قدم له
باقر شريف القرشي
منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات


  كتاب عقـائدي اقـتبست مـواضيـعه من الأحداث ، والصور الـتي التـقطها التاريـخ من شاشة الحياة الغـابرة من عصر الـرسول الأعـظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعصر الخلفاء الأربعة وسلط علـيها الـبحث الدقـيق أنواره الكاشفة للحق واليقـين وصيغت بقوالب شفافة .
بسم الله الرحمن الرحيم رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إِن نَسِينا أو أَخْطَأنا . رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِين مِنْ قَبْلِنا . رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طَاقَةَ لَنا بِهِ . واعْفُو عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَولانا فَانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرين . « القرآن الكريم »

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _ 2 _

الاهـداء :
   « قُـل هذه سَبيلي أدْعو إلى الله على بَصيرةٍ أنا وَمَن اتّبعني ، وسبُحانَ الله وما أنا من المشركين » بهذا الوعي الاسلامي الأصيل ، وبوحي من الغدير ، كتبت هذا المجهود ، وأنا أدفعه بكلتا يدي إلى وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومولى المسلمين الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، راجياً من الله أن تكون لي ذريعة « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم » ولقلة بضاعتي ، وضعف حيلتي أقول كما قال إخوة يوسف لأخيهم : و « قالوا يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرّ ، وجئنا ببضاعة مُّزجَاةٍ ، فأوف لنا الكيل ، وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين » .
تقديم       
باقر شريف القرشي

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 3 _

المقدمة :
   وموضوع الخلافة في الإسلام من أهم القضايا التي منيت بالتعقيد والغموض فقد امتحن المسلمون بها امتحاناً عسيراً ، وأُرهقوا إرهاقاً شديداً ، فهي مصدر الفتنة الكبرى التي أدت إلى نشوب النزاع ، واحتدام الجدال ، واختلاف النزعات بين المسلمين .
  إن المآسي الفظيعة ، والمحن الشاقة التي جابهها المسلمون في الفترات المختلفة من الأمويين والعباسيين كانت ـ من دون شك ـ من النتائج المباشرة للخلافة التي انحرفت عما أراده الله ورسوله من جعلها في العترة الطاهرة التي هي أقرب الناس برسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واشبههم به في ورعه وعلمه ، والتزامه بحرفية الإسلام .
  ولو قُدر للخلافة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن تأخذ طريقها المستنير الذي عينه رسول الله ، لما حلت تلك الأحداث المؤسفة في الإسلام ، ولما حدث التناحر المرير بين المسلمين الذي لا يعلم بانقضائه إلا الله.
   لقد كانت شهوة الحكم وحب الرياسة قد استولت على طباع القوم فأجمع رأيهم على صرف الخلافة عن أهلها ، فعُقِدت السقيفة وأُبرم فيها العهد فخرج القوم ضافرين بالحكم ، والنبي مسجى في فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 4 _

   وانطلقت العترة بعد مواراة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعها خيار الصحابة وأعلام الدين وهم يشجبون استئثارهم بالأمر ، ويذكّرونهم الدار الآخرة ، ويحذّرونهم مغبة الأمر ، وما تنتجه هذه المباغتات والفلتات من المضاعفات السيئة التي تتغير بها مجرى الحياة الكريمة في الإسلام ، فكان الرد عليهم « لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد . » وهو منطق رخيص لا يساعده الدليل في جميع أحواله .
   لماذا لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت الوحى ومعدن العلم ، ومهبط الملائكة ؟ ألقصور في العترة الطاهرة عن تحمل المسؤولية وقيادة الأمة ، وهي من دون شك لو تولت زمام الحكم بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) لوفرت للمسلمين جميع ما يحتاجون إليه ، ولحققت على مسرح الحياة العدل الإجتماعي ، والعدل السياسي ، وأوجدت الفرص المتكافئة لجميع المواطنين .
   إنه ليس هناك من عامل سوى الحسد والأنانية التي أُترعت بها نفوس القوم ، فأقصوا العترة الطاهرة عن الخلافة ، وقد فسحوا بذلك المجال للأسر المعادية للأسلام والباغية عليه أن تغزوا المنصب الديني الإعلى ، وأن تنزوا على منابر المسلمين وتتحكم في رقابهم وفي مصيرهم .
   لقد أنتجت عملية فصل الخلافة عن أهل البيت أن يؤل أمر المسلمين إلى معاوية بن أبي سفيان وإلى يزيد وإلى مروان والوليد ، وأن يكون الولاة على الأقاليم والأنصار الإسلامية أمثال سمرة بن جندب ، وبُسر بن أرطاة ، وزياد ابن أبيه ، وعبيد الله بن زياد ، والحجّاج بن يوسف ، وأمثالهم من البغاة والجلادين الذين تنكروا للاسلام ، وسحقوا جميع مقدساته ونواميسه ، وقد أثبتوا في نشاطهم السياسي والإداري أنهم يحاولون تصفية الحساب مع المسلمين واستعبادهم ، وإخضاعهم للذل والعبودية ، وإشاعة المنكر والفسوق والإثم في بلادهم ، بالإضافة إلى ما صّبوه على العترة الطاهرة من القتل ، والصلب والتشريد ، وسبي ودائع النبوة وكرائم الوحي ، فلم ترع فيهم حرمة النبي صلى الله عليه وآله ولا ذمام الإسلام الذي الزم بودهم واحترامهم .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 5 _

