2 ـ شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
كان الكلام في استحباب زيارة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للحاضر في المدينة ، وأمّا استحباب السفر للغائب عنها فيدل عليه أُمور :
الاَوّل : ما ورد في الاَحاديث من الحث على زيارة النبي ص ، فانّها بين صريح في الغائب أو مطلق يعمُّ المقيم والمسافر والحاضر والغائب.
فمن القسم الاَوّل ما رواه عبد اللّه بن عمر ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انّه قال : من جاءني زائراً لا تحمله إلاّزيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.
فهذا صريح في الغائب وغيره.
الثاني : سيرة النبيص فانّه كان يشدّ الرحال إلى زيارة قبور شهداء أُحد.
أخرج أبو داود عن ربيعة ـ يعني ابن الهُدير ـ عن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : خرجنا مع رسول اللّهص يريد قبور الشهداء حتى
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 62 _
إذاأشرفنا على حرّة واقم (1) فلما تدلّينا منها وإذاً بقبور بمحنية (2) قال : قلنا يا رسول اللّه : أقبور اخواننا هذه.
قال : قبور أصحابنا ، فلما جئنا قبور الشهداء ، قال : هذه قبور إخواننا (3) .
الثالث : إطباق السلف والخلف على شدّالرحال إلى زيارة النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لاَنّ الناس لم يزالوا في كلّعام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته و منهم من يفعل ذلك قبل الحج.
قال السبكي : هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الاَعصار القديمة ... وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الاَموال ، ويبذلون فيه المهج ، معتقدين انّ ذلك قربة وطاعة ، واطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الاَرض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ وكلّهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى اللّه عزّ وجلّ ، ومن تأخّر عنه من المسلمين فإنّما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه عليه وودّه لو تيسّر له ، و من ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطىَ.
--------------------
(1) الحرّة : الاَرض ذات الحجارة ، واقم : اُطم من اطام المدينة وإليه تنسب الحرّة.
(2) المحنية : انعطاف الوادي.
(3) سنن أبي داود : 2|218 برقم 2043 ، آخر كتاب الحج.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 63 _
وما ربما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لاَجل قصد عبادة أُخرى وهو الصلاة في المسجد ، باطل جداً ، فانّ المنازعة فيما يقصده الناس مكابرة في أمر البديهة ، فمن عرف الناس ، عرف انّهم يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة ، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلاّ ببال قليل منهم ، ولهذا قل القاصدون إلى البيت المقدس مع تيسر إتيانه ، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرف ، فالمقصود الاَعظم في المدينة ، الزيارة كما أنّ المقصود الاَعظم في مكة ، الحج أو العمرة وهو المقصود ، وصاحب هذا السوَال إن شكّ في نفسه فليسأل كلّ من توجه إلى المدينة ما قصد بذلك ؟ (1)
الرابع : انّه إذا كانت الزيارة قربة وأمراً مستحباً على الوجه العام أو الخاص ، فالسفر وسيلة القربة ، والوسائل معتبرة بالمقاصد فيجوز قطعاً.
الخامس : ما نقله الموَرّخون عن بعض الصحابة والتابعين في هذا المجال.
1 ـ قال ابن عساكر : إنّبلالاً رأى في منامه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يقول له : ما هذه الجفوة يا بلال ، أما آن لك أن تزورني يا بلال ؟ فانتبه حزيناً ، وجلاً خائفاً ، فركب راحلته وقصد
--------------------
(1) شفاء السقام في زيارة خير الاَنام لتقي الدين السبكي :85 ـ 86 ، ط بولاق مصر ، وانظر الطبعة الرابعة : 211 ـ 212 بتلخيص.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 64 _
المدينة فأتى قبر النبي ص ، فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه ، وأقبل الحسن والحسين ـ رضي اللّه عنهما ـ فجعل يضمّهما ويقبلهما فقالا له يا بلال : نشتهي نسمع أذانك الذي كنت توَذن به لرسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، في السحر ففعل ، فعلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه ، فلمّا أن قال : ( اللّه اكبر ـ اللّه اكبر ) ارتجَّت المدينة ، فلما أن قال : ( أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ) ازدادت رجَّتها ، فلما أن قال : ( أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ) خرجت العواتق من خدورهن فقالوا : أبعث رسول اللّهص ؟! فما رُئي يوم أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول اللّه من ذلك اليوم (1) .
