الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ

  وحلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ ، فقال عبد الرحمن لابن أخته ميسر : إذهب فأدع لي علياً وعثمان ، فانطلق ميسر فأحضرهما ، وحضر المهاجرون والأنصار ، وازدحمت الجماهير في الجامع لتأخذ القرار الحاسم ، فالتفت عبد الرحمن إلى علي قائلاً : « هل أنت مبايعي على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وفعل أبي بكر وعمر ؟ » فرمقه علي شزراً ، وأجابه بمنطق الايمان ، ومنطق الأحرار قائلاً : « بل على كتاب الله ، وسنّة رسوله ، واجتهاد رأيي » ، ولو كان ابن أبي طالب يروم الملك ، ويبغي السلطان ، لأجابه إلى ذلك ، ولكنه آثر رضاء الله ، والاتباع للحق ، وقد علم غاية عبد الرحمن في هذا الشوط أن الامام لا يجيبه إليه لأنه لا يداهن في دينه .
  إن مصدر التشريع في الإسلام هو كتاب الله ، والسنّة فعلى ضوء نهجها تسير الدولة ، وتعالج مشاكل الرعية ، وليس فعل أبي بكر ، وفعلك يا عمر من مصادر التشريع ، على أن سياستك تختلف عن سياسة أبي بكر سواء في السياسة المالية وغيرها ، فعلى أي منهج من سياستك يسير ربيب الوحي ، وباب مدينة العلم ، وهو غني أي غناء عن سيرتك وسيرة صاحبك ، واختلى ابن عوف بعثمان فكاشفه بما اشترطه في دستور الدولة الجديد . . فلباه عثمان مبتهجاً ، وبايعه على كتاب الله ، وسنّة رسوله ، وعمل الشيخين ، وقبل الفجر من اليوم التالي ، سمع الناس النداء « الصلاة جامعة » فانحدروا صوب المسجد زرافات ووحداناً ، فملأوا رحباته ، وانتشرت في الفضاء جموع الناس ينتظرون إشراقة الشمس على الرئيس الجديد الذي يحقق آمالهم وأمانيهم ، وولى عبد الرحمن وجهه شطر المسجد الحرام ، والناس سكوت ينتظرون الساعة الحاسمة التي يتقرر بها المصير الحاسم ، فلم تطل بهم الصلاة حتى اعتلى عبد الرحمن المنبر ، ووجم الناس ، وتقطعت أنفاسهم في صدورهم كأنما على رؤوسهم الطير ، وانبرى عبد الرحمن فقال : « إن الناس أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم ، وقد عرفوا أميرهم » ، وانطلق سعيد بن زيد رافعاً عقيرته قائلاً : « إنا نراك لها أهلاً » ،فقال عبد الرحمن : بل أشيروا عليّ بغير هذا ، وأضاف يقول : إني قد سألتكم سراً وجهراً ، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين : إما علي وإما عثمان .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _129_

  فجاء النداء علياً من عمار بن ياسر الطيب ابن الطيب « إن أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً » ،ورفع الناس أصواتهم بالتأييد لعمار قائلين : « بايع علياً » ،وجاء من بين الأصوات صوت المقداد : « صدق عمار . وإن بايعت علياً سمعناً وأطعنا » ، وانبرى للدفاع عن الأمويين وعن القوى المنحرفة عن الإسلام دعي لعثمان ربطه وإياه ثدي امرأة هو عبد الله بن أبي سرح أخو عثمان من الرضاعة فخاطب عبد الرحمن : « يا عبد الرحمن إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان » ، وأيده عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي فقال : « صدق إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا » ، وانبرى إليه ابن الإسلام البار عمار بن ياسر فرد على ابن سرح مقالته قائلاً : « متى كنت تنصح للاسلام ؟ » ، وصدق عمار متى كان ابن ابي سرح يقيم للاسلام وقاراً أو ينصح المسلمين ، ويهديهم إلى سواء السبيل ، وقد كان من أعدى الناس لله ولرسوله ، ولما فتحت مكة أمرت بقتله وإن كان متعلقاً باستار الكعبة(1) .
  وذلك لما لاقيت منه من الإذىوالاضطهاد أمثال ابن أبي سرح يتدخل في شؤون المسلمين ؛ ولكنك أنت الذي مهدت الطريق له ولأمثاله بالتدخل في أمورهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وتكلم بنو هاشم ، وبنو أمية ، واحتدم النزاع والجدال بين الأسرتين ، فانطلق ابن الإسلام البار عمار بن ياسر فخاطب القوم قائلاً : « أيها الناس إن الله أكرمكم بنبيه ، وأعزّكم بدينه ، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم !! » ، لقد كان كلام عمار حافل بمنطق الإسلام الذي وعاه قلبه الطاهر ، فإن قريشاً وسائر العرب إنما أعزّها الله بدينه ، وأسعدها برسوله ، أفهل من الانصاف والعدل أن تصرف الخلافة عن أهل بيتي ؟ ، وتضعون تارة في تيم وأخرى في عدي ، وثالثة في أمية التي عملت جاهدة على حربي ومحو هذا الدين ، وقلع جذوره ، ومحو سطوره ، وانبرى لعمار رجل من مخزوم قائلاً له : « لقد عدوت طورك يابن سمية . . وما أنت وتأمير قريش لأنفسها » .

---------------------
(1) الاستيعاب 2 / 375 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _130_

