( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ) ( سورة الفتح : آية / 6 ) ، هذا قليل من كثير ولو تصفحنا كتاب الله لتعرفنا على مزيد من صفات المنافقين والمنافقات ولما احتجنا إلى كل هذا التكلف حتى نصنع هالة قدسية لكل من صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وهنالك كما لا يخفى على الألمعي علاقة بين حركة التيار المنافق والحروب التي جرت في عهد الإمام علي ( ع ) ، ونظرة إلى أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حول صفات المنافقين تصل إلى السر الذي جعل الجيوش تتحرك لقتال علي ( ع ) قال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق )، هذا المعيار أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، إذ أن من صفة المنافق بغض علي ( ع ) وأعظم مصداق للبغض في أعلى مراتبه الحرب . . ولقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال : « والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق » (1) ، ولقد كان ذلك معروفا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى قال أبو ذر : « ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب » (2).

-------------------------------
(1) صحيح مسلم ج 1 ص 61 باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان .
(2) مستدرك الحاكم ج 3 / 129 .

السنة وعدالة الصحابة :
  قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ـ « ليردن علي أناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول : أصحابي فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك » (1)، يا قوم ما لكم كيف تحكمون من أين لكم بهذه الخزعبلات التي يرفضها القرآن والسنة لماذا نظل نبرر كل انحراف وإلى متى نغض الطرف عما حدث حتى هؤلاء الصحابة شهدوا على أنفسهم بأنهم أحدثوا الكثير بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما جاء في البخاري « عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما فقلت : طوبى لك صحبت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبايعته تحت الشجرة فقال : يا بن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده » (2).
  وقال أنس بن مالك « ما عرفت شيئا مما كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير الصلاة وقد ضيعتم ما ضيعتم منها. وقال الزهري دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت : ما يبكيك فقال : لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت »(3).

-------------------------------
(1) البخاري باب الحوض كتاب الرقاق ج 4 / 95 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا .
(2) البخاري ج 5 ص 66 .
(3) البخاري ج 1 ص 74
.

بنور فاطمة اهتديت _127_

  وروى أنس بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال للأنصار : إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض ، قال أنس فلم نصبر « وإليك هذه الحادثة التي توضح حال هؤلاء الصحابة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) »(1) عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : أقبلت عير من الشام تحمل طعاما ونحن نصلي مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الجمعة فانفض الناس إلا اثني عشر رجلا فنزلت هذه الآية ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) .
  وغير ذلك من الأحداث التي تبين الحالات المتباينة بين الصحابة ، ولكن أهل السنة وخاصة علماءهم أبو إلا يطمسوا الحقيقة ويستغفلوا العامة بلعبهم على وتر العاطفة وارتباط الناس بدينهم فجعلوا الصحابة أصلا من أصول الدين لا يجوز النقاش فيه أو السؤال عنه أو الطعن فيه بينما يمكنك الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكل ارتياح ، وأصبح عندهم الأمر عكسيا الأصل ( النبوه ) صار فرعا والفرع ( الصحابة ) أصبح أصلا ، ( وعند نقدك لأحد الصحابة تتهم بالزندقة وعندما تدافع عن عصمة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يثبتون بشتى الطرق أنه يخطئ ويسهو ويصيبه السحر وأن عمر بن الخطاب يفكر ويقدر أفضل منه ) (2) ، والمسلمون منقادون لعلمائهم بدون تعقل ودراية ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (3)، فخاضوا بهم في متاهات لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى ، وكثيرا ما يشتبه البعض في الاستدلال على عدالة جميع الصحابة بقوله تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) مع أن الآية تتحدث عن المؤمنين فقط وتحصر ،

-------------------------------
(1) البخاري ج 2 / 135 .
(2) أنظر البخاري ج 1 / 225 و ج 2 / 726 .
(3) سورة التوبة : آية / 31 .

بنور فاطمة اهتديت _128_

  رضى الله سبحانه وتعالى فيهم ، والاستدلال بقوله تعالى ( المؤمنين ) على أنهم جميع الصحابة محل نظر يضاف إلى ذلك أن هنالك منافقين قد بايعوا رسول الله على هذه الواقعة ومن ضمنهم كما ذكر المؤرخون عبد الله بن سلول المنافق المعروف فهل يا ترى تشمله هذه الآية إذا قلنا بالنفي فالمعنى الواضح أن الآية لا تشمل كل من بايع وإنما المؤمنين منهم وبالتالي فهي مخصصة ولا يصح أصلا الاحتجاج بها لأنها أخص من المدعى ، وإثبات إيمان كل الصحابة يحتاج إلى دليل سابق على ذلك. ثم إن الله تعالى يقول في آية أخرى ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) والآية صريحة بإخبارها أن هنالك من ينكث وبهذا يكون رضا الله تعالى ما دام الإيمان والاستقامة وعدم الانتكاث ، وحديث إبراء المتقدم يؤكد على ذلك .

الصحابة عند شيعة أهل البيت ( ع ):
  أما أهل البيت وشيعتهم فيرون أن لفظ الصحابي ليس مصطلحا شرعيا وإنما شأنه شأن سائر مفردات اللغة العربية ، والصاحب في لغة العرب بمعنى الملازم والمعاشر ولا يقال إلا لمن كثرت ملازمته ، والصحبة نسبة بين اثنين ، ولذلك لا تستعمل الصاحب وجمعه الأصحاب والصحابة في الكلام إلا مضافا ، كما ورد في القرآن الكريم ( يا صاحبي السجن ) و ( أصحاب موسى ) وكذلك كان يستعمل في عصر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مضافا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو مضافا إلى غيره مثل قولهم (أصحاب الصفة) لمن كانوا يسكنون صفة مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم استعمل الصحابي بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلا مضاف إليه وقصد به أصحاب النبي ، وصار اسما لهم ، وعلى هذا فإن ( الصحابي ) و ( الصحابة ) من اصطلاح المتشرعة وتسمية المسلمين ، وليس اصطلاحا شرعيا .

