الاجتماعية العامة ـ كما اشرنا اليه أولا ـ بل هذا التشريع مما توجبه العدالة من جهة استفادة الجميع من الجهات العامة التي توفرها الدولة كبناء القناطر وتعبيد الطرق وتحقيق الأمن وغير ذلك .
فظهر ان التدقيق في (الضرر) مفهوما وانطباقا يوجب دفع دعوى التخصيص بالنسبة الى جملة من الاحكام التي عدت ضررية بطبعها .
واما الجزء الثاني من هذا الحل ـ وهوتحديد الضرر المنفي ب ـ (لا ضرر) ـ فهويتضمن جهات ثلاث .
الأولى : ان الضرر المنفي منصرف عن كل ضرر تثبته الأحكام الجزائية، وذلك لأن الحكم المولوي لا بدّ ان يدعمه قانون جزائي يثبت ضررا على مخالفته سواء كان ضررا دنيويا أو اخرويا، والاّ لم يكن حكما مولويا اصلا بل كان حكماً ارشاديا، اذ الحكم المولوي ـ على ما اوضحناه سابقا ـ يتقوم بما يستبطنه من الوعيد فاذا لوحظ الضرر الذي يولده الحكم الجزائي الذي يندمج في الحكم الشرعي فان الأحكام الشرعية كلها ضررية ، اذ لا فرق في ذلك بين الضرر الدنيوي الذي يثبته مثل قوله سبحانه ( والسارق رالسارقة فاقطعوا أيديهما )(1) وبين الضرر الاخروي الذي يثبته مثل قوله تعالى : ( ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً انما يكألون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (2) وعلى هذا فنفي التسبيب الى الضرر من المقنن إنما ينصرف الى الضرر الابتدائي على الشخص دون ما كان جزاء اً على مخالفة القانون ، هذا ما ينبغي ملاحظته .
كما ينبغي أن يلاحظ أيضا ان اضرار الحاكم لا يندرج تحت عنوان
(1) المائدة : 5 | 38 .
(2) النساء: 4| 10 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 227 ـ
( الضرار) أيضا لان الضراربحسب كونه من باب المفاعلة يقتضي ان يكون بمعنى انهاء الضرر الى الغير المستتبع لنسبة مماثلة من نفس الفاعل أو من الغيرولو بالقوة ، فلا ينطبق ذلك في مورد اضرار الحاكم لانه لا يستتبع اضرارا آخر لا من الحاكم لأن عمله محدود بحد قانوني ، ولا من قبل المتضرر لان الحاكم بملاحظة الحماية القانونية له ليس في معرض أن يقع عليه ضررممن أجرى عليه الحكم كما هوواضح .
الجهة الثانية : ان الحديث بحسب المراد التفهيمي منه على المختار لا يشمل جملة من الاضرار فان المراد التفهيمي له هو نفي الزام المكلف بتحمل الضرر، وعليه فلا ينفى الحكم الشرعي فيما لوأقدم المكلف بنفسه على تحمل الضرر كما اذا اشترى شيئا مع اسقاط جميع الخيارات أو كان عالما بالغبن أو العيب أو صالح صلحا محاباتيا أو ألزم نفسه شيئا بالنذر والعهد واليمين ، ففي مثل ذلك لا يعد إمضاء الشارع لما أنشأه المكلف تسبيبا من قبله لتحمل المكلف للضرر ، وانما الشخص هو الذي حمل نفسه الضرر ابتداءً والشارع انما أقره على ذلك .
ولا يقال : ان المكلف في مورد العلم بالغبن ونحوه وان كان اقدم على الضرر ابتداءً، لكنه لم يقدم عليه بقاءً وانما الشارع الزمه به بسبب حكمه باللزوم ـ كما ذكره غير واحد من المحققين ـ .
فانه يقال : إن اللزوم ليس حكما تأسيسيا شرعيا وانما ينتزع من اطلاق المنشأ لما بعد الفسخ في موارد عدم الشرط ولو ارتكازا ، وإنما الشارع أمضى ما انشأه المنشئ بحدوده .
الجهة الثالثة : إن اقتران (لا ضرر) ب (لا ضرار) يمنع عن شموله لجملة من الاضرار، وذلك لان (لا ضرار) كما تقدم بحسب معناه التفهيمي يثبت عدة انواع من الأحكام الضررية دفعا لوقوع الاضرار:
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 228 ـ
منها : احكام جزائية يستتبعها الاضراربالمجتمع من قبيل حد السرقة والمحاربة وحد القصاص والتعزير.
ومنها : حق مكافحة الاضرار ولو بانزال الضرر على الغير كما في بعض مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنها : فروض مالية مقابل الإضرار كضمان الاتلاف وأروش الجنايات والديات التي تفرض على نفس الجاني .
ومنها : أحكام تمهيدية مانعة عن تحقيق الاضرار كحق الشفعة .
فالضرر الذي توجبه هذه الأحكام غير مشمول لـ (لا ضرر) لان اقترانه ب ـ (لاضرر) الذي يثبت مثل هذه الأحكام يكون قرينة متصلة على تحديد مدلوله ومانعة عن شموله لمثل ذلك .
وهكذا يتضح بمجموع ما ذكرناه : عدم اتجاه ما ادعي من لزوم تخصيص الحديث في اكثرمدلوله بناءً على تفسيره بنفي الحكم الضرري .
الطريق الثاني : ـ في جواب الإشكال ـ ان يقال ان (لا ضرر) ليس ظاهرا الا في نفي الحكم الذي ربما يترتب على امتثاله ضرر، دون ما كان بطبعه ضرريا من قبيل الموارد المذكورة كالخمس والزكاة والحج وغيرها، فهي خارجة عن مصب الحديث تخصصا، وذلك باحد وجوه :
الوجه الأول : ما ذكره المحقق النائيني من ان قاعدة (لا ضرر) ناظرة الى الأحكام ومخصصة لها بلسان الحكومة، ولازم الحكومة ان يكون المحكوم بها حكما لا يقتضي بطبعه ضررا لانه لو اقتض بطبعه ضررا لوقع التعارض بينهما (1) .
وتوضيحه : ان قاعدة (لا ضرر) انما سيقت للحكومة على الأدلة
(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني ص 211 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 229 ـ
الواقعية ولا معنى للحكومة بالنسبة الى الادلة التي تثبت أحكاما ضررية بحسب طبعها، لان النسبة بين (لا ضرر) وبينها هي التباين .
والحكومة التضييقية ـ كالتخصيص ـ لا تعقل الأ مع كون النسبة بين الدليلين عموما من وجه أو عموماً مطلقا ، فإنها لا تفترق عن التخصيص الا بحسب اللسان حيث ان لسان الحكومة هو لسان مسالمة مع الدليل الأخر، ولسان التخصيص لسان معارضة معه والا فهما يشتركان في المحتوى وهوتحديد حجية الدليل الآخر ؛ ولذلك لا تعقل الحكومة الا في مورد يعقل فيه التخصيص وبما ان التخصيص لا يعقل في مورد كون النسبة هي التباين فانه لا تعقل الحكومة معها ايضا.
