لقد جرى كلشيء على مرأى ومسمع الخليفة أبي بكر إذ أن المنبر ليس ببعيد عن موقع الأحداث التي جرت في بيت فاطمة ( ع ) بل إن أبا بكر يعترف بأن الدار قد تم اقتحامها بأمره ويعتبرها إحدى أفعاله التي تمنى لو أنه لم يقم بها ، يقول في مرض موته : إني لا آسى علىشيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عنشيء وإن كانوا قد غلقوه على حرب (1)، في اليعقوبي : . . . وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال ولو كان أغلق على حرب (2) .
  في هذين النصين يبرز واضحا اعتراف الخليفة الأول بأن دار فاطمة قد اقتحمت بأمره ولعل كلمتي أكشف وأفتش دلالتهما بينة خصوصا وأن الدار المقصودة معقل المعارضة ، وملتقى الهاشميين فالكشف والتفتيش أقرب المعاني المعبرة عن مراد السلطة آنذاك والكشف معناه كما في لسان العرب لابن منظور رفعك الشئ عما يواريه ويغطيه وبالتأكيد على حسب كلام أبي بكر لم يكن ذلك برضاهم وإلا لتغير التعبير لأن رفع الشئ عما يواريه وإظهاره يكون من جانب الكاشف ، والمكشوف هنا بيت العصمة والطهارة بيت فاطمة التي قالت لأبي بكر وعمر عندما التقيا بها أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعرفانه وتعملان به قالا نعم فقالت نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ، قالا نعم ، سمعناه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالت فإني أشهد الله ،

--------------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 2 ص 619 .
(2) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 115 .

بنور فاطمة اهتديت _77 _

  وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأشكونكما إليه فبكى أبو بكر. حتى كادت نفسه تزهق وهي تقول : والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها (1) ، شئ عظيم هذا الذي فعلوه مع الزهراء حتى أصبحت تدعو على الخليفة الأول في كل صلاة لقد تفننوا في إرعاب قلب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، عندما جاء عمر والرجال لإحراق الدار وجمعوا الحطب كانت أول من تلقتهم خلف الباب وصرخت ونادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة (2) .
  ومع ذلك اقتحموا الدار وخلف الباب فاطمة ، وذلك ما أقر به أبو بكر في قوله وليتني لم أفتش بيت فاطمة وأدخله الرجال ولا ينفع الندم لأن فاطمة ( ع ) حينما قال أبو بكر هذا كانت قد وصلت إلى أبيها وشكت إليه لأنها ماتت وهي واجدة عليه كما مر ، لقد ظلل على الأجواء التوتر ورائحة الدم تملأ المدينة وشبح التصفية يطارد أهل البيت ( ع ) وفاطمة رمز المعارضة لا يبعد أن يصيبها وابل من غضب أصحاب السقيفة ، وهذا ما جرى للأسف الشديد فهم اقتحموا الدار وفيه فاطمة ، وأحرقوا الباب وخلفه فاطمة ، وأنا أتابع هذه الأحداث أثناء بحثي لم يهمني إلا فاطمة . . ولضبابية الرؤية التي كانت في كتب القوم صرت أبحث بتلهف هنا وهناك وأتصيد المعلومات لأن الذين كتبوا التاريخ لا بد لهم من أن يحفظوا ماء وجه المقدسين لديهم فلا يبرزوا إلا بعض الحقائق عنهم ، وكان يهمني مصير فاطمة ، لأنها عندي كانت تعني مصير الرسالة ، ووجدت الطامة الكبرى ، واكتملت لدي الصورة عندما رجعت إلى أحفادها أهل البيت ( ع ) وعرفت ما جرى ولكن قبل أن أصل إلى هذه الحقيقة لفت انتباهي أن جمهرة من العلماء ذكرت اسم المحسن كأحد أبناء الإمام علي من فاطمة لكن بعضهم اكتفى بذكره دون إشارة إلى موته والبعض الآخر قال أنه مات صغيرا أو حين ولادته وثالث قال أنه ولد سقطا في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتساءلت عن سبب هذه الضبابية والتعتيم على زمن وكيفية وفاة المحسن بعد أن ثبت كونه من جملة أولاد علي من فاطمة الزهراء ( ع ) ، وتبين لي مع الأسف أن كل ذلك ـ من هؤلاء المؤرخين ـ كان محاولة منهم للجمع بين حقيقة كونه من جملة أولاد الزهراء من جهة وصرف مسألة العنف الذي بسببه أسقطت الزهراء محسنا ، فكانت الضبابية ، ولكن تواتر الأحداث مضافا إليها الروايات القائلة بإسقاط الزهراء أثناء الهجوم يؤكد حقيقة واحدة وهي أن فاطمة كانت تحمل في بطنها جنينا سماه النبي محسنا وهو في بطن أمه . .

--------------------------------
(1) الإمامة والسياسية ج 1 ص 13 ـ 14 .
(2) المصدر السابق .

بنور فاطمة اهتديت _78 _

  هذا الجنين لم ير النور قط ، وإليك الأحاديث التي جمعناها في هذا الصدد : قال الطبري وابن الأثير . . . وقد ذكر أنه كان له ( الإمام علي ) منها ( فاطمة ) ابن آخر يقال له محسن وأنه توفي صغيرا (1) ، قال يونس : سمعت ابن إسحاق يقول : فولدت فاطمة لعلي حسنا وحسينا ومحسنا ، فذهب محسن صغيرا ، وقال ابن إسحاق ، فولدت فاطمة لعلي حسنا وحسينا ومحسنا مات صغيرا (2) ، قال ابن حزم الأندلسي : تزوج فاطمة علي بن أبي طالب فولدت له الحسن والحسين ، والمحسن مات المحسن صغيرا (3) ، جاء في تاج العروس ولسان العرب : شبر وشبير ومشبر هم أولاد هارون وبها سمى علي ( عليه السلام ) أولاده يعني حسنا وحسينا ومحسنا (4) ، وهناك روايات تتحدث عن إسقاط المحسن قال المسعودي وضغطوا سيدة النساء بالباب حتى أسقطت محسنا (5) ، إنه ولد ثالث للزهراء اسمه محسن ، كما يذكر صاحب ذخائر العقبى في مودة القربى ويقول عنه أنه مات صغيرا . . واسم محسن جديد على مسامعي لم أسمع به وما ورد في الحسن والحسين غير قليل فلماذا لم يردشيء تفصيلي عن الابن الثالث لفاطمة الزهراء ( ع ) بعد التنقيب والبحث اكتشفت لماذا يذكر المحسن كثيرا . . إذ أن ذكره يستتبع أمورا تهد الجبال هدا . . وإليك شذرات مما وجدته وبعدها نحاول ربط الأحداث ببعضها لتتعرف على سر المحسن بن علي ثم نعرج على أهل البيت ( ع ) لنرسم الصورة كاملة :

----------------------------
(1) الكامل لابن الأثير ج 3 ص 397 ، وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج 5 ص 153 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي ج 3 ص 161 .
(3) جمهرة أنساب العرب ص 16 ـ 37 ، وذكر مثل ذلك كثير من الأعلام أمثال المحب الطبري في ذخائر العقبى وابن الأثير في أسد الغابة ج 4 ص 308 والعسقلاني في الإصابة ج 4 ص 471 واليعقوبي في تاريخه .
(4) تاج العروس ج 3 ص 389 ، ولسان العرب ج 4 ص 393 .
(5) إثبات الوصية ص 143 .

