إذ اللازم على من يتعدي لمنصب الأمامة والحكم بين الناس أن يعرف أساليب الكلام ، وأفانين الحديث ليصلح للقضاء والحكم ، وسألت رجلاً عن حاله فقلت له : كيف أنت ؟ فقال لك :
« إنه ممن يحب الفتنة ، ويكره الحق ، ويشهد على ما لم يره » ،
فأمرت به الى السجن ، وكان علي حاضراً فأمر برده ، وقال لك : إنه صدق في قوله ، فقلت له كيف صدقته ؟ قال : إنه يحب المال والولد ، وقال الله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ، ويكره الموت ، وهو الحق ، ويشهد أن محمداً رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو لم يره فعند ذلك أمرت باطلاقه وطفقت تقول في علي :« الله أعلم حيث يجعل رسالته فيمن يشاء »
.
5 ـ وخفيت عليك أوضح كلمة في كتاب الله وهي كلمة الحرج في قوله تعالى : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » فقلت ادعو لي رجلاً من بني مدلج فلما دعي لك قلت له : ما الحرج فيكم ؟ فقال لك : الضيق
.
، فتحيرت في معنى كلمة الظلم فسالت أبي بن كعب فقلت له : « أينا لم يظلم ؟ »فأوضح لك معنى الكلمة ، وبيَّن لك المقصود منها قائلاً : « يا أمير المؤمنين : إنما ذلك الشرك ، أما سمعت قول لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم »
.
فأوضح لك معنى الكلمة ، وبيَّن لك المقصود منها قائلاً : « يا أمير المؤمنين : إنما ذلك الشرك ، أما سمعت قول لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم »
(1)، إلى غير ذلك من الأمور التي جهلتها من لغتك فلم تفهم معانيها والمقصود منها ، وقد اضطررت بأن تعلن للملاء أن لا يسألوك عما لم يكن ، معتذراً بأن الله قد بين ما هو كائن
(2)، والسبب في ذلك عدم علمك ودرايتك ، وقد تحاملك الناس فلم يسألوك عن شيء .
المنع عن تدوين الحديث :
إن المنع عن تدوين ما أُثر عني من السنن والأحكام قد سبب للمسلمين المضاعفات السيئة ، وأخلد لهم الفتن والمصاعب ، وجرَّ لهم الويلات والخطوب فقد كثر الوضع عليّ ، وكثرت الأحاديث الموضوعة التي شوهت معالم الدين ، وقد نسبوا إلي من الأقوال ما لم أفد بها ، لقد عمد أبو بكر إلى جميع بعض الأحاديث فأحرقها
(3) ولما آل الأمر اليك استشرت عامة الصحابة في تدوين ما أُثر عني فأشار عليك عامتهم بذلك وحبذوه لك ، ولبثت مدة تفكر في الأمر ثم عدلت عنه ، وقلت : « إني قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم . ثم تذكرت فإذا اناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أُلبس كتاب الله بشيء أبداً ، ثم تركت ذلك وعدلت عنه
(4) وهو تعليل غير وثيق لأن حديثي لا يشذ عن كتاب الله ، ولا يخالفه ، وليس تدوينه موجباً لهجر القرآن الكريم ولا مستلزماً للإعراض عنه ، ولو أنك بادرت الى ذلك لصنت المسلمين من الأختلاف ، ولسددت باب الوضع ، فقد عمد ( كسرى العرب ) معاوية بن أبي سفيان إلى لجان تفتعل الأحاديث ،وتضع الأخبار تارة للحط من كرامة العترة الطاهرة وأخرى لتمجيد الصحابة والثناء عليهم وثالثة للاشادة بالأمويين ، وقد رووا في ذلك الشيء الكثير ، فقد روى ابن العاص أني قلت في آل أبي طالب : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما ولي الله وصالح المؤمنين »
(5) .
---------------------------
(1) مستدرك الحاكم 3 ـ 305 .
(2) سنن الدرامي .