وليس المقصود بذلك أن كل مورد لم يحكم فيه بالتخصيص لا يحكم فيه بالحكومة ، اذ في بعض موارد العامين من وجه يلتزم بحكومة أحدهما على الآخر ولا يلتزم بتخصيصه به بل يتعارض الدليلان في المجمع فيتساقطان ، وإنما المراد أن كل ما لا يعقل فيه التخصيص لا تعقل فيه الحكومة .
ويرد على ذلك أولاً : انه لم يثبت كون (لا ضرر) مسوقا للحكومة على الأدلة الأخرى ابتداءً حتى يقال بموجبه انه ناظر إلى خصوص الأدلة التي تثبت بإطلاقها أو عمومها حكما ضرريا ، لطرو عوارض خارجية ، ويحدد مفاده بنفي الحكم الذي لا يكون بطبعه ضرريا ، بل الظاهر منه هو نفي التسبيب إلى تحمل الضرر مطلقا سواء كان الحكم المسبب إلى الضرر موجبا له بالذات أو بعروض عارض ، بل شموله للأول أوضح لأنه أجلى الأفراد فيكون إخراجه منه تخصيصا في مفاده ويعود الإشكال .
وثانيا : ان مبناه في تقريب نفي الحديث للحكم الضرري هو جعل الضرر عنوانا للحكم فيكون مصب النفي في الحديث نفس الحكم مباشرة ، وعلى هذا المبنى لا يمكن اعتبار (لا ضرر) حاكما على الأدلة الأولية ـ على
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 230 ـ
ما سيتضح في التنبيه الثالث ـ لأن لسان نفي الحكم المثبت للموضوع في الدليل الآخر لسان معارضة مع لسان ذاك الدليل ، فإن الدليل يثبت الحكم للموضوع و(لا ضرر) ينفي ذلك الحكم عن موضوعه ولامعنى للحكومة في مثل ذلك .
نعم يمكن تصوير الحكومة على المختار في مفاد الحديث من أنه ينفي التسبيب الشرعي إلى تحمل الضرر فيكون نفيا للتسبيب بالحكم الضرري بلسان نفي الضرر كناية ، لكن هذا اللسان إنما ينتج تقديم الدليل فيما أمكن الجمع الدلالي بينه وبين الدليل الآخر ليكون هذا حاكما وذاك محكوما به ، وذلك كما في مورد يكون (لا ضرر) فيه أخص من الدليل الآخر ولو في الجملة، وأما إذا لم يمكن الجمع الدلالي بينهما بذلك بان كانت النسبة بينهما هي التباين ـ كما هو الحال في مورد (لا ضرر) مع أدلة الأحكام الضررية بحسب طبعها ـ فلا وجه لتقدم الدليل الوارد بهذا اللسان علن غيره كما هوواضح .
الوجه الثاني : ما عن السيد الأستاذ (قده ) من أن (لا ضرر) إنما هو ناظر إلى العمومات والاطلاقات الدالة على التكاليف التي قد تكون ضررية وقد لا تكون ضررية فيحددها بما إذا لم تكن ضررية ولا يتعرض للتكاليف التي هي بطبعها ضررية ،والشاهد على ذلك ان وجوب الحج والجهاد وغيرهما من الأحكام الضررية كانت ثابتة عند صدور هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وآله في قضية سمرة، ومع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة بجعل هذه الأحكام الشرعية (1) .
ويرد علية :
أولا : ان الاستشهاد يبتني على تصورأن الصحابة جميعا
(1) لاحظ الدراسات ص 332 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 231 ـ
فهموا مغزى هذا الحديث على النحو الذي استظهرناه ، مع أن الشواهد المختلفة تدل على ان أكثرهم لم يكونوا بهذه المنزلة، وقد قال النبي صلى الله عليه واله في خطبته التي خطبها في مسجد الخيف -وقد نقلها الفريقان ـ (نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه ، يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )(1) ، وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام : (وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله الشيء فيفهم وكان منهم من يسأله ويستفهمه ، حتى أنهم كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا) (2) ، بل كانت معرفتهم بالقرآن كذلك وقد أوضحنا ذلك فى بعض مباحث حجية ظواهر الكتاب ومقدمة بحث حجية خبر الواحد وذكرنا جملة من شواهد ذلك من روايات الفريقين .
وثانيا : انه على تقدير فهمهم لمعنى الحديث وثبوت عدم اعتراضهم أو سؤالهم أو بدعوى أنه لو كان لنقل ـ لتوفر الدواعي على نقله ـ فمن الممكن أن يكون الوجه في ذلك تنبه فقهاء الصحابة للطريق السابق في حل الاشكال من عدم نفي (لا ضرر) لكل ضرر من جهة عدم صدق الضرر في كثيرمن هذه الموارد على ما سبق توضيحه ، وما يبقى منها-من موارد قليلة ـ فإنه ربما خصص الحديث بالنسبة إليها لأن الخاص حيث وجد يتقدم عئى العام ، وإن كان يدور بين أن يكون ناسخا أو مخصصا إلآ انه يحمل على الثاني بحسب المتفاهم العرفي ، فيمكن أن يكون الوجه في عدم اعتراضهم
(1) جامع احاديث الشيعة 1 |29 2| ح 347 .
(2) جامع احادبث الشيعة 1 |16 |ح 62 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 232 ـ
بذلك تنبههم لهذا النحو من الجمع العرفي ولا شهادة في عدم الاعتراض بنفسه على اختصاص الضرر المنفي بما كان طارئا .
وربما كان مقصوده بهذا الكلام ما يأتي في الوجه الثالث .
الوجه الثالث : ما يبتني على جهتين :
الأولى : ان مورد هذه الكبرى في قضية سمرة إنما كان هو الضرر الطارئ لأن ملكية النخلة في ملك الغير تستتبع حق الاستطراق إليها متى شاء مالكها، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قضى في رجل باع نخله واستثنى نخلة فقضى له (بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها) (1) إلاّ أن عموم هذا الحق في مورد قضية سمرة للدخول بدون الاستئذان كان ضررا على الأنصاري ، لأن البستان ـ الذي كانت فيه النخلة ـ كان محل سكناه وسكن أهله ، فكان الدخول بدون استئذان موجبا لهتك حرمتهم ، وعلى هذا : فالضرر الطارئ هو القدر المتيقن من مفاد الحديث لكونه موردا لالقائه في جهته .