  لقد أترعت نفس هذا الرجل بروح الجاهلية فراح يندد بابن سمية الذي حالف الحق ، ونصر الإسلام ، وحامى عن هذا الدين ، ويرى أنه تعدى طوره ، وتجاوز حده لتدخله في شؤون قريش ، وأي حق لقريش في هذا الأمر وهي التي لم تترك وسيلة من وسائل الهجوم والحرب عليَّ وعلى المسلمين إلا اعتمدت عليها ، فليس لقريش أي حق في التدخل في أمور المسلمين وشؤونهم ، لو كان هناك منطق أو حساب عند القوم، وكثر الجدال والنزاع بين القوم فأهاب سعد بن أبي وقاص بعبد الرحمن يحثه على تعجيل الأمر لئلا ترجع إلى القوم حوازب أحلامهم فيفسد مخططهم فقال له : « يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس » ، وللمرة الثانية ، دعا عبد الرحمن علياً وعثمان ليسمع منهما الجواب الحاسم على شرطه فقال لعلي :« هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيه وسيرة الشيخين » .
  فأجابه علي بكل صراحة : « بل على كتاب الله ، وسنّة رسوله ، واجتهاد رأيي » ، فأعرض عبد الرحمن عنه ، والتفت إلى عثمان فاشترط عليه مثل ذلك فاندفع يقول : « نعم . نعم » ، فصفق عبد الرحمن بكفه على يد عثمان وقال : « اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان » ، وعلا الصخب والضجيج بين المسلمين فقد فازت أمية بالحكم ، وآلت أمور الخلافة الإسلامية بأيدي غلمان الأمويين ليستأثروا بالفيئ ، ويتخذوا عباد الله خولاً ، ومال الله دولا، وانطلق أمير المؤمنين فخاطب ابن عوف قائلاً : « والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه مارجا صاحبكما من صاحبه ، دق الله بينكما عطر منشم » ، والتفت إلى القرشيين فقال لهم : « ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون » ،واندفع ابن عوف الذي خان الله ورسوله ، وخان المسلمين فجعل يهدد الامام قائلاً :« يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا » ، وغادر المظلوم المهتضم الامام علي المسجد وهو يقول : « سيبلغ الكتاب أجله » ، وارتعدت مفاصل عمار ، وبلغ به الألم إلى قرار سحيق ، وطفق يخاطب ابن عوف قائلاً له : « يا عبد الرحمن . . أما والله لقد تركته ، وانه من الذين يقضون بالحق ، وبه كانوا يعدلون . . » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _131_

  وخرج المقداد وهو مثقل الخطا قد أُترعت نفسه بالألم والحزن وهو يقول بنبرات الأسى : « تا لله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم !! واعجبا لقريش !! لقد تركت رجلاً ما أقول ، ولا أعلم أن أحداً أقضى بالعدل ، ولا أعلم ، ولا أتقى منه : أما لو أجد أعواناً . . » وقطع ابن عوف كلامه قائلا : « اتق الله يا مقداد ، فإني خائف عليك الفتنة » (1) ، وخرج عثمان من المسجد أميراً متوجا تحف به آل امية ، وآل أبي معيط ، وتصفق له القوى المنحرفة عن الإسلام ، والحاقدة عليه ، وتصاب القوى الإسلامية بالذل والأسى والهوان ، لقد كان تدبيرك الرائع في صرف الخلافة عن أهل بيتي بهذا الأسلوب عاد بالأضرار البالغة على الاسلام والمسلمين .

اعتراف عمر :
  ويصارح عمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بغلظته المألوفة فيقول له : « أن تعييني لعثمان بطريقة غير مباشرة لأني صممت على صرف الخلافة عن علي وولده من بعده ، وقكرت كثيراً في قابلية المهاجرين والأنصار فلم أر من به الكفاءة والمنفعة ليقف سداً حائلاً دون تطاول بني هاشم وشموخهم سوى بني أمية لكثرة مالهم ، ووفرة رجالهم ، وكثرة قابلياتهم على المكر والخداع ، بالضافة لعدائهم الموروث من أبيهم عبد شمس لأخيه هاشم ، وانتقاله إلى أحفاده ، وقد كانأبو سفيان وسائر بني أمية من ألد أعدائك ، وقد اعتنقوا الأسلام كرهاً ونفاقاً ، وقد جعلتهم من المؤلفة قلوبهم .

-----------------------
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 194 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _132_

  إن تعييني لعثمان خليفة من بعدي بجعل الشورى بين ستة نفر لم يكن ابتكاراً مني ، أو لاجتهادي برأيي ، فقد سبقني إلى ذلك الخليفة الأول أبو بكر عندما أراد تعيين خليفة من بعده فقد استدعى صحبه كل واحد منهم على انفراده ليستشيرهم في أمر الخلافة حتى يكتسب اختياري صفة شرعية ، فدعا إليه عبد الرحمن بن عوف يسأله عن الخليفة من بعده قائلاً : « أخبرني عن عمر » ، وقد عرف ابن عوف مراده فقال له : « يا خليفة رسول الله . هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة » ، فردّعليه أبو بكر قائلاً : « ذلك لأنه يراني رقيقاً . ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه يا أبا محمد . إني قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في شيء أراني الرضا عنه . وإذا لنت له أراني الشدة عليه » ، وهمّ أن يقوم ابن عوف فقال له أبو بكر محذراً : « يا أبا محمد . ، لا تذكر مما قلت لك شيئاً . . » ، ثم دعا إليه عثمان بن عفان يسأله قائلاً : « يا أبا عبد الله . . اخبرني عن عمر » « أنت أخبر به يا خليفة رسول الله » ، فأكد عليه بأن يخبره عني ، فعرف عثمان غايته ، وأدرك قصده فقال له : « للهم علمي به أن سريرته خير من علانيته ، وان ليس فينا مثله . . » فتفرجت أسارير الشيخ وراح يقول له : « رحمك الله يا أبا عبد الله . . لو تركت عمر لما عدوتك » ، ثم أوصاه أن يكتم ما دار بينهما من الحديث ، ولما اشتد به المرض وخشي أن يموت قبل أن يعهد إليَّ بالأمر بعث إلى عثمان بن عفان يستكتبه العهد ، فلما جاء راح يملي ما هذا نصه : « هذا ما عهد به عبد الله إلى المسلمين . آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة . في الساعة التي يبر فيها الفاجر ، ويسلم فيها الكافر » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _133_