2 ـ انّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرىَ النبي السلام ثمّ يرجع (2) .
قال السبكي : فسفر بلال في زمن صدر الصحابة ، ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة ، لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبي ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك لا من أمر الدنيا ولا من أمر الدين ، لا من قصد المسجد ولا من غيره (3) .
3 ـ إنّ عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الاَحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه ، قال عمر له : هل لك أن تسير
--------------------
(1) تاريخ ابن عساكر : 7|137 في ترجمة إبراهيم بن محمد ، برقم 493.
(2) شفاء السقام ، ص 142 ، أخرجه البيهقي في شعب الاِيمان كما نقله في الصارم المنكي :246 ، لاحظ تعليقة شفاء السقام.
(3) شفاء السقام :143 ، ط الرابعة.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 65 _
معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتع بزيارته ؟ فقال لعمر : أنا أفعل ذلك ، ولما قدم عمر المدينة أوّل ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول اللّه (1).
4 ـ ذكر ابن عساكر في تاريخه ، وابن الجوزي في ( مثير الغرام الساكن ) ، بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وزرته وسلمت بحذائه ، فجاءه أعرابي فزاره ، ثمّ قال : يا خير الرسل انّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً ، قال فيه : ( وَلَو أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاستَغْفِرُوا اللّهَ وَاستْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوّاباً رَحيماً )(2) .
وإنّي جئتك مستغفراً ربّك ذنوبي ، مستشفعاً بك إلى اللّه ثمّ بكى وأنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والاكم نـفسي الفداء لقبر أنت iiساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وقد ذيله أبو الطيب أحمد بن عبد العزيز بأبيات وقال :
وفـيه شـمس التقى والدين قد iiغربت مـن بـعد ما أشرقت من نورها iiالظلم حـاشا لـوجهك أن يـبلى وقد iiهديت في الشرق والغرب من أنواره الاَُمم (3)
--------------------
(1) فتوح الشام ، ج 1 ،( صلى الله عليه وآله وسلم ) 148 ، باب فتح القدس.
(2) النساء | 64.
(3) شفاء السقام :151 ـ 152.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 66 _
سوَال و اجابة
وثمة سوَال وهو انّه إذا كان شدّ الرحال إلى زيارة القبور وبالاَخص زيارة قبر النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) جائزاً ، فما معنى هذا الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه ، وهو لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الاَقصى ؟
والجواب أوّلاً : انّ هذا الحديث وإن أخرجه مسلم ، لكنّه معارض بفعل النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث إنّه كان يشد الرحال إلى مساجد غير هذه الثلاثة.
فقدأخرج الشيخان في صحيحهما انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً فيصلي فيه (1) .
فكيف يجتمع هذا الحديث مع حديث النهي الذي لسانه آب عن التخصيص ، وهذا يدل على أنّ الحديث الاَوّل إمّا غير صحيح وعلى فرض صحته نقل محرّفاً.
والدليل على التحريف انّه نقل بوجه آخر أيضاً ، وهو إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء.
وأيضاً بصورة ثالثة تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد (2) .
--------------------
(1) صحيح مسلم : 4|127 ، صحيح البخاري :2|176.
(2) أورد مسلم هذه الاَحاديث في صحيحه :4|126 ، باب لا تشدّ الرحال من كتاب الحج وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي :2|37 ـ 38 ، وقد ذكر السبكي صوراً أُخرى للحديث هي أضعف دلالة على مقصود المستدللاحظ شفاء السقام :98.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 67 _
فعلى هذين الصورتين ليس هناك نهي عن شدّ الرحال إلى غير الثلاثة خصوصاً الصورة الثالثة ، وأقصى ما فيها الدعوة إلى السفر إلى هذه الثلاثة.
