هل هناك فرق بين المدفن والمولد ، مع انّ الصلاة في كلٍ ، لغاية واحدة وهي التبرّك بالاِنسان المثالي الذي مسّ جسده الطاهر ، ذلك التراب بداية عمره أو نهايته ؟!
  وبما انّ الكتاب ـ مضافاً إلى السيرة المستمرة بعد رحيل رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى يومنا هذا ـ دليل قطعي ، يكون محكماً يوَخذ به ، وما دلّ على خلافه ، يكون متشابهاً ، فيرد إلى المحكم ويفسره بفضله.
  ربما يتراءى من بعض الروايات عدم جواز اتخاذ قبور الاَنبياء مساجد.
  فروي عن رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) انّه قال : قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
  وفي رواية أُخرى : لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
  وفي رواية ثالثة : ألا وإنّ من كل قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد (1) .
  ولنا مع هذه الاَحاديث وقفة قصيرة ، وذلك لاَنّ تاريخ اليهود لا يتفق مع مضامين تلك الروايات ، لاَنّ سيرتهم قد قامت على قتل

--------------------
(1) للوقوف على مصادر هذه الاَحاديث راجع صحيح البخاري : 2|111 كتاب الجنائز ، سنن النسائي :2|871 ، كتاب الجنائز ، صحيح مسلم :2|68 ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 87 _
  الاَنبياء وتشريدهم وإيذائهم إلى غير ذلك من أنواع البلايا التي كانوا يصبّونها على أنبيائهم.
  ويكفي في ذلك قوله سبحانه : ( لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَولَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقيرٌ وَنَحْنُ أَغْنياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الاََنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَريق ) (1) .
  وقوله سبحانه : ( قُلْ قَدْجاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (2) .
  وقال سبحانه : ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الاََنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... ) (3) .
  أفتزعم انّ أُمّة قتلت أنبياءها في مواطن مختلفة تتحول إلى أُمّة تشيد المساجد على قبور أنبيائها تكريماً وتبجيلاً لهم.
  وعلى فرض صدور هذا العمل عن بعضهم ، فللحديث محتملات أُخرى غير الصلاة فيها والتبرّك بصاحب القبر وهي :
  أ ـ اتخاذ القبور قبلة.
  ب ـ السجود على القبور تعظيماً لها بحيث يكون القبر مسجوداً عليه.

--------------------
(1) آل عمران | 181.
(2) آل عمران | 183.
(3) النساء | 155.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 88 _
  ج ـ السجود لصاحب القبر بحيث يكون هو المسجود له ، فالقدر المتيقن هو هذه الصور الثلاث لا بناء المسجد على القبور تبرّكاً بها.
  والشاهد على ذلك انّ الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) حسب بعض الروايات يصف هوَلاء بكونهم شرار الناس .
  أخرج مسلم في كتاب المساجد : انّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال رسول اللّه : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بني على قبره مسجداً ، وصوّروا فية تلك الصور ، أُولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة (1) .
  إنّ وصفهم بشرار الخلق يميط اللثام عن حقيقة عملهم إذ لا يوصف الاِنسان بالشر المطلق إلاّ إذا كان مشركاً ـ و إن كان في الظاهر من أهل الكتاب ـ قال سبحانه : ( إِنَّ شَرَّ الدّوابّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذينَ لا يَعْقِلُون ) (2) .
  وقال : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوابّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُوَْمِنُونَ ) (3) .
  وهذا يعرب عن انّ عملهم لم يكن صرفَ بناء المسجد على القبر والصلاة فيه ، أو مجرد إقامة الصلاة عند القبور ، بل كان عملاً مقروناً بالشرك بألوانه وهذا كما في اتخاذ القبر مسجوداً له أو

--------------------
(1) صحيح مسلم :2|66 ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.
(2) الاَنفال | 22.
(3) الاَنفال | 55.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 89 _
  مسجوداً عليه أو قبلة يصلى عليه.
  قال القرطبي : وروى الاَئمّة عن أبي مرثد الغنوي قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا تصلّوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها ( لفظ مسلم ) أي لا تتخذّوها قبلة فتصلّوا عليها أو إليها كما فعل اليهود و النصارى فيوَدي إلى عبادة من فيها (1) .
  إنّ الصلاة عند قبر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّما هو لاَجل التبرّك بمن دفن ، ولا غروَ فيه وقد أمر سبحانه الحجيج باتخاذ مقام إبراهيم مصلى قال سبحانه : ( وَاتَّخِذوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصلّى ) (2) .
  إنّ الصلاة عند قبور الاَنبياء كالصلاة عند مقام إبراهيم غير انّ جسد النبي إبراهيم ( عليه السلام ) لامس هذا المكان مرّة أو مرات عديدة ، ولكن مقام الاَنبياء احتضن أجسادهم التي لا تبلى أبداً.
  هذا وانّ علماء الاِسلام فسروا الروايات الناهية بمثل ما قلناه.
  قال البيضاوي : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الاَنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها ، واتخذوها أوثاناً ، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك.
  فأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبّرك بالقرب منه لا للتعظيم ولا

