ثابت في القرآن الكريم ، قال سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا استَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) (1) وهذا هو الاَصل الثابت في الاِسلام ، وأمّا كيفية الدفاع فلم يرد فيها دليل خاص ، بل أوكله الشارع إلى مقتضيات الزمان فالتزوّد بالاَسلحة الحديثة كالسفن الحربية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع ليس بدعة ، بل تجسيد للاَصل الثابت في الشرع أعني : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا استَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) ،فهذا النوع من التسليح ورد في الشرع أصله وإن لم يرد بخصوصياته.
  ب ـ حثّ الاِسلام على الاِحسان إلى اليتامى والمساكين والرأفة بهم والعطف عليهم وحفظ أموالهم بيد انّ هذا الاَمر الكلي الذي جاء في الشرع له أساليب مختلفة تُجاري مقتضيات كلّعصر ومصر وإمكانياتهم المتاحة ، فاللازم امتثال ما ندب إليه الشرع ، أعني : الاَصل الكلي ، وأمّا تبيين كيفيته فمتروك إلى المستجدات الزمانية.
  ج ـ ندب الشرع المقدس إلى التربية والتعليم ومكافحة الاَُميّة ولا شكّ انّ لهذا الاَمر الكلي أشكالاً وألواناً مختلفة تتبدل حسب تبدل الظروف حيث كانت التربية والتعليم في العصور السابقة تتحقق من خلال الكتابة بالقصب والدواة ، وجلوس المتعلم للاستماع إلى معلّمه ، إلاّانّ ذلك تطور اليوم إلى أساليب جديدة تستخدم فيها الاَجهزة المتطورة كالاذاعة والتلفزة والكومبيوتر

--------------------
(1) الاَنفال | 60.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 137 _
  والاشرطة إلى غيرها من وسائل التعليم الحديثة.
  إنّ الشارع المقدس لا يخالف هذا التطور ولا يمنع من استخدام الاَجهزة والاَساليب الحديثة ، وإنّما أمر بالتعليم والتعلم ، وترك اتخاذ الاَساليب إلى الظروف والمقتضيات.
  ولو كان أصرّ على اتخاذ كيفية خاصة ، لفشل في هدفه المقدس ولفقد مبرّرات خلوده واستمراره ، لاَنّ الظروف ربما لا تناسب الاَداة الخاصة التي يقترحها والكيفية الخاصة التي يحددها.
  3 ـ ما إذا قام به إنسان باسم الدين وكان أمراً حديثاً ليس له مثيل في السابق ولم يكن له أصل كلي يعضده ويسوغه ويضفي عليه الشرعية.
  فهذه هي البدعة المصطلحة المحرمة على الاِطلاق ، فمن حاول تغيير الاَذان والاِقامة بتنقيص أو زيادة أو زاد في الصلاة أو نقص منها ونسب كلّ ذلك إلى الشرع فهو بدعة محرمة.
  وبالجملة من أراد التدخل في الشريعة الاِسلامية في عباداتها ومعاملاتها وسياساتها بأن ينسب إليها ما ليس منها أو لم يعلم انّه منها فقد أبدع وافتَرى على اللّه الكذب.
  الاحتفال بمواليد الاَنبياء والاَئمّة والصالحين وممّا ذكرنا يعلم حكم الاحتفال بمواليد الاَنبياء والاَئمّة

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 138 _
  والصالحين الذين لهج الكتاب والسنة بمدحهم ، فانّ الاحتفال على النحو الرائج لم يرد في الشرع بخصوصه ولكن ورد الاَصل الكلي الذي يسوِّغ هذا الاحتفال ويضفي عليه الشرعية .
  فقد أمر الكتاب والسنة بحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووده أوّلاً و تكريمه وتوقيره ثانياً ، وحثّ عليهما في الشريعة قال سبحانه : ( قُلْإِنْ كانَ آباوَُكُمْ وَأَبْناوَُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشيرَتُكُمْ وَأَموالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الْفاسِقينَ ) (1) .
  1 ـ وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا يوَمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين (2) .
  2 ـ قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : والذي نفسي بيده لا يوَمن أحدكم حتى أكون أحبَّ الناس إليه من والده وولده (3) .
  3 ـ قال رسول اللّه (ص) : ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الاِيمان وطعمه : أن يكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما وأن يحب في اللّه ، ويبغض في اللّه ، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك باللّه شيئاً (4) .