بنور فاطمة اهتديت _79 _

  جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني : قال إبراهيم بن سيار بن هاني النظام إن عمر ضرب بطن فاطمة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها (1)، وقال ابن حجر العسقلاني في ترجمة أحمد بن محمد بن السري بن يحيى أبي دارم المحدث أبو بكر الكوفي ، قال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ بعد أن أرخ موته : كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب حضرته ورجل يقرأ عليه أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن (2)، إذا لقد أسقطت فاطمة عليها السلام الابن الثالث محسن وذلك يعني أنه قتل ولم يمت . . في الواقع إن الأحداث الساخنة التي كانت آنذاك كان لا بد من أن يتخللها مثل هذه المصائب الفظيعة التي لم يذكرها المؤرخون السنة صراحة والسبب معلوم كما ذكرنا ولكن شعاع الحق يرفض إلا أن يتسلل من بين ثنايا ذكر ما جرى أو بالأحرى ذكر ما يحبون ذكره مما جرى ، لقد ذكروا كما رأينا أن عمر كان يصر على أبي بكر أن يأخذ المتخلفين عن البيعة بالقوة ثم إنه هو الذي أخذ الرجال إلى باب دار فاطمة ومعه الحطب لحرق الدار إن هم رفضوا الخروج وعند وصولهم إلى باب الدار كان أول ما تلقتهم فاطمة ( ع ) خلف الباب كما ذكرت آنفا وللتأكيد أورد لك هذين النصين وعليك عزيزي القارئ أن تنتقل بروحك وعقلك إلى تلك الفترة التاريخية لتتصور ما يمكن أن يجري ، قال أحمد بن يحيى البلاذري : إن أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة ، فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة فتلقته فاطمة على الباب فقالت : يا ابن الخطاب أتراك محرقا علي بابي ؟ قال : نعم (3).

---------------------------------
(1) الملل والنحل ج 1 ص 57 إبراهيم بن سيار أحد أقطاب المعتزلة .
(2) لسان الميزان ج 1 ص 268 ، وأورده أيضا صلاح الصفدي في (الوافي بالوفيات) ج 6 ص 7 وقال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان وينقل عن محمد بن أحمد بن حماد الكوفي بعد أن أرخ موته (كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب الخ كما نقلنا .
(3) أنساب الأشراف ج 1 ص 586 .

بنور فاطمة اهتديت _80 _

  وعن نفس الحادثة ينقل ابن عبد ربه الأندلسي : بعث إليهم ـ يعني المتخلفين عن البيعة ـ أبو بكر عمر ليخرجوا من بيت فاطمة وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت : يا ابن الخطاب : أجئت لتحرق دارنا قال : نعم (1)، لقد تصدت فاطمة ( ع ) لعمر من خلف الباب لعل قلوب الرجال تخشع عندما تسمع صوت امرأة قال عنها الرسول أنها سيدة نساء العالمين وربما لتكون عليهم الحجة أبلغ لقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من آذى فاطمة فقد آذاني ولذلك صرخت كما ينقل ابن قتيبة : يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك .
  ومع ذلك اقتحموا الدار بشهادة أبي بكر في تأسفه على الثلاثة اللاتي ود أنه لم يفعلهن . . وقال . . . وأدخله الرجال كما ، مر ، قال اليعقوبي فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار ولو لم يتم الهجوم ما كان هنالك داع لتأسف أبي بكر الذي جاء متأخرا ، لقد اقتحموا وإنشيء ت فقل هجموا على دار البتول الزهراء ( ع ) وكانت أول من تلقاهم خلف الباب ، والهجوم والاقتحام عادة يكون بلا استئذان ولا رحمة ومما لا شك أن كلشيء يعترض تلك الهجمة الشرسة لا بد أن يتحطم ويبعد عن الطريق . . ولكن بكل أسى ولوعة كان ذلك الشئ بضعة الرسول ووصيته فاطمة ( ع ) فضربت حتى أسقط جنينها ، هذه هي الحقيقة التي حاول القوم إخفاءها فتسللت من بين مجريات الأحداث وظهرت على صفحة التاريخ نقطة سوداء في جبين الأمة . . كان هذا القدر كاف لكي أجمع باقي خيوط القضية كاملة منذ وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى حين موت الزهراء ( ع ) ، أو استشهادها .. نعم لقد انتقلت إلى جوار ربها مظلومة مقهورة بسبب ما جرى لها من ضرب ورفس أدى إلى إسقاط جنينها المحسن ومن ثم مرضت إلى أن لحقت بأبيها تشكو له ما جرى عليها .

------------------------------
(1) العقد الفريد ج 5 ص 13 .

بنور فاطمة اهتديت _81 _

  بعد ذلك توجهت إلى أحفادها لكي استمع منهم تفاصيل ما جرى وهم أدرى بما جرى لجدتهم الزهراء ( ع ) وهناك تجلت لي الحقائق .. ولكن كانت تكمن عقدتي في أن ذلك يجعلني ألجأ إلى الروايات عن أهل البيت (ع) عن طريق الشيعة ، فسألت نفسي . . ولماذا لا آخذ بقولهم لقد عرفت من كتب السنة أن فاطمة غضبت على الخليفتين حتى ماتت ولم تأذن لأبي بكر أن يصلي عليها ثم إنها طالبت بالخلافة لعلي ( ع ) ، وكان بيتها مركز المعارضة . . كما علمت أن بيتها كان مستهدفا من السلطة التي قررت إجبار من في البيت على البيعة وإن أبوا فالقتل والإحراق ونفذوا ما خططوه وهجموا على الدار وكان خلف الباب الزهراء تذكرهم برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصاياه ومع ذلك اقتحموا الدار وفاطمة تصرخ ورأيت بين طيات نفس الكتب أن هنالك من يقول بأن فاطمة ضربت وأسقط جنينها كما مر ومهما يكن صنف القول فتسلسل الأحداث يرجح وقوع ما جرى .
  لكل ذلك لم أجد أن عقلي يمانع في الأخذ بقول الأئمة من أهل البيت ( ع ) حول ما جرى من أحداث أدت إلى وفاة فاطمة ( ع ) فكتب السنة ليست أولى بالأخذ منها بكتب الشيعة لأن هذا أول الكلام الذي يحتاج إلى دليل لسنا في صدده الآن، وسأنقل لك عزيزي القارئ تمام الأحداث كما تراءت لي عند أهل البيت ( ع ) ، لقد تحدث أحفاد الزهراء وبينوا مفصلا ما جرى بعد أحداث السقيفة . . رواياتهم تقطر ألما وحسرة على هذه الأمة التي لم تحفظ رسول الله في أهله . . أغضبت الزهراء وأسقطت ابنها المحسن وقتلت زوجها غدرا وابنها الأكبر المجتبى الحسن سما وابنها الحسين ذبحا .
  يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق حفيد الزهراء سليل النبوة ولا يوم كيوم محنتنا بكربلاء ، وإن كان يوم السقيفة وإحراق النار على باب أمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة وزينب وأم كلثوم وفضة ، وقتل محسن بالرفسة أعظم وأدهى وأمر .