--------------------
(1) تفسير القرطبي : 10|38.
(2) البقرة | 125.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 90 _
  للتوجه ونحوه ، فلا يدخل في الوعيد المذكور (1) .
  وقال السندي شارح سنن النسائي : اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، أي قبلة للصلاة ويصلون إليها ، أو بنوا مساجد يصلون فيها ، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر.
  إلى أن يقول : يحذر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد ، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها (2) .

--------------------
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : 1|525 ، طبعة دار المعرفة ، وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 2|437 ، باب بناء المسجد على القبور.
(2) سنن النسائي : 2|41.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 91 _
5 ـ التوسّل بالاَنبياء و الصالحين
  إنّ عالم الكون عالم فسيح لا يحيط الاِنسان بأسراره ودقائقه ، وما اكتشفه الاِنسان منها فإنّما هو ضئيل بالنسبة إلى ما خفي عليه.
  كيف وما أُوتي من العلم إلاّقليلاً ، قال سبحانه : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِرَبّي وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَليلاً ) (1) .
  هذا هو العالم الفيزيائي الذائع الصيت أنشتاين (المتوفّى عام 1955 م) قال : إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي (2) .
  ولو أنصف لكان عليه أن يقول حتى أقل من هذه النسبة ، وكان الاَولى أن يقول نسبة هذا الدرج إلى أطباق السماء.
  وعلى ضوء ذلك فللّه سبحانه في هذا العالم أسباب و علل لم يصل إليها البشر مع ما بذل من الجهود.

--------------------
(1) الاسراء | 85.
(2) مجلة رسالة الاِسلام السنة الرابعة ، العدد الاَوّل ، مقال الكاتب المصري أحمد أمين.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 92 _
  ثمّ إنّ الاَسباب تنقسم إلى طبيعية ومادية وإلى غيبية وإلهية ، أمّا الاَوّل فالنظام الكائن مبني على العلل والاَسباب الطبيعية وتأثير كلّ سبب طبيعي ومادي بإذن اللّه سبحانه ، وليس للعلم دور سوى الكشف عن هذه الاَسباب المادية.
  غير انّ المادي ينظر إلى هذه الاَسباب بنظرة استقلالية ولكن الاِلهي ينظر إليها نظرة تبعية قائمة باللّه سبحانه ، موَثرة بإذنه ، وهذا هو ذو القرنين يتمسك بالاَسباب الطبيعية في إيجاد السد أمام يأجوج ومأجوج ويستعين بالاَسباب ولا يراها مخالفاً للتوحيد.
  قال سبحانه حاكياً عنه : ( آتُوني زُبَرَ الْحَديد حَتّى إِذا سَاوى بَيْنَ الصَّدَفَيْن قالَ انْفُخُوا حَتّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَما اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً* قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً ) (1) .
  إنّ الاستعانة بالاَحياء والاستغاثة بهم أمر جرت عليه سيرة العقلاء ، وهذا موسى الكليم استغاثه بعض شيعته فأجابه دون أن يخطر ببال أحد انّالاستغاثة لا تجوز إلاّ باللّه ، قال سبحانه : ( وَدَخَلَ المَدينةَ عَلى حينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاستَغاثَهُ الَّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقضى عَلَيْهِ ) (2) .