--------------------
(1) التوبة | 24.
(2) جامع الاَُصول : 1|237 ـ 238 برقم 20 و 21 و 22.
(3) جامع الاَُصول : 1|237 ـ 238 برقم 20 و 21 و 22.
(4) جامع الاَُصول : 1|237 ـ 238 برقم 20 و 21 و 22.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 139 _
  وعلى ضوء ذلك فاقامة الاحتفالات والمهرجانات في مواليدهم والقاء الخطب والقصائد في مدحهم وذكر منزلتهم في الكتاب والسنة تجسيد للحبِّ الذي أمر اللّه ورسوله به ، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالحرام ، ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبيص في أيّ قرن من القرون فقد انطلق من هذا المبدأ أي حبّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي أمر به القرآن والسنة .
  هذا هو موَلف ( تاريخ الخميس ) يقول في هذا الصدد : لا يزال أهل الاِسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويُظهرون السرور ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الشريف ويظهر عليهم من كراماته كلّفضل عظيم (1) .
  وقال القسطلاني : ولا زال أهل الاِسلام يحتفلون بشهر مولده ص يعملون الولائم ، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويظهرون السرور ، ويزيدون المبرات ، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم ... فرحم اللّه امرءٍ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشد علّة على من في قلبه مرض وأعياه داء (2) .

--------------------
(1) تاريخ الخميس : 1|323 للديار بكري.
(2) المواهب اللدنية : 1|27.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 140 _
9 ـ البكاء على الميت
  الحزن والتأثر عند فقدان الاَحبة أمر جُبلت عليه الفطرة الاِنسانية فإذا ابتلي بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه يحس بحزن شديد يتعقبه ذرف الدموع على وجناته ، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه.
  ولا أجد أحداً ينكر هذه الحقيقة إنكار جدٍ وموضوعية ومن الواضح بمكان انّ الاِسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.
  قال سبحانه : ( فَأَقِمْوَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها ) (1) .
  ولا يمكن لتشريع عالمىٍّ أن يحرم الحزن والبكاء على فقد الاَحبة ويحرم عليه البكاء إذا لم يقترن بشيء يغضب الرب.
  ومن حسن الحظ نرى انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة.
  وهذا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبكي على ولده إبراهيم ، ويقول : ( العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ) (2) .

--------------------
(1) الروم | 30.
(2) سنن أبي داود : 1|58 ، سنن ابن ماجة : 1|482.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 141 _
  روى أصحاب السِّيَر والتاريخ ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي ، جاء ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فوجده في حجر أُمّه ، فأخذه ووضعهُ في حجره ، وقال : ( يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئاً ـ ثمّ ذرفت عيناه وقال : ـ إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، ولولا أنّه أمرٌ حقٌّ ووعدٌ صدقٌ وأنّها سبيل مأتيّة لحزَنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا ).
  ولمّا قال له عبد الرحمان بن عوف : أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ أجاب بقوله : ( لا ، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين ، صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان ، وصوت عن نغمة لهو ، وهذه رحمة ، ومن لا يَرحم لا يُرحَم ) (1) .
  وليس هذا أوّل وآخر بكاء منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند ابتلائه بمصاب أعزّائه ، بل كان( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكي على ابنه ( طاهر ) ويقول : ( إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب والقلب يحزن ولا نعصي اللّه عزّ وجلّ ) (2) .
  وقد قام العلاّمة الاَميني في موسوعته الكبيرة ( الغدير ) بجمع موارد كثيرة بكى فيها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والصحابة والتابعون على موتاهم وأعزّائهم عند افتقادهم ، وإليك نصّ ما جاء به ذلك المتتبع الخبير.
  وهذا هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمّا أُصيب حمزة ـ رضي

--------------------
(1) السيرة الحلبية : 3|348.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي : 3|8.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 142 _
  اللّه عنه ـ وجاءت صفيّة بنت عبد المطلّب ـ رضي اللّه عنها ـ تطلبه فحال بينها و بينه الاَنصار ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : دعوها ، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإذا نشجت نَشَجَ ، وكانت فاطمة (عليها السلام) تبكي ، ورسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلّما بكت يبكي ، و قال : لن أُصاب بمثلك أبداً (1) .
  ولمّا رجع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أُحد بكت نساء الاَنصار على شهدائهن ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : لكن حمزة لا بواكي له ، فرجع الاَنصار فقالوا لنسائهم : لا تبكين أحداً حتّى تبدأن بحمزة ، قال : فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميّتاً إلاّ بدأن بحمزة (2) .
  وهذا هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينعي جعفراً ، وزيد بن حارثة ، وعبد اللّهبن رواحة ، وعيناه تذرفان (3) .
  وهذا هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زار قبر أُمّه وبكى عليها وأبكى من حوله (4) .
  وهذا هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت ودموعه تسيل على خدّه (5) .
  وهذا هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبكي على ابن لبعض

