وقد انثال الناس عليه ، وهم يهتفون أنه ليس لنا إمام غيرك يطأ بنا الطريق ، ويوصلنا إلى جادة العدل ، وطريق الرشاد وقد وصف بشدة إقبالهم وزحامهم عليه بقوله : « فما راعني إلا والناس كعرف الضبع ينثالون عليَّ من كل جانب حتى لقد وطىء الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . . » ،فلما نهض بالأمر لإقامة العدل ، وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة وإقبار الباطل نكصتم على أعقابكم وتخلفتم عن بيعته ، وأظهرتم الأحقاد ، وأعلنتم التمرد حتى ملئتم قلب ابن أبي طالب بالأسى والحزن ، والغيظ ، وأنت يا سعد لقد اعتزلت علياً ، وبررت اعتزالك بقولك : « إني لا أقاتل حتى يأتوني بسيف مبصر ، عاقل ناطق ، ينبىء أن هذا مسلم ، وهذا كافر » ، أما سمعت مني غير مرة ما قلته في علي « علي مع الحق ، والحق مع علي » أما سمعت مني قولي فيه « علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » ألم تسمع مني ما قلته فيه يوم غدير خم « اللهم وال من والاه ، وأنصر من نصره ، وأخذل من خذله » أليس في هذا ما يحملك على لزوم اتباعه ، وطاعته ، وأنت تعلم بقرارة نفسك باطل الأمويين ، وتعلم أنهم ليسوا على الحق ، فلماذا تخلفت عن بيعة علي ، واستقبلت خلافته بكثير من القلق والوجوم ، والاضطراب ؟ وأنت يا عبد الله بن عمر لماذا تخلفت عن بيعة أمير المؤمنين ، وأنت تعلم أن حكومته إنما هي امتداد لحكمي ، وإنها سوف تبسط العدل ، وتنشر الدعة والرفاهية بين الناس ، وقد ندمت في أواخر أيامك حينما ظهرت الفتن والبدع ، وعرفتم ما جلبتموه على هذه الأمة من الخطوب والويلات ، وتبين لكم سوء ما فرطتم في حق هذه الأمة ، وقد أعلنت ندمك ـ حيث لا ينفع ـ فقلت : « إني لم أخرج من الدنيا ، وليس في قلبي حسرة إلا تخلفي عن علي » ، وقد انتقم الله منك في آخر حياتك فاراك الذل والهوان فقد جاء الحجاج ليأخذ منك البيعة إلى عبد الملك بن مروان فجئت تبايع آخر الناس لئلا يراك أحد فعرف الحجاج غايتك ، وقصدك فأحتقرك واهانك ، وقال لك : ومد اليك رجله ، وفيها نعله فبايعتها ، حقاً هذا هو الخسران ، وهذا هو الذل والهوان .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _179_

  لقد بايعت يزيد بن معاوية الفاسق الأثيم لأن معاوية قد أرشاك بمائة ألف دينار (1) فوقفت تسدد بيعته ، وتندد بالمتخلفين عنها ، وتدعو المسلمين الى الرضا بها ، وقد شجبت من بيعة علي ، وتخلفت عنها ، فهل يرضى لك أبوك بذلك ؟ وأنت يا أسامة بن زيد يا من كنت أثيراً عندي ، فأمّرتك على الجيش، ولعنت المتخلفين عنك فقلت : « نفّذوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة » وقلت فيك لما استصغروك لهذا المنصب الخطير : « أيها الناس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ؟ ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وأيم الله إنه كان لخليقاً بالامارة ، وان ابنه من بعده لخليق بها . . » (2)، وقد بايعت علياً من قبل غدير خم ، وعرفت منزلته مني ، وحبي وإيثاري له ، فلم تخلفت عنه ؟ أترضى أن يحكم المسلمون بنو أمية ، وآل أبي معيط ، فيذيقون الناس سوء العذاب ، وتتخلف العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم المودة والرعاية لها ، لقد أغدق عليك عثمان بالنعم والأموال ، ووهبك الثراء العريض فنسيت آخرتك وبعتها بدنياك ، لقد تخلفت عن البيعة حتى ترضى عنك بنو أمية ، وتنال ثقتهم فآثرت ذلك على سخط عترتي وأهل بيتي فلا حول ولا قوة إلا بالله .
  وأنت يا حسان بن ثابت أيها الشاعر الموهوب الذي دافعت عن المسلمين بأدبك ، وببليغ شعرك لماذا انحرفت عن سنن الحق والعدل ؟ ألم تبايع علياً يوم غدير خم ؟ أولست أنت القائل في بيعته :

----------------------
(1) فتح الباري 13 ـ 59 ، تاريخ ابن كثير 8 ـ 137 ، سنن البيهقي 8 ـ 159 .
(2) السيرة الحلبية 3 ـ 34 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _180_

يـناديهم يـوم الـغدير iiنبيهم      بـخم  واسمع بالرسول iiمناديا
فـقال فـمن مـولاكم iiونبيكم      فقالوا  ولم يبدوا هناك iiالتعاميا
إلـهك  مـولانا وأنـت iiنبينا      ولم تلق منا في الولاية iiعاصيا
فـقال لـه : قم يا علي iiفإنني      رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فـمن  كـنت مولاه فهذا iiوليه      فـكونوا له أتباع صدق iiمواليا
هـناك  دعـا اللهم وال iiوليه      وكـن للذي عادى علياً iiمعاديا(1)
ألم تقل هذا الشعر الرائع البليغ في بيعة علي ، فلماذا أحجمت عن بيعته ، وتخلفت عما دخل فيه المسلمون ، إن سبب ذلك هو ما أغدق عليك به عثمان من النعم والأموال فآثرت ذلك على رضا الله فلا حول ولا قوة إلا بالله وهو المستعان على ما تصفون ، وأنت يا أبا سعيد الخدري ما كان ظني بك أن تبلغ الى هذا القرار السحيق فتنحرف عن علي ، وقد علمت مكانته ، ومنزلته مني ، وأنه خير من خلفته في أمتي ، وقد رويت عني الشيء الكثير مما قلته في حقه ، أليس الواجب عليك أن تبادر الى بيعته ، وان تقوم بمساندته ، وتشد عضده ولكن يا للأسف تخلفت عن بيعته لتسدي بذلك يداً على بني أمية وعلى آل ابي معيط ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون والأمر لله وحده ، ويلتفت النبي ( صلى الله عليه وآله ) الى بقية القِعّاد فيقول لهم :وماذا نفحتم من اخي ووصيي فلمَ لم تبايعوه ، فهل ظننتم إنّه يستأثر باموالالمسلمين ، او يميز قوماً على آخرين في العطاء وغيره ، وانتم تعلمون من دون شك إنّه سيعيد بين المسلمين سيرتي ، ويسير فيهم بسياستي ، ويطبق احكام الله وعدله في الأرض ، وإنّه يحمل الناس على الطريق الواضح والمحجة البيضاء ، ولا يدع بأي حال مجالاً إلى الفقر والحرمان بين الناس .

------------------------
(1) الغدير 2 ـ 34 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _181_

  وقد رايتم ايام حكمه كيف سار بين المسلمين ، وكيف اقتدى بي في جميع مجالات حكمه فلم يؤثر احداً عل احد ، ولم يتاجر بأموال الأمة ، ولم يشر ضياعاً ، ولا داراً ، ولم يتخذ لنفسه ثوباً ، او مسكناً ، فلماذا تخلفتم عن بيعته ، ومكّنتم الفرص الى القوى المنحرفة عن الاسلام والباغية عليه ان تستولي على زمام الحكم فتعبث في الأرض فساداً ، وتبغي على المسلمين ، ويسود عليهم وجوم مرهق . ولا يجدون جواباً يدافعون به عن نفوسهم .

الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع طلحة والزبير:
  وبعد ما انتهى دور القِعّاد والمعتزلين عن بيعة علي صدرت الأوامر من الحق باحضار طلحة والزبير ، فاحضرا ، ويوجه النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهما السؤال قائلاً : وأنت ياطلحة والزبير لماذا أتيتما بيعة علي مختارين ، ونكثتموها متنمرين ، فأثرتموها عليه حرباً شعواء توقدون جذوتها ، وتسعّر أمكم عائشة ، لهبها ، وهي تطوي البيداء وتقود الجيوش لمحاربة خليفتي ووصيي علي ، وقد أمرها الله أن تقر في بيتها . . وقد هتكتم بخروجها معكم حرمي ، وصنتم حلائلكم . . ونكثتما الأيمان المغلظة التي اقسمتموها لعلي عندما أردتما الخروج معتذرين بالعمرة ، وقد أضمرتما الغدرة تلبية لنداء الشيطان الذي وسوس في صدوركما ، والهب في نفسيكما نار الحسد لعلي فساقكما ، وامكما إلى ساحة الموت والدمار لم ترعيا حرمتي ، ولم تلحظا مقامي فأبرزتما حليلتي ، فجعلتموها قائدة الجيش ، تقود العساكر وتدفعهم إلى ميادين القتال :
صـنتم  حلائلكم ، وقدتم iiأمكم      هـذا  لـعمرك قلة iiالانصاف
أُمـرت  بجر ذيولها في iiبيتها      فـهوت تـشق البيد بالايجاف
غـرضا يـقاتل دونها أبناؤها      بـالنبل  والـخطَّيَّ والاسياف
هتكت بطلحة والزبير ستورها      هـذا  الـمخبر عنهم iiوالكافي

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _182_

  لمَ تمردتما يا طلحة والزبير على علي ؟ وأنتما تعرفان مقامه ، وتعلمان بحقيقته للخلافة وذلك لما يتمتع به من المثل الكريمة فقد توليت تربيته منذ نعومة أظفاره ، وأفضت عليه بعلمي ومعارفي وقد وصف تربيتي له بقوله : « وضعني في حجره ، وأنا ولد يضمني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، والله كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه ، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بغار حراء فأراه ولا يراه غيري . . » ، وقد صار بتربيته المثل الأعلى للانسانية الكريمة ، وطهرت نفسه من جميع افانين الباطل وصفت ذاته من جميع رواتب الشرك ، وأحقاد الجاهلية ، فلماذا أعلنتما التمرد والعصيان على حكومته ، يازبير لقد كنت من أقرب الناس إلى علي ، ومن أعطفهم عليه ، وأعرفهم لحقه ، وقد وقفت إلى جانبه حينما تقمص الخلافة أبو بكر فأعلنت استنكارك عليه ، ولزمت جانب علي ، وبعد مقتل عثمان خطبت الناس في المسجد فقلت ممثلاً نفسك وصاحبك طلحة ، « أيها الناس ، إن الله قد رضي لكم الشورى . فاذهب بها الهوى ، وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه . . » فكنت تدعو الناس ، وتعمل جميع الوسائل لارجاع الحق الغصيب إلى علي ، وقد اجتمعت ومعك طلحة ، وعمار بن ياسر ، وأبو الهيثم ، وأبو رفاعة ، ومالك ابن عجلان ، والكثيرون من المهاجرين والأنصار ، والوفود من أهل الأمصار ، وأهل البوادي حتى ضاق المسجد بالجمع فتذاكرتم بشأن الخلافة فلم تروا أحداً أحق ولا أولى بها من علي.
  وقد خطب ابن الاسلام عمار بن ياسر فقال :« أيها الأنصار . لقد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه ، وأنتم اليوم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم . . وإن علياً أولى الناس بهذا الأمر لفضله وسابقته » ، فعلت الأصوات من رحبات المسجد مجمعة على الرضا به ، وعلى انتخابه للخلافة ، والتفت عمار إلى الحشود الزاخرة فقال : « أيها الناس ، إنا لم نولكم إلا خيراً ، وأنفسنا إن شاء الله . وإن علياً من قد عرفتم . وما نعرف مكان أحد أهلاً لهذا الأمر ، ولا أولى به . . » ، فهتف الجميع « قد رضينا . . وهو عندنا كما ذكرت وأفضل » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _183_

  وانطلق الجمع من أهل يثرب وأهل الأمصار ، وفي طليعتهم انت وطلحة ، إلى علي المعتزل في داره فأخرجتموه منها ، وهو كاره مرغم ، والجميع ينادون : « يا أبا الحسن إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك . لا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول الله . . » ، فأجابهم بالرفض والامتناع قائلاً : « لا تفعلوا ، ولا أفعل . فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً » ، فهتف الناس قائلين : « انت لنا امير » وأصر علي على الامتناع قائلاً : « لا حاجة لي في أمركم ، أيها الناس أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به » .
  وألح عليه الجميع وأعادوا الطلب فأصر على عدم قبول خلافتكم التي سوف تجر له المحن والخطوب ، وأخبر الجميع عن الأحداث الرهيبة التي تحل بالمسلمين من جراء الحزبية السائدة التي أوجدها أنصار الحكم الأموي وسائر المنتفعين قائلاً : « دعوني والتمسوا غيري ، أيها الناس إنا مستقبلون أمراً له وجوه ، وله ألوان . لا تثبت له العقول ، ولا تقوم له القلوب » ، وراح ابن الاسلام البار الجندي المتحمس لعقيدته ودينه مالك الأشتر يتوسل بالإمام ، وينشده باسم الإسلام وباسم الأمة ، أن يقبل هذا الأمر ، ويجيب القوم إلى ما أرادوه قائلاً : « ننشدك الله ، ألا ترى ما نرى . ألا ترى ماحدث في الاسلام ؟ ألا تخاف الفتنة ؟ ألا تخاف الله » ، وبعد روية وتفكير من علي يجيبهم أنه إن تولى أمرهم حملهم على كتاب الله ، وسنّتي قائلاً : « إني إن أجبتكم ركبت فيكم ما أعلم ، وإن تركتموني فانما أنا كأحدكم ، بل أنا من أسمعكم ، وأطوعكم لمن وليتموه أمركم . . » فصاحوا هاتفين : « ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _184_

  فرقَّ لهم علي ، وخاف من حدوث الفتنة والإنشقاق بين صفوف المسلمين فأجابهم إلى ذلك ، وقال لهم : « إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفية . ولا تكون إلا عن رضى المسلمين ، وفي ملأ جماعتهم . . » ، لقد أراد علي أن يكون انتخابه حراً وعاماً ، يستوء فيه جميع المسلمين ، ولا يكون بالقهر والغلبة ولا بشهر السيوف والحروب كما كانت بيعة غيره .ولما كان الغد تزاحم المسلمون على باب داره ، وتداكو عليه تداك الإبل الهيم على وردها حتى كاد بعضهم يسحق بعضاً وانطلقوا مهللين ومكبرين إلى المسجد فاعتلى علي أعواد المنبر فخطب الناس ، فقال في خطابه : « أيها الناس عن ملأ وأذن ، إن هذا أمركم . ليس لأحد فيه حق إلا من أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس على أمر . فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد . . » فجاء الجواب إجماعياً : « نعم على ما فارقناك عليه بالأمس . . » .
  ويعيد عليهم القول حتى لا يدّعي أحد أنه قسر المسلمين أو أكرههم على مبايعته ، بل إنما كانت بمحض ارادتهم ، وحديثهم واختيارهم ، وانطلق يقول : « إني كنت كارهاً لأمركم ، فأبيتم إلاأن أكون عليكم . . رضيتم بذلك . . » ( نعم . . نعم ) ،« اللهم آشهد عليهم » ، وتدافعوا عليه كالموج ، وفي طليعتهم كبار المهاجرين والأنصار فأول يد مُدت إلى بيعته يدك يا طلحة تلك اليد الشلاّء التي سرعان ما نكثت بها عهد الله (1) وجاء الزبير فبايع ، وبايعه جمهور المسلمين عن رضى ، ومحبة وسرور ، وعمّت الأفراح الجميع فقد أطلت عليهم حكومة الحق ، وحكومة العدل ، وتقلّد الخلافة أبو الفقراء وناصر المظلومين ، فلا أستغلال ، ولا مواربة ، ولا استبداد ، ولا انقياد للنزعات والعواطف .

