المسلمون ، فتوجه سلمان نحوها ، ويحدثنا بالقصة القاسم بن عبد الرحمن حيث يقول : ( زارنا سلمان الفارسي ، فخرج الناس يتلقونه كما يتلقى الخليفة ، فلقيناه وهو يمشي فوقفنا نسلم عليه ، ولم يبق شريف إلا سأله أن ينزل عنده ، فسأل عن أبي الدرداء ! فقيل : هو مرابط .
  فقال : وأين مرابطكم ؟ قالوا : بيروت .
  فتوجه قِبَله ، فلما صار إلى بيروت ، ( واجتمع بمن فيها ) قال سلمان :
  يا أهل بيروت ، ألا احدثكم حديثاً يذهب عنكم غرض * الرباط ، سمعت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : رباط يوم كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من فتنة القبر ، وأجرى له ما كان يعمل إلى يوم القيامة . (1)

---------------------------
* غرض الرباط ـ عناؤه .
(1) انساب الاشراف 487 ـ 488 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 127 _

سلمان يختار الكوفة
  الكوفة، هذه البقعة الطيبة من الأرض ورد في فضلها وفضل مسجدها احاديث كثيرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام ، وما ذلك إلاّ لقدسيتها وكرم تربتها ، ( كان علي عليه السلام يقول : نعمة المدرة ، وقال : انه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً وجوههم على صورة القمر.
  ويقول : هذه مدينتنا ومحلتنا ، ومقر شيعتنا .
  وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : اللهم ارم من رماها ، وعاد من عاداها .
  ويقول : تربة تحبنا ونحبها (1) وكان علي عليه السلام يقول : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز .
  وأما مسجدها فقد رويت فيه فضائل كثيرة ، روى حبة العرفي ، قال : كنت جالساً عند علي عليه السلام فأتاه رجل

---------------------------
(1) شرح النهج 3 / 198 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 128 _

  فقال : يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا البيت أعني بيت المقدس ، فقال عليه السلام : كل زادك ، وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ فانه أحد المساجد الأربعة ، ركعتان فيه تعدلان عشراً فيما سواه من المساجد ، والبركة منه إلى إثنى عشر ميلاً من حيث أتيته ، وهي نازلة من كذا ألف ذراع ، وفي زاويته فار التنور ، وعند الاسطوانة الخامسة صلى ابراهيم عليه السلام ، وقد صلى فيه ألف نبي وألف وصي وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين ، وفيه هلك يغوث ويعوق وهو الفاروق ، وفيه مسير لجبل الأهواز ، وفيه مصلى نوح عليه السلام ، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب ، ووسطه على روضة من رياض الجنة ، وفيه ثلاث أعين من الجنة تذهب الرجس وتطهر المؤمنين ، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبواً (1) .
  هذه البقعة الطاهرة لم يكن لها إسم قبل السنة السابعة عشرة للهجرة ، أو على الأقل لم تكن معروفة بهذا الأسم قبل ذلك الحين ، فالعرب يقولون للرملة الحمراء : كوفة ويقولون لكل رمل وحصباء مختلطين : كوفة . فما هي قصتها ؟ يبدو أن المسلمين بعد أن فرغوا من حرب القادسية والمدائن وأقاموا فيهما لم تلائم التربة ولا الطقس أجسامهم ، فتغيرت ألوانهم ونحلت أبدانهم ، فكتب حذيفة إلى عمر : إن العرب قد رقّت بطونها ، وجفَّت أعضادها ، وتغيرت ألوانها .
  فكتب عمر إلى سعد : اخبرني مالذي غير ألوان العرب ولحومهم ؟ فكتب اليه سعد : إن الذي غيَّرهم وَخُومةُ البلاد ، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان .

---------------------------
(1) معجم البلدان 4 / 492 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 129 _

  فكتب إليه عمر : أن إبعث سلمان وحذيفة رائدين ، فليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر ، فأرسلهما سعد ، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار ، فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، فأعجبتهما البقعة ، فنزلا فصليا ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزل الثبات .
  ثم رجعا إلى سعد فأخبراه ، فارتحل سعد من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة ، وكتب إلى عمر : اني قد نزلت بالكوفة منزلاً فيما بين الحيرة والفرات برياً وبحرياً *(1) ينبت الحلفاء والنصيّ *(2) ، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن ، فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة .
  ولما استقروا بها ، عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم وأول شيء خط فيها وبني ، مسجدها ، قام في وسطه رجل شديد النزع فرمى من كل جهة بسهم ، وأُمر أن يبنى ما وراء ذلك ، وبني ظلّة في مقدمة المسجد على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة (3) .
  وهكذا رأينا سلمان يختار هذه البقعة وكأن يد الغيب دلته عليها ، فهي اليوم مزار ملايين المسلمين ، أحياءً وأمواتاً وفي ظهرها ثاني أكبر مقبرة في العالم حيث مدفن أمير المؤمنين علي عليه السلام والبررة الصالحين من مواليه .
  ولم يفتر سلمان عن ذكرها ، والتنويه بفضلها ، فكان يقول : الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها أو يهوي قلبه إليها .

  ويقول : أهل الكوفة أهل الله ، وهي قبة الإسلام يحن إليها كلُّ مؤمن (4) .

---------------------------
*(1) كانوا يسمون النهر الكبير بحرا .
*(2) الحلفاء نبت ينبت في الماء وكذلك النصي .
(3) مقتضبة من الكامل 2 / 527 ـ 528 .
(4) معجم البلدان 4 / 492 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 131 _

الزاهد المتعبد
سلمان العالم
من كـلامه
قال سلمان فصدق
سلمان ، على لسان أئمة أهل البيت
ازواجه وأولاده كيفية وفاته وغسله ودفنه
كم عاش سلمان

سَـلمـان سـابق فـارس _ 133 _

الـزاهد المتعبد
  قال علي عليه السلام : الزهد كله بين كلمتين من القرآن : قال الله سبحانه : ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي ، فقد أخذ الزهد بطرفيه (1) .
  هذا هو معنى الزهد باختصار ، ويستشف من هذا التفسير أن الذي يملك نفسه حيال مغريات الدنيا وزهوها هو الزاهد ، وبهذا نفهم مضمون الكلمة المأثورة : ( ليس معنى الزهد أن لا تملك شيئاً ، بل الزهد أن لا يملك شيء ) .
  وهو صفة مميزة للأنبياء والمرسلين والأوصياء والأولياء ، صفة بارزة في سلوكهم لا تقبل التصنع ولا التكلف ، وللإمام علي عليه السلام خطبة يصف فيها الدنيا وزهد الأنبياء فيها قال : ( ولقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كافٍ لك في الأسوة ، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت أطرافها ، ووطئت لغيره أكنافها ( أي جوانبها ) وفطم عن رضاعها ، وزوي عن زخارفها .

---------------------------
(1) تصنيف نهج البلاغة / ص 416 رقم الحكمة 655 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 134 _

  ثم يقول عليه السلام : وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث يقول : ( ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) والله ما سأله إلا خبزاً يأكله ، لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه .
  وإن شئت ثلثت بداوود ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صاحب المزامير ، وقارئ أهل الجنة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ، ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ، ويأكل قرص الشعير من ثمنها .
  ثم يستطرد واصفاً زهد عيسى ( عليه السلام ) قائلاً : وإن شئت قلت في عيسى بن مريم (عليه السلام ) فلقد كان يتوسد الحجر ، ويلبس الخشن ، ويأكل الجشب ، وكان أدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وضلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه، وخادمه يداه .
  ثم يعود عليه السلام ، فيصف زهد النبي الأعظم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيقول : ولقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه ، ويكون الستر على باب بيته ، فتكون في التصاوير ، فيقول : يا فلانة ـ لإحدى زوجاته ـ غيبيه عني فاني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها ... الخطبة (1) .
  وأمير المؤمنين علي عليه السلام كان قمةً في الزهد والتعبد ، ويكفي في ذلك ، ما ورد عن ضرار بن حمزة الضبائي حين دخل على معاوية ، فسأله معاوية عنه ، فقال :

---------------------------
(1) تصنيف نهج البلاغة / 406 ـ 407 رقم الخطبة 158 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 135 _

  ( أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا يا دنيا ، إليك عني ، أبي تعرضتِ ؟ أم إلي تشوقت ؟ لا حان حينك ، هيهات ؛ غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آهٍ آه من قلة الزاد ، وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد ! ) .
  وعن نوف البكالي ، قال : رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه فنظر في النجوم ، فقال لي : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ فقلت : بل رامق ، قال : يانوف ، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، والقرآن شعاراً ، والدعاء دثاراً ، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح (1) .
  ولعل القارئ الكريم يستغرب من هذا العرض الطويل ـ وربما اعتبره خروجاً عن حدود الموضوع ـ زهد سلمان ـ لكن الأمر عكس ذلك ، فأنا أجدني مضطراً لعرض هذا وأكثر منه ، لأن ما يروى في زهد سلمان ( رضي الله عنه ) يفوق حد الوصف إلى درجةٍ عالية قد يرفضها الكثيرون ، أو على الأقل يعتبرنها ضرباً من الشذوذ ومدعاة للانتقاص .
  ولكن حين يقارن الباحث والقارئ بين الزهد بالنسبة للأنبياء والأوصياء ، وزهد سلمان الذي كان كما يقال ( قد أدرك أوصياء المسيح ) يهون عليه الأمر ويتقبله بكل إطمئنان وبكل إجلال وإكبار ، وإليك بعضاً مما ورد عن زهده وتعبده ، قال ابن أبي الحديد ، قال أبو وائل : ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان

---------------------------
(1) نفس المصدر / 413 رقم الحكمة 577 و 583 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 136 _

  الفارسي ، فجلسنا عنده فقال : لو لا أن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )نهى عن التكلف لتكلَّفت لكم ، ثم جاء بخبز وملح ساذج لا أبزار عليه ، فقال صاحبي : لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر ! فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على سعتر ، فلما أكلنا قال صاحبي : الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا .
  فقال سلمان : لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة ! (1) ودخل قوم على سلمان وهو أمير على المدائن ، وهو يعمل الخوص ، فقيل له : تعمل هذا وأنت أمير يجرى عليك رزق ؟ فقال : اني أحب أن آكل من عمل يدي ، وذكر أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار عند بعض مواليه ) (2) .
  وعن الحسن البصري : ( كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ، ويأكل من عمل يده ، وكانت له عباءة يفرش بعضها ويلبس بعضها ) (3) .
  ( ولم يكن لسلمان بيت ، إنما كان يستظل بالجدر والشجر ، وإن رجلاً قال له : آلا نبني لك بيتاً تسكن فيه ) .
  قال : لا حاجة لي في ذلك ، فما زال به الرجل ، حتى قال له : أنا أعرف البيت الذي يوافقك ، فقال : فصفه لي ، قال : أبني لك بيتاً إذا أنت قمت فيه ، أصاب رأسك سقفه ، وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما ( الجدار ) .

---------------------------
(1) البحار 22 / 384 .
(2) شرح النهج 18 / 35 إلى 37 وكذلك في أسد الغابة قريباً منه 2 / 328 وفي الأعلام 3 / 170 : وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ينسج الخوص ويأكل خبز الشعير من كسب يده .
(3) نفس المصدر والصفحة .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 137 _

  قال : نعم فبنى له ) (1) ، ( وقع بين سلمان الفارسي ورجل كلام وخصومة ، فقال له الرجل : من أنت يا سلمان ؟ فقال ( رضي ) : أما أولي واولك فنطفة قذرة ! وأما آخري وآخرك فجيفة نتنة ! فإذا كان يوم القيامة ، ووضعت الموازين ، فمن ثقلت موازينه فهو الكريم ، ومن خف ميزانه فهو اللئيم ) (2)
.   وذكر المسعودي في مروج الذهب : أنه ( كان يلبس الصوف ، ويركب الحمار ببرذعته بغير إكاف ويأكل خبز الشعير ، وكان ناسكاً زاهداً فلما احتضر بالمدائن قال له سعد بن أبي وقاص : أوصني يا أبا عبد الله .
  قال : نعم ، قال : اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند لسانك إذا حكمت وعند يدك إذا قسمت ، فجعل سلمان يبكي ، فقال له : يا أبا عبد الله ما يبكيك ؟ قال : سمعت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إن في الآخرة عقبة لا يقطعها إلا المخفون ، وأرى هذه الأساود حولي ، فنظروا فلم يجدوا في البيت إلا إداوة وركوة ومطهرة ) (3).