بنور فاطمة اهتديت _129_

  أما عدالتهم فإن مدرسة أهل البيت ( ع ) ترى تبعا للقرآن أن في الصحابة منافقين ومرتابين . . . الخ كما بينا بالآيات والأحاديث ، والصحبة عندهم ليست بهذا المفهوم الذي أسس عليه أهل السنة دينهم ، وعندما يتحدثون عن الصحابة يضعون نصب أعينهم آيات الذكر الحكيم وقول إمامهم علي ( ع ) عندما سئل أمن المعقول أن تكون عائشة وطلحة والزبير على باطل قال : « ويحك يا رجل لا يعرف الحق بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله » ، وهكذا فالشيعة يقدسون ما قدسه الله ويلتزمون بالولاء لمن التزم بقيم السماء ويتبرؤون من أعداء الله ورسوله وأهل بيته المنصوص عليهم ، ولهم أدعية يقرؤونها ويدعون بها لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المخلصين ومن أشهرها ما ورد في الصحيفة السجادية للإمام الرابع للشيعة علي بن الحسين « زين العابدين ( ع ) » .
  « . . . اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته ، وفارقوا الأرواح والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به ، ومن كانوا منظومين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته . . . الخ الدعاء.

مصيبة الأمة :
والمصيبة التي منيت بها هذه الأمة هي عدم كتابتها للحديث وذلك بفضل ذكاء أبي بكر وعمر الحاد اللذين شددا في منع نشر كلمات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتأخر زمان التدوين لينتهز معاوية الفرصة ويغدق في العطاء للوضاعين للحديث ويوسع عليهم لضرب خصومه السياسيين وعلى رأسهم علي ( ع ) الذي أمر معاوية بسبه على المنابر ، استفاد معاوية من هذا المنع وأجزل في الدفع لوعاظ السلاطين لكي يختلقوا له مجموعة من الفضائل والمناقب للخلفاء الثلاثة في مقابل فضائل لعلي ( ع ) ، وعلى امتداد التاريخ لم يبق حديث في فضائل أهل البيت ( ع ) إلا وألفوا في مقابله فضيلة لأعدائهم ، ومثال ذلك حديث « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » والذي كان في مقابل حديث « النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض » .

بنور فاطمة اهتديت _130_

  قلت لأحدهم وهو يحاورني : إن كان حديث أصحابي كالنجوم صحيحا أفلا يعتبر علي منهم فيحق لي اتباعه قال : علي من أكابر الصحابة قلت له : إذا أنا أقتدي بعلي ( ع ) الذي رفض بيعة أبي بكر وقاتل عائشة وطلحة والزبير ولو ظفر بطلحة والزبير أثناء القتال في صفوف أعدائه لقتلهم ، وكنت سأقاتل مع علي ( ع ) لو كنت حاضرا في حرب صفين ولو تمكنت من معاوية لقتلته ، وكنت سأجهز على عمرو بن العاص وهو يظهر سوأته لعلي ( ع ) حتى لا يقتله أليس من حقي أن أقتدي بأي صحابي كما تدعون . . . ألا ساء ما يحكمون .

حديث العشرة المبشرين المزعوم :
  ما بدأت حوارا مع أحد ما جرى بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا وبادرني « إنهم مبشرون بالجنة » مستندا إلى حديث العشرة المبشرين بالجنة كما يزعمون وإنه لعمري حديث لا يحتاج مني إلى كثير عناء لإثبات وهنه ومخالفة متنه لواقع الأحداث التاريخية ، وهو لا يعدو أن يكون إحدى الأكاذيب التي وضعت كغيرها من الفضائل ، وأورده هنا كنموذج لمأساة الأمة العشرة المبشرون بالجنة هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح ، هذا الحديث الضعيف سندا كما بين فطاحل العلم يكذبه متنه كذلك ولا ندري لماذا اشتهر هؤلاء العشر بالتبشير بالجنة وحصرت فيهم مع أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشر غيرهم كآل ياسر والحسن والحسين وأبي ذر ، والقرآن أيضا يبشر كل من آمن وعمل صالحا ثم اهتدى بالجنة ، إن هؤلاء الذين يرفعون عقيرتهم بمثل هذه الروايات الموضوعة لم يفطنوا إلى وضوح كذب الأحاديث إذ أنها لو كانت وردت عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حقيقة لسمعنا في التاريخ احتجاج عمر بها مثلا في السقيفة كدعاية انتخابية لأبي بكر يسند بها انتخابه له .

