، فلما بلغه الخبر قال : الحمد لله الذي توفى مني شهيداً آخر .
وروى البيهقي : أن عبد الله بن مطرف مات ، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن ، فغضبوا وقالوا : يموت عبد الله وتخرج في ثياب حسنة مدهناً ؟ ! قال : أفأستكين لها ، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها ثلاث خصال ، هي أحب إلي من الدنيا وما فيها ، قال الله تعالى : ( الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون )
.
ودعا رجل من قريش إخواناً له ، فجمعهم على طعام ، فضربت ابناً له دابة لبعضهم فمات ، فأخفى ذلك عن القوم ، وقال لأهله : لا أعلمن صاحت منكم صائحة ، أو بكت منكم باكية ، وأقبل على إخوانه حتى فرغوا من طعامه ، ثم أخذ في جهاز الصبي ، فلم يفجأهم إلا بسريره ، فارتاعوا وسألوه عن أمره فأخبرهم ، فعجبوا من صبره وكرمه .
وذكر : أن رجلا من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده ، ثم احتبى في نادي قومه يتحدث كأن لم يفقد أحداً ، فقيل له في ذلك ، فقال : ليسوا في الموت ببديع ، ولا أنا في المصيبة بأوحد ، ولا جدوى للجزع ن فعلام تلومونني ؟
وأسند أبو العباس عن مسروق عن الأوزاعي ، قال : حدثنا بعض الحكماء ، قال : خرجت وأنا اُريد الرباط
مصر إذا أنا بمظلة ، وفيها رجل قد ذهبت عيناه ، واسترسلت يداه ورجلاه ، وهو يقول : لك الحمد سيدي ومولاي ، اللهم إني أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك ، كفضلك على سائر خلقك ، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً .
فقلت : والله لأسألنه ، أعلمه أو أُلهمه إلهاماً ؟ فدنوت منه ، وسلمت عليه ، فردّ فرد علي السلام ، فقلت له : رحمك الله ، إني أسألك عن شيء ، أتخبرني به أم لا ؟ فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به ، فقلت : رحمك الله ، على أي فضيلة من فضائله
تشكره ؟ فقال : أوليس ترى ما قد صنع بي ؟ قلت : بلى ، فقال : والله لو أن الله تبارك وتعالى صب علي ناراً تحرقني ، وأمر الجبال فدمرتني ، وأمر البحار فغرقتني ، وأمر الأرض فخسفت بي ، ما ازددت فيه ـ سبحانه ـ إلا حباً ، ولا ازددت له إلا شكراً ، وإن لي إليك حاجة ، أفتقضيها لي ؟ قلت : نعم ، قل ما تشاء ، فقال : بني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي ، ويطعمني عند إفطاري ، وقد فقدته منذ أمس ، فانظر هل تجده لي ؟
قال : فقلت في نفسي : إن في قضاء حاجته لقربة إلى الله عزوجل ، فقمت وخرجت في طلبه ، حتى اذا صرت بين كثبان الرمال ، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام فأكله
(1) ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه ؟
قال : فأتيته ، وسلمت عليه ، فرد علي السلام فقلت : رحمك الله ، إن سألتك عن شيء تخبرني ؟ فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به ، قال ، فقلت : أنت أكرم على الله عزوجل وأقرب منزلة ، أو نبي الله أيوب عليه السلام ؟ فقال : بل ( نبي الله )
(2) أكرم على الله تعالى مني ، وأعظم عند الله تعالى منزلة مني ، قال : فقلت له : إنه ابتلاه الله تعالى فصبر ، حتى استوحش منه من كان يأنس به ، وكان عرضاً لمُرار الطريق
(3) ، واعلم أن ابنك الذي أخبرتني به ، وسألتني أن اطلبه لك افترسه السبع ، فأعظم الله أجرك فيه .
فقال : الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ، ثم شهق شهقة وسقط على وجهه ، فجلست ساعة ثم حركته فإذا هو ميت ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف أعمل في أمره ؟ ومن يعينني على تغسيله وكفنه وحفر قبره ودفنه ؟
فبينما أنا كذلك إذ أنا بركب
(4) يريدون الرباط ، فأشرت إليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي ، وقالوا : من أنت ؟ ومن هذا ؟ فأخبرتهم بقصتي ، فعقلوا رواحلهم ، وأعانوني حتى غسلناه بماء البحر ، وكفناه بأثواب كانت معهم ، وتقدمت فصليت عليه مع الجماعة ، ودفناه في مظلته .