(3) تذكرة الحفاظ 1 ـ 5 .
(4) تقييد العلم ص 50 ، وقريب منه في طبقات ابن سعد 3 ـ 1 ص 206 .
(5) شرح ابن أبي الحديد 3 / 15 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_114_
وروى سمرة بن جندب ان الآية الكريمة وهي « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد »
(1) انها نزلت في علي ، وقد أخذ عوض ذلك الشيء الكثير من بيت مال المسلمين
(2) وقد كان أبو هريرة في طليعة الوضاعين فقد روى المئات من الأحاديث عني ، وفي الكثير منها خروج على حكم المنطق والعقل ، ونسبها لي ، وكذلك المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وغيرهم من الوضاعين وقد نسوا قول الله تعالى في كتابه الكريم « إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكافرون »
(3) ، وجافوا قولي : « من كذب عليَّ متعمداً ليحل حراماً ، أو يحرم حلالاً ، أو يضل الناس بغير علم فليتبوء مقعده من النار »
(4) .
بلى والله لقد سمعوا ذلك ، ولكن حليت لهم الدنيا ، وراق لهم زبرجها ، فانطلقوا وراء شهواتهم وملاذِّهم ، وعمدوا إلى الكذب والإغراء ، والتضليل في سبيل مصالحهم الضيقة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وعلى أي حال لقد كان منعك من تدوين أحاديثي موجباً إلى رزية الأمة ومحنتها في جميع مجالاتها العقائدية ، فلو كان الحديث مدوناً ، ومحفوظاً لما تمكن الوضّاعون والمنحرفون عن دينهم من الكذب عليّ ، ومن افتراء الحديث وأنت قد شددت على المسلمين في رواية الحديث عني ، فقلت لهم : « جرِدوا القرآن ، ولا تفسروه ، وأقلّوا الرواية عن رسول الله ، وأنا شريككم »
(5) ،فلماذا منحت المسلمين من رواية حديثي ؟ ولماذا صددتهم عن تدوين سنّتي .
---------------------------
(1) سورة البقرة : آية 203 ، 204 .
(2) النصائح الكافية ص 253 .
(3) سورة النحل : آية 105 .
(4) الكامل لابن عدي صورة فواتغرافية في مكتبة الامام أمير المؤمنين .
(5) شرح أبن أبي الحديد 3 / 120 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_115_
الحصار على الصحابة :
وقد منح الاسلام الحرية التامة لكل مواطن ، فجعل له حرية القول والعمل والسكن ما لم يجاف أحكام الله ، ولكنك لما آل اليك الأمر فرضت الحصار على صحابتي فلم تسمح لهم بمغادرة يثرب ، ولم تتركهم وشأنهم في السفر إلى أي بلد أحبوه ، ما هو السبب في ذلك ؟ ماهي الدواعي التي حفزت إلى ذلك ؟ إن الحاكم في الإسلام الذي يرتدي ثوب النيابة عني يجب عليه أن يمثل سيرتي وهديي ، وسلوكي بين الناس ، أفهل رأيتني أني فرضت الإقامة الجبرية في عاصمتي على أحد من أصحابي حتى تفعل ذلك ، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون ، وهو المستعان على ما تصفون .
فرارك من الزحف :
وأذكرك في أيام حياتي حينما دهمتنا قوى الشرك والالحاد ، في واقعة أحد ، فقد انهزمت ، وكذلك فررت من واقعة خيبر ، وقد كنت بعثت قبلك أبا بكر فرجع بالجيش منهزماً وبعثت بعدكما علي بن أبي طالب ففتح الله على يده ، ورجع بالغنائم والأسرى ، وقد جاء النص صريحاً عن الفرار عن الزحف قال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير »
(1) .