---------------------------
(1) راجع المصدر السابق ، والإستيعاب ( على الإصابة 4 / 58 ـ 59 ) .
(2) الدرجات الرفيعة / 212 .
(3) مروج الذهب 2 / 306 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 139 _

سـلمان العـالم   نكتفي هنا بعرضٍ لما قيل وكتب حول علم سلمان الفارسي ( رضي ) فان في ذلك صورة واضحة لما يتمتع به هذا الصحابي العظيم من العلم والفضل ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : سلمان يبعث أمة ، لقد أشبع علماً .
  وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مخاطباً أبا الدرداء ، وكأنه يريد إيقافه على حقيقة كان يجهلها : ( يا عويمر ، سلمان أعلم منك ) (1) .
  وقد سئل عنه علي عليه السلام ، فقال : امرؤ منا واِلينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم علم العلم الأول والعالم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحراً لا ينزف (2)، ( روى عنه ابن عباس ـ حبر الأمة ـ وأبو عثمان النهدي ، وأبو الطفيل ، وأبو قرة الكندي ) (3) وقد روى البخاري عنه ستين حديثاً (4)، وغيرهم من الصحابة والتابعين ، وجاء في كتاب فنون الإسلام في أول من جمع حديثا إلى مثله في باب واحد وعنوان واحد من الصحابة الشيعة : وهم أبو عبد الله سلمان الفارسي وأبو ذر

---------------------------
(1) أنساب الأشراف / 488 .
(2) الأعلام للزركلي 3 / 169 ـ 170 .
(3) الجرح والتعديل / القسم الأول من المجلد الثاني / 296 ـ 297 .
(4) الأعلام / 3 / 170 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 140 _

 الغفاري رضي الله عنهما ، وقد نص على ذلك رشيد الدين ابن شهر اشوب في كتابه معالم علماء الشيعة (1) ، وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي شيخ الشيعة ، والشيخ أبو العباس النجاشي في كتابيهما في فهرست أسماء المصنفين من الشيعة مصنفاً لأبي عبد الله سلمان الفارسي ، ومصنفاً لأبي ذر الغفاري وأوصلا إسنادهما إلى رواية كتاب سلمان وكتاب أبي ذر ، وكتاب سلمان كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقصة الجاثليق هذا ، أوردها بعض المؤلفين القدامى في كتبهم ، روايةً عن سلمان ، وأرى أن ذكرها هنا لا موجب له . وقد ورد في حديث زرارة عن الصادق عليه السلام بلغ من علمه أنه مرَّ برجل في رهط ، فقال له : يا عبد الله ، تب إلى الله عز وجل من الذي عملت في بطن بيتك البارحة . قال : ثم مضى ، فقال له القوم لقد رماك سلمان بأمر فما رفعته ( دفعته ) عن نفسك ! قال : انه أخبرني بأمر ما إطلع عليه إلا الله وأنا . الحديث (2) .
---------------------------
(1) راجع أعيان الشيعة ج 35 / 243 .
(2) معجم رجال الحديث 8 / 192 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 141 _

من كـلامه ( رضي الله عـنه )
  عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام ، قال :
  جلس جماعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينتسبون ويفتخرون وفيهم سلمان رحمه الله فقال له عمر : ما نسبتك أنت يا سلمان ، وما أصلك ؟
  فقال : أنا سلمان بن عبد الله ، كنت ضالاً ، فهداني الله بمحمد ، وكنت عائلاً ، فأغناني الله بمحمد ، وكنت مملوكاً فاعتقني الله بمحمد ، فهذا حسبي ونسبي يا عمر .
  ثم خرج رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): فذكر سلمان ما قال عمر وما أجابه به ، فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يا معشر قريش ؛ إن حسب المرء دينه ، ومروته خلقه ، وأصله عقله ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .
  ثم أقبل على سلمان فقال له : ( سلمان ، إنه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عز وجل ، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه ) . (1)
---------------------------
(1) الدرجات الرفيعة 205 / 206 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 142 _