--------------------
(1) امتاع المقريزي : ص 154.
(2) مجمع الزوائد : 6|120.
(3) صحيح البخاري : كتاب المناقب في علامات النبوّة في الاِسلام ، سنن البيهقي : 4|70.
(4) سنن البيهقي : 4|70 ، تاريخ الخطيب البغدادي : 7|289.
(5) سنن أبي داود : 2|63 ، سنن ابن ماجة : 1|445.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 143 _
  بناته ، فقال له عبادة بن الصامت : ما هذا يا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : الرحمة التي جعلها اللّه في بني آدم وإنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء (1) .
  وهذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتقول : يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه (2) .
  وهذه هي ـ سلام اللّه عليها ـ وقفت على قبر أبيها الطاهر ، وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها وبكت وأنشأت تقول :

مـاذا على مَن شمَّ تربة أحمد      ن لا يشمَّ مدى الزمان iiغواليا
صُـبّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها      صُبّت على الاَيّام صِرن لياليا
  وهذا أبو بكر بن أبي قحافة يبكي على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويرثيه بقوله :
يا عين فابكي ولا تسأمي      وحُـقَّ البكاء على السيّد
  وهذا حسّان بن ثابت يبكيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويقول :
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت      عـيونٌ ومثلاها من الجفن iiأسعد
--------------------
(1) سنن أبي داود :2|58 ، سنن ابن ماجة :1|481.
(2) صحيح البخاري ، باب مرض النبي ووفاته ، مسند أبي داود : 2|197 ، سنن النسائي : 4|13 ، مستدرك الحاكم :3|163 ، تاريخ الخطيب :6|262.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 144 _
  ويقول :
يُبكّون  من تبكي السّماوات iiيومه      ومن قد بكته الاَرض فالناس أكمد
  ويقول :
يا عين جودي بدمع منك إسبال      ولا  تـملنَّ مـن سحّ iiوإعوال
  وهذه ( أروى ) بنت عبد المطّلب تبكي عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وترثيه بقولها :
ألا يا عين ! ويحكِ iiأسعديني      بدمعك  ما بقيت iiوطاوعيني
ألا يا عين ! ويحك واستهلّي      عـلى نور البلاد iiواسعديني
  وهذه عاتكة بنت عبد المطّلب ترثيه وتقول :
عينيَّ  جودا طوال الدّهر iiوانهمِرا      سـكباً  وسـحّاً بدمع غير iiتعذير
يا عين فاسحنفري بالدَّمع واحتفلي      حـتّى الممات بسجل غير iiمنذور
يـا عين فانهملي بالدّمع واجتهدي      لـلمصطفى  دون خلق الله بالنور

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 145 _
  وهذه صفيّة بنت عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقول :
أفـاطمُ بـكّي ولا تـسأمي      بـصحبك  ما طلع الكوكبُ
هو المرء يُبكى وحقّ البكاء      هـو الـماجد السيّد iiالطيِّب
  وتقول :
أعينيّ ! جودا بدمع iiسجْم      يـبادر غـرباً بما iiمنُهدمْ
أعينيّ ! فاسحنفرا وأسكبا      بـوجدٍ وحزنٍ شديد iiالاَلمْ
  وهذه هند بنت الحارث بن عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه وتقول :
يا عين جودي بدمع منك وابتدري      كـما تـنزّل مـاء الغيث iiفانثعبا
  وهذه هند بنت أثاثة ترثيه وتقول :
ألا يا عين ! بكّي لا تملّي      فقد بكر النعيُّ بمن هويتُ
  وهذه عاتكة بنت زيد ترثيه وتقول :
وأمست مراكبه أوحشت      وقـد كان يركبها iiزينها
وأمست تُبكّي على iiسيِّد      تـردَّد  عـبرتها iiعينها