  كل هذه الفجائع والمآسي كانت ناجمة من دون شك عن فصل الخلافة عن أهل البيت عليهم السلام .
  وكان المنطق الرخيص سائداً في تلك العصور ، ولا يزال سائداً حتى يوم الناس هذا من أنه يجب علينا أن نحمل أفعال القوم على الصحة وأن نقدس جميع خطواتهم الإيجابية ، ونقول إنهم قد صانوا الاسلام فيما فعلوه وحفظوا له مثاليته ، وقد احتاطوا في جميع ما فعلوه ، وقد ابتغوا الدار الآخرة ، وليس لنا إلا الرضا والسكوت ، وتأويل أفعالهم وحملها على خلاف ظاهرها وواقعها ، وليس للعقل في ذلك حكم ، ولا للمنطق مجال ، ولا للرأي حكومة ، ومن الطبيعي أن هذا الإلتواء لا يقُرِّه الإسلام بحال من الأحوال .
  فقد أعلن والحمد لله حرية النقد لكل عمل جاء في الواقع وشذ عن سنن الاسلام ، ونعي على العقل الجمود ، ودعاه إلى الانطلاق ، وإلى التفكير في كل شيء ، ومن الطبيعي أن عزل العقل عن النظر والتأمل في الأحداث الجسام التي وقعت في الصدر الأول من الاسلام إنما هو تجميد لقوى الفكر ، وسد لأبواب النظر والعرفان التي هي من الخصائص الذاتية لهذا الانسان .
  ونحن في حاجة إلى البحوث الحرة التي تكشف لنا الحقائق ، وتدلنا على واقع الأمور ، فقد خلط التاريخ الاسلامي بكثير من الموضوعات والمفتريات أوجبت خفاء الحق ، وتظليل الرأي العام في كثير من جوانب حياته العقائدية .
  وكان عامل الدس والافتراء إنما هو تأييد السلطة الحاكمة وتدعيم حكمها ، وعزل أهل البيت عن القيادة العامة للأمة ، ومن أظهر ألوان ذلك الدس للأخبار التي تُعمِّد وضعها في مناقب بعض الصحابة ، وجعلهم في مستوى النبوة ، وفوق مستوى المسلمين ، وإنهم لا يؤاخذون على ما يقولون ، ولا يحاسبون على ما يفعلون وإن كان على خلاف الحق .
  لقد تعمد معاوية إلى ذلك فعهد إلى لجان الوضع التي أغراها بأمواله وسلطانه أن تروي في بعض الصحابة كل ألوان التقديس والثناء (1) ليجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد دونت مع الأسفتلك الموضوعات في كتب الأخبار ، ورواها الثقات وهم من دون شك لا يعلمون بوضعها ، ولو علموا ذلك لتحرّجوا من روايتها فضلاً عن تدوينها ، ومن هنا نشأت المحنة الكبرى في حمل مطلق الصحابة على الصحة ، وعدم النظر في أعمالهم ، وسد باب النقد والمؤاخذة على ما صدر من بعضهم من شذوذ أو التواء .

ِ الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 6 _

  أن تروي في بعض الصحابة كل ألوان التقديس والثناء (1) ليجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد دونت مع الأسفتلك الموضوعات في كتب الأخبار ، ورواها الثقات وهم من دون شك لا يعلمون بوضعها ، ولو علموا ذلك لتحرّجوا من روايتها فضلاً عن تدوينها ، ومن هنا نشأت المحنة الكبرى في حمل مطلق الصحابة على الصحة ، وعدم النظر في أعمالهم ، وسد باب النقد والمؤاخذة على ما صدر من بعضهم من شذوذ أو التواء .
  وإذا عرضنا قصة الصحابة على المنطق ، وتجردنا من العواطف ، ولم نخضع للمؤثرات التقليدية ، نرى أن الصحابة فيهم الصلحاء والأخيار ممن ساهموا في بناء الاسلام وأقاموا دعائمه ، ووهبوا أرواحهم وأموالهم لله ، وقد أثنى عليهم تعالى في غير آية من كتابه فقال فيهم : « الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » وقال تعالى : « رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » .(2)   وهؤلاء هم الذين آمنوا بالله ، ونصروا الاسلام في ايام محنته وغربته وكافحواجبابرة العرب وطغاة قريش ، فلاقوا في سبيل الدين اشد الوان المحن والتنكيل ، فلهم على كل مسلم حق وفضل ، ويجب أن نكنّ لهم في اعماق نفوسنا الإكبار والتقدير والود والتكريم لما اسدوه على الاسلام من اياد ، وألطاف .

---------------------------
(1) يقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه : ( إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة أفتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم ) وقد كتب معاوية إلى جميع عماله مذكرة جاء فيها ( إن الحديث قد كثر في عثمان ، وفشا في كل مصر ، وفي كل ناحية فإذا جاءكم كتابي فادعوهم إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فإن فضلهما وسوابقهما أحب إلي ، وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ) وقد كثرت لجان الوضع ، وأنتشر الكذب على النبي (صلى الله عليه وآله) وكان ذلك من أعظم الوسائل التي اعتمد عليها معاوية لتدعيم حكمه ، فقد أوجبت تخدير الجماهير ، وشل حركة الثورة في النفوس .
(2) سورة التوبة : آية 100 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 7 _
  ومن الصحابة من مردوا على النفاق ، وابتغوا الفتنة ، واظهروا الغدر وانهمروا الكيد ، فلم ينفث الاسلام الى قلوبهم ، وإنما كانوا يبدونه بألسنتهم حفظاً على دمائهم واموالهم ، وقد وصفهم تعالى بقوله : « وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ » .(1)
  وقد مهروا في النفاق والخديعة والمكر فكانوا إذا التقوا بالمؤمنين اظهروا لهم الإيمان والإنقياد لله ، وإذا خلوا بزملائهم من المنافقين قالوا لهم : إنا معكم ، وقد حكى ذلك تعالى بقوله : « وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ »(2).
  وقد أنزل تعالى فيهم سورة من كتابه وهي سورة المنافقين تشهيراً بهم ، وفضحاً لنواياهم ، واستهانة بهم ، واعد لهم في الدار الآخرة العذاب الأليم .
  لقد تحدث النبي صلى الله عليه وآله في غير موقف من مواقفه عن هؤلاء الذين كادوا للاسلام وبغوا عليه ، فأخبر أن الله سيعاقبهم ويؤاخذهم على ما سيحدثونه من بعده فقد اخرج الترمذي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال : « ويؤخذ بأصحابي ذات اليمين وذات الشمال ، فأقول ياربي اصحابي ، فيقال إنك لاتدري ما احدثوا بعدك فإنهم لن يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول : كما قال العبد الصالح إن تعذبهم فإنهم عبادك ». (3)
  وقال صلى الله عليه وآله : « انا فرطكم على الحوض ، ولأنازعن اقواماً ثم لأغلبن عليهم ، فأقول يا رب اصحابي ، فيقول لا تدري ما احدثوا بعدك » . (4)

