عليه السلام تركه للحواريين يتداولونه فيما بينهم ثم يسلمونه إلى ذوي الكفاءة من أوصيائهم .
  يقول سلمان : فلما مات ، غسلته وكفنته ودفنته ، وأخذت اللوح وسرت به إلى انطاكية « وهي بلدة قريبة من حلب بعيدة عن الشام موصوفة بالحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء لها سور ضخم ، وشكلها كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل ، والسور يصعد مع الجبل إلى قمته فتتم دائرةً ، وفي السور داخل الجبل قلعة في وسطها بيعة ( القسيان ) (1) وهي هيكل طوله مائة خطوة ، وعرضه ثمانون ، وعليه كنيسة على آساطين ، وحول الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة والعلماء ، وهناك من الكنائس ما لا يجد كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون ، والبلاط المجزع . (2)
  ومضى سلمان يغد السير حتى وصل إليها ، وكان قد عرف مواصفات الراهب واسمه ، فلما وصل إلى الهيكل سأل عنه ، فدلوه عليه ، وكان في إحدى الكنائس ، فلما وصل إليها تكلم بكلمات ، فأطل عليه الراهب يسأله من هو وماذا يريد ؟
  ونظر إليه سلمان ، فرأى فيه سمات التقى والصلاح والزهادة في الدنيا والرغبة عنها إلى الآخرة ، فارتاحت لذلك نفسه ، وعلم أن صاحبه الراحل لم يفرط فيه ، بل أوصى به إلى يدٍ أمينة . . . ورد سلمان على أسئلة الراهب ، ثم أبلغه سلام الأسقف الراحل وسلمه الأمانة .
  أخذ الراهب اللوح من يد سلمان بلهفة وزاد في الترحيب به ، وأنزله معه ، وظل سلمان في خدمته مدةً طويلة يأخذ عنه معالم الدين ، حتى إذا مرت سنين ،

---------------------------
(1) قسيان : الملك الذي أحيا ولده رئيسُ الحواريين فطرس ، وبيعة القسيان هذه كانت دار للملك فسميت باسمه .
(2) راجع معجم البلدان 1 / 267 للتفصيل .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 27 _

  مرض الراهب مرض الموت ولزم الفراش وسلمان إلى جانبه ، وأحس الراهب أنه مفارق هذه الدنيا ، فالتفت إلى سلمان قائلاً : ( إني ميت ! )
  وصكت هذه الكلمة مسامع سلمان ، وأخذت من نفسه مأخذاً حيث خاف الضياع من بعده ، فقال له بنبرة فيها شيء من الحزن : فعلى من تخلفني ... ؟
  قال الراهب : لا أعرف أحداً على طريقتي إلا راهباً بالاسكندرية ، فإذا أتيته فاقرأه عني السلام ، وادفع إليه هذا اللوح .
  وما لبث الراهب أن توفي ، فقام سلمان بتجهيزه ، فغسله ، وكفنه ، ودفنه ، ثم أخذ اللوح معه وخرج قاصداً الإسكندرية .
  وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت هي أم الأساطيرـ كما يقال عنها ـ فكان الناس يتحدثون عنها وعن عجائبها فحيكت عن كيفية بنائها قصص كثيرة ، منها : أن الذي بناها هو الاسكندر الأكبر فسميت باسمه ، وقيل : أن الإسكندر وأخوه الفرما قاما ببناء مدينتين في أرض مصر سميت باسمهما ، فلما فرغ الاسكندر من بناء مدينته قال : قد بنيت مدينة إلى الله فقيرة وعن الناس غنية ، وقال أخوه بعكسه ، فبقيت مدينة الإسكندر ، وتهدمت مدينة أخيه .
  وأسطورة تقول : أن الذي بناها هو جبير المؤتفكي ، وكان قد سخر فيها سبعين ألف بناء ، وسبعين ألف مخندق ، وسبعين ألف مقنطر ، واستغرق بناؤها مائتا سنة ، وكتب على العمودين الذي يقال لهما : المسلتين : أنا جبير المؤتفكي عمرت هذه المدينة في شدتي وقوتي حين لا شيبة ولا هرم أضناني ، وكنزت أموالها في مراجل (1) جبيرية ، وأطبقتها بطبق من نحاس وجعلتها داخل البحر .

---------------------------
(1) المِرجَل : قِدر ضخم من نحاس .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 28 _

