( كنت ابن دهقان * قرية جي من أصبهان ، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار ... )
الذي يبدو من هذا النص أن سلمان اعتنق المجوسية في بادئ أمره عندما كان يعيش في ظل أبويه شأن أي إنسان يعتنق دين آبائه وأجداده حين لا يجد مندوحةً عن ذلك وحين يفتقد المرشد والموجّه ويعيش بعيداً عن آفاق المعرفة ، ومع هذا فان ذلك لا يمكن جعله خدشةً في نقاء الذات التي كان يحملها سلمان ولا وصمةً في طهرها ، سيما بعد أن يتضح لنا أن إرتباطه بالمجوسية كان شكلياً صورياً غير مستند إلى شيءٍ من قناعاته كما سيأتي .
وقبل البحث في هذه الناحية لا بد لنا من المرور في تأريخ ( المجوسية ) بشكل عابر وسريع نظراً لارتباط سلمان بها تأريخياً ، ومن ثم إيقاف القارىء على حقيقتها ، إذ أن للمجوسية في أذهاننا صورة لم تشأ الذاكرة أن تحتفظ منها بأكثر من ( بيوت النيران ) وتقديس المجوس أو عبادتهم لها حيث لم
يوفروا لأنفسهم من هذا الدين سوى طابع الوثنية وتأطيرهم أنفسهم به عبر العصور ، إذن طبيعة البحث تتطلب منا معرفة : ما هي المجوسية ؟
المعروف عن المجوس أنهم المؤمنون بزرادشت ، وكتابهم المقدس ( أوستا ) غير أن تاريخ حياته وزمان ظهوره مبهم جداً كالمنقطع خبره ، وقد افتقدوا الكتاب باستيلاء الإسكندر على إيران ، ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان ، فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم .
والمسلّم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين ، مبدأ الخير ومبدأ الشر ( يزدان وأهريمن ) أو ( النور والظلمة ) ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناماً كما يفعل الوثنيون ، وهم يقدسون البسائط العنصرية وخاصةً النار ، وكانت لهم بيوت نيران بإيران ، والصين ، والهند ، وغيرها ، وينهون الجميع إلى ( أهورا مزدا ) موجد الكل . )
(1)
هل هم أصحاب كتاب ؟
والجواب عن هذا السؤال تتكفل به الكتب الفقهية لما يحمل من أهمية تتصل ببعض الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك نفياً أو إثباتاً .
فالمقصود بأهل الكتاب ، هم الأمة أو الفئة الخارجة عن الشريعة الإسلامية ، لكنها تعتنق شريعةً معينة تسندها إلى الخالق سبحانه بواسطة النبي المرسل إليها ، وهؤلاء منهم من له كتاب محقق كاليهود والنصارى فان التوراة والإنجيل كتابان سماويان بلا شبهة ، ومنهم من له شبهة كتاب ، كالمجوس .
ولا يبعد أن المراد بالكتب الكتب المنزلة على أولياء العزم وهم : نوح ، وأبراهيم ، وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، والذي بقي منها إنما هو التوراة والإنجيل لا غير ، فاختص اتباعهما باسم ( أهل الكتاب ) في القرآن الكريم ، ولم يثبت أن الإنجيل لم تكن له نسخة في زمن نزول القرآن غير هذه
---------------------------
1 _ لاحظ الميزان في تفسير القرآن 14 / 358 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 13 _
النسخ الأربع التي هي ليست منه في خلٍ ولا خمر ، لأنها وضعت من جماعة بعد صعود المسيح عليه السلام بمدد طويلة .
فإنجيل ( مرقس ) كتب بعد سبعين عاماً من صعود المسيح إلى السماء ، وأنجيل ( متى ) كتب في أوائل القرن الأول من صعوده ، وانجيل « لوقا » كتب في أوائل القرن الثاني وهكذا انجيل ) يوحنا ) وهي تنقض بعضها بعضاً في نسب المسيح وغيره .
(1)
أما المجوس ، فالذي يظهر من كلام الشهرستاني أن كتابهم هو : صحف ابراهيم عليه السلام ، لكن تلك الصحف قد رفعت لأحداثٍ أحدثوها ...
