بهذا الغلام خيراً ، وافعلوا ... وافعلوا ... قلت : ما أنا بمفارقك ، قال : يا سلمان ، قد رأيت حالي وما كنت عليه ، وليس هذا كذلك ، أنا أمشي أصوم النهار وأقوم الليل ولا أستطيع أن أحمل معي زاداً ولا غيره ، وأنت لا تقدر عل هذا ، قلت : ما أنا بمفارقك . قال : أنت أعلم .
  قالوا : يا فلان ، فانا نخاف على هذا الغلام ؛ قال : فهو أعلم ، قد أعلمته الحال وقد رأى ما كان قبل هذا ، قلت : لا أفارقك ، فبكوا وودعوه ، وقال لهم : اتقوا الله وكونوا على ما وصيتكم به ، فان اعش فعلي ( أن ) أرجع إليكم ، وإن مت فإن الله حي لا يموت .
  فسلم عليهم وخرج وخرجت معه يمشي وأتبعه ، يذكر الله تعالى ولا يلتفت ولا يقف على شيء ، 0حتى إذا أمسينا قال : يا سلمان ، صلّ أنت ونم وكل واشرب ، ثم قام هو يصلي حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء حتى انتهينا إلى باب المسجد وإذا على الباب مُقْعَدٌ فقال يا عبد الله ، ترى حالي ، فتصدق علي بشيء ، فلم يلتفت إليه ودخلنا المسجد ، فجعل يتتبع أمكنة من المسجد ، فصلى فيها ، فقال : يا سلمان إني لم أنم منذ كذا وكذا فإن فعلت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا ، نمت ، فاني أحب أن أنام في هذا المسجد ، وإلا لم أنم .
  قلت : فإني أفعل ، فنام ، فقلت في نفسي هذا لم ينم منذ كذا وكذا ، لأدعنه ينام حتى يشتفي من النوم ، فلم يمض إلا يسيراً حتى استيقظ فزعاً يذكر الله تعالى .
  فقال لي : يا سلمان ، مضى الفيء من هذا المكان ... أينَ ما كنت جعلت على نفسك ؟ قلت : أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا ، فأحببتُ أن تشتفي ، فحمد الله تعالى .
  وكان فيما يمشي ، يعظني ويخبرني أن لي رباً وأن بين يدي جنةً وناراً وحساباً ، ويعلمني ويذكرني نحو ما يذكر القوم يوم الأحد حتى قال فيما يقول : يا

سَـلمـان سـابق فـارس _ 77 _

  سلمان ، إن الله عز وجل سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد يخرج بتهمة ـ وكان رجلاً أعجمياً لا يحسن القول ( فيقول في تهامة تهمة ) ـ علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم ، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب ، أما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه ، فان أدركته أنت فصدقه واتبعه .
  قلت : وإن أمرني بترك دينك ؟ قال : اتركه ، فان الحق فيما أمر به ، ورضى الرحمن فيما قال ، وقام ، فخرج فتبعته فمر بالمقعد ، فقال ( الرجل ) المقعد : يا عبد الله دخلت فسألتك فلم تعطني ! وخرجت فسألتك ، فلم تعطني ! فقام ينظر هل يرى أحداً ، فلم يره ، فدنا منه فقال له : ناولني يدك ، فناوله ، فقال : بسم الله ، فقام كأنه أنشط من عقال صحيحاً لا عيب فيه ، فخلا عني بعده ، فانطلق ذاهباً فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه .
  فقال لي المقعد : يا غلام إحمل علي ثيابي حتى أنطلق فأسير إلى أهلي ، فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي علي ، فخرجت في أثره أطلبه ، فكلما سألت عنه قالوا : أمامك حتى لقيني ركب من كلب ، فسألتهم ، فلما سمعوا لغتي ، أناخ رجل منهم لي بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بلادهم ، فباعوني فاشترتني إمرأة من الأنصار ، فجعلتني في حائط لها ، وقدم رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأخبرت به ، فأخذت شيئاً من تمر حائطي . . . ثم ذكر خبر الصدقة والهدية والخاتم ، وأن أبا بكر اشتراه وأعتقه ـ وهو مخالف للمشهور من أن النبي هو الذي ساعده على عتقه كما تقدم .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 79 _

مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جهاده
الـخنـدق
حصار الطائف
على لسان النبي الكريم
بين النبي وسلمان
بين سلمان وأبي الدرداء
كتاب النبي يوصي فيه بال سلمان

