الحكم بصحتهما مطلقا أو في صورة العلم أم لا ؟وذلك مع فرض وجود اطلاق قاض بالصحة ، فهنا أبحاث ثلاثة :
  اما البحث الأول : فعمدة الادلة الواردة في الوضوء والغسل هي الآية الواردة في تشريعهما في سورة المائدة وهي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين وان كنتم جنباً فاطهروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون )(1).
  والظاهر انه لا اطلاق في الآية يقتضي صحة الوضوء والغسل في حالة الضرر بل الظاهر منها بطلانهما في هذه الحالة، ولا بدّ في توضيح ذلك من تفسير الآية فانها من مشكلات آيات القرآن الكريم وقد اختلفت في تفسيرها الانظار، ويتضح معناها على ضوء جهتين :
  الأولى : إن الآية كما تنبه له صاحب الجواهر (قده )(2) ناظرة الى تقسيم المكلف المحدث الى قسمين :
  الأول : من قام من النوم الى الصلاة .
  الثاني : من صدر منه الحدث الاصغر أو الأكبر في حالة اليقظة .
  وقد تعرض للقسم الأول بقوله ( اذا قمتم الى الصلاة )(3)فان المراد

(1) المائدة5 | 6 .
(2) 1 : 51 ط النجف .
(3) المائدة5 | 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 277 ـ
  بذلك القيام من النوم كما جاء في موثقة ابن بكير (1) فأمرتعالى بالوضوء من لم يكن جنبا بالاحتلام كما امر بالغسل من كان جنبا وانما ذكر الوضوء والتيمم مفصلا دون الغسل لانه كان معروفا عندهم فإنهم كانوا يغتسلون من ، الجنابة وذلك بخلاف الوضوء والتيمم ، ثم ذكر حالة المرض والسفر وامر فيهما بالتيمم .
  وقد تعرض للقسم الثاني بقوله :( أو جاء احد منكم من الغائط )(2) مشيراً الى الحدث الأصغر بالجملة الأولى ، فان الغائط هو المكان المنخفض ، والتعبير المذكور كناية عن التخلي حيث كان المتعارف لدى العرب ان يرتادوا المكان المنخفض عند ذلك ، والى الحدث الأكبر بالجملة الثانية فانه المقصود بملامسة النساء .
  وبملاحظة نظر الآية الى هذا التقسيم يندفع التكرار الذي قد يتوهم فيها بتصور ان الآية انما تتعرض الى تقسيم المحدث الى من لا عذر له في عدم استعمال الماء ومن له عذر.
  وقد تعرض للأول بقوله ( اذا قمتم ـ الى قوله ـ فاطهروا ) وقد اشير فى هذا القسم الى المحدث بالحدث الاصغر مطلقاً بقوله : ( اذا قمتم الى الصلاة )(3) والى المحدث بالحدث الاكبر بقوله : ( وان كنتم جنبا )(4) .
  وقد تعرض للقسم الثاني بقوله :( وان كنتم مرضى )(5)وذكر ان الحكم حينئذ هو التيمم .

(1) جامع الأحادبث ـ كتاب الطهارة ـ الباب ـ الحدبث 28 ـ ط ا ج 2 : 9 34 .
(2) المائدة 5 | 6 .
(3) المائدة 5 | 6 .
(4) المائدة 5 | 6 .
(5) المائدة 5 | 6 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 278 ـ
  فعلى هذا التصوريشكل :
  أولاً : بانه لا وجه لذكر (على سفر) لأن ذكر السفر باعتبار انه حالة فقدان للماء فيغني عنه قوله :( لم تجدوا ماءً )(1) بل مقتضى ذكر السفرفي مقابل عدم وجدان الماء هو كونه موضوعا لجواز التيمم بنفسه ولا ينبغي الشك في عدم كونه كذلك ، الآ ان يجعل ذكر السفر تمهيدأ وتوطئة لذكر عدم الوجدان على ان يكون عدم الوجدان نتيجة له وهو خلاف الظاهر.
  وثانياً: انه لا وجه لذكر بعض حالات الحدث الأصغر من التخلي وملامسة النساء في القسم الثاني من الآية لان ذلك مذكور بنحو اعم في القسم الأول منها، فان التخلي يندرج تحت (القيام الى الصلاة) لانه مشير الى الحدث الأصغر وملامسة النساء يندرج تحت ( وان كنتم جنباً )(2) فلا موجب لذكرهما في هذا القسم بالخصوص ، بل يكفي ذكر الاعذار التي هي نقطة تميز بين القسمين ، فكان المناسب ان يقال في الشق الثاني (وان كنتم مرضى أولم تجدوا ماءً فتيمموا).
  لكن لا يتجه الاشكال في شيء من الجهتين لما اوضحناه من الآية انما تتعرض للتقسيم بنحوآخر دون النحو المذكور، وعلى ذاك النحو لا يرد شيء من الاشكالين .
  اما الاول : فلان (على سفر) انما يرتبط بالقسم الأول وهو من قام من النوم للصلاة وعدم وجدان الماء انما يرتبط بالقسم الثاني المذكور بقوله : ( أو جاء احد منكم ) (3) فإن ( فلم تجدوا )(4) عطف على مدخول ( أو ) في هذه

(1) المائدة 5 | 6 .
(2) المائدة 5 | 6 .
(3) المائدة 5 | 6 .
(4) المائدة 5 | 6 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 279 ـ
  الجملة لا على الجملة الشرطية الأولى في قوله : ( وان كنتم مرضى) (1) فلا تكرار .
  واما الثاني : فلان المراد بالقيام الى الصلاة هو القيام من النوم ، كما ان المراد بكونهم جنبا هو الاحتلام فلا يشمل ذلك حدث التخلي أوملامسة النساء.
  ونظير هذه الآية في تأليفها ومعناها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا الا عابري سبيل حتى تغتسلوا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً )(2).
  فان القسم الاول منها ناظر الى النوم ايضاً لان المراد بقوله ( وانتم سكارى )(3) هو السكر من النوم كما في بعض الروايات الصحيحة (4).
  الجهة الثانية : ان مفاد الآية من القسم الأول تحديد توجه الأمر بالوضوء والغسل بشرطين هما عدم التضرر من استعمال الماء، ووجدان الماء فينتج ذلك فسادهما في حالة الضرر، ويظهر ذلك بملاحظة امور: الأول : ان ما جاء في نهاية هذا القسم منها من الأمربالتيمم لمن كان مريضاً أو على سفر لا يقصد به موضوعية هذين العنوانين لجواز التيمم ، بان يكون مجرد المرض والسفر موضوعاً لكفاية التيمم ولو كان مرضا لا يضره استعمال الماء أوينفعه ذلك ، أوسفرا يتوفرفيه الماء بكثرة ، بل ذكر المرض