  واسطورة ثانية تقول : أن جبير المؤتفكي وجد بالقرب منها مغارةً على شاطئ البحر فيها تابوت من نحاس ، ففتحه فوجد فيه تابوتاً من فضة ، ففتحه فإذا فيه درج (1) من حجر الماس ، ففتحه فإذا فيه مكحلة من ياقوتةٍ حمراء مِرودُها عِرق زبرجد أخضر ، فدعا بعض غلمانه فكحل إحدى عينيه بشيء مما كان في تلك المكحلة فعرف مواضع الكنوز ، ونظر إلى معادن الذهب ومغاص الدرر ، فاستعان بذلك على بناء الإسكندرية ... إلى غير ذلك من الإساطير التي ترسمها مخيلة القصاصين . (2)
  ولقد كان الركبان الذين يقصدون الإسكندرية يتحدثون بهذا وأمثاله ، يُسَلّون به أنفسهم سيما إذا كان سفرهم عن طريق البحر فإن ذلك يشغلهم عن تذكر البحر وأهواله ... ولكن ماذا يعني سلمان من ذلك كله فهو يسمع ما يروونه عن الإسكندرية لكنه لا يلتفت إلى ما يقولون ، ولا يعبأ بما يتحدثون ، بل كل همه وتفكيره منصبان على كيفية اللقاء بالراهب الذي سيصل إليه ، وكيف سيكون معه ، وهل سيرته كسيرة صاحبيه .
  وصل سلمان إلى الاسكندرية ، وسأل عن الراهب الذي أخذ إسمه ومواصفاته من سلفه الراحل ، واستدل على مكانه ، فوصفوا له صومعةً كان يقطن فيها شأن غيره من الرهبان ، فلما وصل إليها وقف خارجها وتكلم بكلمات ما لبث بعدها أن أطل الراهب عليه ، ونظر سلمان إليه فوجد فيه مثل ما وجد في صاحبيه من الهدى والصلاح والزهد فاطمأن به المكان بعد أن رحب به الراهب أجمل ترحيب ، وأبلغه سلمان سلام سلفه الراحل وسلمه اللوح .
  وبقي سلمان معه مدةً من الزمن ، وكانت الأيام تمر سراعاً ، والسنين تتوالى والبشارة تقترب ، ومرض الراهب مرض الموت ، واستمر به المرض حتى إذا إحتضر إلتفت

---------------------------
(1) الدَرج : أشبه بالمحفظة .
(2) للتفصيل راجع معجم البلدان 1 / 183 وما بعدها .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 29 _

  إلى سلمان قائلاً : ( إني ميت ! ) وكأنه ينتظر منه سؤالاً ليجيبه عليه ، وهنا بادره سلمان قائلاً له : ( فعلى من تخلفني ؟ ) قال الراهب : لا أعرف أحداً على طريقتي ، وما بقي أحد أعلمه على دين عيسى بن مريم في الأرض ، وقد أظلك زمان نبي يبعث بأرض العرب ، إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد حانت ولادته ، فإذا بلغك أنه قد خرج ، فانه النبي الذي بشر به عيسى صلوات الله وسلامه عليهما ، وآية * ذلك :أن بين كتفيه خاتم النبوة ، وأنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فان أتيته فاقرأه السلام ، وادفع إليه هذا اللوح .
  ثم أغمض الراهب الصالح عينيه مسلماً الروح إلى بارئها . فقام سلمان بتجهيزه ودفنه .

---------------------------
* الآية هنا : العلامة .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 30 _

لـيـلـة الـميـلاد*
  كان كسرى ابرويز ـ ملك الفرس ـ من أعظم سلاطين عصره ، وأكثرهم منعةً ونفوذاً ، وكان يحيط نفسه بهالةٍ من الأبهة والعظمة ، فكان يجلس في إيوانه وقد جمع فيه أجزاء عرش دارا (1) وكانت موشاةً بصور نجوم المجرة ، فإذا كان في مشتاه وضعت هذه الأجزاء يحيط بها ستار من أنفس الفراء تتدلى أثناءه ثريات من فضة وأخرى من ذهب ملئت بالماء الفاتر ، ونصب فوقها تاجه العظيم يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة مشدوداً إلى السقف بسلسلة من ذهب ، وكان يلبس نسيج الذهب ويتشح بحلي الذهب ، مما يلقي الهيبة في نفوس قواده ووزرائه وزواره إذا حضروا بين يديه .
  وفي ذات يوم إرتجس (2) الإيوان ، ورأى كسرى رؤيا هالته وأفزعته ، فقد رأى في نومه أنه سقط من قصره ستة عشر شرفة ، فلما أصبح ، أفزعه ما رأى ، فصبر تشجعاً ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته (3) فلبس تاجه وقعد على سريره ، وجمعهم إليه ، فلما إجتمعوا أخبرهم بالذي بعث إليهم فيه .

---------------------------
* : هذه القصة أخذت من : أخبار الزمان / المسعودي ص 117 وقصص العرب 1 / 84 وحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم / 76 .
(1) أحد الملوك الأشداء قضى عليهم كسرى .
(2) ارتجس : إهتز .
(3) المرازبة جمع مرزبان : القائد الشجاع .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 32 _

  قال الموبذان (1) : عسى أن يكون خيراً ، وأنا ـ أصلح الله الملك ـ رأيت البارحة أن النيران قد خمدت وقلعت بيوتها وهلك سدنتها ، ورأيت إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ، وقد أغمني ذلك .
  وبينما هم كذلك ، إذ ورد عليه كتاب بخمود النار ، فازداد كسرى غماً إلى غمه ، والتفت إلى الموبذان قائلاً له : وأي شيء يكون هذا يا موبذان ؟ ـ وكان أعلمهم عند نفسه بذلك .
  قال الموبذان : ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ـ أيها الملك ـ ولكن ارسل إلى عاملك في الحيرة يوجه إليك رجلاً من علمائهم ، فانهم أصحاب علم بالحدثان ، فكتب عند ذلك : ( من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر ، أما بعد : فوجّه إلي رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله عنه ) فوجه إليه النعمان عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني .
  فلما قدم عليه ، قال له : أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه ، ؟ قال : ليخبرني الملك ، فان كان عندي منه علم ؛ وإلا أخبرته بمن يعلمه له ، فأخبره بما رأى ، فقال : علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارف الشام ، يقال له سطيح (2) .
  قال : فأته فاسأله عما سألتك ، وإئتني بجوابه ، ركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت ، فسلم عليه وحيّاه ، فلم يجبه ؛ وكلمه ، فلم يرد عليه ! فقال :
  أصَـمُّ أم يسمع غِـطـريـفُ الـيَمَـن * أم فَـادَ فـازْلـَمّ به شـأو الـعَنـَنْ (3) يـا فـاصِل الخِطة أعـيت مـَنْ ومَـنْ * أتـاك شيخ الـحيِّ مـن آل سَـنَـنْ