--------------------
(1) لكهف| 96 ـ 98.
(2) القصص | 15.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 93 _
  وما هذا إلاّ لاَنّ موسى وشيعته تعتقد بأنّ المغيث إنّما يغيث بقوة وإذن منه سبحانه ، فلا مانع من طلب النجدة والاستغاثة والاستعانة من الاَحياء شريطة القيد المذكور ، وقد أُشير إليه في قوله سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الحَكيم )(1) .
  كلّ ما ذكرنا كان يعود إلى التوسل بالاَحياء والاَسباب الطبيعية ، وهذا ليس مورد بحث و نقاش.
  إنّما الكلام في التوسل بالاَنبياء والاَولياء لا على الطريق المألوف وله أقسام :
  أ ـ التوسل بدعاء النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو الصالحين في حال حياتهم.
  ب ـ التوسل بذات النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قدسيته وشخصيته.
  ج ـ التوسل بحقّ النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاَنبياء والصالحين.
  د ـ التوسل بدعاء النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والصالحين بعد رحيلهم .
  هـ ـ طلب الشفاعة من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاَولياء.
  وإليك دراسة كلّواحد منها :
  أ ـ التوسل بدعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو الصالحينفي حال حياته اتّفق المسلمون على جواز التوسل بدعاء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )

--------------------
(1)آل عمران | 126.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 94 _
  في حال حياته ، بل يستحب التوسل بدعاء الموَمن كذلك ، قال سبحانه : ( ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَاسْتَغْفروا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَلَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحيماً ) (1) .
  تجد انّه سبحانه يدعو الظالمين إلى المجيء إلى مجلس الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) كي يستغفر لهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وفي آية أُخرى يندد بالمنافقين بأنّهم إذا دعوا إلى المجيء إلى مجلس الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطلب المغفرة منه تنكروا ذلك واعترضوا عليه بليِّ الرأس ، قال سبحانه : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِر لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُوَُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (2) .
  وتاريخ الاِسلام حافل بنماذج عديدة من هذا النوع من التوسل .
  ب ـ التوسل بذات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و قدسيته وشخصيته وها هنا وثيقة تاريخية ننقلها بنصها تعرب عن توسل الصحابة بدعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حال حياته أوّلاً ، وبقدسيته وشخصيته ثانياً ، والمقصود من نقلها هو الاستدلال على الاَمر الثاني.
  روى عثمان بن حنيف انّه قال : إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ادع اللّه أن يعافيني ؟

--------------------
(1) النساء | 64.
(2) المنافقون | 5.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 95 _
  فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت وهو خير ؟
  قال : فادعه ، فأمره( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : ( اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ،يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى ، اللّهمّ شفّعه في ) .
  قال ابن حنيف : فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ .
  وهذه الرواية من أصح الروايات ، قال الترمذي : هذا حديث حق ، حسن صحيح (1) .
  وقال ابن ماجة : هذا حديث صحيح (2) .
  ويستفاد من الحديث أمران
  الاَوّل : أن يتوسل الاِنسان بدعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويدل على ذلك قول الضرير : ادعوا اللّه أن يعافيني ، وجواب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن شئتَ دعوتُ ، وإن شئت صبرت وهو خير.
  الثاني : انّه يجوز للاِنسان الداعي أن يتوسل بذات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ضمن دعائه وهذا يستفاد من الدعاء الذي

--------------------
(1) صحيح الترمذي 5 ، كتاب الدعوات ، الباب 119 برقم 3578 ، سنن ابن ماجة :1|441 برقم 1385 ، مسندأحمد : 4|138 ، إلى غير ذلك.
(2) صحيح الترمذي 5 ، كتاب الدعوات ، الباب 119 برقم 3578 ، سنن ابن ماجة : 1|441 برقم 1385 ، مسندأحمد : 4|138 ، إلى غير ذلك.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 96 _
  علّمه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للضرير ، والاِمعان فيه يثبت هذا المعنى ، وانّه يجوز لكلّ مسلم في مقام الدعاء أن يتوسل بذات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتوجه به إلى اللّه.
  وإليك الجمل التي تدل على هذا النوع من التوسل :
  1 ـ اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك انّ كلمه ( بنبيّك ) متعلّق بفعلين ( أسألك ) و ( أتوجه إليك ) والمراد من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاءه.
  2 ـ محمد نبي الرحمة نجد انّه يذكر اسم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمّ يصفه بنبي الرحمة معرباً عن أنّ التوسل بذات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما لها من الكرامة والفضيلة.
  3 ـ يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّي إنّ جملة : ( يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّي ) تدل على أنّالضرير حسب تعليم الرسول ، اتخذ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه وسيلة لدعائه وتوسل بذاته بما لها من المقام والفضيلة.
  وهذا الحديث يرشدنا إلى أمرين :
  الاَوّل : جواز التوسل بدعاء الرسول.
  الثاني :جواز التوسل إلى اللّه بذات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما لها من الكرامة والمنزلة عند اللّه تبارك و تعالى.
  أمّا الاَوّل ، فقد جاء في محاورة الضرير مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 97 _
  فكان الموضوع هو دعاء الرسول ، أي طلب الضرير الدعاء منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وأمّا الثاني ، فيستفاد من الدعاء الذي علّمه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للضرير ، فانّه يضمن التوسل بشخص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  نعم لم يكن يدور في خلد الضرير سوى التوسل بدعائه ولكن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علمه دعاء جاء فيه التوسل بذات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو في نوعه توسل ثان ، وبذلك وقفنا على أنّه يستحب للمسلم أن يتوسل بدعاء الصالحين من الاَنبياء والاَولياء كما يجوز له في دعائه التوسل بذواتهم ومقامهم ومنزلتهم.
  ويظهر من الاَحاديث الشريفة انّ أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانوا يتوسلون بذات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مقام الابتهال والدعاء حتى بعد رحيل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  أخرج الطبراني ، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف : انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابن حنيف فشكا ذلك إليه ، فقال له عثمان بن حنيف : ائتِ الميضاة فتوضأ ، ثم ائتِ المسجد فصلِ فيه ركعتين ، ثمّ قل : ( اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبي الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي فتقضى لي حاجتي ) فتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك.
  فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان ،

