تأليف
  الشهيد الثاني الشيخ زين الدين
  علي بن محمد الجبعي العاملي
  (911 ـ 965 هـ)

تحقيق
  مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
المقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم

  إن الله تعالى بمقتضى غناه وجوده وكرمه ، شاء أن ينعم على ابن آدم من نعمه الجزيلة ، فأنعم عليه بأول نعمة الوجود وإخراجه من حيز العدم .
  ثم سخر له ما في الأرض جميعاً وجعله سيد هذه الكرة ، يتصرف في ترابها ومائها وجوها ، ويذل له كل ما عليها من حيوان ، ويخضع له نباتها ومعدنها وجميع كنوزها .
  ثم أنعم عليه بالهداية إليه بإرسال الرسل وإنزال الكتب التي تضمن له رضى ربه وسعادة معاشه ومعاده إن أطاع الله .
  وكان بعد هذا الإنعام الجزيل والهداية الواضحة الإختبار والإمتحان وهما لا يكونان إلا بالإبتلاء بنقص النعمة أو البلاء في نفس الانسان وماله .
  وهنا يعرف الصابر المحتسب من الضجر الجازع .
  وقد وعد سبحانه الصابرين بالأجر الجزيل ، ووعدهم بأن يوفيهم أجرهم بغير حساب ، وأعلمهم أنّه هو تعالى معهم إن صبروا .
  قال الإمام الباقر عليه السلام : إنما يبتلى المؤمن في الدنيا على قدر ، دينه ـ أو قال ـ على حسب دينه (1) .
  وقال الامام الصادق عليه السلام : إن الله إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتا (2) .

-------------------------------
(1) الكافي 2 : 197 / 9 ، مشكاة الانوار : 298 .
(2) الكافي 2 : 197 / 6 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 4 _

  وقال عليه السلام : إن عظيم الأجر مع عظيم البلاء (1) .
  ولذا كان أشد الناس بلاءً ـ كما في الحديث ـ الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل (2) .
  قال النبي صلى الله عليه وآله : نحن ـ معاشر الأنبياء ـ أشد بلاء والمؤمن الأمثل فالامثل ، ومن ذاق طعم البلاء تحت ستر حفظ الله له ، تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة (3) .
  وجعل رأس طاعة الله الصبر بنصف الإيمان وعده من مفاتيح الأجر وقرر ان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا الجسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له ، ومن صبر كان له أجر ألف شهيد .
  ولذا قال الإمام علي عليه السلام : إن صبرت جرى عليك القضاء وانت مأجور ، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مأزور (4) .
  قال الامام الكاظم عليه السلام : ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة إحباط أجره (5) .
  وتختلف المصائب الواحدة عن الاُخرى فمن مرض مزمن إلى اسارة محقرة إلى فقد المال و ...
  ومن الامور الهامة فقد الأحبة والاولاد ـ وقد وردت روايات كثيرة في هذا الباب منها : من قدم من ولده ثلاثاً صابرا محتسبا كان محجوبا من النار بإذن الله (6) وان ذلك له جنة حصينه .
  وفي جواب الله لداود عليه السلام عندما قال : ما يعدل هذا الولد عندك ؟

-------------------------------
(1) الكافي 2 : 196 / 3 .
(2) رواه الكليني في الكافي 2 : 196 / 1 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1334 / 4023 ، والترمذي في سننه 4 : 28 / 2509 ، وأحمد في مسنده 1 : 172 ، 180 ، 185 ، والدارمي في سننه 2 : 320 ، والحاكم النيشابوري في مستدركه 1 : 41 باختلاف يسير .
(3) مصباح الشريعة : 487 .
(4) نهج البلاغة 3 : 224 / 291 .
(5) الكافي 3 : 225 / 9 .
(6) الجامع الكبير 1 : 817 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 5 _

  قال : يارب كان يعدل هذا عندي ملء الأرض ذهباً ، قال : فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثواباً (1) .
  لقد ذهب الرسول الأعظم إلى أكثر من ذلك بقوله : ... إني مكاثر بكم الامم حتى أن السقط ليظل محبنطئاً على باب الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول : أنا وأبواي ؟ فيقال : أنت وأبواك (2) .
  وقد وردت الروايات الكثيرة بتقديم التعازي لصاحب المصيبة ليخفف عنه المصاب ، فعن ابن مسعود عن النبي ، قال صلى الله عليه وآله : من عزى مصاباً فله مثل أجره (3) .
  وعن أبي برزة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : من عزى ثكلى كسي برداً في الجنة (4) .
  هذا ، وإن البكاء على الميت لا يقل من الاجر ولا يضر بالثواب ، فإن أول من بكى آدم على ولده هابيل ورثاه بأبيات مشهورة وحزن عليه حزناً كثيراً ، وحال يعقوب أشهر من أن يذكر فقد أبيضت عيناه من الحزن على يوسف وبكى عليه كثيراً .
  وأما سيدنا ومولانا علي بن الحسين عليه السلام فقد بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره قائما ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، ويقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعا ، قتل ابن رسول الله عطشانا ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل (5) .
  ولذا قال رسول الله (ص) : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب (6) .
  ومن الذين أبلوا بلاء حسناً في الصبر عند فقد الأحبة والأولاد أبو ذر الغفاري

