قال : نعم . . فضحك الأخ وقرر الصمت ، هذا حال التوحيد الذي من أجله بعث الأنبياء عند القوم ، أما الشيعة فإن أئمتهم لم يتركوا لهم مجالا ليشطوا عن الحق والمعرفة الصحيحة كما فعل غيرهم ، وإنما تركوا لهم كنوزا من المعارف الإلهية نزل بها الوحي على النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويكفي من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن علي بن أبي طالب ( ع ) يقول في إحدى تلك الخطب مبينا حقيقة التوحيد :« الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادون ، ولا يؤدي حقه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ، ووتد الصخور ميدان أرضه .
  أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال ( فيم ) فقد ضمنه ومن قال ( علام ) فقد أخلى منه كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم . . . الخ » (1) .
  وهنالك الكثير من المفارقات بين المدرستين تحتاج إلى مجلدات لاستقصائها وعلى الجميع أن يبحث ليلقى الله على حجة وسأذكر بعض المفردات الفقهية الخلافية لنرى مع من الحق .

-------------------------------
(1) نهج البلاغة الخطبة الأولى . .

بنور فاطمة اهتديت _177_

التقية:
  ما أكثر ما شنع خصوم الشيعة عليهم في التقية التي غاب معناها عن أذهانهم ورسموا لها معاني من مخيلتهم الخربة فصاروا يتهمون بها الشيعة والتشيع ، وعندما أوضح هنا معنى التقية وشرعيتها لا أنتصر للشيعة ومعتقداتهم بقدر ما أنصر القرآن ومفاهيمه التي تمسك بها الشيعة فكان صحة ما يعتقدون به فرعا لأصل صحة القرآن الذي غابت بصائره عن العقول النجدية فتاهت حتى أنها تكاد لا تفقه الفرق بين الطهارة والنجاسة .
  البعض يردد أقوال الآخرين دون تمحيص ومعرفة غافلين عن خطورة استهزائهم بما لا يعلمون فيستهزئون من حيث لا يشعرون بالحق والقرآن وذلك ستكون عاقبته وخيمة ، وما أكثر ما سمعت « أن الشيعة منافقون لأنهم يعتقدون بالتقية وهي تعني النفاق وإظهار خلاف الباطن » ضاربين بذلك الآيات القرآنية وسيرة الأنبياء عرض الحائط، وقبل استعراض أدلة شرعية التقية من القرآن والسنة كما جاء في كتب أهل السنة والجماعة ، والتي أرى أن الشيعة أعلم بها من أهلها ، نتحدث عن معنى التقية وظروفها .
  إن الشيعة ومنذ وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عاشوا في اضطهاد وتشريد وتقتيل من قبل السلطات الجائرة التي تعاقبت ، وبعد واقعة كربلاء أصبح الشيعة وحدهم المناوئين للحكام والمتصدين لهموم الأمة باعتبار أن أئمتهم هم الحافظون للشريعة ، لذلك كرست الحكومات كل جهودها لضربهم .
  لهذا السبب ولغيره عرف الشيعة بالتقية دون غيرهم من الفرق الإسلامية التي كان علماؤها ومن ورائهم العامة يؤيدون كل سلطان عادل أو جائر ، بينما يصور لنا الإمام الباقر ( ع ) حال الشيعة آنذاك يقول : « وكان من أعظم ذلك وأكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ( ع ) فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ( ع ) ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق وكافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي » .

بنور فاطمة اهتديت _178_

  هذا هو الحال باختصار وعند عرضنا للأدلة سيتبين بإذن الله تعالى أن التقية حاجة فطرية وكلنا نستخدمها في حياتنا العملية خصوصا أولئك الذين يواجهون الطواغيت في كل مكان ، يعلمون بأهميتها في مسيرتهم الجهادية ، والتقية في اللغة معناها الحذر ، قال ابن منظور في لسان العرب توقيت واتقيت ، أتقيه تقى وتقية وتقاء : يعني حذرته .
  أما التقية شرعا كما عرفها الشيخ الأنصاري من ـ كبار علماء الشيعة المتقدمين ـ في كتابه المكاسب ( التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق ) ، وشرعية التقية تؤخذ من الكتاب والسنة كمصدرين للتشريع وستجد أن العقل يؤيد مشروعيتها .

أما من الكتاب العزيز :
  قوله تعالى ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فيشيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ) ( آل عمران / 28 ) ، وواضح من قوله تعالى ( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) شرعية التقية وأن المؤمن إذا خاف من الكفار يجوز له مداراتهم تقية منه ودفاعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك .
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية : ( المسألة الرابعة ) اعلم أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها :
  « الحكم الأول » إن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف على نفسه وماله فيداريهم بلسانه وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب .
  « الحكم الثاني » هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل.

بنور فاطمة اهتديت _179_

  « الحكم الثالث » إنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة ، وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز .
  « الحكم الرابع » ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين ، إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس.
  « الحكم الخامس » التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ولقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بألفين سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم.
  « الحكم السادس » قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتا في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين ، فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا ، وروي عن عوف بن الحسن أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان (1) ، يتضح من كلام الرازي دلالة الآية على شرعية التقية ، ويذكر ذات المعنى ابن كثير في تفسيره (2) ،** ويقول الله سبحانه وتعالى ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ( سورة النحل / 106 ).

-------------------------------
(1) التفسير الكبير للفخر الرازي ج 8 / 13 .
(2) تفسير القرآن العظيم ج 1 / 308 .

بنور فاطمة اهتديت _180_

  والتي نزلت في عمار بن ياسر ، وكلنا يعرف قصة تعذيب كفار قريش له حتى قال ما طلبوه منه من تمجيد آلهتهم وغير ذلك ، إلا أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشره وأبويه بالجنة وقال له إذا عادوا فعد بمثل ما قلت ، ولا أعتقد أن هنالك أوضح من ذلك لفهم التقية والتي مارسها مؤمن آل فرعون كما جاء في القرآن ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ) ( سورة غافر : آية / 28 ).

أما من السنة :
  فقد أورد الرازي نقلا عن البخاري في صحيحه من كتاب الأدب باب المداراة مع الناس عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنا لنكشر في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم » ، كما نقل ـ الرازي ـ أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله قال : نعم نعم نعم ، فقال : أفتشهد أني رسول الله قال : نعم. وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله قال : إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه (1) .
  كل ذلك يدلل على مشروعية التقية وأنها حكم عام يشمل كل إنسان ، وبضم حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » يكتمل المطلب، والتقية كحكم لها ضوابطها وحدودها والشيعة فيما يرتبط بفروع دينهم لا يحتاجون لغيرهم للأخذ منهم ولقد جئنا بالأدلة حتى لا يطلق البسطاء تهمهم بجهل .