بنور فاطمة اهتديت _82 _

  إنني لن أستعرض كل ما ذكره أئمة أهل البيت ( ع ) حول الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأن ذلك يحتاج منا إلى مجلدات ، لقد أكثر أهل البيت في بيان ذلك حتى تتعرف الأمة على أصل المأساة التي سببت الفرقة والشتات . . وسآخذ بعضا من هذه الروايات لتكتمل الصورة أمام القارئ العزيز ، لقد جرت أحداث السقيفة وتنصيب الخليفة أبي بكر وأهل البيت مشغولون بمصابهم في وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبالذات الإمام علي ( ع ) الذي أوصاه الرسول ألا يلي غسله غيره ، انتهى أمر الخلافة التي لم يشارك في مشاوراتها علي بن أبي طالب فكان موقفه الذي علمته وسيأتيك مزيد من التفصيل عنه ، فلقد رفض البيعة وبدأ يذكر الناس بالعهود والمواثيق ، يقول سلمان الفارسي فلما أن كان الليل حمل علي ( ع ) فاطمة على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتاه في منزله فذكرهم حقه ودعاهم إلى نصرته فما استجاب له منهم إلا أربعة وأربعون رجلا ، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم معهم سلاحهم ليبايعوا على الموت فأصبحوا فلم يواف منهم أحد إلا أربعة : أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام ، فعل ذلك مرتين وعندما رأى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه (1) ، ورفض أن يبايع .
  أرسلوا إليه ليبايع وبدأت من هنا المواجهة الساخنة بعد أن أمر عمر بجمع الحطب أمام بيت فاطمة مهددا بالإحراق إن لم يبايع علي ، جاؤوا ليجبروا أهل البيت على البيعة ، وقفت فاطمة خلف الباب لعل القوم يراعوا حرمتها وحريمها فلم ينفع فيهم ذلك قال الإمام الكاظم ( ع ) وهو موسى بن جعفر الصادق ـ وهو يصف ما جرى ـ لما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الوفاة دعا الأنصار وقال يا معشر الأنصار لقد حان الفراق إلى أن قال : ألا إن فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي فمن هتكه فقد هتك حجاب الله ، قال الراوي فبكى الإمام الكاظم أبو الحسن ( ع ) طويلا وقطع بقية كلامه وقال : هتك ـ والله ـ حجاب الله هتك والله حجاب الله ، هتك والله حجاب الله(2) .

-------------------------------
(1) كتاب سليم بن قيس الهلالي ص 31.
(2) بحار الأنوار : ج 22 ص 476 ـ 477.

بنور فاطمة اهتديت _83 _

  كما جاء عن الإمام الباقر ( ع ) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو يتحدث عن الزهراء : وحملت بالحسن فلما رزقته حملت بعد أربعين يوما بالحسين ثم رزقت زينب وأم كلثوم وحملت بمحسن فلما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجرى ما جرى يوم دخول القوم عليها دارها ، أسقطت ولدا تماما ـ وهو محسن ـ وكان ذلك أصل مرضها ووفاتها صلوات الله عليها ، وورد عن الإمام الصادق ( ع ) أنه قال : لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قيل له : إن الله يختبرك في ثلاث وصار يعددها إلى أن قال : وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصبا الذي تجعله لها وتضرب وهي حامل ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن ثم يمسها هوان ولا تجد ، مانعا وتطرح ما في بطنها من الضرب وتموت من ذلك الضرب ، ويقول الإمام الصادق ( ع ) واصفا بعض ما جرى : وضرب سلمان الفارسي ، وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين لإحراقهم بها وضرب فاطمة ورفس بطنها وإسقاط محسنها .
  وقوله ( ع ) وهو يصف ما جرى لأهل البيت في رواية طويلة أخرى يتحدث فيها عما فعله القوم . . . . وجمعهم الجزل والحطب على الباب لإحراق بيت أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وإضرامهم النار على الباب وخروج فاطمة إليهم وخطابها لهم من وراء الباب : ويحكم ما هذه الجرأة على الله ورسوله ، قال عمر : ما علي إلا كأحد المسلمين فاختاري إنشيء ت خروجه لبيعة أبي بكر أو إحراقكم جميعا ، وهجومهم على الدار وركل عمر للباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حامل لستة أشهر وإسقاطه إياه وصياح أمير المؤمنين لفظة : يا فضة مولاتك فاقبلي منها ما يقبله النساء ، فقد جاء المخاض من الرفسة ورد الباب فأسقطت محسنا ، وقال ( ع ) : فإنه لاحق بجده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيشكو له (1) .

------------------------------
(1) بحار الأنوار موسوعة أحاديث لأهل البيت (ع) ج 53 ص 18 ـ 19. وأغلب الأحاديث التي أوردناها في هذا المجال من المصادر الحديثية لأهل البيت وكتاب مأساة الزهراء شبهات وردود للسيد جعفر مرتضى العاملي .

بنور فاطمة اهتديت _84 _

استشهاد الزهراء ( ع ):
  ما أقسى لحظات فراق الأحبة ، خصوصا إذا كان للعلاقة جذور تضرب في عمق القيم والمثل وتسقى بالوحي . . علاقة لا كسائر العلاقات . . علاقة بين نبي عظيم وابنة صديقة طاهرة من لحمه ودمه ، ابنة ذابت في حب أبيها وليس حبا للأبوة فقط إنه حب من نوع آخر لا ندرك كنهه أنا وأنت . . لماذا ؟! لأنها متبادلة بين أب اختاره الله باعتباره أعظم وأشرف خلق الله وهو المصطفى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابنة طهرها الله وعصمها إذا هو حب منشؤه حب الله وطاعة الله . . لقد انفصمت عرى هذه العلاقة بانتقال الأب والمربي إلى الرفيق الأعلى ، وترك الرسالة الإلهية من خلفه وقد أناط استمرارها تلك بالطرف الباقي الآخر ، الابنة الزكية التي تدخلت الإرادة الإلهية مباشرة حتى في زواجها فكان الزوج عليا بن أبي طالب أفضل من يحفظ الرسالة في شخص فاطمة ( ع ) وغيرها .
  لكن القوم ما فهموا معنى الرسالة والرسول ، وما وعوا معنى النبوة والوحي بل لم يقدروا الله حق قدره فاعترضوا على حكمه وتجاوزوا قوله . . ومن ثم اعتدوا على مقام النبوة ، وأبوا إلا يجرعونا وكل المحبين لله ولرسوله الغصة تلو الأخرى ، وتأبى الدمعة إلا أن تتسلل مصحوبة بألم هائل ، إنها الزهراء وما أدراك ما الزهراء من يوم ما تعرفت على مأساتها وأنا أشعر بمسحة كآبة تمر بوجداني وحزن عميق يلفني عند ذكر اسمها فالقوم لم يراعوا فجيعتها بأبيها فاغتصبوا حقها وقبل ذلك ارتقوا مركبا صعبا هم ليسوا أهلا له ثم أرادوا إتمام ذلك ولو بالقوة فكان ما كان ، بقيت الزهراء حزينة منكسرة في بيتها تبكي وتشكو همها إلى الله عز وجل وتنتظر يومها الموعود فقد أخبرها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها أول أهل بيته لحوقا به كما مر . . . فضلت تبكي وتبكي إلى أن جاء شيوخ أهل المدينة يظهرون لعلي انزعاجهم وتأذيهم من بكاء فاطمة ويطالبونه بأمرها بالكف عن ذلك أو تخييرها بين البكاء ليلا فقط أو نهارا فقط ، فبنى لها أمير المؤمنين علي ( ع ) بيتا خارج المدينة سمي بيت الأحزان . هناك واصلت مأساتها .