-------------------------------
(1) في ( ش ) : يأكله .
(2) في نسخة ( ش ) : أيوب .
(3) عرضاً لمرار الطريق : لعل المراد منه انه كان معروضاً على الطريق يمر به الناس ، لا بيت له يكنه اُنظر ( الصحاح ـ عرض ـ 3 : 1082 ) .
(4) في ( ح ) : بقفل ، والقفل : الجند إذا رجعوا من معسكرهم ، اُنظر ( الصحاح ـ قفل ـ 5 : 1803 ) .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 66 _
وجلست عند قبره آنساً به أقرأ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعة
(1) ، فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة وأجمل زي ، في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائماً يتلو القرآن ، فقلت له : ألست بصاحبي ؟ قال : بلى ، قلت : فما الذي صيرك إلى ما أرى ؟ فقال : إعلم أني وردت مع الصابرين على الله عزوجل في درجة لم ينالوها إلا بالصبر على البلاء ، والشكر عند الرخاء ، فانتبهت
(2) .
وحكى الشعبيّ قال : رأيت رجلاً وقد دفن ابنه ، فلمّا حثا عليه التراب وقف على قبره ، وقال : يابنيّ ، كنت هبة ماجد ، وعطية واحد
(3) ، ووديعة مقتدر ، وعارية منتصر ، فاسترجعك واهبك ، وقبضك مالكك ، وأخذك معطيك ، فأخلفني الله عليك الصبر ، ولا حرمني الله بك الأجر ، ثم قال : أنت في حلّ من قبلي ، والله أولى عليك بالتفضّل مني .
ولما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، وأخوه سهل بن عبد العزيز ، ومولاه مزاحم ـ في أيام متتابعة ـ دخل عليه بعض أصحابه يعزيه ، وقال في جملة كلامه : والله ما رأيت مثل ابنك ابناً ، ولا مثل أخيك أخاً ، ولا مثل مولاك مولى ، فطأطأ رأسه ، ثم قال : أعد علي ما قلت ، فأعاده عليه ، فقال : لا والذي قضى عليهم ، ما أحب أن شيئا كان من ذلك لم يكن .
وقيل : بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس إذ اتاه ابنه عبد الملك ، فقال : الله الله في مظالم بني أبيك فلان وفلان ، فوالله لوددت أن القدور قد غلت بي وبك فيما يرضي الله ، وانطلق فأتبعه أبوه بصره ، وقال : إني لأعرف خير أحواله ، قالوا : وما خير أحواله ؟ قال : أن يموت فأحتسبه .
ولما دخل عليه أبوه في مرضه فقال له : كيف تجدك ؟ قال : اجدني في الموت ، فاحتسبني يا أبه ، فإن ثواب الله عزوجل خير لك مني ، فقال : والله يا بني ، لئن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك ، فقال ابنه : لئن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب .
فلما مات وقف على قبره ، وقال : رحمك الله يا بني ، لقد كنت ساراً مولوداً ، وباراً ناشئاً ، وما اُحب أني دعوتك فأجبتني .
-------------------------------
(1) في نسخة ( ش ) : ساعات .
(2) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 149 .
(3) كذا ، والمناسب للسياق ، واجد ، بالجيم ، والواجد : الغني ، ( الصحاح ـ وجد ـ 2 : 547 ) .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 67 _
ومات له ابن آخر قبل عبد الملك ، فجاء فقعد عند رأسه ، وكشف الثوب عن وجهه ، وجعل ينظر إليه ويسدمع ، فجاء ابنه عبد الملك ، فقال : يا أبه ليشغلك ما أقبل من الموت عمن هو في شغل عما حل لديك ، فكأن قد لحقت بابنك وساويته تحت التراب بوجهك ، فبكى عمر ، ثم قال : رحمك الله يا بني ، فوالله إنك لعظيم البركة ما علمتك ، على أنك نافع الموعظة لمن وعضت .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 68 _
فصل :
في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن
روي عن أنس بن مالك ، قال : كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي ، فخرج أبو طلحة فقبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ فقالت اُم سليم ، وهي اُم الصبي رضي الله عنها : هو أسكن ما كان ، فقربت له العشاء فتعشى ، ثم اصاب منها ، فلما فرغ قالت : فارق الصبي ، فلما اصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره ، فقال : ( أعرستم الليلة ؟ ) فقال : نعم ، فقال : ( اللهم بارك لهما ) فولدت غلاماً .