  ثم وهن منه الصوت قبل أن يتم املاؤه ، وأغمي عليه ، فرفع ابن عفان يده عن الصحيفة وأخذ يتطلع قلقاً نحو صاحبه ، فإذا الرجفة تأخذه إذ يراه مهيضاً . وقد خشي أن يكون الخليفة قد فارقته الحياة قبل أن يتم عهده ، وخاف من الناس أن يختلفوا على الأمير بعده ، فسارع يكتب متمماً الوصية بما نصه : « أما بعد فإني قد استخلفت عليكم ابن الخطاب » ، وأفاق أبو بكر بعد قليل فاطمأن عثمان وقرأ عليه ما كتب فقال له أبو بكر مبتهراً : « أنى لك هذا ؟ » « ما كنت لتعتدوه » « أراك خفت أن يختلف الناس إن اقتلتت نفسي في غشيتي » ، « نعم يا خليفة رسول الله » ، « الله أكبر . أصبت فجزاك الله خيراً عن الأسلام اتمم كتابك » ، وعاود الإملاء ، وأبرم بعد قليل المهد الذي أراده أبو بكر فتم لي الأمر بعده .
إن أبا بكر هو الذي رشح عثمان للخلافة من قبل ، إذ قال له : « لو تركت عمر لما عدوتك يا أبا عبد الله » ، وان تعييني لعثمان عن طريق خفي كان رداً لجميله ، ومقابلة إحسانه بإحسان ، ولغلوّي في الكراهية لعلي فقد صممت على إبعاد الخلافة عنه وحرمانه منها حتى لو لم يكن عثمان موجوداً لرشحت غيره ، فقد تمنيت أن أوصي بها لأبي عبيدة بن الجراح لو كان حياً . . ووصفته بأنه أمين هذه الأمة ، أو أوصي بها لسالم مولى أبي حذيفة لو كان حياً ، ونعته بأنه شديد الحب لله . . وسالم هذا لم يكن من العرب ولا من قريش ، وإنما هو أعجمي ، وكان عبداً مملوكاً لزوجة أبي حذيفة بن عتبة ، مع علمي بعدم جواز انعقاد الامامة لمثله ، وقد أمرت ان يصلي صهيب الرومي على جنازتي ، وان يصلي بالناس الصلوات الخمس ، كل ذلك لأغض من كرامة علي وأن لا يصل إلى مركز الخلافة ، وذلك لبغض قريش له ، وحقدها عليه ، فقد راعيت عواطفها ، وحفضت اواصر الرحم ، ففتلت حبل الشورى لإبعاده عن أمر الخلافة والتحكم في شؤون المسلمين ، ويتأثر النبي ( صلى الله عليه وآله ) من هذه الصراحة ، ويبهر الجميع من هذا القول الذي كشف ابو حفص الغطاء عن حقيقته .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _134_


الرسول « صلى الله عليه وآله وسلم » مـع عثمـان:
  وبعد ما أنهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) سؤاله مع الخليفة الثاني ، واستمع الجميع إلى الاتهامات الموجهة حوله ، واعترافه بها ، جيء بالخليفة الثالث عثمان بن عفان فأوقف بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فانبرى ( صلى الله عليه وآله ) إليه قائلاً : وأنت يا عثمان كيف قبلت الخلافة بهذا الشكل الهزيل ؟ وكيف وافقت على أن تكون ممثلاً عني ، وحاكماً على الأمة ؟ مع وجود من هو أعلم منك وأفضل وأقدر على إدارة دفة الحكم وتحقيق العدل بين الناس ، ومن المؤسف أنك لما قمت بالأمر « قمت نافجاً حضنيك بين نثيلك ومعتلفك ، وقام معك بنو أبيك يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليك عملك ، وكبت بك بطنتك »(1) ، فكانت الفتنة الكبرى التي هزت أرجاء العالم الإسلامي ، وتركت المسلمين يتخبطون في ظلام لا بصيص فيه من النور .
  وحينما حباك ابن عوف بالخلافة خرجت من المسجد ، وأتباعك يهللون لك ويكبرون . . وبنو أمية يهتفون بحياتك قد غمرتهم المسرات لأنك الواضع للحجر الأساسي لبناء دولتهم المرتقبة ، والموطد لكيانها ، وقد أخبرت عنها متنبئاً ، يحكمها ثلاثون من بني أمية ، وهم كما وصفتهم من التمرد والتوغل بأموال الناس ودمائهم ، وأعراضهم ، فقلت فيهم « إذا بلغ آل أبي معيط ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولا » ، وقد تحقق ذلك على مسرح الحياة كما أخبرت به ، فقد كانوا حكاماً جائرين ، وجبابرة طاغين ، خارجين عن الدين ، متمرسين على الفسق والفجور ، وحائدين عن العدل ، يأمرون بالمنكر ، وينهون عن المعروفقد تنكر لكل ما جاء به الاسلام من المثل العليا ، والقيم الانسانية الرفيعة ، وعطّلوا حدود الله ، وعبثوا في حرمات المسلمين .

---------------------
(1) قطعة من الخطبة الشقشقية التي يشجب الامام فيها سيرة الخلفاء ، ويدلي بمظلوميته ، وتعتبر من أهم خطب الامام التي كشفت الغطاء عن الخلفاء .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _135_

  ودبّ الفساد ، وانتشر الظلم والجور في جميع أرجاء البلاد حتى صار كل مسلم غير آمن على عرضه ، وماله ، ودمه ، واندكت الحياة الإسلامية ، وبلغ الظلم أقصاه ، ولنعد إلى سياستك الرعناء التي جافت الكتاب ، وابتعدت عن سنن العدل ، وطريق الحق ، وفيما يلي عرض لذلك :

السياسة المالية :
  إن السياسة المالية التي شرعها الإسلام تقضي بصرف أموال الخزينة على مصالح المسلمين وعلى مكافحة الفقر ، ومطاردة البؤس ، وإبعاد الحرمان ، والقيام بإعالة الضعيف والإنفاق على العاجز ، وسد خلة كل محتاج من ذوي البؤس ، والزَمِن ، وتعاهد الأرامل والأيتام ، والإنفاق عليهم بما يحتاجون ، وليس لرئيس الدولة أن يصطفي من أموال المسلمين أي شيء وليس له أن ينفق منها قليلاً أو كثيراً في غير صالح المسلمين ، وقد كانت هذه سيرتي حينما كنت حياً ، ولكنك جافيت سنّتي ، وعدلت عن طريقتي ، فاستأثرت بالفيء ، وسلطت بني أمية وآل أبي معيط على الخزينة المركزية يهبون منها لمن شاؤوا ، ويمنعون عنها من شاؤوا كأنها ملك لهم ، وقد قاموا بدورهم باستغلال المسلمين ، والتلاعب بمقدراتهم ، وقد تكدست عندهم الأموال الضخمة فحاروا في صرفها وفي إنفاقها ، وأخذوا يسرفون في الملذات ، ويفعلون كل ماحرم الله ، وقد أدت سياستك الملتوية إلى نشر الفاقة والحرمان بين صفوف المجتمع الإسلامي ، وإليك أرقاماً عن هباتك إلى الأمويين وإلى غيرهم من الوجوه والأعيان .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _136_