والجهة الأخرى : ان الأحكام التي هي بطبعها ضررية كانت من مشهورات أحكام الإسلام وحيث ان الصحابة كانوا حديثي عهد بالإسلام فكانوا يحسون بثقل ذلك ومشقته ، ولم ينقل عن أحد منهم تصور شمول الحديث لهذه الأحكام ، فكان ذلك قرينة متصلة للكلام على أن المنفي شرعاً إنما هوخصوص الضرر الطارئ فلا ينعقد له ظهور في العموم .
التنبيه الثالث : في وجه تقديم (لا ضرر) على ادلة الأحكام الاولية .
وقد ذكر في ذلك وجوه كثيرة الا أن المشهور بين المحققين أنه على نحو الحكومة التضييقية وهو الصحيح ، وحيث شاع لديهم التعرض لحقيقة
(1) الوسائل كتاب التجارة ابواب احكام العقود 8 1 | 1 9| ح23219 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 233 ـ
الحكومة في المقام فلا بأس بالبحث عنها أولاً، فيقع الكلام في مقامين :
المقام الأول : في حقيقة الحكومة التضييقية .
ويلاحظ ان الحكومة تطلق على معنيين فتارة يراد بها الخصوصية التي توجد في الدليل الحاكم التي توجب تقديمه على الدليل الأخرمتى لم يكن هناك مانع من ذلك ، وبهذا المعنى تعد الحكومة من المزايا الدلالية لأحد المتعارضين ، واخرى يراد بها التحكيم وهو العلاج الخاص بين الدليلين المتعارضين حيث يكون احدهما باسلوب الحكومة كما يراد بالتخصيص أيضا نوع علاج خاص بين العام والخاص أو العامين من وجه وحقيقة هذا العلاج الحكم باوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت في الدليل الأخر تقديما للدليل المتضمن لاسلوب الحكومة، فيقابل النسخ وغيره من وجوه التقديم ، وهذا المعنى من شؤون المعنى الأول وآثاره ، ونحن نبحث أولاً عن حقيقة الحكومة بالمعنى الأول ثم نتعرض لوجه تقديم الحاكم على المحكوم وكيفيته وشرائطه . وذلك في ضمن جهات :
الجهة الأولى: في ذكر تقسيمات الحكومة ومحل البحث من اقسامها :
التقسيم الأول : ان محتوى الدليل ـ بحسب المراد الاستعمالي ـ يكون على أحد نوعين :
ا ـ ان يكون محتواه اعتبارا ادبيا تنزيليا وذلك من قبيل اثبات الحكم بلسان اثبات موضوعه أو نفيه بلسان نفيه كأن ، يقال بعد الأمر باكرام العلماء مثلا (المتقي عالم ) و(الفاسق ليس بعالم ) فان الأول يثبت وجوب الاكرام للمتقي بلسان تحقق موضوع الوجوب وهو العالم ، كما أن الثاني ينفي وجوب الاكرام عن العالم الفاسق بلسان نفي تحقق موضوعه ، ومن الواضح ان اندراج المتقي تحت العالم وخروج العالم الفاسق عنه اعتبار ادبي تنزيلي .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 234 ـ
وسيجيء توضيح هذا القسم في التقسيم الثاني .
2 ـ ان يكون محتواه اعتبارا حقيقيا متاصلا ، وقد يمثل لذلك بحكومة الامارات على الأحكام التي اخذ العلم أو عدمه حدأ لها كالاصول العملية وذلك على القول بان مفاد ادلة حجية الامارات ـ كخبر الثقة أو الخبر الموثوق به ـ هو تتميم كشفها باعتبارها علما ، وذلك ليس على سبيل التنزيل والاعتبار الأدبي ليكون تقدمها على الاصول العملية ونحوها على نحو الحكومة التنزيلية ، وإنما على سبيل الاعتبار المتأصل بملاحظة أن للعلم عند العقلاء قسمين : قسما تكوينيا وقسما اعتباريا وقد امضى الشارع ـ بما انه رئيس العقلاء ـ العلم الاعتباري العقلائي .
فعلى هذا الرأي اذا فسرنا عدم العلم المأخوذ في موضوع جريان الأصل مثلا ك ـ (رفع ما لا يعلمون ) بعدم العلم التكويني وقامت امارة كخبر الثقة على الحرمة فان هذه الحالة تخرج عن حدود الأصل بنحو الحكومة، لأن العقلاء يرون انفسهم عالمين علما قانونبا فلا يجدون انفسهم مشمولين كـ(رفع ما لا يعلمون ) رغم تفسير العلم بالعلم التكويني .
ولا يمكن اعتبار ذلك من قبيل الورود لتوقف الورود على انتفاء الموضوع في الدليل الأول وجدانا بمؤونة من التعبد، وعدم العلم التكويني الموضوع في دليل الأصل حسب الفرض لا ينتفي وجدانا بوجود علم اعتباري (نعم ) لوكان موضوع الأصل عدم العلم الجامع بين العلم التكويني والعلم الاعتباري ، لكان تقدم الامارة عليه بنحو الورود لانتفاء الموضوع حينئذ حقيقة بمعونة الاعتبار.
ويلاحظ : ان هذا النوع من الحكومة تترتب عليه آثار التضييق والتوسعة معاً فانه يوجب تضييق الدليل المحكوم بحسب المراد التفهيمي ، ان كان موضوعه كالأصل عدم الماهية ، وتوسعته ان كان موضوعه وجود
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 235 ـ
الماهية كما في جواز الاخبار عما يعلم ونحوه .
هذا الا ان ثبوت هذا النوع من الحكومة محل تأمل .
وعلى تقديره فهو خارج عما هو المقصود بالبحث في المقام فان (لا ضرر) ليس بمندرج في هذا القسم .
وتحقيق القول في هذا القسم من الحكومة (في وجه تقديم الامارات على الاصول ) قد تعرضنا له في محله من علم الاصول .
التقسيم الثاني : ان مفاد الدليل الحاكم اما توسعة في الدليل المحكوم أو تضييق فيه ، وبهذا الاعتبار تنقسم الحكومة الى قسمين :
ا ـ الحكومة على نحو التوسعة . وهي في الاعتبارات الأدبية عبارة عن تنزيل شيء منزلة شيء آخر ليترتب عليه الحكم الثابت لذلك الشيء ، اثباتا للحكم بلسان جعل موضوعه ، واختيار هذا الاسلوب من قبل المتكلم قد يكون لأجل إثارة نفس الاهتمام الثابت للحكم الأول من جهة تكراره والتاكيد عليه بالنسبة الى الحكم الثاني ، فيعدل المتكلم عن الاسلوب الصريح الى هذا الاسلوب الذي يظهره بيان حدود موضوع الحكم الأول استغلالاً للتاثير النفسي الثابت للمنزل عليه لتحقيق مثله بالنسبة الى المنزل .