قالت : فقلت لأبي طلحة : احمله حتى تأتي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبعثت معه بتمرات ، فقال : ( أمعه شيء ؟ ) قال : تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله فمضغها ، ثم أخذها صلى الله عليه وآله من فيه فجعلها في في الصبي ، ثم حنكه ، وسماه عبد الله
(1) .
قال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤا القرآن ، يعني من أولاد عبد الله المولود
(2) .
وفي رواية أخرى : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، قال : فجاء ، فقربت إليه عشاء ، فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أكثر مما كانت تتصنع له من قبل ذلك ، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها ، قال : يا أبا طلحة ، أرأيت قوماً أعاروا عارية أهل بيت فطلبوا عاريتهم ؟ ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا ، قالت : فاحتسب ابنك ، قال : فغضب ، ثم قال : تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني
(3) .
وفي حديث آخر : لما كان آخر الليل قالت : يا أبا طلحة ، إن آل فلان استعاروا عارية تمتعوا بها ، فلما طلبت منهم شق عليهم ذلك ، قال : ما أنصفوا ، قالت :
-------------------------------
(1) رواه البخاري في صحيحه 7 : 109 ، ومسلم في صحيحه 3 : 1689 باختلاف يسير ورواه باختلاف في ألفاظه محمد بن علي العلوي في التعازي : 25 / 52 .
(2) صحيح البخاري 2 : 104 .
(3) صحيح مسلم 4 : 1909 .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 69 _
فإن فلاناً ـ لابنها ـ كان عارية من الله عزوجل ، وقبضه الله ، فاسترجع ، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بما كان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( بارك الله لكما في ليلتكما ) .
قال : فحملت وذكر الحديث ، وفيه ، فولدت غلاماً ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وجهه ، وسماه عبد الله .
والحديث في ( عيون المجالس ) بزيادة غريبة في آخره ، ولفظه :
عن معاوية بن قرة ، قال : كان أبو طلحة يحب ابنه حباً شديداً ، فمرض فخافت اُم سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد ، فبعثته إلى النبي الله صلى الله عليه وآله ، فلما خرج أبو طلحة من داره توفي الولد ، فسجته اُم سليم بثوب ، وعزلته في ناحية من البيت ، ثم تقدمت إلى أهل بيتها ، وقالت لهم : لا تخبروا أبا طلحة بشيء .
ثم أنها صنعت طعاماً ، ثم مست شيئاً من الطيب ، فجاء أبو طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : ما فعل ابني؟ فقالت له : هدأت نفسه ، ثمّ قال : هل لنا مانأكل؟ فقامت فقربت إليه الطعام ، ثمّ تعرضت له فوقع عليها ، فلمّا اطمأنّ قالت له : يا أبا طلحة اتغضب من وديعة كانت عندنا ، فرددناها إلى أهلها؟ فقال : سبحان الله ، لا ، فقالت : ابنك كان عندنا وديعة فقبضه الله تعالى ، فقال أبو طلحة : فأنا أحق بالصبر منك .
ثم قام من مكانه ، فاغتسل ، وصلّي ركعتين ، ثم انطلق إلى النبي صلّى الله عليه وآله ، فأخبره بصنيعهما ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( فبارك الله لكما في وقعتكما ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الحمد لله الذي جعل في اُمتي مثل صابرة بني أسرائيل ) فقيل : يا رسول الله ، ما كان من خبرها ؟
قال : ( كانت في بني إسرائيل امرأة ، وكان لها زوج ، ولها منه غلامان ، فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ففعلت ، واجتمع الناس في داره ، فانطلق الغلامان يلعبان ، فوقعا في بئر كان في الدار ، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة ، فأدخلتهما البيت ، وسجتهما بثوب ، فلما فرغوا دخل زوجها ، فقال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، وإنها كانت قد تمسحت بشيء من الطيب ، وتعرضت للرجل حتى وقع عليها ، ثم قال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، فناداهما أبوهما ، فخرجا يسعيان ، فقالت المرأة :
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 70 _
سبحان الله ! والله لقد كانا ميتين ، ولكن الله تعالى أحياهما ثواباً لصبري )
(1) .