---------------------------
(1) الموبذان : للمجوس رئيسهم الديني .
(2) سطيح : من كهان العرب .
(3) فاد : مات ، ازلم : ذهب مسرعاً ، الشأو : المكان البعيد ، العنن : ما ينوب الانسان من العارض .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 33 _

وأمـه  مـن آل ذِئـب بـن حَجَن        أبـيضُ فـضفاضُ الـرداء iiوالبَدنْ
رسـولُ قَـيْلِ العُجم يسري للوسَنْ        لا يرهبُ الرعد ولا ريبَ الزمنْ (1)
تـجوبُ  بـي الأرضَ عَلَنْدَاةٌ iiشَزَنْ        ترفعني  وجنٌ وتهوي بي وَجَنْ (2)
حـتى  أتى عاري الجآجي iiوالقَطَنْ        تـلفه  في الريح بَوْغاء الدِمَنْ (3)
  فلما سمع سطيح شعره ، رفع رأسه وقال :
  عبد المسيح على جميل مُشيح (4) جاء إلى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً ، قد إقتحمت في الواد وانتشرت في البلاد ، ثم قال :
  يا عبد المسيح ، إذا كثرت التلاوة ، وبعث صاحب الهراوة ، وفاض وادي السماوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار الفرس ، فليست الشام لسطيح شاماً يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات ، وكل ما هو أتٍ آت .
  ثم قبض سطيح مكانه .
  ونهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول :
شـمِّر فـانك مـا عُمّرت iiشِمّير        لا  يُـفـزعنَّك تـفريقٌ iiوتـغيير
إن يُمسِ ملك بني ساسان أًفرَطهم        فـإن  ذا الـدهر أطـوار iiدهارير
فـربما ربـما أضـحوا iiبـمنزلة        تـهاب  صَـولَهُمُ أسـدٌ iiمهاصير
منهم  أخو الصرح بَهرامٌ iiواخوتُهُم        وهُـرمُزانٌ  وسـابورٌ iiوسـابورٌ

---------------------------
(1) القيل : الملك أو من هو دونه .
(2) علنداة : ناقة ضخمة طويلة . وشزن : فيها نشاط . الوجن : الأرض الغليظة الصلبة .
(3) الجآجي : ربما يقصد بها الإبل ، القطن : أسفل الظهر . البوغاء : التراب الناعم .
الدمن : ما تدمن منه ، أي تجمع . (4) مشيح : جادٌّ مسرع .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 34 _

والـناس أولاد عَلاَّتٍ فمن iiعَلمِوا        أن  قد أقَلَّ فمهجورٌ ومحقورٌ ii(1)
وهـم  بنو الأمِّ لما أن رأوا iiنَشَباً        فذاك بالغيب محفوظ ومنصور (2)
والخير  والشر مقرونان في iiقَرَنٍ        فـالخير مُـتَّبَعٌ والـشر iiمحذوراُ
  فلما قدم عبد المسيح على كسرى ، أخبره بقول سطيح ، فقال : إلى أن يملك منا ستة عشر ملكاً تكون أمور ويدور الزمان ، قالوا : ولما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتج إيوان كسرى ، وسقطت منه أربع عشر شرفة ، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك مائة عام ، وغاضت بحيرة ساوة ، وكانت لا تغيض ، وفاض وادي السماوة بالماء ، وان الرؤيا التي رآها كسرى والموبذان كانت في تلك الليلة .
  وقد يجد القارئ في هذه القصة شيئاً من الغرابة يأخذه معها العجب ، ولكن حينما يعود الأمر لله سبحانه فيما يختص به أنبيائه وأصفيائه ، لا يبقى العجيب عجيباً ، ولا الغريب غريباً .
  لقد كان هذا التغير الطارئ العجيب إشعاراً ببداية عهد جديد على الأرض ، يقوم على أسس العدل والحكمة ، كما كان إخطاراً يلوح لبداية انقراض العهود المظلمة ، وانتهاء مسيرة المدلجين في وهد الباطل .
  الـبشـارة مع هذه البداية الغريبة بدأت البشارة باقتراب الموعد وساعة الخلاص ، البشارة التي تحدث عنها المسيح عليه السلام ، ورسمت في الإنجيل ، وترجمها لنا القرآن .
  ( وإذ قال عيسى بن مريمَ يا بَني اسرائيل إني رسول اللهِ إليكم مصدّقاً لما بين

---------------------------
(1) أولاد العلات : أولاد امهات شتى لرجل واحد .
(2) النشب : المال والخير .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 35 _