-----------------------------
(1) سورة الانفال : آية 15 ـ 16 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_116_
عصيان أمري بقتل ذي الثدية :
وعجب المسلمون بتعبد ذي الثدية واجتهاده فحدثني عن أمره جماعة من أصحابي ، وبينما نحن في حديثه إذ أقبل فقال المسلمون : هو هذا ، فقلت لهم : « انكم لتخبروني عن رجل في وجهه سفعة
(1) من الشيطان » ، وأقبل ذو الثدية فلم يسلم ، فانكرت عليه أمره ، وقلت له : « أنشدك الله ، هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم أفضل مني أو خير مني ؟ » ، ( نعم ) ، ثم انصرف ذو الثدية ، وقد أعلمني ربي بأنه سيكون رأس المارقة في الإسلام ، فأردت استنصال شأفته فندبت المسلمين إلى قتله فانبرى اليه أبو بكر ، فوجده يصلي فقال : « سبحان الله أقتل رجلاً يصلي ؟ وقد نهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن قتل المصلين » ، لقد أغترَّ أبو بكر بصلاته ، وخشوعه ، ولم يذعن لقولي في قتله ، وأقبل أبو بكر فقلت له : ( ما فعلت ؟ )« كرهت أن أقتله وهو يصلي » ، فندبت المسلمين مرة أخرى الى قتله فقلت لي : أنا له يا رسول الله ، وانطلقت اليه فوجدته واضعاً جبهته على الأرض فقلت : « أبو بكر أفضل مني فلم يقتله » .
--------------------------
(1) السفعة : العلامة .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_117_
وجئت إلي فأخبرتني بعدم قتلك له ، فندبت المسلمين إلى قتله فانبرى إليه علي ، فلم يظفر به فأخبرني بذلك فقلت : « لو قتل ما أختلف من أمتي رجلان »
(1)، لقد خدعك ذو الثدية ، كما خدع صاحبك أبا بكر فآثرت ذلك على أمري وقد كشفت الأحداث من بعدي أمر هذا الانسان الغريب ، فقد كان داعية ضلال ، وصاحب بدع وأهواء ، قد عمل على فساد أمر المسلمين وتصديع وحدتهم وشملهم .
اجتهادك في الخمر :
ولما نزلت الآيات التي حرم الله فيها الخمر شربتها وأنت غير معتن بالتحريم ، وقد شججت رأس عبدالرحمن بن عوف وجلست وأنت ثمل تنوج على قتلى بدر وتنشد شعر الأسود بن يعفر تقول :
وكـأن بـالقليب قـليب iiبدر مـن الـفتيان والعرب الكرام أيوعدني ابن كبشة ان سنحيى وكـيف حـياة أصداء iiوهام أيـعجز أن يرد الموت iiعني ويـنشرني إذا بُليت iiعضامي ألا مـن مـبلغ الرحمن iiعني بـأني تـارك شـهر iiالصيام فـقل لـلّه يـمنعني iiشرابي وقـل لـلّه يـمنعني iiطعامي |
ولما بلغني ذلك خرجت وأنا مغضب أجر ردائي وكان بيدي شيء فضربتك به ، فقلت أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فنزل قوله تعالى :« إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله فهل أنتم منتهون »
(2) فقلت : أنتهينا انتهين
(3)
.
---------------------------
(1) الاصابة في ترجمة ذي الثدية ، وأسد الغابة .
(2) سورة المائدة : آية 91 .
(3) المستطرف 2 / 291 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_118_
وكنت مدمناً على شرب النبيذ لم تفارقه حتى النفس الأخير من حياتك (1)، وجاءك أعرابي فشرب من شرابك فأقمت عليه الحد فأنكر عليك ذلك فقال انما شربت من شرابك ، ودعيت بماء فكسرته ثم شربته ، مجتهداً أن كسره بالماء يذهب حرمته ،(2) وقد قلت في الخمر « ما أسكر كثيره فقليله حرام »
(3) ، وقلت : « حرمت الخمر لعينها القليل منها والكثير ، والمسكر من كل شراب »
(4) ،
فعلى أي حجة اعتمدت في شربك للمسكر ، وبأي وجه حللت النبيذ ، والأمر لله تعالى وحده وهو المستعان على ما تصفون .