سَـلمـان سـابق فـارس _ 81 _

في غزوة الخندق (1)
  الذي عليه أكثر المؤرخين أن سلمان لم يشارك في غزوات النبي الأولى كبدرٍ وأحد ، لأنه كان لا يزال في حينها قيد الرق ، أما بعد أن أعتقه الإسلام من رقه فانه لم ينفك عن مصاحبته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومواكبته له في غزواته وحروبه ، واسداء الرأي والنصيحة حينما يتطلب الأمر ذلك ، فكان له مواقف خالدة في هذا المضمار إحتفظ لنا التأريخ ببعض منها نظراً لما كان ترتب عليها من أهمية تتصل بالحفاظ على قوة المسلمين العسكرية .
  وأهم هذه المواقف وأعظمها ما أشار به على المسلمين في حربهم ضد الشرك فيما يسمى بغزوة ( الخندق ) ، وغزوة الخندق هذه إشتملت على مشاهد مثيرة يعيشها القارئ من خلال ما سجلته أقلام المؤرخين حولها ، ففيها إلتقت الكثافة العددية لجيش العدو بالقلة العددية لجيش المسلمين ، مع ما دبر من مكائد تجمعها كلمة ( الحرب خدعة ) بين الطرفين ، وتدخل العنصر الغيبي ( الإلهي ) لحسم الموقف ، مما يدعو القارئ والكاتب إلى ضرورة الإلمام بها وبظروفها ولو بنحو الإجمال .
  لقد بدأت هذه الحرب في شوال من السنة الخامسة للهجرة بتحريض جماعة من اليهود وذلك : أن نفراً من يهود بني النضير قرروا فيما بينهم أن يقوموا

---------------------------
(1) راجع سيرة المصطفى / 493 وما بعدها ، والكامل 2 / 178 وما بعدها بتصرف .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 82 _

  بحملة تستهدف تجميع القوى المناهضة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولرسالته الإسلامية ومن ثم مهاجمته في المدينة والقضاء عليه وعلى من يكون معه ، فقدموا على قريش بمكة ودعوهم إلى ذلك وقالوا نكون معكم حتى نستأصله ، وكان من هؤلاء اليهود سلام ابن أبي الحقيق ، وهوذة بن قيس الوائلي وغيرهم .
  فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود ؟ إنكم أهل الكتاب الأول ، وتعلمون بما أصبحنا عليه نحن ومحمد ، ونحن نسألكم أديننا خير أم دينه ؟ فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه ! وبهذه المناسبة نزلت الآية الكريمة : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً *أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) .
  ولما سمعت قريش من اليهود ذلك استبشرت وطمعت في أن يحقق لها هذا التكتل النصر على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتواعدوا وإياهم على حربه عندما يتيسر لهم من العراب من يناصرهم عليه ، ولم يكتف اليهود بذلك ، بل حرضوا بعض القبائل الأخرى على حربه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأعدين إياهم النصر الأكيد ، إذ لا طاقة لمحمد وأصحابه على مناجزتهم والثبات في وجههم ، وهم بهذا العدد الضخم من الأفراد والعدة الكاملة من السلاح ، فاستجابت لهم غطفان وكان قائدها عيينة بن حصن ، وبنو سليم بقيادة سفيان بن شمس ، وبنو أسد ، وفزارة ، وبعض قبيلة الأشجع وبنو مرة وغيرهم ، وكان أبو سفيان قائد قريش ، فبلغ مجموعهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل وكان في قريش وحدها ثلاثة آلاف فارس ومعها ألف وخمسمائة بعير .
  وبلغ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك فجمع أصحابه وأمرهم بالاستعداد للمواجهة وحثهم على الجهاد واستشارهم في وضع خطة تمنع دخولهم إلى المدينة ، فأشار عليه سلمان الفارسي ( رضي الله عنه ) بحفر الخندق ، قائلاً له :