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 98 _
  فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان ، فأجلسه معه على الطنفسة ، فقال : حاجتك ؟ فذكر حاجته وقضاها له ، ثمّ قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة.
  وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها.
  ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف ، فقال له : جزاك اللّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتّى كلّمته فيّ ، فقال عثمان بن حنيف : واللّه ما كلّمته ، ولكني شهدت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فتصبر ؟ فقال : يا رسول اللّه ليس لي قائد فقد شقّ عليَّ.
  فقال النبي (ص) : إئت الميضاة فتوضأ ، ثمّ صلّ ركعتين ، ثمّ ادع بهذه الدعوات.
  قال ابن حنيف : فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضّر قط (1) .
  إنّ سيرة المسلمين في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعدها ، استقرت على أنّهم كانوا يتوسلون بأولياء اللّه والصالحين من عباده ، دون أن يدور في خلد أحد منهم بأنّه أمر حرام أو شرك أو

--------------------
(1) المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني : 9|30 ـ 31 ، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف برقم 8311 ، والمعجم الصغير له أيضاً :1|183 ـ 184.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 99 _
  بدعة ، بل كانوا يرون التوسل بدعاء الصالحين طريقاً إلى التوسل بمنزلتهم ، وشخصيتهم ، فانّه لو كان لدعاء الرجل الصالح أثر ، فإنّما هو لاَجل قداسة نفسه وطهارتها ، ولولاهما لما استجيبت دعوته ، فما معنى الفرق بين التوسل بدعاء الصالح وبين التوسل بشخصه وذاته ، حتى يكون الاَوّل نفس التوحيد و الآخر عين الشرك أو ذريعة إليه.
  إنّ التوسل بقدسية الصالحين ، والمعصومين من الذنب ، والمخلصين من عباد اللّه لم يكن قط أمراً جديداً بين الصحابة بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الاِسلام ، فقد تضافرت الروايات التاريخية على ذلك وإليك البيان :
  1 ـ استسقاء عبد المطلب بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو رضيع : لقد استسقى عبد المطلب بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو طفل صغير ، حتى قال ابن حجر : إنّ أبا طالب يشير بقوله :

وابيض يستقى الغمام iiبوجهه      ثمال اليتامى عصمة للاَرامل
  إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معه غلام (1) .
  2 ـ استسقاء أبي طالب بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أخرج ابن عساكر عن ابن عرفلة ، قال : قدمت مكة وقريش في

--------------------
(1) فتح الباري : 2|398 ، دلائل النبوة :2|126.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 100 _
  قحط ... فقالت قريش : يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال ، فهلم فاستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام ـ يعني : النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كأنّه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء ، وحوله اغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ باصبعه الغلام وما في السماء قزعه ، فأقبل السحاب من هاهنا و من هاهنا واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي ، وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدة يمدح بها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
وابـيض  يـستقى الغمام iiبوجهه      ثمال اليتامى عصمة للاَرامل (1)

  وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو غلام ، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب ، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.
  ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان موضع رضا من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فانّه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس ، فجاء المطر واخصب الوادي فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه ، من ينشدنا قوله ؟ ).
  فقام علي (عليه السلام) وقال : يا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كأنّك أردت قوله :
وابـيض  يـستقى الغمام iiبوجهه      ثمال اليتامى عصمة للاَرامل (2)

--------------------
(1) السيرة الحلبية : 1 | 116.
(2) إرشاد الساري : 2 | 338.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 101 _
  إنّ التوسل بالاَطفال الاَبرياء في الاستسقاء أمر ندب إليه الشرع الشريف ، فهذا هو الاِمام الشافعي يقول : أن يخرج الصبيان ، ويتنظفوا للاستسقاء وكبار النساء ومن لا هيئة له منهنّ ، ولا أحب خروج ذوات الهيئة ولا آمر بإخراج البهائم (1) .
  وما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن ، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم ، وكلّ ذلك يعرب عن أنّ التوسل بالاَبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكأنّ المتوسل بهم يقول : ربّي و سيدي انّ الصغير معصوم من الذنب ، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك ، وكلتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة ، فلاَجلهم أنزل رحمتك إلينا ، حتى تعمنا في ظلهم.
  فانّ الساقي ربما يسقي مساحة كبيرة لاَجل شجرة واحدة وفي ظلها تسقى الاَعشاب غير المفيدة.
  وعلى ضوء هذا التحليل يفسر توسل الخليفة بعمّ الرسول : ( العباس بن عبد المطلب ) الذي سيمر عليك ، وأنّه كان توسلاً بشخصه وقداسته وصلته بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتعلم بالتالي انّ هذا العمل كان امتداداً للسيرة المستمرة ، وانّ هذا لا يمت إلى التوسل بدعاء العباس بصلة.

--------------------
(1) الاَُمّ : 1|248 ، باب خروج النساء والصبيان في الاستسقاء.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 102 _
  3 ـ التوسل بعمّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخرج البخاري في صحيحه ، عن أنس : ( انّ عمر بن الخطاب كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب (رض) فقال : اللّهمّ إنّا كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا.
  قال : فيسقون ) (1) هذا ما نصّ عليه البخاري وهو يدل على أنّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعمّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشخصه وشخصيته وقدسيته وقرابته من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا بدعائه ويدل على ذلك : قول الخليفة عند الدعاء : ( اللّهمّ كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا وانّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ) وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بنفسه بالدعاء عند الاستسقاء ، وتوسل بعمّ الرسول وقرابته منه في دعائه.
  ج ـ التوسل بحقّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاَنبياء والصالحين وهناك لون آخر من التوسل وهو التوسل بحقّ الاَنبياء والمرسلين ، والمراد الحقّ الذي تفضل به سبحانه عليهم فجعلهم أصحاب الحقوق ، وليس معنى ذلك انّ للعباد أو للصالحين على اللّه حقّاً ذاتياً يلزم عليه تعالى الخروج منه ، بل الحقّ كلّه للّه ، وإنّما المراد

--------------------
(1) صحيح البخاري : 2|27 ، باب صلاة الاستسقاء ، باب سوَال الناس الاِمام الاستسقاء إذا قحطوا من كتاب الصلاة.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 103 _
  الحقّ الذي منحه سبحانه لهم تكريماً ، وجعلهم أصحاب حقّ على اللّه ، كما قال سبحانه : ( وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُوَْمِنينَ ) (1) .
  ويدل على ذلك من الروايات ما يلي :
  أ ـ روى أبو سعيد الخدري : قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من خرج من بيته إلى الصلاة ، وقال : اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك ، وأسألك بحقّ ممشاي هذا ، فانّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعة وخرجت اتقاء سُخْطِك وابتغاء مرضاتك ، فأسألك أن تعيذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي انّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت ، أقبل اللّه عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك (2) .
  ب ـ روى عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لما اقترف آدم الخطيئة ، قال : ربّي أسألك بحقّمحمّد لما غفرت لي ، فقال اللّه عزّوجلّ : يا آدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه قال : لاَنّك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّمن روحك ، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا ّاللّه ، محّمد رسول اللّه ، فعلمت انّك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك ، فقال اللّه عزّ وجلّ : صدقت يا آدم انّه لاَحبّ الخلق إليّ ، وإذا سألتني بحقّه فقد غفرت ولولا محمّد ما خلقتك (3) .