---------------------
(1) كانت يد طلحة شلاّء فتطيّر منها الامام ، وقال : ما أخلقه أن ينكث ، فكان ما قال : جاء ذلك في العقد الفريد 3 / 93 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _185_

التأييد الشامل :
  وأجمع المسلمون على الرضا ببيعة علي فقد انبرى أعلام الاسلام وكبار الصحابة ، إلى اعلان تأييدهم لبيعة الإمام ، وحثوا المسلمين على تدعيمها وهم :
  1 ـ خزيمة بن ثابت :
  وانطلق الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فخاطب علياً قائلاً له : « ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ، ولا كان المنقلب إلا اليك ، ولئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيماناً ، وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وآله لك ما لهم وليس لهم ما لك . . » وجرت على لسانه أبيات خاطب بها الجماهير قائلاً :
إذا  نـحن بـايعنا عـلياً iiفحسبنا      أبـو حـسن مما نخاف من iiالفتن
وجـدناه أولـى الناس بالناس iiأنّه      أطـب  قـريش بالكتاب وبالسنن
وإن قـريشاً مـا تـشق iiغـباره      إذا ما جرى يوماً على الغمر البدن
  وفـيه  الـذي فيهم من الخير كله      ومـا فيهم كل الذي فيه من iiحسن(1)
-------------------------
(1) مستدرك الحاكم 3 / 115 ، وذكر السيد المرتضى في الفصول المختارة 2 / 67 زيادة على هذه الأبيات وهي :
وصـي  رسول الله من دون iiأهله      وفـارسه قد كان في سالف iiالزمنِ
وأول  مـن صلّى من الناس iiكلهم      سوى خيرة النسوان والله ذو المننِ
وصاحب كبش القوم في كل iiوقعة      يكون  لها نفس الشجاع لدى iiالذقنِ
فـذاك  الذي ثنى الخناصر iiباسمه      أمـامهمُ حـتى أغـيّب في iiالكفنِ

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _186_

  2 ـ صعصعة بن صوحان :
وقام الطيب الصحابي الجليل صعصعة بن صوحان فخاطب الإمام قائلاً له : « والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنت الخلافة ، ومازانتك ،ورفعتها وما رفعتك ، ولهي اليك أحوج منك اليها . . »(1).
  3 ـ ثابت بن قيس :
  وانبرى ثابت ين قيس خطيب الأنصار فخاطب الإمام : « والله يا أمير المؤمنين ، لئن كان قد تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين ، ولئن كانوا سبقوك أمس لقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك يحتاجون اليك فيما لا يعلمون ، وما احتجت إلى أحد مع علمك » .
  4 ـ مالك الأشتر :
  واندفع المؤمن الثائر على الظلم والطغيان مالك الأشتر فخاطب الناس معرّفاً لهم بحقيقة علي قائلاً : « أيها الناس هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء ، الحسن العناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل . . »
  5 ـ عقبة بن عمرو :
وانبرى عقبة بن عمرو فأخذ يتلو فضائل أبي الحسن قائلا : « من له يوم كيوم العقبة ، وبيعة كبيعة الرضوان ، والإمام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله . . »(2)، وتتابعت الخطب من كبار الصحابة وهم يشيدون بفضائل ابي الحسن ، ويذكرون مناقبه ومآثره ، ويدعون المسلمين إلى الالتفاف حوله .

-----------------------------
(1) بهذا المضمون قال احمد بن حنبل في علي « ان الخلافة لم تزّين علياً بل علي زانها » ذكر ابن الجوزي في مناقب احمد ص 163 .
(2) تأريخ اليعقوبي 2 ـ 155 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _187_

  ولم يظفر أحد بمثل هذه البيعة في شمولها ورضا المسلمين بها فلماذا أعلنتما التمرد والعصيان بعد بيعتكما له ؟ لقد حقق ابن أبي طالب في دور حكومته أهم ما يتطلبه الاسلام من أهداف ، فقد قضى على الغبن الاجتماعي ، والظلم الاجتماعي وحقق للمسلمين أهم ما يصبون اليه من العدالة والمساواة ، وفيما يلي عرض لبعض منجزاته الاصلاحية .

مصادرة الأموال المنهوبة :
  وكانت فاتحة الأعمال التي قام بها أن أصدر قراره الحاسم برد القطائع التي استأثر بها عثمان بن عفان ، وبرد الأموال المنهوبة التي منحها لبني أمية وآل أبي معيط لأنها جميعاً قد أخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه ، وقد استقبل النفعيون هذا القرار وبكثير من الوجوم والاضطراب وأنت يا طلحة والزبير فقد خفتما على ما في أيديكم من الأموال التي استوليتم عليها بغير وجه مشروع ، فأظهرتما بوادر البغي والشقاق ، وأعلنتما التمرد على حكومته ، وقد تتبع علي كل دور بذل في غير وجهه ، ولغير مستحقه فأعاده إلى بيت المال ، وبذلك فقد حقق سنّتي الداعية إلى إقامة الحق والعدل ، وقد أعلن أمام المسلمين عن خطة دستوره تجاه الأموال الضخمة التي وهبها عثمان فقال : « إن كل قطيعة أقتطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال . . فان الحق لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزُوِجَ به النساء ، ومُلِكَ به الاماء وفُرِقَ في البلدان لرددته . . فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق، أيها الناس : ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار ، وفجروا الأنهار ، وركبوا الخيل ، واتخذوا الوصائف المرققة .
  إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون : « حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا » ، ألا أيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرى أن له الفضل على سواه لصحبته ، فإن الفضل عند الله . وأيما رجل استجاب لله ولرسوله فصدق ملتنا ، ودخل ديننا ، واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، وقد أثارت هذه السياسة التي انتهجها أحقادكم وسخطكم فأنتم تريدون ابن أبي طالب لدنياكم ، وهو يريدكم للآخرة ، لقد نهج الإمام سيرتي ، واقتدى بهداي وسلوكي فإنّي ما جئت لأوجد الثراء والنعيم عند الوجهاء وذوي النفوذ ، وإنما جئت لأبسط العدل ، والحق ، وأقضي على جميع الفوارق الإجتماعية ، وقد ثارت عليه قريش وسخطت كما ثارت عليَّ .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _188_

  إن الإمام أراد بسط العدل ، وتحقيق الرفاهية بين المسلمين ، وقد وقفتم دون تحقيقها ، ووضعتم الحواجز عليها وملئتم الدنيا عليه ضجيجاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

اعلان المساواة :
وانطلق علي رائد العدالة الإجتماعية فأعلن المساواة العادلة بين جميع المسلمين ، وهدم الحواجز التي خلقها من تقدمه من الخلفاء فأول عمل قام به ان أمر خازن بيت المال عبد الله بن أبي رافع فوزع الأموال تحت اشرافه فأخذ كل واحد من المسلمين نصيبه كاملاً كبيرهم وصغيرهم ، سوقتهم وخاصتهم فوزعه على شرعة الله، فكان نصيب كل واحد من السادة والعبيد ثلاثة دنانير سواء بسواء ، ومشت إليه جماعة من الانتهازيين تبلغه استنكارها ، وطالبته بالعدول عن خطته فأجابهم : « أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليت عليه ، والله ما أطور به ما سمر سمير ، وما أمَّ نجم في السماء نجماً ، لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيفوانما المال مال الله .
  ألا وان إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله . . » (1) ، وجئت يا طلحة ويا زبير لابسين الأراقم تظهران النصح ، وتبطنان الخلاف ، فنصحتماه بالعدول عن المساواة إلى التمييز الطبقي ، لتستتب الدعوة في الدولة ، ويتوطد الحكم في البلاد ، ويسير بين الناس بسياسة عمر المالية ، فإجابكما علي بمنطق الحق والايمان قائلاً : « أما ما ذكرتما من أمر الأسوة يا أخوتاه فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ، ولا وليته هوى مني ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله قد فرغ منه ، فلم احتج إليكما فيما فرغ من قسمه ، وأمضى فيه حكمه . . . فليس لكما والله ولا لغيركما عندي في هذا عتبى . . » .