سَـلمـان سـابق فـارس _ 83 _

  ( كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا خندقا يحول بيننا وبين عدونا ... ) فاستحسن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه هذا الرأي وأمر بحفره ، وبهذه المناسبة صار المهاجرون والأنصار يبدون تقربهم لسلمان فاختلفوا فيما بينهم وكل يقول : سلمان منا ، ولكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حزم الأمر بقوله : ( سلمان منا أهل البيت ) فكانت هذه الكلمة من الرسول في حقه أكبر وأعظم وسام يناله صحابي .
  ثم أن النبي حدد لكل عشرة من المسلمين أن يحفروا أربعين ذراعاً ، وكان هو كأحدهم يحفر بيديه مؤاساةً وتشجيعاً لهم ، وكان المسلمون يحفرون وينشدون الأشعار ، أما سلمان ، فلا نشيد ولا كلمة على لسانه تلهب حماسه ، لكنه مع ذلك كان من أنشطهم وأخلصهم في العمل ، وسر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يسمع من سلمان شعراً كما يسمع من غيره ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اللهم أطلق لسان سلمان ولو على بيت من الشعر فأنشأ سلمان يقول :
مـا لـي لسان فأقول iiالشعرا        أسـأل  ربـي قـوةً iiونـصرا
عـلى عـدوي وعـدو iiالطهر        مـحمد  الـمختار حاز iiالفخرا
حـتى أنـال في الجنان iiقصرا        مع كل حوراء تحاكي البدرا(1)
  وبينما كان سلمان مع تسعة نفر يحفرون في المساحة المحددة لهم وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضتهم ، فأعجزتهم ولم تصنع بها المعاول شيئاً ، فقالوا لسلمان : إذهب إلى رسول الله وأخبره بذلك ، فلعله يأمرنا بالعدول عنها ، فإنا لا نريد أن نتخطى أمره .
  فلما أخبره سلمان بذلك ، أقبل عليهم وهبط بنفسه إلى الخندق وأخذ المعول من سلمان وضرب الصخرة ضربةً صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة حتى لكأنها مصباح في بيت مظلم ـ على حد تعبير الراوي ـ فكبَّر رسول

---------------------------
(1) الدرجات الرفيعه / 218 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 84 _

  الله ، ثم ضربها ضربةً ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول ، وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء ما وراء المدينة ، فكبر رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية ، ثم أخذ بيد سلمان وصعد خارج الخندق .
  فقال له سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط ! فالتفت رسول الله إلى القوم وقال : هل رأيتم ما يقول سلمان ؟ فقالوا : نعم يا رسول الله ، بأبينا أنت وأمنا ، لقد رأيناك تضرب ، فيخرج البرق كالموج ، فرأيناك تكبر فكبرنا ، ولم نرَ غير ذلك .
  قال : صدقتم ، لقد أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثانية ، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها ، وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها ، فاستبشر المسلمون بذلك .
  وأما المنافقون فحينما سمعوا ذلك قالوا : ألا تعجبون من محمد يحدثكم ويمنيكم ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة وصنعاء ومدائن كسرى وأنتم تحفرون خندقاً ليحول بينكم وبين أعدائكم ، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب لقضاء حاجته ! فنزلت الآية : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا )
  والذي زاد الطين بلة ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد عقد عهداً بينه وبين يهود بني قريظة وكان زعيمهم كعب بن أسد القرظي ، فدس إليه أبو سفيان حي بن أخطب لينقض العهد مع النبي ، وبعد حوار مثير وجدل بينهما نقض كعب العهد ـ فاشتد خوف المسلمين حيث أصبحوا وهم يواجهون عدوين داخلي ـ في نفس المدينة ـ وخارجي ، وهم الغزاة .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 85 _

  وتوزع المشركون في ثلاث كتائب ، كتيبة أقبلت من فوق الوادي وقائدها ابن الأعور السلمي ، وكتيبة من الجنب وقائدها عيينة بن حصن ، ووقف أبو سفيان ومن معه في كتيبة ازاء الناحية الثانية للخندق ، وقد وصف الله سبحانه هذا المشهد وموقف المسلمين بقوله تعالى :
  ( وإذ جَاؤوكم مِنْ فوقِكم ومن أسفَلَ مِنكم وإذ زَاغَتِ الأبصارُ وبَلَغتِ القلوبُ الحناجرَ وتظنونَ بالله الظنونَ هنالِكَ ابتُلي المؤمنون وزُلزِلوا زِلزَالاً شديداً وإذ يقولُ المنافِقون والذين في قُلوبهم مِرضٌ ما وعَدَنا الله ورسولُهُ إلا غُرورَاً ) .
  وطال الحصار على المسلمين واستمر الخوف بهم ، وكان في الخندق ثغرة ضيقة مكنت ستة نفر من المشركين من عبوره وفيهم عمرو بن ود العامري وضرار بن الخطاب ونوفل بن عبد الله ، وحاول بقية فرسان قريش عبورها إلا أن علياً عليه السلام ، وبعض المسلمين رابطوا فيها وصدوهم عن ذلك .
  وأقبل عمرو بن ود العامري يجول بفرسه داعياً الناس إلى المبارزة ، ولكن المسلمين تحاموه لما يعرفونه من شجاعته وشدة بأسه ، بل صاروا يرتعدون من الخوف ، إلا علي عليه السلام فانه لما سمعه يدعو إلى البراز ترك مكانه وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : أنا له يا رسول الله فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اجلس انه عمرو بن ود ! وكرر عمرو النداء ، فلم يتحرك له أحد من المسلمين غير علي ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأمره بالجلوس ، ليرى مقدار التضحية والبذل من المسلمين لا رغبةً بعلي عن المخاطر .
   ولما رأى عمرو أن أحداً لا يجيبه ، جعل يتحداهم ويقول : أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها ، أفلا يبرز إلي أحد ، ثم أنشد :
ولقد بُححتُ من iiالنداءِ        بجَمعِكم هل من مبارز