(1) المائدة 5 | 6 .
(2) النساء 4 | 43 .
(3) النساء 4 | 43.
(4) كصحيحة زرارة لاحظ تفسير البرهان 1 | 370 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 280 ـ
  إنما هو لكونه عادة حالة تضرر باستعمال الماء فيكون كناية عن التضرر بالاستعمال ، كما ان ذكر السفر انما هو باعتبار ان السفر في تلك الازمنة في مثل الجزيرة العربية كان حالة فقدان للماء عادة فهوكناية عن هذا المعنى ولا موضوعية له كما ترهم بعض المفسرين (1).
  الثاني : ان ظاهر الآية بحسب صدرها وان كان يقتضي عموم الأمر بالوضوء والغسل لحالة التضرر باستعمال الماء ، الا انه يتحدد بمقتضى قوله في نهاية القسم الأول منها ( وان كنتم مرضى أو على سفر) (2)لان التفصيل قاطع للشركة وبذلك يكون عدم الضرر قيدا ماخوذا في موضوع الأمر بالوضوء والغسل .
  الثالث : ان الأمر بالوضوء والغسل في الآية ليس امرا نفسيا بل هو امر مقدمي لتحقق المامور به الذي هو الصلاة مع الطهارة، اما على أنهما بانفسهما طهور أو لكونهما محصلين للطهارة كما هو الاظهر على ما يشير اليه التعبير عن الغسل بقوله : ( فاطهروا) (3) وما جاء في ذيلها ( ولكن يريد ليطهركم )(4).
  وعلى ضوء هذا فتحديد الأمر بالوضوء والغسل بحالة عدم الضرريعني فسادهما في هذه الحالة لانه يقتضي عدم وفائهما بتحقق المامور به ـ وهو الصلاة مع الطهارة ـ أو قل عدم وفائهما بتحقق شرطه وهو الطهارة .
  ويلاحظ ان الغسل المذكور في الآية وان كان هو غسل الجنابة لكن يجري ذلك في ساثر الأغسال بلحاظ اتحاد هذا الغسل وغيره في الحكم ،

(1) كصاحب المنار في تفسير المنار 5 : 8 1 1 و 28 1 و 9 2 1 .
(2) النساء 4 |43 .
(3) المائدة 5 | 6 .
(4) المائدة 5 | 6 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 281 ـ
  ولذا ورد ان غسل الحيض والجنابة واحد .
  وهكذا يظهر أن مقتضى الآية فساد الوضوء والغسل في حالة كونهما ضرربين .
  وهناك تقرير آخر لدلالة الآية على هذا المعنى مبناه على القول بأن المراد بعدم وجدان الماء في الآية هوما يعم كونه مضراً أو غيرميسرفيقال : ان التعبير بعدم وجدان الماء في حالة الضرريدل على ان وجود الماء كأن لم يكن في هذه الحالة شرعا، ومقتضى ذلك عدم صحة الوضوء والغسل به فيها.
  لكن المبنى المذكور ضيف لان اطلاق عا"م الوجدان في مورد المرض غير مناسب عرفا فلا يقال مثلاً لمريض يضره استعمال الماء وهوعلى ضفة النهر انه غيرواجد للماء كما هوواضح .
  هذا وقد يعترض على التقرير الذي ذكرناه بوجوه :
  الوجه الأول : ان ظاهرالآية ان قوله : ( وان كشم مرضى أو على سفر أو جاء احد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيباً) (1) جملة واحدة مستقلة عما قبلها ، وعليه يكون مفادها اشتراط الامر بالتيمم في المريض والمسافر أيضاً بعدم وجدان الماء ، فلو كان المريض واجدا للماء يجب عليه الوضوء والغسل .
  وقد ذهب الى ذلك بعض علماء العامة، ففي الخلاف (المجدور والمجروح وما اشبههما ممن به مرض مخوف يجوز له التيمم مع وجود الماء وهو قول جميع الفقهاء الاّ طاووساً ومالكاَ فانهما قالا يجب عليهما استعمال

(1) المائدة 5 | 6 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 282 ـ
  الماء) (1).
  وفي بداية المجتهد لابن رشد نقل عن عطاء انه لا يتيمم المريض ولا غير المريض اذا وجد الماء (2) .
  وقد ذكرفي وجهه ان الضمير في ( لم تجدوا ماء) (3)يعود الى المريض والمسافر ايضا .
  ويؤيد ذلك عدة روايات من طرقنا تدل على تعين الغسل على المريض وان اصابه ما اصابه .
  منها : ما رواه سليمان بن خالد وأبو بصير وعبدالله بن سليمان جميعا عن أبي عبدالله عليه السلام (انه سئل عن رجل كان في أرض باردة فتخوف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع ؟ قال : يغتسل وان اصابه ما اصابه ، قال : وذكر أنه كان وجعا شديد الوجع فاصابته جنابة وهو في مكان بارد ، وكانت ليلة شديدة الريح باردة ، فدعوت الغلمة فقلت : لهم احملوني فاغسلوني ، فقالوا : نخاف عليك ، فقلت ليس بد ، فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا عليّ الماء فغسلوني )(4).
  ونحوها صحيحة محمد بن مسلم (5).
  لكن يرد على هذا الاعتراض : انه لا يمكن الالتزام بالوجه المذكور.
  اما أولاً : فلأنه مخالف لاجماع المسلمين ولا يعتد بخلاف من ذكرنا ، كما هو مخالف للروايات الكثيرة التي دلت على عدم تعين الوضوء والغسل