بنور فاطمة اهتديت _85 _

  ويوما فيوما راحت تذبل تلك الزهرة اليانعة ، وأخذ المرض منها مأخذا ، يقول الإمام الصادق ( ع ) . . . (فأسقطت محسنا ومرضت من ذلك مرضا شديدا وكان ذلك هو السبب في وفاتها) . . كيف لا يكون كذلك وهي ابنة ثمانية عشر عاما . . لقد اكتملت عليها المصائب بضربها واقتحام دارها فكانت البداية والنهاية . . . وصارت طريحة الفراش تنتظر أجلها الذي اقترب منها سريعا وبجانبها علي ( ع ) ، يقول الإمام زين العابدين ( ع ) عن أبيه الحسين ( ع ) قال : لما مرضت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أوصت علي بن أبي طالب ( ع ) أن يكتم أمرها ويخفي خبرها ولا يؤذن أحدا بمرضها ، وكان يمرضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس على استمرار بذلك .
  لقد يئست الزهراء من أهل المدينة الذين طلبت نصرتهم فلم ينصروها لقد سئمتهم وزهدت في مروءتهم فبلغ بها الأمر ألا تريد رؤيتهم في مرضها الأخير . . يكفيها علي ( ع ) ليقف بجانبها وهي على هذه الحالة ، في اليوم الأخير قبيل رحيلها نامت الزهراء ( ع ) في ساعة من ساعات ذلك اليوم وإذا بها ترى أباها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المنام في قصر من الدر الأبيض فلما رآها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : هلمي إلي بنية فإني إليك مشتاق فقالت : والله إني لأشد شوقا إليك فقال لها : أنت الليلة عندي ، انتبهت من غفوتها وبدأت الاستعداد للحوق بأبيها . . إن هي إلا ساعات تقضيها في هذه الدنيا الفانية ويتحقق قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لها قبيل انتقاله . . .
  وأكده لها بعد انتقاله إنها النبوة ومن ذلك كان يقين فاطمة بقرب النهاية . . بينما الفرح يغمرها لارتحالها إلى العالم الأبدي حيث الرضوان الأكبر وجنة عرضها السماوات والأرض يعتصرها ألم من ناحية أخرى، سوف تترك الزهراء (ع) الزواج العطوف وحيدا بعدها ، وفراخا لم تنبت أجنحتهم بعد وزهورا لم تتفتح ، إنهم أفلاذ كبدها . . . ستغادرهم وتتركهم لهذه الحياة التي تحمل الكثير الكثير من المأسي خصوصا لهؤلاء ، إنهم آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أكثر الناس بلاء وأعظمهم امتحانا . . وإن بعض شذاذ الآفاق ونبذة الكتاب يتربصون بهم . . ستودعهم وهي تنظر إلى ذلك المستقبل غير المجهول لأبنائها وزوجها . . إنها تنظر بعين أبيها الباصرة بإذن الله إلى الغيب حيث يضرب علي بالسيف غيلة وهو في محرابه ويقتل الحسن سما والحسين تمزيقا بسيوف بدأ سلها في وجه أهل البيت ( ع ) منذ وفاة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

بنور فاطمة اهتديت _86 _

  كل ذلك يدور في خلد الزهراء وهي تمشي نحو الماء متكئة على الحائط من شدة الضعف لتغسل أطفالها وثيابهم أخر غسلة وهي ترتعش وكأنها تودعهم .. لا أدري عمق شعورها آنذاك ، إن من جملة أسمائها ( الحانية ) لأنها كانت القمة في الحنان والعطف على أبنائها ، دخل الإمام علي ( ع ) البيت ووجدها على رغم علتها تمارس أعمالها وتخدم في البيت. رق لها قلب الإمام وهي بهذه الحالة فأخبرته بأنه آخر أيامها وأخبرته بما رأته وسمعته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أثناء نومها وعادت إلى فراشها ثم قالت له :
  يا ابن عم إنه قد نعيت إلي نفسي وإنني لا أدري ما بي إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي . . . قال لها علي ( ع ) : أوصني بما أحببت يا بنت رسول الله فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ، قالت : يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني . . فقال علي ( ع ) معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من الله من أن أوبخك بمخالفتي وقد عز علي مفارقتك وفقدك إلا أنه أمر لا بد منه ، والله لقد جددت علي مصيبة رسول الله وقد عظمت وفاتك وفقدك فإنا لله وإنا إليه راجعون وبكيا جميعا ساعة ، وأخذ الإمام رأسها وضمها إلى صدره ثم قال : أوصني بماشيء ت ، فإنك تجدينني وفيا أمضي لما أمرتني به وأختار أمرك على أمري .
  فقالت : جزاك الله عني خير الجزاء . . يا ابن عم ، أوصيك أولا : أن تتزوج بابنة أختي أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإن الرجال لا بد لهم من النساء ثم قالت ، وأوصيك إذا قضيت نحبي فغسلني ولا تكشف عني فإني طاهرة مطهرة وحنطني بفاضل حنوط أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصل علي ، وليصل معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي وادفني ليلا لا نهارا إذا هدأت العيون ونامت الأبصار ، وسرا لا جهارا وعف موضع قبري ولا تشهد جنازتي أحدا ممن ظلمني ، لقد أرادت الزهراء ( ع ) مواصلة الجهاد بعد مماتها فكانت وصيتها الاعلان الأخير لموقفها الصامد والمستمر من وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحتى مرضها وتريده باقيا إلى ما شاء الله . . تدفن بنت المصطفى سرا . ليلا لا يصلي عليها إلا أهل بيتها والمخلصون لهم ، في لحظاتها الأخيرة طلبت ثيابا جديدة ثم دعت سلمى امرأة أبي رافع وقالت لها هيئي لي ماء وطلبت منها أن تسكب لها الماء وهي تغتسل ثم لبست ملابسها الجديدة وأمرت أن يقدم سريرها إلى وسط البيت واستلقت عليه مستقبلة القبلة وقالت إني مقبوضة الآن ، فلا يكشفني أحد.

بنور فاطمة اهتديت _87 _

  تقول أسماء بنت عميس : لما دخلت فاطمة البيت انتظرتها هنيئة ثم ناديتها فلم تجب فناديت : يا بنت محمد المصطفى ، يا بنت أكرم من حملته النسا ، يا بنت خير من وطأ الحصى ، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى ، فلم تجب ، فدخلت البيت وكشفت الرداء عنها فإذا بها قد قضت نحبها شهيدة صابرة مظلومة محتسبة ما بين المغرب والعشاء فوقعت عليها أقبلها ، وأقول يا فاطمة إذا قدمت على أبيك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأقرئيه مني السلام .
  فبينا هي كذلك وإذا بالحسن والحسين دخلا الدار وعرفا أنها ميتة فوقع الحسن يقبلها ويقول : يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني ، والحسين يقبل رجلها ويقول يا أماه أنا ابنك الحسين ، كلميني قبل أن ينصدع قلبي فأموت. ثم خرجا إلى المسجد وأعلما أباهما بشهادة أمهما فأقبل أمير المؤمنين إلى المنزل وهو يقول : بمن العزاء يا بنت محمد ؟ وقال : (اللهم إنها قد أوحشت فآنسها ، وهجرت فصلها ، وظلمت فاحكم لها يا أحكم الحاكمين).
  وخرجت أم كلثوم متجللة برداء وهي تصيح : يا أبتاه يا رسول الله الآن حقا فقدناك فقدا لا لقاء بعده ، وكثر الصراخ في المدينة على ابنة رسول الله ، واجتمع الناس ينتظرون خروج الجنازة ، فخرج إليهم أبو ذر وقال : انصرفوا إن ابنة رسول الله أخر إخراجها هذه العشية، وأخذ أمير المؤمنين في غسلها ، وعلل ذلك حفيدها الإمام الصادق ( ع ) يقول : إنها صديقة فلا يغسلها إلا صديق كما أن مريم لم يغسلها إلا عيسى ( ع ) ، وقال ( ع ) : إن عليا أفاض عليها من الماء ثلاثا وخمسا وجعل في الخامسة شيئا من الكافور ، وكان يقول : اللهم إنها أمتك وبنت رسولك وخيرتك من خلقك ، اللهم لقنها حجتها ، وأعظم برهانها وأعل درجتها ، وأجمع بينها وبين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وحنطها من فاضل حنوط رسول الله الذي جاء به جبرائيل إذ أخبرهما النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سابقا : يا علي ويا فاطمة هذا حنوط من الجنة دفعه إلي جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما .. اقسماه واعزلا منه لي ولكما ، فقالت فاطمة : ثلثه لك والباقي ينظر فيه علي ( ع ) فبكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وضمها إليه وقال : إنك موفقة رشيدة مهدية ملهمة ، يا علي قل في الباقي ، فقال : نصف منه لها ، والنصف لمن ترى يا رسول الله قال هو لك .