--------------------
(1) الروم | 47.
(2) سنن ابن ماجة : 1|256 رقم 778 ، باب المساجد ، مسند أحمد : 3|21.
(3) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لاَبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي : 5|489 ، دار الكتب العلمية.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 104 _
  ج ـ روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك انّه لما ماتت فاطمة بنت أسد حفروا قبرها ، فلمّا بلغوا اللحد حفر رسول اللّه بيده وأخرج ترابه بيده ، فلما فرغ دخل رسول اللّه فاضطجع فيه ، وقال : اللّه الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لاَُمّي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والاَنبياء الذين من قبلي ، فانّك أرحم الراحمين (1) .
  إلى هنا تم البحث عن أقسام التوسل الثلاثة وعرفت انّ الجميع يدعمه الكتاب والسنة وتصور انّ التوسل بغيره سبحانه تأليه وعباده لغيره قد عرفت بطلانه وذلك لوجهين :
  الوجه الاَوّل : لو كان التوسل بدعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذاته أو حقّه شركاً يلزم أن يكون كلّ توسل كذلك حتى التوسل بالغير في الاَُمور العادية مع أنّه باطل بالضرورة ، لاَنّ الجميع من قبيل التوسل بالاَسباب ، عادية كانت أو غير عادية ، طبيعيةً كانت أو غير طبيعية.
  الوجه الثاني : قد عرفت في تعريف العبادة انّه الخضوع أمام الغير بما هو إله أو ربّ أو مفوض إليه أُموره سبحانه ، وليس واحد من هذه القيود متحّققاً في التوسل بالاَنبياء والصالحين والشهداء بل يتوسل بهم بما انّهم عباد مكرمون يستجاب دعاوَهم عند اللّه سبحانه ، أو انّ لذواتهم وحقوقهم منزلة عند اللّه ، فالتوسل بهم يثير

--------------------
(1) معجم الطبراني الاَوسط : 356 ، حلية الاَولياء :3|121 ، مستدرك الحاكم : 3|108.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 105 _
  بحار رحمته.
  كيف يكون التوسل بنبي التوحيد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شركاً مع أنّه يتوسل به بما انّه مكافح للشرك ومقوض لدعائمه ؟
  د ـ التوسل بدعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والصالحين بعد رحيلهم من أقسام التوسل الرائجة بين المسلمين هو التوسل بدعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو الصالحين بعد رحيلهم .
  ولكن ثمة سوَالاً يطرح نفسه وهو : انّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حياً يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو اللّه سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سوَالك ، أمّا إذا كان المستغاث ميتاً انتقل من هذه الدنيا فكيف يصحّ التوسل بمن انتقل إلى رحمة اللّه وهو لا يسمع ؟
  والجواب : انّ الموت ـ حسب ما يوحي إليه القرآن والسنّة النبوية ـ ليس بمعنى فناء الاِنسان وانعدامه ، بل معناه الانتقال من دار إلى دار وبقاء الحياة بنحو آخر والذي يعبر عنه بالحياة البرزخية.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 106 _
  وتدل على بقاء الحياة آيات من الذكر الحكيم نقتصر على بعضها :
  الآية الاَُولى :
  قوله تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْأَحْياءٌ وَلكِنْلا تَشْعُرُونَ ) (1) .
  وقد كان المشركون يقولون : إنّ أصحاب محمّد يقتلون أنفسهم في الحروب دون سبب ، ثمّ يقتلون ويموتون فيذهبون ، فوافى الوحي رداً عليهم بأنّه ليس الاَمر على ما يقولون ، بل هم أحياء وإن كان المشركون وغيرهم لا يدركون ذلك.
  الآية الثانية
  قوله تعالى :
  1 ـ ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ) .
  2 ـ ( فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
  3 ـ ( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَإِنَّ اللّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُوَْمِنينَ ) (2) .