سَـلمـان سـابق فـارس _ 86 _

إنـي  كـذلك لـم أزَل        مـتسرِّعاً نحو iiالهَزاهزْ
إنَّ  الـشجاعةَ في الفتى        والجودَ مِنْ خير الغَرائزْ
  هذا والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصوب نظره نحو المسلمين يميناً وشمالاً ويدعوهم إلى مبارزته ، فلم يستجب له أحد ، فقام علي عليه السلام إلى النبي وقال : أنا له يا رسول الله ، والنبي يقول له : اجلس انه عمرو .
  فقال علي : وإن كان ، فأذن له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وألبسه درعه ، وعممه بعمامته وقال : ( اللهم انك قد أخذت مني عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وهذا علي أخي وابن عمي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين » ثم قال : « برز الإيمان كله إلى الشرك كله )
  فبرز إليه علي وهو يقول :
لا  تـعجلنَّ فـقد أتـاك        مجيبُ صوتِكَ غير عاجزْ
ذو  نـيّـةٍ iiوبـصـيرةٍ        والصدقُ  منجي كلَّ iiفائزْ
انـي لأرجـو أن iiأقـيمَ        عـليك  نـائحةَ iiالجَنائز
مـن ضربةٍ نجلاءَ iiيبقى        صِـيتُها  بـعدَ iiالهزاهز
  ولما تقابلا قال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال : يا بن أخي ، ليبرز إلي غيرك من أعمامك من هو أشد منك ، فاني أكره أن أقتلك لأن أباك كان صديقاً ونديماً لي في الجاهلية .
  فقال علي ( عليه السلام ) : إن قريشاً تتحدث عنك أنك تقول : لا يدعوني أحد إلى ثلاث خلال إلا أجبت ، ولو إلى واحدة منها .
  قال : أجل ، فقال علي : فاني أدعوك إلى الإسلام .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 87 _

  قال : دع عنك هذه ، قال : فاني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة ، قال : إذن تتحدث عني نساء مكة أن غلاماً مثلك خدعني ! قال علي : فاني أدعوك إلى البراز .
  قال : اني لا أحب أن أقتلك ... فقال له علي ( عليه السلام ) : ولكني أحب أن أقتلك ، وحين سمع عمرو هذه المقالة ، هاج به الغضب وأخذه الحماس ، فاقتحم عن فرسه وعقره ، ثم أقبل على علي ( عليه السلام ) ، فتنازلا وتجاولا ، فضربه عمرو بسيفه ، فاتقاه علي بدرقته ، فاثبت فيها السيف وأصاب رأسه ، فضربه علي على حبل عاتقه ، فسقط يخور بدمه .
  عن جابر عبد الله الأنصاري أنه قال : ( كنت قد تبعت علياً لأنظر ما يكون من أمره ، ولما ضربه علي ثارت غبرة شديدة حالت بيني وبينهما ، غير أني سمعت تكبيراً فكبر المسلمون عند ذلك ، فعلمنا أن علياً قد قتله ، وانجلت الغبرة عنهما فإذا علي على صدره يحز رأسه ) وفر أصحابه ليعبروا الخندق فطفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فإنه قصر به فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة ، فقال يا معشر المسلمين قتلة أكرم من هذه ، فنزل إليه علي فقتله .
  وروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال في قتل علي ( عليه السلام ) لعمرو : ( لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل أعمال أمتي إلى يوم القيامة ) وفي هذه الغزوة كان حسان بن ثابت الشاعر قابعاً مع النساء والأطفال في حصن بعيداً عن ساحة القتال ، وكانت صفية بنت عبد المطلب هناك ، تقول صفية : فمر بنا رجل من اليهود وجعل يطوف بالحصن وقريظة قد قطعت ما بينها وبين رسول الله من العهد وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله

سَـلمـان سـابق فـارس _ 88 _

  والمسلمون في مقابل عدوهم ، وخافت صفيّة أن يكون ذلك الرجل عيناً لقومه بني قريظة يدلهم على ما يوصلهم إلى حصن النساء فقالت لحسان : يا حسان ، إن هذا اليهودي كما ترى يطوف حول حصوننا واني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من رواءنا ، ورسول الله في شغل عنا بمن أحاط به من المشركين ، فإنزل إليه واقتله .
  فقال حسان : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله إنك لتعلمين أني لستُ بصاحب هذا الأمر ، قالت صفية : فلما سمعت منه ذلك ويئست من خيره ، شددت وسطي بثوب كان عليَّ وأخذت عموداً ونزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن ، وقلت له : يا حسان ، إنزل إليه فاسلُبهُ ، فإنه لا يمنعني من سلبه إلا أنه رجل .
  فقال : ما لي بسلبهِ من حاجة يا بنت عبد المطلب ! واستمر الحصار مضروبا حول المدينة ، واستمر المؤمنون في ثباتهم وعزمهم مسلِّمين أمرهم إلى الله وإلى رسوله يحدوهم الأمل بالنصر كما وعدهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنزل الله فيهم قوله : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعَدَنا الله ورسُولُه وصدق الله ورسُولُه وما زادَهم إلا إيماناً وتسليما ) .
  وبينما النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يُفكّر في حلّ لتلك الأزمة وإذا بنعيم بن عامر بن مسعود ينسلُّ من بين الغزاة متوجهاً صوب النبي ليعلمه أنه آمن به وبرسالته دون أن يعرف به قومه ، قائلاً للنبي : مرني بما شئت ، وكان نعيم هذا مسموع الكلمة في قومه ، وعلم النبي ذلك ، فرأى أن أفضل عمل يقوم به هو بث روح التفرقة في جيش المشركين وبذلك يضمن تمزيقه ، فقال له :
  ( إنما أنت رجلٌ واحد ، فخذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعةٌ ) فخرج نعيم حتى انتهى إلى بني قريظة وكان لهم نديماً من قبل ، فقال لهم : يا

سَـلمـان سـابق فـارس _ 89 _

  بني قريظة ، لقد عرفتم ودي لكم وصلتي بكم ، فقالوا : قل ما تريد ، فلست عندنا بمُتّهَم ، فقال لهم : إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم وفيه أموالكم وأولادكم ونساؤكم ومن الصعب عليكم أن تتحولوا لغيره ، أما قريش وغطفان فقد جاؤا لحرب محمّدٍ وتركوا نسائهم وأموالهم وأولادهم في بلدهم آمنين ، فان قُدِّرَ لهم أن يصيبوا محمداً وأصحابه فذاك ما يريدون ، وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم وخلُّوا بينكم وبينه ، ولا طاقة لكم به إن خلاَ بكم ، وأرى لكم أن لا تقاتلوا مع القوم إلا أن تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونوا بأيديكم ، وعندها يضطرون أن لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم .
  واقتنعت قريظة بهذا الرأي وقالوا : أشرت بالصواب ، وأتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه : قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمداً ، وقد بلغني أمر رأيتُ عليَّ حقاً أن أُبلغكموه فاكتموه عليّ ، فقالوا : لك ذلك .
  قال : بلغني أن معشر يهود قد ندِموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه بذلك وعرضوا عليه أن يأخذوا رجالاً منكم ومن غطفان ويسلّموه إياهم ليضرب أعناقهم ثم ينحازوا معه حتى يستأصلوكم ، فأجابهم هو لذلك ، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تسلموا لهم أحداً .
  وخرج إلى غطفان وقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحبُّ الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني في شيء ، فقالوا : أنت لست بمتهم عندنا . ثم قال لهم ما قاله لقريش وحذَّرهم من اليهود وغدرهم بهم .
  واستطاع أن يعبىء نفوس قريش وغطفان بالشك والريب في يهود بني قريظة ، وبذلك مزَّق وحدتهم ، وارسلت قريش وغطفان عكرمة بن أبي جهل ومعه جماعة إلى بني قريظة

