ذلك ، الجهد العلمي الذي يؤدي الى الاجتهاد في علوم الدين ، وبالخصوص الفقه والاصول ، وعملية الاجتهاد هذه ، تعتبر جزءاً من نظرية التسخير ، فاجتهاد المجتهد وعلمه ينبغي ان يسخر كلياً لخدمة الامة ، بالتوافق مع حاجتها ، وبالتناسب مع طموحاتها في انشاء نظام اجتماعي سياسي ديني متكامل.
  ولكن الحركة الاجتهادية في الفقه والاصول قاست في العصور الاسلامية الاولى انعزالاً سياسياً أدى الى تحديد الهدف الاجتماعي من التعليم .
  فبدلاً من تعميم مفهوم التعليم وجعله حقاً لكل فرد ، سعت السلطات السياسية الحاكمة الى الحفاظ على مستوى من الجهل والتخلف الفكري السائد بين الافراد آنذاك ، لأن السلطات كانت تشعر ان نشر العلم بين افراد الامة سيؤدي الى هز الكيان السياسي الظالم وتقويض أركانه .
  وكان من نتائج هذا الانعزال تقلص النظرة الاجتماعية للفقه الاسلامي ، وظهور الاتجاه الفقهي الذي يهتم بشؤون الفرد أكثر من اهتمامه بشؤون الامة .
  وانصب اهتمام الفقهاء بالحث على تحصيل العلوم الدينية المتمثلة بالفقه والاصول وعلوم الحديث واللغة والمنطق بالقلة المختارة من الافراد ، بينما أهمل تعليم الافراد عموماً ، بل ان الامة الاسلامية باتت على قسمين ، القسم الاول والأكبر سماهم الفقهاء بـ ( العوام من الناس ) وهم الذين لا يجيدون القراءة ، والثاني : وهم الطلبة والعلماء .
  وهذه التسمية في حد ذاتها تعطي انطباعاً ظاهرياً بان العلم في الاسلام انما وجد للخاصة فحسب ، وبقية الناس ينطبق عليهم اصطلاح العوام ، وكأن التكليف الشرعي لا يحث .

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 101 _

  المكلف على طلب العلم والتحصيل ، ولانشك ان اللوم في هذا الفكر المتخلف يقع كلياً على السلطات السياسية المنحرفة التي حكمت الامة الاسلامية قروناً عديدة ، فسلبت من أيدي الفقهاء العدول كل أدوات السلطة التنفيذية ، وأرادت للامة الاسلامية ـ بجميع أفرادها ـ التخلف عن ركب العلم والحضارة ، حتى يتم لتلك الفئة المنحرفة السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بشكل تام .
  ولا يحمل اصطلاح الفقهاء هذا غير معنى الاختصاص ، فسمي الفقهاء ( علماءً ) لا ختصاصهم بعلمي الفقه والاصول ، وسمي غيرهم ( عواماً ) لجهلهم علمي الفقه والاصول ، ويكفينا ، لفهم موقف الاسلام من العلم وضرورة التعلمي الجماعي للمسلمين ، ان نتذكر ما حصل في معركة بدر المظفرة من أمر الرسول ( صلى الله عليه وأله وسلم ) باطلاق سراح أسرى المشركين ، شرط ان يعلم الاسير الواحد منهم عشرة مسلمين القراءة والكتابة.
  ولاريب ان التأكيد على التعليم الجماعي كان قد ورد في أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) في القرن الاول الهجري .
  فالامام علي بن الحسين ( عليه السلام ) في رسالته الحقوقية يدعو بصراحة الى منح الافراد حق التعليم ، ويعلق هذا الحق بواجبات السلطة السياسية التي من مسؤوليتها بناء النظام الاجتماعي ، ويقول ( عليه السلام ) : ( واما حق رعيتك بالعلم ، فان تعلم ان الله قد جعلك لهم فيها آتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة ... فان أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله ) (1)، ولكن تحديد المسار التعليمي الذي تنتهجه الدولة لابد وان يكون .
--------------------
(1) الخصال ج 2 ص 567.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 102 _
  مرتبطاً بخطة عامة ، يضعها متخصصون بشؤون التعليم ، تستهدف رفع المستوى الثقافي للامة الاسلامية .
  وهذا لايتم الا بتصميم نظام تعليمي مبني على منهج علمي يساند الدولة الاسلامية في كل توجهاتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية ، فينبغي ان يكون من نتائج هذا التصميم انشاء نظام مدرسي عام يتعلم افراد النظام الاجتماعي من خلاله ، كل الفنون المتعلقة بالحياة الاجتماعية ؛ على ان يكون هذا النظام المدرسي قاعدة للانطلاق في شتى المجالات الحياتية المفترض ان يكون للمعلم فيها دور بناء وأرجو ان لا يختلط اصطلاح ( المدرسة العامة ونظامها ) المستخدم في هذا البحث ، بالمدارس الدينية حسب النظام المعمول به في الحوزات العلمية .
  بل المقصود من المدرسة العامة ، المؤسسة العلمية التي نشأت مع ظهور الدولة الحديثة وتولت تعليم الصغار اللغة والعقيدة والفقه والعلوم التجريبية حتى مرحلة البلوغ ، والصغار هم كل أفراد النظام الاجتماعي دون سن البلوغ الذين يعيشون في تلك البقعة من الأرض ، ويطلق عليهم وعلى من سواهم اسم المجتمع الانساني.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 103_
( المدرسة ) في النظام الاجتماعي
  ولما كان ايمان الاسلام بحق الفرد في التعليم ايماناً راسخاً ، نابعاً من مقتضى قوله تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (1) ، فإن تدخل الدولة في المجتمع الاسلامي بضرورة فرض التعليم الاجباري لحد المرحلةالمتوسطة يجب ان يكون امراً ارتكازياً وشرعياً ، للاسباب الثلاثة التالية :
  اولاً : لأن الفرد يعتبر قاصراً في سن الطفولة ؛ فعلى وليه الاهتمام بمصلحته العلمية .
