عز وجل يوم القيامة وهو عنه معرض )(1)، وجاء م يضا (الحيف في الوصية من الكبائر (2) و(إن الضرار في الوصية من الكبائر (3) .
هذا ولكن يلاحظ عليه ان هذا التفسير لوتم فيما يتضمن زيادة (في الإسلام ) ، فإنه لا يتم فيما لم يشتمل عليها وقد ثبت الحديث بدون الزيادة في روايات معتبرة على ما تقدم ، بل لم يظهر من الصدوق تفسيره للحديث بدون الزيادة بهذا المعنى لاسيما أنه لم يعلم بثبوت الحديث مع الزيادة لديه لكي يكون معناه معها قرينة على معناه بدونها ـ إذ ذكره لهذا الحديث إنما كان بغرض الاحتجاج على العامة كما تقدم توضيحه ـ.
مضافا إلى أن حمل الحديث على المعنى المذكورمخالف للظاهر جدا ، فإن تفسير (في ) و(الإسلام ) بما ذكرناه في تقريره خلاف المنساق منه ، كما لايخفى .
(1) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 4562 2 ص 4 26 .
(2) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 63 5 4 2 مر 267 .
(3) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 24564 و24565 ص 268 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 202 ـ
(الفصل الثالث ) : في تنبيهات القاعدة
التنبيه الأول : في عدة اشكالات في قضية سمرة عمدتها الإشكال في كيفية انطباق القاعدة عليها .
إن قضية سمرة ـ كما سبق ـ هي أهم قضية تضمنت حديث (لا ضرر ولا ضرار) ، ولكنها وقعت موردا للإشكال من عدّة وجوه :
الوجه الأول : انه لماذا منع صلى الله عليه واله سمرة من الدخول دون استئذان مع أنه كان له حق الاستطراق إلى نخلته ؟ وهذا الإشكال يظهر من كلام الشيخ الصدوق (قده ) في الفقيه ، وأجاب عنه بانه لم يثبت حق الاستطراق لسمرة أصلا فكان دخول سمرة إضرارا محضاً ، قال بعد نقل خبر أبي عبيدة الحذاء الماضي :
(وليس هذا الحديث بخلاف الحديث الذي ذكرته في أول الباب من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله في رجل باع نخله واستثنى نخلة فقضى له بالمدخل إليها والمخرج منها، لأن ذلك فيمن اشترى النخلة مع الطريق إليها وسمرة كانت له نخلة ولم يكن له الممر إليها) (1) ومقصوده بالحديث الذي أشار إليه ما رواه عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وآله في رجل باع نخله واستثنى نخلة فقضى له بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها.
ولكن هذا الجواب غير تام ـ كما تنبه له العلامة المجلسي في مرآة
(1) الففيه 3 | 59 بعد الحديث 208 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 204 ـ
العقول (1) ـ فإن الظاهر أنه كان لسمرة أيضا حق الاستطراق إلى نخلته في الجملة ، لكنه إنما منع عن الدخول بدون استئذان لأن قاعدة (لا ضرر) حددت هذا الحق بما لا يوجب ضررا بالأنصاري كما مر ذلك .
الوجه الثاني : انه ما هو توجيه أمر النبي صلى الله عليه وآله بقلع نخلة سمرة ؟ مع أنه لا يجوز شرعاً التصرف في مال الغير بدون إذنه ، وليس في القواعد الشرعية ما يبرر ذلك حتى قاعدة (لا ضرر) لأن مفاد القاعدة إن كان مجرد تحريم الإضرار بالغير فهذا إنما يقضي بحرمة دخول سمرة بدون الاستئذان ، حيث كان ذلك إضراراً بالأنصاري ولايقتضي قلع نخلته ، وإن كان مفادهانفي جعل الحكم الضرري فإن مجرد حق سمرة في بقاء نخلته في ملك الأنصاري ليس ضرراً على الأنصاري لكي يكون مرفوعا بهذه القاعدة فيسوغ قلعها ، وإنما الحكم الضرري في ذلك هو في الاستطراق بدون الاستئذان من الأنصاري ، أو جواز ذلك فيكون هذا الحق أو الجواز هو المرفوع بمقتضى هذه القاعدة بلا حاجة لقلع نخلته .
ويمكن الجواب عن هذا الوجه ـ مضافا إلى ما سيأتي في نقد الوجه الثالث من بيان إمكان تبرير هذا الأمر بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ـ إنه يمكن أن يكون هذا الأمر حكما ولايتيامن قبل النبي صلى الله عليه وآله بلحاظ ولايته في الأمور العامة ، لأن قلع وسيلة الإضرار من الأمور العامة التي يتوقف عليها حفظ النظام فيحق ذلك له بما أنه حافظ للنظام وإن لم تكن له ولاية عامة على الأموال والأنفس .
وبذلك يتضج النظر في كلام المحقق النائيني ومن وافقه (2) من تخريج
(1) مرآة العقول 9 1 | 9 39 ـ 400 تعليقات على الخبر 8 .
(2) لاحظ تقريرات العلامة الخونساري : 209 و210 ومصباح الاصول 2 |23 5.
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 205 ـ
هذا الأمر على الولاية العامة على الأموال والأنفس فإن مجال الولاية العامة الثابتة للنبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى عليهم السلام إنما هو المواضيع التي لا يتوقف عليها حفظ النظام وهي المسماة بالولاية العامة وأما الولاية في ما يتوقف عليه حفظ النظام فهي المسماة بالولاية في الأمور العامة الثابتة للفقيه المتصدي للأمور العامة المنتخب من قبل الفقهاء .
