ويتدخل الطبيب في شؤون المريض الخاصة ، فله الحق في سؤال المريض حول أدق شؤونه الحياتية ، وواجب الطبيب هنا ان يحفظ للمريض ثقته به ، فلا يتعدى في السؤال الى ما يضر بمصلحة المريض أو ما يشبع شهوة الطبيب من معلومات ، والمدار في كل ذلك هو الاطار الاخلاقي الاسلامي الذي يدعو الى الاعتدال وحصر الاستفسار بما يتعلق بالحالة المرضية.
  وينبغي على النظام الاجتماعي الاسلامي تقسيم الطب ومؤسسته الى قسمين :
  قسم يتعلق بالنساء وامراضهن ، من ولادة وحمل ، وأمومة وطفولة ، وقسم آخر يتعلق بالرجال وامراضهم، فالقسم النسائي يتحمل مسؤولية الاشراف عليه والعمل فيه النساء من طبيبات وممرضات ومديرات ، وينبغي تخصيص أجنحة أو مستشفيات خاصة بالامراض النسائية ، محددة بدخول النساء الخبيرات في الطب والتمريض ، وفي هذا ، تشجيع للمرأة على تأدية دورها الاجتماعي في التطبيب والعلاج ، وتخفيف عن عبء الرجل في علاج النساء ، خصوصاً في الامراض النسائية.
  واذا أرادت المؤسسة الطبية تقليص الفجوة الواسعة بين الطبيب كخبير وبين المريض كفرد من عامة الناس ، فما عليها الا ان ترفع مستوى الافراد علمياً في القراءة والكتابة وفهم اسباب نشوء الامراض ، وذلك عن طريق نشر الموسوعات الطبية الميسرة بين الناس ، واذاعة المعلومات الطبية المبسطة التي لا تضر بعمل الطبيب أو اختصاصه ، ولابد ان يدرك الطبيب ، ان تبسيطه المعلومات الطبية للمرضى لا يقلل من قيمته العلمية او المهنية ،

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 151 _

  بل ان ذلك يضفي احتراماً وتقديراً لعمله ، فالطبيب المتواضع الذي يحاول بذل جهده في تبسيط المعلومات الطبية لمرضاه يساهم بشكل من الاشكال في تقليل آثار الالم والمعاناة التي يمر بها المريض ، ويساهم ايضاً في رفع المستوى العلمي والثقافي على مستوى افراد الامة الاسلامية جميعاً.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 152 _
اهل الخبرة الطبية
  ودفعاً للمشاكل التي يواجهها المجتمع في تمييز الطبيب القادر على العلاج من بين المشعوذين والمنتحلين للصفات الطبية ، فان المؤسسة الطبية مكلفة بحصر تعليم الطب في الكليات والجامعات الطبية ، التي يحدد مستواها وكمية المعلومات الواجب تدريسها اكثر الخبراء علماً وتجربة في العلوم الطبية .
  ولاشك ان هذه العلوم متغيرة بتغير البحوث التجريبية ، ولذلك فان اي تطور في هذه العلوم يجب ان ينعكس على المواد المنهجية التي تدرس في هذه الكليات ، ولابد من التأكيد على الجانب القرآني والفقهي الطبي في المنهج الدراسي بقسميه الغذائي والوقائي ، ودراسة آثار المحرمات كالخمرة والدم والميتة والخنزير والمسوخ ، وآثار التدخين والمخدرات وتلويث البيئة ، وآثار كثرة تناول اللحوم الحمراء وشحومها ، واحكام الصيد والتذكية الشرعية ، واستحباب السواك والتخليل .
  وهذه الموارد كلها تساهم بشكل فعال في تحليل اسباب نشوء امراض الحضارة الحديثة ، ولاشك ان فكرة الوقاية ـ التي تجنب المجتمع الاسلامي العديد من الامراض التي ابتلي بها صانعو تلك الحضارة ومناصروها ـ يجب ان تحتل موقعاً متميزاً في المواد التدريسية، ولابد في تقييم العمل الطبي ـ قضائياً ـ من اشتراك الحاكم الشرعي ،

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 153_
  والبينة ، والقرائن الموضوعية ، فأذا اخطأ الطبيب في علاج المريض ، وثبت الخطأ شرعاً ، ألزمه القاضي الشرعي العادل بالضمان ، ولابد في نفس الوقت من تصميم نظام خاص ـ ضمن النظام القضائي ـ يحفظ فيه حق المريض اذا اصابه الخطأ ، ويحفظ سمعة المهنة الطبية ، ويقيم العدل بين افراد النظام الاجتماعي في هذا الحقل بالخصوص.
  وقد تتولى الدولة تحديد اجور الطبيب ، حتى لايتجاوز الحد الشرعي فيكون مدعاة انشاء طبقة رأسمالية جديدة في مجتمع يرفض الظلم الاجتماعي ، ومع ان تحديد الاجر يتم على ضوء نوعية العمل المنجز ، الا ان رفع اجور العمل الطبي بشكل يؤدي الى تكديس المال في طرف وحرمان طرف آخر منه لايمثل اي شكل من اشكال العدالة الاجتماعية ، وامام هذه المشكلة يقف الاسلام موقف الحكم .
  فالهدف من المهنة الطبية ـ كما يؤكد الاسلام ـ ليس جمع المال وكسب القوة السياسية والاجتماعية ، بل الخدمة الانسانية ، وعليه فان اجر الطبيب ينبغي ان يتناسب مع نوعية ذلك العمل وكمية تلك الجهود المبذولة ولكن بشكل لا يسبب حرماناً للفقراء والمعدمين ، وعلى ضوء ذلك تحدد الدولة اجور الطبيب في المعاينة والعمليات الجراحية ، وتحدد اجور بقية العاملين في الحقل الطبي.