  ثانياً : لما كان ولي أمر الامة ( الامام المعصوم أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة ) مسؤولاً عن بناء الدولة الاسلامية بناءً محكماً في المجال الاقتصادي والسياسي والعسكري ، وجب عليه تهيئة مقدمات بناء الدولة من خلال بناء الافراد علمياً وثقافياً قبل البلوغ ، ثالثاً : ان العلم بكل فروعه وألوانه يقرب المكلف من الله عز وجل ، ويجعله أكثر تطبيقاً للاحكام الشرعية وأكثر فهماً لدور الدين في النظام الاجتماعي.
  وبطبيعة الحال ، فان التمييز بين الافراد في النظام التعليمي الاسلامي يجب ان يمحى اصلاً ، لأن ديناً كالاسلام يحاول تثبيت أسس العدالة الاجتماعية بقوة القانون ، لايمكن ابداً ان يحرم الافراد من حقوقهم
--------------------
(1) الزمر : 9.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 104 _
  المشروعة ، فالتعليم حق مشروع لكل فرد ، والمساواة في تحصيله أصل من اصول العدالة الاجتماعية ، بل ان المساواة العامة التي أمر بها الاسلام في امتلاك الثروة واستثمارها في شتى مجالات الحياة العملية ، تعتبر دعماً حقيقياً للمساواة في نظام التعليم العام.
  ولاشك ان المدرسة في المجتمع الاسلامي تساهم في تطوير النظام الاجتماعي ، من خلال نقل المعرفة الاسلامية والانسانية الى اذهان الطلبة من الجيل القديم الى الجيل الجديد ، ونشر الفكر الذي يوحد توجهات المجتمع ، وتطوير شخصيات هؤلاء التلاميذ الذين سيحملون مشعل المسؤولية مستقبلاً ، وتأهيلهم لتحمل التكليف الشرعي ، وتمرينهم على الاعمال التخصصية ، وتعليمهم قواعد النظام الاجتماعي التي تربط الاسرة وأفرادها بالمسجد والمدرسة والحكومة وساحة العمل المهني.
  فعلى نطاق نقل المعرفة ، فان عملية التعليم لابد لها من الاستمرار عبر الاجيال المتعاقبة ، وهذا هو الذي يميز المجتمعات الانسانية عن غيرها من التجمعات الحيوانية ، ففي كل حقبة زمنية تتراكم كمية هائلة من المعلومات الاجتماعية والتجريبية ، لابد وان تنقلها أيادي الجيل القديم الى نظائرهم من الجيل الجديد .
  وهذا الانتقال لايساهم في بقاء الحياة الانسانية في تطور مستمر فحسب ، بل يساهم في بقاء القيم الاخلاقية حية في الضمائر مهما طال زمن انتشارها ، ولايمكن نقل هذه المعارف والافكار الانسانية الا عن طريق المدرسة والنظام التعليمي المعترف به اجتماعياً. ولما كانت أرض الاسلام ساحة منسجمة تجمع الاقليات العرقية

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 105 _
  المتعددة ، اصبح للمدرسة دوراً أعظم في توحيد توجهات أفراد المجتمع وتهذيب تطلعاتهم وآمالهم في حياة اسلامية رغيدة.
  فلابد ان تدرس اللغة العربية الفصحى ومعارفها ـ باعتبارها لغة القرآن ـ لجميع أفراد الامة ، وكل ما يدرس في المدرسة العامة في النظام الاسلامي من علوم وتاريخ ودين يساهم في توحيد الدولة من الناحية الثقافية والسياسية والاجتماعية ؛ لأن عملية انصهار هذه العلوم في أذهان التلاميذ ستخلق منهم افراداً يملكون كل المؤهلات العلمية لبناء دولة علمية ، موحدة ، متطورة ، قائمة على أساس نظام اخلاقي وديني عظيم.
  ولاشك ان دور المدرسة العامة في المجتمع الاسلامي لايتوقف عند معرفة اللغة وفهم العلوم التي تتعلق بها ، بل ان دورها يتعدى الى فهم دور الانسان في الحياة الاجتماعية ، وفهم علاقته بالكون والخالق ، وفهم الانسان لذاته من خلال العلوم الفلسفية والتطبيقية .
  ولابد لهذه المدرسة من فتح أبواب النقاش العلمي والنقد البناء ، فالرد على النظريات الفاسدة والآراء المنحرفة يوفر للطلبة فرصاً ثمينة لممارسة النقد البناء المستند على الاسس العلمية ، بل ان المدرسة تستطيع ان تهيئ لطلابها جواً من العمل السياسي والاجتماعي ، حتى تؤهلهم لاحقاً لدخول المعترك الاجتماعي دون عراقيل .
  ولابد لنا من معرفة حقيقة مهمة وهي ان المدرسة بكل تخصصاتها وفروعها العلمية والانسانية والمهنية ، انما هي ضمان لمستقبل الاسلام ، ونجاح التجربة الاسلامية في تكامل النظام الاجتماعي لقيادة البشرية المعذبة وايصالها الى شاطئ السلام ، ولاشك ان المدارس والجامعات الاسلامية

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 106 _
  ينبغي لها ان تساهم مساهمة فعالة في حل المشاكل العلمية والاجتماعية والاقتصادية التي يبتلي بها النظام الاجتماعي .