وقريب من هذا ما رويناه في ( دلائل النبوة ) عن أنس بن مالك ، قال : دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ، فلم نبرح حتى قضى ، فبسطنا عليه ثوباً ، واُم له عجوز كبيرة عند رأسه ، فقلنا لها : يا هذه ، احتسبي مصيبتك على الله عزوجل ، فقالت : مات ابني ؟ قلنا نعم ، قالت : حقاً تقولون ؟ قلنا : نعم ، قال فمدت يدها ، وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى رسولك صلى الله عليه وآله وسلم رجاء ان تعينني عند كل شدة ورخاء ، فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم ، فكشف الثوب عن وجهه بيده ، ثمّ مابرحنا حتى طعمنا معه
(2) .
وهذا الدعاء من المرأة رحمها الله إدلال على الله ، واستئناس به يقع منه للمحبين كثيراً ، فيقبل دعاءهم ، وإن كان في التذكير بنحو ذلك ما يظهر منه قلة الادب ، لو وقع من غيرهم ، ولذلك بحث طويل وشواهد من الكتاب والسنة ، يخرج ذكره عن مناسبة المقام .
ومن لطيف ما اتفق فيه مناجاة برخ الاسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني اسرائيل بعد ان قحطوا سبع سنين ، وخرج موسى ليستسقي لهم في سبعين الفا ، فأوحى الله إليه : ( كيف استجيب لهم وقد أظلت عليهم ذنوبهم ، وسرائرهم خبيثة ، يدعونني على غير يقين ، ويأمنون مكري ! إرجع إلى عبد من عبادي ، يقال له : برخ ، يخرج حتى استجيب له ) .
فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف ، فبينا موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق ، فإذا بعبد أسود بين عينيه تراب من أثر السجود ، في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلم عليه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : إسمي برخ ، فقال : أنت طلبتنا منذ حين ، اخرج استسق لنا ، فخرج ، فقال في كلامه : اللهم ما هذا من فعالك ، وما هذا من حلمك ، وما الذي بدالك ! أنقصت عليك عيونك ، أم عاندت الرياح عن طاعتك ، أم نفد ما عندك ! أم اشتد غضبك على المذنبين ، الست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين ؟ ! خلقت الرحمة ، وأمرت بالعطف ، أم ترينا أنك ممتنع ، أم
-------------------------------
(1) أخرجه المجلسي في بحار الانوار 82 : 150 .
(2) دلائل النبوة 6 : 50 باختلاف في ألفاظه ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 151 .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 71 _
تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ ! فما برح برخ حتى ( أفاضت وخاضت )
(1) بنو إسرائيل بالقطر .
قال : فلما رجع برخ استقبل موسى عليه السلام ، فقال : كيف رأيت حين خاصمت ربي ، كيف انصفني
(2) ؟
رجعنا إلى أخبار الصابرات :
وروي : أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها لما جاء خبر ولدها ـ محمد بن أبي بكر ـ أنه قتل وأحرق بالنار في جيفة حمار ، قامت إلى مسجدها ، فجلست فيه ، وكظمت الغيظ حتى تشخب ثديها دماً
(3) .
وروي عن حمنة
(4) بنت جحش رضي الله عنها : أنها قيل لها : قتل أخوك ، قالت : رحمه الله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، قالوا : وقتل زوجك ، قالت : واحزناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( أن للزوج من المرأة لشعبة ماهي لشيء )
(5) .
وروي : ان صفية بنت عبد المطلب أقبلت لتنظر إلى أخيها لأبويها ـ حمزة بن عبد المطلب ـ باُحد ، وقد مثل به ، فقال النبي صلى الله عليه وآله لابنها الزبير : ( القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها ) فقال لها : يا أماه ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرك ان ترجعي ، قالت : ولم ، وقد بلغني أنه قد مثل بأخي ؟ وذلك في الله عزوجل ، فما أرضانا بما كان من ذلك ! فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله .
فلما جاء الزبير إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبره بقولها ، فقال له : ( خل سبيلها ) فأتته ، ونظرت إليه ، وصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له
(6) .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما قتل حمزة رضي الله عنه يوم اُحد ، أقبلت صفية تطلبه ، لا تدري ما صنع به ، قال : فلقيت علياً والزبير ، فقال علي عليه السلام للزبير : ( أذكر لاُمك ) فقال الزبير : لا ، بل اذكر انت لعمتك ، قالت : ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنهما لا يدريان ، قال : فجاءت النبي صلى الله عليه وآله فقال : ( إني أخاف
-------------------------------
(1) في ( د ) : اخضلت .
(2) أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8 : 81 .
(3) روى القصة مفصلة الدميري في حياة الحيوان الكبرى 1 : 247 .
(4) في ( ح ) : جهينة ، والصواب ما أثبتناه من ( د ) ، راجع ( اُسد الغابة 5 : 428 ) .
(5) سنن ابن ماجة 1 : 507 ، المستدرك على الصحيحين 4 : 62 .
(6) السيرة النبوية لابن هشام 3 : 103 .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 72 _
على عقلها ) قال : فوضع يده على صدرها ، ودعا لها ، فاسترجعت ، وبكت ، قال : ثم جاء صلى الله عليه وآله فقام عليه ، وقد مثل به ، فقال : ( لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطيور وبطون السباع )
(1) .
واستشهد شاب من الأنصار يقال له : خلاد يوم بني قريظة ، فجاءت أمه متنقبة فقيل لها : تتنقبين يا اُم خلاد وقد رزئت بخلاد ! فقالت : لئن كنت رزئت خلاداً ، فلم ارزأ حيائي
(2) ، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله ، وقال : ( إن له أجرين ، لأن أهل الكتاب قتلوه )
(3) .
وعن أنس بن مالك قال : لما كان يوم اُحد حاص أهل المدينة حيصة ، فقالوا : قتل محمد صلى الله عليه وآله ، حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة ، فخرجت امراة من الأنصار متحزنة ، فاستقبلت بأبيها وأبنها وزوجها وأخيها ، لا أدري أيهم استقبلت أولاً ، فلما مرت على آخرهم قالت : من هذا ؟ قالوا : أخوك ، وأبوك ، وزوجك ، وابنك ، قالت : ما فعل النبي صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : أمامك ، فمشت حتى جاءت إليه ، فأخذت بناحية ثوبه ، وجعلت تقول : بأبي أنت وامي يا رسول الله ، لا ابالي إذا سلمت من عطب .
وروى البيهقي قال : مر رسول الله صلى الله عليه وآله بامرأة من بني دينار
(4) ، وقد أصيب زوجها وأبوها وأخوها معه صلى الله عليه وآله باُحد ، فلما نعوا إليها ، قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان ، وهو يحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى انظر إليه ، فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل
(5) .
وخرجت السمراء بنت قيس ـ أخت أبي حزام ـ ، وقد اصيب ابناها ، فعزاها النبي صلى الله عليه وآله بهما ، فقالت : كل مصيبة بعدك جلل
(6) ، والله لهذا
-------------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3 : 197 .
(2) في ( د ) و ( ح ) : حبابه ، وما أثبتناه من منتخب كنز العمال .
(3) منتخب كنز العمال 1 : 212 باختلاف في ألفاظه .
(4) في ( د ) : ذبيان ، وفي ( ح ) : دينارة ، وفي هامش ( ح ) : صباره ، والظاهر كلها تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، وبنو دينار : بطن من بني النجار من الخزرج من الأنصار ، اُنظر ( معجم قبائل العرب 1 : 401 ) .
(5) السيرة النبوية لابن هشام 3 : 105 ، ورواه الواقدي في المغازي 1 : 292 باختلاف في ألفاظه .
(6) الجلل : الأمر العظيم والهين ، وهو من الاضداد ، والمراد هنا : كل مصيبة بعدك هينة ، اُنظر ( الصحاح ـ جلل ـ 4 : 1659 ) .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 73 _
النقع
(1) الذي أرى على وجهك أشد من مصابهما .