الشورى :
وأعظم ما مني به المسلمون أحداثك للشورى بوضعها الهزيل التي سببت للمسلمين كثيراً من الفتن والخطوب ، وهي مؤامرة دبرتها لصرف الخلافة عن أهل بيتي ، وجعلها في بني أمية ، وكان ذلك منك بأسلوب بارع دل على عمقك ، وسعة فكرك ، وسياستك البالغة في صرف الخلافة عن أهل بيت النبوّة ، ومعدن الحكمة ، وخزان العلم وسدنة التوحيد ، وذلك حينما طعنك أبو لؤلؤة طعنتهالمميتة وصرت تنتظر ركب الموت ليسير بك إلى دار الحق أخذت تطيل التفكير ، وتمعن النظر فيمن يتولى شؤون الحكم من بعدك ، وتذكرت أقطاب حزبك الذين شاركوك في تمهيد الأمر فطافت بك الآلام والهواجس لأنه لم يكن أحد منهم الا اختطفته يد المنون فجزعت عليهم ، وقلت بنبرت الآسف : « لو كان أبو عبيدة حياً لا ستخلفته لأنه أمين هذه الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته لأنه شديد الحب لله تعالى . . » .
--------------------------
(1) الامامة والسياسة .
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 565 .
(3) مسند احمد 2 / 176 ، صحيح الترمذي 1 / 342 ، مصابيح السنة 2 / 67 تأريخ الخطيب 3 / 327 .
(4) جامع مسانيد أبي حنيفة .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_119_
لقد أسفت على هلاك أبي عبيدة وهو حفّار للقبور ، وكان من أبطال المؤامرة الكبرى في قلب الحكم عن أهل بيتي ، وسالم كان مولى ، وقد كنت ترى أن الخلافة لا تكون إلا في قريش لأنها أقرب الناس لي ، وأمسهم بي رحماً ، وبهذا المنطق أحتج أبو بكر على الأنصار وتغلب عليهم ، فما الذي حداك عن العدول عنه ، لقد فتشت في سجل الأموات ، عمّن هو أهل للخلافة ، ونسيت أمير المؤمنين الذي هو نفسي ، وباب مدينة علمي ، وأقضى امتي ، وأبو سبطيّ ، وناصري في جميع المواقف والمشاهد ، فقد جعلته أحد أعضاء الشورى ، ورجحت عليه عبد الرحمن بن عوف .
لقد جعلت الخلافة شورى بين ستة أنفار ، علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوّام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وعثمان بي عفان ، وأمرت باحضارهم فلما مثلوا عندك قلت لهم : « أكلكم يطمع بالخلافة بعدي ؟ » ،
فوجموا عن الكلام فاعدت القول عليهم ثانياً فانبرى إليك الزبير فرد عليك قائلاً :« وما الذي يبعدنا عنها . . . وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش ، ولا في السابقة ، ولا في القرابة » ،
وطفقت تخبرهم عن نفسياتهم فقلت : « أفلا أخبركم عن أنفسكم ؟ » ،فأجابوك : « إنا لو استعفيناك لم تعفنا » ،فخاطبت الزبير فقلت له : « أما أنت يا زبير فوعق لقس (1) مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ، ويوماً شيطان ، ولعلها لو أفضت إليك ظللت يومك تلاطم بالبطحاء على مدمن شعير !! أفرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ، ومن يكون يوم تغضب ، وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة ، وأنت على هذه الصفة » .