وثانياً : نفترض انّ الصحيح هو الصورة الاَُولى لكن المستثنى منه بقرينة المستثنى محذوف وهو لفظ المسجد ، فيكون معناه لا تشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى هذه المساجد الثلاثة ، فلو دلّ فإنّما يدل على النهي على شدّ الرحال إلى مسجد سوى المساجد الثلاثة ، وأمّا السفر إلى الاَماكن الاَُخرى فالحديث ساكت عنه غير متعرض لشيء من أحكامه ، فانّ النفي و الاِثبات يتوجهان إلى السفر إلى المسجد لا إلى الاَمكنة الاَُخرى ، كزيارة النبي ومشاهد الشهداء ومراقد الاَولياء.
وثالثاً : انّ الحديث لا يدل ـ حتى ـ على حرمة السفر إلى مسجد غير هذه الثلاثة ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في السفر إلى غيرها ، وذلك كما قاله الاِمام الغزالي : لاَنّ سائر المساجد متماثلة في الفضيلة بعد هذه المساجد فلا وجه لشدّ الرحال إلى غيرها وإنّما يشد الرحال إذا كان هناك تفاوت في الفضيلة (1) .
وأمّا شدّ الرحال إلى زيارة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أو الشهداء فيعلم ذلك ممّا قد أوردناه من الاَحاديث ، فإذا خرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة لزيارة قبورة الشهداء فأئمّة أهل البيت أئمّة الشهداء
--------------------
(1) احياء علوم الدين للاِمام الغزالي : 2|247.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 68 _
تجوز زيارتهم بطريق أولى ، انّ الاِمام أمير الموَمنين من أفضل الشهداء ، والحسين بن علي أبو الشهداء .
فسلام اللّه عليهم يوم ولدوا ويوم استشهدوا ويوم يبعثون أحياء.
وعلى كلّ حال فشدّ الرحال ، مسألة فقهية لا صلة لها بالمسائل العقائدية ولا بالشرك ولكلّ مجتهد دليله.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 69 _
3 ـ البناء على القبور
المراد من القبور في العنوان هو قبور الاَنبياء والشهداء والاَئمّة الاَولياء الذين لهم مكانة عالية في قلوب الموَمنين ، فهل هو أمر جائز أو لا ؟
وهذه المسألة كالمسألتين السابقتين لا تمت إلى العقيدة الاِسلامية بصلة حتى تكون ملاكاً للتوحيد والشرك ، وإنّما هي من المسائل الفقهية التي يدور أمرها بين الاِباحة والكراهة والاستحباب وغيرها.
ولا يصحّ لمسلم واع أن يتخذ تلك المسألة ذريعة للشرك والتكفير ، فكم من مسائل فقهية اختلفت فيها كلمة الفقهاء ، ومن حسن الحظ لم يختلف في هذه المسألة فقهاء الائمة الاَربعة ولا فقهاء المذهب الاِمامي ودليلهم على جواز البناء على قبور تلك الشخصيات عبارة عن سيرة المسلمين منذ رحيل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى يومنا هذا.
أ ـ وارى المسلمون جسد النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيته المسقف وحرصوا على بذل المزيد من العناية بحجرته الشريفة
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 70 _
بشتى الاَساليب ، وقد جاء ذكرها في الكتب التي ألفت في تاريخ المدينة لا سيما كتاب وفاء الوفاء للعلاّمة السمهوديّ (1) .
وشيّد البناء الموجود عام 1270 هـ وهو بحمد اللّه قائم لم يمسه السوء ، وسوف يبقى بفضل اللّه تبارك وتعالى محفوظاً مصوناً عن الاندثار ، فلو كان البناء على القبور أمراً حراماً لدفنه المسلمون في مكان واسع لا سقف فيه.