-------------------------
(1) نهج البلاغة محمد عبده 2 ـ 10 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _189_

  ورجا لكما النصح ، وأمركما بالانصياع الى الحق ، وسلوك جادة العدل قائلاً : « ألا رحم الله امرأً رأى حقاً فأعان عليه ، أو رأى جوراً فردّه ، وكان عوناً بالحق على صاحبه . . » ، فلم تتأثرا بالنصيحة ، وأردتما منه أن يفسد أمر آخرته لدنياكم وهيهات أن يستجيب لذلك ابن أبي طالب ، وهو رائد الحق والعدالة . لقد سار في حكمه على هدي الكتاب العزيز فلم يميز قوماً على آخرين ، ولم يوارب ، ولم يصانع ، قد صمد في وجه الأعاصير وقد أعرب عن خطته وسياسته بقوله : « يوجد الضعيف الذليل عندي قوياً حتى آخذ له بحقه ، والقوي العزيز عندي ضعيفاً ذليلاً حتى آخذ منه الحق ، القريب والبعيد عندي في ذلك سواء » ، لا محاباة عنده لقوي ، ولا اجحاف بضعيف ، وإنما كان يبغي الحق ويلتمس وجه الله ، ورضاءه في جميع تصرفاته .

عزل ولاة عثمان :
وعمد علي في أول خلافته إلى عزل ولاة عثمان ، واقصائهم عن وظائفهم لأنهم مجموعة من الخونة المستحلين لأموال الناس ، وأخذها بغير حق ، وقد أشار عليه عبد الله بن عباس ، والمغيرة بن شعبة بابقائهم ريثما يتم له الحكم ، وتشب له الأمور ، فردّهم رداً صارماً فقال : « والله لو كانت ساعة من نهار لأجتهدت فيها برأيي ، ولا وليت هؤلاء » ، وهذا منطق العدل كيف يسوغ له أن يبقي اللصوص والخونة على كراسي الحكم فإنه لو أبقاهم لكان ذلك إقراراً منه لهم على الظلم والجور والخيانة ، وبادره المغيرة فقال له : « إنزع من شئت ، واقرر معاوية . . فإنّ لمعاوية جرأة ، وهو في أهل الشام يسمع منه . وأن لك حجة في اثباته . إذ كان عمر بن الخطاب قد ولاه .. » ويصر علي على عزله ، واتباع سنّة الحق قائلاً : « لا والله لا أستعمل معاوية أبداً . . » ، ويتبع على موازين العدل ، وإن جرت له المتاعب والمصاعب ، وأعقبت له الاخفاق في الميادين السياسية فإنّه لم يكن بأي حال يتطلب السلطة والحكم بما أنهما وسيلتان للإثرة والاستغلال والتفوق على الناس ، وإنما كان هدفه إقامة الحق ، وبسط العدل ، ونشر الأمن والدعة بين الناس.

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _190_

عماله وولاته :
وعهد علي إلى خيار المسلمين وصلحائهم في ولاية شؤون الأمصار والأقاليم الإسلامية ، ولم يمنح أحداً من عماله وولاته محاباة أو اثرة ، وإنما كان يتحرى ذوو الكفاءة والقابلية وحسن السيرة ، والأصلاح بين الناس ، وولاته أمثال محمد بن أبي حذيفة ، وقيس بن سعد بن عبادة ، ومحمد بن أبي بكر ، ومالك الأشتر ، وعثمان بن حنيف الأنصاري ، وأخوه سهل بن حنيف ، وعبد الله بن العباس وأخوه عبيد الله ، وأمثال هؤلاء من المؤمنين والمتحرجين في دينهم ، وقد عهد إلى جميع عماله أن يقوموا بالاصلاح الشامل بين الناس وأن يتعهدوا أمورهم ، وأن لا يرهقوا أحداً ، وأن يسيروا بين الناس سيرة قوامها العدل الخالص ، والحق المحض ومن وصاياه المكررة لهم : « وانصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم ، فانكم خزان الرعية ، ولا تحسموا أحداً عن حاجته ، وتحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ، ولا صيف ، ولا دابة يعملون عليها ، ولا عبداً ، ولا تضربن أحداً سوطاً لمكان درهم . . » .
  لقد بلغ علي قمة العدل في وصيته هذه فقد حاول أن يمحي شبح الفقر ويقضي على ظل البؤس ، وعلى سائر ألوان الغبن والظلم ،فلماذا كرهتم هذه السيرة ؟ وحاربتم هذه السياسة العادلة التي تنشد كرامة الإنسان وحقهم في الحياة ، أما دستوره في توظيف الولاة والعمال فخلاصته ما كتب به إلى الأشتر النخعي وهو يمثل مدى عمق الإمام ونظره الصائب إلى اصلاح المجتمع في ميادين الإدارة والحكم يقول في عهده : « انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة واثرة فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة ، والقِدم في الاسلام فإنّهم أكثر أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع اسرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً . . ثم إسبغ عليهم الأرزاق ، فإنّ ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم . . وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ، ثم تفقدأعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق عليهم . فإنّ تعاهدك في السر لأمورهم حدوه لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية . . » وهذا الدستور الخالد قد حوى جميع مقومات النهوض والإرتقاء للأمة وجعل السلطة الحاكمة معنية بشؤون المسلمين والرفق بهم .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _191_

وقد جاء في هذا الدستور النهي عن كشف معائب الناس ، وتتبع عوراتهم يقول : « وليكن أبعد رعيتك منك ، وأشقأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس . . فإنّ في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها . . فلا تشكفن عما غاب عنك منها ، فإنّماعليك تطهير ما ظهر منها . . » وقد مثل ذلك عدالة الاسلام ورحمته ، ورفقه الشامل بالناس ، وكان ينهى ولاته عن بطانة السوء التي تتمسك بجميع الوسائل لكسب المنافع المادية لها يقول ( عليه السلام ) : « لا تُدخِلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ، ويعدك الفقر ، ولا جباناً يضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً يزن لك الشره بالجور . . فإنّ البخل والجبن والحرص غرائز شيء يجمعها سوء الظن بالله . . » ونهى عليه السلام عن اتخاذ الظلمة والأشرار وزراءً يقول ( عليه السلام ) : « إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الأئمة واخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم . . » إن وصايا علي للعمال والولاة قد احتوت على جميع برامج العدل ، وأصول الحق ، والحكم الصالح الذي ينعش الشعوب ، ويبعث في النفوس الرضا والطمأنينة .