---------------------------
(1) سورة البقره: آية 8 ـ 9 .
(2) سورة البقره: آية 14 .
(3) صحيح الترمذي 5 ـ 231 .
(4) مسند أحمد 5 ـ 231 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 8 _   واخرج البيهقي بسنده عن ابي عبد الله الأشعري عن ابي الدرداء قال : قلت يا رسول الله بلغني انك تقول : ليرتدن اقوام بعد ايمانهم ، قال (صلى الله عليه وآله) اجل ولست منهم (1) .
  إلى غير ذلك من الأخبار التي اعلنت بوجود المنافقين والمرتابين في دينهم والمرتدين على أعقابهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وليس لنا بعد ذلك أن نحكم حكماً مطلقاً بأن كل صحابي عادل ، وأن الصحبة توجب العصمة ، وتنفي الزيغ من النفوس .
  فإن هذا المنطق لا يساعد عليه الدليل ولا البرهان ، وهو في نفس الوقت بعيد عن روح الاسلام ، وبعيد عن هديه ، فإنه جعل المقياس في تفاوت الناس ، وفي اختلاف قيمهم إنما هي الأعمال ولا أثر لغيرها ، وقد أناط تعالى بها ثوابه وعقابه قال تعالى : « وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى » وقال تعالى : « فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره » .
  أن الإسلام الذي بني على العدل الخالص والحق المحض لا يرى هناك قيمة ترتفع بها مكانة الشخص سوى العمل الصالح الذي يقرب الانسان من ربه ، ويبعده عن بواعث الهوى والغرور .
  وتناول هذا الكتاب ببحوثه الحرة الأحداث التي جرت في العصر الأول وهي من دون شك قد أدت إلى انقسام المسلمين ، وتصدع شملهم ، وظهور النزعات المختلفة في صفوفهم ، عرضها المصنف بأسلوب رائع رصين ، فصوّر قيام المحشر ، وسؤال النبي صلى الله عليه وآله لخلفائه عما وقع منهم من الأحداث المؤسفة ، وما أفتوا به في بعض القضايا مما كان من الإجتهاد قبال النص ، وهو أمر لا تقره الشريعة بحال ، فإن الاجتهاد لا يشرع في مثل ذلك ، فإن نصوص الكتاب والسنة يجب التعبدللاسلام أن تحتل منصب الخلافة الاسلامية ، وتمعن في إرهاق أبناء النبي (صلى الله عليه وآله) وإنزال الكوارث والخطوب بهم .

---------------------------
(1) تاريخ ابن كثير 6 ـ 207 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 9 _   وعلى أي حال فإن البوادر التي أثبتها المصنف ودان بها الخلفاء قد أجمع الثقات من الرواة على تدوينها ، وقد ذكر مصادرها في هامش الكتاب ، ولم تكن موضع النزاع والجدل بين العلماء من ناحية صدورها إلا التماس العذر وحمل الصحابة على الصحة ، وهو منطق ـ كما ذكرنا ـ لا يساعد عليه الدليل ، ولا تقره قواعد العلم .
  ونحن لا يخامرنا شك في أن هذه البحوث سوف تتبلور في عصور النهضة الفكرية ، وستعالجها بصورة موضوعية أقلام الأحرار والمفكرين ويبرز الحق واضحاً جلياً لا غبار عليه .
  وقد أولى من سماحة المؤلف شرف تقديم كتابه ، فعكفت على مراجعته ، والامعان في بحوثه ، وإني اُهنيه على هذا المجهود القيم ، سائلاً من الله تعالى ان يمنَّ على الأمة بأمثاله من العلماء المحققين انه تعالى ولي القصد والتوفيق .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 10_   واقتضى عدل الله الفياض بالرحمة ، وحكمته البالغة ، وألطافه اللامتناهية . . أن يبعث للناس كافة ،حاضرهم وباديهم ، أبيضهم وأسودهم ، عربيهم وأعجميهم أنبياء ، ويرسل لهم رسلاً مبشرين ومنذرين ، ليكونوا رحمة للعالمين « يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا » (1).
  واختيار الأنبياء حق من حقوقه تعالى ، وتعيينهم لطف من ألطافه ، لا ينازعه فيه منازع من خلقه ، وقد أعلن ذلك كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ في غير آي من آياته قال تعالى : « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالعدل » (2) ، وقال تعالى : «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ » (3) ، وقال تعالى : « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا » (4) .
  وقد جعل تعالى آدم خليفة في أرضه قال تعالى : « وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا أتجعل فيها م يفسد فيها ويسفك الدماءونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون » (5)، انتخب تعالى طالوت ملكاً على بني إسرائيل قال تعالى : « وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * » (6) .

---------------------------
(1) سورة الأحزاب : آية 45 ـ 46 .
(2) سورة ص : آية 26 .
(3) سورة القصص : آية 68 .
(4) سورة الأحزاب : آية 36 .
(5) سورة البقرة : آية 30 .
(6) سورة البقرة : آية 247 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 11 _   واختار تعالى خليله ابراهيم إماماً للناس « قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين » (1) ، واختار الله سبحانه محمداً ( صلى الله عليه وآله ) سيداً لرسله وخاتماً لأنبيائه قال تعالى : « مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » (2) .
  والإمامة كالنبوة لا تنالها يد الجعل ، وإنما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها من يشاء من عباده ، وقد اختار تعالى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وصياً لرسوله ، وخليفة من بعده ، وجعله إماماً على جميع المسلمين ، وقرن طاعته بطاعته وطاعة « رسوله ، وقد نطق بذلك التنزيل قال تعالى : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (3) ، فقد اتفق المفسرون والمحدثون من العامة والخاصة أنها نزلت في أمير المؤمنين لما تصدق بخاتمه في أثناء صلاته على المسلمين (4) ، وهي تدل على المطلوب بصراحة ووضوحفإن كلمة إنما للحصر باتفاق أهل اللغة ، والولي بمعنى الأولى بالتصرف وهو مرادف للامام والخليفة عند أهل اللغة والشرع .