أبو سفيـان :
  وفي أول يوم من حكمك أخذ بنو أمية يتوافدون عليك من كل حدب وصوب ، وعلى رأسهم شيخهم أبو سفيان قائد القوى المشركة في موقعة بدر ، وأحد والأحزاب فقد جاء يتعثر بخطاه لعمى بصره وبصيرته ليخطط دستور دولتك الجديدة رافعاً عقيرته بقوله : « يا بني امية تلاقفوها تلاقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم ، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة . . » وخاطبك بقوله : « اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية ، والملك ملك غاصبية ، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية . »(1) ولم تنهره على كلامه ، ولم تعاقبه على هفواته ، وإنما رحبت به ، وأدنيته منك ومنحته مائتي الف من بيت المال(2) ، فبأي كتاب أم بأية سنّة تهب أموال المسلمين إلى هذا المنافق الذي أُترعت نفسه بروح الجاهلية ، ولم يؤمن بالله طرفة عين ، فهل هذه الأموال ملك لك حتى تنفقها على هذا البغيّ الأثيم ، عبد الله بن سعد وأعطيت عبد الله بن سعد أخاك من الرضاعة جميع ما أفاء الله من فتح افريقية بالمغرب من طرابلس الغرب إلى طنجة ، ولم تشرك في عطائه أحداً من المسلمين (3) ، وعبد الله بن سعد هو أحد اعلام المشركين ، واحد الذين كفروا بالإسلام وبغوا عليه ، كما سنوضح حاله الى المجتمع . فبأي وجه ساغ لك أن تهبه هذه الأموال الطائلة التي رصدت للمسلمين ، لتنفق على تطوير حياتهم وعلى نشر السعةفي ربوعهم .

-----------------------
(1) تأريخ ابن عساكر 6 ـ 407 .
(2) شرح النهج 1 ـ 67 .
(3) شرح النهج 1 ـ 67 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _137_


سعيد بن العاص:
  ووهبت سعيد بن العاص مائة الف درهم (1) وهو من فساق الأمويين ومن فجارهم ، وكان ابوه من اعلام المشركين قتله علي يوم بدر(2) ، فعلى اي وجه اعتمدت في إعطائك له هذا المال الكثير ، وهو ليس بأهل لأن يمنح أي شيء .

الوليد بن عقبة :
  وسلطت الوليد بن عقبة على خزانة الكوفة فاستقرض منها ما شاء ، ثم طالبه عبد الله بن مسعود خازن بيت المال فكتب الوليد إليك بذلك فكتبت إلى ابن مسعود « إنما أنت خازن لنا فلا تحرض للوليد فيما أخذ من المال » فلما انتهى إليه كتابك طرح المفاتيح وقال :« كنت أظن أني خازن للمسلمين فأما إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك » . ثم استقال من منصبه(3) ، هل ان هذه الأموال ملك بني أمية ولآل أبي معيط حتى تهبها لهم ، أو ليست هي أموال المسلمين فكيف ساغ لك أن تبددها ؟ وتصرفها بغير وجه مشروع .

مروان بن الحكم:
  ومروان بن الحكم هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون (4)، وكان رأساً من رؤوس المنافقين ، ووجهاً من وجوه أهل الضلالة ، ما آمن بالله ، ولا دخل الإسلام في قلبه ، وقد جعلت هذا الخبيث وزيراً لك ، ومستشاراً لك في جميع أمورك لا تعدو رأيه ، ولا تخالف أمره فكان في الحقيقة والواقع هو الخليفة لا أنت ، وبأي وجه اعتمدت عليه فهل له رأي أصيل ، وعقل ثاقب ، ومكانة بين المسلمين ، لقد سلطته على أموال الله فأخذ يتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم ، ونسوق إليك الأموال الضخمة التي وهبتها له .

-----------------------
(1) الأنساب 5 ـ 58 .
(2) أسد الغابة 3 ـ 310 .
(3) الانساب 5 ـ 30 .
(4) مستدرك الحاكم 4 ـ 479 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _138_

  1 ـ أعطيته خمس غنائم أفريقية ، وقد بغلت خمس مائة الف دينار ، وقد أثار ذلك سخط المسلمين ، وتذمرهم ، وقد هجاك بذلك عبد الرحمن بن حنبل بقوله :

سـأحلف  بالله جـهد iiاليمين      مـا تـرك الـلّه أمراً iiسُدى
ولـكن  خـلقت لـنا iiفـتنة      لـكي نـبتلي لـك أو iiتبتلى
فـإن  الأمـينين قـد iiبـينا      مـنار الـطريق عليه iiالهدى
فـما أخـذا درهـماً iiغـيلة      ومـا جعلا درهماً في iiالهوى
دعــوت الـلعين iiفـأدنيته      خـلافا لـسنّة من قد iiمضى
وأعطيت مروان خمس العباد      ظـلـماً وحـميت iiالـحمى(1)
  2 ـ أعطيته مائة الف من بيت المال ، فجاءك زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يديك ، وهو غارق في البكاء ، فنهرته وقلت له : « اتبكي إن وصلت رحمي ؟ » فأجابك بلا مواربة ولا مداهنة قائلاً : « ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضاً عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله( صلى الله عليه وآله ) لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً . . » وقد دلّك على الخير ، وأرشدك إلى الهدى فلم تستجب له ، فزجرته وصحتبه قائلاً : « الق المفاتيح يا بن أرقم فإنا سنجد غيرك » (2) .

-------------------------
(1) تأريخ أبي الفداء 1 ـ 168 .
(2) شرح ابن أبي الحديد 1 ـ 67 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _139_

  3 ـ ومن هباتك لهذا الوزغ أنك اقطعته فدكا ، ووهبتها له (1) وقد كنت منحتها لبضعتي سيدة نساء العالمين فاطمة ، فظن عليها أبو بكر ، واستلبها منها ، وروي عني أني قلت إنها صدقة للمسلمين ، وعلى كلا الحالين فبأي وجه ساغ لك أخذها واعطائها لمروان ، هذه بعض عطاياك له ، فأي خدمة أسداها مروان للأمة حتى يستحق هذه الأموال الطائلة ، وأي مأثُرة صدرت منه حتى تمنحه هذا الثراء العريض ؟ .

الحارث بن ألحكم: وأجزلت بالعطاء الى الحارث بن الحكم فأعطيته ثلاثمائة الف درهم (2) ووردت إبل الصدقة الى المدينة فوهبتها له (3) واقطعته سوقاً في يثرب يعرف بتهروز بعد أن تصدقت به على جميع المسلمين (4) بماذا استحق الحارث هذه الأموال الطائلة ؟ فهل أسدى خدمة عامة للمسلمين ؟ وهل قام بعمل ايجابي نفع به المسلمين حتى تمنحه هذه الأموال الطائلة ؟، وبأي وجه منحته إبل الصدقة ، ويجب أن تصرف على الجهات التي خصت لها ، وليس الحارث من مصاديقها ، وكيف اقطعته السوق ، وقد تصدقت به على جميع المسلمين . . ان هذه الهبات لا تتفق مع الشريعة ، وتتنافى مع مصالح الأمة،أموال المسلمين على ارحامه وعلى المحسوبين ، وانما يجب أن تصرف حسب المنهج الذي قررته الشريعة .