زهـده :
  وسجل التأريخ على شاشة الحياة صوراً رائعة من زهد علي يهتدي بها المتقونوالصالحون فمن ذلك ما حدث به عقبة بن علقمة قال : دخلت على علي فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته ، وكسراً يابسة ، فقلت له : ـ يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا ؟ ـ يا أبا الجندب . . كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا فإن لم أكن آخذ به خفت أن لا ألحق به ، ولو أراد علي أن يتنعم في دنياه لكان له ذلك ، وباستطاعته فقد كانت خزائن الدولة بيده وتحت تصرفه ولكنه أبى إلا أن يطلق لذائذ العيش ورغائب الحياة فلم يبن لبنة على لبنة ولم يتخذ لبالي ثوبه طمراً إلى أن لحق بالرفيق الأعلى ولم يترك صفراء ولا بيضاء سوى سبعمائة درهم اتخذها من عطائه ليشتري بها خادماً لأهله يستعينون به على حوائجهم وشؤونهم فماذا نقمتم من ابن أبي طالب ؟ فهل استأثر بأموال المسلمين ؟ وهل خص ذويه وأبنائه بأموال الدولة ، وهل وظف أحداً من أقربائه وأسرته ، فالأمر لله وحده وهو الحاكم المطلق الذي لا يظلم أحداً بحكمه .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _192_

دفاع طلحة والزبير :
وينبري طلحة والزبير للدفاع عن نفسيهما قائلين : يا نبي الله، بايعنا علياً مخافة أن يتخطفنا الناس باسيافهم وكنا نعتقد أنه سيسرع بالقصاص من قتلة عثمان فقد قتل مظلوماً وكان عليه يقتص من قتلته ، وكنا نطمع أن يشركنا بالأمر كمستشارين أو ولاة لأننا من سادات المهاجرين ، ومن السابقين للأسلام، ومن المحاربين القدماء البارزين في المجتمع حسباً وشجاعة وسياسة ، وقد جعلنا عمر نظيرين له بالترشيح للخلافة ، فبادرنا لمبايعته يقينا منا أنه سيرفعنا مكاناً علياً ، ويؤثرنا بالمال والسلطة على سائر المسلمين ، فإذا به يجبهنا عن كل مطلب سعينا به إليه ، وساوى بيننا وبين الدهماء ، والغوغاء ، والمغمورين ، والاخلاط من العجم والموالي ، أفهل أن ذلك من العدل والانصاف .

جواب النبي ( صلى الله عليه وآله ):
  ويفند ( صلى الله عليه وآله ) مزاعمهما ، وأساطيرهما فيقول لهما : أما تهمة علي بدم عثمان فأمر لا واقع له ، وأنتما تعلمان ببرائته من دمه فقد دافع عنه الثوار مراراً ، وتكراراً ، وكان يخرج إلى مضاربهم خارج المدينة متوسلاً إليهم أن يرجعوا إلى أمصارهم . وقد أسدى علي النصح لعثمان غير مرة بأن يعدل في الحكم ، ويجنب الأمة ما يحدثه قتله من أزمات وشرور ، وقد استرق علي عواطف الثوار حينما حاصروا عثمان ومنعوا عنه الماء فقد قال لهم : « أيها الناس أن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين لا تقطعوا عن الرجل الماء . فإن الروم وفارس لتؤسر فتطعم وتسقي ، فما تعرضكم لهذا الرجل ؟ ففيم تستحلون حصره وقتله » ؟ .
  وبعد هذا فهل يمكن أن يتهم علي بدمه أو بالتآمر عليه ؟ ولو إنصاع لارشاد علي ونصحه لما قتل وما انتهكت كرامته ، وأما القصاص من قتلة عثمان فهل يمكن أن يقيم علي الحد عليهم والثوار سيوفهم على عواتقهم ، وكيف له بمعرفة قتلته ، وقد اشترك في قتله وفود مصر والكوفة والبصرة وأهل البوادي وأهل المدينة ، فكيف يسوغ له أن يقيم الحد على هؤلاء باسرهم ، وأنت يا طلحة والزبير قد اشتركتما في قتل عثمان ، فقد رفعتما راية التمرد والعصيان وأبّيتما شيعتكما من البصريين والكوفيين على قتله ، وأنت يا طلحة قد منعت وصول الماء إليه وباشرتَ حصار داره ، وأعنت الثوار على قتله ، وكنت تمجّد فيهم روح الثورة والنضال في نفوس الثوار للاطاحة بحكومته .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _193_

وقد نهاك علي عن منع الماء عن عثمان فكتب إليك وهو خارج المدينة يأمرك بأن تمكنّه من الماء ، وهذا نص ما كتبه إليك : « دع الرجل يشرب من مائه ، وبئره ولا تقتلوه من العطش » وقد مر بك مجمع بن جارية الأنصاري فسألته : ـ ما فعل صاحبك ؟ ـ أظنكم والله قاتليه ، ـ فإن قُتل فلا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وكان عثمان يعلم بتحريضك عليه ، وباثارتك الأحقاد ، والضغائن ضده ، فكان يكثر من الدعاء عليك ، وكان يقول في دعائه : « اللهم قَني طلحة بن عبيد الله ، فإنّه حمّلهم عليَّ ، والبسهم » ، « والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً . وأن يسفك دمه ، إنه انتهك مني ما لا يحل له . . » وقد باشرت الحصار عليه في داره ، فكنت مُقنعاً بثوب متستراً عن أعين الناس ترمي داره بالسهام ، ولما امتنع على الذين حصروه الدخول عليه من باب الدار حملتهم الى دار عمر ابن حزم الواقعة الى جانب دار عثمان فتسوروا منها ، وكنت خلال مدة الحصار أربعين يوماً تصلي بالناس ، مرشحاً نفسك للخلافة وعثمان بعد حي لم يقتل ، أعلي هو المتهم بقتل عثمان أم أنت ؟
  وأين كنت يا طلحة ويا زبير عن الدفاع عن عثمان عندما كتب من في المدينة إلى من بالآفاق يستجيرون بهم إلى إنقاذ المسلمين من جور عثمان وظلم ولاته ، فقد كتبوا إليهم ، « إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ ، تطلبون دين محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنّ دين محمد قد أفسده خليفتكم فاقيموه » (1) وأرسل الصحابة الى أهل مصر مذكرة هذا نصها : « من المهاجرين الأولين وبقية الشورى الى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : أن تعالوا الينا ، وتدراكوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإنّ كتاب الله قد بُدل ، وسنة رسوله قد غُيرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله ، والتابعين باحسان إلا أقبل الينا ، وأخذ الحق لنا ، وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوّة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله . . » (2) .

---------------------------
(1) حياة الامام الحسن 1 ـ 273 .
(2) الامامة والسياسة 1 ـ 35 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _194_

  فأين أنتما عن هذه الرسائل التي ألهبت نار الثورة على عثمان ؟ حتى أحاط به الثوار وأردوه قتيلاً يتخبط بدمائه ، فلم يكن دم عثمان هو الذي دفعكما إلى الثورة على علي وإنما أطماعكم في الولاية والامرة وحبكما للثراء العريض هو الذي دفعكما الى اعلان التمرد والعصيان على علي ، واما تميزكما على سائر المسلمين واشراكه لكما في الحكم ، فإنه لم يكن له ان ينهج غير سنّتي وسياستي ، وقد عرفتم أني هدمت الحواجز بين الناس ، والغيت التمايز عملاً بقوله تعالى : « ان اكرمكم عند الله اتقاكم » وقد سار علي على نهجي في سياسته المالية والاجتماعية ، وقد عرفتماه شاباً وكهلاً لا يؤثر رضاء الناس على رضاء الله كما لم يؤثر على رضاء غيره ، فالله هو الحاكم الفصل بيننا وبينكم ، فأنتما مسؤلان عما حدث في المسلمين من النكبات والويلات ، فلولا تمردكما لما وجد معاوية الى اعلان العصيان سبيلا ، وقد اغرقتما البلاد بالفتن والخطوب والويلات واشعتم الحزن والحداد بين المسلمين ، وفرّقتما الكلمة ، وافسدتما امر الأمة .

الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع عائشة :
  يوجّه النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطابه الى عائشة ، وهو حزين النفس قائلاً لها بنبرات تقطر أسى ،يا أم المؤمنين ! ، يا من حفظت أربعين ألف حديث ! ،لماذا خرجت على أخي ووصيي ، وباب مدينة علمي ، وأبي سبطيّ ، ومن هو مني بمنزلة هارون من موسى هل استأثر علي بأموال المسلمين حتى يصلح لك الخروج على حكومته ؟ ل منح أحداً من أقربائه وابنائه بشيء من خزينة الدولة حتى يكون لك وجه في الخروج عليه ؟ كيف جاز لك أن تخرجي من بيتك ؟ وتقودين الجماهير والعساكر الى حرب عالمِي ، وقد قلت في حقه : « ان حربه حربي وسلمه سلمي » ، لقد تناسيت قول الله تعالى لنسائي : « يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى »(1)، كيف ساغ لكِ الخروج من بيتك ، لحرب علي وقتل ابنائك ، فقد قتل منهم يوم الجمل الأكبر في البصرة ثلاثة عشر الف من ابنائك وتابعيك فيهم طلحة والزبير ، واستشهد من اولياء علي وشيعته حوالي الألف.

------------------------
(1) سورة الاحزاب : آية 32 ـ 33 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _195_

  فمن هو المسؤول عن تلك الدماء التي أريقت غيرك ؟ يا عائشة ما كنت تريدين بخروجك هذا ؟ أتريدين الله ورسوله والدار الآخرة ؟ أتريدين الأجر والثواب الذي أعده الله للمحسنات من نسائي إذ يقول تعالى : « وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا » (1)، هل كنت تظنين أن بينك وبين الله هوادة فيبيح لك ما حرم على العالمين ؟ وقد ضاعف تعالى العقاب على نسائي إذا اقترفن إثماً أو أتين بفاحشة قال تعالى : « يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا » (2)، هل رأيت أن خروجك على علي ، وشق عصا المسلمين عبادة لله ، وقنوتا له ولرسوله ، فعملت عملاً صالحاً كما قال تعالى : « وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا » (3)، هل أردتِ بخروجكِ أن تمثلين التقوى والورع ، وتستأثرين بالعمل الصالح دون بقية نسائي حتى تكونين كما قال الله تعالى في كتابه : « يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ » (4)، فهل خروجك على علي من التقوي والصلاح ؟ يا عائشة : هل رأيت قيادتك للجيوش سرادقاً ضربه عليك طلحة والزبير ليصوناك عن تبرج الجاهلية الاولى ، وتكونين بذلك نصب أمر الله ونهيه إذ يقول تعالى : « وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(5) .

----------------------------
(1) سورة الاحزاب : آية 29 .
(2) سورة الاحزاب : آية 30 .
(3) سورة الاحزاب : آية 31 .
(4) سورة الاحزاب : آية 32 .
(5) سورة الاحزاب : آية 33 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _196_

  أحسبت ان الزوجية تمنعك من عذاب الله ونقمته إذا حِدت عن طاعة الله ، وقد أنذرك تعالى وحفصة على أن لا تتكلا على الزوجية لأنها لا تنفع الطالحة وقد ضرب لكما مثلاً بامرأة نوح ، وامرأة لوط وامرأة فرعون قال تعالى : « ضرب الله مثلاً للذبن كفروا أمرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ، وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله » (1) وقد خّلد الله امرأة نوح وامرأة لوط في عذابه وبنى لامرأة فرعون بيتاً كريماً في فردوسه فإنه ليس بين الله وبين أحد هوادة ، وانما جعل الميزان لرضاه والفوز بجنانه هو العمل الصالح فأي شخص يتقي الله ، ويعمل للآخرة فقد أعد له منزلا كريماً ، ومن حاد عن طريقه ، وسلك غير طريق الله فهو ممن حلّت به نقمة الله وعذابه .
  ياعائشة : أنت اعرف الناس بمنزلة علي عندي فهو أخي ، ووليي ، ووارثي ، ووصيي ، وإنّه مني بمنزلة هارون من موسى ، وقد سمعت قولي فيه : « اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » ، وسمعت قولي فيه : « رحم الله علياً اللهم ادر الحق معه حيث دار » ، ورأيتني انظر الى علي وفاطمة فقلت فيهم « انا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم »(2) ، ورآني أبوك وانا متكىء على قوس عربية ، وقد نصبت خيمة فيها علي وفاطمة والحسنان فقلت فيهم : « معشر المسلمين انا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمن حاربهم ، وولي لمن والاهم ، لايحبهم الا سعيد الجِد ، طيب المولد ، ولا يبغضهم الا شقي الجِد رديء الولادة » (3) .

----------------------
(1) سورة التحريم : آية 10 ـ 11 .
(2) كنز العمال 7 / 102 ، سنن ابن ماجة ص 14 ، البداية والنهاية .
(3) الرياض النضرة : 2 / 252 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _197_

  فَبرِحتِ الستر متسائلة عنه لتُشبعي فضولك فقلتِ : « من كنتَ مُستخلفاً عليهم ؟ » ، فاجبتك « إنَّه خاصف النعل » ، فخرجنا جميعاً وفي ظل سمرة ، وجدنا علياً يخصف نعله ويصلي ،يا أم المؤمنين ، يا صاحبة الجمل الأدبب، هبي أن عاطفتك غلبت عقلك ، ونزوتك أمالت رشدك ، فنصّبت من نفسك قائداً أعلى للأوباش والرعاع ، الذي أمرك الله أن تقري فيه ، لحرب إمامك وشق عصا الطاعة ، فأي ثمرة وسوست لك نفسك باقتطافها ؟ هل طمعت أن تكوني خليفة المسلمين ، وأميرة للمؤمنين ؟ أم انك أردت أن تحلّي عقدة في نفسك ، وتبردي غلّة يطفىء إوارها الدم المهراق الذي صبغ وجه البسيطة ، وكوّن بركانا وغدرانا ، وقد تبعثرت على الارض أشلاء الابرياء وأطرافهم حتى تكونت منها تلالا ، أم أنكِ اردتِ ان يكون لك جوقاً يطربك من عويل اليتامى ، ونوح الأيامى ، وأنين الجرحى ، ما غايتك بانتداب امهات المؤمنين للخروج معك لحرب علي الذي هو أخي ووصي وابو سبطيّ ، هل اردت ان تجعلي منهن وزيرات لبلاطك ؟ هل اردت ان تكسبي خروجك قدسية ، وحربك مشروعية ولقد ؟ ، انطلقت إلى المرأة الصالحة أم المؤمنين أم سلمة ، لتغريها بالخروج معك ، وقد تناسيت أنها من صالحات النساء ، وانها ممن تعرف منزلة علي ، وقربه مني ، وقد تمنت أن تشهر سيفاً لنصرته ، وتقود جحفلاً من المؤمنين لتقطع عليك وعلى صحبك درب الفتنة الكبرى ، وتدفعكم عنه بقوة الحديد ، ولكنها قد قرت في بيتها إمتثالاً لأمر الله .
  وقد كتبت إلى علي من مكة تخبره بتمرد طلحة والزبير واشياعهم وأنّهم يحاولون أن يخرجوك معهم ، لحربه ، وقد جعلوا شعارهم الذي يهتفون به ، ويبررون به موقفهم أن عثمان قد قتل مظلوماً وأنهم يطالبون بدمه ، والله كافيهم بحوله وقوته ، وأنه لولا ما نهانا الله عن الخروج ، وأنت لم ترضى به ، لم أدع الخروج معك ، والنصرة اليك ، وقد بعثت اليك بابني وهو عدل نفسي عمر بن أبي سلمة يشهد مشهدك .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _198_