---------------------------
(1) سورة البقرة : آية 124 .
(2) سورة الأحزاب : آية 45 ـ 46 .
(3) سورة المائدة آية 55 .
(4) نص على ذلك الرازي في تفسيره 3 / 618 ، والزمخشري في تفسيره 1 / 264 والبيضاوي في تفسيره ص 154 ، والنيسابوري في تفسيره 2 / 28 ، والطبرسي في تفسيره مجمع البيان 6 / 165 ، وعلي المتقي في كنز العمال 6 / 391 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 12 _   وجعله تعالى في آية المباهلة نفس النبي قال تعالى : « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الظالمين » (1) .
  واتفق جمهور المفسرين ، ونقلة الحديث أنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام (2) ، وأن أبناءنا أشارة إلى « الحسنين » ونساءنا إشارة إلى فاطمة عليها السلام ، وأنفسنا إلى علي عليه السلام فهو يساوي النبي صلى الله عليه وآله في الولاية العامة على المسلمين ويفترق عنه في النبوة .
  وأمر الله تعالى نبيه أن يأخذ لأمير المؤمنين البيعة يوم غدير خم ، وينصبه علماً من بعده ، قال تعالى : «يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين » (3).
  ولما تمت البيعة ، وأحكم النبي صلى الله عليه وآله عقدها نزل قوله تعالى « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا » (4).
  وأذهب الله عنه الرجس ، وطّهره من الفتن والزيغ وعصمه من الفتن والآثام ، قال تعالى : « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطّهركم تطهيراً »(5).

---------------------------
(1) سورة آل عمران : آية 61 .
(2) تفسير روح البيان 1 / 457 ، تفسير البيضاوي ص 76 ، تفسير الرازي 2 / 699 ، تفسير الجلالين 1 / 35 ، تفسير الكشاف 1 / 149 ، مصابيح السنة للبغوي 2 / 201 ، صحيح الترمذي 2 / 166 ، مسند أحمد بن حنبل 1 ـ 185 .
(3) سورة المائدة : آية 67 ، نص على نزولها في يوم الغدير ، الواحدي في أسباب النزول ص 150 ، والفخر الرازي في تفسيره وغيرهما .
(4) سورة المائدة : آية 3 ، نص على نزولها في يوم الغدير السيوطي في الدر المنثور 2 ـ 259 والخطيب البغدادي في تأريخه 8 ـ 290 وغيرهما .
(5) سورة الأحزاب آية : 33 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 13 _   وقد أجمع المفسرون ورواة الأخبار أنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام وفي طليعتهم أمير المؤمنين عليه السلام والآية صريحة في عصمته عن المعاصي والأرجاس فقد دلت على ذلك كلمة إنما وهي من أقوى أدوات الحصر ، بالإضافة إلى دخول اللام في الكلام الخبري ، وتكرار لفظ الطهارة ، وذلك يدل بحسب الصناعة على الحصر والإختصاص ، كما نسب تعالى إرادة ذلك إليه ، ويستحيل في إرادته تعالى أن يتخلف المراد عن الارادة « إنما أمرهُ إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون » (1).
  إلى غير ذلك من الآيات التي أشادت بفضل أمير المؤمنين عليه السلام وهي صريحة في إمامته وعصمته.
  لقد قرأنا فضل أبي الحسين « في صحف مكرمة مرفوعة مطهّرة بأيدي سفرة كرام بررة » (2)، وعلمنا أن الله قد اختاره لمنصب الإمامة والخلافة ، وليس بعد اختيار الله حق لاختيار أحد .
وقرن النبي صلى الله عليه وآله الدعوة إلى الامامة بالدعوة إلى النبوة ، وابتدأ ذلك بحادثة أنذاره لعشيرته الاقربين ، فاتخذ أمير المؤمنين عليه السلام أخاً ووصياً له ، وخليفة من بعده ، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا (3) .
  واستمر ( صلى الله عليه وآله ) يواصل الدعوة إلى امامة امير المؤمنين ، ويذلل له الصعاب ، ويمهد في سبيل ذلك جميع الوسائل والطرق ، ولما حج (صلى الله عليه وآله) حجّة الوداعقام في عرفات خطيباً ، وكان عدد الحجاج مائة ألف أو يزيدون فقال صلى الله عليه وآله : « ايها الناس ، يوشك أن أُدعى فأُجيب ؛ وإني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به فلن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي . وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » .

---------------------------
(1) تفسير الرازي 6 ـ 783 ، الدر المنثور 5 ـ 199 ، النيسابوري في تفسير سورة الأحزاب ، صحيح مسلم 2 ـ 331 ، الخصائص الكبرى 2 ـ 264 ، الرياض النضرة 2 ـ 188 ، مسند أحمد بن حنبل 4 ـ 107 ، سنن البيهقي 2 ـ 150 ، مشكل الآثار 1 ـ 334 .
(2) سورة عبس : آية 13 و 14 و 15.
(3) تاريخ الطبري 2 ـ 62 ، كنز العمال 6 ـ 392 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 14 _   واعتلى (صلى الله عليه وآله) راحلته متخذاً ظهرها منبراً ، وهم محدّقون به يشخصون إليه بأبصارهم واسماعهم وافئدتهم ، فقال (صلى الله عليه وآله) « علي مني وأنا من علي ، ولا يؤدي عني الا أنا أو علي » (1) ولما قفل من حجّة الوداع بمن معه من الحجاج ، كان يوجس في نفسه الرحيل الى الله قبل أن يرحمه ويقي أمته من الفتن والأهواء.
  ولما بلغ غدير خم أوحى إليه الله تعالى « يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ».
  واضطرب النبي (صلى الله عليه وآله) من هذا الانذار ونزل عن راحلته واستنزل من معه عن رواحلهم ، واسترجع المتقدمين منهم وانتظر المتأخرين ، حتى اجتمع الناس في صعيد واحد ، وكان الزمن شديد الحر فوضعوا ثيابهم تحت ارجلهم من حرارة الرمضاء فصلى صلى الله عليه وآله فيهم . . . وصنع له منبر من حدائج الأبل بين دوحتين .
  فرقى (صلى الله عليه وآله) ذروة المنبر ، ووقف أمير المؤمنين عليه السلام دونه بمرقاة ، وارتجل صلى الله عليه وآله خطيباً فحمد الله واثنى عليه.
  ثم قال : « أيها الناس يوشك أن أُدعى فأجيب ، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا انتم قائلون ».
  فانبروا جميعاً قائلين بلسان واحد« أنك قد بلغت ، وجاهدت ، ونصحت فجزاك الله خيراً ».
  فقال (صلى الله عليه وآله) « ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، واني محمد عبده ورسوله ، وان جنته حق ، وان الموت حق ، وإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وان الله يبعث من في القبور».

---------------------------
(1) الصواعق المحرقة .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 15 _   قالوا : « بلى نشهد بذلك » .
  قال ( صلى الله عليه وآله ) : « اللهم اشهد » .   وأخذ بيد أمير المؤمنين حتى بان للناس بياض ابطيهما وأعلن للملأ أنه وصيه وخليفته قائلاً : « يا أيها الناس ، إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » .
  ووجه خطابه الى المسلمين قائلاً : « يا أيها الناس أنا فرطكم (1).
وانكم واردون على الحوض حوض اعرض مما بينب بصرئ (2).
إلى صنعاء (3).
فيه ـ عدد النجوم ـ قدحان من فضة ، وإني سائلكم حين تردون عليَّ الحوض ، عن الثقلين . كيف تخلـفوني فيهما ؟ الثـقل الأكبر كتاب الله عزّ وجلّ طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به ، لا تضلّوا ولا تبدّلوا ، وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير انهما لن ينقضيا حتى يردا عليَّ الحوض » (4).

---------------------------
(1) الفرط : السابق والمتقدم .
(2) بصرى : مدينة في بلاد الشام .
(3) صنعاء : بلدة في اليمن .
(4) حديث الغدير من الأحاديث المتواترة التي اجمع المسلمون على روايته ، ذكره ابن ماجة في صحيحه ص 12 ، واحمد بن حنبل في مسنده (4) 281 ، والمتقي في كنز العمال 6 ـ 397 ، والمحب الطبري في الرياض النضرة 2 ـ 169 ، والحاكم في مستدركه 3 ـ 109 ، والنسائي في خصائصه ص 25 ، والبغدادي في تأريخه 8 ـ 290 ، وابن حجر في صواعقه ص 25 ، وذكره ابن الاثير في اسد الغابة 1 ـ 367 ، وغيرهم وقد استوفى المحقق الاميني البحث عن الغدير بما لا يدع مجالاً للشك فيه .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 16 _
  ولما سمع أبو بكر وعمر ذلك قاما إلى أمير المؤمنين فقلا له : « أمسيت يا بن أبي طالب مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة » (1) وقام حسان بن ثابت فاستأذن من النبي ليلقي قصيدته العصماء التي سجل فيها الحادث باحرف من نور ، فأذن (صلى الله عليه وآله) في ذلك فأنبرى يتلو رائعته قائلا :
يـناديهم  يـوم الغدير نبيهم      بخمٍ  وأسمِع بالرسول iiمناديا
قـال  فـمن مولاكم iiونبيكم      فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
  إن بيعة الغدير صريحة واضحة في إمامة أمير المؤمنين وقد احتج بها اعلام الاسلام على أحقيّة الإمام بالخلافة وإني واثق وثوقاً لا يتخلـله ريب ، ولا يشوبه شك أن موفقيّة الكاتب في الفصول العقائدية ، أو المواضيع الدينية ، وقوة تأثيره بتوجيه المجتمع الوجهة الصالحة ، وتدليله على الحق ، وارشاده إلى الوسائل السليمة ، كل ذلك إنما يتحقق فيما إذا كتب إلى الحق ، وتجرد من الميول والأهواء ، ولم يخضع للعواطف وسائر النزعات . وقد شعرت بذلك كله في قراءتي « للمراجعات » و « النص والإجتهاد » و « الفصول المهمة » لآية الله العظمى الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين تغمده الله برحمته ، فقد كان في كتبه هذه المحقق العدل للنصوص الصريحة في الكتاب والسنة التي تدل على إمامة أمير المؤمنين وإمامة الأئمة الهداة المتقين أبنائه عليهم السلام ، وقد كشف شرف الدين الغطاء في بحوثه الرائعة عن زيف المتأولين بعقولهم ، والمجتهدين بآرائهم قبال النص الصريح ، ولم يبق أدنى مجال للشك في خطأهم وبعدهم عن الحق.