سَـلمـان سـابق فـارس _ 90 _

  قائلين لهم : إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخُفُّ والحافر فإستعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغَ مما بيننا وبينه ، وصادف ذلك يوم السبت ، فأرسلوا إليهم : أن اليوم يوم سبتٍ ونحن لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ، ولسنا ـ مع ذلك ـ نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً يكون بأيدينا لنطمأن بأنكم ستقاتلونه إلى النهاية ، فأنا نخشى إن ضرّستكُم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه وهو في بلدنا ولا طاقة لنا به وحدنا .
  فرجع عكرمة ومن معه إلى قريش وغطفان وأخبروهما بمقالة القوم ، فقالوا عند ذلك : صَدَق نعيمٌ بما حدثنا به .
  فأرسلوا إليهم : أنا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا لنقاتله غداً ، وأصرَّ كل من الطرفين على موقفه ، ورفض اليهود أن يتعاونوا معهم إلا إذا دفعوا لهم الرهائن .
  ولم يغير ذلك في موقف أبي سفيان من محاربة النبي ، فصمم هو ومن معه أن يناجزوا محمداً في صبيحة يومهم التالي ، وهنا تدخلت العناية الإلهية لإنقاذ الموقف ، ففي تلك الليلة عصفت ريحٌ شديدة هوجاء مصحوبة بأمطار وصواعق لا عهد لأحدٍ منهم بها ظلت تشتد حتى اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم ، ودَاخَلَهُم من الرعب والخوف ما لم يعهدوه في تأريخهم الطويل ، وخُيّل اليهم أن المسلمين سينتهزون هذه الفرصة للوثبة عليهم والتنكيل بهم .
  فقام طلحة بن خويلد ونادى : إن محمداً قد بدأكم بالشر فالنجاة النجاة ... وقال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما اجتمعتم بدار مقام لقد هلك

سَـلمـان سـابق فـارس _ 91 _

  الكُراعُ والخفُّ ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره ، وقد لقينا من شدة الريح ما ترون ، فإرتحلوا ، فاني راحلٌ الساعة ، وهكذا أسرع القوم بالرحيل تاركين وراءهم اشلاء خيامهم الممزقة ، وبقايا من أحمالهم وأمتعتهم ، وهم يتعثرون بأعتاب الرُعب والفشل .
  وما ذلك ، إلا بفضل دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتأييد الله له ، وبضربة علي ( عليه السلام ) لعمرو ، وبإشارة سلمان بحفر الخندق ، وتخذيل نعيم للمشركين ، ( يا أيها الذينَ آمنوا إذكُروا نعمةَ الله عليكم إذ جَاءَتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيراً ... )

وفـي حصـار الطـائف... (1)
  بعد أن فرغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فتح مكة واستقامت له الأمور فيها ، قام بإرسال السرايا نحو القبائل المجاورة لمكة لتطهير المنطقة من عبادة الأوثان ونشر راية التوحيد ، وكانت الظروف مهيأةً له بالنسبة لذلك .
  وفي ذات يوم بلغه أن ( هوازن ) وأحلافها من ( ثقيف ) و ( وجشم ) و ( نصر ) قد ساءهم إنتصاره بمكة وقدّرُوا أن الدائرة ستدور عليهم ، وأن المسلمين سيقتحمون عليهم بلادهم ، فاجتمعوا فيما بينهم وقرروا القيام بمبادرة عسكرية لصد الهجوم المرتقب من النبي وأصحابه ، فبلغ عددهم مجتمعين نحو ثلاثين ألف مقاتل أو أكثر ، ونزلوا بسهل ( أوطاس ) المعروف ( بحنين ) بقيادة مالك بن عوف .
  وتجهز النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لملاقاتهم ومعه نحو عشرة آلاف مقاتل ، وبدأت الحرب بين الفريقين ونظراً لتفوّق المشركين عددياً ، ووجود بعض المنافقين والمتخاذلين ومن أسلموا رهبةً في صفوف المسلمين ، فقد رجحت كفّةُ المشركين عسكرياً وحلّت الهزيمة في صفوف المسلمين ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه إلى المعركة بنفسه وثبات بعض أصحابه معه وتذكير المسلمين ببيعتهم للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحت الشجرة وحثهم على