بنور فاطمة اهتديت _131_

  وياليتني أجد من يوضح لي هل من الممكن أن يكون عبد الرحمن بن عوف أحد رواة هذا الحديث معتقدا بصحته ومع ذلك يسل سيفه على علي ( ع ) يوم شورى الستة قائلا : بايع وإلا تقتل ويقول لعلي ( ع ) بعدما انتقضت البلاد على عثمان : إذاشيء ت فخذ سيفك وآخذ سيفي إنه قد خالف ما أعطاني، وهل أبو بكر وعمر المبشران بالجنة هما اللذان ماتت الصديقة بضعة المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي واجدة عليهما وهل هما اللذان قالت لهما : إني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه وهل أبو بكر هذا هو الذي أوصت فاطمة (ع) أن لا يصلي عليها وأن لا يحضر جنازتها وهل كان عمر يصدق هذه الرواية وله إلمام بها وهو يناشد مع ذلك حذيفة اليماني العالم بأسماء المنافقين ويسأله عن أنه هل هو منهم ؟
  وهل كان طلحة والزبير يؤمنان بقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهما يؤلبان على عثمان ويشاركان في قتله وهما اللذان خرجا على إمامهما وخليفة المسلمين المفروض عليهما طاعته بعد أن عقدت له البيعة فنكثا بيعته وأسعرا عليه نار البغض وقاتلاه وقتلا ، أو ليس طلحة والزبير هما اللذان ارتكبا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هتك حرمته ما لم يرتكبه أحد ، حينما أخرجا زوجته عائشة تسير بين العساكر في البراري والفلوات غير مبالين في ذلك ولا متحرجين وغير ذلك الكثير مما يؤكد أن الحديث مكذوب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أصله ولا تحتاج معرفة ذلك إلى كبير عناء .

السقيفة:
حتى نتعرف على حقيقة ما جرى يوم تنصيب أبي بكر خليفة للمسلمين لا بد لنا من أن نتصفح أحداث ذلك اليوم ومن ثم نحدد هل هي الشورى كما يدعون :جاء في طبقات ابن سعد « عندما انتقل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الرفيق الأعلى اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وتبعهم جماعة من المهاجرين (1) .

-------------------------------
(1) فقط أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .

بنور فاطمة اهتديت _132_

  ولم يبق حول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أقاربه الذين تولوا غسله وتكفينه وهم : علي والعباس وابناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد وصالح مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأوس بن خولي الأنصاري ، ولخص عمر بن الخطاب خبر السقيفة فقال : إنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة » سقيفة بني مساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما فقلت لأبي بكر : إنطلق بنا إلى إخواننا الأنصار فانطلقنا حتى أتيناهم فإذا رجل مزمل ، قلنا من هذا فقالوا : هذا سعد بن عبادة يوعك .
  فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط نبينا وقد دفت إلينا من قومكم دافة ، قال عمر : فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر فلما أردت أن أتكلم قال : على رسلك فكرهت أن أغضبه ، فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه وقال : أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له أهل ( وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ) (1) ( وهم أوسط دارا ونسبا ) ( ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ) فبايعوا أيهماشيء تم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال : « أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش » .

----------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 2 ص 446 .

بنور فاطمة اهتديت _133_

  قال عمر فارتفعت الأصوات وكثر اللغط فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر : ابسط يدك أبايعك قال أبو بكر : بل أنت يا عمر فأنت أقوى لها مني وكان عمر كما ينقل الطبري أشد الرجلين وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ففتح عمر يد أبي بكر وقال : إن لك قوتي مع قوتك فبايع الناس واستثبتوا البيعة وتخلف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتى يبايع علي فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقال عمر : خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر قال فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان « (1) .
  يقول عمر ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم قتلتم سعدا فقلت : قتل الله سعدا وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر » (2)، هكذا كانت أحداث السقيفة ، مهزلة تاريخية عاد الناس فيها إلى جاهليتهم حتى قال أحدهم لعمر « والله لنعيدنها جذعة » وهو نفسه القائل « أنا جذيلها المحكك . . . » ، إن ما جرى في السقيفة لعبة سياسية ومسرحية درامية وضع لها السيناريو وحبكت خيوطها قبل تنفيذها ، ولم يكن المنطق فيها للقيم والمبادئ بل لنعرات جاهلية ، ولم نر فيها وجودا للمهاجرين سوى هذا الثلاثي أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وهو ما يحتاج إلى تفسير فلماذا هؤلاء بالذات دون غيرهم وكما يقول عمر لقينا رجلان صالحان شهدا بدرا فأخبرانا بخبر السقيفة ولم يذكر اسميهما. فمن هما وما هو السر في اختيارهما لهؤلاء .
  ثم إن وجود هذا الثلاثي في المدينة غير شرعي لأنهم مأمورون بإنفاذ الجيش الذي أعطى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر القيادة فيه لأسامة كما سيأتينا خبره ، وماذا كان يضير هؤلاء الثلاثة إذا عملوا على تهدئة الأوضاع حتى يدفن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خصوصا وأن فيهم أبا بكر ، وعلى حد زعمهم له المكانة التي كان يمكن استغلالها لذلك أم أن الأمور ستصبح على خلاف ما يشتهون .

-------------------------------
(1) المصدر ص 444 .
(2) المصدر ص 447 .

بنور فاطمة اهتديت _134_

  أما الحضور الكمي لهذه الشورى فلا أظن أنه كان كبيرا خصوصا لو علمنا أن هذه السقيفة مكان لا يتسع بأي حال من الأحوال إلى عدد كبير أضف إلى ذلك غياب عدد كبير من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى رأس أولئك علي والهاشميون لأنهم كانوا في شغل عن الأمر بمصيبة وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي تناساها الخليل الصديق وهو يسعى وراء الخلافة .
  يقول عمر « إنه كان من خبرنا حين توفي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة » (1) ، أي شورى هذه التي لم يحضرها باب مدينة العلم الفاروق الأكبر والصديق الأول علي بن أبي طالب ( ع ) ، ومن أين تستمد شرعيتها وكل سكان المدينة آنذاك ناهيك عن الدولة الإسلامية لم تجمع على ترشيح أبي بكر. وحتى الذين بايعوا لم يكن دافعهم إلى ذلك شخصية أبي بكر فهنالك من بايع لموازنات سياسية كما فعلت الأوس عندما بايعت أبا بكر قال بعضهم وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر (2) .
  احتج أبو بكر على القوم قائلا : لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا واحتج عمر قائلا : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته . . إذا كان هذا هو المعيار فأهل بيت النبوة وعلى رأسهم علي ( ع ) أولى ، الذي قال عندما سمع احتجاجهم : « احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » .

-------------------------------
(1) المصدر ص 446 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 2 / 2 .

بنور فاطمة اهتديت _135_

  فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم فكيف بهذا والمشيرون غيب فغيرك أولى بالنبي وأقرب وأخيرا قال عمر عن بيعة أبي بكر « إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها » (1)، وأنا أقول كانت فلتة مزقت الأمة تمزيقا وأبعدتها عن الصراط المستقيم.

علي ( ع ) والخلافة:
  أعلن علي ( ع ) والعباس والهاشميون رفضهم لبيعة أبي بكر من الوهلة الأولى وظلوا في بيت فاطمة ( ع ) معارضين ، ولقد حاول أبو سفيان الاصطياد في الماء العكر ، جاء في الطبري « لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر قال أبو سفيان : ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ، وأقبل وهو يقول : والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم أين المستضعفان علي والعباس وقال : أبا حسن أبسط يدك أبايعك والله لئنشيء ت لأملأنها عليه خيلا ورجالا » (2) ، لكن عليا ( ع ) رفض عرضة لأنه كان يعلم نوايا أبي سفيان وبني أمية المعادية للإسلام فقال له : « إنك والله طال ما بغيت الإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك » (3) ، وقد هدأ أبو سفيان بعد أن ولى أبو بكر ابنه يزيد (4)، الإمام علي ( ع ) كان يدرك أن الأمة الإسلامية في مفترق طرق والناس تتجاذبهم الأهواء وأي محاولة لتصحيح الانحراف بحرب مسلحة يمثل خطرا يهدد بيضة الإسلام التي يحافظ عليها علي ( ع ) وهو الأمين عليها .

-------------------------------
(1) الطبري ج 2 ص 445 .
(2) الطبري ج 2 ص 449 .
(3) المصدر السابق .
(4) المصدر السابق .

بنور فاطمة اهتديت _136_

  ولقد بين أهل البيت ( ع ) لماذا لم يعارض علي ( ع ) الخلفاء بالسيف قال الإمام الصادق ( ع ) في جواب سؤال وجهه إليه بعض أصحابه : ما منع أمير المؤمنين أن يدعو الناس إلى نفسه ويجرد على من ابتزه حقه سيفه فقال : تخوف أن يرتدوا وأن لا يشهدوا أن محمدا رسول الله، والتاريخ يعلن لنا معارضته لما كان يجري فإننا لا نعلم لعلي ( ع ) دورا سياسيا بارزا على عهد الخلفاء ولم نسمع له خبرا في كل الحروب بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو المشهود له بمواقفه الجهادية في حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وعندما طلب منه عبد الرحمن بن عوف في شورى الستة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين رفض الأخيرة مما يشكك في مطابقة سيرة الشيخين « أبي بكر وعمر » لسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو كان يعتقد بمطابقتها لسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلماذا يرفضها إذن ، وفي أكثر من موقع يبين الإمام علي ( ع ) حقه في الخلافة وانحصار الإمامة في أهل بيت النبوة ( ع ) يقول « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة في غيرهم »(1).
  وفي كلام له يقول : ( أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا والأشدون برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نوطا فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم لله والعود إليه يوم القيامة (2) .

-------------------------------
(1) نهج البلاغة ضبط صبحي الصالح ص 201 .
(2) المصدر نفسه ص 231 .

بنور فاطمة اهتديت _137_

  ويقول ( ع ) عن أهل البيت « هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه . . لا يقاس بآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة » (1).
  كما جاء في نفس المصدر قوله « نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحلم ، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة ، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة »(2) أحد العلماء من الذين يدعون حب أهل البيت ( ع ) جرى بينه وبين بعض الإخوة حوار قال لهم : « إن لعلي ولاية أعطاها له الله سبحانه وتعالى ، ولو كانت خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له ، لتمكن من السيطرة عليها بدعاء منه ، ولا يستطيع أحد أن يحتل مكانه » ، من الواضح أن هذا القول الضعيف البين الوهن لا يمكن أن ننفي به مسألة الانقلاب على علي ( ع ) ، لأن ذلك يقودنا إلى عدة أسئلة منها كيف ذبحوا الأنبياء السابقين وهم أولياء الله بلا خلاف ، وكيف أوذي أفضل الأنبياء وأكملهم وحبيب إله العالمين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولماذا تكسر رباعيته وينهزم الجيش يوم أحد ألم يكن في إمكانه بدعاء منه أن يهزم جميع المشركين.

-------------------------------
(1) المصدر السابق ص 47 .
(2) المصدر السابق ص 162 ـ 163 .