--------------------
(1) البقرة | 154.
(2) آل عمران | 169 ـ 171.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 107 _
  والآيات هذه صريحة في بقاء الاَرواح بعد مفارقتها الاَبدان ، وبعد انفكاك الاَجسام و بلاها ، كما يتضح ذلك من الاِمعان في المقاطع الاَربعة التالية :
  1 ـ ( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ).
  2 ـ ( يُرْزَقُونَ ) .
  3 ـ ( فَرِحينَ ) .
  4 ـ ( وَيَسْتَبْشِرُونَ ) .
  والمقطع الثاني يشير إلى التنعم بالنعم الاِلهية ، والثالث والرابع يشير إلى النعم الروحية والمعنوية ، وفي الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة.
  وقد نزلت الآية : إمّا في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الاَنصار وستة من المهاجرين ، وإمّا في شهداء أُحد وكانوا سبعين رجلاً ، أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن شماس ، وعبد اللّه بن جحش وسائرهم من الاَنصار ، وعلى قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين.
  الآية الثالثة
  قوله سبحانه : ( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَومِ اتَّبِعُوا المُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَمالِيَ لا

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 108 _
  أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون * ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنّي إِذاً لَفي ضَلالٍ مُبينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ * وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ * إِنْ كانَتْ إِلا ّصَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) (1) .
  اتفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رسل عيسى (عليه السلام) ، وقد نزلوا بأنطاكيا داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غيره سبحانه ، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في نفس السورة.
  فبينما كان القوم والرسل يتحاجون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى اللّه سبحانه وقال لهم : إتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الاَجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى ، وهم مهتدون إلى طريق الحقّ ، سالكون سبيله ، ثمّ أضاف قائلاً : ومالي لا أعبد الذي فطرني وأنشأني وأنعم إليّ وهداني وإليه ترجعون عند البعث ، فيجزيكم بكفركم أتأمرونني أن أتخذ آلهة من دون اللّه مع أنّهم لا يغنون شيئاً ولا يردون ضرراً عني ، ولا تنفعني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذونني من الهلاك والضرر ، وعندما مهَّد السبيل

--------------------
(1) يس | 20 ـ 29.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 109 _
  إلى إبطال مزاعم المشركين وبيان سخافة منطقهم ، فعندئذٍ خاطب الناس أو الرسل بقوله : ( انّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون ) فسواء أكان الخطاب للمشركين أو للرسل فإذا بالكفار قد هاجموه فرجموه حتى قتل.
  ولكنّه سبحانه جزاه بالاَمر بدخول الجنّة ، بقوله : ( قيلَ ادخُل الْجَنّة ) ثمّ هو خاطب قومه الذين قتلوه ، بقوله : ( قالَ يا لَيْتَ قَومي يعلَمُون * بِما غَفَر لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمين ) .
  ثمّ إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلاً حتى أرسل جنداً من السماء لاِهلاكهم ، يقول سبحانه : ( وَما أَنْزَلْنا عَلى قَومِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزلينَ * إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) .
  أي : كان اهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر ، وهي صيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم ، فإذا هم خامدون ساكتون.
  ودلالة الآية على بقاء النفس وإدراكها وشعورها وإرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا من الوضوح بمكان ، حيث كان دخول الجنّة : ( قيل ادخُل الجَنّة ) والتمني ( يا لَيْتَ قَومي ) كان قبل قيام الساعة ، والمراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الاَُخروية.
  إلى هنا تمّ بيان بعض الآيات الدالة على بقاء أرواح الشهداء

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 110 _
  الذين بذلوا مهجهم في سبيل اللّه .
  وثمة طائفة من الآيات تدل على بقاء أرواح الكفار بعد انتقالهم عن هذه الدنيا ،مقترنة بألوان العذاب ، وهناك طائفة أُخرى من الآيات تدل على بقاء الروح بعد رحيل الاِنسان الموَمن والكافر من هذه الدار ، ولنذكر هذه الآيات على وجه الاِيجاز :
  1 ـ ( النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشدَّ الْعَذاب ) (1) .
  تدل الآية بوضوح على أنّآل فرعون يُعرضون على النار قبل قيام الساعة غدوّاً وعشيّاً ، كما انّهم بعد قيامها يُدخلون أشدّ العذاب ، فعذابهم قبل الساعة غير عذابهم بعدها ، وهو دليل صريح على حياة تلك الطغمة.
  2 ـ ( مِمّا خَطيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَادْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْصاراً ) (2) .
  تدل الآية على أنّ قوم نوح اغرقوا أوّلاً فادخلوا ناراً ، ولم يجدوا لاَنفسهم أنصاراً وليست هذه النار ، نار يوم القيامة بشهادة انّه سبحانه يقول : ( فادخلوا ناراً ) وهو يدل على تحقق الدخول بلا فاصل زمني بعد الغرق ولو أُريد نار يوم الساعة لكان الاَنسب أن يقول ( فيدخلون ناراً ) .

--------------------
(1) غافر | 46.
(2) نوح | 25.