---------------------------
(1) راجع التكامل 2 / 266 ـ 267 وسيرة المصطفى 621 بتصرف .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 94 _

  مواصلة الكفاح لولا هذا لكانت هزيمتهم محتمةً والفشل حليفهم ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ، فقد انتهت المعركة بنصر المسلمين ، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة : ( ويومَ حُنَينٍ إذ أَعجبتكم كثرَتُكُم فلم تُغنِ عَنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرضُ بما رَحُبَت ثم وَلَّيتم مدبرين ثم أنزلَ اللهُ سكينتَهُ على رسُولِهِ وعلى المؤمنينَ وأنزَلَ جنوداً لم تروها ) .
  وقد ظفر المسلمون في هذه الحرب بغنائم كثيرة بلغت إثنين وعشرين ألفاً من الإبل وأربعين ألفاً من الشياه ، وأربعة آلاف أوقية من الفضة ، وكان عدد الأسرى ستة آلاف أسير ، أما قائد المشركين مالك بن عوف فقد فَرّ في عدد من ثقيف إلى الطائف ، وكانت الطائف مدينةً محصنةً لها أبواب ، وكان أهلها ذَوو خبرةٍ في الحرب وثروات طائلة مكّنتهم أن يجعلوا حصونهم من أمنع الحصون ، فجمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الغنائم والأسرى وجعل على حراستها بُديل بن ورقاء وجماعة من المسلمين ، وأمر مناديه بالرواح إلى الطائف لمحاصرتها طمعاً في أن يسلم أهلها ، فسار المسلمون نحوها ونزلوا في مكانٍ قريب منها ، ولما أشرف عليهم أهل الطائف هالتهم كثرتهم ، فأمطروهم بوابل من النبل وأصابوا عدداً من المسلمين مما حدا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يأمرهم بالانتقال إلى مكان آخر .
  أقام المسلمون في ذلك المكان أياماً ينتظرون مواجهة ثقيف لهم ، لكن ثقيف لم تكن بحالةٍ من الاستعداد تمكنهم من المواجهة بعد هزيمتهم في حنين ، فأثرت الانتظار على المواجهة والمكوث داخل الحصن ، سيّما وأن الحصن منيعٌ والمؤن متوفرة ، وليس لدى المسلمين السلاح الذي يمكنهم من إقتحام الحصن .
  وطال الانتظار بالمسلمين . وهنا أشار سلمان الفارسي ( رضي ) باستعمال المنجنيق قائلاً : يا رسول الله ، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فانا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون وتُنصبُ علينا ، فنصيب من

سَـلمـان سـابق فـارس _ 95 _

  عدونا ويصيب منا بالمنجنيق ، وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء (1) ، فأمره رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعمل منجنيقاً بيده ، فنصبه على حصن الطائف (2) وقذفوا به الصخور إلى ما وراء الحصن فلم تعمل فيه ، ثم استعملوا نوعاً آخر من الأسلحة كان لبعض القبائل المقيمة بأسفل مكة علم بها وهو الدبابة وهي آلة من جلود البقر يدخلون في جوفها تقيهم النبال والسيوف ، ثم يندفعون بها إلى الحصون ، ومنها ينفذون إلى ما وراءها ، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بمكان ، حيث أرسلوا عليهم سِكَكَ الحديد المحماة .
  فلاذوا بالفرار ... ولم يطل انتظار المسلمين كثيراً فقد أشار النبي عليهم بقطع كرومهم وأشجارهم ، وحين ناشدوه الله والرحم كفَّ عن ذلك ، ثم أمر مناديه أن ينادي : أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرٌّ ، فنزل إليه نفرٌ منهم ، منم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة فأخبر النبي أنهم يملكون من المؤن والذخائر ما يكفيهم زمناً طويلاً ، فاستدعى رسول الله نوفل بن معاوية الدؤلي واستشاره في أمرهم ، فقال نوفل : يا رسول الله ، إن ثقيفاً كثعلب في جحر ، فإن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرَّك .
  وكان قد مضى على النبي نحواً من خمسة عشر يوماً أو تزيد وقد أصبحوا على أبواب شهر ( ذي القعدة ) وهو من الأشهر الحُرُم وقد حرَّمَ الإسلام فيه القتال ، فآثر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يرجع عنهم ليعود إليهم بعد إنقضاء الأشهر الحرم فيما لو أصرّوا على موقفهم المعادي للإسلام ، لكنهم عادوا إلى صوابهم وأرسلوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفداً يعرضون عليه إسلامهم ثم أسلموا .
  قال أبو عمر : وقد روي أن سلمان شهد بدراً وأحُداً وهو عبدٌ يومئذٍ ، والأكثر أن أول مشاهده الخندق ، ولم يفته بعد ذلك مشهد .