بنور فاطمة اهتديت _138_

  إن الأنبياء والأولياء جاؤوا لهداية الناس دون جبر أما المعجزة والكرامة فليست لقهر العباد بالقوة للسير على الصراط المستقيم ، وإنما كانت لإتمام الحجة وبيان حقيقة مكانة الأولياء عند الله تعالى ، ولو كان كل انحراف يواجه بالتدخل الغيبي لإرجاع الناس إلى الحق لما كان هنالك معنى للابتلاء ولا معنى للثواب والعقاب ، يقول تعالى ( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ) ( سورة يونس : آية / 99 )، إن الإمام والخليفة يعرف بالنص من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى الناس الالتزام بنصرته ، كما الكعبة تعرف بحج الناس إليها فيأتونها ولا تأتي لأحد ، جاء في أسد الغابة عن علي ( ع ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أنت بمنزلة الكعبة ، تؤتى ولا تأتي ، فإن أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك ـ يعني الخلافة ـ فاقبل منهم ، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك » (1).
  ولقد اختصر أمير المؤمنين علي ( ع ) وجهة نظره في خطبته المعروفة بالشقشقية (2) يقول فيها : ـ أما والله لقد تقمصها فلان (3) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ،

-------------------------------
(1) أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 609 لابن الأثير .
(2) نهج البلاغة خطبة 3 .
(3) أبو بكر .

بنور فاطمة اهتديت _139_

أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان (1) بعده ثم تمثل بقول الأعشى : ـ
شتان ما يومي على كورها      ويـوم  حـيان أخي جابر
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشد ما تشطرا ضرعيها ـ فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلون واعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ولكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم (2) نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته .

خلافة علي ( ع ) :
  بعد وفاة عثمان لم يكن للأمة مناص من الاتجاه إلى من يحملهم على جادة الطريق كما قال عمر ، إذ أن الفساد السياسي وصل إلى قمته وصارت أموال المسلمين في يد الطلقاء ، كان لا بد للأمة أن تبحث عمن يذكرهم بسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد إعراض دام سنوات أوصلهم إلى ما أوصلهم إليه . . جاءت الخلافة إلى علي ( ع ) وهي تحبو محملة بجراحات مثخنة من جراء اجتهادات السابقين ، لم يبق من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه . . .

-------------------------------
(1) عمر بن الخطاب .
(2) عثمان بن عفان .

بنور فاطمة اهتديت _140_

  أخيرا انكشف الغطاء وعرفوا الحل « ولا أبقى الله الأمة لمعضلة ليس لها أبو الحسن » اجتمعوا عليه وطلبوا منه أن يقبل الخلافة ، أشار عليهم أن يبحثوا عن غيره لأنه كان يعلم بأنهم لن يستطيعوا معه صبرا على الحكم بالحق ، وأنه لن يخاف في الحق لومة لائم كما قال في الأموال التي وزعها عثمان على محبيه وهي ملك للمسلمين عامة ، « والله لو وجدته قد تزوجت به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق » .
  هكذا سيكون علي ولن يعجب هذا الحال بعض الذين تعودوا على العطايا والهبات الملكية زمن الخلفاء إضافة إلى الذين لا يرغبون في شخص علي ( ع ) حاكما ، فألبوا الناس على قتاله ، وحكم علي ( ع ) المسلمين في فترة اتسمت بالحروب التي كانت فيصلا بين الحق والباطل وقد أخبره الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « تقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل » .
  يقول الإمام علي ( ع ) في أمر مبايعته : « فما راعني إلا والناس كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، فلما نهضت بالأمر » نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون »(1) كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) بلى : « والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها » الشقشقية .

حرب الجمل :
كان طلحة والزبير ذوا حظوة حتى عهد عثمان ، وكانا يطمعان في الكثير على عهد علي ( ع ) ، وعندما لم يجدا بغيتهما عند إمام العدل أضمرا في نفسيهما أمرا وطلبا ،

-------------------------------
(1) أصحاب الجمل ـ الخوارج ـ صفين بالتوالي .

بنور فاطمة اهتديت _141_

  الإذن من علي ( ع ) بعد أن بايعاه بالذهاب إلى مكة للعمرة فأذن لهما وهو يعلم ما يضمران وقال لأصحابه : « والله ما أرادا العمرة ولكنهما أرادا الغدرة » ولحقا بعائشة في مكة وحرضاها على الخروج .

عائشة بنت أبي بكر :
  في النصف الثاني من حقبة خلافة عثمان بن عفان كانت السيدة عائشة « من أشد الناس على عثمان حتى أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنته . . وقالوا أنها كانت أول من سمى عثمان نعثلا ( اسم أحد اليهود بالمدينة ) ، وكانت تقول اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا (1).
  وكما تنقل إلينا المصادر التاريخية كانت السيدة عائشة بمكة ، خرجت إليها قبل أن يقتل عثمان ، فلما قضت حجها انصرفت راجعة ، فلما صارت في بعض الطريق ، لقيها ابن أم كلاب (أحد معارفها) فقالت له : ما فعل عثمان قال : قتل ! قالت : بعدا وسحقا ، ولكن ما نعجب له هو مسيرها بجيش جرار لقتال علي ( ع ) لأنه قتل عثمان كما تزعم ، فكيف تطالب بقتل عثمان ثم تقود الجيوش للأخذ بثأره يقول الطبري عندما لقيت عائشة ابن أم كلاب الذي أخبرها بمقتل عثمان قالت : ثم صنعوا ماذا قال : أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور خير مجاز ، اجتمعوا على علي بن أبي طالب فقالت : والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك ، ردوني ، فانصرفت إلى مكة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه فقال لها ابن أم كلاب : ولم فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر » (2) .

-------------------------------
(1) الطبري ج 3 / 477 .
(2) الطبري ج 3 / 476 ـ 477.