  ولاريب ان رأي اهل الخبرة الطبية حاسم في فصل القضايا القانونية امثال تشخيص الاضطراب العقلي بنوعية الادواري والمطبق ، وتقرير عجز الفرد عن القيام بالعمل الانتاجي ، وتحديد مقدار الجروح او الكسور في الديات ، بل لايستطيع احد انكار اهمية دور الطب الجنائي في الكشف عن

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 154 _
  اسباب الجريمة ومنشأها ، ومع ان هذه العوامل تشكل مادة الحسم في الحكم الصادر ضد المتخاصمين في الامور القضائية ، الا ان وظيفة الطبيب تبقى مقيدة بحدود تقديم الخبرة الطبية ، ويبقى للقاضي اصدار الحكم الشرعي على طرفي النزاع بالاستناد على المصادر الشرعية والقضائية.
  ولما كان الطب يتعامل مع الانسان تعاملاً مباشراً ، فان الخطأ الذي يقع سيسبب للمريض اضراراً بالغة ، ولذلك ، فان الطبيب لابد وان يتحمل جزءاً من المسؤولية في ضمان ما يتلفه بالعلاج ، فقد اتفق فقهاء الامامية ـ باستثناء ابن ادريس ـ ان الطبيب يضمن لو مات المريض بسبب العلاج .
  وينطبق نظام الديات في تلف النفس والاطراف على ذلك ، ولما كان الضامن في الخطأ المحض عاقلة الجاني ، فان الضامن في الفعل الشبيه بالعمد ، الفاعل ـ وهو الطبيب نفسه ـ ( لحصول التلف المستند الى فعله ، ولايبطل دم امرئ مسلم ، ولانه قاصد الى الفعل مخطئ في القصد ، فكان فعله شبيه عمد ، وان احتاط واجتهد واذن المريض ) (1).
--------------------
(1) شرح اللمعة ج 1 ص 108.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 155 _
فلسفة ( الطب ) في النظريات الغربية ونقدها
  ولاشك ان للنظام الاجتماعي الانساني مصلحة حقيقية في انشاء نظام صحي متكامل لعلاج الامراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الاوبئة والامراض المعدية ، حتى يتم استثمار طاقات العمال الاصحاء بطريقة يكون مردودها الانتاجي متناسباً مع حجم قابليات ذلك النظام ، وعلى هذا الاساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً ، تحديد : ( من هو المريض ؟ ) ، ومن مصلحة النظام الاجتماعي ايضاً معرفة من يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يهرب فيه من اداء الواجبات الاجتماعية المناطة به.
  وهذه الفكرة دعت ( تالكوت بارسنز ) ، وهو احد رواد النظرية التوفيقية ، الى القول بان المرض ليس ظاهرة بيولوجية فحسب ، بل انه ظاهرة اجتماعية ايضاً (1) .
  فالمجتمع الانساني لايتطور تطوراً طبيعياً مالم يقم الافراد جميعاً باداء ادوارهم الاجتماعية في كل الاوقات ، فاذا تعرض احدهم لمرض من الامراض اصبح دوره الاجتماعي شاغراً لانه لايستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعياً ، والنتيجة ، اما ان يحال ذلك الدور الى فرد سليم من الناحية الصحية ، واما ان يبقى شاغراً دون شاغل يشغله ، وهذا التبدل في الادوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد ارباكاً ضد الحركة
--------------------
(1) ( تالكوت بارسنز ) ، بحوث في النظرية الاجتماعية ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1954 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 156_
  الطبيعية للنظام الاجتماعي ، وبما ان المرض عامل اجتماعي سلبي على الانسان ، فان نزوله بعضو من اعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض ، ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب ان تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي ، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.
  ولكن هذه النظرية لاتخلو من مفارقات واخطاء ، فهي تصب جل اهتمامها على الامراض غير المزمنة كالانفلونزا وامراض الجهاز الهضمي والبولي ؛ وهذه امراض يتم علاجها في فترة قصيرة نسبياً ، ولكنها تهمل امراضاً مزمنة يصعب علاجها بفترة قصيرة كأمراض تضخم الانسجة ( السرطان ) ، وامراض نقص المناعة الحاد ، والامراض المؤدية الى فشل القلب في تأدية نشاطه الطبيعي ، حيث لايستطيع المريض في هذه الحالات المزمنة ايجاد شفاء عاجل لمرضه ، وازدياد عدد الامراض المزمنة يؤدي الى استهلاك موارد النظام الاجتماعي ، بشكل لا يرتضيه النظام الرأسمالي لنفسه ، لان الفكرة الرأسمالية تستند بالاصل على الربح والخسارة ، وأية خسارة تتجاوز الخطوط المرسومة لايحتملها النظام الاجتماعي.
  أضف الى ذلك ان نظرية ( تالكوت بارسنز ) تركز على الطب العلاجي وتهمل فرضية الوقاية التي اشار الى بعض مواردها القرآن المجيد ، كما تناولنا ذلك في النظام الوقائي في الاسلام ، ونضيف ثالثاً ، بان المجتمع الرأسمالي لو امتثل للمقولة المأثورة ( الوقاية خيرٌ من العلاج ) لانقذ حياة

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 157 _
  الملايين من الافراد الذين يموتون بسبب مخالفتهم هذه القاعدة الصحية ، ففي العقد الاخير من القرن العشرين يموت في الولايات المتحدة بسبب عادة سيئة واحدة يمكن الوقاية منها ـ وهي التدخين وما يترتب عليها من امراض ، كسرطان الرئة والفم والبلعوم ـ اكثر من 350 الف فرد سنوياً (1) .