الوجه الثالث : ـ وهو أهم الوجوه ـ إنه قد ورد في هذه القضية تعليل الأمر بالقلع ب ـ (لا ضرر ولا ضرار) ففي معتبرة عبدالله بن بكير ـ بنقل الكافي ـ (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار) مع ان هذه القاعدة لا تبرر الأمر بالقلع على ما سبق بيانه في الوجه الثاني ، وانما أقصى ما تقتضيه عدم ثبوت حق الاستطراق لسمرة دون استئذان لأن ذلك تسبيب إلى الضرر على الأنصاري لا أنها تقتضي قلع النخلة.
وقبل التعرض للجواب عن هذا الوجه نبحث عن جهة هي ان هذا الوجه على تقديرتماميته هل يؤدي فقط إلى إجمال كيفية انطباق الحديث على المورد بحيث ينحفظ الظهور الدلالي للحديث ويكون حجة فيه ، أو انه يمنع عن ظهوره في المعنى الظاهرمنه لولا هذا التطبيق وينتهي إلى إجمال أصل الحديث .
الظاهر من كلام الشيخ الأنصاري (قده ) في رسالة (لا ضرر) هو الوجه الأول حيث قال : (وفي هذه القضية إشكال من حيث حكم النبي صلى الله عليه وآله بقطع العذق مع ان القواعد لا تقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجب ذلك لكن ذلك لا يخل بالاستدلال )(1).
(1) رسالة (لا ضرر) المطبوعة في آخر المكاسب ص 372 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 206 ـ
وذهب المحقق النائيني (قده ) إلى الثاني واستغرب كلام الشيخ في
ذلك قائلا : (ومن الغريب ما أفاده شيخنا الأنصاري من أن عدم انطباق التعليل على الحكم المعلل به لا يخل بالاستدلال ، فإن ذلك يرجع إلى أن خروج المورد لا يضر بالعموم فيتمسك به في سائر الموارد، مع أنك خبير بان عدم دخول المورد في العموم يكشف عن عدم إرادة ما تكون العلة ظاهرة فيه ، وهذا مرجعه إلى الاعتراف بإجمال الدليل )(1) .
وهذا هو الصحيح وتوضيحه : ان معنى الكلام إنما يستقر ويتحدد في ظل تفاعله الدلالي مع جميع ما يتصل به من ملابساته وشؤونه ، فلابد في تعيين معنى كتفسير للكلام من ملاحظة مجموع هذه العوامل ، ومن المعلوم ان التعليل والحكم المعلل به ـ أو الكبرى والتطبيق ـ ليسا معنيين مستقلين في الكلام حتى ينفصل مصيرهما الدلالي ، ويقتصر إجمال أحدهما على نفسه من دون أن يتجاوز إلى الاخر، بل هما معنيان مترابطان يعتبر كل منهما من ملابسات الآخر، فلا يتم لأحدهما معنى أو تحديد إذا لم يكن ذلك منسجما مع الثاني ، ولذا يكون عموم العلة وخصوصها موجبا لعموم الحكم وخصوصه ، وعلى هذا فإذا كان الحكم المعلل به لا ينسجم مع تفسير التعليل على وجه ، فإنه ينتهي إلى عدم ظهور التعليل في ذلك المعنى ، وإن كان ظاهرا فيه في نفسه لولا تطبيقه في المورد.
ففي المقام إذا فرضنا الحكم في المورد حكما مجعولا بلحاظ المصالح والمفاسد المتغيرة من باب الولاية في الأمور العامة أو الولاية العامة لا من باب الحكم الكلي الالهي فإنه يوجب كون التعليل حكمة أوعلة لمثل هذه الأحكام ولا يمكن أن يستفاد منه حكم كلي وقاعدة عامة .
(1) تقريرات العلامة الخونساري 209 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 207 ـ
وبعد اتضاح ذلك نقول : إنه قد يجاب عن الاشكال المذكور بوجوه :
الوجه الأول : ما ذكره المحقق النائيني (قده ) من إنكار المقدمة الأولى للاشكال وهي ورود (لا ضرر) تعليلاً للأمر بالقلع ـ قال (إن قوله (لا ضرر) ليس علّة لقطع العذق ، بل علة لوجوب استئذان سمرة ) وهذا القول ينحل إلى عقدين : عقد سلبي ـ هو الركن الأصلي للجواب ـ وهو عدم كون (لا ضرر) تعليلا للقلع ، وعقد إيجابي يتضمن اقتراحا بديلا عن كونه تعليلا للقلع ـ وهو انه تعليل لوجوب الاستئذان ـ.
ولا بدّ في تحقيق ذلك من الرجوع إلى الروايات التي تضمنت قضية سمرة مع جملة (لا ضرر ولا ضرار) لملاحظة مدى انسجامها مع ذلك ، وهي رواية ابن مسكان ورواية ابن بكير بنقل كل من الكافي والفقيه .
أما العقد السلبي : فيختلف مقتضى الروايات فيه .
فرواية ابن بكير بنقل الكافي صريحة تقريبا في تعليل الأمر بالقلع ب ـ (لا ضرر) ، إذ فيها (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار) فإن الفاء الداخلة على القاعدة يقتضي الارتباط بين الأمرين ، ولا معنى للارتباط بين القاعدة العامة والحكم الجزئي إلاّ بكون الأولى علة للثاني .
وأما روايته بنقل الفقيه فهي ظاهرة في ذلك إذ فيها (فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه ) وقال : (لا ضرر ولا ضرار) وتعقيب الحكم بقاعدة ظاهر في تعليله بها كما هوواضح .
(نعم ) : رواية ابن مسكان لا ظهور لها في كون (لا ضرر) تعليلا للأمر بالقلع ، لأنه ذكرقبل الأمربالقلع فقد جاء فيها : (فقال له رسول الله إنك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال ثم أمر بها رسول الله فقلعت ثم رمى بها إليه وقال له رسول الله : انطلق فاغرسها حيث شئت ) لكن لا يبعد أن
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 208 ـ
يكون ذكر الكبرى توطئة وتمهيدا لتطبيقها على المورد فيتحد مفاده مع مفاد رواية ابن بكير.