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 146 _
  وهذه أُمّ أيمن ترثيه( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقول :
عـين جودي فإنّ بذلك iiللدم      ع  شـفاء فاكثري من iiبكاء
بـدموع  غزيرة منك iiحتّى      يقضي الله فيك خير القضاء
  وهذه عمّة جابر بن عبد اللّه جاءت يوم أُحُد تبكي على أخيها عبد اللّه بن عمر ، وقال جابر : فجعلتُ أبكي وجعل القوم ينهوني ورسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا ينهاني ، فقال رسول اللّه (ص) : أبكوه ولا تبكوه فواللّه ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى دفنتموه (1) .
  نعم روي عن عمر بن الخطّاب وعبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( إنّ الميّت يعذَّب ببكاء أهله ) (2) .
  أقول : إنّ ظاهر هذا الحديث يخالف فعل الخليفة في مواطن كثيرة أثبتها التاريخ.
  منها : أنّه بكى على النعمان بن مقرن المزني لَمّا جاءه نعيه فخرج ونعاه إلى الناس على المنبر ووضع يده على رأسه يبكي (3) .
  ومنها : بكاوَه على خالد بن الوليد عند ما مات وامتنعت النساء

--------------------
(1) الغدير :6|164 ـ 167.
(2) صحيح مسلم :3|41 ـ 44 ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
(3) العقد الفريد لابن عبد ربّه الاَندلسي :3|235.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 147 _
  من البكاء عليه ، فلما انتهى ذلك إلى عمر ، قال : و ما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهنّ على أبي سليمان ما لم يكن لغواً ولا لقلقة (1) .
  ومنها : بكاوَه على أخيه زيد بن الخطّاب ، وكان صحبه رجل من بني عدي بن كعب فرجع إلى المدينة فلمّا رآه عمر دمعت عيناه ، وقال : وخلّفت زيداً قاضياً وأتيتني (2) .
  فالبكاء المتكرّر من الخليفة يهدينا إلى أنّ المراد من الحديث ـ لو صحّ سنده ـ معنى آخر ، كيف وأنّ ظاهر الحديث لو قلنا به فإنّه يخالف الذكر الحكيم ، أعني قوله سبحانه : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (3) .
  فأيّ معنى لتعذيب الميّت ببكاء غيره عليه !!

فقه الحديث
  كلّهذه النقول توقِفنا على أنّ المراد من الحديث ( إنّ الميّت يعذَّب ... ) ـ إن صحّ سنده ـ غير ما يفهم من ظاهره ، وقد كان محتفّاً بقرائن سقطت عند النقل ، ولاَجل ذلك توهّم البعض حرمة البكاء على الميّت استناداً إلى هذا الحديث ، غافلاً عن مرمى الحديث ومغزاه.
  أخرج مسلم في صحيحه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال :

--------------------
(1) العقد الفريد :3|235.
(2) المصدر نفسه.
(3) فاطر | 18.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 148 _
  ذُكر عند عائشة قول ابن عمر : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت : رحم اللّه أبا عبد الرحمن ، سمع شيئاً فلم يحفظه إنّما مرّت على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جنازة يهودي ، وهم يبكون عليه ، فقال : أنتم تبكون وانّه ليعذب (1) .
  وأخرج أبو داود في سننه عن عروة عن عبد اللّهبن عمر قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ الميّت ليعذَّب ببكاء أهله عليه ، فذكر ذلك لعائشة فقالت ـ وهي تعني ابن عمر ـ : إنّما مرّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على قبر يهودي فقال : إنّ صاحب هذا ليُعذَّب وأهله يبكون عليه.
  ثمّ قرأت ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (2) .
  قال الشافعي : ما روت عائشة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أشبه أن يكون محفوظاً عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدلالة الكتاب والسنّة ، فإن قيل : فأين دلالة الكتاب ؟ قيل : في قوله عزّوجلّ : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ... ) و ( وَأَنْ لَيْسَ لِلاِِْنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) (3) وقوله : ( فَمَنْ يعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ ) (4) وقوله : ( ... لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (5) فإن قيل : أين دلالة السنّة ؟ قيل : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لرجل : ابنك هذا ؟ قال : نعم ، قال : أما أنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه.

--------------------
(1) صحيح مسلم :3|44 ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
(2) سنن أبي داود :3|194 ، برقم 3129.
(3) النجم | 39.
(4) الزلزلة | 7 ـ 8.
(5) طه | 15.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 149 _
  فأعلم رسول اللّه مثلما أعلم اللّه من أنّ جناية كلّ امرىَ عليه ، كما أنّعمله لا لغيره ولا عليه ) (1) .
  وأخرج مسلم عن ابن عباس : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : انّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه ، فقال ابن عباس : فلمّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة ، فقالت : يرحم اللّه عمر ، لا واللّه ما حدّث رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انّ اللّه يعذّب الموَمن ببكاء أحد ولكن قال : انّ اللّه يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، قال : وقالت عائشة : حسبكم القرآن : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (2) .
  وما أخرجه مسلم عن هشام بن عروة هو الحقّ دون ما أخرجه عن ابن عباس لاَنّ تعذيب الكافر ببكاء أهله عليه أيضاد يضاد الذكر الحكيم.