  وعند عودتها إلى المدينة قابلت علياً وهي تبكي أمرّ البكاء قائلة له : لولا أني أعصي الله عزّ وجلّ ، وأنك لا تقبله لخرجت معك ، فكيف رأيت أن تغريها وتخدعيها بالخروج إلى حرب وصيي وأخي وقلت لها : يا بنت أبي أمية : أنت أول مهاجرة من أزواج النبي ، وأنت أكبر أمهات المؤمنين ، وكان رسول الله يقسم لنا في بيتك ، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في بيتك ، ولم يخف على أم سلمة خداعك فقالت لك : « لأمرّ ما قلتِ هذه المقالة ؟ » ،فصارحتيها بما أنطوت عليه نيتك قائلة لها : « إن القوم استتابوا عثمان ، فلما تاب قتلوه صائماً في الشهر الحرام ، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة . . فاخرجي معنا لعل الله يصلح هذا الأمر على أيدينا » ، فانبرت اليك أم سلمة تسدي اليك بالنصح ، وتزيف منطقك قائلة : « إنت كنت بالأمس تحرضين على قتل عثمان ، وتقولين فيه اخبث القول ، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا ، وإنّك تعرفين منزلة علي عند رسول الله أفأذكرك ؟ ـ نعم ، ـ أتذكرين يوم اقبل رسول الله ، ونحن معه . . . حتى اذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه ، فأطال فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك ، فعصيتيني ، وهجمت عليهما ، فما لبثتِ أن رجعت باكية ، فقلت لكِ : « ما شأنك ؟ » .
فقلت أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يابن أبي طالب ويومي ؟ فاقبل رسول الله عليَّ وهو محمر الوجه غضباً ، فقال : إرجعي وراءك والله لا يبغضه أحد إلا وهو خارج من الإيمان ، فرجعت نادمة ساخطة . ـ نعم أذكر ذلك، ـ أو أذكرك ، ـ نعم ، ـ كنت أنا وأنت مع رسول الله فقال لنا : أيتكن صاحبة الجمل الأدب (1) تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ؟ فقلنا نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك ، فقال : إياك أن تكونيها يا حميراء ، ـ نعم أذكر ذلك ، ـ أو أذكرك ، ـ نعم ، وساقت لك حديث خصف النعل فأقررت به فقالت لك بعد ذلك : فأي خروج تخرجين بعد هذا ؟ فقلت لها : أخرج للاصلاح بين الناس (2) ، وتبالغ أم سلمة في نصحك وإرشادك إلى طريق الحق والصواب فتقول لك : يا عائشة : إن عمود الاسلام لا يستتب بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إذا صدع . هاديات النساء غض الأطراف ، خضر الأعراض ، . .ما كنت قائلة لرسول الله لو عارضك باطراف الفلوات والجبال ، على قعود من الابل من منهل إلى منهل ؟ ما كنت قائلة : وقد هتكتِ حجابه الذي ضربه عليك ؟ ألا إني لو أتيت الذي تريدين ثم قيل لي : ادخلي الجَنة لا ستحييت أن ألقى الله .

----------------------------
(1) الأدب : الجمل الكثير الشعر .
(2) شرح النهج 2 ـ 79 ، وذكر الزمخشري في الفائق 1 ـ 290 ما يقرب ذلك .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _199_

  فأعرت كلامها أذناً صمّاء ، واندفعت وراء عواطفك وميولك وأنت تفرقين وحدة الأمة ، وتسعّرين نار الحرب والفتن بين المسلمين ، يا عائشة هبي أنك نسيت أو تناسيت كلما أنزل الله في كتابه بخلافة علي ، وولايته ، وما جاء في سنّتي من إمامته وفضله فهلا ذكرك نباح كلاب الحوأب فأرجعك إلى رشدك فقد حذرتك من أن تكوني أياها يا حميراء ، هلا أرجعك إلى الصواب خطبة علي عندما أراد الخروج إلى البصرة ، وقد فنَّد فيها معاذيرك ، ومعاذير طلحة والزبير ، ويعلى بن أمية فقد قال : « إن الله فرض الجهاد ، وجعل نصرته وناصره . وما دنيا ولا دين إلا به ، وإني بُليت بأربعة : أدهى الناس وأشقاهم طلحة ، وأشجع الناس الزبير ، وأطوع الناس في الناس الزبير ، وأسرع الناس إلى فتنة يعلى بن أمية . . والله ما أنكروا عليَّ شيئاً منكراً ، ولا استأثرت بمال ، وملت بهوى . . وإنّهم ليطلبون حقاً تركوه . . ودما سفكوه ، ولقد ولو دوني . . ولو كنت شريكهم في الانكار لما أنكروه . . وما تبعه عثمان إلا عندهم ، وإنهم لهم الفتنة ، بايعوني ونكثوا بيعتي ، ما استأنسوا بي حتى يعرفوا جوري من عدلي وإني لراض بحجة الله عليهم ، وعلمه فيهم ، وإنّي مع هذا لداعيهم ، ومعذراً إليهم ، فإن قبلوا فالتوبة مقبولة ، والحق أولى من صرف إليه ، وإن أبوا أعطيتهم حد السيف ، وكفى به شافياً من باطل وناصراً ، والله إن طلحة والزبير وعائشة يعلمون أني على حق وهم مبطلون » .
  وقد أمعن علي باسداء النصح لكِ ولصاحبيك طلحة والزبير ، فقد كتب لكم كتاباً عندما قارب البصرة يوضح لكم السبيل ، ويقطع عليكم المعاذير وقد جاء فيه . « من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى طلحة والزبير وعائشة سلام عليكم . . . أما بعد : يا طلحة ويا زبير قد علمتما أني لم أرد البيعة حتى أكرهت عليها ، وأنتما ممن رضي ببيعتي ، فإن كنتما بايعتما طائعين فتوبا الى الله تعالى ، وارجعا عما أنتما عليه ، وإن كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما لي السبيل عليكما باظهاركما الطاعة ، وكتمانكما المعصية . وأنت يا طلحة يا شيخ المهاجرين . وأنت يا زبير يا فارس قريش لو دفعتما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد الاقرار . وأنت يا عائشة فإنّكِ خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ثم تزعمين ( أنك تريدين الاصلاح بين المسلمين ) . فخبريني ما للنساء وقود الجيوش والبروز للرجال ، والوقوع بين أهل القبلة وسفك الدماء المحترمة ؟ . . ثم إنك طلبت على زعمك دم عثمان . وما أنت وذاك ؟ وعثمان من بني أمية وأنت من تيم . . ثم بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول الله : ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) ثم تطلبين اليوم بدمه فاتقي الله وارجعي إلى بيتك واسبلي عليك سترك والسلام . . » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _200_

  وقد أقام عليكم الحّجة ولم يدع لكم وليجة تنفذون منها ، فهلا استجبت لمنطق العدل ، ولنت نفسك من الدخول في هذه الفتنة فإنا لله وإنا إليه راجعون .

دفاع عائشة :
وتقوم السيدة عائشة فتدافع عن نفسها ، محاولة أن تبرر خروجها وحزبها لعلي قائلة : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنت تعرف مكانتي بين المسلمين ، ومالي من المنزلة العظيمة عندهم ، وإني لم أخرج مفسدة وإنما خرجت لطلب الاصلاح ، لقد خرجت مطالبة بدم الشهيد الذكي عثمان فقد قتلوه في الشهر الحرام بعد ما استتابوه ، وخلص من ذنوبه ، فلم يسعني أن أسكت ، وأترك الدم مباحاً ، وعلي قد آوى قتلته ، ولم يقتص منهم ، وأنت تعلم ما في نفسي من العقد النفسية على علي لأنه أبو سبطيك ، وقد حرمت منك الولد ، وكنت واجدة على ابنتك وبضعتك فاطمة الزهراء ، فقد هاج وجدي حينما علمت ان علياً قد صار إليه امر المسلمين فلم اتمكن دون ان اعلن التمرد على حكومته ، واقود الجيوش لمناجزته ، وانا معترفة بما ذكرته وادليته عليَّ ، وليس لي مجال للانكار والشك في ذلك .