-------------------------------
(1) تفسير الرازي ج 8 / 12 .

بنور فاطمة اهتديت _180_

  وإليك روايات عن طريق أهل البيت ( ع ) وهم الحجة على شيعتهم لا غيرهم : عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( ع ) قال : اتقوا على دينكم فاصحبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له إنما أنتم من الناس كالنحل في الطير لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منهاشيء إلا أكلته ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبوننا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنجلوكم في السر والعلانية رحم الله عبدا منكم كان على ولايتنا .
عن الإمام محمد بن علي الباقر ( ع ) : التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به ، وعنه أيضا : إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية .
  وقال الإمام الصادق (ع) : « من لا تقية له لا دين له » ، وهذا قليل من كثير ورد عن طريق أهل البيت ( ع ) وعرفنا أصله في القرآن ، والعقل يذعن بذلك إذ أنه من البداهة أن التوقي والحذر مطلوبان في كل الأحوال ، ولا تكون التقية بذلك نفاقا كما حاول البعض أن يعرفها وكيف يأمرنا الله بالنفاق .
  كما أنها لا تجعل من الدين وأحكامه سرا من الأسرار كما ذهب إليه بعض المستشرقين وأذيالهم ، فكيف تكون السرية عند الشيعة ، وهذه كتبهم ليس دونها حاجز أو حجاب ، فليبحث الجميع وليفتش ، هذه النجف أمامكم وتلك قم فارحلوا إليها وانزلوا على مكاتبها فلن تجدوا دونكم سترا أو ممانعة ، أي الكتب أحببت فهي تحت يدك وفي متناولها وفيها أمهات الكتب ومصادر الأحكام لم تبق مسألة إلا وفصلت ولم تطرح قضية إلا وحلت وعلماؤهم شهرتهم عمت أرجاء المعمورة.
  وفي الخاتمة أورد قصة لأحد الأصدقاء المهتدين ، التف حوله عدد من الشباب يحاولون إجباره على أن يعترف بأن التقية نفاق فقال لهم : عرفوا لي النفاق، قالوا : هو إضمار الكفر وإظهار الإيمان ، قال لهم : أما التقية فهي إظهار الكفر وإضمار الإيمان كما جاء في القرآن فهل لديكم دليل بحرمة ذلك فسكتوا ، وقد قال الإمام علي ( ع ) (221) « لو سكت الجاهل ما اختلف حول الحق اثنان » (*).

-------------------------------
(*) فليراجع كتاب إسلامنا في التوفيق بين الشيعة والسنة ـ التشيع ـ لعبد الله الغريفي .

بنور فاطمة اهتديت _181_

الوضوء :
  إن الوضوء واجب ، وبنقصانه بلا سبب تكون الصلاة باطلة ، هذا ما اتفق عليه المسلمون ، إلا أن هنالك اختلافا في كيفيته والتي بلا شك يتوقف عليها صحة صلاة الجميع ، والشيعة تبعا لأئمتهم يعتقدون بصحة الوضوء الذي يتعبدون به ووضوء غيرهم غير تام ولا تصح به الصلاة ولهم أدلتهم على ذلك من القرآن والسنة .
  وبالرغم من أن هذه المسائل التي ذكرناها فرعية تتبع الأصل إلا أن بعض الكتاب والمرتزقة والمأجورين أبوا إلا أن يدخلوا الناس في مباحث فرعية لإلهائهم الناس عن الالتفات إلى الاختلاف في المنبع والذي يؤدي إلى الاختلاف في طعم الماء بسبب ذلك إلا أن علماء الشيعة لم يتوانوا في إثبات حتى فروع دينهم من كتب العامة ، هنا تكمن قوة الحجة، هناك اختلاف بين مدرسة أهل السنة والجماعة ومدرسة أهل البيت ( ع ) حول حكم الأرجل في الوضوء بالإضافة إلى كيفية غسل الأيدي .
  أما الأخيرة فإن الشيعة يرون أن الغسل في اليدين يبتدئ بالمرفقين وينتهي بأطراف الأصابع ولا يسوغ الابتداء بأطراف الأصابع والانتهاء بالمرفقين ، ولو فعل المتوضئ ذلك بطل وضوؤه وقد أخذوا ذلك من الممارسة العملية لوضوء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي.

بينه الأئمة ( ع ) فيما ورد عنهم :
  سئل الإمام الباقر ( ع ) عن وضوء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فدعا بطشت أو بتور فيه ماء فغسل كفيه ، ثم غمس كفه اليمنى في التور فغسل وجهه بها واستعان بيده اليسرى بكفه على غسل وجهه ، ثم غمس كفه اليسرى في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الكف لا يرد الماء إلى المرفقين ثم غمس كفه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى لكف لا يرد الماء إلى المرفق كما صنع باليمنى ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء (1)، ومن خلال آية الوضوء نستطيع أن نتعرف على الكيفية ثم نرى ما هو حكم الأرجل ونأتي بالأدلة من الطريقين، يقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) ( سورة المائدة : آية / 6 ) .

-------------------------------
(1) وسائل الشيعة ج 1 / 275 .

بنور فاطمة اهتديت _182_

  قد يقال بأن دلالة الآية صريحة في بيان كيفية الوضوء ووجوب غسل اليدين بدءا بالأصابع وإنهاء بالمرفقين ، ولكن بقليل من التأمل نقول أن اليد مشتركة بين الأصابع إلى الزند إلى المرفق وإلى الكتف ، فإذا قيل اغسلوا أيديكم يكون مجملا ومبهما يحتاج إلى مفسر يعين حد المغسول به فجاءت إلى المرافق و ( إلى ) هنا لبيان حد المغسول به لا لبيان كيفية الغسل والآية ناظرة إلى ما هو متفاهم عرفا إذ أنه إذا قيل لشخص اغسل هذا البيت أو ضع عليه طلاء إلى السقف فهل يبدأ من تحت إلى أعلى أم العكس ولعل فتاوى الأئمة الأربعة بالجواز لا بالوجوب في الابتداء بالأصابع يؤكد هذا المعنى ولو كانت ( إلى ) جاءت لبيان كيفية الغسل لوجب على الأئمة الأربعة أن يفتوا بوجوب ذلك .
  ولفظ ( إلى ) يستخدم أحيانا بمعنى « مع » كقوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ، والشيعة اتبعوا بالإضافة إلى النص من هم أعرف بالقرآن من غيرهم .