بنور فاطمة اهتديت _88 _

  وكفنها في سبعة أثواب ، وقبل أن يعقد الرداء عليها نادى : يا أم كلثوم ، يا زينب ، يا فضة ، يا حسن ، يا حسين ، هلموا وتزودوا من أمكم الزهراء ، فهذا الفراق واللقاء الجنة ، حقا إنها لحظات وداع لشمعة انطفأت وطالما احترقت لتنير للآخرين . . ما أعظم الرزية وما أجل المصيبة ، أقبل الحسنان ( ع ) يقولان : واحسرة لا تنطفئ من فقد جدنا محمد المصطفى وأمنا الزهراء ؟ إذا لقيت جدنا فأقرئيه منا السلام وقولي له : إنا بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا .
  قال أمير المؤمنين ( ع ) وإذا بهاتف من السماء ينادي يا أبا الحسن ارفعهما عنها ، فلقد أبكيا والله ملائكة السماء فرفعهما عنها وعقد الرداء عليها ، وجاءت أهم اللحظات . . لحظة تنفيذ بند الوصية المهم ذلك البند الذي سيظل شاهدا على موقف الزهراء إلى القيامة. إنها لحظات الدفن التي يجب أن تكون سرا وقبلها الصلاة على الجنازة الذي كان محددا فيها ألا يكون فيه شخص ممن ظلم الزهراء، هكذا كانت الوصي.
  جن الليل . . نامت العيون وهدأت الأبصار. وجاء في جوف الليل نفر قليل من الهاشميين ومن المحبين الذين وقفوا مع علي وفاطمة موقفا إيجابيا وهم سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار ، صلى عليها الإمام علي ( ع ) ومعه هذه العصبة القليلة المباركة . . ثم دفنها ولما وضعها في اللحد قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله محمد بن عبد الله ، سلمتك أيتها الصديقة إلى من هو أولى بك مني ، ورضيت لك بما رضي الله لك. ثم قرأ ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )، ثم إنه ( ع ) سوى في البقيع سبع قبور ، أو أربعين قبرا لكي يضيع بينها قبر الزهراء ( ع ) ، ولما عرف شيوخ المدينة دفنها ، وفي البقيع قبور جدد أشكل عليهم الأمر فقالوا : هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور لنخرجها ونصلي عليها ، فبلغ ذلك عليا ( ع ) فخرج مغضبا عليه قباؤه الأصفر الذي يلبسه عند الكريهة وبيده ذو الفقار ، وهو يقسم بالله لئن حول من القبور حجر ليضعن السيف فيهم ، فتلقاه عمر ومعه جماعة فقال له : ما لك ، والله يا أبا الحسن لننبشن قبرها ونصلي عليها .

بنور فاطمة اهتديت _89 _

  فقال علي ( ع ) وهو غاضب : أما حقي فتركته مخافة أن يرتد الناس عن دينهم ، وأما قبر فاطمة فوالذي نفسي بيده لئن حول منه حجر لأسقين الأرض من دمائكم ، فتفرق الناس (1) ، وأسدل الستار عن أول محطة سقطت الأمة في امتحانها ، وغادرت الزهراء مشتاقة للقاء ربها وأبيها ذهبت وهي تحمل جراحات مثخنة وآلاما عظاما . . انتقلت لتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليحكم لها على من ظلمها وتركت لنا أعلام هداية ومنارات فرقان . . رحلت وخلفت فينا سرها. سرها الذي دفن في قبرها الذي دفنت فيه سرا. إنه سر سهل ممتنع لا تطوله كل العقول ولا يمتنع عن جميع العقول ، سر لا يطوله إلا من أشرق في قلبه نور فاطمة وارتشف من ضياه عقله فانفتح على الحق والخير ونفر من الظلم والانحراف .
  ورغم أنني تجرعت كأس ألمها إلا أنه بالنسبة لي كان ممزوجا بالحلاوة ، شربت منه فأشرقت لي فاطمة بنورها فكانت الدليل إلى الصراط المستقيم ، وما أعظم شأنها ، حقا إنها فاطمة بنت محمد زوج علي ، الزهراء صرخة مدوية عبر التاريخ لقد انتقلت الزهراء ( ع ) إلى بارئها هناك حيث جنة عرضها السماوات والأرض تنتظر يوم القيامة يوم الحساب . . ولكنها تركت صرخة تجلجل وتدوي لتحرك الضمائر الميتة وتهز الوجدان وتنفض غبار الغفلة والشهوات والتكبر عن العقول . . صرخة ألم ولوعة أما صرخة الألم فهو نتاج ما لحقها من أذى وضرب وإسقاط جنين وأما اللوعة فهي مما اقترفته الأمة تجاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته التي لم تحفظ . .

------------------------------
(1) فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى أحمد الهمداني .

بنور فاطمة اهتديت _90 _

  لقد غادرت الزهراء وتركت سهمين في صدر التاريخ ينزفان دما الأول انتقالها وهي لم تكمل عقدها الثاني أما الآخر فهو دفنها ليلا سرا حتى أن قبرها الذي تهفو إليه قلوب الملايين لا يعرف له موضع . . حسرة وما أعظمها من حسرة إنها إشارة الزهراء لننطلق في تلمس الحقائق ، ثمانية عشر ربيعا فقط وكانت أول أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) لحوقا به . . ترى لماذا . . .صحيح أن الموت حق على كل العباد ولكن ألا يقفز إلى الذهن السؤال عن سبب الموت كلنا عندما نفقد عزيزا في ريعان شبابه ويأتينا الخبر بموته نسأل مباشرة وكيف مات وهذا ما يريده الله عز وجل منا لنصل إلى عمق المأساة ، سؤال فطري . . ما الذي جعل الزهراء ( ع ) تنتقل بهذه السرعة وغيرها يمتد به العمر إلى ما شاء الله . .
  وعندما نسأل أنفسنا هذه الأسئلة سنكتشف الحقيقة . . . أولا حزنا على فقد الحبيب المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم على غصب الحقوق ثم اعتداء وضرب وإسقاط الحقوق حقوقها وحقوق زوجها وأبنائها وحقوق الأمة الإسلامية ويتوج ذلك كله الاعتداء الصارخ بالإحراق والضرب والرفس ومن ثم إسقاط المحسن ألا يكفي هذا لأن تهد الجبال هدا . . إن الزهراء ( ع ) قاست كل ذلك لا لكي تجني فائدة شخصية ولكن لتثبيت دعائم الإسلام . . هكذا يريد الله تعالى أن يكشف لنا عن الحقائق عبر حياة أوليائه ، والسهم الآخر دفنها سرا . . إن الزهراء ( ع ) بنت النبوة ربيبة الوحي تخدم الرسالة حية وميتة . . لقد أمرت ألا يصلي عليها رمز الشرعية في السقيفة وأن تدفن ليلا سرا حتى لا يعلم قبرها فيبقى التساؤل عن سر ذلك قائما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا . . كل الشخصيات الهامة ، وكل الصالحين نعرف قبورهم ويقصدها من يقصدها إلا الصديقة الطاهرة أم أبيها ترى لماذا إنها أيضا رسالة الرسالة لمن يؤمن بالرسالة وذكرى لقوم يعقلون .