وبذلك : يظهر عدم تمامية هذا العقد من كلامه إذ اتضح أن (لا ضرر) قد وقع تعليلا له في الرواية المعتبرة من الروايتين - وهي رواية ابن بكير-على كلا النقلين فيها.
واما العقد الإيجابي : وهوكون (لا ضرر) تعليلا لوجوب الاستئذان ، وهو غير تام أيضا .
اما أولاً : فلما عرفت من أن معتبرة ابن بكيرقاضية بكونه تعليلا للأمر بالقلع بلامورد لاقتراح بديل عن ذلك .
واما ثانياً: فلأن بين الأمر بالاستئذان وذكر (لا ضرر) في كلتا الروايتين فصلا كثيرا مما يمنع عن اعتباره تعليلا لذلك .
ففي رواية ابن بكير بنقل الفقيه ... ويشبهه نقل الكافي (فأتى الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وآله فشكى إليه وأخبره ، فبعث إلى سمرة فجاء فقال له استاذن عليه فأبى وقال له مثل ما قال للأنصاري ، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله أن يشتري منه بالثمن فأبى عليه وجعل يزيده فيأبى أن يبيع ، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله قال لك عذق في الجنة فأبى أن يقبل ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه وقال : (لا ضرر ولا ضرار) ومثلها رواية ابن مسكان ، بل هي أكثر تفصيلا عن شرح معاملته صلى الله عليه وآله مع سمرة المتوسطة بين أمره بالاستئذان وبين قوله (لا ضرر ولا ضرار) .
فظهر بما ذكرنا أن المقدمة الأولى للاشكال تامة ولا يمكن الجواب عن الاعتراض بالنقاش فيها .
الوجه الثاني : النقاش في المقدمة الثانية بدعوى أن (لا ضرار)
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 209 ـ
مصحح للأمر بالقلع بتقريب : ان المراد ب ـ لفظ (ضرار) إنما هو وسيلة الإضرار بالغير على سبيل إطلاق المصدر على الذات مبالغة ك ـ (زيد عدل ) وعليه فيكون مفاد هذه الجملة أن كل شيء اتخذ وسيلة للاضرار بحيث لا يمكن رفع الضرر إلا بإزالته فيجب التصرف فيه بالاتلاف أو النقل أو غير ذلك مما يخرج عن صلاحية ذلك دفعا لذلك .
وبناء على هذا الاحتمال يكون الارتباط بين الأمر بالقلع وبين قوله (لا ضرر ولا ضرار) واضحا لأن بقاء نخلة سمرة في دار الأنصاري أصبح وسيلة لإضراره به ، ولم يكن بالامكان دفع الإضرار مع التحفظ على النخلة ـ كما سوف يأتي توضيحه ـ فجاز قلع النخلة تطبيقا ل(لاضرار) بناء على هذا التفسير.
وقد يؤيد هذا التفسير بقوله تعالى : ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) (1) .
وشأن نزول الاية كما ذكر في التفسير (2) ان جماعة من المنافقين بنوا مسجدا للتفريق بين المسلمين وإيقاع الاختلاف بينهم على أن يصلي جماعة منهم في هذا المسجد وجماعة أخرى في المسجد الذي كانوا يصلون فيه قبل ذلك ثم يوقعوا الاختلاف بين الفريقين لينتهي إلى ضعف المؤمنين وتشتت كلمتهم في مقابل الكفار، فنزلت الآية الشريفة تخبر عن نواياهم وتنهى عن القيام فيه ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك بهدم المسجد وإحراقه لكونه وسيلة للإضرار.
وقد ذكر في إعراب قوله (ضرارا) وجوه : (منها) : أن يكون مفعولا
(1) التوبة 1 | 107 .
(2) لا حظ مجمع البيان 3 | 72 و73 طبعة المرعشي .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 210 ـ
لأجله ، (ومنها) : أن يكون مفعولا مطلقا من قبيل (ضربت ضربا) بدعوى ان قوله ( الذين اتخذوا مسجدا ضراراً )(1) في قوة (الذين ضاروا به ضرارا ) (ومنها) : أن يكون ضرار مفعولاً ثانيا ل ـ (اتخذ) حملا للمصدر على الذات ، قال أبو البقاء في إعراب القرآن (ضراراً يجوز أن يكون مفعولا ثانيا اتخذوا) وكذلك ما بعده وهذه المصادر كلها واقعة موضع اسم الفاعل أي مضرا أو مفرقا ... (2)، وقد يكون هذا الوجه أقوى من الوجهين الأولين إذا كان اتخذ في اللآية من أفعال التحويل التي تأخذ مفعولين لأنه لا حاجة إلى تقدير المفعول الثاني على هذا الوجه بخلافه على الوجهين الأولين .
وعلى هذا الوجه تكون هذه الأية مناسبة لتفسير (ضرار) بوسيلة الإضرار في الحديث .
(هذا) ولكن هذا الوجه ضعيف لأن حمل (ضرار) على وسيلة الإضرار مخالف للظاهر فإنه مجاز.
الوجه الثالث : منع المقدمة الثانية أيضا ـ بما ذكره بعض الأعاظم(3) ـ وتقريره إن الإشكال إنما يتجه إذا فسر الحديث بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الإضرار مع اعتباره حكما أوليا وأما إذا فسرنا الحديث بالنهي عن الإضرار مع اعتباره حكما سلطانيا فإنه لا يتجه الاشكال ، إذ يكون مبنى الأمر بالقلع هوالنهي السلطاني المفاد ب ـ (لا ضرر) فيتم ذلك تعليلا للأمر بالقلع ، وعلى أساس هذا جعل عدم ورود الإشكال على التفسيرالمذكور دليلا على تعينه كمعنى للحديث كما تقدم .