حكم الأرجل :
  أما حكم الأرجل فهو أوضح من مسألة كيفية غسل اليدين ومن خلال نفس الآية وهو وجوب المسح ، ولا معنى للقول بالغسل وهو مخالف للآية الكريمة بالإضافة إلى السيرة العملية لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيما يلي بيان ذلك .
  في قوله تعالى ( وَأَرْجُلَكُمْ ) وردت قراءتان مشهورتان : ـ القراءة الأولى : ( وَأَرْجُلَكُمْ) بالجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم ( في رواية أبي بكر عنه ) كما ذكر ذلك الرازي في تفسيره(1)وبناء على هذه القراءة فالأرجل معطوفة على الرؤوس فوجب مسحهما كما وجب ذلك في الرؤوس ، يقول الرازي :

-------------------------------
(1) تفسير الرازي ج 11 / 161 .

بنور فاطمة اهتديت _183_

  اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما ، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر : أن الواجب فيهما المسح ، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين المسح والغسل ، أما القراءة الثانية وهي قراءة « وَأَرْجُلَكُمْ » بالنصب وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه كما ذكر ذلك الرازي ، وبناء على هذه القراءة يكون حكم الأرجل المسح أيضا ، لأنها معطوفة على الرؤوس المنصوبة محلا المجرورة لفظا فقوله تعالى ( برؤوسكم ) لها حالتان : ـ النصب محلا لأنها مفعول به ، ـ الجر لفظا لأنها مسبوقة بحرف الجر، فالأرجل المعطوفة على الرؤوس يجوز فيها حالتان ، ـ النصب عطفا على المحل. الجر عطفا على اللفظ، والعطف على المحل وارد في لغة العرب فيقال « ليس فلان بعالم ولا عاملا » بنصب عامل عطفا لها على محل عالم ، كما أنه لا يصح عطف الأرجل على الوجوه والأيدي ، حيث لا يجوز العطف على الأبعد مع إمكان العطف على الأقرب ، وكذلك لوجود الفاصل الأجنبي ، فلا يصح أن يقال ( ضربت زيدا ومررت ببكر وخالدا ) بعطف خالد على زيد لوجود الفاصل وهو « مررت ببكر » كذلك في آية الوضوء لا يصح عطف ( أرجلكم ) على ( وجوهكم وأيديكم ) لإمكان العطف على الأقرب وهو ( رؤوسكم ) ولوجود الفاصل الأجنبي وهو جملة ( وامسحوا برؤوسكم )، أخبار من مصادر سنية توضح وجوب المسح دون الغسل :

بنور فاطمة اهتديت _184_

  1 ـ في مسند الإمام أحمد عن علي قال « كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يمسح ظاهرهما » (1) .
  2 ـ أخرج الحاكم في المستدرك بسنده إلى رفاعة بن رافع عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « إنها لا تتم صلاة أحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين » (2) ، قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، وقد أخرجه بخمسة أسانيد صحيحة .
  3 ـ أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي مال الأشعري أنه قال لقومه اجتمعوا أصلي بكم صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فلما اجتمعوا قال : هل فيكم أحد غيركم قالوا : إلا ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء فتوضأ وتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثة وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه ثم صلى بهم (3).
  4 ـ أخرج ابن ماجة في سننه قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « لا تتم الصلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين » (4) .

-------------------------------
(1) مسند أحمد بن حنبل ج 1 / 95 .
(2) المستدرك ج 1 / 242 .
(3) مسند أحمد بن حنبل ج 5 / 342 .
(4) سنن ابن ماجة ج 1 / 156 .

بنور فاطمة اهتديت _185_

  5 ـ وأخرج أيضا عن الربيع قالت : أتاني ابن عباس عن هذا الحديث تعني حديثها الذي ذكرت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ وغسل رجليه فقال ابن عباس : « إن الناس أبوا إلا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلا المسح » (1) ، هذا هو حكم الأرجل في الوضوء « المسح » ، وقد قال ابن عباس للذين يقولون بالغسل : ألا تتدبرون القرآن لقد أبدل الله تعالى الغسل مسحا في التيمم وأسقط المسح في آية التيمم فما لكم لا تفقهون . . . يقول تعالى في نفس آية الوضوء من سورة المائدة ( وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) ( سورة المائدة : آية / 6 ) فتأمل . .

الجمع بين الصلاتين :
  هو الجمع بين صلاتي الظهر والعصر ويسمى عند الفقهاء بالظهرين ، والمغرب والعشاء ويسمى بالعشائين بالإضافة إلى صلاة الصبح، والأدلة على ذلك كثيرة ومتواترة من القرآن الكريم وعن طريق المدرستين، يقول الله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) ( سورة الإسراء : آية / 78 ) ، ـ الدلوك : معناها الزوال، ـ الغسق : فيه قولان :
  أ ـ أول ظلمة الليل .
  ب ـ شدة الظلمة في نصف الليل .

-------------------------------
(1) سنن ابن ماجة ج 1 / 156 .

بنور فاطمة اهتديت _186_

قرآن الفجر :
صلاة الفجر:
  وبناء على تفسير الغسق بأول الليل يكون النص قد حدد ثلاث أوقات للصلاة :
  الوقت الأول : الزوال وهو بداية الوقت للظهر والعصر معا .
  الوقت الثاني : أول الليل وهو بداية الوقت للمغرب والعشاء معا .
  الوقت الثالث : الفجر وهو الوقت الخاص بالصبح ،وبناء على تفسير الغسق بنصف الليل يكون النص دالا على جواز الجمع فوقت الفرائض الأربع : الظهر والعصر والمغرب والعشاء ممتد من الزوال إلى نصف الليل فالظهر والعصر يشتركان في الوقت من الزوال إلى الغروب إلا أن الظهر قبل العصر ، ويشترك المغرب والعشاء في الوقت من الغروب إلى نصف الليل غير أن المغرب قبل العشاء ، أما فريضة الصبح فقد اختصها الله بوقتها المنوه به في قوله تعالى ( وقرآن الفجر ) (1)، يقول الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية « يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات : وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب وقتا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا » .
  إلا أن الرازي يعقب قائلا « إلا أنه دل الدليل على أن الجمع جائز بعذر السفر وعذر المطر وغيره » (2)، ونحن نرد عليه قوله الأخير للأدلة التي تواترت عن طريق أهل السنة والجماعة والتي أكدت على جواز الجمع مطلقا في الحضر ودون عذر ، وأهل البيت ( ع ) قالوا أيضا بذلك وأهل البيت أدرى بما فيه .