  يديَّ من التوراة ومبَشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي إسمه أحمد ... ) الآية (1) لقد تناقل الرهبان والموحدون هذه البشارة ، ودارت على ألسنتهم طيلة الفترة ما بين صعود المسيح إلى السماء ، ومبعث محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد تحدثت كتب التأريخ القديمة عن ذلك ، بل إتفق المؤرخون على أن بعض الأحبار والكهان كانوا يعلمون ذلك .
  وعلى سبيل المثال نذكر بعض الشواهد على هذا :
  روي عن عبد المطلب أنه حين زار مع وفد من سادات قريش سيف بن ذي يزن لتهنئته بملك اليمن ، اختلى هذا الأخير بعبد المطلب وبشره بمولود لقريش في مكة يكون رسولاً إلى الناس أجمعين ، وأعطاه صفاته ، ولما وجد عبد المطلب هذه الصفات تنطبق على حفيده محمد صلى الله عليه وآله وسلم سجد لله شكراً على ذلك .
  وقصة الراهب بحيرى الذي مر به أبو طالب ومعه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في طريقهم إلى الشام فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً ، وينظر إلى أشياء في جسده كان يجدها عنده من صفاته ، ثم نظر إلى كتفه فوجد فيه خاتم النبوة ، فتيقن أنه هو النبي الذي بشر به المسيح ، فأقبل إلى عمه أبي طالب ، فقال له : ما هذا الغلام منك ؟
  قال : إبني .
  قال بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً .
  قال : فانه ابن أخي .
  قال : فما فعل أبوه ؟
  قال : مات وأمه حبلى به .

---------------------------
(1) الصف ـ 6 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 36 _

  قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه . . القصة (1) ، وقس بن ساعدة ، كان أحد المبشرين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبرسالته ، وكان من عقلاء العرب وحكمائهم ، وهو القائل :
هل الغيث معطي الأمن عند نزوله        بحال  مسيءٍ في الأمور iiومحسن
ومـا قـد تولى فهو فات iiوذاهب        فـهل  يـنفعني لـيتني ولو iiأنني
  وكان قس في زمانه أكثر الناس عبادةً ، وأفصحهم خطابةً ، وكان كثيراً ما يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويبشر الناس به ، وآمن به قبل مبعثه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن أخباره وترحم عليه ويقول : سيحشر قس أمةً وحده . (2)
  ولقد كانت هذه البشارة تزداد شيوعاً كلما اقترب وقت مبعثه صلوات الله عليه وكان سلمان قد سمع هذه البشارة ، ووعاها قلبه فنبت حب محمد صلوات الله عليه في لحمه ودمه ، فكان أحد المنتظرين ، يترقب ساعة الخلاص لحظةً بعد لحظة ، ويوما بعد يوم وكلمة الراهب لا زالت ترن في أذنه :
  ( هذا آوان يظهر فيه نبي من العرب ... ) ، لا يكاد سلمان يتذكر هذا ، حتى يتمنى لو أن الزمان يطوى له كي يلتقي بالرسول المرتقب صلوات الله عليه .

---------------------------
(1) السيرة النبوية 1 / 165 ـ 166 بتصرف .
(2) حقائق الإيمان / 383 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 37 _

في طـريقة نحو الإسـلام

المحـنة
العبـوديـة
عتيـق الإسـلام

سَـلمـان سـابق فـارس _ 39 _

  غادر سلمان الدير حاملاً بيده اللوح ، ووقف حائراً لا يدري كيف يصنع ولا أين يذهب ، إنه يريد أرض تهامة ، ولكن ... هو غلام ديراني ، وحياة الديرانيين تشبه إلى حد ما حياة أهل السجون لولا الفارق النفسي بينهما من حيث توطين النفس على الإقامة فيها اختياراً ، والشعور بالانفساح الروحي عند الخلوة لمناجاة الله سبحانه ، وإلا فكل شيء في الأديرة يخضع لقيود معينة ، الملبس فيها خاص وبشكل معين ، والمأكل فيها خاص ينحو نحو النباتية ، والزهد في الدنيا شرط ، فلا مال ولا عقار ، ولا شيء من مغريات الحياة ، بل على الداخل فيها أن يخرج من الدنيا وما فيها ـ هكذا كانت حياة الأديرة ـ وهكذا كان سلمان عندما كان ديرانياً .
  والآن ، خرج من الدير ، فمن الطبيعي أن يخرج منه كما دخل صفر اليدين ، ويمكننا تصور حالته النفسية في ذلك الظرف العصيب ، فهو يريد أن يأكل ويريد أن يسافر ، ويريد أن يتعامل مع هذه الحياة كما يتعامل بقية الناس ، ولكن دون جدوى ، ففي الدير كانت له جراية تجرى عليه كما تجرى لصاحبه الراحل ، أما الآن فقد إنتهى كل شيء فها هو قد خرج وهو لا يملك درهماً ولا ديناراً ، فماذا يفعل الآن ؟
  في زخم هذه الحيرة التي لفت سلمان كانت خيوط الأمل الأخضر تشرق في نفسه فتضيء له جنباتها ... إنه الأمل بلقاء النبي الموعود ، فلقد نبت حب محمد