البلاذري بسنده عن أحمد بن يحيى الجوني
  ( قال سلمان الفارسي حين بويع أبو بكر ( كرداذ وناكرداذ ) ـ أي عملتم وما عملتم ـ لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) . (1)   قال عمر لسلمان : أملك أنا أم خليفة ؟ قال له سلمان : إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حق ، فأنت ملك غير خليفة ، فبكى عمر ، (2)   وكان إذا قيل له : ابن من أنت ؟ يقول : أنا سلمان بن الإسلام أنا من بني آدم . (3)
  صنع سلمان طعاماً لإخوانه ، فجاء سائل ، فأراد بعضهم أن يناوله رغيفاً ، فقال سلمان : ضع ، إنما دعيت لتأكل .
  ثم قال : وما علي أن يكون لي الأجر ، وعليك الوزر ،(4) ولا يخفى ما في هذه الفقرة من الدقة الفقهية ، فللضيف الحق في أن يأكل هو ، ولا يجوز له التصرف في أكثر من ذلك إلا بإذن المضيّف ، ولو تصرف المرء بمال غيره وتصدق به ، فإن الأجر يكون للمالك ، والوزر على المتصدق لأنه غاصب .
  وروى الكشي بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : تزوج سلمان إمرأةً من كندة ، فدخل عليها فإذا لها خادمة وعلى بابها عباءة .
  فقال سلمان : إن في بيتكم هذا لمريضاً ، أو قد تحولت الكعبة فيه ، فقيل : إن المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه .

---------------------------
(1) الأنساب / 591 .
(2) الكامل 3 / 59 .
(3) شرح النهج 18 / 34 .
(4) الأنساب / 591 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 143 _

  قال : فما هذه الجارية ؟ قالوا : كان لها شيء فأرادت أن تخدم .
  قال : إني سمعت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : أيما رجل كانت عنده جارية ، فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ، ثم فجرت كان عليه وزر مثلها .
  ومن أقرض قرضاً فكأنما تصدق بشطره ، فان أقرضه الثانية ، كان رأس المال وأداء الحق إلى أن يأتيه به في بيته أو في رحله فيقول : ها خذه (1) .
  عن أبي عبد الله( عليه السلام ) قال : قال سلمان رحمة الله عليه : عجبت بستّ ، ثلاث أضحكتني وثلاث أبكتني .
  فأما التي أبكتني ، ففراق الأحبة محمد وحزبه ، وهول المطلّع ، والوقوف بين يدي الله عز وجل ، وأما التي أضحكتني ، فطالب الدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ، وضاحك ملئ فيه لا يدري أرضي الله أم سخط . (2)

---------------------------
(1) أعيان الشيعة 35 / 345 ـ 346 .
(2) الخصال / 326 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 145 _

  قال سلـمان ، فـصدق ! قال سلمان مخاطباً المسلمين حين غزوا بلنجر وغنموا وفرحوا بالغنائم : ( إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد ، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم ... )
  قال المسيب بن نجبة الفزاري : لما أتانا سلمان الفارسي قادماً ، تلقيناه فسار حتى انتهى إلى كربلاء ، فقال ما تسمون هذه الأرض ؟ قالوا : كربلاء . فقال : هذه مصارع اخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم ، يقتل بها ابن خير الأولين ، ويقتل بها خير الآخرين . (1)
  قال سلمان ذلك قبل أن يكون هناك قتال في كربلاء ، فقد كانت غزوة بلنجر في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة أي قبل واقعة كربلاء بثلاثين سنة تقريباً كما يظهر (2) ومرت السنين تتوالى ، ومات خليفة وقام خليفة حتى جاء عهد يزيد الطاغية ، فكانت ثورة الإمام الحسين الخالدة . . . وبينما الحسين في طريقه إلى كربلاء إذ به ينزل على ماء ويخيم مع أهل بيته هناك ، وكان زهير بن القين قادماً من الحجاز بعد أن أنهى مناسك حجه فيها ، فنزل بالقرب من الحسين

---------------------------
(1) فتوح البلدان / 406 .
(2) الكامل 3 / 132 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 146 _

  وكان عثماني العقيدة منحرفاً عن أهل البيت عليهم السلام إلا أن الماء جمعهم في ذلك المكان ، وعلم الحسين به فاستدعاه ذات يوم ، فشق عليه ذلك ، ثم أجابه على كره ، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ، ثم قال لأصحابه :
  من أحب منكم أن يتبعني ، وإلا فانه آخر العهد ، وسأحدثكم حديثاً : غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، وكان معنا سلمان الفارسي ، فقال لنا : إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم ، فأما أنا فأستودعكم الله ، ثم طلق ـ زهير ـ زوجته وقال لها : الحقي بأهلك فاني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير ، ولزم الحسين حتى قتل معه ) (1) .
  قـال سلمان : ( لتحرقن هذه الكعبة على يدي رجل من أهل الزبير ) (2) أي بسببه ، قالها قبل زمن بعيد من دعوة عبد الله بن الزبير الناس إلى نفسه ولجوئه إلى الكعبة المشرفة ، وفي سنة أربع وستين للهجرة حوصر ابن الزبير ومن معه من أصحابه في البيت ، واستمر القتال بينه وبين أهل الشام قرابة الشهرين ( حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ، رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار وأخذوا يرتجزون ويقولون :
خـطارة مثل iiالفنيق*المزبد        نرمي بها أعواد هذا المسجد
  وقيل : إن الكعبة إحترقت من نار كان يوقدها أصحاب عبد الله حول