ب ـ انّ البناء على القبور كانت سيرة سائدة بين المسلمين من عصر الصحابة إلى يومنا هذا ، وهذه هي كتب الرَحَلات تذكر لنا وصف القبور الموجودة في المدينة التي كانت عليها قباب وعلى قبورهم صخرة فيها اسماوَهم ونحن نذكر من ذلك نزراً يسيراً :
1 ـ يقول المسعودي (المتوفّى 445 هـ) حول المشاهد والقباب في البقيع : وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع ، رخامة مكتوب عليها بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه مبيد الاَُمم ومحيي الرمم وهذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيدة نساء العالمين ، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، و محمد بن علي ، و جعفر بن محمد (2) .
2 ـ وذكر السبط ابن الجوزي (المتوفّى عام 654 هـ) في تذكرة
--------------------
(1) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى :2|458 ، الفصل التاسع.
(2) مروج الذهب ومعادن الجوهر :2|288.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 71 _
الخواص ص 311 نظير ذلك.
3 ـ كما وصف محمد بن أبي بكر التلمساني المدينة الطيبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله : وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترتفع إليه قليلاً عليه مكتوب هذا قبر الحسن بن علي دفن إلى جنب أُمّه فاطمة (عليها السلام) (1) .
4 ـ يقول الحافظ محمد بن محمود بن النجار (المتوفّى عام 643 هـ) في ( اخبار مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) : في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أوّل البقيع ، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة ( رضي اللّه عنهم ) (2) .
5 ـ ويقول ابن جبير الرحالة الطائر الصيت (المتوفّى عام 614 هـ) في رحلته في وصف بقيع الغرقد : يقع في مقابل قبر مالك قبر ، السلالة الطاهرة إبراهيم بن النبي عليها قبة بيضاء ، وعلى اليمين منها تربة ابن عمر ابن الخطاب ، وبازائه قبر عقيل بن أبي طالب (رض) وعبد اللّه بن جعفر الطيار (رض) ، وبازائهم روضة فيها أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن بن علي (رض) وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور ، وعن يمين الخارج منه ، ورأس الحسن إلى رجلي العباس
--------------------
(1) مجلة العرب ، رقم 5 ـ 6 ، الموَرخة 1393 هـ.
(2) اخبار مدينة الرسول اهتم بنشره صالح محمد جمال بمكة المكرمة عام 1366.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 72 _
وقبراهما مرتفعان عن الاَرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة ، أبدع الصاق ، مرصّعة بصفائح الصفر ، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة ، وأجمل منظر ، وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم بن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويعرف ببيت الحزن ... وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين وعليه قبة صغيرة مختصرة ، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ رضي اللّه عنها وعن بنيها (1) .
6 ـ وروى البلاذري انّه لما ماتت زينب بنت جحش سنة عشرين صلّى عليها عمر ، وكان دفنها في يوم صائف ، ضرب عمر على قبرها فسطاطا (2) .
ولم يكن الهدف من ضربه ذلك الفسطاط تسهيل الاَمر لمن يتعاطى دفنها ، بل لاَجل تسهيله لاَهلها حتى يتفيوَا بظله ، ويقرأوا ما يتيسر من القرآن والدعاء.
7 ـ يقول السمهودي (المتوفّى 911 هـ) في وصف بقيع الغرقد : قد ابتنى عليها مشاهد ، منها المشهد المنسوب لعقيل بن أبي طالب وأُمّهات الموَمنين ، تحوي العباس والحسن بن علي ... وعليهم قبة شامخة في الهواء ، قال ابن النجار : ... وهي كبيرة عالية ، قديمة البناء ،
--------------------
(1) رحله ابن جبير ، طبع بيروت ، دار صادر ، وقد زار ابن جبير المدينة المنورة عام 578 هـ.
(2) انساب الاَشراف : 1|436.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 73 _
وعليها بابان ، يفتح أحدهما في كلّيوم .
وقال المطري : بناها الخليفة الناصر أحمد بن المستضيء ... وقبر العباس وقبر الحسن مرتفعان من الاَرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع الصاق ، مصحفة بصفائح الصفر ، مكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر (1) .