--------------------
(1) اختلاف الحديث بهامش كتاب الاَُمّ للشافعي : 7|267.
(2) صحيح مسلم : 3|43 ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 150 _
10 ـ الحلف على اللّه بحقّ الاَولياء
  إنّ القرآن الكريم يصف بعضَ عبادِ اللّه ، بقوله : ( الصّابِرينَ وَالصّادِقينَ وَالقانِتينَ وَالمُنْفِقينَ وَالمُسْتَغْفِرينَ بِالاََسْحار ) (1) .
  فلو أنّ أحداً قام في آناء الليل وصلّى ناشئته ثمّ ابتهل إلى اللّه متضرعاً ، و قال : ( اللّهمّ إنّي أسألُكَ بِحقِّ الْمُستَغْفِرينَ بالاَسحار اغفر لي ذنبي ) فهل يجوز ذلك أو لا ؟
  يمكن استكشاف الحكم من الاَحاديث المروية عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاَئمّة الاَطهار.
  1 ـ قد أخرج الترمذي وابن ماجة والاِمام أحمد عن عثمان بن حنيف : انّ رجلاً ضريراً أتى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : أُدعو اللّه أن يعافيني ، ثمّ نقَلوا أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمره أن يتوضّأ ويُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعوا بهذا الدعاء : ( اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي ّالرحمة ، يا محمّد إنّي

--------------------
(1) آل عمران | 17.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 151 _
  أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى اللّهمّ شفّعه في ) (1) .
  2 ـ وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الدعاء التالي : ( اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك وأسألك بحقّ ممشاي هذا ) (2) .
  3 ـ أخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول اللّه : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما اقترف آدم الخطيئة رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحقّ محمّد الا غفرت لي (3) .
  4 ـ أخرج الحاكم في مستدركه ، و الطبراني في معجمه الاَوسط ، وأبو نعيم في حلية الاَولياء ، عن أنس بن مالك ، انّه لما ماتت فاطمة بنت أسد ، حفروا قبرها ، فلما بلغوا اللحد ، حفره رسول اللّه بيده ، وأخرج ترابه بيده ، فلما فرغ ، دخل رسول اللّه فاضطجع فيه ، وقال : اللّه الذي يحيي و يميت ، وهو حيّ لا يموت ، اغفر لاَُمّي فاطمة بنت أسد ، ولقِّنها حجَّتها ووسِّع عليها مَدْخَلها بحقّ نبيّك والاَنبياء الذين من قبلي فانّك أرحم الرحمين (4) .

--------------------
(1) صحيح الترمذي5 ، كتاب الدعوات ، الباب 119 برقم 3578 ، سنن ابن ماجه :1|441 برقم 1385 ، مسند أحمد :4|138 ، إلى غير ذلك من المصادر ، وقد مرّ في مبحث التوسل.
(2) سنن ابن ماجة : 1|256 برقم 778 ، باب المساجد ، مسند أحمد :3|21.
(3) البيهقي : دلائل النبوة : 5|489.
(4) الحاكم : المستدرك : 3|108 ، الطبراني ، المعجم الاَوسط : 356 ، حلية الاَولياء : 3|121.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 152 _
  إنّ هذه الاَدعية وإن خلت من لفظ القسم بعينه إلاّ انّها تضمنت معنى القسم لوجود باء القسم فيها فكأنّما يقول : اللّهمّ إنّي أسألك بحقّالسائلين عليك أي أُقسمك بحقّهم.
  وقد ورد الحلف على اللّه بحقّ الاَولياء في غير واحد من أدعية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أعدال الكتاب وقرناوَه بنصّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث قال : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي ) (1) .
  يقول الاِمام الطاهر الحسين بن علي (عليهما السلام) في دعاء يوم عرفة و هو يناجي ربّه : ( بحقّ من انتخبت من خلقك ، و بِمَن اصطفَيتَه لنفسك ، بِحقِّ من اخترتَ من بريّتك ، ومن اجتبيتَ لشأنك ، بحقِّ من وصلتَ طاعتَه بطاعتك ، وبحقّ من نيَّطت معاداته بمعاداتك (2) .
  لما زار الاِمام الصادق (عليه السلام) مرقد جدّه الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) دعا في ختام الزيارة بقوله : اللّهمّ استجب دعائي ، واقبل ثنائي ، وأجمع بيني وبين أوليائي ، بحقِّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ) (3) .
  وهذه الاَدعية عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تدلّ على جواز الحلف على اللّه بحقّ أوليائه الصالحين.