---------------------
(1) تاريخ أبي الفداء 1 ـ 168 ، المعارف ص 84 .
(2) انساب الأشراف 5 ـ 52 .
(3) انساب الاشراف 5 ـ 28 .
(4) شرح النهج 1 ـ 37 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _140_

الحكم بن أبي العاص:
  ونفيتُ هذا الرجس الخبيث الى الطائف ، وقلت لا يساكنني (1) وذلك لما لاقيت منه من الأعتداء والاستهانة بكرامتي وقد حارب الاسلام ، ومنع الناس من الدخول في دين الله(2) وقد حذرت المسلمين منه فقلت فيه : « إن هذا سيخالف كتاب الله وسنّة نبيه ، وستخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء » فقال لي بعض أصحابي : هو أقل وأذل من أن يكون هذا منه ، فقلت لهم بلى وبعضكم يومئذ شيعته (3) ، وظل هذا الخبيث منفياً طيلة خلافة الشيخين ، وقد توسطت عندهما في إطلاق سراحه فلم يستجيبا لك ، وظل مبعداً منفياً يلاحقه الخزي والعار ، ولما آل الأمر إليك أصدرت قرارك بالعفو عنه فقفل راجعاً الى يثرب وهو يسوق تيساً ، والناس ينظرون الى رثة ثيابه وسوء حاله فدخل دارك ثم خرج من عندك وقد كسوته جبة خز ، وطيلسان (4) وأعطيته مائة الف (5) ، ولم تكتف بهذا الإحسان عليه ، فقد وليته صدقات قضاعة ، وقد بلغت ثلاث مائة الف درهم فوهبتها له(6) ،لقد آويت طريدي ، ومنحته أموال الصدقة التي جعلها الله للفقراء والمحرومين وذوي الحاجة فكيف ساغ لك ذلك ، والأمر لله ، وهو المستعان على ما تصفون ،هذه بعض هباتك وعطاياك للامويين ، ولآل أبي معيط ، وقد خالفت بذلك سنّتي ، وصددت عن شريعتي فإني لم أجز بأي حال لولي الأمر أن ينفق .
--------------------------
(1) انساب الاشراف 5 ـ 28 .
(2) تأريخ ابن كثير 8 ـ 70 .
(3) كنز العمال 6 ـ 39 .
(4) تأريخ اليعقوبي 2 ـ 41 .
(5) المعارف ص 84 .
(6) انساب الأشراف 5 ـ 28 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _141_

دفاع عثمان :
يارسول الله اني أوصلت رحمي ، وأنفقت عليهم الأموال الطائلة مبتغياً في ذلك الأجر والثواب ، وليس في ذلك علي مأثم أو مخالفة للشرع ، فقد ندبت إلى صلة الأرحام ، وحثثت على الإحسان إليهم والبر بهم ، وقد اندفعت بذلك إلى رضاء الله ، ومغفرته فأي بأس علي في ذلك ؟ .

الجواب عنه :
  إن هذا منطق مفلوج لا يتفق مع الشرع ، ولا يلتقي مع سنن الإسلام ، وذلك لوجهين : « الأول » إن هذه الأموال التي أنفقتها عليهم لم تكن من أموالك الخاصة حتى يباح لك التصرف فيها كيفما شئت ، وإنما هي أموال المسلمين فيجب أن تنفق على مصالحهم وسائر شؤونهم ، وليس لرئيس الدولة أن يتصرف فيها بقليل ولا بكثير ، وقد كانت سيرتي على ذلك ، وقد اقتدى بي الامام أمير المؤمنين حينما آل إليه أمر المسلمين فإنه لم يصطف لنفسه من أموال المسلمين شيئاً ، ولم يخص أحداً من أقربائه بشيء منها ، فقد ورد عليه أخوه عقيل من يثرب وهو بائس مضطر قد أخذ منه الفقر أي مأخذ فطلب من أخيه علي أن يوفي عنه دينه فقال له الامام : ـ كم دينك ؟ ـ أربعون الفاً ، ـ ماهي عندي ، ولكن أصبر حتى يخرج عطائي فادفعه إليك ، ـ بيوت المال بيدك وأنت تسوفني بعطائك ؟ـ أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين ، وقد أئتمنوني عليها (1) ، هذا هو منطق الإسلام ، وهذا هو عدله ، وهذه هي مساواته ، ان الواجب على من يلي أمور المسلمين أن لا يفرق بين القريب والبعيد في العطاء وفي غيره .

-----------------------
(1) أسد الغابة 3 / 423 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _142_

  « الثاني » ان أسرتك التي بررت فيها ، وان الذوات التي أغدقت عليهم بالثراء العريض إنما هم خصوم الإسلام وأعداؤه ، وقد قلت لأبي العاص بن أمية : « إنكم الشجرة الملعونة في القرآن » (1) ، وأنت تعرف دوافع أسرتك ، وما انطوت عليه نفوسهم من العداء للاسلام ، والحقد عليه ، وانها لم تؤمن بالله طرفة عين ، أفيصح لك أن تهب أموال المسلمين إلى أعدائهم وخصومهم ؟ وقد حرم الله مودة المعادين له ، وحرم مواصلتهم قال تعالى : « لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم » (2) ، لقد كنت شديد الحب لاسرتك ، لم تألو جهداً في تقوية نفوذهم ، واعلاء أمرهم ، وبلغ من عظيم حبك لهم أنك قلت : « لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا عن آخرهم » (3) ولم يكفك أنك أعطيتهم خزائن بيت مال المسلمين ، وسلطتهم على الفيء وجميع المقدرات الاقتصادية ، انك تريد أن تهبهم مفاتيح الجنان ليتبؤن منها حيثما شاؤوا ، وهيهات فإنه لا ينالها إلا المتقون المتحرجون في دينهم .