(2)
والأخبار الواردة في كتب الفقه تؤكد على أنهم من أهل الكتاب ، لكنها لا تشير إلى رفعه عنهم . فمن ذلك :
ما رواه الشافعي باسناده ، أن فروة بن نوفل الأسجعي قال : على ما تؤخذ الجزية من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ؟
فقام إليه المستورد ، فأخذ بتلبيبه فقال : عدو الله ، أتطعن في أبي بكر وعمر وعلي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد أخذوا منهم الجزية ، فذهب به إلى القصر فخرج علي عليه السلام ، فجلسوا في ظل القصر ، فقال : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه ، وكتاب يدرسونه .
(3)
ومنه : ما رواه أحمد بن عبد الله بن يونس عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة : أن علياً عليه السلام قال على المنبر ( سلوني قبل أن تفقدوني ) فقام إليه الأشعث فقال : يا أمير المؤمنين ، كيف تؤخذ الجزية من المجوس ، ولم ينزل عليهم كتاب ، ولم يبعث اليهم نبي ؟ .
---------------------------
(1) طهارة أهل الكتاب ، مخطوط ص 7 .
(2) الملل والنحل 1 / 208 .
(3) طهارة الكتابي ص 13 نقلاً عن سنن البيهقي 9 / 188 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 14 _
فقال : بلى يا أشعث ، قد أنزل الله عليهم كتاباً ، وبعث إليهم نبياً ...
(1)
ومنه : صحيحة أو موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى البحرين فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس ، فكتب إلى النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أني قد أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة درهم ثمانمائة ، وأصبت دماء قوم من المجوس ولم تكن عهدت إلي فيهم عهداً .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن ديتهم مثل دية اليهود والنصارى ، وقال : إنهم أهل الكتاب ،
(2) إلى غير ذلك من النصوص ، واضع شريعة المجوس
الذي يظهر من أقوال المؤرخين أن واضع شريعتهم هو زرادشت الحكيم ، وأنه كان موحداً كما يستفاد ذلك من مجموع ما نقل من آرائه الفلسفية ، قال ابن الأثير :
« وشرح زرادشت كتابه وسماه ( زند ) ومعناه التفسير ، ثم شرح الزند بكتاب سماه ( بازند ) يعني تفسير التفسير وفيه علوم مختلفة كالرياضيات وأحكام النجوم والطب وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء ... الخ )
(3) والذي يقوى عندي ـ بعد ملاحظة النصوص ـ أن زرادشت ليس هو واضع شريعتهم ، بل هو مجدد لها ومبين للكتاب الحقيقي الذي رفع عنهم .
---------------------------
(1) الوسائل 11 ب 49 ج 7 ص 98 وفيه أخبار كثيرة تشير إلى أنه كان لهم نبي فقتلوه وكتاب حرقوه لكنها غير معتبرة .
(2) الوسائل 19 ب 13 ح 7 ص 161 .
(3) الكامل 1 / 258 وللتفصيل راجع الملل والنحل للشهرستاني فانه أسهب في عرض معتقداتهم 1 / 233 وما بعدها .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 15 _
مذاهبهم
ويبدو أن الفرق المجوسية تنوف على أربع عشر فرقة ، منها : ( الثنوية ) ( والمانوية ) و( الزرادشتية ) و ( والكيومثرية ) و ( الزروانية ) و ( المسخية) و ( الديصانية ) ، وغيرها ،
(1)
هل اعتنق سلمان المجوسية... ؟
إلا أنه من المقطوع به عندي أن سلمان لم يعتنق المجوسية حتى في صباه ، بل كان موحداً لله سبحانه ، نعم حكمت عليه بيئته التي عاش فيها أن يرتبط بالمجوسية أرتباطاً شكلياً ، كما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين .
من ذلك ما رواه الصدوق عن ابن نباتة عن علي عليه السلام حديث جاء فيه : ( حضرت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلمان بين يديه فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال : يا أعرابي أتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض ... إلى أن قال : إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مظهراً للشرك مبطناً للإيمان . )
(2)
وفي حديث الإمام الصادق( عليه السلام ) ( إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين . )
(3)
قال الصدوق : إن سلمان ما سجد قط لمطلع الشمس ، إنما كان يسجد لله عز
---------------------------
(1) الملل والنحل 1 / 233 .