  فما فائدة المدرسة التي لاتساهم في التفاعل الاجتماعي ولا تفهم مشاكل الافراد ولا تحاول حلها ؟ ألم تكن الدراسات النظرية باباً من أبواب الدراسات التطبيقية وفرعاً من فروعها ؟ فما فائدة دراسة تركيب الذرة مالم تترجم هذه الدراسة الى تصنيع مواد كيميائية تنفعنا في التطبيب والتسميد والتنظيف ؟ وما فائدة دراسة الظواهر الاجتماعية والانحرافات مالم يوضع منهج واضح المعالم لترشيد توجهات المجتمع الاسلامي وطموحاته وآلامه ومشاعره ؟
  واذا كانت النظرية السياسية الرأسمالية قد نجحت في فصل المدرسة عن الكنيسة في المناهج التعليمية ، وتركت للكنيسة تنصير الافراد وتعليمهم دينهم (1) ، فان النظام التعليمي الاسلامي ينبغي ان يؤسس في كل مدرسة مسجداً للصلاة ، وينبغي ان تندمج المدرسة بالمسجد اندماجاً حقيقياً يؤدي الى تهذيب المدرسة اخلاقياً ، والى رفد المسجد بالطاقات العلمية الشابة المؤهلة لا للعبادة والدعاء والتسبيح فحسب ، بل على أتم الاستعداد للدفاع عن الدين والوطن ، وحماية العقيدة بالعلم والسلاح.
--------------------
(1) ( جون كودلاند ) ، مكان يسمى ( المدرسة ) : ابعاد مستقبلية ، نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1984 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 107 _
التعليم والعدالة الاجتماعية في القرآن ولاشك ان اطلاق معاني العدالة الاجتماعية والقضائية في القرآن كقوله تعالى : ( اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ ) (1)، ( فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ ) (2) ، ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (3) ، ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) (4) ، يعكس شمولها لجميع المؤسسات الاجتماعية التي تهتم بشؤون الفرد ، لانها لم تقيد أو تخصص بمورد معين.
  وتنعكس العدالة الاجتماعية التي نادى بها الاسلام وحث على تحقيقها بين جميع الافراد ، على النظام التعليمي بالخصوص .
  فبموجب الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشارع ، لابد للافراد القادرين من الناحية العقلية على التعلم وقطع اشواط المراحل الدراسية ، من المستوى الابتدائي وحتى المستوى التخصصي المهني أو العلمي .
  وفي المرحلة الاخيرة يلعب الجهد والذكاء دوراً أساسياً في مساعدة الافراد على حجز مقاعدهم الدراسية في الجامعات العلمية والأدبية والمعاهد الفنية ، فالطلبة المتفوقون في العلوم البايولوجية والكيميائية يدخلون كليات الطب والعلوم المتعلقة بها.
--------------------
(1) المائدة : 8.
(2) النساء : 135.
(3) الانعام : 152.
(4) النحل : 90.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 108 _
  والطلبة المتفوقون في الرياضيات والعلوم الهندسية يدخلون كليات الهندسة والعلوم المتعلقة بها ، والمتفوقون في الاجتماعيات يدخلون كليات العلوم الاجتماعية ، وهكذا ، وهذا المقياس في حجز مقاعد الجامعات ، أعدل من مقياس الأنظمة الغربية التي تشترط العامل الطبقي ولون البشرة اساساً في دخول الجامعات العريقة كجامعات اكسفورد وكامبردج وهارفرد وييل وبرنستون (1) .
  فالنظام التعليمي الاسلامي يشجع الطالب الفقير على شق طريقه بنجاح الى أرقى الجامعات في الدولة بغض النظر عن لونه وطبقته الاجتماعية .
  بل يستطيع ان يتميز عن أقرانه الاغنياء ، لأن الفقر لايشغله عن التحصيل ، وهو على اطمئنان بأن عائلته المسحوقة سوف يعيلها النظام الاجتماعي أو الدولة عن طريق الحقوق الشرعية .
  فلا يصرفه الفقر ـ عندئذٍ ـ عن الدرس ، ولا تجبره حاجة العائلة الاساسية على ترك التحصيل .
  واذا ما ظهرت بوادر انحلال النظام الطبقي خلال مراحل التعليم ، أصبحت فرص انتعاش النظام الاجتماعي أوسع ، وأصبح المقياس في تسيير شؤون النظام الاجتماعي و الجهد والكفاءة والذكاء ، ولا يختلف اثنان على ان الذكاء قدرة علمية تحصيلية تتواجد عند الفقراء كما تتواجد عند الاغنياء.
  ومع ان الاسلام يقدم نظاماً عادلاً في توفير الفرص التعليمية لكل القادرين على التحصيل ، الا انه لاينكر وجود التفاوت في قابليات الفهم والادراك والابداع لدى الفراد ، فالافراد عموماً متفاوتون في مستوى
--------------------
(1) ( جون ليولين ) وآخرون ، الذكاء واختلاف الاعراق ، سان فرانسسكو : فريمان ، 1975 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 109_
  فهمهم العلمي وابداعهم وانتاجهم ، ولما كانت هذه القابليات متفاوتة ، فان المكافأة على الجهد المبذول يجب ان تتفاوت حتماً من فرد الى آخر ، ولكن هذا التفاوت في الاجور ينبغي ان لا يخلق طبقات اجتماعية متفاوتة ، بل طبقة واحدة مختلفة الدرجات .
  وهذا النظام التعليمي الرائع يضمن قضيتين اساسيتين ، الاولى : تنشيط فرص الابداع لكل فرد ، والثانية : العدالة الاجتماعية لكل الافراد .
  فلا يستطيع الذكي مهما أوتي من قوة عقلية ان ينشئ طبقة متميزة به عن الآخرين ، تماماً كما لا يستطيع الثري مهما أوتي من قوة مالية انشاء طبقة متميزة به وبأقرانه ، لأن ذلك يدعو الى الظلم الذي يرفضه الاسلام.