بنور فاطمة اهتديت _91 _

تمهيد :
  لم أكن أتصور بأنني سأجد هذا الزخم الهائل من الأحاديث والآيات التي تؤيد وتدعم دعوى الشيعة. فبعد حواري مع ابن عمي ، والذي أخذ منحى آخر معي متوخيا الحذر بعد أن علمت بظلامة الزهراء ( ع ) . . . أعطاني ثلاثة كتب قرأتها ، كان الأول لدكتور أعلن ولاءه لأئمة أهل البيت ( ع ) بعد أن كان من علماء أهل السنة والجماعة ، والكتاب الثاني المراجعات وهو مناظرة قيمة جرت بين عالم شيعي وهو السيد عبد الحسين شرف الدين وآخر سني كان زعيما للأزهر الشريف هو الشيخ سليم البشري ، وكتاب آخر عن تأريخ الشيعة وظلم الحكام لهم على امتداد التاريخ ، وحقا كان لكتاب ثم اهتديت للدكتور التيجاني السماوي الدور الأكبر في تحفيزي للبحث كما أنه كان دافعا لقراءة كتاب المراجعات بدقة وعناية ولا أظنني سأجد كتابا على أديم الأرض أكثر قوة وحجة ومنطقا من كتاب المراجعات الذي أماط اللثام وأبطل كل حجج الشيخ البشري بأدب ووقار .
  وأذكر ذات يوم أن أحد الأشخاص استعار كتاب المراجعات من أحد الأصدقاء وبعد فترة وجيزة جاء بالكتاب وهو يقول ـ محاولا الاستهزاء به كردة فعل طبيعية إنه مختلق وإن هذه المناظرة أساسا لم تقم ، فأجابه الأخ : ـ يا شيخنا فلنفرض جدلا أن هذه المناظرة لم تكن ، وأن هذه الشخصيات لا وجود لها في الحقيقة ما رأيك فيما ورد في الكتاب من الأدلة ، نحن كلامنا ليس حول الشخصيات وما يهمنا محتوى الكتاب إذا كنت تملك ردا عليه فتفضل ( هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) وإلا فالزم الصمت . . . فصمت صاحبنا ، والحال إننا نثق بأن هذه المناظرة والحوار بين السيد عبد الحسين والشيخ سليم حدثت حقيقة ، والشخصيتان علمان بارزان في سماء الأوساط الدينية عند الشيعة والسنة ، وسوف أقدم مجموعة من الأدلة تأخذ بأعناقناشيء نا أم أبينا إلى اتباع أهل البيت ( ع ) والاقتداء بهم دون غيرهم من الخلق لأنهم خلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإن الهدى في اتباعهم وأخذ الدين منهم وموالاتهم وإن الضلالة في موالاة غيرهم ولن آتي بدليل من خارج الكتب المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة حتى نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.

بنور فاطمة اهتديت _92 _

  وموضوع بحثنا كما هو واضح الإمامة والخلافة التي قيل فيها : لم يسل سيف في الإسلام كما سل في الإمامة ، وهي جذر الخلاف القائم بين الشيعة والسنة ومن عندها تفرع حتى وصل إلى أصغر الجزئيات فهل الإمامة نص وتعيين أم هي شورى واختيار من قبل المحكومين .

بالشورى أم بالتعين:
  مفهوم الشورى عند أهل السنة والجماعة غير واضح : الحق إن الكلام حول خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير واضح عند الإخوة أهل السنة فتارة يقولون بالشورى وأخرى يعطون الشرعية للنص ، ومع ذلك لا نجد مستندا شرعيا ولا دليلا يؤيد دعواهم ، وقد تمسكوا بآيتين وردتا في القرآن الكريم اشتبه على القوم سبيل فهمهما كما سنبين ، ولم نجد عندهم مفهوما واضحا للشورى ولا حدودا ولا تفاصيل سواء من القرآن أو السنة ، لأن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انتقل إلى الرفيق الأعلى ولم يوضح شيئا ـ كما يظنون ـ عن أخطر فتنة يمكن أن تتعرض لها الأمة وهي الخلافة بحسب منهجهم ، وهو الذي يحمل على عاتقه تبليغ خاتمة الرسالات ولم يترك فيها كبيرة ولا صغيرة يحتاجها الناس إلا وبينها لهم حتى أحكام التخلي فكيف بقيادة الأمة ونظام الحكم في الإسلام ؟ بل إن القول في الشورى عندهم عبارة عن اجتهادات لعلماء رسموا مفهومها الديني بناء على ما جرت عليه الأحداث ، فقالوا يجوز لولي الأمر أن يعين خليفته كما فعل أبو بكر ، ويمكن أن تنعقد البيعة لأحدهم بمبايعة فرد واحد كما بايع العباس عليا بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكما بايع عمر أبا بكر ، ومنهم من قال إن الشورى تنعقد بأهل الحل والعقد ولكن دون توضيح من هم أهل الحل والعقد ومن الذي يعينهم ، وبعضهم جمع بين كل ذلك وتاه في ظلمات بعضها فوق بعض ... وكل ذلك تقول على الدين لا يؤيده دليل عقلي ولا نقلي اللهم إلا الآيتان الشريفتان وهما أجنبيتان عن المقام ولا يمكن تثبيت هذه الشورى المزعومة بهما .

بنور فاطمة اهتديت _93 _

الآية الأولى :
  قوله سبحانه وتعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (سورة آل عمران : آية / 159) ، استدلوا بهذه الآية على أصل الشورى وقالوا إن الخلافة والإمامة بالشورى في حين أن الآية واضحة في خلاف مرادهم إذ أنها تخاطب الحاكم الذي استقرت حكومته وتوجهه لمشاورة الرعية لأنه هو الذي يشاور ، ونفس الآية تشير إلى أن هنالك ثمة رئيس (حاكم) بعد أن يمحص الآراء والأفكار يأخذ بالنافع منها ثم يعزم هو على ما ارتآه بعد المشاورة متوكلا على الله . . كذلك تبين الآية أن الأمر هنا غير الحكومة ، فبدون الحاكم لا وجود للشورى لأنها تحتاج إلى حاكم يكون قيما عليها ليعزم ويتوكل على الله ، وبناء على هذه الآية لا تتم الشورى إلا بولي الأمر الذي يفصل في موضوعها ، وعلى ذلك لا دلالة للآية على الشورى التي بها يتم اختيار ولي الأمر لأن وجوده مكمل لنفس الشورى ، ويتوقف اختياره على وجوده ضمن الجماعة المكونة للشورى ، وهذا يلزم الدور وهو باطل ، والدور يعني تثبيت وجودشيء بوجودشيء آخر يتوقف وجوده على وجود الشئ الأول مثل قضية الدجاجة والبيضة أيهما أول فالبيضة يتوقف وجودها على الدجاجة وكذلك الدجاجة وما أشبه .