(2) لاحظ البحار 22 / 347 وستأتي القصة مفصلةً انشاء الله تعالى .
(3) البحار 22 / 327 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 16 _
وجل ، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقيةً ، وكان أبواه يظننان أنه إنما يسجد للشمس كهيئتهم . )
(1)
أجل ، إن من يتتبع قصة إيمان هذا الرجل يلمس فيها شواهد على ذلك ، لقد خيل لي وأنا أكتب عن هجرته من فارس أن هذه الآية كانت تعج في أعماق نفسه : ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . ) الأنعام ـ 79
---------------------------
(1) سلمان الفارسي / 4 .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 17 _
الـهجـرةُ إلـى الله
( وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) 29 ـ 26
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 19 _
كان إسمه ( روزبة )
(1) وسماه رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) سلمان ، وكان اسم أبيه ( خشفوذان
(2) ، وكان هذا الأخير من دهاقين فارس ـ وقيل من أساورتها
(3) ـ ، له إمرة على بعض الفلاحين من أبناء أصفهان وكان واسع الحال يملك بعض المزارع شأن غيره من الطبقة الوسطى في المجتمع الفارسي آنذاك وكانت لولده سلمان مكانة خاصة في نفسه جعلته يستأثر بالنصيب الأكبر من إهتماماته ، فهو لا يكلفه بأي عمل شاق شأنه في ذلك شأن بقية المترفين في معاملة أبنائهم .
وفي ذات يوم كان خشفوذان مشغولاً ببناءٍ في داره فطلب من ولده أن يذهب إلى مزرعةٍ له ليشرف على سير عمل الفلاحين فيها عن كثب وطلب منه أن لا يتأخر في العودة إليه ، قائلاً له : ( ولا تحتبس ، فتشغلني عن كل ضيعةٍ بهمي بك ... )
يقول سلمان : ( فخرجت لذلك ، فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون ، فملت إليهم وأعجبني أمرهم ، وقلت : والله هذا خير من ديننا ، فأقمت عندهم
---------------------------
(1) على الأشهر ، وقيل ماية .
(2) اسم والد سلمان ، وقيل إسمه ( بوذخشان ) وقيل ( بود ) وقيل غير ذلك ، راجع أعيان الشيعة 35 / 220 .
(3) الاستيعاب على ( الاصابة 2 / 57 )
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 20 _
حتى غابت الشمس ، لا أنا أتيت الضيعة ، ولا رجعت إليه ... ! ) لوحة رائعة يرسمها لنا سلمان وهو يسرد قصة إسلامه ، حيث يجسد لنا فيها كيف كانت بداية هجرته نحو الإيمان ... الإيمان بالله وحده ، بعزم وتصميم وإرادة قوية لا يقف دونها حاجز ولا تتحكم فيها عاطفة ، وكيف إختار لنفسه موقفاً مميزاً جعله فيما بعد من جملة عظماء البشر الذين يزين بهم التاريخ الإنساني صفحاته ، فكان بذلك « سابق فارس » ورائدها وداعيها إلى الله .
لقد كانت نفسه التواقة إلى المعرفة تدفعه نحو تخطي الحواجز التي عاش بين قضبانها في ظل أبٍ جمد عقله على طقوس المجوسية دون أن تحرك آيات المبدع سبحانه في نفسه أي تحولٍ نحو الأفضل .
أراد سلمان تخطي تلك الحواجز لكي يرى الحقائق الكامنة ورائها ، وكان له ما أراد ، فها هو يعثر على دين خير من دينه حيث ساقته قدماه ـ عن قصد أو غير قصد ـ إلى الكنيسة ، فرأى فيها أناساً يصلون ، وربما يرتلون فصلاً من الإنجيل بصوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب فيه رجع وصدىً لترانيم الراهب الحزين الذي يبكي المسيح ! ولا بد أن فقرات من الإنجيل شدته ـ في تلك اللحظات الغامرة ـ إلى الاستغراق والتأمل في عالم اللاهوت ضمن أجواء هي مزيج من الحزن ، والفرح ، والسأم ، واللذة ، طافت به ما وراء الغيب ، ثم انتهت لتوقظ في نفسه مكامن الألم الطويل الذي عاناه في ظل أبيه .