---------------------------
(1) فيض القدير 6 ـ 217 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 17 _
  وتأثرت كذلك كثيراً في مطالعاتي لكتاب « الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) » لرائد الحق وناصر الإسلام العلامة الكبير السيد عبد الفتاح عبد المقصود( حفظه الله).
  لقد تولعت كثيراً بمراجعتي كتب هذين العلمين ، واجتذبتـني سَورَةُ الحق الطافح عليها ، فمضغت معانيها ، ومقاصدها حتى سرت بمشاعري ، وعواطفي ، وأحاسيسي ، وأتحدث بكياني ، وانعكست أضواؤها على بصيرتي « أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده »ودفعتني هذه العوامل النفسية ، والتجاذب الروحي ، وتأثري البالغ بحادثة الغدير ، إلى رسم هذه البحوث ، وقد صورت فيها قيام الساعة ، وتقدم النبي (صلى الله عليه وآله) بعرض ظلامة وصيه وباب مدينة علمه ، وما جرى عليه من الخطوب والآلام.
  وقد صورت الأحداث التي جرت في العصر الإسلامي الأول بدقة وعمق ، معتمداً في نقلها على أوثق المصادر القديمة ، ناقلاً كل بادرة من مجموعة من المصادر ، وهي لو تأملها القارئ مجرداً عن عواطفه التقليدية لآمن إيماناً لا يخامره شك في هدف ما قلته ، وما صوّرته من إثبات الخلافة والإمامة للامام علي عليه السلام من بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة .
وإني أسأل من الله تعالى أن يثيبنا على ذلك ، إنه تعالى ولي ذلك ، وولي القصد والتوفيق.
نزيل قلعة سكر
مهدي القرشي

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 18 _
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أبي بكر :
  وحُشِر الناس جميعاً « ليوم تشخص فيه الأبصار مُهِطِعين مقِنِعي رؤوسهم لا يرتدُّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء » (1) « يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا » (2)« وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا » (3).
  فلا يوم كمثل ذلك اليوم في هوله وشدته « يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ » (4) ونصبت الموازين بالحق « وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ » (5).
وعُقِدت محكمة العدل الكبرى ، الذي لا يظلم فيها أحد و « إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا » (6).
  وبينما الناس في غمرة وذهول ، قد شغلتهم المحنة الكبرى ، وطافت بهم الهواجس المريرة وإذا بهالة من النور أضاءت المحشر فتطلعت إليها الأبصار ، وتسأل عن ذلك فإخبروا بأن خاتم النبيين وسيد المرسلين قد أقبل.
  وأطل النبي (صلى الله عليه وآله) على المحشر ، وقد حفّت به الأنبياء والأوصياء والملائكة فانطلقت الحناجر بالتهليل والتكبير ، وغمرت الناس موجات وموجات من المسرات ، فنصب له منبر من نور وأحاطه الله بألطافه وتكريمه ليظهر عظيم منزلته وسمو مكانته أمام عباده ، واعتلى صلى الله عليه وآله ذروة المنبر ، وهو آخذ بيد وصيه وخليله أمير المؤمنين عليه السلام.

---------------------------
(1) سورة ابراهيم : آية 42 ـ 43 .
(2) سورة طه : آية 109 .
(3) سورة طه : آية 11 ـ 12 .
(4) وسورة الحج : آية 2 .
(5) سورة الأنبياء آية 46 .
(6) سورة النساء : آية 39 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 19_
  وتبدأ المحكمة ويُشرع في الحساب « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى » (1).
ويبتدأ النبي (صلى الله عليه وآله) بعرض ظلامة وصيه وباب مدينة علمه أمير المؤمنين ، وما جرى عليه من الضيم ، ويعدد ما حل به من الرزايا والنكبات .
  ويسود صمت رهيب وحزن مرهق على أهل المحشر فيندفع رعيل من الناس ، قائلين : يا رسول الله ، سل خلفاءك فهم الذين أستأثروا بالخلافة من بعدك ، ودفعوه عن مقامه الذي جعلته فيه . ويلتفت إليهم النبي (صلى الله عليه وآله) وهم محدقون به قائلاً لهم : ماهو المبرر لكم في تقمص الخلافة ، والإستبداد بالأمر ، ألم تبايعوا علياً يوم ( غدير خم ).
  ألم تسمعوا مني النصوص المضافرة في حق علي ؟ ما كان ظني بكم أنكم تستبدون بالخلافة ، وتحرمون امتي من التمتع بعدل علي ، ومساواته.
  دفـاعـهـم :
  وبعد ما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله) من توبيخه للقوم ، وإقامته الأدلة الوافرة على حق علي ، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم انبرى القوم بإجماعهم إلى الدفاع عن نفوسهم قائلين : « يا رسول الله : لقد اجتهدنا بآرائنا ، وتأولنا بعقولنا . . » ففسرنا قولك في علي : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » أنك تريد : من كنت صديقه أو ناصره أو حبيبه فهذا علي كذلك (2).

---------------------------
(1) سورة النجم : 31.
(2) للشيخ الطوسي تحقيق رائع في كلمة الولي في تلخيص الشافي 2 ـ 175 ـ 183.

الرَّسُولُ الأعْظَم (صلى الله عليه وآله) مَع خُلفَائِهِ _ 20_
  تأولنا قول الله تعالى : « اليوم أكملت لكم دينكم » بإكمال الأحكام من أصول الدين وفروعه وتأولنا ظاهر السنة . . وإنه ليرى الحاضر ما لا يراه الغائب استـنكار النـبي :ويقطع النبي (صلى الله عليه وآله) كلامهم ، وقد تميز فرقاً من الغيظ ، وساءه ما اعترفوا به من تأولهم لكتاب الله ، فرد عليهم قائلاً بنبرات ملاؤها الأسى والشجون : ويلكم أنا سيد الحكماء ، وخاتم الرسل والأنبياء ! !أنا لا أنطق هواء ، ولا أقول شططا أنا الذي علمني ربي الحكمة وفصل الخطاب ، وأقرأ من صريح القرآن ، وأطلعني على تأويله أنا الذي زكّاني ربي بقوله : « َمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى » (1) .
  أنا المعصوم من الزلل والمنزه عن الخطأيجوز عليَّ أن أقف ذلك الموقف المشهود في « يوم غدير خم » فأوقف تلك الحشود الزاخرة من المسير ، واحبسهم بالهجير من دون أن أقصد أمراً خطيراً وهو تعيين لأمير المؤمنين خليفة من بعدي ؟ لأي شيء أحتّم على جميع الحجيج أن ينزلوا بذلك المكان الذي لا ماء فيه ، ولا كلاء ، وقد ألزمتهم جميعاً أن يبلغ الحاضر منهم الغائب بما قلته .
  على هذا الأهتمام ، وهذا البيان أفيجوز أني أريد أن علياً ناصري أو صديقي أو حبيبيأو لأبين لهم أن أحكام الله كاملة . . وهي مسطورة في كتاب الله يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ؟ إنه لا يليق بي أن اريد ذلك ، ولا ينبغي أن أصنع غير الحكمة وفصل الخطاب « إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثمَّ أمين وما صاحبكم بمجنون ».