  ويكلف هؤلاء النظام الصحي الامريكي ، من ادوية وعناية طبية قبل موتهم مبلغاً يقدر باكثر من عشرين بليون دولار (2) .
  ولكن لو طبق نظام الوقاية لوفر على ذلك المجتمع هذا المبلغ الكبير من المال ، وأرجع قسماً من هؤلاء الى اعمالهم وانتاجهم.
  اما نظرية الصراع الاجتماعي ، فانها اعتبرت المعافاة الصحية مصدراً من مصادر القوة الاجتماعية التي اهتم بها الرأسماليون (3) .
  ولما كان المجتمع الرأسمالي مبنياً على المنافسة الاقتصادية ، فان المنافسة للسيطرة على النظام الصحي تحمل معها كل معاني المنافسة الاقتصادية ، لان النظام الصحي يدر على الطبقة الرأسمالية مقداراً هائلاً من الثروة ، ناهيك عن اندماج قادة النظام الصحي في العملية الرأسمالية ، وخصوصاً عمليات الاستثمار وما يصحبها من قدرة على تحويل القوة الاقتصادية الى قوة سياسية ، واذا كان توزيع الثروة في المجتمع الرأسمالي محصوراً في الطبقة الرأسمالية القوية ، فان النظام الصحي ـ بكل ما يجلبه من خيرات سيكون حتماً ـ في قبضة اليد
--------------------
(1) ( وليام كوكرهام ) ، علم الاجتماع الطبي ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1986 م.
(2) ( ديفيد ميكانيك ) ، قراءات في علم الاجتماع الطبي ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1980 م.
(3) ( هاورد ويتكن ) ، المرض الثاني : تناقضات العناية الصحية الرأسمالية ، شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، 1986 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 158 _
  الرأسمالية ؛ لان هذا النظام الصحي يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي، ولكن النظرية تتجاهل دور المؤسسة الصحية في التعامل مع الامراض على مستوى جميع الطبقات الاجتماعية ، فتلك المؤسسة هي التي تقوم بتلقيح جميع الافراد باللقاحات الطبية قبل انتشار الاوبئة ، وهي التي تقوم بتنظيم قوانين الصحة العامة كتعقيم الحليب ضد الجراثيم ، وتنقية مياه الشرب ، وفحص الطعام المطبوخ في المطاعم العامة ، والسيطرة على الحشرات الناقلة للامراض كالبعوض والذباب والقمل ، وهذه الانشطة الصحية لاتختص بطبقة دون اخرى بل تشمل كل الطبقات الاجتماعية الفقيرة والغنية.
  وفي ختام هذا الفصل لابد ان نؤكد على فشل النظريات الغربية في التعامل مع المرض والنظام الحياتي والاجتماعي للفرد ، ولايبقى لنا لمعالجة هذا الامر الا النظرية القرآنية التي تتعامل مع جسم الانسان عن طريقي الوقاية والغذاء ، فنقول :
  ان التقدم العلمي المعاصر في الطب ، لم يقلل عدد الامراض التي يعاني منها المجتمع الغربي الرأسمالي ؛ حتى ان ( النظرية الجرثومية ) التي أبهرت العالم في القرن التاسع عشر لم يعد لها رصيد امام امراض الحضارة الرأسمالية الحديثة مثل السرطان ، وامراض القلب ، وانتفاخ الرئة ، والشلل ، وامراض نقص المناعة المكتسبة ، بل أصبح النظام الصحي الرأسمالي بكل تقدمه العلمي الجبار عاجزاً عن علاج هذه الامراض الحديثة لان هذه

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 159_
  الامراض الخطيرة التي يعاني منها الفرد الغربي تقاوم وتتحدى الطب الحديث بكل قواه ومؤسساته وإمكانياته الكبيرة ، وعلاج امراض السرطان والقلب والقرحة تكلف مالاً اوفر ، وتتطلب وقتاً اطول ، ومن المؤكد ان امراض الحضارة الحديثة تبقى ما بقيت الحضارة الرأسمالية تستثمر الارض بشكل جنوني لاعتصار اقصى قدر ممكن من الخيرات ، فمصانع الحديد والصلب والكيميائيات ومصانع الذرة تلوث البيئة الانسانية ، مسببة امراضاً بشرية لم يعرف لها الانسان القديم اسماً ولاشكلاً ، بل ان هذه الحضارة جلبت للانسانية امراضاً واوجاعاً لم تأت بها اية حضارة انسانية اخرى على مر التاريخ.
  ان امراض القلب ـ مثلاً ـ تعتبر من امراض الحضارة الحديثة ، وسببها .
  اولاً : كثرة تناول اللحوم الحمراء وهي لحوم الغنم والبقر والخنزير الحاوية على نسبة عالية من الشحوم الحيوانية .
  وثانياً : ان شره الافراد في المجتمع الرأسمالي لتناول هذه اللحوم لا يحدها حد طبي او قانوني ، لان اختيار الطعام مسألة متعلقة بالحرية الشخصية ، التي هي اساس المبدأ الرأسمالي ، فلا يحق لأية جهة طبيةٍ التدخل قانونياً لتنظيم حرية الافراد الشخصية .
  ولذلك فان امراض القلب التي تؤدي الى الوفاة ، تعتبر من اكثر الامراض انتشاراً في الولايات المتحدة في القرن العشرين (1) ، ولكن آية قرآنية واحدة تستطيع ان تقضي على هذه المشكلة الصحية الخطيرة بكل بساطة ، هذه الآية تدعو الى الاعتدال في الاكل والشرب وبضمنها
--------------------
(1) ( ري ايلنك ) ، دراسة قومية حول الانظمة الصحية ، نيوجرسي : الكتب التجارية ، 1980 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 160 _
  الاعتدال في أكل اللحوم ، فتقول : ( وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (1) .