دارت في رأس سلمان زوبعة من التفكير ... انها فرصة قيضتها له يد الغيب ، وما عليه الآن إلا أن يختار ، نعم ، لقد أعجبه هذا الدين ، ولكن ، هل ينتهي به المطاف إلى هنا فتكون هذه الكنيسة هي المحطة الأولى والإخيرة في حياته ؟ ومن يدري ، فلعل يد التشويه قد امتدت إليها أو إلى ذلك الكتاب الذي يتلى فيها فأخرجتهما عن مسارهما الصحيح ، وعندها فما الفائدة إذن ؟ أيترك دين آبائه وأجداده ليعتنق ديناً ربما كان مثله في المحتوى أو أميز منه بقليل ؟
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 21 _
لم يطل تردده في الأمر ، وحانت منه التفاتة ذكية تنم عن عمق روحي وأصالةٍ في التفكير حيث بدا له أن يسأل عن تواجد أصل هذا الدين ، وبذلك يحفظ خطوط الرجعة على نفسه ، فاندفع يسأل من حوله من النصارى قائلاً لهم :
( وأين أصل هذا الدين ... ؟ ) قالوا : بالشام .
أما خشفوذان فقد طال عليه غياب ولده حتى صار نهباً للقلق عليه مما حدا به أن يرسل جماعةً في طلبه ، وبينما هو يتلدد في داره مفكراً حائراً في أمره وإذا بسلمان عائد بعد الغروب بقليل ، عاد إلى بيته ليجد أباه بتلك الحالة ، وهنا بادره أبوه بنبرةٍ فيها شيء من الغضب ، قائلاً له :
( لقد بعثت إليك رسلاً ) أين كنت . ؟
ولم يجد سلمان سبيلاً لكتمان ما رأى وسمع ، فالتفت إلى أبيه قائلاً : ( قد مررت بقوم يصلون في كنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم ، وعلمت أن دينهم خير من ديننا ... )
قال هذا بكل جراءةٍ وثقة ، غير أن خشفوذان لم يصدق ما سمعه ، وخالطته حيرة ودهشة ، لكنه تمالك أعصابه وخاطب ولده باسلوب عاطفي هادئ قائلاً له : ( يا بني ؛ دينك ودين آبائك خير من دينهم . ) طمعاً فيه بأن يرجع عن ذلك .
لكن سلمان بادره بكل إصرار قائلاً : ( كلا ، والله ... ) وحين لم يجد خشفوذان وسيلةً في اقناع ولده عمد إلى استخدام القسوة لتأديبه ، فوضع القيود في رجليه ، وتركه في البيت رهين محبسين ، فعل معه ذلك خوفاً من أن يهرب عنه ، وعقاباً له كي لا يعود لمثلها .
وظل سلمان رهين قيده وبيته مدةً من الزمن حتى كادت الدنيا أن تسود في
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 22 _
عينيه لولا حلم الشام الذي ظل يدغدغ فؤاده ويزرع في نفسه الأمل الأخضر الذي يبشره بأزوف الموعد وساعة الخلاص ، فعمد إلى بعض من يثق بهم وأرسله إلى النصارى الذين تعرف إليهم في الكنيسة يعلمهم عن لسانه : بأنه قد أعجبه دينهم ويطلب منهم أن يعلموه بتحرك أول قافلةٍ نحو الشام حتى يكون فيها . فأخبروه .
قال سلمان : ( فألقيت الحديد من رجلي ، وخرجت معهم . ) وبدأت الرحلة الطويلة نحو الإيمان ، والهجرة إلى الله .
بدأ سلمان هجرته هذه مصوباً كل تفكيره نحو الشام ، ولكن ما أن استوى على راحلته حتى بدأت الشكوك تساوره ، وأخذ القلق يسيطر عليه ، فقد خاف أن ينكشف أمره لدى أبيه فيرسل في طلبه جماعة من علوج أصفهان يرجعونه إليه بالقوة فيعيده إلى محبسيه ، وربما لا يكتفي بذلك بل يقيم عليه الرقباء والعيون يحصون عليه أنفاسه وعندها سيخسر سلمان كل شيء ، وسيكون الفشل نصيب أولى تجاربه في الحياة .