-------------------------------
(1) التشيع ـ السيد عبد الله الغريفي .
(2) تفسير الفخري الرازي ج 21 / 27 .

بنور فاطمة اهتديت _187_

الأدلة من السنة :
  1 ـ عن سهل بن حنيف قال : سمعت أبا أمامة يقول : صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر فقلت : يا عم ما هذه الصلاة التي صليت ؟ قال : العصر وهذه صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي كنا نصلي معه (1).
  2 ـ عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال : « إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى بالمدينة سبعا وثمانية الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء » (2) .
  3 ـ خطب ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة ، الصلاة فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلمني الصلاة لا أم لك ! ثم قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، فقال عبد الله بن شقيق ( راوي الحديث ) فحاك في صدري من ذلكشيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته (3).
  4 ـ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الظهر والعصر جميعا بالمدينة من غير خوف ولا سفر ، قال أبو الزبير فسألت سعيدا لم فعل ذلك قال : سألت ابن عباس كما سألتني فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته (4).
  5 ـ عن ابن عباس قال : جمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ، قال الراوي : قلت لابن عباس : لم فعل ذلك. قال : كي لا يحرج أمته (5).

-------------------------------
(1) البخاري ج 1 / 288 .
(2) المصدر ج 1 / 186 .
(3) مسلم ج 2 / 152 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر .
(4) مسلم ج 2 / 152 نفس الباب .
(5) المصدر ج 2 / 152 .

بنور فاطمة اهتديت _188_

الأدلة من طريق أهل البيت ( ع ) :
  هذا هو حال الجمع بين الصلاتين كما هو واضح إطلاقه في كل الأحوال تخفيفا للأمة ، وذلك ما جاءت به كتب أهل السنة والجماعة ، أما ما جاء عن أهل البيت ( ع ) فكثير نختار منه :
  1 ـ عن الإمام الصادق ( ع ) قال :
  صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة ، وإنما فعل ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليتسع الوقت على أمته (1).
  2 ـ عن الإمام الباقر ( ع ) قال :
  « إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر فإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة » .
  3 ـ وبتفصيل أكثر يقول الإمام الصادق ( ع ) « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتى يمضي مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتى يبقى من الشمس مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات ، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر وبقي وقت العصر حتى تغيب الشمس ». وقال : « إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتى يمضي مقدار ما يصلي المصلي ثلاث ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات ، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء إلى انتصاف الليل » .

وسائل الشيعة:
وهكذا تكون الصلاة خمس صلوات واجبة مفروضة في اليوم والليلة هي الفجر ووقته معلوم والظهر والعصر لهما وقت مشترك يجوز الجمع فيه على أن يقدم الظهر وأيضا للمغرب والعشاء وقت مشترك يجوز الجمع فيه على أن يقدم المغرب على العشاء ، وهذا ما يؤمن به الشيعة ويعملون به ، وهو الحق.

-------------------------------
(1) وسائل الشيعة ج 3 / 101 .

بنور فاطمة اهتديت _189_

الزواج المنقطع « المتعة » :
  باسم الشرف والكرامة أخذ البعض يطعن في أحكام الله التي شرعها في كتابه وبلغها نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي التزم بها شيعة أهل البيت ( ع ) فكان جزاؤهم التشنيع والاتهام والإشاعات والكذب عليهم ، وبلغ ذلك حده في زواج المتعة الذي جاء به القرآن وقال به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ، وعلى مشروعيته أكد أهل البيت ( ع ) .
  ولنا حديث حول هذا الموضوع ، ولكن قبل ذلك نستعرض بعض الأدلة التي تحسم الأمر تماما إذا كان أهل السنة والجماعة يؤمنون بكلام الله تعالى وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم نعرج لنتعرف على أقوال أولئك الذين ظنوا بأنهم بلغوا شأوا بعيدا من معرفة ما يضر المجتمع وما يصلحه .

الدليل القرآني :
قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) ( سورة النساء : آية / 24 ) ، ذكر الرازي في تفسيرها (1) ، أنه روي أن أبي بن كعب كان يقرأ ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ ) إلى أجل مسمى ـ ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وهذه أيضا قراءة ابن عباس والأمة ما أنكرت عليهما في هذه القراءة فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة ، ويقل الرازي أثناء بحثه حول آية المتعة عن عمران بن حصين أنه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم تنزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم ينهنا عنها ثم قال رجل برأيه ما شاء (2) .

-------------------------------
(1) تفسير الرازي ج 10 / 51 .
(2) المصدر ج 1 / 49 .

بنور فاطمة اهتديت _190_

  ومثله يروي الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج 4 / 436 ، كما قال بنزول هذه الآية في المتعة مجاهد فيما أخرج الطبري، وفي الدر المنثور عن الحكم أنه سئل عن هذه الآية (آية المتعة) أمنسوخة قال : لا ، وقال علي : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي(1) وأعتقد أن مفهوم هذه الآية حول المتعة واضح جدا ومن خلال سياق الآيات نستطيع أن نتعرف على أنواع الزواج التي شرعت في الشريعة الإسلامية ، وقد أكد على ذلك تواتر الروايات التي جاءت تبين الآية ، وتؤيدها مجموعة من الأحاديث التي جاءت في الصحاح .
  إلا أن علماء العامة وكما تعودنا منهم كثرة محاولات التضليل وتشويه صورة الشيعة ، أنكروا المتعة وتبرأوا منها وهم يحسبون أنهم بذلك يضربون التشيع ، وغفلوا أو ربما عن وعي أنهم بذلك قد ضربوا القرآن الحكيم وطعنوا في الحكمة الإلهية للتشريع ، وكأنما أرادوا أن يفرضوا على الله شريعة تلائم عقولهم التي لم تستوعب مضامين الرسالة وروحها ، فصعب عليهم التعرف على الحق والتسليم له ، وكان بينها وبين الحقيقة حجاب التكبر والغطرسة وادعاء العلم ، والله يعلم وهم من جهل مركب في طغيانهم يعمهون .
أقول ذلك وأتألم لحال الأمة التي أصبح علماؤها أكثر الناس جهلا بأمور دينهم . . قرأت كتبهم واستمعت إلى علمائهم حول الزواج « المؤقت » ، فوجدت أن أفضل من تحدث عنه قال إنه تقنين للزنا ، وبقولهم هذا يكون الله تعالى ورسوله قد شرعا الزنا ـ حاشا الله ورسوله ـ حتى ولو صدقت دعواهم بنسخه أو تحريمه بعد تشريعه تكون هنالك فترة زمنية مارس فيها المسلمون الزنا مقننا . .