-------------------------
(1) أسد الغابة 3 / 423 .
(2) الدر المنثور 4 / 191 رواه عن عائشة .
(3) سورة المجادلة : آية 22 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _143_

هباتك للأعيان :
  ووهبت أموال المسلمين بسخاء إلى الأعيان والوجوه ، وذوي النفوذ ممن تخشى سطوتهم عليك ، فقد وصلت طلحة بمائتي ألف دينار (1) وكانت لك عليه خمسون ألفاً فوهبتها له (2) ووصلت الزبير الذي ثار عليك ، بستمائة ألف دينار ، ولما قبضها حار في صرفها فسأل عن خير المال ليستغل صلته فدل على اتخاذ الدور في الأقاليم والأمصار (3) فبنى إحدى عشر داراً بالمدينة ودارين بالبصرة وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر (4)، ووهبت الأموال الضخمة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض وإنه لما توفي خلف من الذهب والفضة مايكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع ما قيمته مائة ألف دينار (5) ، فبأي وجه تصحح هذه الهبات ؟ وكيف ساغ لك أن تمنحها لذوي النفوذ ، وقد جعلها الله للفقراوالمحرومين لتنقذهم مما هم فيه من محنة الزمن وخطوب الدهر ، إنك لم تهبهم هذه الأموال إلا لأجل تقوية نفوذك ، وبسط سلطانك غير مبال بصالح المسلمين ، ورعاية أمورهم .

استئثارك بالأموال :
واستترفت بيوت الأموال فاسطفيت منها ما شئت لنفسك وعيالك ، وقد بالغت في البذخ والاسراف ، فبنيت داراً في يثرب ، وقد شيدتها بالحجر والكلس ، وجعلت أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنيت أمولاً وجناناً في يثرب (6) وكنت تنضد أسنانك بالذهب ، وتلبس ثياب الملوك ، وأنفقت أكثر بيت المال في عمارة ضياعك ودورك (7) ، ولما قتلت كان عند خازنك ثلاثون الف الف درهم ، وخمسمائة الف درهم ، وخمسون ومائة الف دينار ، وتركت ألف بعير وصدقات ببراديس ووادي القرى قيمة مائتي الف دينار(8) .

------------------------
(1) طبقات ابن سعد .
(2) تأريخ الطبري 5 / 139 .
(3) طبقات ابن سعد .
(4) صحيح البخاري 5 ـ 21 .
(5) مروج الذهب 1 ـ 433 .
(6) مروج الذهب 1 ـ 433 .
(7) السيرة الحلبية 2 ـ 87 .
(8) طبقات ابن سعد 3 ـ 53 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _144_

  انك لم تتقيد في سياستك المالية لا بكتاب الله ولا بسنّتي ، وقد اتخذت السلطة وسيلة للثراء ، وتتمتع بملاذ الحياة فادهنت في دينك ، وسلكت غير الجادة ، وشذذت عن السنّة الموروثة، وكان من العدل والانصاف ما أصدره علي من القرار الحاسم في هذه الأموال التي استأثرت بها ، والتي وهبتها لأرحامك واقربائك أنه قال : « ألا أن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به النساء ، وفرق في البلدان لرددته الى حاله فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق » (1)، وكان هذا الاجراء الذي اتخذه أمير المؤمنين على وفق العدل الإسلامي الذي حدد صلاحية المسؤولين ، ولم يطلق لهم العنان في التصرف بأموال الأمة أو الاستئثار بها .

ولاته على الأمصار :
وكان اللازم عليك ان تستعمل على الأقاليم الإسلامية خيرة المسلمين في تقواهم وورعهم ونزاهتهم ليقوموا بتهذيب المسلمين ، ونشر الفضيلة والهديالاسلامي بين الناس ، ولكنك لم تعن بذلك فقد استعملت بني أمية وآل أبي معيط حكاماً وولاة على الاقاليم الاسلامية فأشاعوا في البلاد الجور والفساد ، واستحلوا ما حرم الله ، وجعلوا يتلاقفون مقدرات الأمة تلاقف الكرة بأيدي الصبيان كما اوصاهم عميدهم أبو سفيان ونشير إلى بعض ولاتك مع عرض موجز لبعض شؤونهم ، وهم :

----------------------
(1) نهج البلاغة محمد عبده 1 ـ 46 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _145_

الوليد بن عقبة :
واستعملت الوليد بن عقبة على الكوفة بعد ان عزلت عنها سعد بن أبي وقاص ، هل كان الوليد خليقاً بأن يعهد اليه أمر هذا المصر العظيم ، كيف ساغ لك أن تأتمنه على أموال المسلمين ، وتعهد إليه بأمر الصلاة والقضاء ؟ وهو لم يفهم من الإسلام أي شيء ، لقد نشأ الوليد نشأة جاهلية ، ولم يدخل بصيص من نور الإسلام في قلبه ، فقد كان أبوه من ألد أعدائي فكان هو وابو لهب يأتيان بالفرث فيطرحانه على باب داري (1) ، وقد بصق هذا الأثيم في وجهي فقلت له : إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً ، فلما كان يوم بدر ، وخرج أصحابه امتنع من الخروج خوفاً من القتل فما زال أصحابه يلحون عليه حتى خرج فلما هزم الله المشركين كان عقبة من جهة الأسرى فعهدت إلى علي بضرب عنقه (2) وقد أُترعت نفس الوليد بالحقد والعداء لي لأني قد ذكرته بأبيه ، ولما لم يجد بداً من الدخول في الاسلام وهو مكره ، وقلبه مطمئن بالكفر والنفاق .
  وقد نطق القرآن الكريم بفسقه وعدم إيمانه وذلك حينما تفاخر مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال له الوليد :« واسكت فإنك صبي ، وأنا شيخ ، والله إني أبسط منك لساناً ، وأحدّ منك سناناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة . . » فردّ عليه أمير المؤمنين قائلاً : « أسكت فإنك فاسق » .

