  أخرى لمختلف الساحات الكونية الأخرى ، مثلا : موت أبي طالب ، موت خديجة في سنة معينة ، حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرخين وأكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في التاريخ ترتبت عليها آثار كثيرة في التاريخ ولكنها لا يحكمها سنة تاريخية ، تحكمها قوانين فسلجية ، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت أن يموت أبو طالب (رضوان اللّه عليه) وأن تموت خديجة (ع) في ذلك الوقت المحدد ، هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيات المؤرخين ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة هي قوانين فسلجة جسم أبي طالب وجسم خديجة ، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة.
  حياة عثمان بن عفان ، طول عمر الخليفة الثالث هذا حادثة تاريخية الخليفة الثالث ناهز الثمانين ، طبعا هذه الحادثة التاريخية كان لها أثر عظيم في تاريخ الإسلام ، لو قدر لهذا الخليفة أن يموت موتا طبيعيا وفقا لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من الممكن أن تتغير كثير من معالم التاريخ ، كان من المحتمل أن يأتي الإمام أميرالمؤمنين إلى الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت أن يمتد به العمر إلى أن يقتل من قبل الثائرين عليه من المسلمين هذه حادثة تاريخية ، أعني أنها تدخل في اهتمامات المؤرخين ولها بعد تاريخي أيضاً لعبت دورا سلبا أو أيجابا في تكييف الأحداث التاريخية الأخرى ، ولكنها لا تتحكم فيها سنن التاريخ ، ان الذي يتحكم في ذلك قوانين بنية جسم عثمان بن عفان ، قوانين الحياة وقوانين جسم الإنسان التي أعطت لعثمان بن عفان عمرا طبيعياً ناهز الثمانين.
  مواقف عثمان بن عفان تصرفاته الاجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ ، مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية وليست مسألة تتحكم فيها سنن التاريخ.
  إذن سنن التاريخ لا تتحكم على كل الساحة التاريخية ، لا تتحكم على كل القضايا التي يدرجها الطبري في تاريخه بل على ميدان معين من هذه الساحات يأتي الحديث إنشاء اللّه عنها.

المدرسة القرآنية ـ 41 ـ
اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

  وأفضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين .
  قلنا إن الساحة التاريخية ، ساحة اهتمامات المؤرخين لا تستوعبها سنن التاريخ لان هذه الساحة تشتمل على ظواهر كونية وطبيعية وفيزيائية وحياتية وفسلجية أيضاً.
  هذه الظواهر تحكمها قوانينها النوعية على الرغم من أن بعض هذه الظواهر ذات أهمية بالناظور التاريخي ، من منظار المؤرخين تعتبر هذه حوادث ذات أهمية ، لها بعد زمني في امتداد وتيار الحوادث التاريخية ولكنها مع هذا لا تحكمها سنن التاريخ بل تحكمها سننها الخاصة.
  سنن التاريخ تحكم ميدانا معينا من الساحة التاريخية ، هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميزة تميزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا متميزة أيضاً تميزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية.
  المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو أن هذه الظواهر تحمل علاقة جديدة لم تكن موجودة في سائر الظواهر الأخرى الكونية والطبيعية والبشرية.

المدرسة القرآنية ـ 42 ـ
  الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب ، مسبّب بسبب ، نتيجة بمقدمات ، هذه العلاقة موجودة فيگ كل الظواهر الكونية والطبيعية ، الغليان ظاهرة طبيعية مرتبطة بظروف معينة ، بدرجة حرارة معينة ، بدرجة معينة من قرب هذا الماء من النار ، هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب ، العلاقة هنا علاقة السببية ، علاقة الحاضر بالماضي ، بالظروف المسبقة المنجزة ، لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف ، علاقة نشاط بغاية أو ما يسميه الفلاسفة بالعلة الغائية ، تمييزا عن العلة الفاعلية ، هذه العلاقة علاقة جديدة متميزة ، غليان الماء بالحرارة ، يحمل علاقة مع سببه مع ماضيه لكن لا يحمل علاقة مع غاية ومع هدف ما لم يتحول إلى فعل إنساني والى جهد بشري بينما العمل الإنساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب ، لا فقط مع الماضي ، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين انجاز هذا العمل ، وإنما يترقب وجودها.
  أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لامع الماضي ، الغاية دائما تمثل المستقبل بالنسبة إلى العمل ، بينما السبب يمثل الماضي بالنسبة إلى هذا العمل.
  فالعلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي ، العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو انه عمل هادف ، عمل يرتبط بعلة غائية سواء كانت هذه الغاية صالحة أو طالحة ، نظيفة أو غير نظيفة ، على أي حال هذا يعتبر عملا هادفا ، يعتبر نشاطا تاريخيا ، يدخل في نطاق سنن التاريخ ، على هذا الأساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول ، هذه الغايات التي يرتبط

