لما مرّ من دلالة على أنّ ما نزّله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي ، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهى إلى الناس ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.
  والتبليغ يعم القول والفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول ، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية، لاَنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحى وحفظه وتبليغه قولاً .
  وقد تقدمت الاِشارة إلى أنّ النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحى ، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، ويتحصل بذلك انّ أصحاب الوحى سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحى وفي حفظ ما أُوحى إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولاً وفعلاً (1).
  الآية الثانية
  قوله سبحانه: ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعثَ اللهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ )، (2) إنّ الآية تصرح بأنّ الهدف من بعث الاَنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه ، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق ، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير وتحريف .

--------------------
(1) الميزان: 20|133 .
(2) البقرة: 213 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 52 _

  ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) .
  والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي ، وبواسطته ، وتحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق، بلا تحريف .
  وكل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقى الوحى والحفاظ عليه، وإبلاغه إلى الناس.
  وبالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضى بالحق بين الناس ويهدي الموَمنين إليه، وكل ذلك ( أي القضاء بالحق أوّلاً، وهداية الموَمنين إليه ثانياً) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه .
  الآية الثالثة
  قوله سبحانه: ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) ، (1) فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى، أي لا يتكلم بداعى الهوى، فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من الله سبحانه ، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.
  وبما أنّ عصمة الاَنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلمات عند المحققين من أصحاب المذاهب والملل ، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين، وإن كان للشيعة فيه قول واحد ، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لاَوامره ونواهيه.

--------------------
(1) النجم: 3 ـ 4.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 53 _
المرحلة الثانية:عصمة الاَنبياء عن المعصية
  لقد وقفت على دلائل عصمة الاَنبياء في تلقى الوحى وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية ، ونبحث في ذلك عن وجهتين : العقلية والقرآنية:

العقل وعصمة الاَنبياء
  إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الاَنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم: ( رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1)وقال سبحانه : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُوَْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ ) ، (2) والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل، وهذا هو ما يسمى في علم الاَخلاق بـ (التريبة) .
  ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه ، وهذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.
  وإن شئت قلت : إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل ، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي ، ولو كان هناك انفكاك بينهما

--------------------
(1) البقرة: 129.
(2) آل عمران: 164.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 54_
  لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

سوَال وجواب
  نعم يمكن أن يقال: يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً .
  أقول: الاِجابة عن هذا السوَال سهلة ، لاَنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الاِشكالات.
  أمّا أوّلاً: فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للاِنسان ، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الاِنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي، فإنّ العوامل التي تسوق الاِنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة .
  وأمّا ثانياً : فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته ( الداعى لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي ) في حق الداعي ومدعي النبوة، إذ كيف يمكن الاِنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم ، لا يكذب أصلاً عندما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الاِصلاح بنفس هذا التفكيك، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.
  وعلى الجملة: انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الاِلهية التي يقوم بأعبائها الاَنبياء والرسل ، ولا يتحقق ذلك الهدف إلا
ّ

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 55 _
  بعد اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية ، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق ، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.
  وبهذا البيان تظهر الاِجابة عن سوَال لا يقصر في الضآلة عن السوَال الماضي ، وهو ما ربما يقال : إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع ، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات، وهذا القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة.
  والجواب عن هذا السوَال واضح تمام الوضوح، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به ، إذ ما الذي يمنعه ـ عندئذ ـ من أن يكذب ويتستر على كذبه ، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل .
  أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته ، ويظهر عيبه .
  إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالاَنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلاَ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

تقرير المرتضى لهذا البرهان
  إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به .
  قال ما هذا حاصله : إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك ، وهذا هو معنى

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 56 _
  قولنا : إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول والمرجع فيما ينفر ومالا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالاَدلة والمقاييس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وانّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه .
  فإن قيل : أليس قد جوّز كثير من الناس على الاَنبياء : الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع، وهذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة .
  قلنا : هذا سوَال من لم يفهم ما أوردناه، لاَنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الاَمر جملة ، وانّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه وانّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول، كما أنّا مع الاَمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده .
  ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ، ولا يخرجه من أن يكون مقرباً ، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.
  فإن قيل : فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير ؟