-------------------------------
(1) رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر 1 : 287 ، والسيوطي في الدر المنثور 5 : 306 باختلاف في الفاظه .
(2) رواه السيوطي في الجامع الصغير 2 : 55 / 4724 ، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال 6 : 390 عن ابن عباس .
(3) الجامع الكبير 1 : 801 .
(4) سنن الترمذي 2 : 269 / 1082 .
(5) اللهوف في قتلى الطفوف : 87 .
(6) سنن ابن ماجة 1 : 506 / 1589 ، ومنتخب كنز العمال 6 : 265 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 6 _

  رضي الله عنه الذي لم يعش له ولد ، وقوله : الحمد لله الذي يأخذهم من دار الفناء ويدخرهم في دار البقاء (1) .
  فلنا بهم أحسن العبر وأجلها ، وهم لنا اسوة حسنة وما أكثر الصابرين المحتسبين في سبيل الله .
  ومن اولئك الذين اصيبوا بهذا المصاب وفقدوا الاحبة والاولاد شيخنا الشهيد الثاني قدس الله روحه الزاكية .
  وقد ذكر صاحب روضات الجنات (2) فقد لأولاده ومصيبته بهم حيث يتوفون صغاراً .
  وقال السيد الامين : ( وكان لا يعيش له أولاد ، فمات له أولاد ذكور كثيرون قبل الشيخ حسن الذي كان لا يثق بحياته أيضاً ) (3) .
  وقال الشيخ عباس القمي في معرض حديثه عن الشيخ حسن بن الشهيد : ( ولم يكن مرجو البقاء بعد ما قد اصيب والده بمصائب أولاد كثيرين من قبله ) (4) .

سبب تأليف الكتاب :
  لم يكن تأليف ( مسكن الفؤاد ) وليد حالة علمية بحتة يقررها واقع الدرس والتدريس ، أو تمليها حاجة المناضرات الحوزوية ، بقدر ما كان إفرازاً لحالة وجدانية وعاطفية عاشها الشهيد الثاني بكل جوارحه وأحاسيسه ، وتفاعل معها تفاعلا إيجابيا طيلة حياته الشريفة ، فقد ذكرت أغلب المصادر التي ترجمت للشهيد الثاني أنّه ابتلي بموت أولاده في مقتبل اعمارهم ، حتى أصبح لا يثق ببقاء أحد منهم ، ولم يسلم منهم إلا ولده الشيخ حسن ، الذي كان يشك الشهيد في بقاءه ، وقد استشهد وعمر ولده أربع أو سبع سنين .
  لقد واجه الشهيد الثاني ـ قدس سره ـ حالة الحرمان العائلي بأسمي آيات الصبر

-------------------------------
(1) رواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال 1 : 212 ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 142 .
(2) روضات الجنات 3 : 379 .
(3) أعيان الشيعة 7 : 144 .
(4) الكنى والالقاب 2 : 349 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 7 _

