قائلين لهم : إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخُفُّ والحافر فإستعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغَ مما بيننا وبينه ، وصادف ذلك يوم السبت ، فأرسلوا إليهم : أن اليوم يوم سبتٍ ونحن لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ، ولسنا ـ مع ذلك ـ نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً يكون بأيدينا لنطمأن بأنكم ستقاتلونه إلى النهاية ، فأنا نخشى إن ضرّستكُم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه وهو في بلدنا ولا طاقة لنا به وحدنا .
فرجع عكرمة ومن معه إلى قريش وغطفان وأخبروهما بمقالة القوم ، فقالوا عند ذلك : صَدَق نعيمٌ بما حدثنا به .
فأرسلوا إليهم : أنا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا لنقاتله غداً ، وأصرَّ كل من الطرفين على موقفه ، ورفض اليهود أن يتعاونوا معهم إلا إذا دفعوا لهم الرهائن .
ولم يغير ذلك في موقف أبي سفيان من محاربة النبي ، فصمم هو ومن معه أن يناجزوا محمداً في صبيحة يومهم التالي ، وهنا تدخلت العناية الإلهية لإنقاذ الموقف ، ففي تلك الليلة عصفت ريحٌ شديدة هوجاء مصحوبة بأمطار وصواعق لا عهد لأحدٍ منهم بها ظلت تشتد حتى اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم ، ودَاخَلَهُم من الرعب والخوف ما لم يعهدوه في تأريخهم الطويل ، وخُيّل اليهم أن المسلمين سينتهزون هذه الفرصة للوثبة عليهم والتنكيل بهم .
فقام طلحة بن خويلد ونادى : إن محمداً قد بدأكم بالشر فالنجاة النجاة ... وقال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما اجتمعتم بدار مقام لقد هلك
الكُراعُ والخفُّ ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره ، وقد لقينا من شدة الريح ما ترون ، فإرتحلوا ، فاني راحلٌ الساعة ، وهكذا أسرع القوم بالرحيل تاركين وراءهم اشلاء خيامهم الممزقة ، وبقايا من أحمالهم وأمتعتهم ، وهم يتعثرون بأعتاب الرُعب والفشل .
وما ذلك ، إلا بفضل دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتأييد الله له ، وبضربة علي ( عليه السلام ) لعمرو ، وبإشارة سلمان بحفر الخندق ، وتخذيل نعيم للمشركين ، ( يا أيها الذينَ آمنوا إذكُروا نعمةَ الله عليكم إذ جَاءَتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيراً ... )
وفـي حصـار الطـائف... (1)
بعد أن فرغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فتح مكة واستقامت له الأمور فيها ، قام بإرسال السرايا نحو القبائل المجاورة لمكة لتطهير المنطقة من عبادة الأوثان ونشر راية التوحيد ، وكانت الظروف مهيأةً له بالنسبة لذلك .
وفي ذات يوم بلغه أن ( هوازن ) وأحلافها من ( ثقيف ) و ( وجشم ) و ( نصر ) قد ساءهم إنتصاره بمكة وقدّرُوا أن الدائرة ستدور عليهم ، وأن المسلمين سيقتحمون عليهم بلادهم ، فاجتمعوا فيما بينهم وقرروا القيام بمبادرة عسكرية لصد الهجوم المرتقب من النبي وأصحابه ، فبلغ عددهم مجتمعين نحو ثلاثين ألف مقاتل أو أكثر ، ونزلوا بسهل ( أوطاس ) المعروف ( بحنين ) بقيادة مالك بن عوف .
وتجهز النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لملاقاتهم ومعه نحو عشرة آلاف مقاتل ، وبدأت الحرب بين الفريقين ونظراً لتفوّق المشركين عددياً ، ووجود بعض المنافقين والمتخاذلين ومن أسلموا رهبةً في صفوف المسلمين ، فقد رجحت كفّةُ المشركين عسكرياً وحلّت الهزيمة في صفوف المسلمين ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه إلى المعركة بنفسه وثبات بعض أصحابه معه وتذكير المسلمين ببيعتهم للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحت الشجرة وحثهم على
---------------------------
(1) راجع التكامل 2 / 266 ـ 267 وسيرة المصطفى 621 بتصرف .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 94 _
مواصلة الكفاح لولا هذا لكانت هزيمتهم محتمةً والفشل حليفهم ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ، فقد انتهت المعركة بنصر المسلمين ، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة : ( ويومَ حُنَينٍ إذ أَعجبتكم كثرَتُكُم فلم تُغنِ عَنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرضُ بما رَحُبَت ثم وَلَّيتم مدبرين ثم أنزلَ اللهُ سكينتَهُ على رسُولِهِ وعلى المؤمنينَ وأنزَلَ جنوداً لم تروها ) .