------------------------
(1) الوعق : الفجر المتبرم ، اللقس : من لا يستقيم على وجه .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_120_
لقد جرحت الزبير ، فوصمته بأنه يوم انسان ، ويوم شيطان ، وانه مبتل بالبخل والشح ، ويلاطم بالبطحاء على مد من شعير ، وإذا كانت نفسيته بهذه الصفة من الضعة والهوان فكيف ترشحه للخلافة ، وتجعله من أعضاء الشورى ، وهل هذا من النصيحة للأمة ، ومن الحيطة على أمرها ؟ وأقبلت على طلحة فقلت له ! « أقول أم أسكت »فزجرك طلحة ورد عليك قائلاً !« إنك لا تقول من الخير شيئاً فأجبته وقد كشفت عن نفسيته واتجاهه قائلاً : « أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد وايئاً
(1) بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب » ،وإذا كنت تعترف بأنه قد متُ وأنا ساخط عليه ، فكيف ترشحه للخلافة على المسلمين ، ونائباً عني في ادارة شؤون المسلمين ، مع أنك قد زكّيت أعضاء الشورى ، وقلت فيهم : إن رسول الله مات وهو عنهم راض ، وتقول لطلحة ان رسول الله مات وهو ساخط عليك أليس هذا من التناقض والهجر في القول ؟ وأقبلت على سعد بن أبي وقاص فقلت له : « إنما أنت صاحب مقنب
(2) من هذه المقانب ، تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس ، وأسهم ، وما زهرة والخلافة وأمور الناس » .
-------------------
(1) وائياً : غاضباً .
(2) المقنب : جماعة الخيل .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_121_
إن سعد بن أبي وقاص ـ حسب اعترافك ـ رجل حرب ، وصاحب قنص وقوس ، فلا يصلح للخلافة ، وليس خليقاً بها هو وأسرته فكيف ترشحه للخلافة وتجعله من أعضاء الشورى ؟ وأقبلت على عبد الرحمن بن عوف فقلت له : « أما أنت يا عبد الرحمن فلو وُزن نصف إيمان المسلمين بايمانك لرجح ايمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الأمر » .
إن عبد الرحمن ـ حسب رأيك ـ يرجح ايمانه على نصف ايمان المسلمين ، ومن ايمانه الذي أضفيته عليه عدو له عن انتخاب العترة الطاهرة وتسليم قيادة الأمة بأيدي الأمويين وهم خصوم الإسلام واعداؤه ، وقد اعترفت بأنه ضعيف لا يصلح لادارة شؤون الخلافة لأنها تتوقف على الحزم وعلى قوة الشخصية ، وهو فاقد لذلك فكيف رشحته للخلافة ، وجعلته من أعضاء الشورى ؟ والتفت إلى علي فقلت له : « لله أنت لولا دعابة فيك ، أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء » .
ومتى كانت لأمير المؤمنين الدعابة ، وهل أبقت نوائب الدهر وكوارث الزمن من دعابة له ، فقد صار قلبه موطناً للهموم ومركزاً للأحزان لغصب حقه ، ونهب تراثه ، وعزله عن الأمة،وقد اعترفت بأنه لو ولي الأمر لحمل المسلمين على الحق الواضح وعلى
المحجة البيضاء ، فهل من الانصاف العدول عنه ، وجعله من اعضاء الشورى ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو المستعان على ما تصفون ، وأقبلت على عثمان فقلت له ! « هيها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك ، فحملت بني أمية ، وبني أبي معيط على رقاب الناس وآثرتهم بالفيء ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثم أخذت بناصيته ، فقلت له : فاذا كان ذلك فاذكر قولي » .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_122_
ومع علمك بأنه يحمل بني أمية ، وبني أبي معيط على رقاب الناس ويؤثرهم بالفيء كيف ترشحه للخلافة فتعرّض الأمة للنكبات والازمات ، وإذا عرفت من نفسه اللين والضعف ، ودرست خفايا ذاته ، ودخائل نفسه ، وهو بهذه الصفة من الانقياد بعواطفه ، كيف ترشحه للخلافة ، وليست قريش هي التي قلدته هذا الأمر وانما قلدته أنت وألبسته ثوب الخلافة ، واي حق لقريش في شؤون المسلمين وهم الذين نصبوا العداء للاسلام ، وحاربوا المسلمين، فأي منطق هذا الذي أدليت به ؟ والتفت بعد حديثك إلى الجمهور فقلت لهم :
« إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم واحداً منهم » .