(1) الخلاف 1 : 151 مسألة 100 .
(2) بداية المجتهد ا : 66 ط 1401هـ .
(3) المائدة 5 | 6 .
(4 ـ 5) لاحظ جامع الأحادبث كتاب الطهارة أبواب التيمم الباب 7 ث 3| ح 8 1 | 2 326 ص ـ 0 5 و 9 1 |63 2 3 ص 51 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 283 ـ
  في حال المرض ، وهي مقدمة على تلك الروايات من جهتين :
  إحداهما : تواتر هذه الروايات .
  والجهة الاخرى : انه قد روى بعضها المتأخرون من رواة اصحابنا عمن بعد الصادق عليه السلام من الأئمة ، كما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا عليه السلام في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح وجروح أو يكون يخاف على نفسه من البرد ، قال : (لا يغتسل يتيمم ) (1) وقد اوضحنا في بحث تعارض الادلة وغيره أن المتاخرين من رواتنا من اصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام ممن ألفوا جوامع حديثية كانوا ينظرون في أسئلتهم للإمام المتاخر الى ما روي عن الامام الباقر والصادق عليهما السلام فهي حاكمة على تلك الروايات ، ومقامنا من هذا القبيل .
  وأما ثانيا : فلان هذا المعنى ليس ظاهرا من الاية أيضا إذ لو اراد ذلك لم تكن حاجة بل لم يكن وجه لذكر المرض والسفر وما بعدهما حيث كان يكفي أن يقول ( وان لم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيباً) (2)).
  الوجه الثاني : ان الأمر بالتيمم في حالة المرض والسفر بعد الأمر بالوضوء والغسل أولا بنحو عام ليس مفاده عرفاً الا عدم لزوم الوضوء والغسل في حصول الطهارة لا عدم كفايتهما في ذلك ، والسرفيه انه متى حدد الحكم الالزامي بعذرمن الأعذار كالاضطراروالحرج ونحوهما ـ سواءً كان التحديد تحديدا مباشرا أو تحديدا غير مباشر كما إذا كان بنكتة كون التفصيل قاطعا للشركة ـ كما في المقام ـ فان المنساق عرفا انتفاء الالزام في حالة العذرلا عدم مطلوبية الشيء في هذه الحالة، فيقتضي عدم صحته واجزائه اصلاً،

(1) المصدر السابق نفس الموضع ح 13 عن أبي عبدالله 3 1 |3257، عن ابي الحسن الرضا 4 1 | 3258 ص 49 .
(2) المائدة 5 | 6 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 284 ـ
  فلو قيل مثلا (احفظ خطبة من نهج البلاغة وان كان عسرا فاقرأ صحيفة من القرآن ) فانه لا يستفاد منه الا عدم الالزام بحفظ الخطبة في صورة تعسره لا عدم اجزائه كما هو واضح .
  والمقام من هذا القبيل لان المرض وعدم الوجدان اللذين اخذا موضوعين للحكم الثاني ـ وهو الأمر بالتيمم ـ إنما هما من الاعذار لعدم الاتيان بمتعلق الامر الأول ـ من الوضوء والغسل ـ وعليه فيستفاد من الآية اجزاء الطهارة المائية لمن يضره الماء .
  ويرد على ذلك : ان ما ذكر انما يتم فيما اذا كان موضوع الحكم الثاني عنوان الحرج والعسر ونحوهما فيستظهر من الكلام ان متعلق الأمر الأول يؤثر أثره المطلوب في حالة العذر، وعنوان الضرر ليس من هذا القبيل عرفا ، ولذا لو قال الطبيب للمريض (يجب عليك لاستعادة نشاطك ان تمشي كل يوم مقدار كيلو متر ، وان كان يضرك ذلك فاستعمل العلاج الخاص ) فانه لا يقتضي ان المشي ينفعه في استعادة نشاطه من حالة تضرره به .
  وكذا في المقام فمن الجائز ان يكون الأثر النفسي المطلوب من الطهارة المائية لا يحصل بها في حالة المرض والتضرر أصلا .
  الوجه الثالث : انه لا يبعد ان يكون ذكر المريض في الآية بملاحظة أن استعماله للماء حرج عليه لا مضر به ، وكذلك يكون ذكر المسافر باعتبار كون تحصيل الماء بالنسبة اليه حرجيا، وعليه فالمقصود بذلك إخراج حالة الحرج في استعمال الماء أو في الوصول اليه .
  ويشهد لذلك تعليل الترخيص في التيمم بقوله ( ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم )(1).

(1) المائدة 5 | 6 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 285 ـ
  وعلى هذا فلا ترتبط الآية بمحل البحث ، مضافاً الى أن تحديد الأمر بالوضوء والغسل بعدم الحرج لا يعني عدم صحتهما حينئذ لأن تحديد الحكم بمثلهما لا يعني الا محدودية الالزام دون عدم صحة العمل كما تقدّم .
  ويرد عليه :
  أولاً: ان كون المرض كناية عن الحرج في استعمال الماء خلاف المتعارف في الاستعمالات ، فان المعهود فيها ان يكنى به عن الضرر.
  وثانياً : انه لا وجه للاستشهاد على ذلك بذيل الآية، لان ذلك مرتبط باصل جعل الطهارات الثلاث لا بخصوص التيمم ـ كما تنبه له بعض المفسرين ـ فالمقصود به ان الله تعالى لم يأمر بها لكي يحرج عباده ويشق عليهم وانما امر بها لتطهيرهم .
  الوجه الرابع : ان يقال انه لو سلمنا ان الآية الشريفة تدل على عدم وجوب الوضوء والغسل في حال المرض الا انه يكفي في مشروعيتهما إطلاق ادلة استحبابهما وحينئذ يترتب عليهما أثرهما وهو الطهارة من الحدث (1) .
  ويرد عليه :
  أولاً : انه لم يقم دليل على الاستحباب النفسي للوضوء والغسل فيما عدا الوضوء التجديدي والوضوء المشروع للحائض ، على ما أوضحناه في علم الفقه .
  وثانياً : انه لو فرض وجود الدليل على استحبابهما النفسي فلا اطلاق له بالنسبة الى من يضره الماء فان الامر الاستحبابي بهما انما هو في الحصة التي يكون واجداً فيها لشرط الوجوب لا مطلقا.