إلى غير ذلك من الرحالة الذين زاروا المدينة المنورة ووصفوا تلكم المزارات و المشاهد و القباب المرتفعة ونظر الكل إليها بعين الرضا والمحبة لا بعين السخط والغضب.
وهذا النوع من الاتفاق والاِجماع من قبل علماء الاِسلام طيلة قرون أقوى شاهد على جواز البناء على قبور الشخصيات الاِسلامية الذين لهم منزلة ومكانة في القلوب.
ولنعم ما يقول العلاّمة العاملي :
مضت القرون وذي القباب iiمشيدة والـناس بـين مـؤسس iiومجدد في كلّ عصر فيه أهل الحل iiوال عـقد الـذين بـغيرهم لـم iiيعقد لـم يـنكروا أبداً على من iiشادها شـيدت ولا مـن مـنكر iiومفند فـبـسيرة لـلمسلمين iiتـتابعت في كل عصر نستدل ونقتدي (2)
البناء على القبور من منظار آخر
إنّ صيانة القبور والآثار الباقية من بيت الوحي والعصمة (عليهم السلام) من مظاهر حب النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتكريمه ، وقد أُمر المسلمون في الكتاب والسنّة بحبه وتكريمه و تبجيله ، قال سبحانه : ( قُلْ إِنْ كانَ آباوَكُمْ وَأَبْناوَُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشيرتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةً تَخْشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَونَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولهِوَجِهاد في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِي اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدي الْقَومَ الْفاسِقينَ )(1) .
وقال سبحانه في وصف الموَمنين : ( فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزُّروهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أنْزِلَمَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ )(2) .
فالآية الكريمة تأمر بأُمور أربعة :
1 ـ الاِيمان به.
2 ـ تعزيره.
3 ـ نصرته.
4 ـ اتباع كتابه وهو النور الذي أُنزل معه.
وليس المراد من تعزيره هو نصرته ، لاَنّه قد ذكره بقوله : ( نصروه ) وإنّما المراد توقيره ، وتكريمه وتعظيمه بما انّه نبيُّ الرحمة والعظمة ، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمها ، كما انّ الاِيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة.
وعلى هذا فحب النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن يمت إليه بصلة أصل إسلامي يجب أن يهتم به المسلمون ويطبقونه في حياتهم.
ولاَجل كرامة رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومنزلته يدعو الذكر الحكيم إلى تعظيمه في المجالس وحفظ كرامته ويقول : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصواتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبىِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون )(1) .
وقال أيضاً : ( إِنَّ الَّذينَ يَغُضُّونَ أَصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقوى )(2) .
وقال : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعضاً )(3) .
فأي إجلال أبلغ من هذا ، وأي تقدير أورع من هذا التقدير.
وليس الذكر الحكيم وحده هوالداعي والآمر بحب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل السنّة النبوية تضافرت على لزوم حبه.
قال رسول اللّه : ( لا يوَمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين )(1) .
وقد تواتر مضمون هذه الرواية عن النبي ص ، فمن أراد فليرجع إلى الكتب المعدة لهذا الغرض (2) .
مظاهر الحب
إنّ لهذا الحب مظاهر ومجالي ، إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الاِنسان وتصرفاته ، بل من خصائصه أن يظهر أثره على سلوك الاِنسان وملامحه.
1 ـ حب اللّه ورسوله لا ينفك عن اتّباع دينه والاستنان بسنّته والانتهاء عن نواهيه ، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه .
والاِتّباع أحد مظاهرالحبّ قال سبحانه : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )(3) فمن ادّعى الحب في النفس وخالف في العمل ، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.
--------------------
(1) صحيح البخاري : 1|8 ، باب حب الرسول من الاِيمان من كتاب الاِيمان.
(2) كنز العمال : 2 | 126.
(3) آل عمران | 31 .