  وكل من يشذ عن هذه القاعدة يدخل في متاهات الادمان والاضطراب الصحي التي تؤدي الى الموت.
  والخلاصة ، ان المؤسسة الطبية الراسمالية تساعد على تخفيف آلام العديد من الامراض ، ولكنها لاتستطيع محو نتائجها المتوقعة التي تؤدي في النهاية الى الوفاة ، ولانشك ان الطبقة الرأسمالية المتحكمة تعلم ان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء أسلم وأرخص الطرق لتكامل المجتمع الانساني صحياً : الا انها لاتريد تغيير نظامها الصحي ، لان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء لاتدر عليها ارباحاً هائلة كما يدرها النظام الصحي القائم اليوم ، اضف الى ذلك ان انصار الفكرة الرأسمالية متمسكون بالمبدأ الرأسمالي الذي يترك للفرد حرية تقرير المصير ـ فيما يتعلق باشباع الشهوات الفردية ـ حتى لو كانت اضرار ممارسة تلك الشهوات ـ طبياً ـ واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
--------------------
(1) الاعراف : 31.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 161 _
الفصل الخامس

النظام العائلي في النظرية القرآنية

  العائلة في النظرية القرآنية * خصائص النظام العائلي في النظرية القرآنية * فلسفة ( العائلة ) في النظريات الغربية ونقدها *

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 162 _
العائلة في النظرية القرآنية
  لاشك ان النظرية القرآنية تولي الاسرة عناية فائقة لادراكها اهمية الدور الذي ينبغي ان تلعبه تلك المؤسسة على الساحة الاجتماعية ، بخصوص ضبط السلوك الجنسي كما في قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) ، و ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) (2) ، وتعويض الخسارة البشرية للمجتمع الناتجة بسبب الموت : ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ) (3) ، ( وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ) (4) ، وحماية الافراد وتربيتهم واشباع حاجاتهم العاطفية : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (5) ، ( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ... ) (6) ، ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (7) ، ( ولاتقتلوا
--------------------
(1) الروم : 20 ـ 21.
(2) البقرة : 187.
(3) الشورى : 49.
(4) النحل : 72.
(5) لقمان : 14.
(6) النساء : 36.
(7) النساء : 19.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 163_
  أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (1) ، وتنميتهم للاختلاط والتفاعل الاجتماعي لاحقاً : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) (2) ، وينضوي البناء التحتي للنظرية القرآنية على تحديد دوري الرجل والمرأة في المؤسسة العائلية ؛ او بتعبير ادق :
  تفصيل التكليف الشرعي فيما يخص واجبات الزوج وحقوق الزوجة اولاً ، وحقوق بقية الافراد في المؤسسة العائلية ثانياً.
  ولاشك ان النظرية الاسلامية تؤمن بان الانسان ليس حيواناً اجتماعياً كما تزعم النظرية التوفيقية (3) ، بل تعتبره كائناً كريماً ، رفعه الخالق سبحانه وتعالى بالعلم والعقل والادراك والتفكير ، ومنحه قابلية الاستخلاف في الارض .
  بمعنى ان الانسان المفكر كلما ارتقى عن الحيوان بدرجة التفكير والادراك ، اختلفت ـ عندئذٍ ـ العلاقات والوظائف الاجتماعية بينه وبين الافراد كماً ونوعاً عن العلاقات الجمعية التي تجمع القطيع الواحد من الحيوانات ضمن مزرعة واحدة ، فالحيوانات ضمن ذلك القطيع لاتعرف ضابطاً يضبط سلوكها الجنسي ، ولانظاماً يحدد من شهوتها الهائجة ، على عكس النظام الاجتماعي الانساني الذي ينظم العلاقة الجنسية
--------------------
(1) الانعام : 151.
(2) لقمان : 17 ـ 19.
(3) ( روبرت ميرتون ) ، النظرية الاجتماعية والتركيب الاجتماعي ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1968 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 164 _
  بين الذكر والانثى عن طريق المؤسسة العائلية ، التي تعتبر من اهم المؤسسات الاجتماعية خدمة للانسان.
  وبطبيعة الحال ، فان الاسلام لم ينظر للمؤسسة العائلية باعتبارها مؤسسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الافراد فحسب ، بل نظر لها باعتبارها محطة استقرار لعالم متحرك ، تنتقل من خلاله ممتلكات الجيل السابق للجيل اللاحق عن طريق الارث والوصية الشرعية ؛ ومحطة لفحص وتثبيت انساب الافراد عن طريق اعلان المحرمات النسبية والسببية الناتجة عن الزواج ، وجواز الاقرار بالنسب ؛ ومركز حماية الافراد بتقديم شتى الخدمات الانسانية لهم بخصوص الملجأ والمطعم والدفء والحنان .
  واذا كانت العائلة محطة لشحن الطاقات العملية ، وقاعدة لتنشيط الانتاج الاجتماعي ، فانها تعتبر ـ في الوقت نفسه ـ مركزاً لاشباع الحاجات العاطفية كالحب والحنان والعطف والرحمة ، ومكاناً لتهذيب السلوك الجنسي ، ومسرحاً لتعليم المعارف الاساسية قبل الخروج للساحة الاجتماعية كاللغة والاعراف والعادات والتقاليد والقيم الاخلاقية .