(1) لاحظ مصباح الاصول 2 : 552.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 286 ـ
  وثالثا : ان ما ذكر انما يتم فيما لوكان المستفاد من الاية مجرد تحديد وجوبهما بعدم الضرر. واما لوكان المستفاد منها تحديدهما بما أنهما شرطان للصلاة أو محصلان لما هو شرطها ـ من الطهارة ـ فانها حينئذ تكون دليلا على الفساد عند فقدان الحد المذكور.
  وبذلك ظهر انه لا اطلاق لدليل مشروعية الوضوء والغسل بالنسبة الى من يضره الماء. فلا محل للبحث عن اجراء (لا ضررفيهما) حتى يبحث عن أن المستفاد منها عام للجاهل بالضرر أو مختص بالعالم به .
  البحث الثاني : في أنه لو فرض اطلاق أدلة مشروعية الوضوء والغسل بالنسبة الى من كان يضره استعمال الماء فهل يقتضي (لا ضرر) فسادهما مطلقا أو بالنسبة الى العالم بكونهما ضرريين فحسب أو لا يقتضي ذلك أصلا؟
  والصحيح هو الوجه الأخير، وتوضيح ذلك : ان الوضوء والغسل على الصحيح من موضوعات الأحكام ، حيث إن كلا منهما جعل في مورده موضوعا لترتب الطهارة الحدثية كما قد جعل غسل البدن بالماء موضوعا للحكم بالطهارة الخبثية .
  وعليه فلا يمكن نفي صحتهما بقاعدة (لا ضرر) لان مجرد الحكم بترتب الطهارة الحدثية عليهما ليس تسبيباً الى الضرر، كما لم يكن الحكم بترتب الطهارة الخبثية على غسل الماء بالبدن تسبيباً الى الضرر وان كان استعمال الماء مضراً، فان المقامين من واد واحد ، نعم بينهما فرق من جهة ان ترتب الطهارة الخبثية على استعمال الماء لا يتوقف على قصد القربة، وترتب الطهارة على استعماله في الوضوء والغسل مشروط بقصد القربة .
  لكن هذا الفرق ليس بفارق لان تحقق قصد القربة بالوضوء والغسل لا يتوقف على وجود أمر مولوي بهما ـ من الأمر الاستحبابي أو الأمر الغيري

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 287 ـ
  بناء على الصحيح من امكان التقرب بامتثال الأمر الغيري خلافاً لما هو المشهور بين المتاخرين ـ حتى يكون انتفاء الأمر النفسي بهذه القاعدة موجباً لفقدان قصد القربة ، اذ قوام عبادية العمل باضافتها اضافة تذللية الى الله تبارك وتعالى، ويكفي في تحقق هذا المعنى قصد التوصل بالوضوء والغسل الى الغاية المترتبة عليهما ـ التي هي محبوبة لدى الشارع المقدس ـ وهي على المختار نفس الطهارة، وأما بقية الغايات فهي في طولها ، كما يكفي أيضا أن يقصد التوصل الى تلك الغايات الطولية كإباحة الدخول في الصلاة والطواف .
  يضاف الى ذلك ان في اقتضاء (لا ضرر) لسقوط الاستحباب النفسي في مورد ثبوته تأملا .
  نعم مقتضاه انتفاء وجوبهما الغيري على نحو غير مباشر بمعنى أنه يوجب أولا ارتفاع وجوب ذي المقدمة ـ وهي الصلاة مع الطهارة المائية ـ فيما لم يكن الشخص متطهرا وكان استعمال الماء مضرا له ، فبذلك ينتفي الوجوب المقدمي الغيري ، اذ على المشهور لا يمكن انتفاء وجوب المقدمة مع بقاء وجوب ذيها،ونتيجة ذلك عدم وجوب الصلاة مع الطهارة المائية ما لم يتوضأ المكلف ولكن اذا توضأ فحيث انه قد حصلت الطهارة المائية فيجب عليه الصلاة مع الطهارة المائية، اذ ليس ايجابها حينثذ تسبيبا الى الضرر.
  وبما ذكرنا يمكن ان يوجه بعض كلمات السيد الاستاذ (قده ) في المقام ـ مع غض النظر عن بعض المناقشات في عبارته ـ (1) .

(1) لاحظ مصباح الاصول 2 : 552ففيه (فالوضوء الضرري وان كان وجوبه مرفوعاً بأدلة نفي الضرر إلاّ ان استحبابه باق بحاله فصح الاتيان بالوضوء الضرري بداعي استحبابه النفسي او لغاية مستحبة وتحصل له الطهارة من الحدث وبعد حصولها لا مانع من الصلاة معها=

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 288 ـ
  وعلى ما ذكرناه من عدم اقتضاء (لا ضرى) لفساد الوضوء والغسل الضرري مطلقأ لا يتجه ما قيل في توجيه قصور (لا ضرر) عن إثبات فسادهما في صورة الجهل كما ذكره جمع (1) من أن دليل (لاضرر) وارد في مقام الامتنان عل الاقة الإسلامية ، فلا يكون (لا ضرر) شاملا لمورد يكون نفي الحكم فيه منافيا للامتنان ، والحكم ببطلان الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل من هذا القبيل ، فان الأمر بالتيمم واعادة العبادات الواقعة معها مخالف للامتنان .
  اذ لا حاجة الى ذلك الا على سبيل التنزل عما ذكرناه . مع امكان المناقشة في ورود الحديث في مقام الامتنان فتأمل .
  البحث الثالث : في ان حرمة الاضرار بالنفس هل توجب الحكم بفساد الوضوء والغسل المضرين في حال الجهل والعلم أو لا ؟
  ويلاحظ أولاً : إنه لم تثبت حرمة الإضرار بالنفس مطلقأ وإنما الثابت حرمته فيما يكون من قبيل هلاك النفس أو ما يلحق به ـ كما أوضحنا ذلك ني بحث الوضوء من شرح العروة ـ وعليه فالكلام في هذا البحث فيما اذا كان الضرر اللازم من الوضوء والغسل كذلك .
  ولتوضيح المقام لا بد من ايضاح امرين :
  الأمر الأول : ان نسبة (الاضرار المحرم ) الى الوضوء والغسل الضرري نسبة الأسباب والمسببات التوليدية كالالقاء والاحراق والرمي والقتل ونحو ذلك .