جواب النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
وينبري النبي ( صلى الله عليه وآله ) لتنفيذ مزاعم عائشة فيقول لها : إن عثمان قد سعى لحتفه بظلفه ، واجهز على نفسه فقد هيأ الأسباب المؤدية إلى قتله ، اليس هو الذي نفى الصحابي العظيم ابا ذر الذي هو شبيه عيسى بن مريم في ورعه وتقواه ؟ اليس هو الذي كسر ضلع المقري الصالح عبد الله بن مسعود ؟ اليس هو الذي ضرب الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر حتى اوجد فتقاً في بطنه ، الم يؤثر بني امية بالسلطة والمال ، فاجاع الناس ليتخموا ، واذل المسلمون ليعلوا ، ويتطاولوا فلم تأخذه في سبيلهم ملامة اللائمين ، ولا ثورات الثائرين ، فقد افتتح في ايامه ارمينية فأخذ الخمس كله ، ووهبه للوغد الأثيم مروان بن الحكم ، واعطى سوق تهروز في المدينة للحارث ابن عمه ، واقطع مروان فدكا ، وهو يعلم انها ملك لسيدة النساء فاطمة ، وحمى مراعي المدينة عن مواشي المسلمين إلا عن مواشي بني امية ، واعطى ابن ابي سرح جميع ما افاء الله على المسلمين من فتح افريقيا ، ان هذه العوامل هي التي اطاحت بعثمان وسببت قتله وانت تعلمين ذلك ، وتعلمين كيف ثار عليه خيار صحابتي وانت بالذات كنت من الموقدين لنار الثورة في النفوس فكيف تطالبين بدمه وتزعمين انه قتل مظلوماً .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _201_

جواب عائشة :
  يا رسول الله إنهم استتابوه حتى ماصوه من ذنوبه موصة الثوب ثم عدوا عليه فقتلوه فلذا خرجت مطالبة بدمه .

جواب النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
  وينبري ( صلى الله عليه وآله ) إلى تفنيد مزاعم عائشة فيقول لها : أنت المسؤولة أولاً وبالذات عن مقتل عثمان فأنت أول من أمال حربه ولولاك لما تعدى الأمر من حصره إلى قتله ، ولم يجرأ أحد على إراقة دمه وهتك حرمته ، لقد كنت خلال السنوات الست من حكمه تفيضين عليه ألواناً من القداسة ، وتخلعين عليه بروداً من الكرامة ، فكنت تنتحلين الأحاديث بتفضيله على أبيك وعمر ، فقد رويت عني أنه استأذن أبو بكر عليَّ فأذنت له فقضيت حاجته ، وهو معي في المرط ثم خرج فاستأذن عمر فأذنت فقضيت حاجته ، وأنا على تلك الحال ، ثم خرج فأستأذن عليَّ عثمان فأصلحت على ثيابي وجلست فقضيت حاجته ثم خرج فقلت لي ـ حسب زعمك ـ يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر وأنت على حالك ، فلما استأذن عليك عثمان أرخيت عليك ثيابك ، فقلت لك : يا عائشة ألا استحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه .
  هكذا كان عثمان عندك محاطاً بالعناية ، والإجلال والتكريم ، ولكن في السنوات الست الأخيرة من حكمه وقع الخلاف والشقاق بينكما فسجّرت نار الفتنة عليه وألهبت العواطف ، واثرت الاحقاد والأضغان عليه ، ويعود السبب في ذلك إلى أنه قطع الألفين الزائدين لك على مرتبات أمهات المؤمنين فجعلك عثمان أسوة بهن ، وقد تدرج بذلك الخلاف بينكما ورفعت علم المعارضة لا لسبب ديني وإنما هو لأمر مادي محض ، لقد تزعمت الفئة المعارضة له وأصبحت ملجأ للساخطين على حكومته ، وقِدتِ الجماهير في حادثة عبد الله بن مسعود لما أهانه عثمان وكسر ضلعه ، وكذلك في حادثة عمار بن ياسر حينما أمر بضربه وإلقائه في الطريق فكان بين الموت والحياة ، وقد تمكنت من رفع الحصانة التي كان يتمتع بها عثمان في المجتمع الاسلامي لمكانه من خلافتي ، وأصدرت فتياك الصريحة الواضحة بقتله وكفره فقلت « اقتلوا نعثلاً فقد كفر » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _202_

  وكنت تطاردينه بالمعارضة والتنديد وتأتين بقميصي وتنشرينه وتنادين رافعة صوتكِ : « يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنّته . . » ، فقال عثمان وقد ضاقت به الأرض : « ربي اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم » ، ولما رأيت إجماع المسلمين على قتله قلت له : « أي عثمان خصصت بيت مال المسلمين لنفسك وأطلقت أيدي بني أمية على أموال المسلمين ، ووليتهم البلاد ، وتركت امة محمد في ضيق وعسر ، قطع الله عنك بركات السماء ، وحرمك خيرات الأرض ولولا أنك تصلي الخمس لنحروك كما تنحر الابل . . » . فقرأ عثمان عليك قول الله تعالى « ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل آدخلا النار مع الداخلين » ، وقد اشتد الخلاف بينكما حينما أصدرت فتياك الصريحة بقتله وكفره ، وقد انتشرت فتياك بين المسلمين انتشار النار بالهشيم ، وبعد هذا فكيف تدّعين أنك خرجت مطالبة بدمه ، إن كنت على حق . فلم لم تهبِّ لنجدته ، ونصرته حينما أحاط به الثوار ، وقد جاءك مروان بن الحكم ، وزيد بن ثابت مستنجدين بك لنصرة عثمان والذب عنه ، فتنكّرت لزيد ، وقابلتيه بأغلظ القول قائلة له : « ما منعك ، يا بن ثابت ، ولك الأساريف قد أقطعكها عثمان وأعطاك عشرة آلاف دينار » .
  ثم نهرت مروان وقلتِ له : « أتراني في شك من صاحبك والذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه فألقيه في البحر الأخضر » ، وهرع إليك مرة ثانية مروان بن الحكم ، ومعه عبد الرحمن بن عتّاب بن أسِيد رسولين عن عثمان لتصدين عنه الثوار فقالا لك : « لو أقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل ؟ » ، وقال لك مروان : « يدفع لك عثمان بكل درهم أنفقتيه درهمين » ، فرددت عليه بقولك : « قد قرنت ركائبي ، وأوجبت الحج على نفسي » ، وبعد هذا كيف تدعين أنه قتل مظلوماً ؟ وقد بذلت جميع جهودك في الإطاحة بحكمه فقلتِ لابن عباس لما خرج من المدينة إلى مكة أميراً على الحج من قبل عثمان قلت له : « يا بن عباس أنشدك الله ، فإنّك أعطيت لساناً أزعبلا أن تخذل عن هذا الرجل ، وإياك أن ترد عن هذا الطاغية ، وأن تشكك فيه الناس ، فقد بانت لهم بصائرهم ، وأنهجتِ ، ورفعت له المنار ، وتجلبوا من البلدان ، وقد رأيت ابن عبيد الله قد اتخذ على بيوت المال ، والخزائن مفاتيح ان يسير بسيرة ابن عمه أبي بكر . . » ، فقال لكِ ابن عباس ، وقد عرف غايتك : « يا امه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا الى صاحبنا » ، فالتعت من قوله وانبريت فزعة قائلة له : « إِ يهاً عنك ، لست أريد مكابرتك ، ولا مجادلتك » ، ولما بلغكِ مقتل عثمان ، وأنت في مكة دخلك موجات من السرور والأفراح ، وضربت قبتك في المسجد الحرام ، وقلت : « أبعده الله ، قتله ذنبه ، وأقاده الله بعمله ، بعداً لنعثل وسحقاً . . إِيهاً ذا الاصبع ، إِيهاً أبا شبل ، إِيهاً ابن عم ، فكأني انظر الى اصبعه وهو يبايع . . يا معشر قريش لا يسؤِنكم مقتل عثمان كما أساء احيمر خدود قومه ، ان أحق الناس بهذا الأمر لذي الاصبع » .