  ولم يدع الاسلام الى جعل التعليم مطية رغبات طبقة دون اخرى لتحقيق التسلط على القوة السياسية ، وكسب الثروة ، وتحقيق الرفعة الاجتماعية ، بل اراد من التعليم فهم الانسان موقعه في الحياة الاجتماعية ، ومعرفة دور الدين في بناء النظام الاجتماعي لتحقيق سعادة الفرد وتثبيت أسس العدالة الاجتماعية .
  ولما كان العلم شريفاً في نفسه ، فان الشارع حث جميع الافراد على تحصيل المقدار المتميز منه ، كي يمنح الانسان فسحة للتفكير في موقعه الاجتماعي الحياتي وموقعه في الكون ، وما يترتب على ذلك من معارف ربانية توصله الى معرفة خالقه وصانعه العظيم ، وتحثه على تعلم الفنون والخبرات بشتى الوانها بما ينفع النظام الاجتماعي وافراده .
  ولاشك ان نظاماً تعليمياً كهذا لا يمنح امتيازاً لفرد دون آخر ، لأن عدالة نظام الاجور في الاسلام هي صمام الامان الذي يمنع بموجبه نشوء نظام طبقي

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 110 _
  مشابه للنظام الطبقي الرأسمالي ، ولما كانت الدولة في المجتمع الاسلامي مسؤولة عن رعاية الافراد وحمايتهم والاهتمام بهم ، فان لها الحق في تحديد الاجور وتعيين الحد الأدنى والحد الاعلى للمكافآت الاجتماعية : على عكس الفكرة الغريبة الرأسمالية التي تعين حداً أدنى للاجور ولكنها لا تضع علامة للحد الاعلى (1) ، مما يفسح المجال لنمو الطبقة الرأسمالية الظالمة المتحكمة بشؤون المجتمع والسلطة السياسية واستفحالها.
  والخلاصة ، ان الاسلام لايقر نظام تكافؤ الفرص فحسب ، بل يهيئ الافراد تهيئة شاملة للمنافسة العلمية القائمة على اساس الجهد والذكاء ، فيزيل اولاً كل اسباب التعويق الاجتماعي لطلب العلم من فقر وعدم اشباع الحاجات الاساسية ، فيأخذ حقوق الفقراء ويرجعها اليهم ، ويلغي النظام الطبقي العائلي ، ويشبع حاجات الافراد جميعاً ويوفر لهم مستوىً واحداً من التعليم الابتدائي والثانوي لا يختلف فيه الفقير عن الغني .
  ثم يضع هؤلاء المتسابقين في ميدان العلم على خط البداية ، ويهتف بهم : تسابقوا على بذل الجهد ، فان سبق أحدكم الآخر فانما يفوز بجهده وقابلياته ، والاسلام بهذا النظام الرائع لايثبت عدالته الاجتماعية بين الافراد فحسب ، بل يبرز نظامه المنسجم مع طبيعة الحياة الانسانية التي خلقها الباري عز وجل ، ويربطها بالنظام التكويني المبني على اساس الدقة والتنظيم والعدل .
  ولاريب ان هذا النظام العادل يقف موقفاً معارضاً للنظام الرأسمالي الذي يزج بالمتسابقين في
--------------------
(1) ( كريستوفر جنكز ) وآخرون ، من الذي يسبق ؟ العوامل الحاسمة في النجاح الاقتصادي في امريكا ، نيويورك : الكتب الاساسية ، 1979 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 111 _
  ميدان العلم غاضاً نظره عن المعوقات الاجتماعية التي وضعها للبعض منذ البداية ، كتراكم الثروة لدى طبقة وحرمان الطبقات الاخرى ، وتسليح الاغنياء بأفضل النظام العلمية وحرمان الفقراء منها ، وحصر الجامعات الراقية بالنخبة من أفراد الطبقة الرأسمالية من خلال رسم مستقبل مشرق لهم وهم في مهد الطفولة (1).
  ويتبين لنا من كل ذلك ان النظام الاسلامي في التعليم ـ بلحاظ الاطار الاخلاقي للكتاب المجيد وروايات اهل البيت ( عليهم السلام ) ـ هو من أعدل الانظمة التعليمية في العالم.
--------------------
(1) ( راندال كولينز ) ، المجتمع الاعتمادي : لمحة تاريخية عن علم اجتماع التعليم وانعدام العدالة الاجتماعية ، نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، 1979 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 112 _
فلسفة التعليم في النظريات الغربية ونقدها
  وتتناول ( النظرية التوفيقية ) أهم الأركان التي تبتني عليها ( المدرسة ) في النظام التعليمي ، فهذه النظرية تؤمن بأن المدرسة والنظام التعليمي المشرف عليها تحفظ روحية النظام الاجتماعي الحضارية من خلال نقل معتقدات الآباء الى ابنائهم ، ونشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع ، وتطوير شخصيات الافراد ، وتأهيلهم للعمل التخصصي ، واثراء الثقافة الاجتماعية ، وتعلمي الافراد اطاعة السلطة السياسية (1).
  فعلى صعيد نقل معتقدات الآباء الى ابنائهم ، فان هذه النظرية تؤمن بأن المجتمع لا يمكن ان يحيا حياة اجتماعية طبيعية دون ان تنتقل الثقافة والمعرفة من الجيل السابق الى الجيل اللاحق .
  فالمدرسة تغذي افراد المجتمع بشتى أنواع العلوم والمهارات والقيم ، التي يعتبرها النظام الاجتماعي من الأولويات الاساسية لبقائه ووجوده الحضاري ، فتعلم لغة الوطن التي يتفاهم بها الفرد مع اقرانه ، وجغرافية الدولة التي يعيش فيها ، وتركيبتها السكانية والعرقية تعتبر من أهم مكاسب النظام التعليمي ، حيث تنعكس فوائدها على النظام الاجتماعي كلياً .
