وقد أقسم القرآن بالبلاد المقدّسة تعظيماً لشأنها ، وكنّى بالتين والزيتون عن منبتهما وهي الأرض المقدّسة ، أرض الموعد ... والتين فاكهة شهية وغذاء يتقوّت به الإنسان من دون مشقّة وعمل ، فقُدّم على الزيتون إشعاراً بفضله ، فإنّ عناية القرآن إنّما هي بمهمّات البلاغة من جهة المعاني لا بتزويق الألفاظ بالسجع الفارغ ، فانظر إلى شطط ( حسن الإيجاز ) في هذا المقام.
ومنه ما توهّم من ضعف التأليف والتعقيد في قوله تعالى :
( أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً ) (1) بتوهّم أنّ ( قيّماً ) حال من الكتاب ، والواو في ( ولم يجعل ) للعطف ، مع غفلته عن أنّه لا لزوم في هذا التحكّم ، بل تكون الواو حالية و ( قيّما ) حالاً بعد حال ، أو حالاً من ضمير ( له ) ، ومعنى القيم : كونه قائماً باُمور العباد في المعارف والشريعة والإرشاد والإنذار ، كما يقال : قيّم المرأة وقيّم اليتيم وقيّم القوم.
ومنه ما توّهم من تقديم ما يقتضي الحال تأخيره في قوله تعالى : ( الرحمن الرحيم )
(2) قال : ( فإنّ الكلام موجب فيقتضي تقديم أدنى الوصفين للترقّي من الأدنى إلى الاعلى ) والجواب : إنّ صيغة ( فعلان ) وإنْ كانت للمبالغة إلاّ أنّ في صيغة ( فعيل ) ما ليس فيها ، وهو الدلالة على كون الوصف ذاتياً للموصوف كالعليم والقدير.
ومنه ما توهّم من تأخير مايقتضي الحال تقديمه في قوله تعالى
( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) (3) قال : ( والمقتضى : نوم ولا سنة ،
--------------------
(1) الكهف 18 : 1.
(2) الفاتحة 1 : 3.
(3) البقرة 2 : 255.
نفحات الإعجاز
ـ 30 ـ
للتدلّي من الأعلى إلى الأدنى ) .
والجواب : إنّ مقتضى الحال هو تقديم السِنة على النوم دون العكس وإنْ كان الكلام نفياً ، لأنّ الأخذ بمعنى الغلبة ، فالمناسب في الاستقصاء أن تنفي أوّلاً غلبة الضعيف وهي السِنة ، ثم تنفي غلبة القوىّ وهو النوم ، دون العكس ، كما لا يخفى على غير البسطاء ، كما تقول : لا يغلبك عشرة رجال ولا مائة ، فإنّه لو قدّم المائة التي هي المرتبة العليا لزم التكرار والزيادة في ذكر العشرة التي هي المرتبة السفلى.
ومنه ما توّهم اللحن من نصب المرفوع في قوله تعالى : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس ) (1) .
والجواب : إنّ النصب على المدح شائع معروف في اللغة العربية ، وقد صرّح بذلك جملة من أهل الأدب ، وترجيح ( الصابرين ) في الآية على قوله : ( الموفون بعدهم ) من جهة أنّ الوفاء بالعهد ـ مع كونه حسناً ـ يعمّ جميع أصناف الرجال مع اختلافهم من حيث النقص والكمال ، وأمّا الصبر ـ المذكور في الآية ـ فلا يتّصف به إلاّ من كان في أعلى مراتب العقل والإيمان.
ومن ذلك تعرف شطط قوله : ( لأن قوله : ( الموفون بعهدهم ) أوْلى منها لتقدّمها ، ونفع الوفاء بالعهد ليس بأقلّ من نفع الصبر ) .
ومنه تعرف سقوط اعتراضه على نصب ( حمّالة الحطب ) (2) مع أنّ النصب على الذمّ يساوق النصب على المدح عند البلغاء في فوائده.
--------------------
(1) سورة البقرة 2 : 177.
(2) سورة اللهب 111 : 4.
نفحات الإعجاز
ـ 31 ـ
وكذا قوله : ( إذ ( امرأتُه ) أوْلى بذلك النصب من ( حمّالة الحطب ) ) إذ لم يشعر أنّ الذمّ في نفس هذا الوصف والتوصيف لا في كونها امرأته !