المدرسة القرآنية ـ 43 ـ
  بها هذا العمل الهادف المسؤول ، هذه الغايات حيث إنها مستقبلية بالنسبة إلى العمل ، فهي تؤثر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة ، لأنها بوجودها الخارجي ، بوجودها الواقعي ، طموح وتطلع إلى المستقبل ، ليست موجودة وجودا حقيقيا وإنما تؤثر من خلال وجودها الذهني في الفاعل.
  إذن فالمستقبل أو الهدف الذي يشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك هذا النشاط وفي بلورة هذا النشاط من خلال الوجود الذهني أي من خلال الفكر الذي يتمثل فيه الوجود الذهني للغاية ضمن شروط ومواصفات ، حينئذ يؤثر في إيجاد هذا النشاط ، إذن حصلنا الآن على مميز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية هذا المميز غير موجود بالنسبة إلى سائر الظواهر الأخرى على ساحات الطبيعة المختلفة ، هذا المميز ظهور علاقة فعل بغاية ، نشاط بهدف بالتعبير بالتفسير الفلسفي ، ظهور دور العلة الغائية ، كون هذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر اذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ.
  السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك الجز من الساحة التاريخية الذي يمثل عملا له غاية ، عملا يحمل علاقة اضافية إلى العلاقات الموجودة في الظواهر الطبيعية وهي العلاقة بالغاية والهدف ، بالعلة الغائية.

المدرسة القرآنية ـ 44 ـ
  لكن ينبغي هنا أيضاً انه ليس كل عمل له غاية فهو عمل تاريخي ، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ بل يوجد بعد ثالث لابد أن يتوفر لهذا العمل لكي يكون عملا تاريخيا أي عملا تحكمه سنن التاريخ.
  البعد الأول كان هو (السبب) والبعد الثاني كان هو الغاية (الهدف) ، لابد من بعد ثالث لكي يكون بهذا العمل داخلا في نطاق سنن التاريخ ، هذا البعد الثالث هو أن يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل ، أن تكون أرضية العمل هي عبارة عن المجتمع ، العمل الذي يخلق موجا ، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه ، ويكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزا منها ، طبعا الأمواج على اختلاف درجاتها هناك موج محدود ، هناك موج كبير.
  لكن العمل لا يكون عملا تاريخيا إلاّ إذا كان له موج يتعدى حدود العامل الفردي ، قد يأكل الفرد إذا جاع ، قد يشرب إذا عطش ، قد ينام إذا أحس بحاجته إلى النوم ، لكن هذه الأعمال على الرغم من إنها أعمال هادفة أيضاً ، تريد أن تحقق غايات ولكنها أعمال لا يمتد موجها أكثر من العامل خلافا لعمل يقوم به الإنسان من خلال نشاط اجتماعي وعلاقات متبادلة مع أفراد جماعته ، التاجر حينما يعمل عملا تجاريا ، القائد حينما يعمل عملا حربيا.
  السياسي حينما يمارس عملا سياسيا ، المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة ، هذه الاعمال لها موج يتعدى شخص العامل ، هذا الموج يتخذ من المجتمع أرضية له ، ويمكننا أيضاً أن نستعين بمصطلحات الفلاسفة فنقول : المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، نتذكر من

المدرسة القرآنية ـ 45 ـ
  مصطلحات الفلاسفد التمييز الارسطي ببين العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة المادية ، هنا نستعين بهذه المصطلحات لتوضيح الفكرة.
  يعني المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، أرضية العمل ، في حالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملا تاريخيا ، يعتبر عملا للامة وللمجتمع وان كان الفاعل المباشر في جملة من الاحيان لايكون إلاّ فرد واحد أو عدد من الافراد ولكن باعتبار الموج يعتبر عمل المجتمع ، اذن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغآية ، ويكون في نفس الوقت ذا أرضية أوسع من حدود الفرد ، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عمل المجتمع ، وفي القرآن الكريم نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل المجتمع ونلاحظ في القرآن الكريم انه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الاحصائية تحدث القرآن عن كتاب للفرد وتحدث عن كتاب للامة ، عن كتاب يحصي على الفرد عمله ، وعن كتاب يحصي على الامة عملها ، وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب إلى الفرد وبين عمل الامة ، اي العمل الذي له ثلاثة ابعاد ، والعمل الذي له بعدان ، العمل الذي له بعدان لايدخل إلاّ في كتاب الفرد واما العمل الذي له ثلاثة ابعاد فلهو يدخل في الكتابين معاً باعتبار البعدين في كتاب الفرد ويحاسب الفرد عليه وباعتبار البعد الثالث يدخل في كتاب الامة ويعرض على الامة وتحاسب الامة على أساسة.