  فالعائلة ـ اذن ـ تساهم في خلق الفرد الاجتماعي الصالح للعلم والانتاج والمساهمة في بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع، وصيانةً لكرامة المرأة ، فقد ألحق الاسلام المولود بالزوج بسبب الفراش اولاً ، ووطء الشبهة ثانياً ، وهو الوطء مع جهل التحريم ، واصل الالحاق ينبع من قاعدة فقهية تسمى بـ ( امكان الالحاق ) التي تسالم عليها الفقهاء ، ومن منطلق صيانة حقوق المرأة والمجتمع حرم الاسلام

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 165 _
  ـ بالنسب ـ زواج الام ، والبنت ، والاخت ، والعمة ، والخالة ، وبنت الاخ ، وبنت الاخت ، وحرم ـ بالسبب ـ زواج زوجة الاب على الابن ، وزوجة الابن على الاب ، وأم الزوجة على زوج ابنتها ، وبنت الزوجة ، والمطلقة ثلاثاً ، والمطلقة طلاق العدة ، ونكاح الشغار ، والزواج مع الارتداد والكفر ، والجمع بين الاختين ، وتحريم الزوجة اذا قذفها زوجها بالزنا دون اثبات البينة ، وفساد عقد زواج الرجل مع المرأة المتزوجة ، والمعتدة من وفاة او طلاق بائن او رجعي او شبهة .
  وفي كل هذه الاحكام الشرعية ، يكون الاصل حفظ حقوق وكرامة المرأة ككيان مستقل جدير بالاحترام ، لان عملية الزواج ليست عملية غريزية فحسب ، بل هي مسلك يؤدي بالمرأة الى طريق الامومة المتميز عرفاً وشرعاً ، ولاسلطان للولي على المرأة البالغة ـ حسب النظرية الاسلامية ـ حيث ان لها الخيار في اختيار الزوج المناسب ، وفي الطلاق ، فقد حفظت الشريعة كل حقوقها المالية والمدنية.
  وعلى ضوء ذلك ، فان اتهام نظرية الصراع الاجتماعية المؤسسة العائلية بانها اول مؤسسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته (1) ، كان مجرد تشخيص لمشكلة اجتماعية اقليمية كانت تعيشها اوروبا في القرون الماضية وتعاني من آثارها السلبية ، ولايمكن تطبيقها على جميع المجتمعات الانسانية ، فهل يستطيع ( فريدريك انجلز ) ان يحلل معنى الاضطهاد الاسري اذا كان للمرأة حق خيار الفسخ في العيوب الموجبة ، وحق الطلاق الخلعي ،
--------------------
(1) ( فريدريك انجلز ) ، اصل العائلة ، الملكية الخاصة ، والدولة ، نيويورك : الناشرون الدوليون ، 1942 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 166 _
  وحق الاشتراط في صيغة العقد ضمن الحدود الشرعية ؟ بل كيف يؤدي الاضطهاد الاسري الى الاضطهاد الاجتماعي ، كما يزعم ( انجلز ) ، وكلنا يعلم ان الاسر الرأسمالية الغنية اكثر نعومة في تعاملها مع النساء من الاسر الفقيرة ؟
  ويعكس قول فقهاء الامامية بعدم اعتبار الحاجز الطبقي او العنصري في تحقق عملية الزواج ، عدالة الاسلام الاجتماعية ، ( حيث يجوز عندنا انكاح الحرة بالعبد ، والعربية بالعجمي ، والهاشمية بغير الهاشمي وبالعكس ، وكذا ارباب الصنائع الدنية كالكناس والحجام وغيرهما [ ان يتزوجوا ] بذوات الدين من العلم والصلاح والبيوتات وغيرهم ) (1) .
  وقال اكثر الفقهاء بان شرط قدرة الزوج على النفقة ليست من شروط الكفاية لقوله تعالى : ( إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) (2).
  ولاشك ان نظرة الاسلام الرحيمة تجاه العلاقة الشهوية بين الذكر والانثى وربطها بإصلاح المشاكل الاجتماعية ، تضع الاسلام على قمة المؤسسات العلاجية الهادفة لمعالجة الامراض التي تنشئها الدوافع الغريزية البشرية ، فلكي يكون النظام الاجتماعي قادراً على علاج امراضه الاجتماعية ، لابد وان يطرح اشكالاً مختلفة من الزواج بحيث تلائم مشاكل الافراد المتنوعة .
  وعلى ضوء ذلك ، فقد اجاز الاسلام النكاح الدائم ، والمؤقت ، وتعدد الزوجات ، وملك اليمين ، واعتبر ما وراء ذلك تعدياً على
--------------------
(1) الجواهر ج 30 ص 106.
(2) النور : 32.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 167 _
  الحدود الشرعية وظلماً اوجب على الافراد دفعه ـ على الصعيد الكفائي ـ ، ولاريب ان اباحة هذا السلوك المتعدد كان الهدف منه معالجة المشاكل الاجتماعية التي تتركها الوحدة والحرمان .