  وربما يعتبر الدفاع عن الدولة والنظام السياسي من أهم ثمار شجرة التعليم.
--------------------
(1) ( الكسندر آستن ) ، الوصول الى الامتياز التعليمي ، سان فرانسسكو : بوسى ـ باس ، 1985 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 113_
  وعلى صعيد نشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع الفكرية ، فان المجتمعات الانسانية على الاغلب ، تتركب من أقليات عرقية ودينية متعددة تسكن ارضاً واحدة ، فلايمكن توحيد توجهات هذه الأقليات مالم يتم صهرها تحت سقف نظام تعليمي واحد يستخدم لغة واحدة.
  وعلى صعيد تطوير شخصية الفرد ، فان المدرسة تمنح الافراد فرصة تعلم المهارات المهنية التي تؤهلهم للاشتغال والاكتساب في مستقبل حياتهم ، حيث تساهم هذه المدرسة في منح الافراد فرصة استخدام ما منحهم الخالق عز وجل من نعمة التفكير وطاقة كامنة للإبداع والتطوير.
  ولكن المدرسة لا تضمن تخريج افراد مثقفين بل انها تسعى لتفتيح عقولهم اليافعة كما يساهم نسيم الربيع في تفتيح براعم الازهار ... وذلك من خلال مساهمتها في تعريف الفرد بنفسه وبالعالم المحيط به.
  وعلى صعيد تأهيل الافراد للعمل التخصصي ، تساهم المدرسة في ضمان مستقبل الفرد المهني ورفد النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالمتخصصين في مختلف الحقول التي تحتاجها ، فتضبط المدارس المتخصصة ـ كالطلب والتمريض والهندسة والكيمياء ونحوها ـ عدد الطلبة الذين يحتاجهم المجتمع حتى لايحصل الاضطراب الفني بتراكم الطلبة على اختصاص دون غيره.
  وعلى صعيد اثراء الثقافة الاجتماعية والعلمية ، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل اساسي في زيادة المعرفة البشرية حول الحياة

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 114 _
  والكون والانسان ، وتساعد الطالب على فهم تاريخه الانساني وحضارته ومجتمعه ، وتفتح باباً للنقاش العلمي والنقد البناء ، وتعطي الاساتذة والباحثين فرصاً واسعة لانجاز مختلف البحوث العلمية في شتى المعارف البشرية .
  وتعتبر الجامعات أعمدة البحوث العلمية النظرية التي تساهم في وضع الفرضيات والنظريات واقامة البراهين والادلة على صحة أو فساد فرضيات أو نظريات اخرى أنشأها علماء طبيعيون آخرون ، ولما كانت الفكرة الرأسمالية تؤمن بتطوير منتوجاتها الصناعية بشكل مستمر حتى تجد اسواقاً دائمية لاستهلاكها ، أصبحت الجامعات التجريبية الغربية العقل الرئيسي للمؤسسات الصناعية الرأسمالية العملاقة (1).
  وعلى صعيد حقن الافراد بأفكار تمجد بأهمية النظام والسلطة السياسية ، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل فعال في ترسيخ فكرة النظام الاجتماعي وضرورة احترامه ، وأهمية السلطة السياسية واحترام القانون ، ووجوب الامتثال امام المحاكمة القضائية اذا طلب ذلك ، وبالجملة ، فان المدرسة تنشئ اعتقاداً لدى الفرد بأن النظام السياسي انما صمم اساساً لخدمة افراد المجتمع جميعاً ، فلهم الحقوق التي أقرها القانون وعليهم الواجبات التي كلفهم بها النظام الاجتماعي.
  ولاشك ان النظرية التوفيقية تطرح بديهيات النظرية التعليمية دون ان تتطرق الى دور الطبقات الاجتماعية المتصارعة في استخدام النظام التعليمي كمطية لتيسير عملية مسك زمام السلطة ، وكسب الثروة ، وتحقيق
--------------------
(1) ( هربرت هيمان ) وآخرون ، التأثيرات الثابتة للتعليم ، شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو : 1975 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 115 _
  الرفعة الاجتماعية ، بمعنى ان النظرية التوفيقية تتجاهل الحقائق التي تدين النظام التعليمي في الدولة الرأسمالية ، خصوصاً فيما يتعلق بطبيعة التعليم وتصميم المناهج الدراسية .
  وتمضي هذه النظرية ، ممارسات النظام التعليمي الامريكي في القرنين الماضيين بخصوص حرمان الزنوج والهنود الحمر من حق التعليم (1) ، وهو تناقض واضح في مبتنيات تلك النظرية ، لأن التعلمي المبني على الاساس الطبقي والتمييزي لايوحد المجتمع على الصعيدين الثقافي والتاريخي ، كما تزعم تلك النظرية.
  وقد تولت نظرية الصراع الاجتماعي نقد هذه النظرية التوفيقية وكشف افلاسها الفكري ، فقالت بأن التعليم عنصر مهم في وضع الفرد الطبقي ، لأن الفرد المتعلم يستطيع ان يحتل موقعاً أعلى في السلم الاجتماعي من خلال وظيفته التي تحتاج الى كمية معينة من العلوم والاختصاصات (2) ، فالطبيب والمهندس مثلاً ، يحتلان موقعاً اجتماعياً أرفع من ذلك الذي يحتله العامل غير الماهر.
  ولاشك ان الآباء الاغنياء من الطبقة العليا ينظرون الى مستقبل ابنائهم نظرة خاصة تضمن لهم الوصول الى الطبقة المسيطرة ، ولذلك ، فانهم يمهدون لهم طرقاً خاصة لتحقيق احلامهم ، ففي النظام التعليمي البريطاني مثلاً ، يدخل ابناء الطبقة الرأسمالية المدارس الخاصة المعدودة المسماة
--------------------
(1) ( ريجنالد كلارك ) ، الحياة العائلية والتحصيل المدرسي ، شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، 1983 م.