= لحصول شرطها وهي الطهارة بلا حاجة إلى الاعادة ، وكذا الحال في الغسل الضرري ... الخ .
(1) لاحظ مصباح الاصول : 545 وغيرها.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 289 ـ
  وفي متعلق الحرمة في الأسباب والمسببات التوليدية احتمالات ثلاثة ـ كما تعرضنا له في مبحث مقدمة الحرام ـ:
  الاحتمال الأول : ان يكون مصب الحرمة إيجاد المسبب التوليدي كالحرق والضرر ، وحيث إن وجود المسبب التوليدي مغاير مع وجود سببه كالالقاء للاحراق والوضوء للاضرار ، فيكون ايجاده أيضا مغايرا معه لان الفرق بين الايجاد والوجود انما هو بمجرد الاعتبار ، وعليه فيكون المحرم مغايرا وجودا مع ما هوسبب له .
  لا يقال : ان الاحكام التكليفية تتعلق بافعال المكلفين والمسبب التوليدي كالاحراق والاضرار ليس بفعل للمكلف بل الاحراق أثر النار بشرط المماسة مع الجسم ، والضرر اثر الماء بشرط المماسة مع البدن .
  فانه يقال : إن هذا أمر غالبي وليس شرطا اذ يكفي في صحة تعلق الحكم التكليفي بأمر كونه مقدورا للمكلف مع الواسطة .
  الاحتمال الثاني : ان يكون مصب الحرمة السبب التوليدي وانما اخذ العنوان المسبب عنه مرآة للسبب الذي يترتب عليه ، فيكون الالقاء والوضوء بانفسمهما متعلقين للحرمة .
  الاحتمال الثالث : أن يكون مصب الحرمة العنوان الثانوي المسمى بالمسبب التوليدي مأخوذا على نحو الموضوعية لكن مع عده من قبيل الاعتبارات المتأصلة ، فان تأصل الامر الاعتباري كما يكون في الاحكام التكليفية والوضعية فكذلك يتحقق في جملة من الماهيات التي هي من قبيل موضوعات الأحكام ومتعلقاتها كالغصب .
  والأظهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول كما بيناه في محله .
  الأمر الثاني : في حكم الوضوء والغسل حيث يترتب عليهما الضرر المحرم .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 290 ـ
  وذلك يختلف بحسب الاحتمالات السابقة في مصب الحرمة :
  اما على الاحتمال الأول : فيكون متعلق الحرمة أمرا لا اتحاد له بوجه معهما، فإن كان مضرا بصحتهما فانما هو من جهة الاخلال بقصد القربة المعتبرة فيهما، وهذا الاخلال لا يتصور في صورة الجهل بكونه مضرا على نحو الجهل المركب أو الاطمئنان لعدمه أو الغفلة عنه أو نسيانه .
  وأما مع العلم به أو ما في حكمه ففيه جهتان : جهة ترتب امرمحبوب عليه وهو الطهارة ، وجهة ترتب امر مبغوض عليه وهو الاضرار المحرم ، ولايبعد تمشي قصد القربة اذا اتى بها بداعي التسبيب الى الجهة الأولى .
  واما على الاحتمال الثاني : فالمحرم يكون نفس الوضوء والغسل فيدخل تحت عنوان النهي عن العبادة فيحكم بالفساد ـ على المشهور ـ لأنه لا اثر للتقرب بما هومبغوض ذاتا.
  واما على الاحتمال الثالث : فان قلنا بان الوضوء والغسل من قبيل موضوعات الاحكام فقط فيلحق بالاحتمال الأول حكما ، وعلى القول بانهما من قبيل متعلقات الأحكام يدخل في بحث اجتماع الأمر والنهي ، فان قلنا بالامتناع وتغليب جانب النهي فلا بدّ من الحكم بالفساد في صورة العلم وأما في صورة الجهل فمبني على القول باقتضاء القول بالامتناع الفساد مطلقا، والمختار هو عدم الامتناع ، وعلى القول به فيفصل بين صورتي العلم والجهل كما سبق في الاحتمال الأول .
  التنبيه الخامس : في انه هل يستفاد من (لا ضرر) جعل الحكم ، اذا كان يلزم الضرر لولا وجوده ـ كما يستفاد منه نفي الحكم اذا كان يلزم الضرر بوجوده ـ أم لا؟ . وعلى التقدير الأول فهل هناك أمثلة فقهية تكون من هذا القبيل أم لا؟

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 291 ـ
  وقد انكر المحقق النائيني (قده ) الكبرى والصغرى معاً (1) واقر السيد الاستاذ (قده ) بالكبرى ولكنه انكر الصغرى قائلا : (بان الصغرى لهذه الكبرى غيرمتحققة فانا لم نجد موردا كان فيه عدم الحكم ضررا حتى يحكم برفعه وثبوت الحكم بقاعدة لا ضرر) (2) ويظهرمن بعض الفقهاء منهم السيد الطباطبائي في ملحقات العروة الالتزام بهما معاً كما سيجيء نقل كلامه .
  والكلام تارة في الكبرى واخرى في الصغرى، فهنا مقامان :
  أما في المقام الأول : فتقريب انكار الكبرى ان حديث (لا ضرر) لا ناظر الى الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة ومقيد لها بعدم أدائها الى الضرر على المكلف ، وعدم الحكم ليس حكما مجعولاً فلا يشمله الحديث ، وليس المدعى انه لا يمكن جعل الحكم العدمي ـ فان الاباحة التكليفية حكم عدمي وليس عدم الحكم بحسب الدقة لانها تنشأ من قبل الشارع بعنوان إرخاء العنان بالنسبة الى كل من الفعل والترك للمكلف ، وكذلك الحلية فانها بمعنى حل عقدة الحظر ومرجعها الى هدم الحكم التحريمي المجعول ، كما انه ليس المدعى أنه لا يمكن انشاء عدم الحكم بل هو امر ممكن كما في الحكم بعدم اشتغال الذمة، وانما المقصود ان مجرد عدم جعل الحكم في مورد قابل لا يمكن عده حكما حتى يكون مرفوعا بحديث (لا ضرر) .
  والجواب عن ذلك : ان ما ذكر من نظر الحديث الى الاحكام المجعولة في الشريعة محل منع لان مفاد الحديث هو عدم التسبيب الى تحمل الضرر - أي نفي وجود ضرر منتسب الى الشارع المقدس بما هو