---------------------------
(1) سورة النجم : آية 3 ـ 4 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 21 _
  إن قصدي هو أسمى من ذلك وهو وقايتي للامة من الإنحارف وسلامتها من الفتن والأهواء ، وإنكم بالذات لتعلمون غايتي من تعييني لعلي ولياً لعهدي ، وقائماً مقامي من بعدي ، ليبين أحكام القرآن ، ويوضح لكم ناسخه من منسوخه ، وخاصه من عامه ومقيده من مطلقهِ ، مبُيًنه من مجُمله ، فمن يعرف منكم تأويل القرآن ؟ ويسود عليهم صمت رهيب ، وحزن رهيب ، ولا يجدون أي مجال للاعتذار.

  النبي( صلى الله عليه وآله) مع أبي بكر :
ويلتفت النبي إلى الخليفة الأول فيخصه بالسؤال قائلا : يا أبا بكر بمَ أستبحت هذا المقام السامي ؟ والذي هو دون النبوّة بمرقاة ، وليس أمره بيد أحد إنما أمره بيد الله يختار له من يشاء من عباده.
  وهل من البر ، والوفاء ، وحسن المجاملة ، أن تسعى لطلب الخلافة كالمسعور ، وجثماني مسجى في حجرتي ، ولم أوار في ضريحي ، وأوسد في ملحودتي ؟وهل من الانصاف أن تستبد في الامر وعلي وأهل بيتي قد فجعهم الحادث الجلل ، وأوهى قواهم المصاب الأليم ، فقد كان فقدي قارعة نزلت بهم فصاروا يفترشون القلق ، ويتوسدون الأرق ، وتساورهم الهموم ، ويسامرون النجوم ، ويعالجون البرجاء ، ويتجرعون الغصص.
  وقد صار وزيرك وباني دولتك عمر بن الخطاب يوطد لك الأمور ، ويربك الناس ، ويبلبل أفكارهم بندائه القاسي الرهيب « إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات ،وإنه والله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه ،كما ذهب موسى بن عمران . . والله ليرجعن رسول الله ، وليقطعن أيدي رجال زعموا أنه مات » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 22_
  كل ذلك ليشغلهم عن البيعة لوصي وخليفتي ، فهل أن عمر يؤمن بقرارة نفسه أني لم أذق الحِمام ، والله تعالى في كتابه يقول : « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ » و قال تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ » ثم ما المسوغ له أن يرمي من قال بموتي بالنفاق والإرتداد ؟ أليس ذلك من خطوط المؤامرة الكبرى التي دبرتها أنت وحزبك على صرف الخلافة عن أهل بيتي : لقد فعل عمر ذلك ليشغل المسلمين حتى تعود من بيتك بالسنح ، وعندما قفلت راجعاً دخلت داري ، فلم يستقر بك المجلس حتى توارت عليك الرسل من عمر ومن باقي حزبك وهم ينادونك :« أُخرج لأمر عظيم».
  فما هو ذلك الشيء العظيم الذي هتف به حزبك ؟ لقد تناسيتم موت منقذكم ، ولم يفجعكم الحادث الجلل ، انصرفتم إلى الخلافة والملك.
  يا أبا بكر هل هناك شيء أعظم من موت نبي بعثه الله رحمة للعالمين ، فأنقذ الله له امة كانت تأكل القدَّ ، وتشرب الرنق قد خيم عليها الذل ، وساد فيها الجهل والخنوع ، فمنّ الله عليها فيّ فأنقذتها من جرف الهلكات ، وأورثتها ملك كسرى وقيصر.
  لقد كانت بأقصى مكان من الذل والهوان ، فرفعت من أمرها ، وأنقذتها من محنتها وشقائها ، وأنرت لها الطريق ، وأقمت فيها موازين العدل ، فتناسيتم ألطافي عليكم ، ولم تشغلكم مصيبتي ، ولم تستعظموا موتي ، وإنما استعظمتم الإمرة والسلطان.
  وخرجت مسرعاً ، لم تذهلك المحنة الكبرى بفقدي ، فرأيت الناس حيارىقد اذهلهم الخطب ، وأخرسهم الحادث الجلل فرفعت عقيرتك مندداً بهم قائلاً:« أيها الناس من كان منكم يعبد محمداً فان محمداً قد مات ، ومن كان منكم يعبد الله فان الله حي لا يموت »،فهل أحد من المسلمين يا أبا بكر كان يعبدني من دون الله ؟ ، وهل أُثِر عن أحد منهم أنه اتخذني الهاً ؟ ألم يُجمِع المسلمون أني عبد الله ورسوله اصطفاني لرسالته واختصني بوحيه.