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 57 _
  قلنا : الطريقة في الاَمرين واحدة ، لاَنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الاَحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاَحوال ولا على وجه من الوجوه ، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وان وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً وموَثراً ، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير ( ولاَجل ذلك ) وجب أن لا يكون فيه شىء من التنفير ، لاَنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه ، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة ، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الاَحيان والاَوقات المتباعدة منفر أيضاً ، وان فارق الاَوّل في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الاَوّل من أن يكون منفراً في نفسه.
  فإن قيل : فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الاَنبياء : في حال النبوة وقبلها ؟
  قلنا : الطريقة في نفى الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفى الكبائر في الحالتين عند التأمّل، لاَنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه ، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الاَنبياء : أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 58 _
  قبلها وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها (1).

إجابة عن سوَال آخر
  ربما يقال : إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه ، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً ، ومن المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة ، وفي نهاية الكمال، ولاَجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الاَنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم .
  هذا هو السوَال ، وأمّا الجواب: فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة ، لاَجل وجهين:
  إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين، وإمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية وكلا الاَمرين لا يناسب ساحته سبحانه ، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين ، وتحقيق أهدافه على الوجه الاَكمل.
  يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لاَحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه ، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الاَهداف ، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير ، وهذا لا يليق بساحته تعالى (2).

--------------------
(1) تنزيه الاَنبياء: 4 ـ 6 .
(2) الميزان: 2|141 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 59 _
  ولاَجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرح بعصمة الاَنبياء تارة ، ويشير إليها أحياناً حيث يصفهم بأنّهم مهديون لا يضلون أبداً، وإليك هذه الآيات التي تعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الاَنبياء.

القرآن وعصمة الاَنبياء من المعصية
  إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الاَنبياء ويصفهم بهذا الوصف، ويشهد بذلك لفيف من الآيات:
  الآية الاَُولى
  قال سبحانه : ( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرّيَّـتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلّ مِنَ الصّالِحينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاً فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) ، (1) ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله: ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمينَ ) ، (2) والآية الاَخيرة تصف الاَنبياء بأنّهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.
  هذا من جانب ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الاِلهية لا مضل له ويقول : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ* وَمَنْ يَهْدِ

--------------------
(1) الاَنعام: 84 ـ 87.
(2) الاَنعام: 90.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 60_
  اللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ ) ، (1) وفي آية ثالثة يصرح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة ويقول: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ، (2) وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الاَنبياء بوضوح وتوضيح ذلك:
  انّه سبحانه يصف الاَنبياء في اللفيف الاَوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة والمهديون من الا َُمّة كما يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الاِلهية لا ضلالة ولا مضل له .
  كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول : (ولقد أضل منكم ) وما كانت ضلالتهم إلاّ لاَجل عصيانهم ومخالفتهم لاَوامره ونواهيه .
  فإذا كان الاَنبياء مهديين بهداية الله سبحانه ، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه الله ، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.
  وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الاَشكال المنطقية فقل :
  النبي: من هداه الله .
  وكل من هداه الله فما له من مضل .
  ينتج: النبي ما له من مضل .

--------------------
(1) الزمر: 36 ـ 37.
(2) يس: 60 ـ 62.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 61 _
الآية الثانية
  انّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّـهم من الذين يحشرون مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم إذ يقول:
  ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً )، (1) وعلى مفاد هذه الآية فالاَنبياء من الذين أنعم الله عليهم بلا شك ولا ريب، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني: (من أنعم عليهم )بقوله: بأنّهم: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّينَ )، (2) فإذا انضمت الآية الاَُولى الواصفة للاَنبياء بالاِنعام عليهم، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يستنتج عصمة الاَنبياء بوضوح ، لاَنّ العاصي من يشمله غضب الله سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه ومخالفته .
  وعلى الجملة: من كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربه ولا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

الآية الثالثة
  انّه سبحانه يصف جملة من الاَنبياء ويقول في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ

--------------------
(1) النساء: 69.
(2) الفاتحة: 7.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 62 _
  مِنَ النَّبِيّينَ مِنْ ذُرّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرّيَّةِ إِبْراهيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) ، (1) فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الاَنبياء بأوصاف أربعة :
  1 ـ أنعم الله عليهم .
  2 ـ هدينا .
  3 ـ واجتبينا .
  4 ـ خرّوا سجّداً وبُكيّا .
  ثم إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هوَلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية، ويقول: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلْقَونَ غَيّاً ) ، (2) نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي عبارة عن أُمور ثلاثة :
  1 ـ أضاعوا الصلاة .
  2 ـ واتبعوا الشهوات .
  3 ـ يلقون غيّاً .
  وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الاَنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات ، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً ، وكل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي، لاَنّ العاصى لا يعصى إلاّ لاتباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيه وضلالته .