-----------------------
(1) طبقات ابن سعد 1 ـ 186 ط مصر .
(2) الغدير 8 ـ 273 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _146_

  فأنزل الله تعالى فيهما « أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً »(1) ، وقد غشني وكذّب عليّ حينما أرسلته في بني المصطلق فعاد إلي يزعم انهم منعوه الصدقة فخرجت اليهم غازياً فتبين لي كذبه ، ونزلت عليَّ الآية بفسقه وهي قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين »(2) ، ومع إعلان القرآن بفسقه ، وتجريده عن صبغة الإيمان كيف ساغ لك أن تجعله حاكماً على المسلمين ، ولما استعملته والياً على الكوفة بالغ في الاستهتار والتهتك والمجون ، فلم يرجو لله وقاراً ، وقد اقترف أفحش جريمة ، وأفظع ذنب ، فقد ثمل وصلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده « اشرب واسقني » ثم قاء في المحراب وسلم ، وقال هل أزيدكم ؟ ، فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيراً ، ولا من بعثك الينا وأخذ فروة نعله ، وضرب بها وجه الوليد ، وحصبه الناس فدخل القصر ، والحصباة تأخذه ، وهو مترنح (3) ويقول الحطيئة جرول ابن أوس العبسي في فعله :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه      إن  الـوليد أحـق iiبالغدرِ
نـادى  وقد تمت iiصلاتهم      أأزيـدكم ثـملاً ولا iiيدري
-------------------------
(1) تفسير الطبري 21 / 62 .
(2) سورة الحجرات : آية 6 يقول ابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 62 لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن الآية نزلت في الوليد .
(3) السيرة الحلبية 2 / 314 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _147_

لـيـزيدهم خـيـراً ولـو iiقـبلوا      مـنـه  لـزادهـم عـلى iiعـشرِ
فـأبوا  أبـا وهـب ولـو iiفـعلوا      لـقـرنت بـين الـشفع iiوالـوترِ
حـبـسوا  عـنـانك إذ iiجـريت      ولو خلوا عنانك لم تزل تجري (1)
  وقد أسرع قوم من الكوفيين بعد اقترافه إلى هذه الجريمة فعرضوا عليك انتهاكه لحرمة الله ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه ، وهو في حالة السكر ، ولما شهدواعندك زجرتهم وقلت لهم : « وما يدريكم انه شرب الخمر ؟ » ، فقالوا لك : « هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية » ، وأخرجوا لك خاتمه الذي انتزعوه منه ، وهو في حال سكره ، فتميزت من الغيظ ، ودفعت في صدورهم ، وقابلتهم بأمر القول ، وأقساه ، وليس للحاكم أن يفعل ذلك ، وهرعوا فزعين إلى أمير المؤمنين يشكونك اليه ، فأقبل اليك وهو ثائر غضبان فقال لك : « دفعت الشهود ، وأبطلت الحدود ؟ » . فخشيت ، وحاذرت واجبته على كره قائلاً : « ما ترى ؟ » ، « أرى ان تبعث إلى صاحبك ، فإن أقاما الشهادة في وجهه ولم يدل بحجة أقمت عليه الحد » ، فاستجبت له على كره ، وأرسلت خلفه فلما مثل عندك أمرت باحضار الشهود فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بحجة ، وقد وجب عليه الحد فلم يقم أحد عليه خوفاً منك ، فلما رأى أمير المؤمنين ذلك اندفع فأخذ السوط ودنا منه ، فسبه الوليد ، وأخذ يراوغ عنه فاجتذ به الإمام ، وضرب به الأرض ، وعلاه بالسوط فثرت وقد علاك الغضب فقلت له : « ليس لك ان تفعل هذا به . . » .

--------------------------
(1) الأغاني 4 / 178 ـ 179 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _148_

  « بلى وشر من هذا إذا فسق ، ومنع حق الله أن يؤخذ منه » (1) ، وأقام عليه الحد ، وكان اللازم بعد ارتكابه لهذا الجرم ، وانتهاكه لحرمة الاسلام أن تبعده ، وتجافيه حتى يرتدع هو وغيره من ارتكاب الفسق والفساد ، ولكنك لم تعن بذلك فقد عطفت عليه ، ووليته صدقات كلب ، وبلقين (2) ، وكيف ساغ لك أن تأتمنه على صدقات المسلمين وأموالهم بعد ما ثبت فسقه وارتكابه للاثم .

سعيد بن العاص:
  وبعد أن اقترف الوليد جريمته النكراء أقصيته عن الكوفة على كره منك ، وقد عمدت إلى اسناد الحكم إلى سعيد بن العاص فوليته أمر هذا المصر العظيم ، وقد استقبله الكوفيون بالكراهية والاستياء وعدم الرضا لأنه كان شاباً مترفاً (3) لا يتحرج من الإثم ، ولا يتورع من الافك ، كما كان طاغياً جباراً ، قال لأصحابه بعد أن ولي الكوفة : « من رأى منكم الهلال ؟ » فقال له هاشم بن عتبة المرقال : أنا رأيته فوجه إليه لاذع القول وأقساه ، فقال له : « بعينك هذه العوراء رأيته ؟ » ،فالتاع هاشم وأجابه : « تعيرني بعيني ، وإنما فقئت في سبيل الله ـ وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ـ » ، وفي استهتاره قوله : « إنما السواد ـ اي سواد الكوفة ـ بستان لقريش » ، وقد أثار ذلك سخط الأخيار والمتحرجين في دينهم ، فانبرى إليه مالك الاشتر فأنكر عليه ذلك قائلاً : « أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك ؟ ، والله لو رامه أحد لقرع قرعاً يتصأصأ منه » .

------------------------
(1) مروج الذهب 2 / 225 .
(2) تأريخ اليعقوبي 3 / 142 .
(3) طبقات ابن سعد 5 ـ 21 ، تأريخ ابن عساكر 6 ـ 135 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _149_

  وانضم إلى الأشتر قراء المصر وهم ينكرون على عاملك هذا الاستهتار ، فغضب صاحب شرطته فرد على القوم رداً غليظاً ، فقاموا إليه فضربوه ضرباً منكراً حتى أغمي عليه ، وأخذوا يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالبك وجرائم بني أمية ، وكتب سعيد إليك بخبرهم فأمرته أن يعتقلهم في الشام ، وينفيهم عن مصرهم ، وهم لم يرتكبوا إثماً أو فساداً ، ولم يقترفوا جرماً حتى يستحقوا هذا التنكيل ، وانما نقدوا عاملك لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، وأخرجهم سعيد عن أوطانهم بالعنف فأرسلهم إلى الشام إلى بلد لم يألفوه ، ولا يسكنون إلى من فيه وتلقاهم معاوية فأنزلهم في كنيسة ، وأجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويحاججهم ، وهم مصرون على منطقهم إن السواد ليس ملكاً لقريش فأي ميزة يمتاز بها الشرك إلا القليل منهم ، ولما يئس عاملك وقريبك معاوية منهم كتب إليك يستعفيك من ابقائهم في الشام خوفاً من أن يفسدوا أهلها عليه فأمرته أن يردهم الى الكوفة فعادوا إليها وهم مصرون على نقد عاملك وعلى نقد سياستك ، فأعاد سعيد عليك الكتابة يطلب منك ابعادهم عن مصرهم فأمرته أن ينفيهم الى حمص فنفاهم إليها ، واستقبلهم عبد الرحمن بن خالد عامل معاوية بالعنف والشدة ، وسامهم سوء العذاب ، وقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، فكان اذا ركب أمرهم بالمسير حول ركابه مبالغة في توهينهم وإذلالهم ، لوما رأوا تلك القسوة البالغة والعذاب المهين أظهروا الطاعة ، وطلبوا منه أن يصفح عنهم ، فعفا عنهم ، وكتب إليك يسترضيك ، ويسألك العفو عنهم فأجبته الى ذلك ، وأمرت بردهم الى الكوفه ، ونزح سعيد من الكوفة الى يثرب لمواجهتك فوجد القوم عندك يشكونه إليك ، ويسألونك عزله ، فامتنعت من إجابتهم ، وأصررت على ابقائه في عمله، فرجعالقوم إلى مصرهم قبله ، وقد احتلوا الكوفة ، وأقسموا أن لا يدخلها عاملك الأثير عندك ، ولما توجه سعيد منعوه من دخول المصر ، وأجبروك على عزله فاستجبت لهم على كره (1) .