سَـلمـان سـابق فـارس _ 40 _

  ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قلبه كما ينبت العطر في أكمام الورود ، وتذكر في هذه الحال ما قاله له أستاذه الراحل من أنه ( سيخرج نبي في أرض تهامة ) وتساءل بينه وبين نفسه : من يدري ، فلعله قد خرج ؟ !
  وأحس سلمان بموجةٍ من الفرح تغمره ، فاندفع منطلعاً نحو الطريق وإذا به يرى ركباً يقصدون أرض الحجاز ، وأحس أنهم من ذوي الثراء والمكانة لما رأى من ترفهم وحسن مظهرهم ، وما معهم من الشياه والأغنام والأثاث والرياش ، وهنا بادرهم بالتحية ، فردوا عليه بمثلها ، ثم سايرهم قليلاً وفكر في أن يعرض عليهم ما في نفسه من الرغبة في مرافقتهم ، ولكن منعه من ذلك قصَرُ ذات اليد ، فما معنى أن يكون معهم ولا يشاطرهم في نفقة الطريق ؟ فعاد إلى نفسه ولم يتكلم بكلمة ، إنه لم يرض أن يكون عالةً على غيره ، يأخذ ولا يعطي ، فهذا شأن الساقطين في الحياة ، وبينما هو في غمرة تفكيره إذ لاحت له خاطرة ذكية أحس من خلالها بقرب الفرج ، حيث بدا له أن يعرض عليهم نفسه للخدمة في قبال أن يقوموا بنفقاته ، ورأى أن هذا أمر لا ضير فيه ولا مهانة ، بل هو شيء حسن ، فلم يتردد في ذلك وخاطبهم قائلاً :
  ( يا قوم ، اكفوني الطعام والشراب ، أكفكم الخدمة ! ) وكان طلباً محبباً لهم ، فالعرب أمة عرفت بالبذل والكرم والسخاء ، بل أحب شيء للعربي ضيافة الوافد وإكرامه ، فكيف بجماعة كل شيء لديهم وافر ، أتراهم يمتنعون عن قبول مثل هذا العرض بدون مقابل ؟ بالطبع لا ، غير أنهم أدركو في سلمان أنه رجل عفيف لا يحتمل المن ، ولا هو من المتسكعين ، فلم يماطلوا معه بالسؤال والجواب لكي لا يحرجوه فأجابوه بقولهم : نعم .
  سار سلمان معهم يخدمهم في رحلتهم تلك ويهيء لهم ما يحتاجون إليه ، فلما صار وقت الطعام ( عمدوا إلى شاة ، فقتلوها بالضرب ، ثم أخذوا لحمها وجعلوا بعضه كباباً وبعضه شواءً ) وجلسوا يأكلون ، أما هو فلم يعجبه هذا الأمر ، فجلس ناحيةً ولم يأكل ، ولفت انتباههم ذلك ، فقالوا له : كل .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 41 _

  لكنه أصر على موقفه الرافض ـ ولعل طريقة قتلهم للشاة لم تعجبه لأنها منافية لما جاء في الشرايع السماوية من شروط الذبيحة ـ وبقي ممتنعاً عن الأكل ، وفكر في جوابٍ يرضي به فضولهم ويدفع عنه لائمتهم . فقال لهم :
  ( إني غلام ديراني ، والديرانيون لا يأكلون اللحم ! ) ووجد خلاف ما كان يتوقع ، فالذي ظهر أن القوم يكرهون الأديرة والديرانيين والنصراى أجمعين ، وأنهم وثنيون أو يهود ، فرأوا وجوده بينهم مدعاةً لتعكير صفو عيشهم شأن ذوي العقول المتحجرة من المتعصبين ، فنهضوا إليه يؤدبونه .
  يقول سلمان : ( فضربوني ، وكادوا يقتلوني ! ) فقال أحدهم ـ وكأنه يختبر حقيقة أمره ـ : أمسكوا عنه حتى يأتيكم الشراب ، فانه لا يشرب . ) « الـمحنـة ) هذه هي المحنة بدأت تواكب سلمان من جديد تضعه على المحك ، المحنة التي يبتلي بها الله أصفيائه وأوليائه والمؤمنين ، فقد ورد في الحديث الشريف ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وما ذلك إلا ليعرفوا أنفسهم بأنفسهم ويدركوا مقدار ما هم عليه من الصدق مع الله والإخلاص له ، ولكي يعرف من سواهم أنهم لم يصلوا إلى أعلى المراتب إلا بالصبر على البلاء والتضحية في سبيل الله .
  جاء الشراب ، فقالوا لسلمان : إشرب ، فأبى ولم يشرب وقال :( إني غلام ديراني والديرانيون لا يشربون الخمر ... ) وهنا لم يجدوا رداً على كلامه إلا بالضرب ، يقول : ( فشدوا علي وأرادوا قتلي ! )