ظلت هذه الوساوس تساوره في بداية الرحلة ، حتى إذا قطع شوطاً من الطريق أمِنَ معه الطلب ، هدأت نفسه وارتاح ضميره وعاد الفرح إلى قلبه ، فمال بتفكيره ثانيةً نحو الشام ، ولكن سرعان ما هومت فوق صدره سحابة من الحزن لفراق أبويه الكهلين الذين دأبا على اسعاده وحرصا على أن يبقى بجانبهما يؤنس وحشتهما كلما تقدمت بهما السن ، لقد تركهما أسيرين للهم والحزن عليه ، وكاد الأسى أن يعصف بقلبه لولا أن تذكر عناد أبيه ووقوفه سداً في طريق سعادته ، فتابع سيره وصمم أن لا يلتفت .
أما خشفوذان وزوجه فقد باتا أياماً وليالي لا يغمض لهما جفن ولا ترقأ لهما دمعة لغياب سلمان المدلل ففراقه أقض مضجعهما ، فهما لا يعلمان أين أمسى وأين أصبح ، ولم يتركا استحفاء السؤال عنه في كل مكان ، لقد انقطعت أخباره ... أين هو ياترى ؟ وربما تناهى إلى سمع خشفوذان أن ابنه رحل إلى الشام فزاد
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 23 _
ذلك في همه وحزنه ، فأين الشام وأين فارس ومئات الأميال تفصل بينهما ... ويطرق الأب الحزين برأسه إلى الأرض ويستسلم مع زوجته للقدر ، وربما توسلا إلى النار التي يقدسانها أن ترجع إليهما ولدهما الهارب ، ولكن دون جدوى ، وهكذا ظل يندب حظه التعس .
أما سلمان ، فظل يتابع سيره حتى إذا بانت له مشارف الشام حرك لسانه بآيات الشكر لله سبحانه الذي أنقذه من النار وتفاهاتها وحماقات أهلها لينعم بين ظلال الرحمة في مهد الأنبياء وأرض الرسالات ، في الشام ، التي هي ( صفوة الله من بلاده وإليها يجتبي صفوته من عباده ) على حد تعبير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
(1) .
وبعد قليل من الزمن ، حط الركب الفارسي رحاله ليستريح من وعثاء السفر المضني الطويل ، ولينصرف بعد ذلك كل منهم إلى شؤونه ، عدا سلمان الذي لم يستقر به مكانه بعد ، فهو لم يصل إلى ما يريد ! إنه يطلب العالم الذي يعطيه أصول النصرانية التي جاء بها عيسى عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى ، فاندفع يسأل هذا وذاك من أهل الشام عن رجل الدين الذي يولونه ثقتهم ، ويأخذون عنه معالم دينهم ، فأرشدوه إلى الأسقف ، فسألهم عن مكان إقامته ، ؟
قالوا : هو مقيم في صومعته على رأس جبل ، ودلوه عليه ، كانت الصومعة في قمة جبل يشرف على الشام وقد استدارت حولها غابة من السنديان والصنوبر ، يخيل للناظر إليها من بعيد أنها جزيرة صغيرة وسط بحيرة خضراء .
قصد سلمان تلك الصومعة والفرح يغمر قلبه ، فلما وصل إليها تكلم بكلمات
(2) تركت الأسقف ينفتل من عبادته لينظر من هو المتكلم ، وكان
---------------------------
(1) راجع معجم البلدان 3 / 314 .
(2) يروى أنه قال له : اشهد أن لا إله إلا الله وأن عيسى روح الله وأن محمداً حبيب الله ـ كما سيأتي في احدى الروايات .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 24 _
الأسقف شيخاً طاعناً في السن مربوع القامة ، في ظهره جنأ
(1) كث اللحية أبيضها ، ذو عينين غارقتين تهدل فوقهما حاجبان انعقفا حتى اتصلا بصدغيه ، ترتسم على وجهه سيماء الصالحين ... تطلع سلمان إليه فأدرك فيه ملامح من سيرة المسيح ( عليهم السلام ) فانتابته حالة من الذهول أطرق معها إلى الأرض ، إلا أن كلمات الأسقف هزته حيث اندفع نحوه متسائلاً من أنت ؟ وماذا تريد ؟
فرفع رأسه وقال : أنا رجل من أهل جي جئت أطلب العمل وأتعلم العلم ، فضمني إليك أخدمك وأصحبك ، وتعلمني شيئاً مما علمك الله ! ؟
قال الأسقف : نعم ، إصعد إلي .