(1) تقريرات المحقق النائيني : 119 وما بعده .
(2) لاحظ جامع الأحاديث ، الباب 3 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 292 ـ
  مشرع ومقنن ـ وهذا المعنى كما يصدق في موارد جعل الحكم الذي يلزم منه الضرر ـ سواء كان وضعيا أو تكليفيا ، وسواء كان الزاميا أو غير الزامي كالترخيص في الدخول لمن له حق الاستطراق بغير استئذان على نحو يوجب ذهاب حق التعيش الحر بالنسبة الى صاحب الدار، كما في قضية سمرة بن جندب ـ فكذلك يصدق في حالة عدم جعل الحكم أحيانا فيعدّ نفس عدم جعل الحكم ممن بيده التشريع تسبيبا منه الى الضرر.
  مثلا : اذا فرض أن الشارع منع الزوجة المعدمة من الاكتساب اذا كان على نحو ينافي حقوق زوجها وفرض عدم جعل وجوب الانفاق عليها ، فيعد نفس هذا تسبيبا منه الى تضررها ، أو سلب حق التعيش مع الكرامة بالنسبة اليها ، وكذلك لو فرض أنه حرم إضرار بعض الناس ببعض تكليفا ولم يجعل حكما اجرائيا يخؤل للسلطة مكافحة الاضرار والمنع عنه خارجا .
  والحاصل : ان عدم جعل الحكم المانع عن الضرر يعد تسبيبا منه اليه بعد فرض كمال الشريعة كما يدل عليه قوله تعالى ( اليوم اكملت لكم دينكم )(1) ويؤكده الروايات الدالة على انه ما من واقعة الاّ ولها حكم (2) وقوله صلى الله عليه وآله (يا ايها الناس ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار الا وقد امرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النارويباعدكم من الجنة الاّ وقد نهيتكم عنه )(3) مضافا الى سلب حق التشريع عن غير الله تعالى .
  وعليه فلا يقدح عدم صدق الحكم على مجرد عدم جعل الحكم بعد صدق التسبيب الى تحمل الضرر.

(1) المائدة 5 |3 .
(2) جامع احاديث الشيعة 1 :133 ـ 143| 30 ـ 32.
(3) ورد ذلك في صحيحة أبي حمزة الثمالي المذكورة في الوسائل ـ كتاب التجارة ـ أبواب مقدماتها ـ الباب 2 1 ج 7 1 : 5 4 | 939 1 2 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 293 ـ
  بل يمكن أن يقال : بان عدم الحكم في ذلك يعد حكما كما يعد عدم القيام لأحد الشخصين مع القيام للآخرمع تساويهما في الرتبة توهينا للأول ، وكذلك يعد عدم التقييد في الموضع القابل له اطلاقا .
  ويلاحظ : أن هذه الكبرى منتجة وإن انكرنا وجهود صغرى لها، بمعنى أنه لم يوجد هناك مورد يكون (لا ضرر) فيه دليلأ على ثبوت الحكم ـ وذلك لأن نتيجة كون الكبرى مثبتة للحكم هي عدم حكومتها أي (لا ضرر) على ادلة حرمة الاضرار بالغير إذا كان عدم الاضرار بالغير ضررا على المالك كما اذا تصرف المالك في ملكه بما اوجب الاضرار بجاره ، لان مقتضاه على هذا التقدير نفي كل من حرمة الاضرار بالغير وجواز التصرف في الملك ـ لكون الأولى تسبيبا للضرر بالنسبة الى المالك والثاني تسبيبا للضرر بالنسبة الى الجار ـ فيتعارض (لا ضرلر) فيهما ويسقط ، وتصل النوبة الى أدلة حرمة الاضرار بالغير فيحرم بمقتضاها تصرف المالك في ملكه بما يضر بجاره ، فهذا مقدار من الانتاج للكبرى المذكورة ، ولو لم تثبت هذه الكبرى لكان (لا ضرر) نافيا لحرمة الإضرار بالغير دون جواز التصرف في الملك فتكون حاكمة على ادلة حرمة الاضرار كما يأتي توضيح ذلك في التنبيه الآتي .
  واما في المقام الثاني : ـ وهو وجود صغرى لهذه الكبرى ـ فقد ذكر لها موردان :
  المورد الأول : الحكم بضمان التالف في غير الموارد التي يكون هناك سبب للضمان فيها ، كالاتلاف واليد العادية فان دليل الضمان فيها نفس أدلته دون قاعدة (لا ضرر) ، وقد عدّ (1) من موارد انحصار الدليل للضمان

(1) لاحظ تقريرات المحقق النائيني : 220 و221 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 294 ـ
  بقاعدة (لا ضرر) ما اذا حبس الانسان حتى فات عمله ، أوحبسه حتى أبق عبده أو فتح شخص قفص طائر فطار ، بدعوى انه لولا الحكم بالضمان في مثل ذلك للزم الضررعلى الشخص .
  وقد انكر المحقق النائيني الحكم بالضمان فيها معللا بعدم دلالة (لا ضرر) عليه فان دلالته عليه تبتني على القول بان المستفاد منه نفي الضرر غير المتدارك فيدل على الحكم بتدارك الضرر الواقع إما من قبل من سبب اليه ـ ان كان هناك انسان صار سببا لوقوع الضرر ـ أو من بيت المال ان لم يكن كذلك (1) وبظهر من السيد الاستاذ (قده ) موافقته معه في ذلك (2).
  لكن الظاهر انه لا وجه لانكار الضمان في ذلك فان ثبوته لا يبتني على مسلك الفاضل التوني في مفاد الحديث ـ من نفي الضرر غير المتدارك ـ الذي قد سبق ابطاله ـ بل يكفي فيه نفس ما دل على قاعدة الاتلاف لاندراجه تحتها ، فان حبس الحر ـ اذا كان كسوبا ـ يكون كحبس العبد والدابة ونحوهما ، تفويتا لمنافعه المقدر وجودها لدى العقلاء فيكون ضامنا لعمله ، كما ان حبس الانسان اذا أدى الى أن تشرد دابته أو يابق غلامه أويسيل الماء ـ المفتوح لجهة ـ مما يوجب خراب الدار والبستان ، أو يحترق ما في القدر أو ما في الدار بنار كان قد اشعلها تحت القدر وكان قادرا عليها كل ذلك ونحوه يكون اتلافا للمال عقلاءً .
  ولا حاجة الى قاعدة (لا ضرر) في ذلك بل يفي بجعل الضمان قاعدة (لا ضرار) بالمعنى الوسيع الذي ذكرناه الذي هو امضاء للقاعدة العقلائية لانها تستبطن تشريع احكام رادعة عن تحقيق الإضرار بالنسبة الى الغير، فالحكم بالضمان على من أضر، من اوضح اسباب الردع عن الاضرار