--------------------
(1) حديث متواتر عن كلا الفريقين.
(2) ابن طاووس : الاقبال : 309.
(3) الطوسي : مصباح المتهجد : 682.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 153 _
سوَال وإجابة
  ربما يقال : انّ المسألة بحقّ المخلوقين غير جائز لاَنّه لا حقّ للمخلوق على الخالق.
  والجواب أوّلاً : انّهذا اجتهاد في مقابل النص الصريح ، إذ لو لم يكن للمخلوق حقّ في ذمة الخالق ، فلماذا أقسم النبي آدم (عليه السلام) والنبي محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على اللّه بالحقوق ، الواردة في الروايات ؟
  وثانياً : انّه سبحانه يُثبت لعباد اللّه الصالحين حقوقاً في ذمته ، ويقول : ( وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُوَْمِنينَ ) (1) ، ( وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً في التَّوارةِ وَالاِِنْجيل ) (2) ( كَذلِكَ حَقّاً عَلَيْنا نُنْجِ الْمُوَْمِنينَ ) : (3) ( إِنّما التَّوبَةُ عَلى اللّهِ للَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة ) (4) .
  وثمة مجموعة من الروايات تشير إلى وجود الحقّ للمخلوق في ذمة الخالق ، وإليك نماذج منها :
  1 ـ ( حقّ على اللّه عون من نكح التماس العفاف ممّا حرم اللّه ) (5) .
  2 ـ قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ثلاثة حقّ

--------------------
(1) الروم | 47.
(2) التوبة | 111.
(3) يونس | 103.
(4) النساء | 17.
(5) الجامع الصغير للسيوطي :2|33.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 154 _
  على اللّه عونُهم : الغازي في سبيل اللّه ، والمكاتب الذي يريد الاَداء ، والناكح الذي يريدالتعفف ) (1) .
  3 ـ ( أتدري ما حق ّالعباد على اللّه ) (2) .
  نعم من الواضح انّه ليس لاَحد بذاته حقّ على اللّه تعالى ، حتى لو عبد اللّه قروناً طويلة ، لاَنّ كلّما للعبد من حول و قوة ، ونعمة فهو للّه تعالى فلم يُبذل العبد شيئاً من نفسه في سبيل اللّه حتى يستحق بذاته الثواب.
  فإذاً فما معنى الحقّ ؟
  والجواب : انّ المقصود من الحقّ في هذه الاَدعية أو الاَحاديث هو المنزلة التي يمنحها اللّه لعباده مقابل طاعتهم وانقيادهم ، لكن بتفضّل وعناية منه ، لا بإستحقاق من العبد ، فالحقّ الذي يُقسَم به على اللّه حق ، جعله اللّه على ذمته لا انّالعبد استحق حقاً على اللّه ، ونظير هذا استقراضه سبحانه من عبده ، يقوله : ( مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (3) .
  إنّهذا التعبير نابع من لطفه سبحانه وعنايته الفائقة بعباده الصالحين حتى يعتبر ذاته المقدسة مديوناً لعباده ، وعبادَه دُيّاناً أصحاب الحق ، ففي هذا الاَمر من الترغيب والتشجيع إلى طاعة اللّه ما لا يخفى .

--------------------
(1) سنن ابن ماجة :2|841.
(2) النهاية لابن الاَثير : مادة حق.
(3) البقرة | 245.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 155 _
11 ـ الحلف بغير اللّه
  هل يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه كالحلف بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و القرآن والكعبة وغيرها من المقدسات أو لا ؟
  عندما نستنطق القرآن في ذلك ، نرى انّه سبحانه حلف في سورة الشمس وحدها بثمانية أشياء من مخلوقاته هي : الشمس ، ضحاها ، القمر ، النهار ، الليل ، السماء ، الاَرض ، والنفس الاِنسانية (1) .
  وكذلك ورد الحلف بغير اللّه في سورة النازعات والمرسلات والطارق والقلم والعصر والبلد وإليك نماذج من الحلف بالمخلوق في غير تلك السور.
  ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون * وَطُورِسينينَ * وَهذا البَلَدِ الاََمين ) (2) .
  ( وَاللَّيلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى ) (3) .
  ( وَالْفَجْرِ * وَليالٍ عَشْرٍ * والشَّفعِ وَالوَتْر * واللَّيلِ إِذا يَسْر ) (4) .