بنور فاطمة اهتديت _142_

  وللرجل كل الحق في تعجبه هذا ، ولكن بنظرة سريعة لتاريخ عائشة مع علي ( ع ) نجد أنها لم تكن على توافق معه منذ عهد رسول الله ، وكلماتها التي ذكرناها آنفا تدلل على مدى بغضها لعلي ( ع ) والذي ترجم إلى الحرب والتأليب والتحريض بل وقيادة جيش لقتاله ، وقد تقدم قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق » ونفس هذه المصادر التي ذكرت الحديث تخبرنا عن بغض عائشة لعلي ( ع ) حتى أنها كانت لا تطيق ذكر اسمه (1) وينقل الإمام أحمد بن حنبل « إن أبا بكر جاء مرة واستأذن على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقبل الدخول سمع صوت عائشة عاليا وهي تقول للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك مني ومن أبي تعيدها مرتين حتى ضربها أبوها » (2).
  مجموعة من الصفات النفسية كانت وراء موقف عائشة من أهل البيت ( ع ) حتى أنها صرحت بعدم حبها للحسن ( ع ) عندما أرادوا دفنه عند جده المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخرجت عليهم قائلة ( لا يدفن في بيتي من لا أحب) ، ولعل أبرز تلك الصفات غيرتها العجيبة والتي لم تخف على الجميع ولقد درسناها في مناهجنا الدراسية ، وهنالك عوامل أخرى كثيرة كانت السبب في خروج عائشة على علي ( ع ) لعل أهمها موقف علي وأهل البيت ( ع ) من خلافة أبيها ، ووقفة الزهراء في وجهه أيضا ومعلوم أن الزهراء ( ع ) زوجة علي ( ع ) وأم الحسن والحسين وفوق ذلك هي البنت الوحيدة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من خديجة زوجته الأولى التي كانت تغير منها عائشة حتى وهي في العالم الآخر . . . فتأمل ، لم نجد ما يبرر خروج عائشة على الإمام علي ( ع ) بل وجدنا أن ذلك خلاف الشرع وفقا للدليل النقلي والعقلي وإجماع الأمة.

-------------------------------
(1) البخاري ج 1 ص 162 ـ ج 3 ص 135 ـ ج 5 ص 140 .
(2) مسند أحمد بن حنبل ج 4 / 275 .

بنور فاطمة اهتديت _143_

  إن عائشة بخروجها تكون مخالفة لصريح الآيات القرآنية التي تأمر نساء النبي بالاستقرار في بيوتهن ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) وقد عمل كل نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك ما عدا عائشة ، كما أن خروجها على الخليفة الشرعي فيه إشكال بغض النظر عن كونها امرأة مأمورة بالبقاء في بيتها وذلك منهج أهل السنة والجماعة ، والإمام علي ( ع ) أجمعت عليه الأمة كخليفة للمسلمين فلا يجوز لها الخروج عليه وقتاله إذ أن ذلك يعتبر خروجا عن الدين بقولنا وبقولهم .
  ثم إن العقل يحكم بتناقض موقفها فهي تارة تطالب بقتل عثمان وعندما يحدث ذلك تطلب ثأره ، هذاشيء غريب وموقف غير مفهوم يحتاج إلى تأمل حتى نستطيع أن نحدد موقفنا . . . خصوصا وإنه قد قيل أن نصف الدين عند الحميراء ، وقد أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بخروجها كما جاء في المستدرك قال : ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة فقال : انظري يا عائشة أن لا تكوني أنت « ثم أخبر أن التي تخرج ستنبحها كلاب الحوأب. وعندما نبحت عليها الكلاب قالت : أي ماء هذا قالوا : الحوأب قالت : ما أظنني إلا راجعة فقال الزبير : لا بل تقدمي ويراك الناس قالت : ما أظنني إلا راجعة سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب » (1).
  وهي في حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نراها كما جاء في الآيات المباركة من سورة التحريم والتي فصلت في أمر زوجات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبينت لنا أن نساء الأنبياء ليس من الضرورة أن يكن على قدر من الإيمان ، بل يمكن أن يصرن على خلاف ما عليه أزواجهن من الأنبياء وليس ذلك بالأمر المستبعد والله تعالى يضرب لنا الأمثال لعلنا نعقل ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين )(2).

-------------------------------
(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 119 ـ 120 .
(2) سورة التحريم : آية / 11 .

بنور فاطمة اهتديت _144_

  هذا المثل جاء في سورة التحريم التي تتحدث عن بعض أفعال عائشة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول تعالى ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (1)، الآيات كما قال عمر نزلت في عائشة وحفصة كما ذكر البخاري (2)، ويهددهن الله تعالى بالطلاق ( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) (3).
  وأنا لا أريد الحديث عن سيرتها تفصيلا لأن المقام مقام جهاد وحرب وقيادة جيوش وهو خاص بالرجال ولكن لكي تتضح الرؤيا أوردنا ما أوردناه ، أحد الأصدقاء كان يحاور بعض الوهابية عن جهاد المرأة فاحتدم النقاش بينهما وتعصب الوهابي في وجه هذا الأخ صارخا : « الجهاد للمرأة غير جائز ويعتبر تبرجا وهو حرام » فقال له : « إذا لماذا خرجت أمكم يوم الجمل » ، هذه هي أطراف حرب الجمل ، علي ( ع ) خليفة المسلمين وولي أمرهم من جهة والجهة الأخرى على قيادتها عائشة وطلحة والزبير ، وقد كانت عائشة هي القائد الفعلي لجيشها وكانت تتصرف فيه وكأنها الخليفة الشرعي.

-------------------------------
(1) سورة التحريم : آية / 5 .
(2) البخاري باب وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه .
(3) سورة التحريم : آية / 6 .