الآية الثانية :
قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) ( سورة الشورى : آية / 38 ) إن الآية الكريمة حثت على الشورى فيما يمت إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم ، أما كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهو أول الكلام ، إذ لا ندري هل هو من شؤونهم أم من شؤون الله سبحانه وتعالى وعلى فرض أن ذلك من شؤونهم فمع هذا لا يصح الاستدلال بهذه الآية في موضوع تعيين الإمام والخليفة إذ لا يقال أنه يجوز قيام الشورى الشرعية دون ولي الأمر كما ذكرنا في الاستدلال بالآية السابقة ، والآية في الواقع عامة تولت تفصيلاتها آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ . . . ) أما الآية موضع البحث فقد جاءت تتحدث عن صفات المؤمنين والرسول ( صلى الله عليه وآله ) أحدهم بل أكملهم وأتقاهم وهو ولي الأمر المستقر له الوضع ، فلا يمكن أن لا تكون له كلمة الفصل ، وواضح من الآية أنها نزلت بلحاظ وجود ولي الأمر بينهم لا بعدم لحاظه ومن يدعي غير ذلك فعلية الإثبات .

بنور فاطمة اهتديت _94 _

  إذا علمت ذلك نقول أنه بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إما كان هناك ولي أمر فلا داعي للشورى لتنصيبه ، وإما لم يكن فيحتاج إلى شورى شرعية حتى يتم تنصيبه ، والشورى الشرعية تحتاج إلى ولي أمر قيم عليها يأخذ بالنافع بعد المشاورة ويعزم عليه وبدونه تكون الشورى غير شرعية فلا يلزم بها أحد من المسلمين ، وبناء على ذلك لا بد من النص على الإمام ( ولي الأمر ) وهذا ما يثبته التاريخ والعقل ومرويات الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقرآن وفيها ما يشبعك .

التعيين ضرورة :
جاء في سيرة ابن هشام: لما دعا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بني عامر للإسلام وقد جاؤوا في موسم الحج إلى مكة قال رئيسهم : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الأمر لله ، يضعه حيث يشاء (1)، لقد بين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن الأمر لله تعالى وهذا القرآن الذي نتلوه ليل نهار يؤكد ذلك أيضا بقوله تعالى : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (2) .
  والاصطفاء الإلهي لحمل عب ء تبليغ الرسالة والحفاظ عليها سنة إلهية لن تتغير ولن تتبدل ، قال الله سبحانه وتعالى ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (3) ويقول جل وعلا ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (4) ، ويؤكد سبحانه وتعالى أن الأمر ليس بيد أحد مهما بلغ من الوعي فأضاف إلى نفسه تعالى الاختيار والجعل يقول تعالى ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ )(5) ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (6) .

-------------------------
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 424 .
(2) سورة الأنعام : آية / 124 .
(3) سورة آل عمران : آية / 33 ـ 34 .
(4) سورة فاطر : آية / 32 .
(5) سورة الأنبياء : آية / 73 .
(6) سورة السجدة : آية / 24 .

بنور فاطمة اهتديت _95 _

  وهذا الجعل ليس بأمر الأمة بل بأمر الله ( بأمرنا ) ولا يعقل أن يكون الضمير في أمرنا شامل للأمة إذ ليست هي التي توحي إلى الأئمة فعل الخيرات وإقام الصلاة . . . كما أن الأمة ليست هي المعبودة ( وكانوا لنا عابدين ) ولا هي صاحبة الآيات ( بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ، وضرورة التعيين أمر يعلمه كل إنسان بوجدانه وعقله ، لضرورة وجود خليفة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقوم مقامه في كل واجباته ، ويكاد يكون ذلك من البديهيات وإلا أي ضمانة يمكن لها أن تحفظ لنا ديننا وتمثل بوصلة لبيان الانحراف الذي ربما يحدث بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما حدث في الأمم السابقة من الذي تركن إليه الأمة ليواصل مسيرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكيف يتأتى للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن ينتقل للرفيق الأعلى دون أن يعين خليفته ؟ أمن العقل أن يترك أمر الخلافة والإمامة في أيدي الناس الذين قد تتغلب عليهم شهوة السلطة والزعامة ذلك لأن طبيعة البشر تهوي به إلى أسفل ولا يكفيها وجود شريعة محفوظة في الكتب ، بل لا بد من تجسيد تلك الشريعة في إنسان يتمتع بتفوق تشريعي (معصوم) يعطيه صلاحية تطبيق الشريعة على الناس (منصوص عليه) إذ لا بد لكل قانون من مطبق نافذ الكلمة وإلا عاد القانون حبرا على الورق (1) .
  إن الخالق الذي من أجل كمال كل مخلوق وفر له الوسائل الضرورية وغيرها كي يعبر من حدود النقص والضعف إلى منازل الكمال ، كيف يمكن أن يستثني من ذلك القيادة بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والتي تعتبر عاملا مهما لرقي الإنسان معنويا وروحيا ، والتعيين أمر تنبه له أبو بكر عندما كتب وصيته التي نصب فيها عمر خليفة من بعده وأمر الناس بالسمع والطاعة له . . . ومع أنه كان على فراش الموت عند كتابته لذلك إلا أن عمر كان حريصا على تنفيذ الوصية في حين أنه كان المعترض الأول على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما أراد كتابة وصيته وهو مريض وقال إنه يهجر ويقول أمير المؤمنين علي ( ع ) في شأن تعيين أبي بكر لعمر فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها .

------------------------------------
(1) الفكر الإسلامي مواجهة حضارية ـ العلامة السيد محمد تقي المدرسي ص 250 .

بنور فاطمة اهتديت _96 _

  كما أن عائشة أقرت بضرورة التعيين عندما ضرب عمر وبقي على الفراش ينتظر الأجل المحتوم إذ أرسلت إليه أن أوص من يخلفك ولا تترك أمة محمد بعدك هملا ، وبدون راع ، وأشار عبد الرحمن بن عوف على عمر بذلك أيضا ، والواقع العملي يثبت أن الخلفاء جاؤوا بالتنصيب وبلا شورى حتى شورى الستة كانت بالتعيين كما سترى .

علي بن أبي طالب أول خليفة للنبي (ص):
  طفحت كتب أهل السنة والجماعة بالأحاديث التي تبين أن أهل البيت ( ع ) هم خلفاء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحملة دين الله بعده ، وغير المتمسك بهم ضال وذلك بإخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن اختيار الله تعالى لهم ، وسنرى من خلال ما نستدل به أن الأمر لا ينحصر في حبهم فقط والتبرك بهم إنما موالاتهم واتباعهم والتسليم لهم ، وكثيرا ما يقول لي البعض نحن نحب أهل البيت ( ع ) . . . أقول إن حب أهل البيت ( ع ) مجردا عن ترتيب أثر على ذلك لا يجدي ، فحبهم يستتبع أن نسلك مسلكهم ونتبع منهجهم ونوالي أولياءهم هذا هو الحب يقول تعالى ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ( سورة آل عمران : آية / 31 ) وأهل البيت ( ع ) هم حملة رسالة السماء وبهم يعرف الحق من الباطل والمتمسك بهم هو الملتزم بمنهجهم السائر على دربهم .
والإمام علي ( ع ) هو الإمام الأول والخليفة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . . . ذلك ما توصلت إليه من خلال ما تواتر من الأحاديث حول تنصيبه إماما للأمة وعن أفضليته على جميع الصحابة ، رغم أن أعداءه أخفوا مناقبه حسدا وأخفاها شيعته خوفا إلا أنه ظهر من بين ذلك ما ملأ الخافقين يقول أحمد بن حنبل ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب (1) ومع ذلك سأختار بعض الأحاديث التي تثبت له الولاية والخلافة :

------------------------------------
(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 107 .