---------------------------
(1) المغازي للواقدي / 927 والثواء : الإقامة .
(2) شرح النهج 18 / 35 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 97 _

على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم
  ونستعرض هنا ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن هذا الصحابي الجليل من كلمات مضيئة هي بمثابة أوسمةٍ منحها إياه النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم باستحقاق وجدارة ، ونقتصر هنا على ذكر الرواية بذلك ، دون ذكر السند .
  قال صلى الله عليه وآله وسلم :
  ( سلمان منا أهل البيت ) (1)   ( لو كان الدين في الثريا ، لناله سلمان ! ) (2)   ( أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان . )   ( سلمان يبعث أمةً ، لقد أشبع من العلم ) (3)
  عن عائذ بن عمرو :
  أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها .

---------------------------
(1) حديث متواتر .
(2) الاستيعاب ( على الإصابة ) 2/ 59 .
(3) انساب الأشراف / 488 وغيره .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 98 _

  قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك .
  فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم ، قالوا : لا ، يغفر الله لك يا أخي . (1)
  عن أبي هريرة أنه قال : ( لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه الآية : وإن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ، قلنا ، قلنا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين إن تولينا إستبدلوا بنا ؟ وسلمان الفارسي إلى جنبه .
  فضرب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيده على ركبته فقال : هذا وقومه ، مرتين أو ثلاثاً ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان يناط بالثريا ، لتناوله رجال من الفرس ، أو قال : من هؤلاء . (2)

---------------------------
(1) صحيح مسلم / 4 / 1947 رقم الحديث 2504 .
(2) مفتاح الجنات 1 / 8 ـ 9 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 99 _

بين النبي وسلمان
  قالت عائشة : ( كان لسلمان مجلس من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينفرد به الليل ، حتى كاد يغلبنا على رسول الله ) (1) وعن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام قال : عاد رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) سلمان الفارسي فقال : يا سلمان ؟ لك في علتك ثلاث خصال ، أنت من الله عز وجل بذكر ، ودعاؤك فيه مستجاب ، ولا تدع العلّةُ عليك ذنباً إلا حطته ، متعك الله بالعافية إلى منتهى أجلك . (2)

---------------------------
(1) الاستيعاب ( حاشية على الإصابة 2 / 259 ) .
(2) الدرجات الرفيعة 209 ـ 210 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 101 _

بين سلمان وأبي الدرداء   حين هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة واستقرت به الدار هناك ، آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، ولا يخفى ما لهذه المؤاخاة من مغزىً دقيق ، فالمهاجرون ضيوف على الأنصار ولا رابط قبليَّ بينهم يؤكد تلاحمهم ـ حسب المنطق السائد آنذاك ـ بل كانت الخصومات والحروب بين الأنصار ـ من الأوس والخزرج ـ مستمرة قبل الإسلام سرعان ما تستشري بينهم لأتفه الأمور ، فكانت المؤاخاة في الله عاملاً فعَّالاً في شد الروابط بين المسلمين جميعاً وتوحيد صفوفهم ، ومدعاةً لنسيان الضغائن والأحقاد فيما بينهم .
  آخى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين أبي بكر وخارجة ( من الخزرج ) ، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ ... وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عُويمر بن ثعلبة . (1)
  وكان كلٌ من سلمان وأبو الدرداء مثالاً عالياً للأخوّةِ في الله ، يُكِنُّ كل منهما للآخر آسمى معاني التعظيم والإجلال ، لكن يبدو أن لسلمان في نفس أبي الدرداء مكانة كبرى ، حيث كان أبو الدرداء يأخذ بنصائحه وتوجيهاته ، ويطيعه فيما يقول ، فقد روي : « أن سلمان بات عنده ليلة ، فلما كان الليل قام أبو الدرداء ـ للعبادة ـ فحبسه سلمان وقال : إنّ لربك عليك حقا ، وإنَّ لأهلِكَ

---------------------------
(1) راجع سيرة ابن هشام 2 / 108 .