  واذا كانت النظرية الاجتماعية الغربية تدعو بكل قوة الى الايمان بـ ( المذهب الفردي ) باعتباره طريقاً للعدالة الاجتماعية (1) ، فلا يحق للفرد ان يتزوج باكثر من زوجة واحدة ... فاذا كان الامر كذلك ، فنحن نرد على النظرية الغربية بالسؤال النظري التالي : ايهما افضل للنظام الاجتماعي : الزواج المتعدد او تعدد الزوجات ؟ فاذا كان الزواج المتعدد افضل ، فلماذا كل هذه العقد النفسية التي تحملها المرأة المطلقة اكثر من مرة ؟ ومن الذي يصبح مسؤولاً عن رعاية الاطفال المتكونين من اكثر من أب ، ومن يحفظ حقوقهم الاجتماعية ؟ بل اين الاستقرار النفسي الذي تعيشه العائلة اذا انكسرت الآصرة الجغرافية فابتعد الابناء عن آبائهم ، والبنات عن امهاتهن ، والاخوة عن اخوتهم ، والاخوات عن اخواتهن ، أليس هذا تمزيقاً لأواصر الاسرة الواحدة ؟
  وفكرة تعدد الزوجات التي أقرها الاسلام فكرة استثنائية ، وليست أصلاً في التزويج الانساني ، فاغلب الافراد يكتفون بزوجة واحدة تشارك بشؤون البيت ، فتنهض الاسرة على اكتافها ، اما في الازمات الانسانية ، وتغلب عدد النساء على الرجال ، فان تعدد الزوجات يصبح نظاماً يصب لمصلحة المرأة المحرومة اكثر منه لمصلحة الرجل ، خصوصاً اذا ما علمنا ان
--------------------
(1) ( سورن كيركيكارد ) ، ( المذهب الفردي والحقيقة الموضوعية ) ، فصل فلسفي في كتاب ( الاسئلة الثابتة في الفلسفة ) ، تحرير : ميلفن رادر ، نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، 1980.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 168 _
  تعدد الزوجات يستوجب العدالة الحقوقية والاجتماعية بينهم من قبل الزوج، وتعتبر النظرية القرآنية ولاء الافراد تجاه بعضهم البعض في العائلة الواحدة اهم عامل من عوامل تماسك المؤسسة الاسرية ، ولاشك ان احد مناشئ الولاء الشرعي ، هو التكافل المالي الذي أمر به الاسلام ، فقد اوجبت الشريعة النفقة للاصول والفروع وهم الوالدان والاولاد ، واوجبت نفقة الزوجة مع ثبوت الطاعة والتمكين ، حتى ان للمطلقة الحامل ـ طلاقاً رجعياً او بائناً ـ النفقة حتى تضع حملها . ولاشك ان للمرأة حقها المالي في الصداق ايضاً.
  والاصل في ذلك ، ان يكون للاسرة وليٌ يدير شؤونها المالية والعاطفية ، او وصيٌ يدير شؤونها المالية ويرعى مصلحة افرادها ، فقد تسالم الفقهاء على قاعدة ( امكان الالحاق ) ـ المذكور سابقاً ـ والتي تشير الى ان المولود لابد ان يلحق بالزوج ، حتى تنشأ فكرة ( الولاء ) من اليوم الاول الذي يرى فيه الطفل نور الحياة الانسانية .
  وما الرضاع والحضانة التي حدد الاسلام انظمتها ، الا شكل من اشكال القاعدة الاساسية للولاء الاجتماعي لاحقاً ، وبالاجمال فان الاسلام ربى الافراد ـ في الاسرة الواحدة ومن خلال التشريع ـ على حب بعضهم البعض ، والتفاني في مساعدة احدهم الآخر مساعدةً تجعلهم كتلة واحدة امام الهزات الاجتماعية والاقتصادية ، ولعل افضل تعبير يتفق عليه الفقهاء ويعكس حقيقة الولاء والحب والاخلاص في الاسرة هو ان الوصي المأذون على رعاية الاحداث

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 169_
  اذا خان ، انعزل تلقائياً وبطلت جميع تصرفاته حتى دون اذن الحاكم الشرعي ، فلا عجب ـ اذن ـ ان نرى تماسك الاسرة الاسلامية حول محور المسؤولية الشرعية والالزام الاخلاقي والعدالة الاجتماعية ، على خلاف الفكرة الغربية الداعية لمذهب الفرد باعتباره اساس النجاح الاقتصادي والاجتماعي (1) ، وهو زعم كاذب ، لان تحقيق الطموحات الفردية دون الطموحات الاجتماعية يساهم في انعدام العدالة الاجتماعية ، وفي نشوء الطبقات الاقتصادي المتفاوتة ، وفي انحدار المستوى الاخلاقي ، وفي نشوء جيل من المشردين والمنحرفين الذين لايكترثون لمعنى الاجتماع الانساني ومعنى الحياة البشرية.
  وبالاجمال ، فان النظرية الاجتماعية القرآنية تؤمن بأهمية الفرد في المؤسسة العائلية باعتباره انساناً شرفه الخالق عز وجل فرفعه من المستوى الدنيوي الى المستوى الذي يليق به ، ومن مستوى الحيوان الغريزي الى مستوى الانسان المفكر العاقل ، ومنحه الحقوق وفرض عليه الواجبات ، واوصاه بالتآلف والتآخي والتعاشر ضمن الدائرة الانسانية المتمثلة بالاسرة ، والدائرة الجغرافية المتمثلة بالبيت ، ولولا جدية الاحكام الشرعية المتعلقة بحقوق الافراد في الاسرة الواحدة لانفرط عقد النظام الاجتماعي ، وانحلت الآصرة الانسانية التي ربطت الافراد ببعضهم البعض على مر العصور.
--------------------
(1) ( مي برودبك ) ، ( المذهب الفردي الطريقي : تعريف واختزال ) ، مقالة فلسفية في مجلة ( علم الفلسفة ) الامريكية ، مجلد 25 ، عدد 1 ، 1958 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 170 _
خصائص النظام العائلي في النظرية القرآنية
  ومن اجل فهم الابعاد الحقيقية للمؤسسة العائلية في المجتمع الاسلامي ودور القرآن الكريم في إحكام بنائها العلوي ، لابد لنا من دراستها تحت اطار النقاط التالية :
  اولاً : اقرار الضمان المالي للعائلة في المجتمع الاسلامي ، فتنصب مسؤولية الزوج على اعالة زوجته ووالديه وابنائه ؛ حيث قرر الشرع وجوب نفقة الزوجة الدائمة على زوجها ، حتى لو كانت الزوجة ثرية ، كما في قوله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (1) ، ( وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ) (2) .