--------------------
(1) الشمس | 1 ـ 7.
(2) التين | 1 ـ 3.
(3) الليل | 1 ـ 2 .
(4) الفجر | 1 ـ 4 .

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 156 _
  ( وَالطُّورِ * وَكِتابٍ مَسْطُور * في رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْت ِالْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) (1) .
  ( لَعَمْرُكَ إنّهم لَفِي سَكْرَتهِمْ يَعْمَهُون ) (2) .
  فلو كان الحلف بغير اللّه شركاً وأمراً قبيحاً ، فكيف يصدر منه سبحانه وقد وصف الشرك بالفحشاء ، وقال : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (3) .
  والقبيح قبيح مطلقاً دون فرق بين ارتكابه من قِبل الخالق أو المخلوق ، وهذا يُعرب عن أنّ الحلف بغير اللّه سبحانه إذا كان لغاية عقلائية أمر لا محذور فيه.
  ثمّ إنّ الغاية ـ غالباً ـ من حلفه سبحانه بالاَُمور الكونية هي الاِشارة إلى الاَسرار المكنونة فيها ودعوة الناس إلى الامعان فيها وكشف رموزها ، ولكن الغاية في حلف الاِنسان بالذوات القدسية ـ وراء الاشارة إلى قدسيّتهم ـ هي امّا الترغيب أو الترهيب أو كسب ثقة المقابل.
  وإذا عطفنا النظر إلى السنة النبوية نجد انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يحلف

--------------------
(1) الطور| 1 ـ 6.
(2) الحجر | 72.
(3) الاَعراف | 28.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 157 _
  بغير اللّه سبحانه.
  أخرج مسلم في صحيحه : عن أبي هريرة ، قال : "جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً ؟ فقال : أما ـ وأبيك ـ لتنبّأنّه أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ) (1) .
  وأخرج أيضاً عن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : "جاء رجل إلى رسول اللّه ـ من نجد ـ يسأل عن الاِسلام ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : خمس صلوات في اليوم والليل.
  فقال : هل عليَّ غيرهن ؟
  قال : لا ... الا أن تطوع ، وصيام شهر رمضان.
  فقال : هل عليَّ غيرها ؟
  قال : لا ... الا ان تطوع ، وذكر له رسول اللّه الزكاة.
  فقال الرجل : هل عليّ غيره ؟
  قال : لا ... الا أن تطوع.
  فأدبر الرجل وهو يقول : واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
  فقال رسول اللّه : أفلح ـ و أبيه ـ (2) إن صدق.

--------------------
(1) صحيح مسلم : 3|94 ، باب أفضل الصدقة من كتاب الزكاة.
(2) أي : قسماً بأبيه ، و (الواو) للقسم.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 158 _
  أو قال : دخل الجنة ـ وأبيه ـ إن صدق (1) .
  وثمةأحاديث أُخرى طوينا الكلام عن ذكرها مخافة الاطالة.

سوَال وجواب
  أخرج النسائي في سننه ، عن ابن عمر : انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : من حلف بغير اللّه فقد أشرك (2).
  ومعه كيف يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه ؟
  والجواب : انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشير في قوله هذا إلى نوع خاص من الحلف الرائج في ذلك العصر وهو الحلف بالاَصنام كاللات والعزّى ، ويدل على ذلك ما أخرجه النسائي أيضاً في سننه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : ( من حلف ، فقال في حلفه باللات والعزّى ، فليقل لا إله إلاّ اللّه ) (3) .
  وأخرج أيضاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمّهاتكم ولا بالاَنداد (4) .
  إنّ الحديث الاَوّل يكشف عن انّ رواسب الجاهلية ما زالت عالقة في بعض النفوس ، فكانوا يحلفون بأصنامهم ، فأمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقولوا بعد الحلف ( لاإله إلاّ اللّه ) ، لاَجل القضاء على تلك الخلفيات.