وقد ظفر المسلمون في هذه الحرب بغنائم كثيرة بلغت إثنين وعشرين ألفاً من الإبل وأربعين ألفاً من الشياه ، وأربعة آلاف أوقية من الفضة ، وكان عدد الأسرى ستة آلاف أسير ، أما قائد المشركين مالك بن عوف فقد فَرّ في عدد من ثقيف إلى الطائف ، وكانت الطائف مدينةً محصنةً لها أبواب ، وكان أهلها ذَوو خبرةٍ في الحرب وثروات طائلة مكّنتهم أن يجعلوا حصونهم من أمنع الحصون ، فجمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الغنائم والأسرى وجعل على حراستها بُديل بن ورقاء وجماعة من المسلمين ، وأمر مناديه بالرواح إلى الطائف لمحاصرتها طمعاً في أن يسلم أهلها ، فسار المسلمون نحوها ونزلوا في مكانٍ قريب منها ، ولما أشرف عليهم أهل الطائف هالتهم كثرتهم ، فأمطروهم بوابل من النبل وأصابوا عدداً من المسلمين مما حدا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يأمرهم بالانتقال إلى مكان آخر .
أقام المسلمون في ذلك المكان أياماً ينتظرون مواجهة ثقيف لهم ، لكن ثقيف لم تكن بحالةٍ من الاستعداد تمكنهم من المواجهة بعد هزيمتهم في حنين ، فأثرت الانتظار على المواجهة والمكوث داخل الحصن ، سيّما وأن الحصن منيعٌ والمؤن متوفرة ، وليس لدى المسلمين السلاح الذي يمكنهم من إقتحام الحصن .
وطال الانتظار بالمسلمين . وهنا أشار سلمان الفارسي ( رضي ) باستعمال المنجنيق قائلاً : يا رسول الله ، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فانا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون وتُنصبُ علينا ، فنصيب من
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 95 _
عدونا ويصيب منا بالمنجنيق ، وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء
(1) ، فأمره رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعمل منجنيقاً بيده ، فنصبه على حصن الطائف
(2) وقذفوا به الصخور إلى ما وراء الحصن فلم تعمل فيه ، ثم استعملوا نوعاً آخر من الأسلحة كان لبعض القبائل المقيمة بأسفل مكة علم بها وهو الدبابة وهي آلة من جلود البقر يدخلون في جوفها تقيهم النبال والسيوف ، ثم يندفعون بها إلى الحصون ، ومنها ينفذون إلى ما وراءها ، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بمكان ، حيث أرسلوا عليهم سِكَكَ الحديد المحماة .
فلاذوا بالفرار ... ولم يطل انتظار المسلمين كثيراً فقد أشار النبي عليهم بقطع كرومهم وأشجارهم ، وحين ناشدوه الله والرحم كفَّ عن ذلك ، ثم أمر مناديه أن ينادي : أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرٌّ ، فنزل إليه نفرٌ منهم ، منم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة فأخبر النبي أنهم يملكون من المؤن والذخائر ما يكفيهم زمناً طويلاً ، فاستدعى رسول الله نوفل بن معاوية الدؤلي واستشاره في أمرهم ، فقال نوفل : يا رسول الله ، إن ثقيفاً كثعلب في جحر ، فإن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرَّك .
وكان قد مضى على النبي نحواً من خمسة عشر يوماً أو تزيد وقد أصبحوا على أبواب شهر ( ذي القعدة ) وهو من الأشهر الحُرُم وقد حرَّمَ الإسلام فيه القتال ، فآثر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يرجع عنهم ليعود إليهم بعد إنقضاء الأشهر الحرم فيما لو أصرّوا على موقفهم المعادي للإسلام ، لكنهم عادوا إلى صوابهم وأرسلوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفداً يعرضون عليه إسلامهم ثم أسلموا .