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 77 _
وقد نسب إلى الاِمام الصادق (عليه السلام) البيتان التاليتان :
تـعصي الاِله وأنت تظهر iiحبَّه هـذا لـعمري في الفعال بديع لـو كـان حبك صادقاً iiلاَطعته انّ المحب لمن يحب مطيع (1)
2 ـ ومن مظاهر هذا الحب ، صيانة آثارهم وحفظ معالمهم والعناية بكلّ ما يتصل بهم حتى الاحتفاظ بما صلوا فيه من ألبسة أوشربوا منه الماء من أوان أو استخدموه من أشياء ، وتشييد مراقدهم ، وتعمير قبورهم ... كلّ ذلك انعكاس طبيعي لهذا الحب الكامن في النفوس والود المتمكن في القلوب.
وليس هذا أمراً مختصاً بالمسلمين ، بل الاَُمم المتحّضرة المعتزة بماضيها وتاريخها ، تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخي باق من الماضي وصيانة مراقد شخصياتهم العلمية .
وأخيراً نقول : لا شكّ انّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الاِسلامية لا سيما في مهد الاِسلام مكة ومهجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة المنوّرة ، نتائج ومضاعفات خطيرة على الاَجيال اللاحقة التي سوف لا تجد أثراً لوقائع التاريخ الاِسلامي ، وربما توَول إلى الاعتقاد بأنّ الاِسلام قضية مفتعلة وفكرة مبتدعة ليس لها جذور تاريخية ، تماماً كما أصبحت قضية السيد المسيح ( عليه السلام ) في نظر الغرب قضية اسطورية حاكتها أيدي البابوات والقساوسة ، لعدم
--------------------
(1) سفينة البحار ، مادة حب.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 78 _
وجود آثار ملموسة تدل على أصالة هذه القضية ووجودها التاريخي.
إيضاح حديث أبي هياج
بقي هنا سوَال وهو انّ مقتضى هذه الاَدلة وإن كان هو جواز البناء على القبور لكن الحديث العلويّ يمنعنا عنه وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هياج الاَسدي ، قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّسويته (1) .
والجواب : انّ الحديث يدل على لزوم تسطيح القبور مقابل تسنيمها ولا صلة له ببناء القبور أو البناء عليه وذلك انّ لفظة ( التسوية ) تستعمل في معنيين :
1 ـ تطلق ويراد منها مساواة شيء بشيء فعندئذٍ تتعدى إلى المفعول الثاني بحرف التعدية كالباء قال سبحانه : ( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين )(2) .
وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة : ( يَومَئِذٍ
--------------------
(1) صحيح مسلم : 3|60 ، باب الاَمر بتسوية القبر ، و السنن للترمذي : 2|256 ، باب ما جاء في تسوية القبور.
(2) الشعراء | 98.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 79 _
يَوَدُّالَّذينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُول لَو تُسَوّى بِِِهِمُ الاََرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَديثاً )(1) أي يودّون أن يكونوا تراباً أو أمواتاً تحت الاَرض.
2 ـ تطلق ويراد منها ما هو وصف لنفس الشيء لا بمقايسته إلى شيء آخر ، فعندئذٍ تكتفي بمفعول واحد.
قال سبحانه : ( الَّذي خَلَقَ فَسَوّى )(2) .
وقال سبحانه : ( بَلى قادِرينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ )(3).
ففي هذين الموردين تقع التسوية وصفاً للشيء لا باضافته إلى غيره.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الحديث فنقول : لو أراد من قوله : سويته هو مساواة القبر بالاَرض ـ كمساواة شيء بشيء ـ يلزم أن يتّخذ مفعولاً ثانياً بحرف الجر كأن يقول سويته بالاَرض أي جعلتهما متساويين والمفروض انّه اقتصر بمفعول واحد دون الثاني.
فتعين انّ المراد هو الثاني أي كون المساواة وصفاً لنفس الشيء وهو القبر ومعناه عندئذٍ تسطيح القبر في مقابل تسنيمه ،
وبسطه في مقابل اعوجاجه ، وهذا هو الذي فهمه شراح الحديث ، وبما انّ السنّة هي التسطيح ، والتسنيم طرأ بعد ذلك ، أمر عليّ ( عليه السلام ) بأن يكافح البدعة ويسطح كلّ قبر مسنم.