  والجلد ، فألف كتابه ( مسكن الفؤاد ) ، وقلبه يقطر ألماً وحسرة وهو يرى أولاده أزهاراً يانعة تقتطف أمام عينيه .
  يقول رضوان الله عليه في مقدمة كتابه المذكور : ( فلما كان الموت هو الحادث العظيم ، والأمر الذي هو على تفريق الأحبة مقيم ، وكان فراق المحبوب يعد من أعظم المصائب ، حتى يكاد يزيغ له قلب ذي العقل ، والموسوم بالحدس الصائب ، خصوصاً ومن أعظم الأحباب الولد ، الذي هو مهجة الألباب ، ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب ، ووعد أبواه شفاعته فيهما يوم المآب .
  فلذلك جمعت في هذه الرسالة جملة من الآثار النبوية ، وأحوال أهل الكمالات العلية ، ونبذة من التنبيهات الجلية ، ما ينجلي به ـ إن شاء الله تعالى الصدأ عن قلوب المحزونين ، وتنكشف به الغمة عن المكروبين ، بل تبتهج به نفوس العارفين ، ويستيقظ من اعتبره من سنة الغافلين ، وسميتها ( مسكن الفؤاد عند فقد الإحبة والأولاد ) ورتبتها على مقدمة ، وأبواب ، وخاتمة ) (1) .
  ويمتاز كتاب ( مسكن الفؤاد ) ـ على صغر حجمه ـ بخصوصية موضوعه ، مما جعله مرجعاً يعتمد عليه في بابه ، فقد ركن إليه جمع من أصحاب الموسوعات الروائية كالعلامة المجلسي في بحار الانوار ، والشيخ الحر في الجواهر السنية والشيخ النوري في مستدرك الوسائل ، وغيرهم .
  يقول العلامة المجلسي في بحار الانوار ، في بيان الاصول والكتب المأخوذة منها : ( ... وكتاب مسكن الفؤاد ... للشهيد الثاني رفع الله درجته ) (2) .
  وقال الشيخ الحر في مقدمة كتابه الجواهر السنية : ( ونقلت الأحاديث المودعة فيه من كتب صحيحة معتبرة ، واصول معتمدة محررة ) (3) وكتابنا أحد هذه الكتب الصحيحة المعتبرة ...
  وقال السيد الخونساري في معرض حديثه عن كتاب مسكن الفؤاد : ( وإن لكتابه هذا فوائد جمة ، وأحاديث نادرة ، ولطائف عرفانية قل ما يوجد نظيرها في

-------------------------------
(1) مسكن الفؤاد : 17 .
(2) بحار الانوار 1 : 19 .
(3) الجواهر السنية 6 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 8 _

  كتاب ) (1) .
  وقال السيد محسن الامين في ترجمة الشهيد الثاني : ( وتفرد بالتأليف في مواضيع لم يطرقها غيره ، أو طرقها ولم يستوف الكلام فيها ، مثل : ... والصبر على فقد الأحبة والاولاد ) (2) .
  وقال في تعداد مصنفاته : ( مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والاولاد لم يسبق إلى مثله ) (3) .
  وذكره الشيخ الطهراني في الذريعة قائلاً : ( مسكن الفؤاد عند فقد الاحبة والاولاد ، للشيخ السعيد زين الدين بن أحمد العاملي الشهيد مرتبا على مقدمة وابواب وخاتمة ، أول الأبواب في الأعواض عن فوت الولد ، وثانيها في الصبر ، وثالثها في الرضا ، ورابعها في البكاء ) (4) .
  وقال إسماعيل باشا في إيضاح المكنون : ( مسكن الفؤاد عند فقد الاحبة والاولاد ، لزين الدين بن علي بن أحمد العاملي الشيعي ) (5) .
  وقال ابن العودي في بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد ، في ذكر مصنفاته : ( ... ومنها كتاب مسكن الفؤاد عند فقد الاحبة والاولاد ) (6) .
  وفي أمل الآمل : له مؤلفات منها : ( ... وكتاب مسكن الفؤاد عند فقد الاحبة والاولاد ) (7) .
  وقال الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤة البحرين : ( وله ـ قدس سره ـ من الكتب والمصنفات ... وكتاب مسكن الفؤاد عند فقد الاحبة والاولاد ) (8) .

-------------------------------
(1) روضات الجنات 3 : 379 .
(2) أعيان الشيعة 7 : 145 .
(3) أعيان الشيعة 7 : 156 .
(4) الذريعة 21 : 20 / 3747 .
(5) إيضاح المكنون 4 : 479 .
(6) بغية المريد : الواردة ضمن كتاب الدر المنثور 2 : 187 .
(7) أمل الآمل 1 : 87 .
(8) لؤلؤة البحرين : 35 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 9 _

  ومن دلائل اهتمام المصنف قدس سره بكتابه هذا ، أنه اختصره بكتاب آخر وسماه ( مبرّد الاكباد مختصر مسكَن الفؤاد ) ، ذكره الشيخ علي حفيد الشهيد الثاني (1) ، والشيخ الحرّ العاملي (2) ، والشيخ يوسف البحراني (3) والسيد الخونساري ، (4) والسيد محسن الأمين (5) ، والشيخ آقابزرگ الطهراني (6) .
  وترجمه إسماعيل خان إلى اللغة الفارسية وسماه ( تسلية العباد ) ، قال الشيخ الطهراني في الذريعة : ( تسلية العباد في ترجمة مسكن الفؤاد ، تأليف الشيخ الشهيد ترجمه إلى الفارسية إسماعيل خان دبير السلطنة الملقب بمجد الادباء المعاصر المجاور للمشهد الرضوي ، المتوفى بعد طبع الترجمة سنة 1321 ) (7) .