قال أبو عمر : وقد روي أن سلمان شهد بدراً وأحُداً وهو عبدٌ يومئذٍ ، والأكثر أن أول مشاهده الخندق ، ولم يفته بعد ذلك مشهد .
---------------------------
(1) المغازي للواقدي / 927 والثواء : الإقامة .
(2) شرح النهج 18 / 35 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 97 _
على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم
ونستعرض هنا ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن هذا الصحابي الجليل من كلمات مضيئة هي بمثابة أوسمةٍ منحها إياه النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم باستحقاق وجدارة ، ونقتصر هنا على ذكر الرواية بذلك ، دون ذكر السند .
قال صلى الله عليه وآله وسلم :
( سلمان منا أهل البيت )
(1)
( لو كان الدين في الثريا ، لناله سلمان ! )
(2)
( أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان . )
( سلمان يبعث أمةً ، لقد أشبع من العلم )
(3)
عن عائذ بن عمرو :
أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها .
---------------------------
(1) حديث متواتر .
(2) الاستيعاب ( على الإصابة ) 2/ 59 .
(3) انساب الأشراف / 488 وغيره .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 98 _
قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك .
فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم ، قالوا : لا ، يغفر الله لك يا أخي .
(1)
عن أبي هريرة أنه قال : ( لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه الآية : وإن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ، قلنا ، قلنا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين إن تولينا إستبدلوا بنا ؟ وسلمان الفارسي إلى جنبه .
فضرب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيده على ركبته فقال : هذا وقومه ، مرتين أو ثلاثاً ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان يناط بالثريا ، لتناوله رجال من الفرس ، أو قال : من هؤلاء .
(2)
---------------------------
(1) صحيح مسلم / 4 / 1947 رقم الحديث 2504 .
(2) مفتاح الجنات 1 / 8 ـ 9 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 99 _
بين النبي وسلمان
قالت عائشة : ( كان لسلمان مجلس من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينفرد به الليل ، حتى كاد يغلبنا على رسول الله )
(1) وعن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام قال : عاد رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) سلمان الفارسي فقال : يا سلمان ؟ لك في علتك ثلاث خصال ، أنت من الله عز وجل بذكر ، ودعاؤك فيه مستجاب ، ولا تدع العلّةُ عليك ذنباً إلا حطته ، متعك الله بالعافية إلى منتهى أجلك .
(2)
---------------------------
(1) الاستيعاب ( حاشية على الإصابة 2 / 259 ) .
(2) الدرجات الرفيعة 209 ـ 210 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 101 _
بين سلمان وأبي الدرداء
حين هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة واستقرت به الدار هناك ، آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، ولا يخفى ما لهذه المؤاخاة من مغزىً دقيق ، فالمهاجرون ضيوف على الأنصار ولا رابط قبليَّ بينهم يؤكد تلاحمهم ـ حسب المنطق السائد آنذاك ـ بل كانت الخصومات والحروب بين الأنصار ـ من الأوس والخزرج ـ مستمرة قبل الإسلام سرعان ما تستشري بينهم لأتفه الأمور ، فكانت المؤاخاة في الله عاملاً فعَّالاً في شد الروابط بين المسلمين جميعاً وتوحيد صفوفهم ، ومدعاةً لنسيان الضغائن والأحقاد فيما بينهم .
آخى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين أبي بكر وخارجة ( من الخزرج ) ، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ ... وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عُويمر بن ثعلبة .
(1)
وكان كلٌ من سلمان وأبو الدرداء مثالاً عالياً للأخوّةِ في الله ، يُكِنُّ كل منهما للآخر آسمى معاني التعظيم والإجلال ، لكن يبدو أن لسلمان في نفس أبي الدرداء مكانة كبرى ، حيث كان أبو الدرداء يأخذ بنصائحه وتوجيهاته ، ويطيعه فيما يقول ، فقد روي : « أن سلمان بات عنده ليلة ، فلما كان الليل قام أبو الدرداء ـ للعبادة ـ فحبسه سلمان وقال : إنّ لربك عليك حقا ، وإنَّ لأهلِكَ
---------------------------
(1) راجع سيرة ابن هشام 2 / 108 .