سَـلمـان سـابق فـارس _ 42 _

  ( فقلت لهم : لا تضربوني فاني أقر لكم بالعبودية ! فأقررت لواحد منهم ، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي ) وهكذا ضحى سلمان في سبيل الإيمان ، وما كان أغناه عن ذلك كله لو بقي في المكان الذي جاء منه ، لكنها الأمانة التي تلزمه أن يتابع سيره ويضحي بكل ما يقدر عليه في سبيل الوصول إلى الهدف الذي ينشده ، سيما وقد أدرك أن الأرض التي هو فيها الآن هي موطن ذلك النبي .
  حين إشتراه اليهودي أخذ يسأله عن قصته وسلمان يحدثه بكل ما جرى له منذ أن ترك بلاد فارس ، وكيف أعتنق النصرانية وصار ينتقل من عند راهب إلى آخر ، ولم ينس أن يحدثه بما بشره به راهب الإسكندرية من أن زمان نبي من العرب قد اقترب وأنه قصد هذه البلاد رجاء أن يقيّض الله له اللقاء به ـ وهو يظن أنه بذلك سوف يثير عطفه عليه ـ لكن ما حصل كان عكس ذلك ، فما أن سمع اليهودي بذكر محمد حتى فقد صوابه وصمم في نفسه أن ينتقم منه ، فاليهود يقرأون في توراتهم ويسمعون من أحبارهم عن ظهور نبي يأتي بالحنيفية ـ دين إبراهيم ـ فكان بعضهم من المؤمنين ينتظر ذلك اليوم ، والبعض الآخر عمي عن الحق فأخذته العزة بالإثم ، وكان صاحبنا منهم ، فقال لسلمان بنبرةٍ تنم عن حقد وغضب : ( واني لأبغضك وأبغض محمداً ) قال سلمان : ثم أخرجني خارج الدار وإذا رمل كثير على بابه ، فقال : والله يا روزبة ، لئن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كله من هذا الموضع لأقتلنك .
  وحار سلمان في أمره وهو يسمع تهديد سيده ، فلم يدر ما يفعل ، وأنى له بنقل تلٍّ من الرمل في فترة قصيرة من الزمان ، وشعر أن الرجل يريد الإنتقام منه بإيجاد وسيلة لذلك ، قال : فجعلت أحمل طول ليلتي ، فلما أجهدني التعب رفعت يدي إلى السماء وقلت : يا ربي أنك حبّبتَ محمداً إليَّ ، فبحق وسيلته عجل فرجي ، وأرحني مما أنا فيه .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 43 _

  فبعث الله ريحاً قلعت ذلك الرمل من مكانه إلى المكان الذي قال عنه اليهودي ، فلما أصبح نظر إلى الرمل وقد نقل ، ودهش لما رأى وخيّل إليه أنه ضرب من السحر ، فقال مخاطباً سلمان : يا روزبة ، أنت ساحر وأنا لا أعلم ، فلأخرجنك من هذه القرية لئلا تهلكها ! .
  ونفذ اليهودي قوله ، فأخرجني فباعني لإمرأةٍ سَلمية ، فأحبتني حباً شديداً ، وكان لها حائط ( بستان ) فقالت : هذا الحائط لك ، كل منه ما شئت ، وتصدق بما شئت .
  مكث سلمان مع هذه المرأة فترةً طويلة يدير لها شئون بستانها يسقي الزرع ، ويؤبّر النخل وما إلى ذلك بكل أمانةٍ واخلاص ، ويدعو الله بين الحين والحين بقرب الفرج واللقاء بالنبي الموعود صلى الله عليه وآله وسلم .
  في هذه الفترة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج بمكة يدعو الناس إلى الهدى والحق واتباع دين الله الذي ارتضى وسلمان لا يعلم بذلك ، وقدم النبي إلى المدينة ، وبينما كان سلمان في رأس نخلة إذ به يسمع رجلاً يقول لصاحبه : ( أي فلان ، قاتل الله بني قيلة * مررت بهم آنفاً وهم مجتمعون على رجل بقبا قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبي ) قال : فوالله ما هو إلا أن سمعتها ، فأخذني القرُّ والإنتفاض ورجَفَت بي النخلة حتى كدت أن أسقط ... ) لقد خرج محمد إذن ، وأين عنه أنا الآن ، واللوح لا زال معي ، ولكن ، العلامات الثلاث لا بد أن تكون فيه !
  ويستمر سلمان في دعائه لله أن ييسر له اللقاء بمحمد ، فهو لا يستطيع الهرب عن مولاته ، لأن ذلك قد يعقد الأمور ويعطيه صفة ( الآبق ) الذي يستحق أنواع العقوبات في شريعة الجاهليين سيما إذا لحق بمحمد ، ففضّل التريث والتعقل في الأمر ، وتحيّن الفرص الملائمة في الوصول إليه ، لكنه بقي في دوامة من التفكير لا تهدأ ، وأستمر هكذا أيام .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 44 _

  قال : فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله ، فبينا أنا ذات يوم في الحائط وإذا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلهم غمامة ، فقلت في نفسي : والله ما هؤلاء كلهم أنبياء ، وإن فيهم نبيا .
  لقد كان هؤلاء النفر هم : محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام والحمزة بن عبد المطلب وعقيل ابن أبي طالب وزيد بن حارثة والمقداد ، وأبو ذر الغفاري ، وكانت الصفات الظاهرية للرسول تميزه عما سواه ، فكان وسيم الطلعة ربعةً في الرجال ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير المتردد ، ضخم الرأس ، ذا شعر رجل شديدٌ سواده ، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منوّنَين متصلين ، واسع العينين أدعجهما تشوبُ بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة وتزيد في قوة جاذبيتهما أهداب طوال حوالك ، مستوي الأنف دقيقه ، مفلج الأسنان كث اللحية ، طويل العنق جميله ، عريض الصدر ، رحب الساحتين ، أزهر اللون ، شثن الكفين والقدمين يسير ملقياً جسمه إلى الأمام ، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب ، وإذا قام كأنما ينقلع من صخر ، وإذا التفت التفت جميعاً .
  نظر إليه سلمان ، فرآه مميزاً عن باقي أصحابه ، ولكن هذا لا يكفي ، المهم العلامات الثلاث : لا يأكل الصدقة ، ويأكل الهدية ، وفي كتفيه خاتم النبوة ... لقد حان وقتها ... ودخل الرسول ومن معه إلى ذلك البستان ، فجعل أصحابه يتناولون من حشف النخل ، والرسول يقول لهم : كلوا ولا تفسدوا على القوم شيئاً .
  وهنا اغتنم سلمان الفرصة التي قيضها الله له ، والتي كانت بداية خلاصه والتحاقه بركب الاسلام ، فأقبل إلى مولاته مستميحاً إياها أن تهبه قليلاً من الرطب قائلاً : ( هبي لي طبقاً من الرطب ) .
  وكانت المرأة كما ذكرنا تحبه حباً شديداً ، فقالت له : لك ستة أطباق ! قال : فحملت طبقاً فقلت في نفسي إن كان فيهم نبي فانه لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية ، فوضعته بين يديه فقلت : هذه صدقة .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 45 _

  فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلوا ، وأمسك هو وعليٌ وأخوه عقيل وعمه حمزة (1) فقلت في نفسي : هذه علامة !
  فدخلت إلى مولاتي فقلت : هبي لي طبقاً آخر ... قالت : لك ستة أطباق ! فحملتُ طبقاً ووضعته بين يديه وقلت : هذه هدية .
  فمدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال : بسم الله ، كلوا ، ومدّ القوم جميعاً أيديهم فأكلوا ، فقلت في نفسي : هذه أيضاً علامة أخرى .
  قال : ورجعت إلى خلفه وجعلت أتفقد خاتم النبوة ، فحانت من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلتفاتة فقال : يا روزبة ؛ تطلب خاتم النبوة ! ؟ ) قلت : نعم .
  فكشف عن كتفيه فإذا بخاتم النبوة معجون بين كتفيه عليه شعرات ! ، فسقطتُ على قدميه أقبلهما ... ونسي الراوي أن يقول : فأبلغته سلام الراهب ، وأعطيته اللوح ، وحدثته بما جرى لي .
  وإلى هنا يكون سلمان قد وصل إلى هدفه الذي خرج من أجله ، ويبقى في هذه القصة لغز ربما حير كثيرين ... لغز الرهبان الثلاثة أو الأربعة الذين كانوا يوصون بسلمان إلى بعضهم البعض ، وآخرهم الذي قال له : ( لا أعلم أحداً في الأرض على دين عيسى بن مريم ... ! ) تُرى ، هل أن هؤلاء الرهبان كانوا قد أحتكروا الديانة المسيحية لأنفسهم ، فأين ملايين النصارى ومئات القسس وأين موقعهم من ذلك الدين ؟ سيما وأن النصوص الواردة في ( إسلامه ) تظافرت واتفقت على هذا المعنى .
  الحق : أن أولئك الرهبان كانوا من الأبدال (2) الذين لا تخلو الأرض منهم

---------------------------
(1) في شرح النهج 18 / 35 وقال : إنه لا تحل لنا الصدقة .
(2) الأبدال : قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم ، إذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر ، وورد =

سَـلمـان سـابق فـارس _ 46 _

  أو أنهم كانوا من ( أوصياء أوصياء المسيح ) على حد تعبير البعض ، وبذلك يسهل علينا تقبل ما أورده كثير من المؤرخين من أن سلمان أدرك ( وصي وصي عيسى ) ، ( أو أدرك بعض الحواريين ) .
  ( عتيـق الإسـلام )
  بقيت مشكلة الرق ( المفتعل ) الذي تم بسبب أولئك القساة الذين صحبهم سلمان من الإسكندرية ، والذي يحول بينه وبين اللحاق برسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، سيما وأن هذه المرأة لن تتخلى عنه بسهولة ، وهنا تدخل رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) لينقذ سلمان من محنته القاسية فالتفت إليه قائلاً :
  « يا روزبة ادخل إلى هذه المرأة وقل لها : يقول لك محمد بن عبد الله أتبيعيني له ؟ » نهض سلمان إليها وأبلغها مقالة النبي صلوات الله عليه ، وهو يظن أنها ستجيبه إلى طلبه وتبيعه بدراهم معدودات كما فعل معه أسياده السابقون ، وعندها سيتخلص من ربقة العبودية ويعيش حراً في دنيا الإسلام .
  كان ما حصل هو العكس ، فالمرأة شديدة التعلق بهذا الفارسي ـ وربما لإخلاصه وأمانته ـ فهي لن تتخلى عنه بسهولة ، ومن جهة ثانية أن المساوم عليه هو محمد بن عبد الله النبي الذي يكرهه الوثنيون والمشركون والتي هي منهم ، فهي إذن تود إيذائه وتعجيزه وقهره لو استطاعت ، فكانت هذه المساومة من محمد فرصةً سانحة لذلك ، فوافقت على بيعه وشرطت شرطاً لا يمكن تحقيقه إلا إذا تدخلت العناية الإلهية ، فقالت لسلمان :
  ( لا أبيعك إلا بأربعمائة نخلة ، منها مائتان صفراء ومنها مائتان حمراء ) إنه طلب صعب ، فمن أين تجتمع هذه النخلات الأربعمائة بهذه

