قال : فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله ، فبينا أنا ذات يوم في الحائط وإذا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلهم غمامة ، فقلت في نفسي : والله ما هؤلاء كلهم أنبياء ، وإن فيهم نبيا .
لقد كان هؤلاء النفر هم : محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام والحمزة بن عبد المطلب وعقيل ابن أبي طالب وزيد بن حارثة والمقداد ، وأبو ذر الغفاري ، وكانت الصفات الظاهرية للرسول تميزه عما سواه ، فكان وسيم الطلعة ربعةً في الرجال ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير المتردد ، ضخم الرأس ، ذا شعر رجل شديدٌ سواده ، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منوّنَين متصلين ، واسع العينين أدعجهما تشوبُ بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة وتزيد في قوة جاذبيتهما أهداب طوال حوالك ، مستوي الأنف دقيقه ، مفلج الأسنان كث اللحية ، طويل العنق جميله ، عريض الصدر ، رحب الساحتين ، أزهر اللون ، شثن الكفين والقدمين يسير ملقياً جسمه إلى الأمام ، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب ، وإذا قام كأنما ينقلع من صخر ، وإذا التفت التفت جميعاً .
نظر إليه سلمان ، فرآه مميزاً عن باقي أصحابه ، ولكن هذا لا يكفي ، المهم العلامات الثلاث : لا يأكل الصدقة ، ويأكل الهدية ، وفي كتفيه خاتم النبوة ... لقد حان وقتها ... ودخل الرسول ومن معه إلى ذلك البستان ، فجعل أصحابه يتناولون من حشف النخل ، والرسول يقول لهم : كلوا ولا تفسدوا على القوم شيئاً .
وهنا اغتنم سلمان الفرصة التي قيضها الله له ، والتي كانت بداية خلاصه والتحاقه بركب الاسلام ، فأقبل إلى مولاته مستميحاً إياها أن تهبه قليلاً من الرطب قائلاً : ( هبي لي طبقاً من الرطب ) .
وكانت المرأة كما ذكرنا تحبه حباً شديداً ، فقالت له : لك ستة أطباق !
قال : فحملت طبقاً فقلت في نفسي إن كان فيهم نبي فانه لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية ، فوضعته بين يديه فقلت : هذه صدقة .
فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلوا ، وأمسك هو وعليٌ وأخوه عقيل وعمه حمزة
(1) فقلت في نفسي : هذه علامة !
فدخلت إلى مولاتي فقلت : هبي لي طبقاً آخر ... قالت : لك ستة أطباق !
فحملتُ طبقاً ووضعته بين يديه وقلت : هذه هدية .
فمدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال : بسم الله ، كلوا ، ومدّ القوم جميعاً أيديهم فأكلوا ، فقلت في نفسي : هذه أيضاً علامة أخرى .
قال : ورجعت إلى خلفه وجعلت أتفقد خاتم النبوة ، فحانت من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلتفاتة فقال : يا روزبة ؛ تطلب خاتم النبوة ! ؟ ) قلت : نعم .
فكشف عن كتفيه فإذا بخاتم النبوة معجون بين كتفيه عليه شعرات ! ، فسقطتُ على قدميه أقبلهما ... ونسي الراوي أن يقول : فأبلغته سلام الراهب ، وأعطيته اللوح ، وحدثته بما جرى لي .
وإلى هنا يكون سلمان قد وصل إلى هدفه الذي خرج من أجله ، ويبقى في هذه القصة لغز ربما حير كثيرين ... لغز الرهبان الثلاثة أو الأربعة الذين كانوا يوصون بسلمان إلى بعضهم البعض ، وآخرهم الذي قال له : ( لا أعلم أحداً في الأرض على دين عيسى بن مريم ... ! ) تُرى ، هل أن هؤلاء الرهبان كانوا قد أحتكروا الديانة المسيحية لأنفسهم ، فأين ملايين النصارى ومئات القسس وأين موقعهم من ذلك الدين ؟ سيما وأن النصوص الواردة في ( إسلامه ) تظافرت واتفقت على هذا المعنى .