---------------------------
(1) الكامل 4 / 42 .
(2) أخبار مكة 1 / 197 .
* : الفنيق : فحل الناقة .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 147 _

  الكعبة وأقبلت شررة هبت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة وأحترق خشب البيت ، (1)   ومر سلمان ـ في طريقه إلى المدائن ـ بالكوفة ، فسأل من كان معه : هذه الكوفة ؟   قالوا نعم .
  قال : قبة الإسلام . ( يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها ... ) (2)
---------------------------
(1) الكامل 4 / 124 .
(2) فتوح البلدان / 406 وأعيان الشيعة م 35 / 250 ـ 251 والقصة فيه مفصلة .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 149 _

سلمان على لسان أئمة أهل البيت عليهم السلام   سئل علي أمير المؤمنين عليه السلام عن سلمان ، فقال : ( إمرء منا وإلينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم ، علم العلم الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحراً لا ينزف ! ) (1) عن أبي جعفر عليه السلام ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال :
  ( ضاقت الأرض بسبعة ، بهم ترزقون ، وبهم تنصرون ، وبهم تمطرون ، منهم : سلمان الفارسي والمقداد ، وأبو ذر ، وعمار ، وحذيفة ، وكان علي (عليه السلام ) يقول : وأنا إمامهم ، وهم الذين صلوا على فاطمة عليها السلام )
  أخرج الشيخ الطوسي في أماليه ، عن منصور بن بزرج ، قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام ما أكثر ما أسمع منك ـ سيدي ـ ذكر سلمان الفارسي ؟ قال عليه السلام : لا تقل سلمان الفارسي ، ولكن قل سلمان المحمدي ، أتدري ما أكثر ذكري له ؟ قلت : لا .
  قال : لثلاث خصال ، إيثاره هوى أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه .

---------------------------
(1) الأعلام للزركلي م 3 / 169 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 150 _

  والثانية : حبه للفقراء واختياره إياهم على أهل الثروة والعدد ، والثالثة : حبه للعلم والعلماء .
  وأخرج الكشي عن محمد بن حكيم ، قال :
  ذكر عند أبي جعفر عليه السلام سلمان المحمدي ، فقال : إن سلمان منا أهل البيت ، إنه كان يقول للناس : هربتم من القرآن إلى الأحاديث ، وجدتم كتاباً دقيقاً حوسبتم فيه على النقير والقمطير والفتيل وحبة الخردل ، فضاق عليكم ذلك ، وهربتم إلى الأحاديث التي اتسعت عليكم (1) .
  وبسنده عن الحسين بن صهيب عن أبي جعفر ، قال : ذكر عنده سلمان الفارسي قال فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : لا تقولوا سلمان الفارسي ، ولكن قولوا : سلمان المحمدي ، ذاك رجل منا أهل البيت (2) .
  الصدوق ، بسنده عن إبن نباته قال : سألت أمير المؤمنين عليه السلام عن سلمان الفارسي رحمة الله عليه وقلت : ما تقول فيه ؟ فقال : ما أقول في رجل خلق من طينتنا ، وروحه مقرونة بروحنا ، خصه الله تبارك وتعالى من العلوم بأولها وآخرها وظاهرها وباطنها وسرها وعلانيتها ، ولقد حضرت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلمان بين يديه ، فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه ، فغضب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال : يا أعرابي ، اتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض ! يا أعرابي ، أتنحي رجلاً ما حضرني جبرئيل إلا أمرني عن ربي عز وجل أن أقرئه السلام ! يا

---------------------------
(1) الدرجات الرفيعة / 209 ـ 210 .
(2) البحار 22 / 349 .