(1) التوبة : 9 | 107 .
(2) املاء ما من به الرحمن 2|22 .
(3) الرسائل للامام الخميني (قده ) ص 50 وما بعدها.
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 211 ـ
لكن هذا الوجه غيرتام أيضا إذ يرد عليه مضافا إلى النقاش في أصل هذا التفسير على ما أتضح من الأبحاث السابقة انه لا فرق بين كون النهي أوليا أو سلطانيا في عدم صحة وقوعه تعليلا للأمر بالقلع ، فإن مفاد النهي على كل حال هوحرمة الإضرار بالغير، وهي لا تنتج إمكان الإضرار بالمضر كما هوواضح ولوفرض أنها تنتج ذلك لم يكن فرق بين نوع الحكم من كونه حكما مولويا أوليا أوحكما سلطانيا .
الوجه الرابع : ما يبتني على التفسير المختار لجملة (لا ضرار) من ان مفادها التسبيب إلن عدم الإضرار وهو ينحل إلى أمرين : أحدهما : سلب مشروعية الإضرار قانونا بجعله عملا محرما ، والثاني : اعطاء صلاحيات إجرائية للحاكم بما أنه ولي أمر المسلمين في اتخاذ الوسيلة المناسبة ـ خفة وتاثيرا وفق قوانين الشريعة المقدسة ـ لمنع تحقق الإضرار وهدم وسائله خارجا .
وهذا الجانب من مفاد (لا ضرر) يمكن أن يبرر أمر النبي صلى الله عليه وآله بقلع النخلة، وكان صلى الله عليه وآله قد أمر سمرة قبل اتخاذ هذه الخطوة التنفيذية بالاستئذان من الأنصاري أمرا له بالمعروف فلم يجده .
ثم ساومه بشرائها منه بثمن أزيد وأزيد حتى عرض عليه بديلها شجرة في الجنة ـ تجنبا منه صلى الله عليه وآله عن الإضرار به ـ فلم يرتدع أيضا، وكانت هذه المساومة منه صلى الله عليه وآله غيرواجبة عليه فإن للحاكم أن يعمل القوة لمنع الإضرار بعد الأمر القولي بالمعروف مباشرة إذا لم يستجب المأمور لذلك ـ ولكن النبي صلى الله عليه وآله عامل سمرة بعظيم خلقه وكرمه .
فكان من وظيفته صلى الله عليه واله بعد ذلك أن يمنع من إضرار سمرة بالأنصاري منعاً عمليا ، ولم يكن في هذا السبيل خيار أخف وأجدى
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 212 ـ
مما أمر به من قلع النخلة ، فمن الخيارات الأخرى مثلا تأديب سمرة وتعزيره لكن هذا العمل :
أولاً : قد لا يكون ناجعاً ومؤثرا لشدة إصرار سمرة على الإضرار بالأنصاري ، وربما استمر سمرة على ذلك بأن يدخل دار الأنصاري ثم ينكر ظاهرا فيتوقف إثباته على إقامة شاهدين عدلين وهو ليس بسهل .
وثانيا : إنه ربما لم يكن يكفى في ردع سمرة ضربه بما يوجب الإيلام فحسب بل كان يتوقف على كسرعضو ونحوه ومن المعلوم أن ذلك أشدّ من التصرف في ماله بقلع شجرته ، ومن الخيارات الأخرى : حراسة بستان الأنصاري عن دخول سمرة في جميع الأوقات التي يحتمل دخول سمرة في البستان ليلا ونهارا ، وهذا أيضا عمل شاق .
فبهذا الوجه ينحل هذا الاعتراض ويتضح وجه تعليل الأمر بالقلع ب ـ (لا ضرر ولا ضرار) .
التنبيه الثاني : في تحقيق مضمون الحديث على أساس شواهد الكتاب والسنة .
قد سبق في المقصد الأول أن حديث (لا ضرر) قد ورد بطريق صحيح في ضمن قضية سمرة بن جندب ، ويؤيده طرق أخرى لم يثبت اعتبارها في أنفسها ، إلا أن الاعتبار السندي على المختار لا يكفي في حجية الخبر، بل لا بد في تحقيق مضمون الخبر من مقايسته بشواهد الكتاب والسنة ونقده نقدا داخليا وذلك من جهتين :
الأولى : أن لا يكون مضمون الخبر مخالفا للمعارف المسلمة في الإسلام مما ورد في الكتاب والسنة كأن يكون هادما لما بناه الإسلام أو بانيا لما هدمه الإسلام .
واعتبار هذا الشرط من قبيل القضايا التي قياساتها معها كما هو واضح .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 213 ـ
الثانية : أن يكون مضمونه موافقا مع الكتاب والسنة توافقاً روحياً بمعنى أن يتسانخ مع المبادئ الثابتة من الشريعة الإسلامية من خلال نصوصها القطعية ولو في مستوى التناسب والاستئناس .
ومبنى اعتبار هذا المعنى في قبول الخبر دخالته في الوثوق به عقلاءً، بناء على ما هو الصحيح من حجية الخبر الموثوق به دون خبر الثقة على ما أوضحناه في بحث حجية خبر الواحد من علم الأصول ، فإنه كلما كانت هناك مجموعتان منسوبتان إلن شخص أو جهة وكانت احداهما مقطوعة الانتساب والأخرى مشكوكة، فإنه لا بدّ في الوثوق بالمجموعة الثانية من الرجوع إلى المجموعة الأولى باعتبارها السند الثابت في الموضوع ، وملاحظة روحها وخصائصها العامة، ثم عرض تلك المجموعة على تلك المبادئ المستنبطة فما وافقها قبل وما خالفها رد .