ومثال ذلك : ما ورد من ان الفقاع خمر فان اعتبار الفقاع خمرا تنزيلا إنما يقصد به تفهيماً كونه حراما أيضاً كالخمر، ولكن اختير هذا التعبير بدلاً عن أن يقال (ان الفقاع حرام ) لكي يوجد تجاهه نفس الاحساس الموجود تجاه الخمر، لأن الخمر من جهة التشديدات المؤكدة حولها قد اكتسبت طابعاً خاصا من المبغوضية والحرمة ، واعتبار الفقاع خمرا يثير في نفس المخاطب نفس الاحساس الموجود تجاه الخمر بالنسبة اليه .
وما ذكرناه هو النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية من قبيل اعتبار زيد اسدا، فان العدول عن التصريح بشجاعته في ذلك انما هو لاثارة نفس
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 236 ـ
المشاعر التي يثيرها عنوان الاسد عند المخاطب تجاه زيد ، وقد أوضحنا ذلك في بعض مباحث الألفاظ في علم الاصول .
وهذا القسم أيضا ليس بمقصود بالبحث فان (لا ضرر) ليس من هذا القبيل بالنسبة الى ادلة الأحكام .
2 ـ الحكومة على نحو التضييق ، وهي ان يكون مؤدى الدليل الحاكم تحديد ثبوت الحكم لموضوعه نافياً لتصورثبوته له بنحوعام ، وذلك كأن ينفي موضوع الحكم أومتعلقه بغرض نفي نفس الحكم على سبيل الكناية كقوله عليه السلام : (لا ربا بين الوالد والولد) فان المقصود من نفي الربا هو نفي حرمته لانفي حقيقته ولكنه تعرض لذلك بلسان نفي الموضوع على نحو الكناية دون التصريح .
وهذا القسم هو المقصود بالبحث في المقام .
الجهة الثإنية : في أقسام الحكومة التنزيلية ، ومواردها واختلاف مؤدى الدليل الحاكم بحسبها .
ان الحكومة التنزيلية تنقسم الى قسمين :
الأول : ان يكون بلسان الاثبات ومفاده اعطاء شيء حد شيء اخر وتنزيله منزلته ، كما اذا قام الدليل على ان (ولد المسلم مسلم ) فان الاسلام بما انه عبارة عن عقيدة خاصة فلا يتصف به غير المميز، ولكن الدليل المذكور ينزل ولد المسلم منزلة المسلم فيضيق دائرة الدليل الدال على ان غير المسلم نجس مثلا.
الثاني : ان يكون بلسان النفي ، وهو الأكثر تداولا في الأدلة.
وللنفي التنزيلي ـ باعتبار مصبه ـ موارد يختلف بحسبها نوع المراد التفهيمي من الدليل الحاكم :
ا ـ ان يكون المنفي موضوعا لدى العقلاء لاعتبار متأصل كالعقود
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 237 ـ
والايقاعات ، والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي الآثار القانونية التي ينشا المعنى بداعي ترتيبها ، كحصول الفراق بالطلاق ، واذا كان المنفي حصة من الطبيعي الموضوع للحكم كقوله : (لا طلاق الا باشهاد) كان مقتضاه اشتراط ترتب تلك الاثار بحصول الشرط المذكور.
2 ـ ان يكون المنفي موضوعا لأحكام شرعية ك ـ (لا شك لكثير الشك ) و(لا شك للامام مع حفظ الماموم ) والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك عدم ترتب ذلك بالنسبة الى الحصة الخاصة .
3 ـ ان يكون المنفي متعلقا للحكم كـ (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) و(لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة)، و(لا ربا بين الوالد والولد) والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي ثبوت الحكم لها ايجابا أو تحريما ، ومرجعه الى اشتراط المتعلق بالشرط المذكور.
4 ـ أن يكون المنفي نفس الحكم الشرعي كما في (كل شيء لك حلال ) و(رفع ما لا يعلمون ) بناء على كون (ما) كناية عن الحكم الواقعي ، اذ لا يراد بمثل هذه الألسنة التصويب ودوران الاحكام مدار علم المكلف وجهله ، ولا ثبوت حكم ظاهري في موردالجهل بالحكم الواقعي ـ كما عليه كثير من الاصوليين ـ بل مفادها عدم ترتب اثر الحكم ، كاستحقاق العقوبة على مخالفته في ظرف الجهل بوجوده ارشادا الى عدم كون الحكم بحد من الاهمية بحيث يكون احتمال وجوده منجزا له ، وقد أوضحنا ذلك في مبحث اصالة البراءة .
5 ـ ان يكون المنفي انتساب المعنى الى المكلف ـ كما في حديث الرفع ـ اذا كانت (ما) كناية عن الفعل دون الحكم ، وذلك بناءً على المختار من أنه لا يعني رفع الفعل في حدّ نفسه ، ولذلك لا يرتفع الحكم فيما كان الأثر مترتبا على نفس الفعل من دون اعتبار صدوره من الفاعل ، كما لو القى
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 238 ـ
النجس في الماء عن اكراه ، فإنه ينجس الماء حينئذ لكون نجاسة الماء اثرا لنفس الملاقاة بالمعنى اسم المصدري . وانما المقصود بذلك نفي انتسابه الى المكلف فيرتفع الأثر المترتب على ذلك كبيع المكره وطلاقه .
6 ـ ان يكون المنفي طبيعة توهم تسبيب الشارع الى تحققها سواء كانت متعلقا للحكم أو معلولا له في وعاء الخارج ، من قبيل ما لوقيل :(لا حرج في الدين ) فان الحرج ليس متعلقا للحكم ، وانما هو امريترتب على الحكم فيكون المقصود بنفي الطبيعة حينئذ نفي جعل الحكم المؤدي اليها، ولكن عبرعن نفيه تنزيلا بنفي تحقق الطبيعة خارجا.
هذه هي موارد النفي التنزيلي وما ذكرناه انما هو خصوص ما كان منها من قبيل الحكومة، بأن كان نظر المتكلم في نفيه التنزيلي للمعنى الى فكرة مخالفة لمؤدى الكلام ـ على ما هومعيار الحكومة على التحقيق كما يأتي ـ.
وهناك مورد سابع لا يندرج في الحكومة وهو حيث يستفاد منه الزجر والتحريم المولوي من قبيل قوله تعالى : ( لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (1) وضابطه ـ كما يظهر مما تقدم ـ أن يكون مصب النفي طبيعة تكوينية ذات آثار خارجية يرغب المكلفون فيها لانسجامها مع القوى الشهوية أو الغضبية للنفس ، من دون ان يكون هذا الخطاب مسبوقا بحكم مخالف له ولو توهما كالأمر بعد الحظر أو بعد توهمه .