------------------------
(1) الأنساب 5 ـ 39 ـ 43 ، تأريخ الطبري 5 ـ 88 ، تأريخ أبي الفداء 168 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _150_

  لقد نكلت بالأخيار والصلحاء من أجل مارق خبيث مستهتر متهور فسلطته على رقاب المسلمين وأموالهم وأعراضهم لأنه من أسرتك وذويك ، فأي سياسة رعناء سست بها البلاد ؟ لقد سلطت شرار خلق الله على أمتي فأخذوا يسومونها سوء العذاب فنكّلوا بأخيارها ، وطاردوا صلحاءها ، ياذا النورين ! يا من تستحي الملائكة منه ! أهكذا تسلط الفساق وشذاذ الآفاق على المسلمين لينتزعوا منهم حريتهم ، ويشيعون في ربوعهم الظلم والجور والاستبداد والأمر لله فهو الحاكم في عباده ، وهو ولي الأمور ، واخترت ابن خالك عبد الله بن عامر فوليته البصرة وهو ابن اربع أو خمس وعشرين سنة (1) وهو كما وصفه أبو موسى الأشعري بقوله : « ولاج خراج » ، وقد سار في ولايته في البصرة سيرة ترف وبذخ فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة وكناء فقال الناس : « لبس الامير جلد دب » فغير لباسه ، ولبس جبة حمراء (2) .
وقد أنكر المسلمون سياسته ، وسخطوا على اوضاعه ، كما عابوا عليك اعمالك ، وقد اجتمع الأخيار والمؤمنون فتذاكروا أحداثك فأجموا أن يبعثوا إليك رجلاً يكلمك بما احدثه في المسلمين فأرسلوا إليك عامر بن عبد الالتميمي الزاهد العابد ، ولما انتهى اليك وعظك وأرشدك إلى طريق الحق قائلاً : « إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً ، فاتق الله عزّ وجلّ ، وتب إليه ، وانزع عنها » .

-------------------------
(1) الاستيعاب المطبوع على هامش الأصابة 2 ـ 253 .
(2) اسد الغابة 3 ـ 192 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _151_

  فاحتقرته ، وبالغت في توهينه فقلت لمن حولك : « إنظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله » ، فانطلق لك العبد الصالح وقد أسخط قولك فقال لك : ـ انا لا أدري أين الله ـ نعم ، ـ إني لأدري ان الله بالمرصاد ، فلذعك قوله ، ولكنك لم تستجب لندائه ، وقد أرسلت خلف مستشاريك وأعوانك من بني أمية فعرضت عليهم الأمر فأشار عليك عبد الله بن عامر قائلاً : « رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة أحدهم وما هو فيه من دبر دابته ، وقمل فروته » ، وقد أشار بالظلم والجور وبالتضييق على الناس وقد أخذت بقوله ، وتركت رأي الآخرين فأمرت بتجمّر الناس في البعوث ، وعزمت على تحريم أعطياتهم حتى يطيعوك (1) ، ولما عاد إلى البصرة عبد الله بن عامر عمل إلى التنكيل بعامر بن عبد الله ، فأوعز إلى عملائه وأذنابه أن يشهدوا عنده بان عامراً قد خالف المسلمين في أمور قد أحلها الله ، فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ، ولا يشهد الجمعة (2) فشهدوا له بذلك ، ورفع بذلك تقريراً اليك فأمرت بنفيه إلى الشام على ( قتب ).

----------------------
(1) تاريخ الطبري 5 ـ 94 ، تاريخ ابن خلدون 2 ـ 39 .
(2) الفتنة الكبرى 1 ـ 116 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _152_

  فحمل اليها وأنزله معاوية الخفراء ، وبعث اليه بجارية وأمرها ان تتعرف على حاله ، وتكون عيناً عليه ، فرأته رجل تقوى وصلاح يقوم في الليل متعبداً ، ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئاً فكان يجيء بالكسر من الخبز ، ويجعلها بالماء ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرت معاوية بشأنه فكتب اليك بأمره فأوعزت اليه بصلته (1) ، وقد نقم المسلمون عليك لأنك نفيت رجلاً من خيار المسلمين وصلحائهم (2) ولم يكن له ذنب سوى انه نقد عاملك وعاب عليه أعماله ، وليس لولي الأمر الصلاحية في نفي أحد من المسلمين فإنه لم يشرع إلا لمن حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً ، وقد ظل عبد الله بن عامر والياً من قبلك على البصرة إلى ان قتلت فلما سمع بمقتلك نهب ما في بيت المال وسار إلى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فأمدهم بالأموال وأعانهم على التمرد والخروج على حكومة أمير المؤمنين ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

عبد الله بن سعد :
  وحبوت أخاك من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحته إمارة هذا القطر العظيم وجعلت بيده أمر صلاته ، وخراجه(3) وقبل ذلك منحته الأموال الطائلة ، ووهبته الثراء العريض فخصصته بخمس غنائم افريقية ، ولم يكن خليقاً بذلك فإن له تاريخاً أسوداً حافلاً بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركاً بعد اسلامه وصار إلى قريش ساخراً مني ، ومستهزءاً بي ، وكان يقول لهم : « إني أصرفه حيث اريد » .

------------------------
(1) الاصابة 3 ـ 85 .
(2) اسد الغابة 3 ـ 192 .
(3) الولاة والقضاة ص 11 .