المدرسة القرآنية ـ 46 ـ
  لاحظوا قوله سبحانه وتعالى ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1) ، هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للامة ، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها ، يقدم لها سجل نشاطها و حياتها التي مارستها كأمة ، هذا العمل الهادف ذو الابعاد الثلاثة يحتويه هذا الكتاب ، وهذا الكتاب ـ انظرو إلى العبارة ـ يقول ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) هذا الكتاب ليس تاريخ الطبيري لايسجل الوقائع الطبيعية ، الفسلجيّة ، الفيزيائية إنما يحدد ويستنسخ ما كانوا يعملون كأمة.
  ما كانت الامة تعمله كأنه يعني العمل الهادف ذو الموج بحيث ينسب للامة وتكون الامة مدعوة إلى كتابها.
  هذا العمل هو الذي يحويه هذا الكتاب .
  بينما في آية اخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (2) هنا الموقف يختلف ، هنا كل انسان مرهون بكتابه ، لكل انسان كتاب لايغادر صغيرة ولا كبيرة من اعماله من حسناته وسيئاته من هفواته وسقطاته من صعوده ونزوله إلاّ وهو محصي في ذلك الكتاب ، الكتاب الذي كتب بعلم من لايعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء .
  كل انسان قد يفكر ان بامكانه ان يخفي نقطد ضعف ، ان يخفي ذنبا ، ان يخفي سيئة عن جيرانه عن قومه عن امته ، عن اولاده ، قد يحاول ان يخفي

--------------------
(1) سورة الجائية آية : 28 ـ 29.
(2) سورة الاسراء آية : 13.

المدرسة القرآنية ـ 47 ـ
  حتى عن نفسه ، يخدع نفسه ويرى نفسه انه لم يرتكب سيئة ولكن هذا الكتاب الحق لايغادر صغيرة ولاكبيرة إلاّ أحصاها ، في ذلك اليوم يقال انت حاسب نفسك الان هذه الاعمال التي مارستها سوف تواجهها في هذا الكتاب ان تحكم على نفسك بموازين ومقاييس الحق في يوم القيامة في ذلك اليوم لايمكن لاي انسان ان يخفي شيئا عن الموقف ، عن اللّه سبحانه وتعالى ، عن نفسه هذا كتاب الفرد وذاك كتاب الامة ، هناك كتاب لامة جاثية بين يدي ربها ، وهنا لكل فرد كتاب.
  هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الامة وكتاب الفرد هو تعبير آخر عما قلناه من ان العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثل في كتاب الامة.
  العمل الذي له ابعاد ثلاثة ، بل ان الذي يستظهر ويلاحظ من عدد آخر من الايات القرآنية الكريمة انه ليس فقط يوجد كتاب للفرد ويوجد كتاب للامة بل يوجد احضار للفرد ويوجد احضار للامة ، هناك احضار ان بين يدي اللّه سبحانه وتعالى الاحضار الفردي يأتي فيه كل انسان فردا فردا ، لايملك ناصر او لا معينا ، لايملك شيئا يستعين به في ذلك الموقف إلاّ العمل الصالح والقلب السليم و الايمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله ، هذا هو الاحضار الفردي.
  قال اللّه تعالى ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ) (1) هذا الاحضار هو احضار فردي بين يدي اللّه تعالى.

--------------------
(1) سورة مريم آية : 95.