--------------------
(1) مريم: 58 .
(2) مريم: 59 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 63 _
الآية الرابعة   إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات يقول سبحانه: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ ) ، (1) ويقول أيضاً: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، (2) ويقول في آية ثالثة: ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزونَ ) ، (3) كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفى الرأي العام ويقول: ( وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطيعُكُمْ في كَثيرٍ مِنَ الاََمْرِ لَعَنِتُّمْ ) ، (4) وعصارة القول: إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط ، ومن وجبت طاعته على وجه الاِطلاق أي بلا قيد وشرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل .
  توضيحه : انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الاَمرين: اللفظ أو العمل، والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه

--------------------
(1) آل عمران: 31 ـ 32.
(2) النساء: 80.
(3) النور: 52.
(4) الحجرات: 7.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 64 _
  وفمه وقلمه ويراعه ، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة ، لصح الاَمر بالاقتداء به وإنّ طاعته طاعة الله سبحانه كما قال : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (1).
  وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.
  فالحكم باتّباعه على وجه الاِطلاق يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع، وقرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة ، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.
  فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.
  فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صح الاَمر بالاقتفاء في القول والفعل ، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الاَحايين وتتسم بالعصيان والخطأ ، لما صح الاَمر بطاعته والاقتداء به على وجه الاِطلاق.
  كيف وقد وصف الرسول بأنّه الاَُسوة الحسنة في قوله سبحانه: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (2).

--------------------
(1) النساء: 80 .
(2) الاَحزاب: 21 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 65 _
  فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلاّ مع عصمته المطلقة، بخلاف من يكون أُسوة في مجال دون مجال ، وعلى ذلك فهو مصون من الخلاف والعصيان والخطأ والزلل .
  وإن شئت قلت : لو صدر عن النبي عصيان وخلاف فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاوَه واتباعه ، وبما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به واتباعه وتجب المخالفة ، فعندئذ يلزم الاَمر بالمتناقضين ، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له ، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الاِطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل ، ووقت دون وقت .
  وهذا المورد من الموارد التي يستكشف بإطلاق الحكم حال الموضوع وسعته وانّه مطابق للشرع ، وكم له من مورد في الاَحكام الفقهية . (1)

الآية الخامسة
  إنّ الله سبحانه يحكي عن الشيطان الطريد بأنّه قال : ( فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )، (2) ويقول أيضاً: ( وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )(3) .

--------------------
(1) وقد عنونه الاَُصوليون في أبحاث العام والخاص فيستكشفون عن إطلاق الحكم سعة الموضوع كما في مثل قوله : (لعن الله بنى أُمية قاطبة) فيستدل بإطلاقه على سعته وعدم وجود موَمن فيهم ، وإلاّ لما صح الحكم بالاِطلاق .
(2) ص : 83 ـ 84 .
(3) الحجر: 39 ـ 40 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 66 _
  فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن نزاهة المخلصين عن إغواء الشيطان وجرّه إيّاهم إلى الطرق المظلمة.
  توضيحه: انّ الغي يستعمل تارة في خلاف الرشد وإظلام الاَمر ، وأُخرى في فساد الشيء ، قال ابن فارس : فالاَوّل الغى وهو خلاف الرشد ، والجهل بالاَمر والانهماك في الباطل ، يقال : غوي يغوي غياً ، قال الشاعر:
  فمن يلق خيراً يحمد الناس أمرهومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
  وذلك عندنا مشتق من الغياية ، وهي الغبرة والظلمة تغشيان ، كأنّ ذا الغىّ قد غشيه ما لا يرى معه سبيل حق.
  وأمّا الثاني: فمنه قولهم: غوي الفصيل إذا أكثر من شرب اللبن ففسد جوفه، والمصدر: الغوى ، (1) وعلى ذلك فسواء فسرت الغواية في الآيتين بالمعنى الاَوّل كما هو الاَقرب أو بالمعنى الثاني، فالعباد المخلصون منزهون عن أن تغشاهم الغبرة والظلمة في حياتهم أو أن يرتكبوا أمراً فاسداً ، ونفى كلا الاَمرين يستلزم العصمة، لاَنّ العاصي تغشاه غبرة الجهل وظلمة الباطل ، كما أنّه يفسد علمه بالمخالفة.
  نعم إثبات الغواية لا يستلزم إثبات المعصية، فإنّ مخالفة الاَوامر الاِرشادية التي لا تتبنى إلاّ النصح والاِرشاد وإن كانت تلازم غشيان الغبرة في الحياة وفساد العمل، لكنها لا تستلزم التمرد والتجري اللّذين هما الملاك في صدق المعصية .