ووجه عدم اندراج هذا المورد في الحكومة كونه مقيدا بعدم سبق حكم مخالف له ولو توهما ، ومع هذا القيد لا يمكن ان يتوفرفيه الشرط السابق من نظر المتكلم الى فكرة مخالفة ، ووجه تقييده بذلك انه لو سبق الخطاب حكم آخر، كان مفاده هدم ذلك الحكم ونفي التسبيب الى الطبيعة ، فيندرج حينئذ
(1) البقرة : 2 | 197 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 239 ـ
في المورد السادس من الموارد السابقة .
ويلاحظ ان سر اختلاف المحتوى في اكثر هذه الموارد قد تقدم ايضاحه مفصلا في ذكر الضابط العام لاختلاف محتوى صيغ الحكم عند ذكر المسلك المختار في الحديث ، ويظهر الحال في الباقي ايضا على ضوء ذلك .
هذا وهناك تقسيم اخر لموارد الحكومة يتردد في كلمات المحقق النائيني ومن وافقه (1) وملخصه : ان الدليل الحاكم على قسمين :
1 ـ ان يكون شارحا لعقد الوضع من الدليل المحكوم ، والمراد بعقد الوضع ما يعم موضوع الحكم ومتعلقه كحديث (لا ربا بين الوالد والولد) بالنسبة الى دليل حرمة الربا وفساده ، فان الربا متعلق للحرمة وموضوع للفساد.
2 ـ ان يكون شارحا لعقد الحمل منه ـ وهو الحكم ـ ومثل له بـ (لا ضرر) بناءً على مختاره (قده ) من ان الضرر عنوان ثانوي للحكم ، وقد ذكر أن هذا القسم اظهر افراد الحكومة ، لأن هدم الموضوع يرجع بالواسطة الى التعرض للحكم .
ولكن هذا التقسيم غيرتام .
اما أوّلاً: فلان كون القسم الثاني من قبيل الحكومة مبني على مبناه من ان مناط الحكومة هو النظر الى دليل آخر، وأما على المختار من ان مناطه ان يكون لسان الدليل لسان مسالمة مع العام فلا يكون منها لان لسان الدليل في هذا القسم لا محالة لسان معارضة ، لانه ينفي ما يثبته العام صريحأ ، مع ان التمثيل لهذا القسم بحديث (لا ضرر) انما يتجه على مبناه وهو غير تام
(1) لاحظ رسالة (لا ضرر) تقريرات المحقق النائيني : 3 1 2 وفوائد الاصول 4 : 592 ـ 593 مفصلاً ، وأجود التقريرات 2 : 2 6 1 ـ 63 1 و505 ـ 7 0 5 ، ومصباح الاصول 2| 1 4 5 ـ 542.
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 240 ـ
كما مر ، وسيتضح القول في ذلك تفصيلاً.
واما ثانياً : فلان القسمة غير حاصرة، إذ لا يشمل مثلاً ما اذا كان الدليل الحاكم متعرضاً لنفي ما يكون معلولا للحكم في الخارج ك ـ (لا حرج في الدين ) .
الجهة الثالثة: في حقيقة الحكومة التضييقية مع المقارنة بينها وبين التخصيص .
ان الصفات التي يتصف بها الدليل ـ كالحكومة والورود والتزاحم والتعارض ـ تنقسم الى قسمين :
ففئة منها يتصف بها الدليل بلحاظ محتواه ـ أعني مدلوله التفهيمي ـ كحالة التعارض والورود ، فان التعارض مثلاً ليس الاّ حالة تصادم بين المدلولين التفهيميين للدليلين ، ولذا لا يتحقق التعارض بين قولين يتحد المدلول التفهيمي لهما وان اختلف المراد الاستعمالي فيهما ك ـ (زيد جواد) و(زيد كثير الرماد) وكذلك الورود فان ورود احد الدليلين على الآخر انما هو باعتبار واقع مؤداه من غير اعتبار باسلوب الدليل .
وهناك فئة اخرى يتصف بها الدليل بلحاظ أسلوبه ولسانه في التعبير عن المعنى، لا بلحاظ واقع مؤداه ومحتواه ، ولذلك يمكن ان يتصف الدليلان المتماثلان في المحتوى بوصفين متقابلين من هذه الفئة لمجرد الاختلاف في الاسلوب .
ومن هذه الفئة على ما نراه هي الحكومة والتخصيص .
فحقيقة الحكومة إنما هي تحديد العموم بأسلوب مسالم معه وهو اسلوب التنزيل والكناية ـ الذي هو اداء للمعنى بلسان غير مباشر ـ كنفي الملزوم استعمالا مع ارادة نفي ما يتوهم لازمأ له ، وانما كان ذلك اسلوب مسالمة لأن الدليل الحاكم الذي يصاغ بهذا الاسلوب لا يمثل محتواه
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 241 ـ
المعارض للعام المحكوم ـ بلسان معارض معه ـ بأن يثبت ما نفاه العام أو ينفي ما أثبته ، وانما يؤدي ذلك بلسان منسجم معه حيث يمثل نفسه على انه بيان لحدود الموضوع وعدم تحققه في المورد ـ مثلاً ـ ليتمثل انتفاء الحكم في المورد انتفاءً طبيعيا باعتبار عدم تحقق موضوعه ، فهويتضمن نحوا من الالتواء وعدم الصراحة في أداء المعنى .
وحقيقة التخصيص على العكس فإنها عبارة عن تحديد العموم باسلوب معارض معه وهو اسلوب الصراحة بأن ينفي ما يثبته العام أو يثبت ما ينفيه صريحا، من غير أن يلجأ الى طريقتن غير مباشرة كان ينفي الموضوع لينتهي بذلك الى نفي الحكم ، فالدليل المخصص ـ على خلاف الحاكم ـ يعكس معارضة محتواه مع العموم فيكون مفاده استعمالا موافقا لما يراد به تفهيما من دون لف ودوران في عرض المعنى .
وبذلك يظهر ان الحاكم والمخصص أسلوبان مختلفان في أداء المعنى الواحد وتفهمه فقول الشارع (لا يجب اكرام العالم الفاسق ) وقوله (العالم الفاسق ليس بعالم ) كلاهما يدلان على معنى تفهيمي واحد وهوعدم وجوب اكرام العالم الفاسق ، لكنهما يختلفان في المراد الاستعمالي أي في اسلوب التعبيرعن نفي الحكم حيث يؤديه الأول صراحة والثاني على نحو الكناية من غيرتصريح ، وذلك تفنن أدبي في اساليب إبراز المعنى الواحد .