(2) ( كارل ماركس ) ، المخطوطات الاقتصادية والسياسية لعام 1844 م ، نيويورك : الناشرون الدوليون ، 1964 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 116 _
  بمدارس ( القواعد النحوية ) ، التي تضمن لخريجيها مستقبلاً سياسياً مشرقاً وعضوية دائمة في الطبقة الثرية ، وفي روسيا ، يدخل ابناء الوزراء واعضاء الحزب الشيوعي المسيطرين على النظام السياسي لفترة قريبة ، مدارس خاصة بابناء الطبقة العليا ، وفي امريكا تتلون المدارس التعليمية بلون الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها الفرد.
  وتتهم نظرية الصراع ، الطبقة الرأسمالية بتكريس النظام التعليمي الطبقي للحفاظ على مصالحها الحيوية في السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي ، وتقدم دليلاً على ذلك ، وهو ان الطبقة الرأسمالية تحصل دائماً على أعلى مستويات التعليم ، لأن الآباء يصرفون جزءاً كبيراً من أموالهم على وسائل التعليم الخاصة بالطبقة الغنية ، وان الابناء متفرغون للدرس والتحصيل .
  وهكذا يمتص النظام الاجتماعي ابناء الطبقة الفقيرة كعمال ، بينما يستوعب ابناء الطبقة الرأسمالية كأفراد يحظون بأهمية عظمى في السلم الاجتماعي.
  واخيراً ، فان النظام التعليمي في المجتمع الرأسمالي لايحافظ على الوضع الطبقي فحسب ، بل يجعل الطبقية مسألة شرعية ، لأن النظرية الرأسمالية ترى ان من حق الطبقة العليا السيطرة على النظام الاجتماعي لأنها تملك الثروة ووسائل الانتاج الاقتصادي ، واذا ما نجحت المؤسسة التعليمية في اقناع الفقراء بأن حقوق الطبقة الرأسمالية في الثراء وما يترتب عليها انما هي حقوق عادلة ـ لأن امولهم قد جاءت عن طريق الجهد وعرق الجبين ، وان الفرص متاحة لكل من أراد الثراء ـ نجح الرأسماليون ـ عندئذٍ ـ في

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 117 _
  السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بكل مافيه من خيرات ، والى أمد غير محدود، ولكن نظرية الصراع الاجتماعي لا يتم الا بانشاء صراع جديد آخر مع الطبقة الرأسمالية .
  وتقع في خطأ آخر عندما تتصور انها تستطيع ـ مطلقاً ـ توحيد الاجور والمكافآت الاجتماعية للادوار التي يقوم بها الافراد في النظام الاجتماعي ، وامام اخطاء هذه النظريات يقدم القرآن الكريم رسالته الدينية بأروع صورها ، وهي رسالة العدالة الاجتماعية القائمة على اصلين ، الاول : اصالة الاخوة الاسلامية بين جميع افراد النظام الاجتماعي : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... ) (1) .
  والثاني : اعادة توزيع الثروة الاجتماعية عن طريق فرض الضرائب الشرعية على اموال الافراد : ( ... وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (2) .
  وتنضوي تحت راية العدالة الاجتماعية القرآنية العدالة التعليمية التي هي جزء لا يتجزأ من جوهر الفكرة الدينية ، ولاشك ان رسالة القرآن اصلح للانسانية والنظام الاجتماعي من رسالة النظرية التوفيقية التي تركن للظلم الرأسمالي ، واصلح من رسالة نظرية الصراع التي تسلب فكرة الاخوة والتآخي من مباني النظام الاجتماعي للانسانية المعذبة .
--------------------
(1) الحجرات : 10.
(2) الذاريات : 19.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 118 _
الفصل الرابع:

النظام الصحي في القرآن

  اهمية النظام الصحي * النظرية الطبية في القرآن : 1 ـ النظام الوقائي 2 ـ النظام الغذائي 3 ـ النظام العلاجي * النظام الصحي في الاسلام * العلاقة بين الطبيب والمريض * اهل الخبرة الطبية * فلسفة ( الطب ) في النظريات الغربية ونقدها.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 119_
اهمية النظام الصحي
  لاشك اننا نستطيع ان نجعل محور النظام الطبي في الاسلام مستنداً الى اطلاق الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن حرمة قتل النفس الانسانية البريئة ، وتجعل افناء الفرد الواحد معادلاً لافناء البشرية جمعاء ، ثم تقول بعد ذلك : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (1) .
  وهذه الآية وان لم تشتمل على حكم تكليفي ، الا انها لاتخلو من تشديد في القضايا الاعتبارية والارتكازية . وعلى ضوئها سنتحدث عن اهمية النظام الصحي في الاسلام.
  فلما كان المرض مشكلة انسانية تصيب الفرد وتؤثر على طبيعة المجتمع الانتاجية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بايجاد نظام صحي متكامل يحافظ من خلاله على صحة الافراد ، ويعالجهم معالجة تؤدي بهم الى الشفاء الكامل ، ومن ثم ارجاعهم مرة اخرى الى عجلة الانتاج والخدمات الاجتماعية .
  واذا لم يؤد العلاج الموصوف من قبل المؤسسة الرسمية الى شفاء الفرد شفاءً كاملاً ، فان النظام الصحي ملزم باعلان عجز الفرد عن احتلال دوره الطبيعي في المجتمع ، مشيراً الى ضرورة تحمل النظام الاجتماعي مسؤوليته في دفع تعويض مالي يحفظ كرامة الفرد العاجز ويسد حاجته وحاجة عائلته الاساسية.