-------------------------------
(1) الدر المنثور للسيوطي ج 2 / 486 .

بنور فاطمة اهتديت _191_

  والآن لنر الأدلة المأخوذة من الصحاح ، هل قالت عن المتعة أنها زنا ، عن عبد الله بن مسعود قال : « كنا نغزوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معين » (1)، عن سلمة بن الأكوع عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا. تزايدا أو تتاركا » (2) .
  عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا : كنا في جيش فأتانا رسول الله ( صلى الله عليه وآله سلم ) فقال : « قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا » (3)، عن جابر بن عبد الله قال : « كنا نتمتع على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي بكر وعمر حتى نهانا عمر عنها أخيرا يعني متعة النساء » (4)، عن جابر بن عبد الله قال : « تمتعنا متعتين على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الحج والنساء فنهانا عمر عنهما فانتهينا » (5)، كما ذكر الرازي أنه روي أن عمر قال على المنبر : « متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنا أنهى عنهما متعة الحج ومتعة النكاح » .
  هذه وغيرها من الأحاديث والروايات تبين أن زواج المتعة زواج شرعي وأن تحريمه لم يكن من الله ورسوله إنما قال فيها الرجل « عمر » بما شاء ، ونحن غير ملزمين بقول عمر الذي ارتآه ونقبل بشهادته فيما يخص حليتها ، لأن القرآن أمرنا بأخذ ما قاله لنا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما شرعه أما ما قاله عمر إذا خالف كتاب الله وسنة رسوله فنضرب به عرض الحائط ، وهنالك من هو أعلم منه وكان يرجع إليه في المعضلات وقد قال بحليتها وهو الإمام علي ( ع ) الذي ينقل قوله السيوطي في الدر المنثور « لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي » .

-------------------------------
(1) صحيح مسلم ج 2 باب نكاح المتعة وأخرجه البخاري ج 7 / 8.
(2) البخاري ج 7 / 25.
(3) البخاري ج 7 / 24 باب نكاح المتعة.
(4) مسند أحمد بن حنبل ج 3 / 304.
(5) مسند أحمد بن حنبل ج 3 / 356.

بنور فاطمة اهتديت _192_

  وهذا ينقلنا لنخوض قليلا في الحديث عن المجتمع ، وما سببه تحريم زواج المتعة من مشاكل ، إن مشكلة الجنس من أكثر المشاكل عمقا وتعقيدا وتأثيرا في المجتمع الإنساني بما تحمله من مضاعفات خطيرة تؤثر في مسار حياة الإنسان ومن أبرز هذه المضاعفات الانحرافات الجنسية وإشباع الغريزة بصورة غير مشروعة مما ينعكس سلبا على المجتمع ، بالإضافة إلى الانعكاسات النفسية والاكتئاب والانطواء وسائر التوترات التي تكون نتاجا للممارسة المنحرفة للجنس أو كبت هذه الغريزة والتي تعتبر متأصلة في تكوين الإنسان ولا تنفك عنه ، وغير ذلك من المشاكل التي درسها علماء النفس والتربية والاجتماع والسياسة .
  والإنسان كما يحتاج للغذاء يحتاج للقنوات التي من خلالها يشبع غريزته الجنسية ، وكما هو واضح في مجتمعاتنا ـ والسودان أبرز المصاديق ـ تأخرت سن الزواج نسبة لظروف كثيرة بعضها يرتبط بالناحية المادية وبعضها يرتبط بالاستعداد الذاتي للإنسان لتحمل مسؤولية تكوين العائلة ، فأصبح الرجل يتزوج فوق سن الثلاثين ، وبين هذه السن وسن البلوغ التي تبدأ معها الحاجة للجنس سنين طويلة فتبرز الحاجة إلى وجود حلول في هذه الفترة والحل ربما يكون بأحد أمرين : أما إسكات نداء الجنس بالوعظ والإرشاد والتخويف والتحذير وهذه الوسيلة ربما يكون لها تأثير في الواقع الخارجي ولكن تبقى المشكلة في داخل كيان الإنسان تحتاج إلى حل ، والحل الآخر يكمن في الإباحة الجنسية وهذا ما لا يقبله عاقل يؤمن بالقيم الدينية والمثل والمبادئ الإنسانية كما أنه يترتب عليه مضاعفات خطيرة في حياة الإنسان وسلوكه إضافة إلى كثير من السلبيات على مستوى الفرد والمجتمع .
  « أما الزواج الدائم إذا عالج قسما من المشكلة فهو لا يعالجها في مختلف مجالاتها فالمشاكل ليست كلها مشاكل مالية وطبقية أنما هنالك جوانب من المشكلة تتطلب حلا » .

بنور فاطمة اهتديت _193_

  يقول العالم النفسي « برتراندرسل » : (إن سن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير فإن الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتين في نحو الثامنة عشرة أو العشرين فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة ، ولا يطول به عهد الانتظار إلا إذا آثر الانقطاع للعلم مدى الحياة ، وقل يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشباب.
  وأما في العصر الحاضر فالطلاب يتخصصون لعلومهم وصناعاتهم بعد الثامنة عشرة أو العشرين ، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة والأعمال الصناعية والاقتصادية ، ولا يتسنى لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين ، فهنالك فترة طويلة يقضيها الشاب بين سن البلوغ وسن الزواج لم يحسب لها حساب في التربية القديمة ، وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي والرغبة الجامحة وصعوبة المقاومة للمغريات ، فهل من المستطاع أن نسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطى إننا إذا أسقطناها من الحساب فسيكون نتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل والصحة بين الشباب والشابات ) (1) وفي الواقع إن كلمة المؤمنين علي ( ع ) لخصت معاناة الأمة من جراء تحريم الزواج المؤقت ، قال علي ( ع ) « ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد ولولا نهي عمر ما زنى إلا شقي » .
  هذه الرحمة الإلهية تعني أن المتعة تحمي الإنسان من كل المضاعفات الخطيرة التي تفرزها مشكلة الجنس ، ولا تبقي للزنا أثرا في مجتمعاتنا إلا لدى من تجذرت عنده نزعات الشذوذ الخلقي ، ومع المتعة لا يبقى أي داع لتحليل العادة السرية ، كما أفتى بذلك بعض علماء الدين المعاصرين .

-------------------------------
(1) الزواج المؤقت ص 11 محمد تقي الحكيم .