المدرسة القرآنية ـ 48 ـ
  وهناك احضار آخر ، احضار للفرد في وسط الجماعة ، احضار للامة بين يدي اللّه سبحانه وتعالى كما يوجد هناك سجلان ، كذلك يوجد احضاران كما تقدم ، ترى كل امة جاثية كل امة تدعى إلى كتابها ، ذاك احضار للجماعة ، والمستأنس به من سياق الايات الكريمة ان هذا الاحضار الثاني يكون من اجل اعادة العلاقات إلى نصابها الحق ، العلاقات من داخل كل امة قد تكون غير قائمة على اساس الحق ، قد يكون الإنسان المستضعف فيها جديرا بأن يكون في اعلى الامة ، هذه الامة تعاد فيها العلاقات إلى نصابها الحق.
  هذا هو الشي الذي سماه القرآن الكريم بيوم التغابن ، كيف يحصل التغابن ؟ ... يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة ثم كل انسان كان مغبونا في موقعه في الامة ، في وجوده في الامة ، بقدر ما كان مغبونا في موقعه في الامد يأخذ حقه ، يأخذ حقه يوم لاكلمة إلاّ للحق.
  اسمعوا قوله تعالى ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) (1).
  اذن فهناك سجلان :
  هناك سجل لعمل الفرد ، وهناك سجل لعمل الامة وعمل الامة هو عبارة عما قلناه من العمل الذي يكون له ثلاث ابعاد ، بعد من ناحية العامل ما يسميه ارسطو ب ( العلة الفاعلية ) ، بعد من ناحية الهدف مايسميه ارسطوا ب ( العلة الغائية ) ، بعد من ناحية الارضية وامتداد الموج ما يسمونه ب ( العلة المادية ).

--------------------
(1) سورة التغابن آية : 9.

المدرسة القرآنية ـ 49 ـ
  هذا العمل ذوالابعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ ، هذا هو عمل المجتمع.
  لكن لاينبغي ان يوهم ذلك ما توهمه عدد من المفكرين الفلاسفة الاوروبيين من ان المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الافراد وكل فرد فرد ليس الابمثابة الخليفة في هذا العملاق الكبير ، هكذا تصور هيجل مثلا وجملة من الفلاسفة الاوروبيين ، تصوروا عمل المجتمع بهذا النحو ، ارادوا أن يميزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد فقالوا بأنه يوجد عندنا كائن عضوي واحد عملاق هذا الكائن الواحد هو في الحقيقة يلف في احشائه كل الافراد تندمج في كيانه كل الافراد ، كل فرد يشكل خلية في هذا العملاق الواحد ، وهو يتخذ من كل فرد نافذة على الواقع على العالم بقدر مايمكن ان يجسد في هذا الفرد من قابلياته هو ، ومن ابداعه هو ، اذن كل قابليد وكل ابداع ، وكل فكرة هو قابلية ذلك العملاق وابداع ذلك العملاق وفكر ذلك العملاق الطاغية وكل فرد إنما هو تعبير عن نافذة من النوافذ التي يعبر عنها ذلك العملاق الهيجلي.

المدرسة القرآنية ـ 50 ـ
  هذا التصور اعتقد به جملة من الفلاسفة الاوروبيين تامييزا لعمل المجتمع عن عمل الفرد إلاّ ان هذا التصور ليس صحيحا ، ولسنا بحاجد اليه ، إلى الاغراق في الخيال إلى هذه الدرجة لكي ننحت هذا العملاق الاسطوري من هؤلاء الافراد ، ليس عندنا إلاّ الافراد إلاّ زيدوبكروخالد ، ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم ، طبعا مناقشة هيجل من الزاوية الفلسفية يخرج من حدود هذا البحث ، متروك إلى بحث آخر لان هذا التفسير الهيجلي للممجتمع مرتبط بحسب الحقيقة بكامل الهيكل النظري لفلسفته ، إلاّ ان الشي الذي نريد أن نعرفه ، نعرف موقع اقدامنا من هذا التصور ، هذا التصور ليس صحيحا ، نحن لسنا بحاجة إلى مثل هذا الافتراض الاسطوري ، لكي نميز بين عمل الفرد وعمل المجتمع ، التمييز بين عمل الفرد وعمل الفرد هو العمل الذي يكون له بعد ان فان اكتسب بعدا ثالثا كان عمل المجتمع ، باعتبار ان المجتمع يشكل أرضية له ، يشكل علة مادية له ، يدخل حينئذ في سجل كتاب الامة الجاثية بين يدي ربها.
  هذا هو ميزان الفرق بين العملين.
  اذن الشيء الذي نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التاريخية هو العمل الهادف الذي يشكل أرضية ويتخذ من المجتمع أو الامة أرضيه له على اختلاف سعة الموجة وضيق الموجة اتساعها وضيقها هذا هو موضوع السنن التاريخية.