بنور فاطمة اهتديت _145_

  وأظنها بدأت تتوهم بأن في إمكانها أن تحل محل أبيها ، ومما يؤيد ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد أن عائشة كتبت وهي في البصرة إلى زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها : من عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان ، أما بعد فأقم في بيتك وخذل الناس عن ابن أبي طالب وليبلغني عنك ما أحب فإنك أوثق أهلي عندي والسلام .
  فأجابها الرجل : من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر أما بعد فإن الله أمرك بأمر وأمرنا بأمر : أمرك أن تقري في بيتك ، وأمرنا أن نجاهد ، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنع خلاف ما أمرني الله به ، فأكون صنعت ما أمرك الله به وصنعت أنت ما به أمرني ، فأمرك عندي غير مطاع ، وكتابك لا جواب له .
  هكذا كانت عائشة وهي تحارب الإمام المفترض الطاعة بمنظورنا وخليفة المسلمين المجمع عليه دون باقي الخلفاء بمنظور أهل السنة والجماعة ، وانتصر عليها أمير المؤمنين وعقر ناقتها وسار فيها بسيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أهل مكة إذ قال لهم « اذهبوا فأنتم الطلقاء » وأرسلها علي ( ع ) إلى المدينة سالمة .

صفين:
لن أتحدث عن صفين في تفاصيلها إنما موضوعنا حول قيادة الجيش الذي حارب عليا ( ع ) من صفين ، لأن القيادة تبين لنا الفاصل بين الجيشين وأيهما الحق وأيهما الضلالة. وفي صفين يكفي أن تعلم أن قيادة الجيش المقابل لمعاوية كانت متمثلة في علي ( ع ) حتى تحكم على معاوية ومن معه أنهم على خطأ فادح ، ومع ذلك كان وجود عمار بن ياسر في جيش علي ( ع ) تذكرة ودلالة على أن الفئة الباغية معاوية وأصحابه إذ أنه من المتفق عليه قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمار « يا عمار تقتلك الفئة الباغية » ولقد استشهد عمار في صفين كما هو معلوم .

بنور فاطمة اهتديت _146_

  لم أقف على قول يفصل في حادثة إسلام معاوية وفي اعتقادي أن معاوية لم يجد له مكانا وسط المسلمين إلا بعد توليته الشام من قبل عمر الذي أطلق له العنان دون المحاسبة التي اشتهر بها وذلك تتمة للصفقة بين أصحاب السقيفة وبني أمية كما تقدم ذكره عندما أراد أبو سفيان أن يحرض عليا ( ع ) على القتال .
  وعمر يريد أن يستمر الهدوء على عهد خلافته فأسكت بني أمية بالشام وهم لا يهمهم كيف تكون الدولة الإسلامية بقدر ما يهتمون بوجود مكانة لهم في هذا الواقع الذي فرض عليهم ودخلوا فيه اضطرارا لا إيمانا برسالة الإسلام ونبوة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولقد وضح ذلك جليا عندما تسلموا زمام السلطة فحاربوا عليا وأبناءه لأنهم امتداد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبما أن معاوية لا يستطيع أن يسب محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لجأ إلى سب علي ( ع ) وجعل ذلك سنة عند خطباء دولته ، والرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول « من سب عليا فقد سبني » (1).
  والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أوضح من هو معاوية كما جاء في تاريخ الطبري قال : رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أبا سفيان مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد أخوه يسوق قال : اللهم العن الراكب والقائد والسائق ، أما شخصية معاوية بمنظار علي ( ع ) فسوف نجدها في رسائله لمعاوية حيث جاء في رد للإمام علي على خطاب أرسله معاوية : « أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة ، ورسالة محبرة نمقتها بضلالك وأمضيتها بسوء رأيك ، وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده ، وقد دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتبعه فهجر لاغطا وضل خابطا » (2).

-------------------------------
(1) المستدرك ج 3 / 120 .
(2) نهج البلاغة من رسائل أمير المؤمنين رقم 7 .

بنور فاطمة اهتديت _147_

  في رسالة أخرى له يقول الإمام : « ومتى كنت يا معاوية من ساسة الرعية وولاة أمر الأمة بغير قدم سابق ولا شرف باسق ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء وأحذرك أن تكون متماديا في غرة الأمنية مختلف العلانية والسرية ، ولقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانبا واخرج إلي واعف الفريقين من القتال ، لتعلم أينا المرين على قلبه والمغطى على بصره ! فأنا أبو الحسن قاتل جدك وأخيك وخالك شدخا يوم بدر وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوي ما استبدلت دينا ولا استحدثت نبيا وإني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين » (1).

رسالة محمد بن أبي بكر لمعاوية :
  كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية : ـ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر .
  سلام على أهل طاعة الله ممن هو مسلم لأهل ولاية الله.
  أما بعد : ـ فإن الله جل جلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عنت ولا ضعف في قوته ولا حاجة به إلى خلقهم إلى أن قال : فكان أول من أجاب للرسول وآب وصدق ووافق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم فوقاه كل هول وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ( الضيق الشديد ) ومقامات الروع حتى برز سابقا لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو المبرز السابق في كل خير أول الناس إسلاما وأصدق الناس نية وأطيب الناس ذرية وأفضل الناس زوجة وخير الناس ابن عم وأنت اللعين ابن اللعين ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله وتجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتحالفان فيه القبائل ، على ذلك ،مات أبوك ،

-------------------------------
(1) مروج الذهب ج 3 ص 20 .