بنور فاطمة اهتديت _194_

  وقد وقع في يدي صدفة كتاب طبع في السعودية طباعة فاخرة عنوانه الإسلام والجنس يقول فيه الكاتب : « وفي حالات الاضطرار يجوز للمسلم ممارسة العادة السرية لأنه لا حرج في الدين » ولكن لم يبين لنا هذا العلامة حدود الاضطرار وملاكه ونحن نشاهد في بلداننا كل أنواع المحفزات من خلاعة وتبرج فهل نعمل بفتواه والرجل يعيش بعد البلوغ عشرين عاما بلا زواج .
  في حواراتي المختلفة مع بعض الإخوة كثيرا ما يربطون المتعة بالزنا ويدور نقاشهم عن الآثار بعيدا عن أصل مشروعيتها ، ولقد ثبت أنها شرعت ، والحديث عن نسخها يفتقد للدليل القوي ، وما جاء من روايات وأحاديث متهافته ومتضاربة لا يقوى على النهوض لمستوى دليل في مقابل ما أوردناه ، أما نهي عمر عنها فلا يجدي في مقامنا هذا كما بينا خصوصا وأن هنالك من نادى بحليتها من الصحابة .
  أما كون المتعة زنا ، فهذا قول غريب يقودنا إلى إشكالات أشرنا إليها ، والزنا هو ممارسة الجنس بصورة غير مشروعة والمتعة غير ذلك فهي لا تختلف عن الزواج إلا في بعض الآثار سنذكرها إن شاء الله . . وهنالك من يقول بعدم قبول المجتمع لها ، أقول إن تشريع الله تعالى لا يخضع لمدى قبول المجتمع له أو رفضه ، إنما يجب أن يخضع المجتمع لأحكام الله فتكون حاكمة عليه ، وما أكثر رفض المجتمعات قديما وحديثا للأحكام السماوية فاجأت أحدهم بالسؤال : هل تقبل أن يتزوج أبوك زوجة أخرى وأمك موجودة فأجاب بسرعة : لا قلت : ولم وقد شرع الله له في القرآن أن يتزوج أربعة وهنالك بعض الشبهات الجانبية تثار حول هذا الموضوع لا تقدح في صحته ، أما التعامل مع هذا الحكم كيف يكون فذلك بحث آخر ، مثلا ربما يقال أنه بعد انتهاء مدة عقد المتعة من الذي يضمن ألا تتزوج المرأة قبل تمام العدة ؟

بنور فاطمة اهتديت _195_

  أقول إن للشريعة الإسلامية والرسالات السماوية عموما مميزات تفوقت بها على القوانين الوضعية لضبط المجتمع وأهم هذه الميزات والتي تعتبر ضمانة لعدم الاخلال بالقانون هي الإيمان والتقوى ، إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية نزلت ليطبقها من يؤمن بالله واليوم الآخر والثواب والعقاب ، وإلا ما هو الضمان أن يكون الابن الذي يأتي من زوجتك هو من صلبك ، وكيف يمكننا أن نثق بأن المرأة المطلقة اعتدت كامل أيامها ، وكيف يتسنى لك أن تعلم أنك ابن أبيك إن كثيرا من الأشياء تتحكم فيها القيم والمبادئ والأخلاق والإيمان والتقوى والورع وتبقى المشكلة في ذات الإنسان وليس في التشريع ، وإذا فقد الالتزام النابع من الإيمان لم تكن الأحكام المجردة مانعة من انتهاك الحرمات وحدوث الفوضى ، وهذا تشريع ملك اليمين فهل نعتبره زنا أيضا وأن المجتمع لا يقبله وبالتالي نلغيه وبعد قرون نكتشف أن زواج الرجل بأربع زوجات لا يلائم المجتمع فنلغيه وهكذا .
  إن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وإليك بيان تفصيلي عن الزواج المؤقت الذي لا يفترق عن الزواج الدائم إلا في بعض الآثار، ما المقصود بالزواج المؤقت (1) : عقد زواج بين الرجل والمرأة ضمن شروط شرعية محددة من أهمها :
  1 ـ الايجاب والقبول .
  2 ـ تحديد المدة ضمن صيغة العقد .
  3 ـ تحديد المهر .
  4 ـ إذن الولي إذا كانت البنت بكرا على رأي الكثير من الفقهاء .
  5 ـ انتفاء الموانع الشرعية من النكاح ، كالنسب أو السبب أو الرضاع أو الاحصان أو العدة أو غير ذلك .

-------------------------------
(1) التشيع السيد عبد الله الغريفي ص 532 .

بنور فاطمة اهتديت _196_

  6 ـ لا يجوز للمسلمة أن تتمتع بالكافر ، كما لا يجوز للمسلم أن يتمتع بالمشركة غير الكتابية .

العناصر المشتركة بين الزواج الدائم والزواج المؤقت :
  1 ـ العقد الشرعي المشتمل على الايجاب والقبول اللفظيين .
  2 ـ الآثار الشرعية المترتبة على العقد إلا ما استثنته الأدلة الخاصة .
  3 ـ أحكام الأولاد واحدة في الزواجين .
  4 ـ العدة واجبة على المرأة مع الدخول وعدم اليأس في الحالتين وبالنسبة للوفاة تجب العدة حتى وإن كانت المرأة صغيرة أو يائسة أو غير مدخول بها .

عناصر الاختلاف بين الزواجين :
  1 ـ في الزواج المؤقت تحدد المدة والأجل وفي الدائم لا تحديد للمدة والأجل .
  2 ـ في المؤقت يشترط ذكر المهر وفي الدائم لا يشترط ذلك .
  3 ـ في المؤقت لا طلاق بل تبين المرأة بانتهاء المدة أو بهبة المدة لها أو الوفاة ، وفي الدائم لا تبين المرأة إلا بالطلاق أو الوفاة إلا في الحالات الاستثنائية كالارتداد والفسخ فتبين المرأة بلا طلاق .
  4 ـ في المؤقت لا توارث بين الزوجين إلا مع الشرط عن بعض الفقهاء ، وفي الدائم يتوارث الزوجان إلا في حالات استثنائية كالقتل أو كون الزوجة غير مسلمة .
  5 ـ في المؤقت لا نفقة للزوجة إلا مع الشرط ضمن العقد وفي الدائم تجب النفقة إلا في الحالات الاستثنائية كالنشوز.
  6 ـ في المؤقت لا قسم للزوجة ولا تجب مضاجعتها ولا مقاربتها في كل أربعة أشهر مرة وفي الدائم يجب ذلك .
  7 ـ في المؤقت تستحق المرأة المهر كاملا وإن لم يدخل بها إذا لم يكن ذلك بسبب مانع من قبلها ، وفي الدائم لا تستحق المهر كاملا إلا مع الدخول .