وربما تداول إجراء مثل هذه الطريقة في تحقيق الكتب أو الأشعار المشكوكة النسبة ونحوها فانها تقارن بما ثبت عن الشخص ثبوتاً قطعياً ، بعد درس مميزاته وخصائصه ثم يحكم فيها على ضوء ذلك فلو فرضنا ان شعرا نسب إلى مثل الرضي أو مهيار الديلمي أو إلى حافظ أو سعدي ، وهو لا ينسجم مع ما عرف به من اسلوب ومن صفات نفسية ومميزات فكرية فإنه لا تقبل النسبة وان كان الذي نسبه إليه رجل ثقة ، وبمثل ذلك أبطل بعضهم دعوى قوم أن بعض نهج البلاغة مصنوع ومختلق ،ففي شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة عن مصدق بن شبيب الواسطي انه قال قلت لأبي محمد عبدالله ابن احمد المعروف بابن الخشاب ـ في كلام عن الخطبة الشقشقية ـ : (أتقول : إنها منحولة! فقال : لا والله ، واني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدّق ، قال فقلت له : إن كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرضي (ره ) فقال : انى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب . قد وقفنا على
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 214 ـ
رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر (1).
وقال ابن أبي الحديد نفسه في إبطال هذه الدعوى : (إن من أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد ، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بد أن يفرق بين الكلامين ويميز بين الطريقتين ، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام نفسه وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى ان العلماء بهذا الشان حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس كثيرا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك الاعلى الذوق خاصة) ، وقال (وأنت إذا تاملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحداً ونفساً واحداً واسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي لا يكون بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية وكالقرآن العزيز أوّله كوسطه وأوسطه كآخره ،وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولوكان بعض نهج البلاغة منحولا وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم ان هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام )(2) .
(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 |205 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 10 | 128 و129 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 215 ـ
والسر في هذا المعنى : أن كل مقتن أومؤلف أو شاعر لا محالة يجمع شتات ما يصدر منه مبادئ عامة سارية في مختلف آثاره تشترك فيها وتتسانخ بحسبها.
وقد نبه على اعتبار هذا الشرط في حجية الخبر جملة من الروايات حيث اعتبرت في قبوله موافقة الكتاب والسنة، وأمرت بطرح ما خالفهما فإن المقصود بذلك على التفسير المختار لها ـ التوافق أو التخالف الروحي بينه وبينهما على ما تشهد به قرائن داخلية وخارجية ـ وإن كان المعروف تفسيرها بالتوافق أو التخالف في المؤدى ولنذكر بعض هذه الأخبار المستفيضة :
منها: ما عن أبي عبدالله عليه السلام قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى، فقال : (يا أيها الناس ما جاءكم مني يوافق كتاب الله فانا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله )(1)، (ومنها): ما عنه عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه )(2)، و(الحقيقة) هي : الراية والمعنى أن على كل حق راية وعلى كل صواب وضوح وراية الحق هي الموافقة مع القرآن الكريم، (ومنها) معتبرة أيوب بن الحر قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : (كل حديث مردود إلى الكتاب والسنة وكل شيء لا يوافق كتاب الله فهو زحرف )(3) وغيرذلك .
ولو أريد بالتوافق في هذه الأخبار التوافق في المؤدى على أن يكون مضمون الحديث مفاداً بإطلاق أو عموم كتابي لزم من ذلك عدم جواز الأخذ
(1) جامع احاديث الشيعة 1 |259| ح 144 .
(2) جامع احاديث الشيعة 1 : 57 2| 4 43 .
(3) جامع أحاديث الشيعة 1 : 58 2 | 435 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 216 ـ
بالمخصصات فهذا قرينة واضحة على أن المعنى بها التوافق الروحي ، وقد ورد إعمال هذا المنهج في بعض الأخبار ، وهو قرينة على إرادة التوافق الروحي في الأخبار السابقة :
(منها): ما عن أبي جعفر عليه السلام قال : إذا حدثتكم بشيء فاسالوني من كتاب الله ، ثم قال في بعض حديثه إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال ، فقيل له : يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله اين هذا من كتاب الله ؟فقال : إن الله عزوجل يقول ( لا خير في كثير من نجواهم إلآ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس )(1) وقال : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً )(2) وقال : ( لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) (3)(4)
(ومنها) : ما في صحيحة الفضل بن العباس قال :قال أبوعبدالله عليه السلام :(إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله وإن مسه جافاً فاصبب عليه الماء، قلت : لم صار بهذه المنزلة ؟ قال : لأن النبي صلى الله عليه وآله أمر بقتلها) (5) فإن السؤال سواء كان عن سبب الحكم ثبوتا أو عن دليله إثباتا لا يكون الجواب عنه بذلك إلاّ من باب الاستئناس ، باعتبار أن الأمر بقتلها يدل على مدى مبغوضيتها شرعا فيسانخ ذلك مع الحكم بالغسل أو الصب ، إلى غير ذلك .
وعلن ضوء ما ذكرنافلابد في المقام من تحقيق مضمون حديث (لا
(1) النساء: 4 | 144 .
(2) النساء : 4 | 5 .
(3) المائدة : 5 | 101 .
(4) الكافي ـ الاصول ـ باب الردّ إلى الكتاب والسنة ـ الحديث 5 : 48 ـ 9 4 .
(5) جامع الأحاديث ـ كتاب الطهارة ـ أبواب النجاسات ـ ج 2 : 105 | 1439 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 217 ـ
ضررولا ضرار) تكميلا للبحث عن اعتباره وحجيته من جهتين :
الجهة الأولى : في تحقيق مخالفة الحديث للكتاب والسنة وعدمها وذلك إنه قد يقال بتخالفه معهما باحد تقريبات : (منها) إنه على التفسير المذكور يكون الخارج منها أكثر من الباقي ، كما أثار ذلك الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره ) في الرسائل فقال :
(إن الذى يوهن فيها كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي كما لايخفى على المتتبع خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدّم ، بل لو بني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد).