(1) لاحظ المصدر السابق .
(2) لاحظ مصباح الاصول 2 : 560 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 295 ـ
  الصادر من الحابس ونحوه وبذلك يتضح انه لا يرد على اثبات الضمان بقاعدة (لا ضرر) في المقام ما ذكره السيد الاستاذ (قده ) من ان الضرر اللازم على المتضرر ـ المقتضى لجعل الضمان ـ معارض بالضرر المترتب على الحكم بالضمان على الحابس (1) لان (لا ضرر) من جهة مقابلته ب ـ (لا ضرار) لا اطلاق لها بالنسبة الى نفي الضرر الذي يشرعه القانون من باب مكافحة الاضرار ـ كما سبق توضيحه في التنبيه الثاني (1).
  المورد الثاني : اثبات حق الطلاق للحاكم الشرعي بقاعدة (لا ضرر) و(لا حرج ) فيما اذا صارت الزوجة محرومة عن حقوق الزوجية خارجا ، مع مطالبتها لها وعدم طريق لاستيفائها ، بان لم يمكن إجبار الزوج على الوفاء بها ولو بتعزيره إن تخلف عن أدائها ـ وذلك كما لو كان الزوج مفقودا أو غائبا ولم يكن طريق لإجبار الزوج على طلاقها ـ .
  فيقال حينئذ بان لها ان تطالب الحاكم الشرعي بان يطلقها وعلى الحاكم الاستجابة لطلبها وطلاقه نافذ ، وعمدة النظر في المقام الى خصوص حق الانفاق .
  وقد التزم بحق طلاق الحاكم في الموضوع السيد الطباطبائي في ملحقات العروة تمسكا بقاعدتي (لا ضرر) و(لا حرج ) مضافا الى الروايات الخاصة ، وقد ناقش المحقق النائيني في التمسك بهما فإنهما لا يثبتان حكما وجودياً كما ناقش في الروايات التي استدل بها بانها غير معمول بها وهي معارضة بغيرها ـ وسيجيء تفصيل ذلك ـ كما استبعد كلامه جمع آخرمن المتأخرين .
  ونحن نجعل محل الكلام بعض فروض المسألة وهوما لو امتنع الزوج

(1) المصدر السابق : 561 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 296 ـ
  عن اداء النفقة لزوجته ، ونبحث .
  تارة : في انه هل يمكن الحكم بثبوت حق الفسخ للزوجة بملاحظة طبيعة عقد النكاح في نفسه ؟
  واخرى : في ثبوت حق الفسخ أو الطلاق للحاكم بملاحظة (لا ضرر ، ولا ضرار) .
  وثالثة : في ثبوت ذلك بملاحظة الأدلة الخاصة، فهنا أبحاث ثلاثة :
  البحث الأول : في انه هل يثبت حق الفسخ للزوجة عند عدم انفاق الزوج عليها بمقتضى تخلف الشرط الارتكازي الضمني ـ كما ذكره جمع في وجه ثبوت خيار الغبن -أم لا ؟
  وتقريب ثبوته : ان ما تنشئه المرأة في عقد النكاح وان كان هو الزوجية الدائمة الا انها مقيدة بسبب الشرط الارتكازي ، بان يبذل لها الزوج النفقة بحدودها الشرعية، وليس للمنشأ اطلاق بالنسبة الى الزوجية بعد فسخها من ناحية اخلال الزوج بالنفقة ، فان الزوجية المنشأة بحسب طبعها احداث علقة خاصة بين الرجل والمرأة ، حقيقتها المشاركة في الحياة على نحو خاص يشتمل على نحو قيمومة للزوج بالنسبة الى الزوجة وتكفل مؤونتها اللازمة ـ مضافا الى الاستمتاع الجنسي ـ قال الله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم ) .
  وقد جاء في تفسير القرطبي (1) انه فهم العلماء من هذه الآية انه متى عجزعن نفقتها لم يكن قواما عليها واذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد لزوال المقصود الذي لاجله شرع النكاح ، ثم نقل قول الشافعي ومالك ، بذلك ومخالفة ابي حنيفة ، وقد ورد في رواية ضعيفة عن سفيان بن عيينة عن

(1) القرطبي 5 : 169 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 297 ـ
  ابي عبدالله عليه السلام في حديث انه قال (فالرجل ليست له على نفسه ولاية اذا لم يكن له مال وليس له على عياله امر ولا نهي اذا لم يجر عليهم النفقة) (1).
  وليس المقصود الاستدلال بالآية والرواية، بل المقصود ان المرتكز الذهني للزوجة انشاء الزوجية الدائمة بشرطها وشروطها والنفقة منها .
  ويمكن الايراد عليه ـ مع غض النظر عن مخالفة الروايات الأتية لثبوت خيار الفسخ للزوجة في صورة الاخلال بالنفقة ـ بوجهين يمكن دفعهما :
  الوجه الأول : ان بين البيع والنكاح فرقا، فان قوام البيع بالمالين وقوام النكاح بالشخصين حتى أن المهر ليس من أركانه ، ولذا لو اخل به يصح العقد ويثبت مهر المثل ـ ففي البيع حيث ان النظر الى المالين فيقتضي بحسب الشرط الارتكازي العقلائي عدم نقصان ما انتقل اليه عما انتقل عنه بحسب المالية ـ فيكون منشأ لخيار الغبن ـ كما يقتضي عدم كونهما معيبين ـ فيكون منشأ لخيار العيب ـ وهكذا بالنسبة الى ساثر الشؤون الراجعة الى المالين ، ويمكن ادعاء مثل هذا الشرط الارتكازي في ما يرجع الى الزوجين في النكاح ، بالنسبة الى فقدان العيوب التي تختل بها الحياة الزوجية، وقد حددها الشارع بعيوب خاصة ، وكذا ياتي فيها خيار التدليس فيما يتعلق بذلك .
  واما ما لا يرجع الى وصف الزوجين بل كان من الاحكام الثابتة في الشريعة الاسلامية ، كوجوب إنفاق الزوج على الزوجة فلا يمكن عده من الشروط الارتكازية العقلائية .