وروي : أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ، ومعه ابن له ، فقال لابنه : أي بني تقدم فقاتل حتى احتسبك ، فحمل فقاتل فقتل ، ثم تقدم أبوه فقاتل فقتل ، قال : فاجتمع النساء عند امه معاذة العدوية زوجة صلة ، فقالت لهن : مرحباً بكن إن كنتن ( جئتن لتهنئتي )
(2) ، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن .
وروي : أن عجوزاً من بني بكر بن كلاب كان يتحدث قومها عن عقلها وسدادها ، فأخبر بعض من حضرها ، وقد مات ابن لها ، وكان واحدها ، وقد طالت علته ، وأحسنت تمريضه ، فلما مات قعدت بفنائها ، وحضرها قومها ، فأقبلت على شيخ منهم فقالت : يا فلان ، ما حق من أسبغت عليه النعمة ، وأُلبس العافية ، واعتدلت به النظرة ، أن لا يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوته
(3) ، ينزل الموت بداره ، فيحول بينه وبين نفسه ؟ ثم أنشأت تقول شعراً :
هو أبني وأنسي أجره لي وعزني على نفسه رب اليه iiولاؤها فإن أحتسب أوجر وإن ابكه iiأكن كباكية لم يغن شيئاً iiبكاؤها |
فقال لها شيخ : إننا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء ، فلا يجزعن أحد بعدك ، ولقد كرم صبرك ، وما أشبهت النساء ، فقالت له : إنه ما ميز امرؤ بين الجزع وصبر ، إلا وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حالتيهما :
أما الصبر : فحسن العلانية ، محمود العاقبة .
وأما الجزع : فغير معرض شيئاً مع إثمه .
ولو كانا في صورة رجلين ، لكان الصبر أولاهما بالغلبة ، وبحسن الصورة ، وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب ، وكفى بما وعد الله عزوجل لمن ألهمه إياه .
وعن جويرية بن أسماء : أن ثلاثة أخوة شهدوا تستر ، واستشهدوا ، وبلغ ذلك أمهم ، فقالت : مقبلين أم مدبرين ؟ فقيل لها : بل مقبلين ، فقالت : الحمد لله ، نالوا والله الفوز ، وحاطوا الذمار ، بنفسي هم وأبي وامي ، وما تأوهت ، ولا دمعت لها عين .
-------------------------------
(1) النقع : الغبار. ( الصحاح ـ نقع ـ 3 : 1292 ) .
(2) في ( د ) : جئتني لتهنئنني .
(3) في ( ح ) بعقوبته ، والصواب ما في المتن ، والعقوة : الساحة وما حول الدار. ( الصحاح ـ عقا ـ 6 : 2433 ) .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 74 _
وعن أبي قدامة الشامي قال : كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات ، فدخلت بعض البلدان ، ودعوت الناس للغزاة ، ورغبتهم في الجهاد ، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها ، ثم تفرق الناس وركبت فرسي ، وسرت إلى منزلي ، فإذا أنا بأمرأة من أحسن الناس وجهاً تنادي : يا أبا قدامة ، فمضيت ولم أجب ، فقالت : ما هكذا كان الصالحون ، فوقفت ، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة ، وانصرفت باكية ، فنظرت في الرقعة وإذا فيها مكتوب : أنت دعوتنا إلى الجهاد ، ورغبتنا في الثواب ، ولا قدرة لي على ذلك ، فقطعت أحسن ما في ، وهما ضفيرتاي ، وأنفذتهما
(1) إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله ، فيغفر لي .
فلما كان صبيحة القتال ، فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسراً ، فتقدمت إليه وقلت : يا غلام ، أنت فتى غر
(2) راجل ، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها ، فارجع عن موضعك هذا ، فقال : أتأمرني بالرجوع ، وقد قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الادبار )
(3) ؟ وقرأ الآية إلى آخرها .