صعد سلمان إليه ليبقى إلى جانبه يخدمه ويتعلم منه ، وكان الغالب في مأكله : الخل والزيت ، والحبوب ، جرايةً تجري له ، يقول سلمان : ( فأجرى علي مثل ما كان يجرى عليه . . . ) وبدأ الأسقف يعلمه شريعة الله التي أنزلها على المسيح ويقرأ عليه صحائف من الإنجيل كان قد احتفظ بها ، ويطلعه على بعض الأسرار الإلهية التي تناهت إليه من حواريي عيسى عليه السلام ، وقد وجد في سلمان الرجل القوي الأمين الذي يمكن أن يدفع إليه أمانته ووجد سلمان فيه الأب المشفق والعالم الروحاني الذي يوقفه على غامض العلم ويطلعه على شرائع الأنبياء .
ومرت الأيام تتوالى مسرعةً ، وانطوت سنين عديدة كان الأسقف خلالها يتقدم نحو أرذل العمر ، وفي ذات يوم اشتكى علةً في جسده سرعان ما ألزمته سريره ، وأدرك سلمان أنها الشيخوخة التي لا ينفع معها دواء ، فظل دائباً في خدمته والعناية به ليله ونهاره ، حتى إذا قوضت أيامه ودارت في صدره حشرجات الموت ، علم سلمان أن صاحبه يحتضر ، وأنه مفارق هذه الدنيا عن قريب ، فجلس عند رأسه يبكي .
---------------------------
1 ـ الإنحناء .
سَـلمـان سـابق فـارس
_ 25 _
وكان تعلق الأسقف به شديداً لما لمسه فيه من الخصال الحميدة النادرة ، فكان يؤلمه أن يراه حزيناً أو مفكراً في أمرٍ يشغل باله ، وحانت منه إلتفاتة خاطفة ، فرأى سلمان يكفكف دموعه ، وآلمه ما رأى ، فالتفت إليه قائلاً :
( ما يبكيك يا ولدي . . ؟ )
قال سلمان ـ وهو يردُّ غصَّته ـ : « خرجت من بلادي أطلب الخير ، فرزقني الله صحبتك فنزل بك الموت ولا أدرى أين أذهب . . ؟ »
وهنا أطرق الراوي إطراقةً طويلة وفكر في أن يقف عند هذا الحد ولا يكمل روايته ، والسر في ذلك هو أن محدثيه كانوا كثراً وكلهم يروي عن سلمان سيرته كما جاءت على لسانه ، لكن ما يروونه فيه إختلاف كبير بالنسبة للشكل والصياغة ، وإن كان متقارباً في أصل المضمون ، فالروايات كلها متفقة على أن سلمان إنتقل من راهب إلى راهب ومن دير إلى دير ، وجاب البلاد طولاً وعرضاً في سبيل الوقوف على أصول الدين الذي يمكن الركون إليه .
ولكن يبقى العرض للكيفية التي تم بها ذلك مختلفاً غاية الإختلاف ، قال الراوي : وعلى هذا فلا يمكنني إختيار واحدةٍ من تلك الروايات والإكتفاء بسردها لكم ، لاحتياجها إلى ما في الروايات الأخرى ، وافتقار تلك الروايات لها مما يجعل بعضها يكمل بعضاً ، فالأفضل إذن أن تصاغ القصة من مجموع تلك الروايات في حلةٍ جديدة لائقةٍ بسلمان ومكانته ، تنسج خيوطها من سيرته ذاتها وليست بنشازٍ عنها ، لأنها كلها بلسانه رضي الله عنه .
ثم استطرد في سرد الرواية قائلاً :
( فقال الأسقف وهو يعاني سكرات الموت : يا بني ، لقد ترك الناس دينهم ، ولا أعلم أحداً يقول بمقالتي إلا راهباً في إنطاكية ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، وادفع إليه هذا اللوح ، وناولني لوحاً ، ثم مات الأسقف ، ولم يكشف لنا سلمان شيئاً عن سر ذلك اللوح ، لكن من المعتقد أنه أثر كريم بقي من المسيح