هذا ولكن هناك اتجاه آخر في حقيقة الحكومة هو المعروف بين الاصوليين ، وهو ان قوام الحكومة بنظر أحد الدليلين الى الدليل الآخر وسوقه قرينة شخصية لبيان المراد من ذلك الدليل سواء كان ذلك بلسان التنزيل كما في نفي الحكم بلسان نفي موضوعه أم لا كما لوجعل الحكم المضاف الى العام منفيا عن حصة أوفرد من الموضوع كأن يقال (وجوب إكرام العلماء غير ثابت للفاسق أو لزيد) لان هذا اللسان ناظر الى اثبات الحكم للعام .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 242 ـ
ولكن هذا الاتجاه ليس بصحيح عندنا وتوضيحه : ان لكل باب مورداً متيقناً له ، يكون أساسا في تحليل ذلك الباب وماخذا لملاكه وتحديده ، كموارد قصور القدرة اتفاقا بالنسبة الى باب التزاحم مثلا ، فكل تحليل لأي باب إنما يصح ـ بعد تمامية تصوره في حدّ نفسه ـ اذا أمكن شموله للمورد المتيقن للباب ، ولا ضير بعد ذلك لاندراج موارد أخرى تحت الباب وعدم اندراجها، والاّ لم يكن تحليلا لذلك الباب وانما يكون تحديدا لظاهرة اخرى .
وموارد التنزيل بالنسبة الى الحكومة من هذا القبيل فانها هي القدر المتيقن لها فلا يصح أي تحليل للحكومة الاّ اذا تم اندراج موارد التنزيل فيه وليس بامكان احد أن ينكر تحقق الحكومة في موارد نفي الحكم بنفي موضوعه من قبيل قوله (العالم الفاسق ليس بعالم ) مثلاً.
والاتجاه المذكور غير قادر على ذلك ، لان لسان التنزيل لا يقتضي نظرا الى دليل آخر أصلا لا بالمطابقة ـ كما هو واضح ـ ولا بالالتزام ، لأن دلالته عليه بالالتزام انما تتم لوكانت صحة هذا اللسان لغة أو بلاغة تقتضي نظره الى دليل آخر، وليس الأمر كذلك ، فان صحة هذا اللسان لغة انما تتوقف على وجود تناسب بين المعنى الاستعمالي والمراد التفهيمي ـ كما هو شأن كل اعتبار ادبي ـ ولا تعلق لذلك بالنظر الى دليل آخر.
كما ان صحته بلاغة ـ بمعنى النكتة المصححة للعدول الى هذا اللسان من اللسان الصريح ـ انما هي الحذر من مواجهة احساسات المخاطب ضد الكلام حيث يكون ثبوت الحكم لموضوعه بنحو عام مرتكزا في ذهنه ولا أهمية لوجود دليل آخر وعدمه في ذلك ، وسوف يتضح هذا من خلال التعرض للمصحح اللغوي والبلاغي لهذا اللسان ، ثم سنعود الى بيان الموضوع بعد ذلك تفصيلا .
الجهة الرابعة : في المصحّح اللغوي للسان التنزيل .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 243 ـ
ان الاعتبار التنزيلي اعتبار أدبي يختلف فيه العنصر المعنوي عن العنصر الشكلي للكلام وكل اعتبار أدبي بحاجة الى مصححين لغوي وبلاغي .
1 ـ فالمصحح اللغوي : هو العلاقة والتناسب بين المعنى الاعتباري (المجازي ) والمعنى الحقيقي ، وذلك انه كلما عبّر عن معنى خاص بعنصر شكلي يختلف عنه فإنه لا بد من تسانخ وتناسب بين الأمرين ليصح بذلك التعبير عن المعنى المراد بالشكل الخاص ، وبدون توفر ذلك لا يصح استعمال اللفظ في التعبير عن المراد لغة بل يكون خطأ ... وقد تعرضنا لمصحّح الاستعمال المجازي وحدوده بنحو عام في مباحث الألفاظ .
2 ـ والمصحح البلاغي : ـ وقد يعبر عنه بالنكتة البلاغية أو وجه العدول عن التعبير الحقيقي ـ وهو الجهة التي توجب اداء المعنى بنحو الاعتبار الأدبي دون التصريح ، وذلك لان العدول عن التعبير الحقيقي وان كان يصح لغة من دون نكتة لوجود المصحح اللغوي للاستعمال ، الاّ أن مقتضى البلاغة اختيار التعبير الصريح في اداء المعنى ما لم يوجد دافع لاستعمال التعبير المجازي .
ويتضح الفرق بين المصححين في المثال الآتي :
اذا عبرنا عن زيد بالأسد ، فالمصحح اللغوي لهذا التعبير هو التشابه بينهما في صفة الشجاعة ولكن المصحح البلاغي لذلك هو قصد تحقيق نفس الإحساس الموجود تجاه الأسد بالنسبة الى زيد.
والمصحح اللغوي لاسلوب التنزيل هو احدى نكتتين :
1 ـ النكتة الأولى : التناسب الكائن بين التسبيب الى عدم تحقق الطبيعة في الخارج وبين المفاد الاستعمالي لصيغة النفي من انتفائها خارجاً ، فحيث كان المعنى المراد مصداقاً للتسبيب الى عدم تحقق الطبيعة صحّ ان
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 244 ـ
يكون محتوىً لصيغة النفي على اساس التناسب المذكور.
وأوضح مصداق للتسبيب الى ذلك هو تحريم الطبيعة تحريماً مولوياً لا سيما اذا انضم الى ذلك تشريع اتخاذ وسائل اجرائية للصد من تحققها خارجاً كما هو مفاد مقطع (لا ضرار) من حديث (لا ضرر ولا ضرار) على ما سبق توضيحه .
ولكن لا ينحصر مصداقه بذلك ، بل يتحقق في الموارد التالية ايضا :
1 ـ فصل الماهية الاعتبارية عن اثارها الوضعية التي تترتب عليها عقلاءً ـ كما في المورد الأول من الموارد السابقة للنفي التنزيلي ، فهذا المعنى يكون مصداقاً للتسبيب الى عدم الماهية خارجاً باعتبار ان مطلوبية مثل هذه الماهيات كالعقود والايقاعات ليست لذاتها ، بأن تكون في حدّ انفسها مما يدعو اليها قوة نفسية للانسان ـ كالغضب والشهوة ـ وانما هي لأجل تلك الآثار التي تترتب عليها فاذا فصلت عنها كان ذلك موجباً لزوال الرغبة ومؤدياً الى انتفاء الماهية خارجاً.
ولأجل ذلك قلنا فيما تقدم ان استعمال صيغة النهي في مثل هذا المورد ليس مجازاً لان فصل الطبيعة عن آثارها يوجب انزجار المكلف عنها بالامكان فيكون الزجر عنها زجرا حقيقياً طبعاً .
2 ـ تحديد الماهية التي هي متعلق للأمر المولوي ـ كما في المورد الثالث من الموارد السابقة للنفي التنزيلي ـ.