بنور فاطمة اهتديت _148_

   وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والشاهد لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم أنصاره الذين ذكروا في القرآن فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار فهم معه عصائب وكتائب حوله : يجادلون بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتباعه والشقاء في خلافه ، فكيف يالك الويل تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيه وأبو ولده ، وأول الناس اتباعا وآخرهم به عهدا ، يخبره بسره ، ويشركه في أمره وأنت عدوه وابن عدوه فتمتع ما استطعت بباطلك وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهي وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا ، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، ويئست من رحمته وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور وبالله وأهل رسوله الغناء والسلام على من اتبع الهدى .
  هذه الرسالة تتطابق وواقع معاوية الحقيقي في التاريخ ، معاوية الذي جمع حوله الهمج والرعاع حتى أنه صلى بأهل الشام الجمعة يوم الأربعاء وأرسل لعلي ( ع ) إني جئت بقوم لا يفرقون بين الجمعة والأربعاء ، إضافة إلى المصلحيين والدهاة أمثال عمرو بن العاص، ومما يثير العجب أن تجد كتابا باسم ( رجال حول الرسول ) يتحدث كاتبه عن عمار بن ياسر فيثبت أنه صحابي جليل به عرف أن الفئة الباغية فئة معاوية وبعد ذلك بصفحات يتحدث عن عمرو بن العاص ـ قادة الفئة الباغية فيثبت أيضا أنه صحابي جليل ، والحديث عن عمرو بن العاص ـ داهية معاوية ويده اليمنى ـ طويل ومتشعب ويكفينا دوره العجيب في قضية التحكيم التي لعب فيها دهاؤه ومكره الدور الكبير لتكون السبب المباشر لخروج الخوارج.

بنور فاطمة اهتديت _149_

  ولقد رفض عمرو مشاركة معاوية إلا مقابل جزء من دنيا معاوية فقبل معاوية أن يشتري منه دينه مقابل نصف دنياه ، يقول المسعودي « وكان عمرو بن العاص قد انحرف عن عثمان لانحرافه عنه وتولية مصر غيره فنزل الشام ، فلما اتصل به أمر عثمان وما كان من بيعة علي كتب إلى معاوية يهزه ويشير عليه بالمطالبة بدم عثمان وكان فيما كتب إليه : ما كنت صانعا إذا قشرت من كلشيء تمتلكه فاصنع ما أنت صانع ، فبعث إليه معاوية فسار إليه ، فقال له معاوية .
  بايعني ، قال : لا والله لا أعطيك من ديني حتى أنال من دنياك ، قال : سل ، قال : مصر طعمة ، فأجابه إلى ذلك وكتب له به كتابا ، وقال عمرو بن العاص في ذلك » ، معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل به من دناكم فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا فارع صفقة أخذت بها شيخا يضر وينفع(1) وجاء في تاريخ الطبري أن عمرو بن العاص قال لمعاوية « أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ولكن إنما أردنا هذه الدنيا فصالحه معاوية وعطف عليه » (2).
  هؤلاء هم قادة جيش معاوية في صفين باعوا دينهم بدنياهم وحاربوا إمام زمانهم وخليفة المسلمين ومع ذلك يأتي من يقول أن معاوية وعمرو بن العاص صحابة ويجب التسليم وما جرى من عمرو بن العاص ومعاوية في المعركة يبين مدى جبنهم وحرصهم على الحياة الدنيا ، يقول المسعودي ثم نادى علي : يا معاوية علام يقتل الناس بيني وبينك ؟ هلم أحاكمك إلى الله. فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور ، فقال عمرو لمعاوية : قد أنصفك الرجل ، فقال له معاوية :

-------------------------------
(1) المصدر ج 2 ص 363 .
(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 560 .

بنور فاطمة اهتديت _150_

  ما أنصفت وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله أو أسره ، فقال له عمرو : ما يجمل بك إلا مبارزته ، فقال معاوية : طمعت فيها بعدي وحقدها عليه ، ثم إن معاوية أقسم على عمرو لما أشار عليه بهذا أن يبرز إلى علي فلم يجد عمرو من ذلك بدا ، فبرز فلما التقيا عرفه علي فرفع السيف ليضربه به ، فكشف عمرو عن عورته وقال : مكره أخوك لا بطل ، فحول علي وجهه عنه وقال : قبحت ، ورجع عمرو لصاحبه « (1)، دنا عمار بن ياسر من عمرو أثناء المعركة فقال : يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك طالما بغيت في الإسلام عوجا » (2).
  لقد كانت شخصيات الصحابة مكشوفة لدى بعضهم وكل واحد يعرف نفسيات الآخر ولقد تجلى ذلك في الحروب المتتالية وهذا واقع لا يمكن أن ننكره ويجب علينا أن نميز فيه بين الفاسق والمؤمن ، والحديث عن معاوية وصاحبه عمرو يطول بحيث لا يسع المجال لعرض تاريخهما الحافل بالعجائب ونقتصر على التذكير ببعض غرائب معاوية التي لا يستطيع أحد نكرانها .

بعض أفعال معاوية :
اغتصابه الخلافة بالقهر. قتل حجر بن عدي وأصحابه لأنهم رفضوا سب علي ( ع ) والبراءة منه ووقفوا في وجه من يفعل ذلك وقد قالت عائشة لمعاوية : الله الله في حجر وأصحابه وعاتبته وقالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : يقتل بعدي بعذراء (بالشام) سبعة رجال يغضب الله وأهل السماء لهم (3).

-------------------------------
(1) المسعودي ج 2 ص 369 .
(2) تاريخ الطبري ج 4 ص 27 .
(3) الإصابة في تمييز الصحابة ابن حجر العسقلاني ص 315.