بنور فاطمة اهتديت _197_

  هذا هو زواج المتعة كما شرعه الدين وهو رحمة الله تعالى للإنسان الذي خلق ضعيفا ، وقد قال تعالى في سورة النساء بعد بيان أنواع الزواج المختلفة بما فيها الزواج المؤقت ( يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ) (1) ولكن أبت الأمة كعادتها إلا أن تضيق على نفسها كما فعلت أمة بني إسرائيل .
ونتوج بحثنا بروايات عن أهل البيت ( ع ) : ـ عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر الباقر ( ع ) عن المتعة فقال : « نزلت في القرآن ( فما استمتعتم به منهن . . . الآية ) » .
  عن الإمام الصادق ( ع ) : قال « المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) » عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : سألت أبا عبد الله هل نسخ آية المتعةشيء قال : لا ، ولولا ما نهى عنها عمر ما زنى إلا شقي ونذكر هنا بعض الملاحظات للذي يدعي بأن آية المتعة منسوخة بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) ( سورة المؤمنون : آية / 5 ـ 7 ) .
أولا : إن هذه الآية جاءت في سورة المؤمنون وهي مكية وآية المتعة جاءت في سورة النساء وهي مدنية فكيف يكون المتقدم نزولا ناسخا للمتأخر ، أما ما ذكروه بأن الآية حددت نوعين من النكاح فقط : الزواج وملك اليمين .
  فالمتعة أيضا زواج كما بينا والأمر واضح ، وبالنسبة للروايات التي تحرم المتعة فهي غير صحيحة لتعارضها مع الأحاديث القائلة بحليتها كما أن أخبار التحريم أخبار آحاد ، والنسخ لا يثبت بأخبار الآحاد ، ثم إن هنالك تناقضا واضحا في روايات التحريم فبعضها يقول بأن التحريم صدر يوم خيبر وأخرى في يوم الفتح وثالثة في تبوك ورابعة في عمرة القضاء وخامسة في حجة الوداع . . . الخ.

-------------------------------
(1) سورة النساء : آية / 28 .

بنور فاطمة اهتديت _198_

  وأخيرا إن روايات التحريم معارضة بروايات أهل بيت النبوة ( ع ) المتواترة والدالة على إباحة المتعة إلى يوم القيامة .

خاتمة :
  في ظل أمواج الفتن ما أحوج الإنسان إلى أن يجد سفينة النجاة لتأخذ به إلى بر الأمان ، وما أحوجه إلى التعرف على المعتقد السليم الذي من خلاله يستطيع أن يعيش واقع حياته اليومية باطمئنان حتى يلقى الله وقد وفى بعهده وميثاقه .
  وتبقى مشكلة التعصب الأعمى وعدم التسليم للحق والتمرد عليه تكبرا ، مما يجعل بيننا وبينه حجابا إذا أردنا التمسك به والبحث عنه ، إذ أنه لا بد من التأكد مما نحن عليه ، على ألا يكون التوارث أبا عن جد هو المرتكز لفهم فلسفة الحياة ، ولا يمكن أن نحقق العبودية في أنفسنا وهي غاية الخلق (1) إلا عبر الطريق الذي أمرنا الله به ولا يمكن أن تكون الوراثة التي نبذها القرآن هي الضمانة لصحة ما نعتقده والمسلمون انقسموا لفرق ومذاهب كل يدعي وصلا بليلى ، والظلمات كثيرة والنور واحد وهذا هو مقصود حديث الفرقة الناجية ، فليصبح الإنسان كالمجنون وهو يبحث لكي يختار الصواب .
  إن الأمة الإسلامية تعيش تحديا حضاريا في كل الجوانب لم يترك العدو لها مجالا إلا وحاول من خلاله أن يبث سمومه ، وفي واقعنا المعاش نجد الكثير من المذاهب التي تلبست بلباس الدين ودعت إليه بينما كانت تخدم مصالح الأعداء وتحمل في داخلها معاول هدم رسالة السماء ، وأبرز مصداق لذلك الوهابية التي انتشرت في طول البلاد الإسلامية وعرضها مستغلة الظروف الاقتصادية في الدول النامية ولم تعتمد على المعتقد السليم ولا على الفكر الصحيح أو المنطق في الحوار بل ظهرت عبر مؤسساتها وأموالها ، جاعلة الدين كتلة جامدة لا تتفاعل وواقع الحياة ، لذلك تتركها دوائر الاستعمار لتسرح بينما تصب على الشيعة كل أنواع التضليل .

-------------------------------
(1) الآية ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

بنور فاطمة اهتديت _199_

  هنالك كثير من الأسباب تقف حائلا بين المرء والحقيقة عليه أن يتجاوزها ولقد حاولت ذلك فكان الانتقال عبر محطات التاريخ للوقوف على المنعطفات الخطيرة التي مرت بها الأمة الإسلامية فتفرقت شيعا وأحزابا ، لم يكن همي سوى الحقيقة . . الحقيقة وحدها دون الالتفات إلى ما سيعترضني من مشاكل في سبيل ذلك ، ولقد حاول البعض عندما انهزم بالدليل والبرهان أن يتهمني تارة بالشيوعية وهي التي لم يستطع نسفها غير علماء الشيعة بقيادة الشهيد الصدر فكيف يلتقي الشيعي مع الشيوعي اللهم إلا إذا اشتبهت الأحرف على السامع وتارة يقولون عنا جمهوريين ، هذه الجماعة التي ولدت فكرتها ميتة لأنها عارضت كلشيء القرآن والسنة والعقل ، قامت باجتهاد فرد وانتهت بانتهائه من على مسرح الحياة ، أما التشيع فأنا لم أنتجه من محض خيالي ، إنما وجدت أنه ولد حينما ولدت الرسالة ، وشهد الأعداء قبل الأصدقاء بأهلية أهل البيت ( ع ) لتحمل أمانة السماء والتاريخ يشهد لهم بذلك فما ذنبي إذا كان الدليل يأخذ بعنقي إلى حيث النور ، ومن يملك دليلا خلاف قولنا وإذا كان هنالك حق غير مذهب أهل البيت ( ع ) فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
  وتارة أخرى يتهموننا بأننا نسعى لإثارة الفتن ، ولعمري متى كان البحث عن الحق إثارة للفتنة ومتى كان كشف الزيف دلالة على ذلك أن الذين يوزعون هذه التهم إنما يبررون لأنفسهم ويحاولون الانتصار لها بعد هزيمتها داخليا .
  عندما بدأت بحثي لم يقم في نفسي أن أطرحه للآخرين وإنما هو تكليف شرعي وتلهف للكشف عن الحق الذي به قامت السماوات والأرض ، وظمأ للارتواء من منابع الرسالة الصافية التي لم تكدرها الجاهلية بأنجاسها ، ووجدته بحمد الله عذبا ثجاجا في ولاية علي بن أبي طالب ( ع ) وأتباعه الذين قال فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « والذي بعثني بالحق نبيا لو أن رجلا لقي الله بعمل سبعين نبي ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل البيت ما قبل الله منه عدلا ولا صرفا » .