وأحكمت أمر الشورى ، وأبرمته فقد عهدت إلى السلطة التنفيذية بتحقيقه فقلت لأبي طلحة الأنصاري ! « يا أبا طلحة ، إن الله أعزّ الإسلام بكم فأختر خمسين رجلاً من الأنصار » « فاًلزِم هؤلاء النفر بامضاء الأمر وتعجيله . . » وعهدت إلى المقداد بن الأسود بتنفيذ الأمر فقلت له : « إذا اتفق خمسة ، وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وإن اتفق أربعة
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_123_
آفات الشورى :
والشورى التي فتلت حبلها ، وفرضتها على المسلمين لم تستند إلى الأساليب الصحيحة ، ولم تبتن على الاسس الوثيقة ، وإنما غرضها ، وباعثها صرف الخلافة عن أمير المؤمنين ، وحرمان المسلمين من التمتع بعدله ، وعلمه ، وفقهه ، فهي لم تكن شورى واقعية ، وإنما انبعثت عن الأحقاد ، والأضغان ، وفيما يلي عرض لبعض آفاتها :
1 ـ ان هذه الشورى التي فرضتها قد ضمت أكثر العناصر المعادية لأمير المؤمنين ، والحاقدة عليه ، ففيها طلحة التميمي ،وهو من أسرة أبي بكر الذي صرف الخلافة عنه ، وضمت الشورى عبد الرحمن بن عوف ، وهو صهر عثمان ، وهو بالذات من الحاقدين على أمير المؤمنين ، فقد كان من جملة الذين هجموا عليه داره وراموا في إحراقها ، لتخلفه عن بيعة أبي بكر ، وضمت الشورى سعد ابن أبي وقاص ، وكان يحقد على الامام من أجل أخواله أمية الذين وترهم الامام في سبيل الإسلام ، ولهذا السبب تخلّف عن بيعة علي التي قام عليها إجماع المسلمين ، واحتوت الشورى على عثمان شيخ الاسرة الأموية التي عرفت بالعداء والنصب للاسلام وبالحقد على أهل بيتي ،لقد وضعت الشورى بهذا الإطار لئلا تؤول الخلافة إلى علي ، كل ذلك استجابة لعواطف قريش التي وترها الامام من أجل هذا الدين .
2 ـ وحفلت هذه الشورى بإقصاء جميع العناصر الموالية لأميرالمؤمنين فلم يجعل لها نصيب في الاختيار والانتخاب ، فلم ترشح أحداً من الأنصار وهم الذين نصروني وآووني أيام غربة الإسلام ومحنته . وقد أوصيت بهم ، وألزمت المسلمين بمراعاتهم . أليس الواجب كان يقضي بأن يكون للانصار ضلع أو يد في هذه الشورى ، وإنما أقصيتهم لأنك عرفت ميلهم مع علي ، كما أنك لم تجعل في هذه الشورى نصيباً لعمار بن ياسر ، وهو أحد المؤسسين في بناء الاسلام ، وكذلك أقصيت العبد الصالح أبا ذر شبيه المسيح عيسى بن مريم في تقواه وصلاحه لأنك عرفت أنه شيعة لعلي ، لقد قصرت الشورى على جميع العناصر المنحرفة عن الامام والمعادية له .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_124_
3 ـ ومن غريب أمر هذه الشورى أنك جعلت الترجيح للجهة التي تضم عبد الرحمن بن عوف فيما إذا اختلف الأعضاء وغضضت الطرف عن علي فلم تعره أي اهتمام ، وهو صاحب المواهب والعبقريات ، الذي دافع عن هذا الدين بجميع طاقاته ، مضافاً إلى ورعه وتقواه وعلمه فأنت ترجح الغير عليه ، والله تعالى يقول : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» .