ثم طرح فرضية انجبار هذا الوهن باستقرار سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام ، لكنه تنظر فيها قائلا :
(إن لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك غاية الأمر تردد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى واستدلال العلماء لا يصلح معينا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة) .
ومما يعتبر من موارد التخصيص ـ على هذا الرأي ـ تشريع الخمس والزكاة والحج والجهاد والكفارات والديات والحدود والقصاص والاسترقاق وسلب مالية جملة من الأشياء كالخمر والخنزير وغير ذلك .
والجهة الثانية : في تحقيق موافقة الحديث روحا مع الكتاب والسنة وعدمها.
أما الجهة الأولى : فقد يقال بمخالفة مضون الحديث للكتاب والسنة ـ بناءً على تفسيره بنفي الحكم الضرري ـ باحد تقريبات ثلاث :
التقريب الأول : ما ذكره بعض الاعاظم من ان مفاد (لا ضرر) بطبعه
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 218 ـ
حكم امتناني فيكون آبيا عن التخصيص كقوله تعالى : ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (1) ومن المعلوم انه مخصص في جملة من الموارد.
ويردعليه :
أوّلاً : انه لم يتضح كون العام الامتناني آبيا عن التخصيص إذا كان التخصيص في سياق الامتنان أيضأ .
وثانيأ: انه على تقدير ثبوت ذلك فبالامكان ان يكون خروج ما خرج منه على سبيل الحكومة دون التخصيص بان تعتبر الزكاة مثلا حكما غيرضرري فيجب دفعها ، ولسان الحكومة لا يمس باللسان الآبي عن التخصيص لأن صيغتها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فهو لسان مسالم للعام على خلاف لسان التخصيص ، كما ياتي توضيحه في التنبيه الثالث .
التقريب الثاني : ما ذكره الشيخ الانصاري (قده ) في كلام مر ذكره من ان الحديث يكون مخضصا في اكثر مفاده بل الخارج منه اضعاف الباقي ، وبما ان تخصيص العام في اكثر مدلوله غير جائز، والمخص في المقام قطعي لا يسري اليه الريب فيتوجه الوهن الى العام .
والسر في عدم جواز تخصيص العام كذلك ـ على ما اوضحناه في بعض المباحث الاصولية ـ لزوم انحفاظ التناسب عقلاً بين مقامي الاثبات والثبوت ، فاذا كان الحكم بحسب المراد الجدي ومقام الثبوت مختصا بافراد نادرة ـ مثلاً ـ فانه لا يتناسب مع القاء خطاب عام وانما المصحح لمثل هذه الصيغة العامة ثبوت مقدار يقرب من العموم والاستيعاب حتى تكون نسبة الخارج الى العموم نسبة الاستثناء إلى القاعدة .
وقد اجاب الشيخ (قده ) عن هذا الاشكال بقوله (ان الموارد الكثيرة
(1) الحج : 22 |78 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 219 ـ
الخارجة عن العام انما خرجت بعنوان واحد جامع لها وان لم نعرفه على وجه التفصيل ، وقد تقرر ان تخصيص الأكثر لا استهجان فيه اذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد هي اكثر من الباقي )(1) .
وما طرحه الشيخ في قوله هذا ـ من جوازتخصيص الأكثربعنوان واحد ـ اصبح مورد نقاش من قبل جماعة من المتاخرين ، وقد ذكر في كلماتهم في هذا الموضوع تفصيلان :
احدهما : ما ذكره صاحب الكفاية (قده ) في حاشية الرسائل (2) من التفصيل بين ما اذا كانت الآحاد التي لوحظ العموم بحسبها انواعا أو اشخاصا، فان كانت انواعا جاز تخصيص العام في اكثر الأشخاص المندرجة تحته بعنوان واحد لعدم لزوم تخصيص العام ، فيما هو اكثر افراده في الحقيقة واما اذا كانت اشخاصاً فلا يجوز ذلك للزوم هذا المحذور.
والثاني : ما ذهب اليه المحقق النائيني من التفصيل بين القضية الحقيقية والخارجية (3) ففي القضية الخارجية يمتنع تخصيص الاكثر، ولو بعنوان واحد كما لو قيل اقتل من في العسكر، ثم اخرج بني تميم من ذلك مع انه ليس فيه احد من غيرهم الا اثنان أوثلاثة، وأما في القضية الحقيقية فلا يمتنع ذلك ، لكن الظاهر عدم الفرق بين القضيتين على ما يظهر بملاحظة الأمثلة العرفية لهما .
الا أنه لا اثر للبحث عن ذلك في المقام بعد وضوح عدم تمامية تجويز ذلك مطلقا في المقام على ما ذهب اليه الشيخ إذ لا يجوز هذا المعنى في مورد (لا ضرر) على كلا التفصيلين .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 220 ـ
اما على الأول : فلأن الملحوظ في (لا ضرر) نفي ضررية كل واحد من الاحكام المجعولة في الشريعة من غير لحاظها تحت مجاميع تحتوي كل مجموعة على جملة منها ، لكي يخصص مفاده في واحدة منها بملاحظة أدلة الاحكام الواقعية كما هو واضح .
وأما على الثاني : فلاعتراف القائل به بأن حديث (لا ضرر) انما هو في مستوى القضية الخارجية بملاحظة أن المنفي هو الضرر الناسثمن من الاحكام المجعولة خارجا، وان كان قد يناقش في ذلك من جهة عدم العلم بأن النبي صلى الله عليه وآله قد قال ذلك في مورد قضية سمرة بعد انتهاء تشريع الأحكام ليكون قضية خارجية بل المقصود بالحديت نفي جعل اي حكم ضرري شرعا فهوقضية حقيقية.