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 23 _
  لعلك تريد أن دور محمد قد أنتهى ، وجاء دور جديد ، وتركت الناس حيارى من دون أن تخفف عنهم لوعة المصاب وانصرفت ومعك عمر بن الخطاب وأبو عبيدة الجراح مهرولين إلى سقيفة بني ساعدة ، بعد أن علمت باجتماع الانصار فيها ، لقد انطلقتم جميعاً مسعورين مخافة أن يفوت الأمر منكم ، وكانوا يتداولون الرأي في مصيرهم ، وفيما يؤل إليه أمرهم ، فهل سيخرج سلطان الاسلام من يثرب ، دار هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى مكة بلدته وبلدة ذويه أو انه يبقى ماكثاً سلطانه فيهم .
  ويتساءلون فيما بينهم هل ان المهاجرين يظفرون بالحكم ؟ وانهم سيؤلونهم الخير الذي أوصيت به إليهم،إنهم ليذكرون كيف اختصصتهم ، وكيف شِدتَ بذكرهم ، وكيف قلت عنهم : ( إنهم بيعتي ، وانهم لجاي ، واني السالك دائماً شعب الأنصار ، وإن سلك الناس شعباً سواه ) كل هذا قد وضعوه على مائدة البحث.
  وكلهم كانوا يؤمنون ايماناً لا يخامره شك أن تراثي لن يترك داري ، ولن يخرج عن أحب الخلق إلي ، وكان المهاجرون يشاركون الأنصار في هذا الرأي ، ولكن سرعان ما أختلف الفريقان فبدت بوادر من الشكوك والظنون ، اُدّت إلى قلب الأوضاع واختلاف الكلمة ، وتشعب الرأي وصدع الشمل فقد قال قائل منهم : « منا أمير ومن قريش امير »وسأل سائل منهم ،« فان أبرا عليكم » فاثارت هذه الكلمة حمية الجاهلية في نفوسهم ، وفتحت أبواب الاحقاد والضغائن.

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 24 _
  وجلس سعد بن عبادة ، شيخ الخزرج يدعو الأنصار أن يوحدوا كلمتهم لئلا يخرج الأمر من أيديهم ، ولا يذهب عنهم بالفضل من تخلف عنهم بالفضل ، وكان سعد مريضاً لا يسمع صوته إلا همساً ، فوقف إلى جواره أبنه قيس يبلغ عنه ما يقول : وكادت الانصار أن تستجيب للدعوة ، وهمت أن تبايع شيخ الخزرج لسابقته في الدين ولفضله وسخائه ، وكان ذلك صاعقة على حزبك الذي تشكل في أيام حياتي ، ومن اعضائه عويم بن ساعدة الاوسي ، ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، وقنفذ بي عمير ، وانضم إلى هؤلاء المنشقون من الانصار والحاقدون على سعد أمثال بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي ابن عم سعد ، وأسيد بن الحضير سيد الأوس وقد دفعتهم الانانية والحسد لسعد أن ينال الزعامة على المسلمين ، فبعثوا اليك بالحضور .
   فاقتحمت أنت وصاحباك عمر وأبو عبيدة ندوة الانصار وكبست عليهم سقيفتهم، وقمت بتنفيذ مخططك خوفاً أن يرجع إلى الانصار والمهاجرين رشدهم ، فاوسعت رقعة الخلاف ، وأضريت نار الفتنة ، وأثار أصحابك وحزبك اللجاج والنزاع مبادرين في تعجيل الأمر مخافة أن يحضر أهل بيتي فتظهر حجتهم ويفوزوا في الأمر ، واغتنمتم انشغالهم برزيتي وانصرافهم إلى تجهيزي.
  وقدمت المهاجرين على الأنصار ورشحتهم للخلافة مستدلاً على ذلك قريشاً اولى بالنبي فهم بيضته التي تفقأت عنه، لقد حججت الانصار بأنكم شجرة النبي ، وتغافلت عن أهل بيتي وعترتيفهم أغصان تلك الشجرة ، وعلي ثمرتها ، وهو مني بمنزلة الرأس من الجسد بل تمنزلة العينين من الرأس ، وان له البيعة في عنقك يوم ( غدير خم ) وكنت بالذات من السابقين لمبايعته ، وقد قال له صاحبك عمر : « بخ بخ لك يابن أبي طالب اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ، ومؤمنة ».

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 25 _
  نسيت ذلك كله ، فلم تذكر علياً بقليل ولا بكثير ، وأثرت كوامن الغيظ في نفوس الأنصار حتى كادت الفتنة أن تقع بينكم وبينهم ، ولما خفت من تطور الأمر قابلت الانصار بلين القول ومعسول الكلام ، وذبت تصنعاً أمامهم فاعترفت لهم بالجميل ، واخذت تعدد فضائلهم ومواقفهم المشرفة ، فرشحتهم للوزارة ، واخذت مكيدة منك بضبعي عمر ، وأبي عبيدة ، فرشحتهما للخلافة ، وأمرت المسلمين بمبايعة أيهما شاؤوا ، ويمتنع صاحباك أن يتقدما عليك ، مكيدة منهما ، وتضليلاً للرأي العام ، وعملاً بالمخطط المرسوم لهما ، فتسابقا لمبايعتك ، وتبارى حزبك الى بيعتك وأشتدوا على حمل الناس بالقوة والقسر الى بيعتك ، فقام أمرك بالقسر والعنف ، ولم يستند إلى الرضا والاختيار.
  واشتد الزحام حول سعد بن عبادة ، وكانت كلماته تلهب العواطف ، وتثير الحماس ، وقد ملكت دعوته اهتمامهم ، واستغرقت حواسهم ، وكانوا يتلقفون همساته كمثل تلقفهم لخطرات الأنام ، فقد هان لديهم بعد ما أثرت نار الفتنة حتى كادوا يقتلونه وهم لا يشعرون، وأرتفع صوت محذر من أنصار شيخ الخزرج« يا قوم اتقوا سعداً لا تطأوه »، فما اتمها حتى رنت كرجع الصدى كلمات جافيات غضاب ، « اقتلوه قتله الله فإنه صاحب فتنة » (1).
  وتمت بيعتك مشفوعة بالإرهاب والتهديد ، وقد حف بك حزبك يزفونك إلى مسجدي زفاف العروس (2) وأنا ملقى على فراش الموت ، قد انشغل أمير المؤمنين بتجهيزي ، ولما بلغه أحتجاجك على الأنصار بأنك من قريش وهي أولى بالنبي لأنها أسرته اندفع إلى الرد عليك قائلاً:
فان كنت بالقربى حججت خصيمهم      فـغيرك أولـى بـالنبي iiوأقـرب
وإن  كنت بالشورى ملكت iiأمورهم      فـكيف بـهذا والـمشيرون iiغُيّبُ
---------------------------
(1) العقد الفريد 3 ـ 63 .
(2) نهج البلاغة لابن ابي الحديد 2 / 8 .