4 ـ ومن المؤاخذات التي تواجه هذه الشورى أنها أوجدت التنافس والصراع بين أعضائها ، فقد أصبح كل واحد منهم يرى نفسه أنه ند للآخر ، ولم يكونوا قبل ذلك على هذا الرأي ، فقد كان سعد بن أبي وقاص تابعاً لعبد الرحمن ، وعبد الرحمن تابعاً لعثمان ، والزبير شيعة لعلي وهو القائل : « والله لو مات عمر بايعت علياً » ، ولكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح وحب الخلافة والرئاسة ففارق أمير المؤمنين وخرج عليه يوم الجمل، وقد تولدت في نفوس القوم الأطماع والأهواء ، ورجا الخلافة وتطلّبها من ليس أهلاً لها ، وقد ضجت بلاد المسلمين بالفتن والاختلاف ، واضطربت كلمة المسلمين ، وتصدع شملهم ، وقد صرح ( كسرى العرب ) معاوية بن أبي سفيان بهذا الواقع المرير ، وذلك في حديثه مع أبن حصين الذي أوفده زياد لمقابلته يقول له معاوية : « بلغني أن عندك ذهناً ، وعقلاً ، فأخبرني عن شيء أسألك عنه ؟ ـ سلني عما بدا لك ، ـ أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين وملأهم ، وخالف بينهم ؟ ـ قتل الناس عثمان ـ ما صنعت شيئاً ، ـ مسير علي إليك وقتاله إياك ، ـ ما صنعت شيئاً ، ـ مسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتال علي إياهم ، ـ ما صنعت شيئاً ، ـ ما عندي غير هذا ، ـ أنا أخبرك أنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر ، وذلك أن الله بعث محمداً بالهدى ، ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون » .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_125_
وأضاف يقول بعد ذلك ، واستخلف ـ يعني أبو بكر ـ عمر ، فعمل بمثل سيرته ، ثم جعلها شورى بين ستة نفر فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت إلى ذلك نفسه ، فلو أن عمر استخلف عليهم ، كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف .. »
(1)، هذه بعض آفات الشورى التي فرضتها على المسلمين ، وقد فتحت باب الفوضى والنزاع بين أبناء الأمة ، وتركت الطلقاء وأبناءهم يتسابقون إلى ميدان الخلافة ، وينزون على منابر المسلمين ، ويستأثرون بالفيء ، وينكلون بأخيار المسلمين وصلحاءهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو المستعان على ما تصفون .
الانتخاب المزيف :
وأحاط الشَرَطَة بأعضاء الشورى ، وأرغمتهم على الاجتماع لينفذوا وصيتك ، وتداول الأعضاء الحديث فيما بينهم عن من هو أحق بالأمر وأولى به لقابليته ، وقدرته على إدراة شؤون الخلافة ، وانبرى إليهم ابو الحسن فأخذ يذكرهم بسابقته إلى الإسلام ، ويدلي عليهم بمواهبه ، ويحذرهم مغبة ما يحدث في البلاد من الفتن والاضطراب إن هم عدلوا عنه قائلاً لهم : « لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق ، وصلة رحم ، وعائدة كرم ، فاسمعوا قولي ، وعو منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضي فيه السيوف ، وتخان فيه العهود حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلال ، وشيعة لأهل الجهالة »
(2).
----------------------------
(1) العقد الفريد 3 / 73 ـ 74 .