والتقريب الثالث : ان يقال : بان من المستهجن تخصيص الحديث في الموارد المذكورة حتى وان لم تكن هي اكثر موارده لأنها من اصول الأحكام الالهية ومهماتها وتخصيص العام في مثل ذلك قبيح .
ويلاحظ أن مثل هذا الانطباع عن أحكام الاسلام من كون اكثرها أو اصولها ضررية على ما يتمثل في هذا التقريب والتقريب السابق مما يستحق البحث ، حتى مع غض النظر عن كون ذلك موجبا لوهن هذا الحديث ، لأن ذلك قد يكون ذريعة لبعض المخالفين للدين في تشويه صورة الاسلام والقدح في حقية تشريعاته ، للاقرار بان معظمها أو اصولها تشريعات ضررية .
وفي الجواب عن هذين التقريبين طريقان :
الطريق الأول : ما هو المختار ، وهو ينحل الى جزين : الأول : عدم صدق الضرر في كثير من هذه الموارد على ضوء التدقيق في مفهومه وفي مدى انطباقه فيها.
الثاني : تحديد الضرر المنفي ب ـ (لا ضرر) بملاحظة طبيعة معناه التركيبي ـ على المختار ـ ويملاحظة اقترانه ب ـ (لا ضرار) بنحولا يقتضي نفي الضرر اصلاً في جملة من الموارد المذكورة .
اما الجزء الأول : فيظهر بملاحظة امرين :
الأمر الأول : في التدقيق في مفهوم الضرر. ان الضرر في الشيء كالمال ـ مثلا ـ ليس مطلق عروض النقص عليه بل كونه أنقص عما ينبغي ان يكون عليه من الكمية أو المالية ، كما لوعرضت على المال آفة توجب نقص ماليته ، أو نقصت كميته بضياع أو سرقة أو غصب أو بصرف المالك له فيما لا يعذ مؤونه له ولا يعود منه فائدة عليه ، فاما لو صرف فيما يرجع الى مؤونة الشخص وشؤونه أو ينتفع منه بنحو مناسب معه فانه لا يكون ذلك ضررا عليه ، ولذا لا يعتبر صرف المال في مؤونته ومؤونة عياله فيما يحتاجون اليه ـ من الماكل والمشرب والملبس والعلاج والوقاية والتنظيف وسائرحاجاتهم ـ اضرارا بالمال لا لغة ولا عرفا، وكذلك صرف المال في اداء الحقوق العرفية للغير وسائر الرغبات العقلائية كالسفر الى مكان آخر لغرض ثقافي أو اجتماعي ، وهكذا لو اشترك الشخص في مشروع عام أو جهة عامة يعم الانتفاع بها .
وبالجملة : فصرف الشخص المال في الشؤون المتعلقة بتعيش نفسه وعياله بحسب مستواه من العرف والعادة لا يعد ضررا، لان شأن المال ان يصرف في مثل هذه الامور بل عدم صرفه في مثل الانفاق على العيال يعد اضرارا بهم وظلما عليهم .
واذا لم يكن صرف المال في ذلك اضرارا فلا ينقلب ضررا بالالزام الشرعي ليكون الحكم الشرعي ضرريا .
وعلى ضوء هذا البيان : يظهر عدم صدق الضرر في جملة من الموارد
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 222 ـ
السابقة، كما تنته له جمع من المحققين :
منها: ايجاب صرف المال فيما عليه من الحقوق بحسب العرف كالانفاق على من يجب الانفاق عليه عرفا كالزوجة والاولاد وبعض الاقرباء بل المواشي ونحوها، وكذلك صرف المال لتفريغ ذمته عما اشتراه من غيره ، أو اشتغلت به ذمته من جهة اتلافه لمال الغيرأو بدلا عن الانتفاع به.
ومنها: ايجاب الخمس والزكاة ـ في الجملة ـ فانها تصرف في مصارف عمدتها التحفظ على النظام والمصالح الاجتماعية العامة .
ومنها : ايجاب صرف المال في ازالة كثير من القذارات العرفية التي يحسن الاجتناب عنها ، الى غير ذلك من الموارد المختلفة .
ويمكن ضبط الموارد الخارجة عن حدود الضرر ـ على ضوء البيان الذي ذكرناه ـ بنحو عام في حالات ثلاث :
الأولى : أن يكون الحكم الشرعي في مورد لا يكون صرف المال فيه ضررا عرفا، فانه لا يكون الحكم حينئذ ضرريا وهذه الحالة هي التي يندرج تحتها أكثر الموارد السابقة .
الثانية : أن يكون الحكم الشرعي بملاحظة كشف الشارع عن كون المورد مصداقا لجهة لا يعتبر صرف المال في تلك الجهة ضررا ، فانه حينئذ يكون خارجا عن الضرر تخصصا وان لم تعرف مصداقية المورد لتلك الجهة لدى العرف ، نظير ما لو انكشفت مصداقية المورد من قبل غير الشارع كما في القذارات المستكشفة بالوسائل الحديثة فان صرف المال في ازالتها لا يعد ضررا كما هوواضح رغم عدم تعرف العرف على المصداق فيها أيضاً .
الثالثة : ان يكون الحكم الشرعي في مورد قد اعتبر القانون حقا من الحقوق في ذلك المورد فلا يكون صرف المال فيه ضررا ،فان الاعتبار
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 223 ـ
الشرعي لتلك الجهة يوجب انتفاء الضرر على نحو الورود.
الأمر الثاني : ان قسما من الأحكام المذكورة لا يوجب ضررأ في الحقيقة وانما يرجع الى عدم النفع أوتحديده ، وبين الضرر وعدم النفع فرق واضح ، فإن الضرر هو انتقاص الشيء الموجود، وعدم النفع إنما هو عدم تحقق الزيادة عليه ، فتوهم صدق الضرر في ذلك من قبيل توهم صدقه على الحكم بعدم تملك الربا ـ وهو المقدار الزائد في المعاملة الربوية ـ.