وهذا المعنى أيضا يكون مصداقا للتسبيب الى عدم تحقق الماهية، وذلك من جهة ان الرغبة الى الماهية في هذا المورد أيضأ ليست لذاتها وانما لأجل امتثال الأمر وتفريغ الذمة عن المأمور به ، فاذا حدد الشارع الماهية المأمور بها وأخرج منها حصة خاصة كان ذلك موجبا لزوال الرغبة عن تلك الحصة ومؤدياً إلي انتفائها خارجا .
ولذلك ايضا قلنا بان استعمال صيغة النهي في هذا المورد ليس مجازا
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 245 ـ
ـ نظير ما سبق في المورد السابق ـ بنفس النكتة .
ويجمع هذين الموردين أمران :
أولاً : ان كون محتوى النفي فيهما مصداقا للتسبيب الى عدم الماهية انما هو على أساس استلزامه لانتفاء السبب الى تحقق الماهية حيث كانت الرغبة اليها لا لنفسها وانما لجهة خاصة فاوجب محتوى النفي زوالها .
وثانياً : إن التسبيب فيهما تسبيب حقيقي ولوعرفا ـ على خلاف المورد الثالث الأتي ـ وذلك من جهة ان إعدام العلة سبب لعدم معلولها، ومحتوى النفي فيهما موجب لعدم العلة في تحقق الماهية ـ وهي الباعث عليها والمرغب فيها ـ .
1 ـ هدم الحكم الموجب لتحقق الماهية التي هي مرغوب عنها في حد نفسها، وفي قوة الهدم بيان عدم وجود مثل هذا الحكم حيث يتوهم أو يحتمل وجوده ، وذلك كما في المورد السادس من الموارد السابقة للنفي التنزيلي .
وهذه الجهة أيضاً مصداق للتسبيب الى عدم تحقق الماهية لأن الماهية حيث كانت مرغوبة عنها لذاتها لم يكن هناك سبب لإيجادها، الا ثبوت حكم موجب لها وحيث ان هدم الحكم أو بيان عدم وجوده يزيل هذا السبب كان ذلك مؤديا الى عدم ايجاد الماهية .
لكن هذا مصداق تنزيلي للتسبيب وليس حقيقياً ـ كما فى الموردين الأولين ـ لأن السبب الحقيقي لعدم الماهية في هذه الحالة انما هي الرغبة الطبيعية عنها، وانما كان وجود الحكم الموجب لها أوتوهم وجوده مانعا عن فاعلية نلك الرغبة ، وبهدم الحكم أو بيان عدمه يزول هذا العائق .
2 ـ النكتة الثانية : تناسب واجدية حصة من الماهية لنقص أو فقدها لكمال ، فان ذلك يصحح نفي تحقق الماهية بها تنزيلاً لوجودها منزلة
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 246 ـ
عدمها، ومن هذا القبيل نفي الانسانية عمن لم لكن له أخلاق فاضلة .
وتنطبق هذه النكتة ايضاً في موارد :
1 ـ اذا كان المنفي موضوعاً لحكم شرعي كما في المورد الثاني من الموارد السابقة للنفي التنزيلي ، وذلك كما لو قيل (الفاسق ليس بعالم ) بعد ما قيل (اكرم العالم ) فان الفسق حيث كان صفة نقص في العالم صح نفي العالم في حالة وجوده تنزيلا، وهكذا قوله (لا شك لكثير الشك ) فان كثرة الشك لما كانت توجب نقصا في اعتبار الشك وقيمته صحّ نفي تحقق أصل الشك معها .
2 ـ اذا كان المنفي حصة من ماهية منهي عنها ـ كما في بعض أقسام المورد الثالث من الموارد المذكورة ـ ك ـ (لا ربا بين الوالد والولد) فان الحق العظيم الذي يثبت للوالد على الولد يوجب كون الزيادة ـ المسماة بالربا ـ كلا زيادة بالنسبة اليه .
3 ـ اذا كان المنفي نفس الحكم الشرعي لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته ـ كما في المورد الرابع من تلك الموارد ـ فان عدم الاستحقاق حيث انه صفة نقص في الحكم عرفا صح نفيه تنزيلا.
وتتجلى هذه النكتة في الحكومة بلسان الاثبات إذا كان المعنى المثبت صفة نقص كما لو قيل ان (ولد الكافر كافر) فإن إثبات تلك الصفة تنزيلا يكون على أساس نقص مناسب لتلك الصفة وهي كون الانسان ولداً للكافر الذي يعد صفة نقص فيه .
واما اذا كان المعنى المثبت صفة كمال فتنطبق فيها نكتة أخرى هي عكس تلك النكتة وهي واجدية الشيء لكمال يناسب تلك الصفة كما لوقيل ان (ولد المسلم مسلم ) فان كون الانسان ولداً لمسلم تعتبر صفة كمال فيه وهي تناسب الصفة المثبتة له من الاسلام .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 247 ـ
ويلاحظ ان هذه النكتة قابلة للتطبيق في بعض موارد النكتة الأولى : فمثلا يمكن أن يقال في (لا صلاة الا بطهور) ـ وهو مما يندرج في المورد الثاني منها ـ إن مصحح النفي فاقدية الصلاة في هذه الحالة لكمال وهي ا لاقتران بالطهارة .
فظهر مما ذكرنا: انه لا يمكن ان يكون ادّعاء اقتضاء لسان التنزيل للنظر الى دليل آخر مبنياً على اقتضاء المصحح اللغوي للتنزيل لمثل هذا المعنى ، فان المصحح للتنزيل في كل اعتبار ادبي هو التسانخ بين المراد الاستعمالي والمراد التفهيمي وليس للنظر دخل في ذلك .
الجهة الخامسة : في المصحح البلاغي للسان التنزيل .
قد ذكرنا في الأمر السابق ان البلاغة تقتضي اختيار المتكلم للاسلوب الصريح في مرحلة أداء المعنى ورفض الأساليب الملتوية والمعقدة، لأن الاسلوب الصريح أسلوب طبيعي وواضح في الأداء والتفهيم ، ولذلك لا بد ان يكون العدول عن هذا الاسلوب واختيار اسلوب التنزيل والكناية في موارد الحكومة مبنيا على مصحح بلاغي من مراعاة جهة تتوفر في هذا الاسلوب دون الاسلوب المباشر الصريح .
وبما ان هذا الاسلوب أسلوب أدبي ، فنشير أولاً الى النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية ثم نتعرض لتحليل النكتة في مقامنا هذا على ضوء ذلك:
1 ـ اما النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية فهي التصرف بمشاعر المخاطبين وعواطفهم واحساساتهم باختيار أسهل طرق التعبير وأحسنها واوفاها، ليصل المتكلم من خلالها الى مقاصده بصورة لا تجرح ولا تمس تلك الأحاسيس والعواطف ، بل ليستفيد منها في الوصول الى مقاصده تلك .