  وجعل المسؤولية مشتركة بينهما ، فعلية النفقة وعليها الطاعة والتمكين ، ولاشك ان تحديد النفقة الشرعية مرهون بالعرف الاجتماعي ، الا ان الاصل فيها هو اشباع حاجاتها الاساسية من المأكل والملبس والمسكن والعلاج ونفقة الحمل والوضع والرضاعة والحضانة ، ولكن مع مراعاة الدخل المادي للزوج ، كما ورد في النص القرآني الشريف : ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) (3) ، و(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ ) (4) ، وقوله
--------------------
(1) النساء : 34.
(2) البقرة : 233.
(3) الطلاق : 7.
(4) الطلاق : 6.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 171_
  في الاشارة الى حقها في السكن مع زوجها باستقلال : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (1) ، ( وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) (2) ، وبطبيعة الحال ، فان وجوب الانفاق لايقتصر على الزوجة فحسب ، بل يجب على الاباء نفقة ابنائهم وان نزلوا ذكوراً واناثاً ، وعلى الابناء نفقة آبائهم وان علوا ذكوراً واناثاً ، وهو ما عبر عنه فقيهاً بنفقة الاصول والفروع ، حتى لو كان الاصل فاسقاً او كافراً بلا خلاف.
  ثانياً : الضمان المالي للزوجة المتمثل بالصداق ، وهو الحق المالي الاولي الذي تتملكه بالعقد والدخول ، كما في قوله تعالى : ( وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ... ) (3) .
  وقد شرعه الاسلام لمصلحتها ، واعتبره حقاً من حقوقها المالية ـ ان كان مهراً مسمى ، او مهر مثل ، او مهر تفويض ـ وفي جميع الحالات ، يجب ان يكون المهر نقداً او عقاراً او منفعةً لها قيمةٌ معتبرة في العرف الاجتماعي والاقتصادي ، فاذا طلقها قبل الدخول كان لها نصف المهر ، ولها المهر كاملاً بعد الدخول .
  ولاشك ان الصداق يعتبر ـ حسب النظرية الاسلامية ـ ضماناً مالياً كاملا للمرأة خصوصاً بعد الطلاق ، حيث تنقطع نفقة الزوج عليها ، فلابد لها ـ حينئذٍ ـ من الاستقلال مالياً دون الحاجة الى مد يدها طلباً لسد حاجاتها الاساسية ، وهو تشريع تفتقده النظرية الغربية تماماً (4).
  فاذا تم الطلاق ـ حسب النظرية الغربية ـ فان المطلقين يتقاسمان الثروة التي جهدا في تحصيلها خلال سنوات الزواج ، ولكن اذا بددت الثروة
--------------------
(1) النساء : 19.
(2) الطلاق : 6.
(3) النساء : 4.
(4) ( روبرت وايز ) ، الانفصال الزوجي ، نيويورك : الكتب الاساسية ، 1975 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 172 _
  المالية خلال ايام الزواج لسبب من الاسباب ، او كان الزوج عاجزاً عن توفيرها ، اصبحت المطلقة ريشة في مهب الرياح الاجتماعية ، لاتملك لنفسها مالاً تشبع فيه حاجاتها الاساسية (1) .
  ولما كانت النظرية الغربية لا ترى في المهر حقاً من حقوق الزوجة الاساسية ولاشرطاً لها في صحة الزواج ، انحدرت اغلب المطلقات واولادهن الى مستوى الطبقة الفقيرة (2) .
  ولذلك ، فاننا نرى ان اغلب فقراء النظام الغربي الرأسمالي هم من المطلقات ، ولارامل ، والاولاد من العوائل المطلقة.
  ثالثاً : ان الشروط الشرعية التي يشترطها الزوج او الزوجة ضمن العقد ـ في النظام الاسلامي ـ ليس لها ما يقابلها في الانظمة الاجتماعية الاخرى (3) .
  فالشروط الصحيحة التي لا تفسخ العقد يترتب عليها الالزام وصحة العقد ، كاشتراط الصفات الجسدية او الخلقية في احدهما ، فيثبت خيار الفسخ مع تخلف تلك الصفات لعموم ( المؤمنون عند شروطهم ).
  اما الشروط غير الشرعية فهي اما ان تبطل العقد كالاقالة ، او تبطل الشرط ويبقى العقد صحيحاً كاشتراط عدم المس مطلقاً ، وبالجملة ، فان الشروط الشرعية ضمن عقد الزواج ، توفر للزوج او الزوجة ضمانأً اخلاقياً او جسدياً يساهم في ادامة البيت الزوجي ، وتحقيق سعادته ضمن اطار النظام الاجتماعي.

رابعاً : لايصح الزواج ـ حسب الشريعة الاسلامية ـ الا بالخلو من
--------------------
(1) ( سار ليفيتان ) و( ريتشارد بلوز ) ، ماذا يحصل للعائلة الامريكية ؟ بالتيمور : مطبعة جامعة جونز هوبكنز ، 1981 م.
(2) ( هيوكارتر ) و( بول كليك ) ، الزواج والطلاق : دراسة اجتماعية واقتصادية ، كامبردج ، ماساشوسست : مطبعة جامعة هارفرد ، 1976 م.
(3) ( هيلين كلارك ) ، التشريع الاجتماعي ، نيويورك : ابلتون سنجري وكروفتس ، 1975 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 173_
  المحرمات النسبية والسببية للزوج والزوجة .
  والاصل في التحريم قوله تعالى : ( وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ) (1) .