بنور فاطمة اهتديت _97 _

1 ـ حديث الغدير:
  في حديث طويل أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جمع الناس يوم غدير خم ( موضع بين مكة والمدينة ـ الجحفة) وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع وكان يوما صائفا حتى أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر ، وجمع الرحال وصعد عليها وقال مخاطبا معاشر المسلمين : ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله .
  إن حديث الغدير من أوضح أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيانا وأعمقها دلالة وأقواها بلاغة ولقد أورده السيوطي في الدر المنثور في ذيل الآية ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) لبيان أن ولاية علي ( ع ) التي قرنها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بولايته هي امتداد لها وكما كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أولى بالمؤمنين من أنفسهم كذلك علي بن أبي طالب ، مما يدل على أن النبي ما أراد الولاية بمعنى الحب إنما أرادها بمعنى الإمامة لوجود القرينة المقالية فقد بدأ الحديث بولاية نفسه على المؤمنين ثم قرنها بولاية علي فالولاية بمعنى الأولى من المؤمنين بأنفسهم .
  هذا الحديث لا شبهة في صحته وهو من الأحاديث المتواترة التي لم يستطع علماء أهل السنة والجماعة رده فبحثوا له عن تخريج ومعنى يتناسب مع ما تهواه أنفسهم فاضطروا إلى تفسير الموالاة بمعنى الحب وهذا المعنى لا ينسجم ومفهوم الحديث القاضي بولايته وإمامته على الناس بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخلافته له بصورة واضحة وجلية ، ولا يمكن لشخص يملك عقلا سليما ووجدانا صحيحا أن يقنع بقول علماء أهل السنة والجماعة ، فهم كأنما يقولون أن الرسول ( صلى الله وآله وسلم ) ومعه هذه الأعداد الهائلة من الحجاج والذين يبلغ عددهم ما يقارب المائة وعشرين ألف . . . أوقف من معه وأرسل في طلب من سبقه ليأتي راجعا وانتظر من كان بعده يوقفهم في تلك الصحراء والشمس تلفح الوجوه ليقول لهم أيها الناس أحبوا عليا فإنه ابن عمي وزوج ابنتي .

بنور فاطمة اهتديت _98 _

  أي أحمق هذا الذي يؤمن بهذا القول والله إنها لضحالة في التفكير وسذاجة في استعمال أساليب المكر والخداع وخبث ينم عن عداء حقيقي لعلي بن أبي طالب ( ع ) ، وقد تتبع صاحب موسوعة الغدير العلامة الأميني رواة هذا الحديث من الصحابة فبلغ عددهم 110 صحابي فيهم أبو هريرة وأسامة بن زيد وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله والزبير بن العوام وزيد بن الأرقم وغيرهم (1) ومن التابعين بلغ عدد الرواة (84) ولم يترك حتى العلماء في القرون الأولى وكذلك الشعراء(2) .
  ولقد أورد الحديث أحمد بن حنبل في مسنده وأضاف فلقيه عمر بعد ذلك فقال له : هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (3) ، كما أورده الحاكم في مستدركه ج 3 ص 110 وقال عنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ولأهمية أمر الإمامة والولاية في الرسالة وباعتبارها جزءا أساسيا لا تكتمل الرسالة بدونه جاء الأمر من الله تعالى بتبليغ ذلك للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فكان حديث الغدير كما جاء في تفسير الفخر الرازي في ذيل الآية ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ( سورة المائدة : آية / 67 ) قال : والعاشر ـ أي من الوجوه التي قالها المفسرون في نزول الآية : نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب ( ع ) ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي (4) .

------------------------------------
(1) الغدير ج 1 ص 14 .
(2) المصدر ج 1 ص 62 .
(3) مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 281 .
(4) التفسير الكبير للرازي ج 12 ص 49 .

بنور فاطمة اهتديت _99 _

  وبهذا تتضح أهمية الولاية كجزء من الرسالة من دونها تفقد الرسالة أهميتها كما تنطق الآية، ومما يؤكد قولنا اختصاص علي بالولاية دون غيره من الصحابة وذلك في قوله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ( سورة المائدة : آية / 55 ) يقول الرازي والطبري المقصود من الذين آمنوا أمير المؤمنين علي ( ع ) كما أورده السيوطي في الدر المنثور وكذلك كنز العمال ، والآية ظاهرة في إمامته ومعنى الولي في هذه الآية لا بد أن يلائم الحصر في الله عز وجل وفي رسوله وفي علي وظهور أداة : إنما في الحصر تشير إلى تفسير واحد لكلمة الولي وهو مالك الأمر ونحوه مما يناسب الاختصاص .

2 ـ حديث المنزلة:
  جاء في البخاري « كتاب بدء الخلق » في باب غزوة تبوك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج إلى تبوك واستخلف عليا ( ع ) فقال : « أتخلفني في الصبيان والنساء ، فقال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » (1) ، ولا يخفى على المتأمل الدلالة الواضحة لخلافة علي ( ع ) والتي كخلافة هارون ( ع ) إلا أن النبوة ختمت بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد ألمعنا في نقاشنا لقصص بني إسرائيل إلى وجه الشبه بين خلافة هارون لموسى ( ع ) وكيف أضل السامري القوم ، وبين خلافة علي ( ع ) التي انقلب عليها المسلمون ووضعوا الأمر في غيره فتأمل .

3 ـ حديث الانذار:
لما نزلت آية ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جمع بني عبد المطلب على طعام ثم قال : إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي ووارثي فلم يقم أحد .

------------------------------------
(1) رواه مسلم أيضا في صحيحه كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضائل علي بن أبي طالب كما أورده أحمد بن حنبل وغيرهم .

بنور فاطمة اهتديت _100 _

  قال علي : وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه قال النبي : إجلس ، قال ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس حتى كانت الثالثة فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1) ، والحديث لا يحتاج مني إلى توضيح فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار .

4 ـ حديث الراية :
  حاول أحدهم أن يثبت لي وهو يحاورني أفضلية الخلفاء الثلاثة على علي ( ع ) قلت له : هناك حديث واحد كاف لبيان الفرق بين علي ( ع ) وأبي بكر وعمر ، روى ابن كثير في كتابه البداية والنهاية : بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا بكر ( رض ) إلى بعض حصون خيبر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد ثم بعث عمر ( رض ) فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح فقال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه كرارا ليس بفرار ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليا وهو يومئذ أرمد فتفل في عينيه ثم قال :
  خذ الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك » (2)، من خلال هذه الرواية نستشف من هو الأفضل وإلا لماذا ميز الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليا ( ع ) بهذه الصفات التي جاءت في الحديث وهو من أوتي جوامع الكلم وفصاحة اللسان وبلاغة اللسان وبلاغة التعبير خصوصا ما جاء في آخر الكلام « ليس بفرار » إشارة إلى فرار من سبقه من ساحة الوغى وقد استحى ابن كثير من ذكر ذلك فذكرها الطبري في تاريخه بكل وضوح عندما قال : « فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يجبنه أصحابه ويجبنهم » .

------------------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 2 ص 63 ـ 64 .
(2) البداية والنهاية ج 4 ص 187 .