الحق : أن أولئك الرهبان كانوا من الأبدال
(2) الذين لا تخلو الأرض منهم
---------------------------
(1) في شرح النهج 18 / 35 وقال : إنه لا تحل لنا الصدقة .
(2) الأبدال : قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم ، إذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر ، وورد =
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 46 _
أو أنهم كانوا من ( أوصياء أوصياء المسيح ) على حد تعبير البعض ، وبذلك يسهل علينا تقبل ما أورده كثير من المؤرخين من أن سلمان أدرك ( وصي وصي عيسى ) ، ( أو أدرك بعض الحواريين ) .
( عتيـق الإسـلام )
بقيت مشكلة الرق ( المفتعل ) الذي تم بسبب أولئك القساة الذين صحبهم سلمان من الإسكندرية ، والذي يحول بينه وبين اللحاق برسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، سيما وأن هذه المرأة لن تتخلى عنه بسهولة ، وهنا تدخل رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) لينقذ سلمان من محنته القاسية فالتفت إليه قائلاً :
« يا روزبة ادخل إلى هذه المرأة وقل لها : يقول لك محمد بن عبد الله أتبيعيني له ؟ » نهض سلمان إليها وأبلغها مقالة النبي صلوات الله عليه ، وهو يظن أنها ستجيبه إلى طلبه وتبيعه بدراهم معدودات كما فعل معه أسياده السابقون ، وعندها سيتخلص من ربقة العبودية ويعيش حراً في دنيا الإسلام .
كان ما حصل هو العكس ، فالمرأة شديدة التعلق بهذا الفارسي ـ وربما لإخلاصه وأمانته ـ فهي لن تتخلى عنه بسهولة ، ومن جهة ثانية أن المساوم عليه هو محمد بن عبد الله النبي الذي يكرهه الوثنيون والمشركون والتي هي منهم ، فهي إذن تود إيذائه وتعجيزه وقهره لو استطاعت ، فكانت هذه المساومة من محمد فرصةً سانحة لذلك ، فوافقت على بيعه وشرطت شرطاً لا يمكن تحقيقه إلا إذا تدخلت العناية الإلهية ، فقالت لسلمان :
( لا أبيعك إلا بأربعمائة نخلة ، منها مائتان صفراء ومنها مائتان حمراء )
إنه طلب صعب ، فمن أين تجتمع هذه النخلات الأربعمائة بهذه
---------------------------
= أيضاً : الأبدال قوم يقيم الله بهم الأرض وهم سبعون أربعون بالشام وثلاثون بغيرها ، لا يقوم أحدهم إلا قام مقامه آخر من سائر الناس ( مجمع البحرين مادة بدل ) .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 47 _
المواصفات ؟ ، ولكن شاء الله أن تكون حياة هذا الفارسي مليئة بأسرار لا يعلمها إلا هو ، واختارت مشيئة سبحانه ان يكون لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القدرة على تحقيق ما يعجز عنه البشر وأن تحصل على يديه خوارق تزيد المؤمنين بصيرة .
( فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أهون ما طلبت ! ) ثم قال ، قم يا علي فاجمع هذا النوى كلّه ، فأخذه ،( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وغرسه ، ثم قال إسقه ، فسقاه فما بلغ آخره حتى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً .
والتفت رسول الله إلى سلمان قائلاً : ادخل إليها وقل : يقول محمد بن عبد الله هذا شيئك فاستلميه ، وسلمينا شيئنا .