فحملته على هجين كان معي ، فقال : يا أبا قدامة ، أقرضني ثلاثة أسهم ، فقلت : أهذا وقت قرض ؟ فما زال يلح علي حتى قلت : بشرط إن من الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك ، قال : نعم ، فأعطيته ثلاثة أسهم ، فوضع سهماً في قوسه ورمى به ، فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر ، وقال : السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع ، فجاءه سهم فوقع بين عينيه ، فوضع رأسه على قربوس سرجه ، فتقدمت إليه ، وقلت : لا تنسها ، فقال : نعم ، ولكن لي إليك حاجة ، إذا دخلت المدينة فأت والدتي ، وسلم خرجي
(4) إليها وأخبرها ، فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك ، فسلم عليها ، فهي العام الأول أصيبت بوالدي ، وفي هذا العام بي ، ثم مات ، فحفرت له ، ودفنته .
فلما هممت بالإنصراف عن قبره قذفته الارض ، فألقته على ظهرها ، فقال أصحابه : غلام غر ، ولعله خرج بغير إذن امه ، فقلت : إن الإرض لتقبل من هو شر من
-------------------------------
(1) في ( ح ) : وأرسلتها .
(2) في الحديث : ( المؤمن غر كريم ) يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة ، وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه ، وليس ذلك منه جهلاً ، ولكنه كرم وحسن خلق ( النهاية ـ غرر ـ 3 : 354 ) .
(3) الأنفال 8 : 15 .
(4) الخرج : وعاء ( الصحاح ـ خرج ـ 1 : 309 ) .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 75 _
هذا ، فقمت وصليت ركعتين ، ودعوت الله ، فسمعت صوتاً يقول : يا أبا قدامة ، أترك ولي الله ، فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته .
فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته ، فما قرعت الباب خرجت أخته إلي ، فلما رأتني عادت إلى امها ، وقالت : يا أماه ، هذا أبو قدامة ، وليس معه أخي ، وقد أُصبنا في العام الاول بأبي ، وفي هذا العام بأخي ، فخرجت اُمه ، فقالت : أمعزيناً أم مهنئاً ؟ فقلت : ما معنى هذا ؟ قالت : إن كان ابني مات فعزني ، وإن كان استشهد فهنئني ، فقلت : لا ، بل قد مات شهيداً ، فقالت له علامة ، فهل رأيتها ؟ فقلت : نعم ، لم تقلبه الارض ، ونزلت الطيور ، فأكلت لحمه ، وتركت عظامه ، فدفنتها ، فقالت : الحمد لله .
فسلمت إليها الخرج ، ففتحته وأخرجت منه مسحاً وغلاً من حديد ، قالت : إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح ، وغلّ نفسه بالغل وناجى مولاه ، وقال في مناجاته : إلهي احشرني من حواصل الطيور. فاستجاب الله سبحانه دعاءه رحمه الله .
وروى البيهقي عن أبي عباس السراج ، قال : مات لبعضهم ابن ، فدخلت على اُمه ، فقلت لها : اتقي الله واصبري ، فقالت : مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع .
وقال ابان بن تغلب رحمه الله : دخلت على امرأة ، وقد نزل بابنها الموت ، فقامت إليه فغمضته وسجته ، ثم قالت : يا بني ، ما الجزع في ما لا يزول ؟ وإنما البكاء في ما ينزل بك غداً ؟ يا بني ، تذوق ما ذاق أبوك ، وستذوقه من بعدك امك ، وإن أعظم الراحة لهذا الجسد النوم ، والنوم أخو الموت ، فما عليك إن كنت نائماً على فراشك ، أو على غيره ، وإن غداً السؤال والجنة والنار ، فإن كنت من أهل الجنة فما ضرك الموت ، وإن كنت من أهل النار فما تنفعك الحياة ، ولو كنت أطول الناس عمراً ، والله يا بني لولا أن الموت أشرف الاشياء لابن آدم ، لما أمات الله نبيه صلى الله عليه وآله ، وأبقى عدوه أبليس لعنه الله
(1) .
وعن المبرد قال : أتيت امرأة أعزيها عن ابنها ، فجعلت تثني عليه ، فقالت : كان ـ والله ـ ماله لغير بطنه ، وأمره لغير عرسه ، وكان رحب الذراع بالتي لا تشينه ، فإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعاً ، فقلت لها : وهل لك منه خلف ؟ ـ وأنا أعني الولد ـ ، فقالت : نعم بحمد الله كثير الطيب ، ثواب الله عزوجل ، ونعم العوض في الدنيا والآخرة .
-------------------------------
(1) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152 .