--------------------
(1) مقاييس اللغة: 4|399 ـ 400 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 67 _
  وعلى كل تقدير ، فما ورد في هذه الطائفة من الآيات بمنزلة ضابطة كلية في حق المخلصين ونزاهتهم عن الغواية الملازمة لنزاهتهم عن المعصية.
  وهناك آيات أُخرى تأتي بأسماء المخلصين وتصفهم وتقول: ( وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الاََيْدي وَالاََبْصارِ* إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاََخْيارِ* وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الاََخْيارِ ) ، (1) فقوله سبحانه: ( إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ )خير دليل على أنّ المعدودين والمذكورين في هذه الآيات من إبراهيم وذريته كلهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على تنزههم من غواية الشيطان الملازم لنزاهتهم عن العصيان والخلاف .
  نعم هذه الطائفة لا تدل على عصمة جميع الاَنبياء والرسل إلاّ بعدم القول بالفصل حيث إنّ العلماء متفقون إمّا على العصمة أو على خلافها، وليس هناك من يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة في حق بعضهم دون بعض .
  هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الاَنبياء وبقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة أيضاً مثل قوله سبحانه: ( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، (2) لاَنّ المراد من الاجتباء هو الاجتباء بالعصمة وان كان يحتمل أن يكون

--------------------
(1) ص: 45 ـ 48 .
(2) الاَنعام: 87 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 68 _
  المراد الاجتباء بالنبوة ، والكلام هنا في الاجتباء دون الهداية.
  ومثله قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً )، (1)

--------------------
(1) مريم: 58 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 69 _
حجة المخالفين للعصمة
  قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الاَنبياء في المجالات التالية: ( تلقّي الوحي، والتحفّظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس، والعمل به ) غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادىَ النظر خلاف ما دلت عليه صراحة الآيات السابقة، وقد تذرعت بها بعض الفرق الاِسلامية التي جوزت المعصية على الاَنبياء بمختلف صورها .
  وهذه الآيات على طوائف:
  الاَُولى: ما يمس ظاهرها عصمة جميع الاَنبياء بصورة كليّة .
  الثانية: ما يمس عصمة عدة منهم كآدم ويونس بصورة جزئية .
  الثالثة: ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الاَكرم .
  فعلينا دراسة هذه الاَصناف من الآيات حتى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره :

الطائفة الاَُولى: ما يمس ظاهرها عصمة جميع الاَنبياء
  الآية الاَُولى
  ومن هذه الطائفة قوله سبحانه: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1).

--------------------
(1) يوسف : 109 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 70 _
  ( حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدَ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَومِ الْمُجْرِمينَ )، (1) استدل القائل بعدم وجود العصمة في الاَنبياء بظاهر الآية قائلاً بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ترجع إلى الرسل، ومفاد الآية انّ رسل الله سبحانه وأنبياءه كانوا ينذرون قومهم، وكان القوم يخالفونهم أشد المخالفة ، وكان الرسل يعدون الموَمنين بالنصر عن الله والغلبة ويوعدون الكفّار بالهلاك والاِبادة ، لكن لما تأخر النصر الموعود وعقاب الكافرين (ظن الرسل أنّهم قد كذبوا) فيما وعدوا به من جانب الله من نصر الموَمنين وإهلاك الكافرين، ومن المعلوم انّ هذا الظن سواء أكان بصورة الاِذعان واليقين أو بصورة الزعم والميل إلى ذاك الجانب، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة .
  وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول: لما أخّرنا العقاب عن الاَُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد كذب (بصيغة المجهول) الرسل في ما وعدوا به من النصر للموَمنين والهلاك للكافرين .
  وعلى هذا فكل جواب من العدلية القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين ، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر .
  وإليك الاَجوبة المذكورة في التفاسير:
  الاَوّل: انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا (أي قيل لهم قولاً كاذباً) هو تظاهر عدة من الموَمنين بالاِيمان وادّعاوَهم الاِخلاص لهم ، فتصور الرسل انّ تظاهر هوَلاء بالاِيمان كان كذباً وباطلاً ، وكأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالاِيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الاِيمان (2).