واظهرموارد هذا القسم تشريع الخمس والزكاة.
ا ـ اما تشريع الخمس من الغنيمة بمعناها الاعم ـ وهو الظفر بالمال بلا عوض مادّي ـ فانه تحديد لنفع المغتنم لا اضرار به ، لان اعتبار الشارع الاغتنام سببا للملكية يرجع الى توفير نفع للمغتنم ، فاذا فرضنا ان الشارع قد اعترف اولا بكون الاغتنام سببأ لملكية جميع الغنيمة كان ايجاب دفع خمسه بعد ذلك تنقيصا لماله وضررا به . واما اذا لم يعترف منذ البدء بكون الاغتنام سببأ للملكية الا بالنسبة الى اربعة اخماس الغنيمة ـ فلا يكون ايجاب دفع الخمس الى من فرضه الشارع له ضررا بالمغتنم لانه لم يملكه أصلا .
ولتوضيح ذلك نتعرض لبعض موارد الخمس في الغنيمة:
منها : الغنيمة القتالية وهي التي يسيطرعليها المقاتلون المسلمون في قتال الكفار، فقد جعل الشارع اخذها سببا للملكية ، إمضاءً لقانون الاغارة الذي كان قبل الاسلام على ان يقسم بين المقاتلين ومن بحكمهم ، واستثنى من ذلك الخمس على ان يكون للعناوين الخاصة، ولو انه لم يجعل شيئا للمغتنم ، لم يكن ذلك ضررا عليه أصلا فضلا عن استثناء الخمس ، لعدم حق لهم لولا الجعل الشرعي أصلا، وربما كان استثناء الخمس بعنوان انه حق الرئاسة كما كان هذا الحق متعارفا في الجاهلية أيضاً حيث كان ربع الغنيمة التي يحصلون عليها بالاغارة لرئيس القبيلة أو العشيرة ويسمى
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 224 ـ
مرباعاً (1) .
ومنها : المعادن وهي على المختار وفاقاً للمشهور من الانفال فيكون ملكا للامام ، ومرجع جعل الخمس فيها الى الاذن في استخراجها وتمليك أربعة اخماسها للمستخرج توسعة على المؤمنين ، ويحق لولي الأمر ان لا يأذن في استخراجها، فينحصر حق استخراجها بالدولة ويصرف جميعها في سبيل مصالح المسلمين .
ومنها : الأرباح الزائدة وهي ـ بحسب الدقة والتحليل ـ احد مصاديق الغنيمة بمعناها اللغوي ، أي الفوز بالمال بلا عوض مالي ، وقد اختلف فيها المنهج الرأسمالي والاشتراكي على طرفي افراط وتفريط ، والحل الوسط في ذلك ما تضمنه فقه أهل البيت (عليهم السلام ) من اقرار الرابح على اربعة اخماس ، واعتبار الخمس الباقي للعناوين الخاصة .
ان قيل : ان هذا ضررعلى الناس لان لكل انسان ان يحصل على ما يشاء من الاموال باية وسيلة وعلى اي نهج فمنع التملك لمقدار الخمس سلب لهذا الحق .
قيل : انه لم يثبت مثل هذا الحق بشيء من الأدلة، فانه ليس مدركا بالعقل النظري ولا من قضاء الوجدان والضمير الانساني ، ولا مما بنى عليه العقلاء بناء عاما،أما الاولان فواضح واما الثالث فلاختلاف القوانين في حدود قانون الملكية الفردية حسب تقييم العقلاء للمصالح الفردية والاجتماعية وتنبههم لها .
واما تشريع الزكاة : ففيما يتعلق بالغلات الأربع لا يمكن اعتباره حكما ضرريا بعد ملاحظة ان شأن الزارع والفلاخ ليس الا اتخاذ بعض
(1) لسان العرب 8| 101 (ربع ).
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 225 ـ
المعدات ، واما التنمية فانما هي بعوامل طبيعية خلقها الله تعالى من الماء والمطر والشمس والجو وصلاحية التربة وغير ذلك حتى ان لبعض الطيور تأثيرا في ذلك بدفع الحشرات الضارة، وقد اشير الى بعض هذه الجهات في سورة الواقعة حيث قال تعالى :( أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون *انا لمغرمون بل نحن محرومون )(1) ومفاده ان عمل الانسان انما يقتصر على الحرث وهو من مقدمات الزرع من كراب الارض والقاء البذر وسقي المبذور، واما نفس الزرع وهو الإنبات فانه من فعله تعالى بما قدره من عوامل مختلفة ولولا فعله سبحانه لأصبح الزرع هشيما لا ينتفع به .
وكذلك لا تعتبر زكاة الأنعام الثلاثة ضررا بعد ملاحظة اختصاصها بالسائمة منها. وربما لوحظ في فرض الزكاة عليها بعد حلول الحول عدم اجتماعها لدى صنف خاص من الناس وتيسر وقوعها في متناول من يريد اقتناءها لحوائجه الشخصية أو للتنمية .
وهكذا فرض الزكاة في الذهب والفضة المسكوكين مع حلول الحول عليهما ، فإنه ربما كان للزجر عن تجميعها أوغرامة على ذلك بملاحظة انهما كانا في العهد السابق نقدا، وخاصة النقد كونه ميزانا للمالية ووسيلة سهلة للتبادل بين الأمتعة، ولولاه لكان التبادل بينهما أمرا صعبا ومعرضا للضرر والغبن وتوفر النقود وتداولها من وساثل ازدهار التجارة ونموها وذلك مورد اهتمام الشارع وعنايته كما لعله احد اسباب تحريم (ربا الفضل ) ـ كما ذكرناه في بحث الربا ـ.
يضاف الى ما ذكرنا ما يترتب على تشريع الخمس والزكاة من المصالح