---------------------------
= أيضاً : الأبدال قوم يقيم الله بهم الأرض وهم سبعون أربعون بالشام وثلاثون بغيرها ، لا يقوم أحدهم إلا قام مقامه آخر من سائر الناس ( مجمع البحرين مادة بدل ) .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 47 _

  المواصفات ؟ ، ولكن شاء الله أن تكون حياة هذا الفارسي مليئة بأسرار لا يعلمها إلا هو ، واختارت مشيئة سبحانه ان يكون لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القدرة على تحقيق ما يعجز عنه البشر وأن تحصل على يديه خوارق تزيد المؤمنين بصيرة .
  ( فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أهون ما طلبت ! ) ثم قال ، قم يا علي فاجمع هذا النوى كلّه ، فأخذه ،( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وغرسه ، ثم قال إسقه ، فسقاه فما بلغ آخره حتى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً .
  والتفت رسول الله إلى سلمان قائلاً : ادخل إليها وقل : يقول محمد بن عبد الله هذا شيئك فاستلميه ، وسلمينا شيئنا .
  قال : فدخلت عليها وقلت لها ذلك ، فخرجَت ونظرت إلى النخل ، فقالت :
  والله لا أبيعك له إلا بأربعمائة نخلة صفراء ، لقد دهشت هذه المرأة لما رأت ، فها هو النخل أمام عينيها وقد صار فسيلاً ، يا لله ! هل هو السحر ؟ أم هو الإعجاز الذي يؤيد الله به أنبياءه ؟ وفي حالةٍ من الاضطراب لا توصف ، تراجعت عن كلامها ، أنها تريد النخل بأجمعه أصفر ، وتدخلت العناية الإلهية مرةً ثانية حيث ( هبط جبرئيل عليه السلام ومسح النخل بجناحيه فصار كله أصفر ) .
  فقال النبي لسلمان ، قل لها : إن محمداً يقول لك خذي شيئك وادفعي لنا شيئنا ، قال سلمان ، فقلت لها ذلك ، فقالت : والله لنخلة من هذه أحب إلي من محمد ومنك ، فقلت لها : والله ليوم واحد مع محمد أحب إلي منك ومن كل شيء أنت فيه .
  ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتقني وسماني : سلمان .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 48 _

  ووردت في كيفية عتقه روايات أخرى ، منها : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : كاتب صاحبك .
  ( يقول سلمان : فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته على أن أغرس له ثلاثماية ودية ، وعلى أربعين أوقية من ذهب .
  ( فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أعينو أخاكم بالنخل بالخمس والعشر حتى اجتمع لي ، فقال لي : نقر لها ولا تضع منها شيئاً حتى أضعه بيدي ، ففعلت ) (1) ( فغرسها رسول الله كلها بيده المباركة إلا واحدة غرسها عمر ، فأطعم كل النخل من عامه إلا تلك الواحدة ، فقطعها صلى الله عليه وآله وسلم ثم غرسها فأطعمت ) (2)
  وبقي الذهب ، فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابه من بعض المعادن ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ادع سلمان المسكين الفارسي المكاتب فلما دعي له ، قال : أد هذه .
  قال سلمان ، فقلت : يا رسول الله أين تقع هذه مما علي ؟
  وكان سلمان يقول : ( أعانني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيضة من ذهب ، فلو وزنت بأحد لكانت أثقل منه ) (3)

---------------------------
(1) أسد الغابة 2 / 330 .
(2) شذرات الذهب 1 / 44 وفي شرح النهج 18 / 35 فقال رسول الله من غرسها ؟ قيل : عمر ، فقلعها وغرسها الخ ...
(3) أسد الغابة 2 / 330 .

سَـلمـان سـابق فـارس _ 49 _

الروايات الواردة حول إسلامه
* رواية اكمال الدين
* رواية ابن أبي الحديد ( شرح النهج )
* رواية ابن الأثير ( أسد الغابة )
* رواية الحاكم النيشابوري المختصرة
* روايته الثانية

سَـلمـان سـابق فـارس _ 51 _

  رواية : إكمال الدين عن علي بن مهزيار ، عن أبيه ، عمن ذكره ، عن موسى بن جعفر عليه السلام : (1) قال : قلت يا ابن رسول الله ، ألا تخبرنا كيف كان إسلام سلمان ؟ فقال : حدثني أبي عليه السلام ، أن أمير المؤمنين قال لسلمان ، يا أبا عبد الله ، ألا تخبرنا بمبدأ أمرك ؟
  فقال له : لو غيرك سألني ، ما أخبرته ، أنا رجل من أهل شيراز ، من أبناء الدهاقين ، وكنت عزيزاً على والديَّ ، فبينا أنا سائر مع أبي في عيدٍ لهم ، إذا أنا بصومعةٍ ، وإذا فيها رجل يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن عيسى روح الله ، وأن محمداً حبيب الله ! فرسخ وصف محمد في لحمي ودمي ، فلم يهنئني طعام ولا شراب .
  فقالت لي أمي : ما لك اليوم لم تسجد لمطلع الشمس ؟ قال: فكابرتها حتى سكتت ، فلما انصرفت إلى منزلي ، إذا أنا بكتاب معلق بالسقف ، فقلت لأمي : ما هذا الكتاب ؟
---------------------------
(1) إكمال الدين / 159 إلى 164 وحقائق الإيمان ص : 192 .