--------------------
(1) يوسف: 110 .
(2) مجمع البيان: 5 ـ 6 | 415 ، ط دار المعرفة ، بيروت .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 71 _
  وفيه: انّ هذا الجواب وان كان أظهر الاَجوبة إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الاَجوبة الآتية لكن الذي يرده هو بعده عن ظاهر الآية، إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه : ( قد كذبوا ) .
  وإن شئت قلت : ليس في مقدم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالاِيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الاَنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الاِيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا ، وانّما المذكور في مقدمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الاَنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل الله وأنبيائه حيث يقول : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ )، (1) ومجرد قوله : ( ولدار الآخرة خير للّذين اتقوا ) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب ، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنهم بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالاِيمان قد كذبوا في ادّعاء الاِيمان بالرسل .
  أضف إلى ذلك : إنّ هذه الاِجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للاَنبياء ، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً ، وكان ادّعاوَهم للاِيمان صادقاً ، وهذا يمس كرامتهم من جانب آخر، لاَنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً ، والموَمن كافراً .
  على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة : ( جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء )مع أنّ المناسب على هذه الاِجابة أن

--------------------
(1) يوسف: 109 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 72 _
  يقول: (بل تبين للرسل صدق ادّعاء الموَمنين فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) .
  الثاني: انّ معنى الآية: ظن الاَُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر الله إيّاهم وإهلاك أعدائهم وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلاّمة الطباطبائي ، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس، هذا من جانب ومن جانب آخر ظنّ الناس ـ لاَجل تأخر العذاب ـ انّ الرسل قد كذبوا ، أي أخبروا بنصر الموَمنين وعذاب الكافرين كذباً ، جاءهم نصرنا ، فنجّي بذلك من نشاء وهم الموَمنون، ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين .
  وقد دلّت الآيات على أنّ الاَُمم السالفة كانوا ينسبون الاَنبياء إلى الكذب، قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه: ( بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبينَ ) (1) وكذا في قصة هود وصالح .
  وقال سبحانه في قصة موسى : ( فَقالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لاََظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) (2) (3) ولا يخفى ما في هذا الجواب من الاِشكال، فإنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في (ظنّوا) هو الرسل المقدم عليه ، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر، وعلى خلاف البلاغة وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ (الناس) حتى يكون مرجعاً للضمير في (ظنّوا).
  أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه

--------------------
(1) هود: 27 .
(2) الاِسراء: 101 .
(3) الميزان: 11|279 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 73 _
  فإنّ معنى ( بل نظنّكم كاذبين )انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وانّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين ، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به ، وبين المعنيين بون بعيد .
  الثالث: ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، وقال كانوا بشراً ، وتلا قوله : ( وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ) ، (1) وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول: إنّه إن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح ، (2) وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشرى وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الاَنبياء الذين تسددهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل ، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الاَنبياء.

الرابع ( وهو المختار )
  إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبى اعترى قلوب

--------------------
(1) البقرة: 214 .
(2) الكشاف: 2|157 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 74_
  الرسل ، وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها .
  مع أنّ المراد غير ذلك ، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق ، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل ، وأفئدتهم ، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الاِلهي بالنصر وعداً مكذوباً ، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادىَ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.
  فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الاَنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الاَوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.
  منها قوله سبحانه : ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّى كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (1) فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى ، فدعاهم فلم يوَمنوا ، فسأل الله أن يعذّبهم ، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا ، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لاَجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.
  فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس ، هل كان ظناً قائماً بمشاعره ، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الاَنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم ، فكيف الاَنبياء ؟! بل المراد انّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

--------------------
(1) الاَنبياء: 87 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 75_
  ممثلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الاَوّل لا الثاني.
  ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بنى النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض الموَمنين في مرأي من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لاََوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا )، (1) فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه .
  ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والاَبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.
  وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالاَنبياء

--------------------
(1) الحشر: 2 .