--------------------
(1) صحيح مسلم : 1|32 ، باب (الاِسلام ما هو و بيان خصاله) من كتاب الاِيمان.
(2) سنن النسائي :7|8.
(3) سنن النسائي :7|8.
(4) سنن النسائي :7|8.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 159 _
  كما انّ الحديث الثاني يشير إلى انّ وجه المنع عن الحلف بالآباء والاَُمّهات لشركهم ويوَيد ذلك اقترانها بقوله ولا بالانداد ، والمراد منها هي الاَصنام والاَوثان.
  ويظهر من كثير من الفقهاء جواز الحلف بغير اللّه غير انّهم اختلفوا في وجوب الكفارة عند الحنث ، وهذا يعرب عن تصافقهم على جواز الحلف وإنّما الاختلاف في انعقاده وكفارته ، وإليك بعض النصوص : قال ابن قدامة : الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام اللّه يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها ، وبهذا قال ابن مسعود ، والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأبو عبيد وعامة أهل البيت.
  وقال أبو حنيفة : وأصحابه ليس بيمين ولا تجب به كفارة (1) .
  وقال ابن قدامة في موضع آخر : ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق والاَنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها ، وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء ، وقال أصحابنا : الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة (2) .
  نعم اتّفق الفقهاء على أنّه لا تفُضَّ الخصومات عند القاضي إلاّ بالحلف باللّه.

--------------------
(1) المغني : 11|193 ، كتاب اليمين.
(2) المصدر نفسه : 11|209.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 160 _
12 ـ تسمية المواليد بإضافة العبد إلى غير اللّه سبحانه
  لقد تعارف لدى المسلمين تسمية أولادهم بعبد الرسول وعبد الحسين وما ضاهاهما ويجمع الكلّ اضافته إلى أسماء الرسول وأئمّة الاِسلام.
  وربما وقع ذلك ذريعة للسوَال عن جوازه ، فنقول : تطلق العبودية ويراد منها أحد المعاني التالية :
  1 ـ العبودية هي التي تقابل الاَُلوهية ، وهي بهذا المعنى ناشئة من المملوكية التكوينية التي تعمّ جميع العباد ، ومنشأ المملوكية كونه سبحانه خالقاً ، والاِنسان مخلوقاً.
  وعلى ضوء ذلك فالعبودية إذا كانت رمزاً للمملوكية الناشئة من الخالقية ، فهي لا تضاف إلاّ إلى اللّه سبحانه كما يقول سبحانه : ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالاََرْضِ إِلاّ اتِى الرَّحمنِ عَبْداً ) (1) .
  وقال سبحانه حاكياً عن المسيح : ( إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبِيّاً ) (2) .

--------------------
(1) مريم | 93.
(2) مريم | 30.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 161 _
  2 ـ العبودية الوضعية الناشئة من غلبة إنسان على إنسان في الحروب وقد أمضاها الشارع تحت ظل شرائط معينة مذكورة في الفقه.
  فأمر الاسارى ـ الذين يقعون في الاَسر بيد المسلمين ـ موكول إلى الحاكم الشرعي فهو مخيّر بين إطلاق سراحهم بلا عوض أو بأخذ مال منهم أو استرقاقهم.
  فإذا اختار الثالث فيكون الاَسير عبداً للمسلم ، ولذلك ترى انّالفقهاء عقدوا باباً باسم ( العبيد والاماء ).
  قال سبحانه : ( وَأَنْكِحُوا الاََيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَليمٌ ) (1) .
  تجد انّه سبحانه ينسب العبودية والاِمائية إلى الذي يتملكونهم ويقول ( عبادكم وإمائكم ) فيضيف العبد إلى غير اسمه جلّ ذكره.
  3 ـ العبودية بمعنى الطاعة وبها فسرها أصحاب المعاجم (2) .
  وهذا هو المقصود من تلك الاسماء فيسمون أولادهم باسم عبد الرسول أي مطيع الرسول وعبد الحسين أي مطيعه وكلّمسلم مطيع للرسول والاَئمّة من بعده ولا شكّ انّه يجب إطاعة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأولي الاَمر .

--------------------
(1) النور | 32.
(2) لسان العرب : مادة عبد ، وكذلك القاموس المحيط في نفس المادة.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 162 _
  قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الاََمْرِ مِنْكُمْ ) (1) .
  فعرف القرآن النبي مطاعاً والمسلمين مطيعين ، ولا عتب على الاِنسان أن يظهر هذا المعنى في تسمية أولاده وأفلاذ كبده .
  نعم المسمى بعبد الرسول هو عبد للرسول و في الوقت نفسه عبد للّه أيضاً و لا منافاة بين النسبتين لما عرفت من انّ العبودية في الصورة الاَُولى هي العبودية التكوينية النابعة من الخالقية ولكنّها في الصورة الثانية ناجمة عن تشريعه سبحانه حيث جعل النبي مطاعاً وأمر الناس باطاعته وشتان ما بينهما.

--------------------
(1) النساء | 59.