وممّا يوَيد انّ المراد هو تسطيح القبر انّ مسلم في صحيحه عنون الباب هكذا ( باب الاَمر بتسوية القبر ) ثمّ نقل رواية عن ثمامة انّه قال : كنّا مع فضالة بن عبيد في أرض الروم ، فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي.
قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأمر بتسويته ثمّ أورد بعده حديث أبي الهياج المتقدم (1) .
وقد فسره أيضاً بما ذكرنا الفقيه القرطبي حيث قال : قال علماوَنا ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها (2) .
--------------------
(1) صحيح مسلم : 3|61 ، باب الاَمر بتسوية القبر.
(2) تفسير القرطبي : 10|380.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 81 _
4 ـ بناء المساجد على القبور والصلاة فيها
إنّ بناء المساجد على القبور أو عندها والصلاة فيها مسألة فقهية فرعية لا تمتُّ إلى العقائد بصلة.
فالمرجع في هذه المسائل هم أئمّة المذاهب وفقهاء الدين يستنبطون حكمه من الكتاب والسنّة ، وليس لنا تكفير أو تفسيق واحد من الطرفين إذا قال بالجواز أو بعدمه ، وكم من مسألة فقهية اختلفت فيها آراء الفقهاء والمجتهدين ، ونحن بدورنا نعرض المسألة على الكتاب والسنّة لنستنبط حكمها من أوثق المصادر الفقهية.
الذكر الحكيم يشرح لنا كيفية عثور الناس على قبور أصحاب الكهف وانّهم ـ بعد العثور ـ اختلفوا في كيفية تكريمهم وإحياء ذكراهم والتبرّك بهم على قولين : فمن قائل : يُبنى على قبورهم بنيان ليُخلَد ذكراهم بين الناس.
إلى قائل آخر : يبنى على قبورهم مسجداً يصلّى فيه.
وقد حكى سبحانه كلا الاقتراحين من دون تنديد بواحد
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 82 _
منهما ، قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا انَّ وَعْدَ اللّهِحَقٌّ وَانَّ السّاعَةَ لا رَيْبَفيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ربُّهُمْ أَعْلُمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً )(1) .
قال المفسرون : إنّ الاقتراح الاَوّل كان لغير المسلمين ويوَيده قولهم في حقّ أصحاب الكهف : ( رَبّهم أَعْلَمُ بِهِم ) وهو ينمَّ عن اهتمام بالغ بحالهم ومكانتهم فحوَّلوا أمرهم إلى ربّهم.
وأمّا الاقتراح الثاني فنفس المضمون ( اتخاذ قبورهم مسجداً ) شاهد على أنّ المقترحين كانوا هم الموَمنين ، وما اقترحوا ذلك إلاّ للتبرّك بالمكان الذي دفنت فيه أجساد هوَلاء الموحدين.
والقرآن يذكر ذلك الاقتراح من دون أن يعقب عليه بنقد أورد وهو يدل على كونه مقبولاً عند مُنزل الوحي.
قال الطبري في تفسير الآية : إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع أُناساً كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم ، فزاده فرقاً ورأى أنّه حيران ، فقام مُسْنِداً ظهره إلى جدار من جُدُر المدينة ، ويقول في نفسه : واللّه ما أدري ما هذا أمّا عشية أمس فليس على الاَرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل ، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف ، ثمّ قال في نفسه :
--------------------
(1) الكهف | 21.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 83 _
لعل ّهذه ليست بالمدينة التي أعرف (1) .
سيرة المسلمين في البناء على قبور الصالحين
إنّسيرة المسلمين تكشف عن جواز بناء المساجد على قبور الصالحين الذين يُتبرّك بهم ولهم مكانة عالية في قلوبهم ، ويدل على ذلك الاَُمور التالية :
أ ـ دفن النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيته الذي فيه وكان في جوار المسجد النبوي ولما كثر المسلمون وازداد عددهم وضاق المسجد بهم أدخلوا الجانب الشرقي ـ الذي كان فيه بيوت أزواج النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والبيت الذي دفن فيه ـ في المسجد النبوي على نحو يقف المصلون أطراف القبر من الجوانب الاَربعة ويحيطون به.