--------------------
(1) المائدة : 32.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 120 _
  ويقصد بالنظام الصحي هنا ، بالاضافة الى الطبيب ، المؤسسة التي تضم ادواراً مهنية واجتماعية للعديد من المتخصصين والخبراء ، كالاطباء المتخصصين بالجراحة والباطنية والتخدير ، والصيادلة ، ومدراء المستشفيات وعمالها ، وشركات التأمين الصحية ، ومصانع الادوية والعقاقير ، وكليات الطب ، ومعاهد التمريض.
  ومع ان المرض قضية شخصية تهم الفرد فحسب ، فهو وحده الذي يتألم ، الا ان الواقع يفصح بان المرض مسألة اجتماعية ، لانه لا يمكننا ان نتصور فصل الصحة والمرض والعلاج عن الصورة الاجتماعية الكلية.
  فانتشار الامراض يهز الكيان السياسي ، ويؤثر على النظام الاجتماعي من خلال تعطيل طاقات الافراد في العمل والاستثمار والانتاج ، ويساهم المرض في تقويض النظام الاجتماعي كما تساهم الظواهر الطبيعية والمادية في هدم ما بناه الانسان ، فالزلزال المدمر ، والجفاف المؤدي الى المجاعة ، والحرب المؤدية الى خراب شامل تقوض النظام الاجتماعي كما يقوضه انتشار الامراض .
 وهذه الامراض التي يحتاج في معالجتها الى تدخل المؤسسة الصحية ، تقسم الى نوعين ، الاول : الامراض الحادة ، وهي التي تحتاج الى فترة علاجية قصيرة نسبياً تؤدي بالانسان اما الى الشفاء واما الى الموت مثل مرض الحصبة ، والثاني : الامراض المزمنة ، وهي التي يحتاج العلاج فيها الى فترة طويلة ، ولكن ليس هناك ضمان بشفاء المريض شفاءً كاملاً ، امثال مرض السكري والتهاب المفاصل.
  ويتعدى تأثير المرض الى عائلة المريض ومحبيه ، فمع ان المريض يمر

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 121 _
  بتجربة مريرة من الالام والقلق والانزعاج خلال فترة مرضه ، الا ان عائلته تعاني ايضاً من حالته الاستثنائية ، فقلق العائلة على معيلها ، وخوفها من فقدان المورد المعاشي يساهم في اضطراب الوضع العائلي ، ويجعله مرتبطاً بصورة وثيقة بصحة المعيل .
  وعلى صعيد آخر ، فان انتشار الامراض ، يساهم ايضاً في اضطراب النظام الاجتماعي وإضعاف قواه الانتاجية ، خصوصاً اذا ما انتشرت الامراض المعدية في المجتمع انتشاراً واسعاً كالملاريا والجدري والكوليرا ، فانها تنزل ضربة ساحقة بالمؤسسة الاقتصادية والانتاجية للدولة .
  وهذا يفسر لنا تجاهل الحكومات الاستعمارية في معالجة الامراض والأوبئة الفتاكة في البلدان المستعمرة معالجة جدية ، لان هذه الامراض تفتح ابواباً لتدمير طاقة المجتمع الانتاجية واستهلاك مصادره وخيراته .
  واذا ضعف المجتمع على الصعيد الانتاجي تكاثر المستكبرون على اقتسام خيراته ونهبها ، وقد سعت بريطانيا عند احتلالها الهند في القرن التاسع عشر الى استخدام عملية نشر الامراض كسلاح ضد العدو ، مستفيدةً من تجربتها التاريخية في واقعتين ، الاولى : في القرن الرابع عشر ، والثانية : في بداية القرن العشرين الميلادي ، حيث اكتسح الطاعون اوروبا في القرن الرابع عشر وسمي في وقته بالموت الاسود لإفنائه اكثر من ثلث سكان تلك القارة وتدميره البنية الاقتصادية والسياسية والدينية لدول القرون الوسطى الاوروبية .
  وفي سنة 1918 م قتلت الانفلونزا الاوروبية اكثر من عشرين مليون فرد (1).
--------------------
(1) ( روبرت غوتفراد ) ، الموت الاسود : الكوارث الطبيعية والبشرية في اوروبا القرون الوسطى . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1983 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 122 _
  وفي حين يعرض الاسلام نظريته الصحية في اطار متكامل كما سنرى بعد قليل ، فان نظاماً كنظام الكنيسة النصرانية تبنى لاكثر من الف سنة النظرية الاغريقية في الطب (1) ، حيث تزعم هذه النظرية ان سوائل الجسم الانساني ـ التي تتكون من اربعة انواع هي الدم والبلغم والمرارة الصفراء والسوداء ـ هي سبب نشوء الامراض .
  فاذا نقص مستوى احد هذه السوائل الاربعة واختل توازنها ، نشأ المرض ، ولم تسمح الكنيسة النصرانية الاوروبية في القرون الوسطى تطوير البحوث العلمية الطبية ، بل انكرت على المكتشفين من علماء الطبيعة والطب اكتشافاتهم بحجة ان الانسان الذي لن يتحقق له الخلود في الحياة الدنيوية لا يحق له البحث في الكيان الخالد للطبيعة التي خلقها الخالق سبحانه وتعالى .
  وكانت غاية الكنيسة من ذلك ، ربط المرضى بالطب الروحي الذي كان يمارسه الكهنة ويحصلون فيه على كمية غير قليلة من الاجور (2) ، ولكن اكتشاف ( لويس باستور ) نظريته الجرثومية في القرن التاسع عشر ، ادى الى قلب نظرية الكنيسة النصرانية ، وتطور العلوم الطبية تدريجياً ووصولها الى ما وصلت اليه اليوم.
--------------------
(1) ( جون دوفي ) ، الذين بيدهم الشفاء : بروز المؤسسة الطبية ، نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1976 م.