بنور فاطمة اهتديت _200_

  كما روى الإمام الصادق ( ع ) عن أبيه عن جده ( ع ) قال : مر أمير المؤمنين ( ع ) في مسجد الكوفة ومعه خادمة قنبر رجلا قائما يصلي فقال : يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا أحسن صلاة من هذا ، فقال علي ( ع ) : يا قنبر فوالله لرجل على يقين من ولايتنا أهل البيت خير ممن له عبادة ألف سنة ، ولو أن عبدا عبد الله ألف سنة لا يقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت ، ولو أن عبدا عبد الله ألف سنة وجاء بعمل اثنين وسبعين نبي ما يقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت وإلا أكبه الله على منخريه في نار جهنم وغيرها من الروايات التي تجعل الإنسان يقف متأملا وهو يحاول أن يهتدي إلى الطريق .
  وعلى فرض عدم صحة هذه الروايات ، يجب على الإنسان دفعا للضرر المحتمل ـ كما يقولون ـ أن يبحث عن الحق أنى كان ، ولقد ادعى أهل البيت ( ع ) حق الولاية وتواتر المنقول عنهم أن أعمال العبد يتوقف قبولها على ولايتهم وبدونها يسقط عمله ، بينما لا نجد أن أحدا من الصحابة ادعى مثل هذا الحق وبالخصوص الخلفاء الثلاثة فالإيمان بهم بالتالي ليس من أصول الدين إنما هو أمر فرعي يحتاج إلى نقاش .

أخيراً:
  إن الاهتداء إلى الحق ليس عبقرية ذاتية ، إنما نعمة من الله تعالى ينعم بها على من يشاء من عباده ، وما على الإنسان إلا التوجه المخلص لله تعالى حتى يريه الحق حقا فيتبعه ويريه الباطل باطلا فيجتنبه ، ولقد تكفل البارئ عز وجل بهداية المجاهدين فيه إلى سبله .

بنور فاطمة اهتديت _201_

خطبة فاطمة ( ع ) شعلة الحق :
  إنها خطبة يعجز الإنسان عن وصفها ، ويؤمن ويصدق بأنها معجزة احتجت بها أمام الخليفة الأول أبي بكر ، ودقة معانيها وقوة بيانها تؤكد صحة نسبتها للطاهرة المعصومة فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأذكر جزءا منها في هذا المقام تتمة للفائدة .
  قالت سلام الله عليها : الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدم ، من عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها وتمام منن أولاها ، جم عن الاحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الادراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها .
  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في التفكر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ومن الأوهام كيفيته ، ابتدع الأشياء لا منشيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها كونها بقدرته ، وذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتا لحكمته ، وتنبيها على طاعته ، وإظهارا لقدرته ، تعبدا لبريته وإعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ذيادة لعباده من نقمته ، وحياشة لهم إلى جنته .
  وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله وسماه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بمايل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ومعرفة بمواقع الأمور .

بنور فاطمة اهتديت _202_

  ابتعثه الله إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير رحمته ، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكفا على نيرانها عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها (1) ، وجلى عن الأبصار غممها وقام في الناس بالهداية فأنقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الصراط المستقيم .
  ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار فمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ، ومجاورة الملك الجبار ، صلى الله على أبي نبيه وأمينه ، وخيرته من الخلق وصفيه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته .
  ثم التفتت سلام الله عليها غلى أهل المجلس وقالت : أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه وأمناء الله على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الأمم زعيم حق له فيكم ، وعهد قدمه إليكم وبقية استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق والقرآن الصادق والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره منكشفة سرائره ، متجلية ظواهره مغتبطة به أشياعه ، قائد إلى الرضوان أتباعه مؤد إلى النجاة استماعه به تنال حجج الله المنورة وعزائمه المفسرة ، ومحارمه المحذرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه الكافية وفضائله المندوبة ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة .

-------------------------------
(1) أي مبهماتها وهي المشكلات من الأمور .

h3> بنور فاطمة اهتديت _203_
  فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفوس ، ونماء للرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والحج تشييدا للدين ، والعدل تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا نظاما للملة ، وإمامتنا أمانا من الفرقة والجهاد عزا للإسلام والصبر معونة على استيجاب الأجر ، والأمر والنهي عن المنكر مصلحة للعامة ، وبر الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين ، تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر ، تنزيها عن الرجس واجتناب القذف ، حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة ، إيجابا للعفة ، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية فاتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأنه إنما يخشى الله من عباده العلماء .
  ثم قالت : أيها الناس اعلموا ، أني فاطمة وأبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أقول عودا وبدءا ولا أقول ما أقول غلطا ، ولا أفعل ما أفعل شططا ، لقد جاءكم رسول الله من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم .
  فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزى إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم آخذا بأكظامهم داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسر الأصنام وينكت الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، فتضرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلت عقد الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القد والورق ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد اللتيا والتي وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله سيدا في أولياء الله ، مشمرا ناصحا ، مجدا كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزول وتفرون من القتال .

بنور فاطمة اهتديت _204_

  ثم تنتقل الصديقة ( ع ) للحديث عن الانقلاب كما وضحنا ثم تحدثت عن منعها الإرث ولقد ذكرنا كلماتها في بداية البحث وبعد ذلك رمت بطرفها نحو الأنصار وقالت : يا معشر النقيبة وأعضاد الملة وحضنة الإسلام ما هذه الغميزة في حقي والسنة عن ظلامتي .
  أما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبي يقول : « المرء يحفظ في ولده » سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما أحاول وقوة على ما أطلب وأزاول ، أتقولون مات محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ?
  فخطب جليل : استوسع وهنه واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماته فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم ، وفي ممساكم ومصبحكم ، هتافا وصراخا ، وتلاوة وألحنا ، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء حتم : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) أيها بني قيلة أأهضم تراث أبي ؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدى ومجمع تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدة والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تعينون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت .
  ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، لكنها فيضة النفس ونفثة الغيظ وبثة الصدر وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر نقبة الخف باقية العار ، موسومة بغضب الجبار ، وشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون (*).

-------------------------------
(*) مقاطع من خطبة الزهراء من كتاب الإحتجاج للطبرسي .