ومنه ما توهّم من رفع المنصوب في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ) (1) الآية.
والجواب : إنّ عطف المرفوع على منصوب ( إنّ ) ممّا لا يمكن إنكار جوازه بشواهده المحفوظة في اللغة العربية.
نعم ، مقتضى البلاغة أن يكون تغيير الاُسلوب لنكتة ، والنكتة في الآية هي الإشارة إلى أنّ الصابئين وإن كانوا أشدّ بعداً من التوحيد الحقيقي إلاّ أنّهم مشتركون مع اليهود والنصارى في أنّ من آمن منهم وعمل صالحاً فهو آمن.
على أنّ المعلوم أنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان من العرب الذين يُستشهَد بكلامهم على صحّة التركيب العربي ، وأنّه اعرق بالعربية من الشعراء المولّدين الذين يُستشهَد بكلامهم على ذلك ، فلو لم يكن كلامه وحياً من الله فلابُدّ أن نحكم بصحّته لكونه من العرب الذين يكون تكلّمهم باللغة دليلاً على صحّتها.
ثم لا يخفى على كلّ من يفهم أنّه لا يلزم في الكلام أن يكون كلّه متسلسلاً في أمر واحد بسيط كرواية رومانية ، أفلا تنظر إلى خطب الملك إذ تتضمّن جملاً كلّ منها متكفّل بفائدة كبيرة في مهمات الإصلاح ، كالوعظ والإنذار والتهديد والنظر في شؤون الخارجية والداخلية والعدلية والمعارف والنافعة والعسكرية وغيرها ، والترغيب ببيان مجد المملكة والحكومة ونتائج ترقّيها ، والتنبيه على
--------------------
(1) سورة المائدة 5 : 69.
نفحات الإعجاز
ـ 32 ـ
دسائس الأجانب في تهديدها إلى غير ذلك ممّا يهمّ الملك في الإصلاح حسب ما يقتضيه المقام من التنقّل في المهمات ؟!
فهل يقول ذو عقل : إنّ خطبته قد انقطع بعض مضامينها عن بعض ، فهي معيبة ليس لها شيء من مجد التسلسل الموجود في ألف ليلة وليلة ، أو ( رومان ) زيدان ، أو ( أفسانة ) حسين كرد ؟!
كلاّ ، بل انظر أيضاً إلى خطب الوزراء والاُمراء وأعضاء المجالس المللّية.
والقرآن جاء على أرقى نهج في الهداية والتعرّض لمهمّات الإصلاح العام ، مع جريانه على البراعة بتهذيب اللفظ من الفضول ، فمن فضله أنّ كلّ سورة منه جاءت مشتملة على عدّة مضامين عالية في الإصلاح يفهمها بأمجد إفهام ، لا ككلام فارغ طويل في أمر واحد بسيط زهيد ، أوَليس من الجهل قول ( حسن الإيجاز ) : ( ومن مزيلات البلاغة عدم المناسبة بين الآيات ، فتراها في أكثر السور منقطعاً بعضها عن بعض أجنبياً عنه ) ؟!
ومن المضحكات استشهاده لجهله بسورة العلق ! وحيث أنّه تعرّض لها بخصوصها ، فلنقتصر على بيان البعض من مفادهامع قلّة ألفاظها ، وقد تضمنت عدّة من المضامين العالية بأوجز لفظ وأظهر معنى في الامتنان بالخلق الباهر ، وبيان فضل الله على الإنسان بنعمة المعرفة والعلم الذي هو الحياة الكاملة ، والتنبيه على أنّ نوع الإنسان هلى يلتفت إلى عدمه وجهله وشرفه بعد ذلك بنعمة الوجود والعلم فيتواضع للعرفان والصلاح ويختار الهدى على الضلال ؟ ( كلاّ ) بل يتغاظى بغيّة عن ذلك ويتناساه ( ويطغى أن رآه ) بوهمه ( استغنى ) وهو الفقير في جميع أحواله ، وكفى بذلك موعظة وتوبيخاً يستلفت الحرّ
نفحات الإعجاز
ـ 33 ـ