(2) ( البرت ليونز ) و( جوزيف بيتروسيلي ) ، الطب : تاريخ مصور ، سانت لويس : موزبي | تايمز مرر ، 1978 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 123_
النظرية الطبية في القرآن الكريم
  واستمر الانسان في حياته الاجتماعية منذ بداية الخليقة يتساءل ماذا أتناول من طعام حتى احافظ على حيويتي الجسمية ؟ وايهما أفضل لصحتي كثرة الطعام أم كفاية الغذاء ؟ ولو ترك الأمر للناس في اختيار نوعية الطعام على أساس انه شهي أو على أساس انه نافع ، لاختار الناس الطعام الشهي على الطعام النافع لأن الرغبة الشخصية للفرد هي التي تحدد نوعية الطعام الذي يأكل .
  فاذا أصبحت شهوة الفرد الحكم في اختيار الطعام أضحى الفرد عبداً لشهوته ، ولا يختلف الحيوان في ذلك عن الانسان ، فيخضع الحيوان لنفس المنهج المذكور لأن شهوته هي التي تحدد كمية الطعام التي يستهلكها حتى لو كان ذلك مضراً لجسمه .
  فلا غرابة ـ اذن ـ ان يشبه القرآن الكريم بعض الافراد بالدواب : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) (1) ، ولاشك ان وصفهم بالدواب هو وصفٌ لسلوكهم ، مع انهم بشر بالتأكيد ، ولكن العلم الحديث والنظام الرأسمالي أخضعا الحيوان لطعام مصنع يحتوي على نسبة محددة من الكاربوهيدرات والبروتينات والدهنيات ، حتى يستطيع المستثمر الذي يمتلك قطيعاً من الاغنام مثلاً ، جني أقصى الأرباح عند بيعه تلك الحيوانات الصحيحة المتعافية ، على
--------------------
(1) الانفال : 22.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 124_
  عكس النتيجة فيما لو باع الحيوانات المريضة ، أو الحيوانات التي تستهلك علفاً لاينفع جسمها ، فتقل ـ عندئذٍ ـ الارباح التي يفترض جنيها من تلك الثروة الحيوانية.
  ولكن هنا يبرز سؤال مهم ، وهو كيف يستطيع الانسان اختيار طعامه الصحيح وهو جاهل بمحتويات المواد الغذائية التي يتناولها ؟ وللجواب على هذا السؤال نقول ان للانسان طريقين ، وهما : اما ان يختار العلم التجريبي ليدليه على المواد الغذائية التي تنفع الجسم ، وهذا مالم يحصل في تاريخ البشرية الا في القرن الاخير.
  واما ان يفتش عن نظام غيبي يدليه على اسرار الوقاية والغذاء حتى يتجنب الامراض النازلة بالافراد ، ولاشك ان النظام الغيبي الذي نقصده هو الاسلام ، حيث جاء بنظام وقائي ونظام غذائي في غاية الدقة والكمال .
  ولو ان المائة سنة الأخيرة التي بحث العلم التجريبي فيها عن اسرار الطعام ومحتويات المواد الغذائية وعلاقتها بصحة الانسان ، صرفت على أحكام الأطعمة والأشربة في الاسلام لدفعت العلم البشري اشواطاً عديدة الى الامام ، ولاستغنى العالم عن ملايين الاطنان من الأدوية والحقن والامصال التي اريد لها ان تشفي الأمراض ، ولكنها لم تحقق الشفاء التام لحد اليوم.
  ولو استطرد السائل الآنف الذكر مستفسراً عما يعمله الغذاء الجيد بجسم الانسان ؟ لأجبناه بأن الفرد الذي يتبع النظام الوقائي والغذائي الذي دعا اليه القرآن سيكون فرداً سليماً من الناحية الصحية ، حيث ان المفترض ـ طبياً ـ ان يتمتع الفرد السليم بالصفات التالية :

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 125_
  1 ـ ان ظهوره العام ظهور صحي مصحوب بحيوية فائقة ، وان تعبيرات الوجه ، ووضوح العينين ، وسرعة حركتهما ، وقوة ملاحظتهما ، تعكس الحالة الصحية الطبيعية لذلك الفرد.
  2 ـ تركيبة العظام تركيبة جيدة ، فيلاحظ ان السواعد والسيقان مستقيمة ، وان الرأس والصدر والاسنان ذات بناء قوي في المادة واعتدال في الاتجاه.
  3 ـ ان عضلات الجسم قوية ونامية بشكل صحيح ، ويظهر ذلك في القيام والجلوس والمشي ، والحركة الرياضية.
  4 ـ ان الانسجة الشحمية تحت الجلد تغطي العظام والعضلات بشكل كافٍ بحيث يكون مظهر جسم الانسان مظهراً طبيعياً.
  5 ـ ان وظائف الجسم تعمل بكفاءة ، فيؤدي الجهاز الهضمي وظيفته في الهضم وامتصاص المواد الغذائية واخراج الفضلات ، وكذلك الجهاز التنفسي ، وان الفرد ينام باطمئنان ويستيقظ بنشاط.
  وانسان بهذه الصفات يعتبر من الناحية الطبية كائناً طبيعياً وصحياً ، فالفرد لايحتاج الى كمية كبيرة من الطعام حتى يكون قادراً على تأدية دوره الحياتي ، بل انه ـ اذا وضع الشهوة الجامحة بأكل اللذيذ من الطعام جانباً ـ يحتاج الى الاساسيات فقط حتى يستطيع القيام بدوره الفعال في الحياة الاجتماعية ، فهو يحتاج الى كمية كافية من البروتينات لاصلاح أنسجة الجسم ، وكمية كافية من المعادن والاملاح لتنمية العظام والاسنان ، وكمية كافية من الكاربوهيدرات للطاقة ، وكمية كافية من الفيتامينات لاعطاء