(1) كتاب الكافي ـ الاصول ـ كتاب الحجة الباب 103 (باب ما يجب من حق الإمام على الرعية ، 0 0) 1 : 335 و336 | 6 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 298 ـ
  كيف وفي بعض المجتمعات البدوية يشترك الزوجان في تحصيل النفقة كما هو الغالب في اهل الريف الذين يكون شغلهم الزراعة والفلاحة وتربية المواشي ، وكذا في بعض المجتمعات المتحضرة ـ كما يقال ـ التي يكون لكل من الزوجين فيها شغل كالطبابة والتعليم ونحوهما ، بل نقل عن بعض المجتمعات البدوية ان الزوجة هي التي تتكفل النفقة .
  وعلى هذا فلا يمكن عدّ الانفاق من الشروط الارتكازية للنكاح .
  الوجه الثاني : ان الشرط الارتكازي انما يؤثر في تحقق الخيار عند التخلف في صورة نفوذه عند التصريح به فان مرجع اشتراط الانفاق على النحو الذي يقتضيه هذا التقريب هوجعل الخيار عند التخلف ، ومقتضى ما عللوا به عدم صحة شرط الخيار في النكاح عدم صحة جعل الخيارولو بتخلف الوصف أو الشرط الا ما دل عليه النص قال الشيخ الأنصاري (في بحث خيار الشرط بعد ذكر عدم دخوله في النكاح اتفاقا) (1) ، ولعله لتوقف ارتفاعه شرعا على الطلاق وعدم مشروعية التعامل فيه .
  وقد يحكم ببطلان اصل النكاح الذي جعل فيه شرط الخيار ،وقد علل ذلك السيد الاستاذ (قده ) بان شرط الخيار يرجع الى تحديد الزوجية بما قبل الفسخ لا محالة، وهو ينافي قصد الزواج الدائم أو المؤجل الى أجل معلوم ، وهذا بخلاف سائر الشروط الفاسدة فإنها بحسب الارتكاز العرفي لا ترجع في خصوص النكاح الى جعل الخيارعلى تقدير التخلف ، وانما ترجع الى تعليق الالتزام بترتب الاثار على وجود الشرط وفسادها لا يسري الى العقد (2).

(1) لاحظ المكاسب : 233 .
(2) العروة الوثقى مع تعليقة الخوئي (ره ) 2 : 638 مسألة 5 385.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 299 ـ
  ويمكن الجواب عن الوجه الأول : بانه لا يعتبر في تاثير الشرط الارتكازي ان يكون شرطا ارتكازيا لدى جميع المجتمعات والملل والنحل ، ولا اشكال في أن الإنفاق كان أمرا ملحوظا في عقد النكاح في المجتمع الإسلامي والمجتمع العربي قبل الإسلام ، بل قد اختلف فقهاء الخاصة والعامة في كون اليسار من الامور الدخيلة في الكفاءة وعدمه على قولين مشهورين (1) وسوف يظهر ارتكازية هذا الشرط مما ياتي في جواب الوجه الثاني ، وعن الوجه الثاني : بانه لا اجماع على عدم ثبوت خيارتخلف الوصف والشرط في النكاح وانما قام الاجماع على عدم صحة اشتراط الخيار فيه ، كيف وقد التزم بثبوت خيار الفسخ للزوجة عند الاعسار أو انكشافه جمع من فقهاء الفريقين ، ولذلك لو قدّر قيام الاجماع المذكور ايضا فلا ينبني الشك في عدم شموله للمقام .
  اما فقهاؤنا فقال المحقق في الشرائع : لوتجدّد عجز الزوج عن النفقة هل تتسلط الزوجة على الفسخ فيه روايتان اشهرهما انه ليس لها ذلك ، وعقبه في الجواهر (2) بقوله (لا بنفسه ولا بالحاكم وفي المسالك انه المشهور) .
  ونقل العلامة في المختلف (3) في بحث اعتبار اليسار في الكفاءة عن ابن اس ير انه قال : (والأولى ان يقال ان اليسار ليس بشرط في صحة العقد ، وانما للمرأة الخيار اذا لم يكن موسرا بنفقتها وليس العقد باطلا بل الخيارلها ... ) ثم

(1) لاحظ اختلات فقهائنا في الجواهر 30 : 03 1 والحدائق ط الاولى 6 : 144 ، واختلاف فقهاء العامة في المغني لابن قدامة 7: 376 و 377 والخلاف للشيخ الطوسي 4 : 1 27 و 272 .
(2) الشرائع 2 : 300، جواهر الكلام 30 : 105 .
(3) كتاب النكاح : 576.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 300 ـ
  قال العلآمة (وهو الوجه عندي ... واما اعتبار اليسار فلو نكحت المرأة ابتداء لفقير عالمة بذلك صح نكاحها اجماعا ولو كانت الكفاءة شرطا لم يصح ) ـ الى ان قال ـ (نعم أثبتنا لها الخيار دفعا للضرر عنها ودفعا للمشقة اللاحقة بها بسبب احتياجها مع فقره الى مؤونة يعجزعنها ، ولا يمكنها التزوج بغيره ، فلو لم يجعل لها الخيار كان ذلك من اعظم الضرر عليها وهو منفي اجماعا) ، وذكر في مسألة الاعسار المتأخر (1) بعد نقل قول المشهور من عدم خيار للزوجة في الفسخ ـ (قال ابن الجنيد بالخيار لرواية عن الصادق ولاشتماله على الضرر إذ لا يمكنها الانفاق فلو لم يجعل لها الخيار لزم الحرج المنفي بالاجماع ) وقد توقف العلأمة نفسه في هذه المسالة وقد نقل في الحداثق (2) ان السيد السند في شرح النافع مال الى قول ابن الجنيد من ثبوت حق الفسخ كما نقل عن ظاهر المسالك التوقف ، والغرض : انه لا اجماع في المقام بين الخاصة على عدم الخيار للزوجة .
  واما العامة ففي المغني لابن قدامة (3) (ان الرجل اذا منع امرأته النفقة لعسرته وعدم ما ينفقه فالمرأة مخيرة بين الصبر عليه وبين فراقه ، وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة وبه قال سعيد بن المسيب والحسن ، وعمر ابن عبدالعزيز وربيعة وحماد، ومالك ، ويحيى القطان ، وعبدالرحمن بن مهدي ، والشافعي ، وإسحاق ، وابو عبيد ، وابوثور، وذهب عطاء والزهري ، وابن شبرمة، وابو حنيفة، وصاحباه الى انها لا تملك فراقه بذلك ولكن يرفع يده عنها لتكتسب ...).

(1) المصدر السابق 582 .
(2) ا لحد ائق 4 2 : 77 - 78 .
(3) المغني 9 : 4 24 .