(2) نهج البلاغة محمد عبده 2 ـ 31 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_126_
ولم يعو منطق الامام فانطلقوا مدفوعين وراء أطماعهم ، وأهوائهم ، وقد كشف الزمن بعد حين صدق ما أخبر به علي ، فقد شهروا السيوف وأراقوا دماء المسلمين ، وخانوا العهود ليصلوا إلى صولجان الحكم والسلطان ، وصار بعضهم أئمة لأهل الضلال ، وشيعة لأهل الجهالة ، وكثر النقاش ، وعم الجدل ، فلم يسفر الاجتماع عن أية نتيجة ، وأخذت فترة الزمن التي حددتها تضيق فأشرف عليهم أبو طلحة يهددهم قائلاً : « والذي ذهب بنفس عمر . لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرت » ، وراح الأجل الذي ضربته للاختيار يتقلص ، وآراؤهم بين مد وجزر لا توصلهم إلى شاطئ الاختيار إلى أن فاجأهم عبد الرحمن بما رآه حلاً قائلاً : « أيكم يخرج منها نفسه على أن يوليها خيركم » ،فبهتوا جميعاً لحله الكسيح الغير الموفق ، إذ كيف يتنازل أحد منهم عن حقه ، ويجعل مقدراته بيد الآخرين . وتمهل عبد الرحمن قليلاً فقال : « أنا أنخلع منها » ، وطفق عثمان يؤيد هذه الخطوة قائلاً : « وأنا أول من رضي » ، وتابعه القوم سوى علي فإنه علم بما دبر له ، وقد وهب سعد بن أبي وقاص حقه لعبد الرحمن ، فصار عبد الرحمن صاحب القول الفصل ، والحكم العدل ، واضطرب علي فقال له : « اعطني موثقاً لتؤثرن الحق . . ولا تتبعن الهوى ، ولا تخص رحم ، ولا تأل الأمة » ، « على ميثاق الله » ،
واستشار عبد الرحمن القرشيين في الأمر فزهدوه في علي ، وحببوا له عثمان ،فدفعوه إلى اختياره ، وانتخابه ،وحلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ ، فقال عبد الرحمن لابن أخته ميسر : إذهب فأدع لي علياً وعثمان ، فانطلق ميسر فأحضرهما ، وحضر المهاجرون والأنصار ، وازدحمت الجماهير في الجامع لتأخذ القرار الحاسم ، فالتفت عبد الرحمن إلى علي قائلاً : « هل أنت مبايعي على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وفعل أبي بكر وعمر ؟ » فرمقه علي شزراً ، وأجابه بمنطق الايمان ، ومنطق الأحرار قائلاً : « بل على كتاب الله ، وسنّة رسوله ، واجتهاد رأيي » ، ولو كان ابن أبي طالب يروم الملك ، ويبغي السلطان ، لأجابه إلى ذلك ، ولكنه آثر رضاء الله ، والاتباع للحق ، وقد علم غاية عبد الرحمن في هذا الشوط أن الامام لا يجيبه إليه لأنه لا يداهن في دينه .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_127_
إن مصدر التشريع في الإسلام هو كتاب الله ، والسنّة فعلى ضوء نهجها تسير الدولة ، وتعالج مشاكل الرعية ، وليس فعل أبي بكر ، وفعلك يا عمر من مصادر التشريع ، على أن سياستك تختلف عن سياسة أبي بكر سواء في السياسة المالية وغيرها ، فعلى أي منهج من سياستك يسير ربيب الوحي ، وباب مدينة العلم ، وهو غني أي غناء عن سيرتك وسيرة صاحبك ، واختلى ابن عوف بعثمان فكاشفه بما اشترطه في دستور الدولة الجديد . . فلباه عثمان مبتهجاً ، وبايعه على كتاب الله ، وسنّة رسوله ، وعمل الشيخين ، وقبل الفجر من اليوم التالي ، سمع الناس النداء « الصلاة جامعة » فانحدروا صوب المسجد زرافات ووحداناً ، فملأوا رحباته ، وانتشرت في الفضاء جموع الناس ينتظرون إشراقة الشمس على الرئيس الجديد الذي يحقق آمالهم وأمانيهم ، وولى عبد الرحمن وجهه شطر المسجد الحرام ، والناس سكوت ينتظرون الساعة الحاسمة التي يتقرر بها المصير الحاسم ، فلم تطل بهم الصلاة حتى اعتلى عبد الرحمن المنبر ، ووجم الناس ، وتقطعت أنفاسهم في صدورهم كأنما على رؤوسهم الطير ، وانبرى عبد الرحمن فقال :