يقول الطبري في حوادث سنة 88 : إنّه في شهر ربيع الاَوّل من هذه السنة قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه ، باشتراء الاَملاك المحيطة به ، فأخبر عمر الفقهاء العشرة وأهل المدينة بذلك ، فحبذوا بقاء تلك الحُجُر على حالها ليعتبر بها المسلمون ، ويكون أدعى لهم إلى الزهد اقتداءً بنبيهم ، فكاتب ابن عبد العزيز الوليد في ذلك ، فأرسل إليه يأمره بالخراب ،
--------------------
(1) تفسير الطبري : 15 | 145.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 84 _
وتنفيذ ما ذكره في كتابه الاَوّل ، فضجَّ بنو هاشم وتباكوا ، ولكن عمر نفّذ ما أمره به الوليد ، فأدخل الحجرة النبوية (حجرة عائشة) في المسجد ، فدخل القبر في المسجد وسائر حجرات أُمّهات الموَمنين وقد بني عليه سقف مرتفع كما أمر الوليد (1).
فإذا كان هذا العمل بمرأى ومسمع من فقهاء المدينة العشرة والمسلمين عامة ، وفي مقدم التابعين منهم علي بن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقر ( عليهم السلام ) اللّذين لم يشك أحد في زهدهما وعلمهما وعرفانهما.
فهو أوضح دليل على جواز إقامة المسجد عند قبور الاَنبياء والصالحين والصلاة فيه.
وقد أقر هذا العمل كلّالتابعين وجاء بعدهم إمام دار الهجرة مالك بر أئمّة المذاهب الاَربعة فلم يعترضوا عليه بشيء.
ب ـ يقول السمهودي في حقّ السيدة فاطمة بنت أسد أُمّ الاِمام أمير الموَمنين علي (عليه السلام) : فلمّا توفيت خرج رسول اللّه فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة (2).
والعبارة تدل على أنّهم بنوا المسجد بعد تدفينها.
وقال في موضع آخر : إنّ مصعب بن عمير وعبد اللّه بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزة (3) .
--------------------
(1) راجع تاريخ الطبري :5|222 ،البداية والنهاية :8|65.
(2) وفاء الوفاء :3|897.
(3) المصدر السابق :3|922.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 85 _
ج ـ انّ السيدة عائشة قضت حياتها في بيتها وصلّت فيه تمام عمرها ، ولم يكن بينها وبين القبر أيّ جدار إلى أن دفن عمر فبني جدار حال بينها وبين القبور الثلاثة (1) .
د ـ روى البيهقي انّ فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت تذهب إلى زيارة قبر عمها حمزة فتبكي وتصلي عنده (2) .
أخرج الحاكم ، عن سليمان بن داود ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين (عليهم السلام) ، عن أبيه ، انّ فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كانت تزور قبر عمها حمزة كلّ جمعة فتصلي وتبكي عنده.
قال الحاكم : وهذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات.
وأقرّه الذهبي عليه ونقله البيهقي في سننه (3) .
وهذا يدل على بناء المسجد على قبر حمزة في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والصلاة فيه.
هـ ـ انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ في معراجه الذي بدأ به من المسجد الاَقصى ـ نزل في المدينة ، وطور سينا وبيت لحم ، وصلـّى فيها ، فقال جبرئيل : صليت في ( طيبة ) وإليها مهاجرتك ، وصليت في طور سينا حيث كلم اللّه موسى ، وصليت في بيت لحم حيث ولد المسيح (4) .
--------------------
(1) وفاء الوفاء :2|541.
(2) السنن الكبرى : 4|78.
(3) مستدرك الحاكم :1|377.
(4) الخصائص الكبرى :1|154.