  ومع ان النظريتين الغربية والاسلامية تتطابقان في حرمة التزاوج بسبب المحرمات النسبية كالام والبنت والاخت والعمة والخالة وبنت الاخ وبنت الاخت (2) ، الا انهما يفترقان في المحرمات السببية .
  ففي حين توجب النظرية الاسلامية حرمة التزويج بسبب آثار المصاهرة كحرمة : زوجة الاب على الابن ، وزوجة الابن على الاب ، وام الزوجة على زوج ابنتها ، وبنت الزوجة على الزوج ، وحرمة التزويج بسبب آثار الزنا فليس لابيه ولالابنه العقد على الزانية التي زنى بها ، والحرمة المؤبدة للدخول بالمعتدة والمتزوجة ، وحرمة الجمع بين الاختين والمتولدتين من اب وأم ، او لأحدهما ، وحرمة الرجوع بعد التطليقة الثالثة مالم تنكح زوجاَ غيره ، ونحوها ، ففي كل هذه الحالات تنفرد النظرية الاسلامية عن بقية النظريات الاجتماعية في الاهتمام بنظافة العلاقات الاجتماعية والاسرية المبنية على طهارة النسل وعدم
--------------------
(1) النساء : 22 ـ 24.
(2) ( وليام كيفارت ) ، " الابعاد القانونية والاجرائية للزواج والطلاق " ، مقالة علمية في كتاب ( الزواج والعائلة ) ، تحرير : هارولد كريستنسن ، شيكاغو : راند ميكنالي ، 1964 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 174_
  اختلاط الانساب ، وهذا يفضي بالتأكيد الى صلابة البنية التحتية للمجتمع الاسلامي ، حيث تشكل سلامة الاسرة وصحة مقوماتها ، سلامة النظام الاجتماعي كلياً.
  خامساً : العيوب الموجبة للخيار بين فسخ العقد وامضائه ، وهي العيوب المكتشفة بعد تمام اجراء العقد كالاضطراب العقلي والخصاء والجب والعنن بالنسبة للرجل ، والاضطراب العقلي والبرص والجذام والعمى والعرج والقرن والعفل والافضاء والرتق بالنسبة للمرأة ، فيثبت في هذه الحالات ـ حسب النظرية الاسلامية ـ خيار الفسخ على الفور ، وكذلك الخيار بالتدليس وهو التموية باخفاء نقص او عيب موجود او ادعاء كمال غير متحقق قبل اتمام العقد . وكذلك الخيار لتخلف الشروط ، كأن تكون صفة عدم النقص من شروط العقد ، او كون عدم النقص وصفاً لاشرطاً ، او كون العقد مبنياً على اساس عدم النقص ، ولكن اذا لم يبادر احدهما الى الفسخ لزمه العقد .
  وقد تولد هذه الحالات كراهية من نوع ما ، الا ان القرآن الكريم شجع الافراد على تخطي هذا الحاجز النفسي ، فدعا الى معاشرتهن بالمعروف : ( فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) (1) .
  ولاشك ان هذه التشريعات تعكس عدالة النظام القضائي الاسلامي بين الرجل والمرأة تماماً ، على عكس ما يروجه أعداء النظرية الدينية ويتهمون فيها الاسلام بعدم المساواة بينهما في القضايا الزوجية.
  اما في النظام الغربي ، فان خيار الفسخ مرهون بحكم قضاة المحاكم البلدية ، حيث يرجعون الى العرف واهل الخبرة في تحديد ذلك (2).
--------------------
(1) النساء : 19.
(2) ( ارفينك مانديل ) ، قانون الزواج والطلاق ، نيويورك : اوشينا ، 1957 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 175_
  ولايوجد في القانون الرأسمالي الاوروبي ما يشير الى دقة تفاصيل العيوب الموجبة للخيار بين فسخ العقد وامضائه ، كما هو معمول به في النظرية الاسلامية.
  سادساً : ولاشك ان للعقد المنقطع الذي شرعه الاسلام ، أهمية كبرى في حل المشاكل الاجتماعية في المجتمع الصناعي ، بسبب انتقال الافراد المتمر بحثاً عن الاعمال ، فللعقد المنقطع هدفان ، الأول : الاستعفاف به لمن لم يرزق النكاح الدائم لسبب من الاسباب .
  والثاني : محاربة الرذيلة والفجور في المجتمع الانساني ، ولايختلف الزواج المنقطع عن الدائم الا في ذكر الاجل ، وتحديد المهر ، والعدة ، والتوراث ، والنفقة ، بمعنى آخر ان الزواج المنقطع والدائم يشتركان في خلو الموانع النسبية والسببية ، وصيغة العقد ، ونشر الحرمة ، وحقوق الولد ولحوقه بالاب ، وقيمة المهر ، والعدة بعد الدخول ، والشروط السائغة في العقد .
  وهو يمثل نظرة الاسلام الرحيمة تجاه العلاقات الغريزية بين الرجل والمرأة ، وحلاً للمشاكل الاجتماعية التي يتعرض لها النظام الاجتماعي في الظروف الاستثنائية ، ولما كان الشرع يسلط عيناً فاحصة على هذه العملية ، فان العديد من حالات العقد المنقطع تنتهي الى عقد دائم وسعادة اسرية ، ولكن لابد من تأكيد نقطة مهمة واعادتها مراراً ، وهي ان العقد المنقطع يمثل استثناءً في عملية التزاوج الانساني وليس الاصل ، لان الاصل هو العقد الدائم في النظرية الاسلامية .
  وقد اختلف فقهاء المسلمين في نسخ تشريع العقد المنقطع ، ولكنهم اتفقوا جميعاً على ان الاسلام شرعه في الاصل ، وان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أباحه ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