قال : فدخلت عليها وقلت لها ذلك ، فخرجَت ونظرت إلى النخل ، فقالت :
والله لا أبيعك له إلا بأربعمائة نخلة صفراء ، لقد دهشت هذه المرأة لما رأت ، فها هو النخل أمام عينيها وقد صار فسيلاً ، يا لله ! هل هو السحر ؟ أم هو الإعجاز الذي يؤيد الله به أنبياءه ؟ وفي حالةٍ من الاضطراب لا توصف ، تراجعت عن كلامها ، أنها تريد النخل بأجمعه أصفر ، وتدخلت العناية الإلهية مرةً ثانية حيث ( هبط جبرئيل عليه السلام ومسح النخل بجناحيه فصار كله أصفر ) .
فقال النبي لسلمان ، قل لها : إن محمداً يقول لك خذي شيئك وادفعي لنا شيئنا ،
قال سلمان ، فقلت لها ذلك ، فقالت : والله لنخلة من هذه أحب إلي من محمد ومنك ، فقلت لها : والله ليوم واحد مع محمد أحب إلي منك ومن كل شيء أنت فيه .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتقني وسماني : سلمان .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 48 _
ووردت في كيفية عتقه روايات أخرى ، منها : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : كاتب صاحبك .
( يقول سلمان : فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته على أن أغرس له ثلاثماية ودية ، وعلى أربعين أوقية من ذهب .
( فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أعينو أخاكم بالنخل بالخمس والعشر حتى اجتمع لي ، فقال لي : نقر لها ولا تضع منها شيئاً حتى أضعه بيدي ، ففعلت )
(1) ( فغرسها رسول الله كلها بيده المباركة إلا واحدة غرسها عمر ، فأطعم كل النخل من عامه إلا تلك الواحدة ، فقطعها صلى الله عليه وآله وسلم ثم غرسها فأطعمت )
(2)
وبقي الذهب ، فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابه من بعض المعادن ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ادع سلمان المسكين الفارسي المكاتب فلما دعي له ، قال : أد هذه .
قال سلمان ، فقلت : يا رسول الله أين تقع هذه مما علي ؟
وكان سلمان يقول : ( أعانني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيضة من ذهب ، فلو وزنت بأحد لكانت أثقل منه )
(3)
---------------------------
(1) أسد الغابة 2 / 330 .
(2) شذرات الذهب 1 / 44 وفي شرح النهج 18 / 35 فقال رسول الله من غرسها ؟ قيل : عمر ، فقلعها وغرسها الخ ...
(3) أسد الغابة 2 / 330 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 49 _
الروايات الواردة حول إسلامه
* رواية اكمال الدين
* رواية ابن أبي الحديد ( شرح النهج )
* رواية ابن الأثير ( أسد الغابة )
* رواية الحاكم النيشابوري المختصرة
* روايته الثانية
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 51 _
رواية : إكمال الدين عن علي بن مهزيار ، عن أبيه ، عمن ذكره ، عن موسى بن جعفر عليه السلام :
(1) قال : قلت يا ابن رسول الله ، ألا تخبرنا كيف كان إسلام سلمان ؟
فقال : حدثني أبي عليه السلام ، أن أمير المؤمنين قال لسلمان ، يا أبا عبد الله ، ألا تخبرنا بمبدأ أمرك ؟
فقال له : لو غيرك سألني ، ما أخبرته ، أنا رجل من أهل شيراز ، من أبناء الدهاقين ، وكنت عزيزاً على والديَّ ، فبينا أنا سائر مع أبي في عيدٍ لهم ، إذا أنا بصومعةٍ ، وإذا فيها رجل يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن عيسى روح الله ، وأن محمداً حبيب الله !
فرسخ وصف محمد في لحمي ودمي ، فلم يهنئني طعام ولا شراب .
فقالت لي أمي : ما لك اليوم لم تسجد لمطلع الشمس ؟ قال: فكابرتها حتى سكتت ، فلما انصرفت إلى منزلي ، إذا أنا بكتاب معلق بالسقف ، فقلت لأمي : ما هذا الكتاب ؟
---------------------------
(1) إكمال الدين / 159 إلى 164 وحقائق الإيمان ص : 192 .