وهذه الجهة هي فلسفة البلاغة وسرها . ولا بدّ في ذلك من ملاحظة الحالات النفسية للمخاطبين فيما يتعلق بالموضوع بنحو عام ليتسنى التفاعل معها
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 248 ـ
تفاعلا مناسبا ولأجل هذا المعنى كان علم البيان في الحقيقة من العلوم النفسية .
وقد يقتضي ما ذكرنا اختيار أساليب مختلفة حسب اختلاف المقامات ، ولذلك عرف هذا العلم بانه (علم يعرف به أداء المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة وخفائها) الاّ ان الصحيح ان يقال في التعريف (بطرق مختلفة في التأثير في النفس شدّة وضعفاً) لان سر الاختلاف في الاسلوب ليس اختلاف الأساليب في مستوى الوضوح وانما منشأه اختلافها في الوقع والتاثير النفسي المطلوب حصوله في نفس المخاطب ونوعه .
فالتعبير الحقيقي والتشبيه والاستعارة مثلا أساليب تختلف في درجة اثارة المعنى في نفس المخاطب كما لو قيل (زيد شجاع ) أو(زيد كالأسد) أو (جاء الاسد)، فإثارة الاستعارة للاحساس بشجاعة زيد اقوى من اثارة التشبيه كما ان اثارة التشبيه بدورها اقوى من إثارة التعبير الحقيقي .
واما النكتة الموجبة لاختيار أسلوب الكناية من قبل الشارع في مقام بيان تحديد الحكم فهي ترتكز على أمرين :
أحدهما : اختلاف هذا الاسلوب عن أسلوب التصريح في نوع إثارة المعنى ، ويظهر ذلك فيما لو استخدمنا هذين الاسلوبين في مقابل فكرة عامة مخالفة لمحتواهما، فاسلوب التصريح ـ بلحاظ انه يمثل المعنى على ما هو عليه ـ يكون جارحا لتلك الفكرة معارضا لها ، ولذا قلنا إن لسانه لسان المعارضة مع العام واذا كان المخاطب بالكلام مقتنعا بتلك الفكرة المخالفة وكان الترابط بين الحكم والموضوع ـ مثل ـ في ذهنه ترابطاً وثيقا، فان مواجهته بهذا الاسلوب يثير احساسه ضد مؤدى الكلام طبعا فيوجب انكاره أو استنكاره له ، من جهة كون ذلك مجابهة واضحة مع ما ارتكز في ذهنه من الارتباط بينهما.
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 249 ـ
واما اسلوب الكناية فإنه يثير المعنى بنحو لا يمس باعتقاد المخاطب ومشاعره واحساسه ، لان مظهره مظهر المسالمة والاعتراف بتلك الفكرة حيث !نه ينفي تحقق الموضوع مثلا ليترتب عليه انتفاء الحكم انتفاءً طبيعيا، وبذلك يخيل المتكلم لمخاطبه بانه لا يعارض اعتقاده بثبوت الحكم للموضوع ، بنحوعام بل يقره عليه ويعترف له به حتى كانه لوكان الموضوع متحققا في المورد لثبت الحكم.
وبذلك يكون المعنى أوقع في نفس المخاطب وأقرب الى قبوله واذعانه .
وبهذا يظهر اختلاف هذين الاسلوبين في نوع التأثير الاحساسي .
الأمر الثافي : اختلاف المواضيع التشريعية التي يتعرض لها الدليل الحاكم أو المخصص في ارتكاز فكرة مخالفة لمؤداه في ذهن المخاطب وعدمه .
فقد يكون المخاطب بالدليل خالي الذهن عن اية فكرة عامة مقابلة، أو يكون له فكرة مقابلة الا انها غير مرتكزة في ذهنه ، فتزول بمجرد اطلاعه على الدليل ـ حتى وان كان له مستند في تلك الفكرة من عموم أواطلاق ـ .
ففي هذه الحالة لا مصحح بلاغي للتعبير بلسان الحكومة حتى وان كان هناك عموم أو اطلاق على خلاف مؤدى الدليل ـ بل المناسب ان يعبر المتكلم بلسان صريح بعدم وجوب اكرام العالم الفاسق مثلا لوكان الدليل الأول هو (اكرم العلماء)، ولا موجب لأن ينفي عنه العلم لينتج عدم وجوب اكرا مه .
وقد يكون المخاطب بالدليل ذا ارتكاز ذهني في الموضوع على خلاف مؤدى الدليل ـ والمراد بالارتكاز الفكرة الثابتة في الذهن الراسخة في عمقه بحيث يصعب رفع اليد عنه احساساً، وان اطلع على دليل على
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 250 ـ
خلافه ـ.
وفي هذه الحالة يعدل المتكلم البليغ عن النفي الصريح للحكم الى لسان النفي غير المباشر ، تجنباً عن إثارة مشاعر المخاطب وأحاسيسه واختياراً لأحسن طرق التعبير مع الجمهور وأسهلها ، لجلبهم الى المقاصد المنشودة حيث يشتد الارتباط الاحساسي في اذهانهم ويصعب تفكيك شمول الحكم وعزله عن بعض الحصص .
ويلاحظ أن منشأ الارتكاز الذهني لا يكون امراً ادراكياً محضا كقيام عموم أو اطلاق ، لأن ذلك بمجرده لا يستدعي مقاومة ذهنية للمخاطب في مقابل الدليل الحاكم ، بل يرتفع الاعتقاد الإدراكي بقيام ذلك .
وانما يكون منشأه امراً احساسياً يستوجب ثبوت المعنى في نفس المخاطب واستقراره في ذهنه وتعلقه به ، وذلك لأحد أمور:
1 ـ شدة مناسبة الحكم والموضوع في الأذهان ، كما لو اراد الشارع تحديد حكم وجوب اكرام العالم وكان المجتمع يرى انه لا يمكن ان يكون هناك عالم لا يجب اكرامه لما في نفوسهم من احساس الاحترام والتقدير بالنسبة الى العلماء، وحينئذ لما كان الشارع لا يريد أن يجابه مثل هذه المرتكزات الذهنية بصورة علنية فانه يقول (الفاسق ليس بعالم ) .
ويمكن تخريج كثير من الامثلة السابقة في الامر الثاني على هذه النكتة وذلك من قبيل (لا طلاق الا باشهاد) فان استعمال هذا الاسلوب في هذه الجملة ربما كان بلحاظ شدة المناسبة بين الطلاق الانشائي والطلاق الشرعي ، وكذلك نفي المتعلق في (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) ربما كان باعتبار شدة التناسب بين الصلاة وبين المطلوبية شرعاً، وهكذا نفي الحكم في (رفع ما لا يعلمون ) ربما كان باعتبار ما انغرس في الاذهان من أن الحكم الشرعى يرجب الموافقة له عقلا.