المؤلف :
  هو الشيخ زين الدين نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف ، العاملي الشامي الطوسي الجبعي ، الشهير بالشهيد الثاني .
  ولد في 13 / شوال / سنة 911 ، وكان أبوه من أكابر علماء عصره وكذلك كان آباؤه إلى (صالح) وبنو عمومته وأخوه عبد النبي وابن أخيه ، وقد تسلسل العلم في بيته زمناً طويلا حتى سميت سلسلته بسلسلة الذهب ، وابنه الشيخ حسن من العلماء المحققين ، وكان الشهيد قدس سره واسطة عقدهم .
  درس رحمه الله العلوم المعروفة في زمنه ، وأخذ عن علماء الشيعة وأهل السنة ، وبرع رحمه الله وفاق أقرانه على شدة الفقر وشظف العيش ، فقد كان يحرس

-------------------------------
(1) الدر المنثور 2 : 189 .
(2) أمل الآمل 1 : 87 .
(3) لؤلؤة البحرين : 35 .
(4) روضات الجنات 3 : 379 .
(5) أعيان الشيعة 7 : 145 .
(6) الذريعة 20 : 209 / 2613 .
(7) الذريعة 4 : 179 / 2613 .
(8) الذريعة 4 : 179 / 882 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 10 _

  مزرعته ـ من العنب ـ ليلاً ، ويحتطب لعياله ، ويشتغل بالتجارة أحياناً ويقوم بحاجات عياله .
  سافر إلى إستانبول ـ وكانت عاصمة الدولة العثمانية يومذاك ـ وألف خلال 18 يوماً رسالة في حل عشر مسائل من مشكلات العلوم ، فاُسند إليه تدريس المدرسة النورية في بعلبك ، وهي من كبار المدارس ، فأقام فيها خمس سنين يدرس على المذاهب الخمسة ، وهذا اقتدار عظيم له وعلم واسع ما عليه الآن من مزيد .
  ألف نحو ثمانين كتاباً أشهرها ( الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية ) الذي هو من عمد كتب الدراسة الفقهية في الحوزات الشيعية .
  ولكنّ التعصّبات المذهبية ـ الداء الذي أودى بالمسلمين ـ لم تترك هذا العالم الفذّ ينفع الناس بعلمه وخلقه ، فقد اضظرمت نار الحسد في صدور الّذين أوصلوا الاُمّة الإسلامية إلى ما هي عليه الآن من ضعف وتأخر ... فحاكوا له الدسائس وأوغروا عليه صدور الامراء ، حتى آل الامر إلى إلقاء القبض علية في حرم الله مكة المكرمة في موسم الحج ، وأخذ مخفوراً إلى استانبول .
  وخشي الجلاوزة الذين القوا القبض عليه ان يصل إلى استانبول فتبرأ ساحته مما رموه به ـ وهي البريئة الطاهرة ـ فاستعجلهم الشيطان فقتلوه في الطريق وحملوا رأسه إلى العاصمة .
  وكانت شهادته قدس سره سنة 965 ، وعمره (55) سنة .
  وقد كتب في ترجمته تلميذه ابن العودي رسالة مستقلة سماها ( بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد ) .
  اُنظر في ترجمته :
  الدرالمنثور 2 : 149 بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد ـ ، أمل الامل 1 : 85 ، رياض العلماء 2 : 365 ، لؤلؤة البحرين : 28 ، نقد الرجال : 145 ، منتهى المقال : 141 ، بهجة الآمال 4 : 254 ، روضات الجنات 3 : 352 ، تنقيح المقال 1 : 472 / 4517 ، سفينة البحار 1 : 723 ، الكنى والالقاب 2 : 344 ، هدية الاحباب : 167 ، الفوائد الرضوية : 186 ، أعيان الشيعة 7 : 143 ، الأعلام للزركلي 3 : 64 ، معجم رجال الحديث 7 : 372 ، معجم المؤلفين 4 : 193 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 11 _


منهجية التحقيق :
  اعتمدنا في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ :
  الاولى النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله المرعشي العامة ، الكتاب الثالث ضمن المجموعة المرقمة (444) ، من ص 186 إلى ص 249 ، كتبها صفر الكرماني بخط النسخ الواضح يوم الاثنين 27 ذي القعدة سنة 1087 هـ ، على نسخة اخذت من الشيخ محمد العاملي في الشام ن وفي آخر الكتاب توجد عبارة ( بلغ مقابلة بعون الله تعالى وحسن توفيقه ) ، كما كتب الشيخ يوسف النجفي تلميذ الشهيد الثاني في آخر صفحة من المجموعة أنه قابل النسخة ، وأنهى مقابلتها يوم الاربعاء 9 ربيع الاول سنة 1088 هـ .
  تقع المجموعة في 320 ورقة ، وكتابنا في 63 ورقة ، في كل ورقة 16 سطراً ، بحجم 5 / 20 × 5 /10 سم ، وقد رمزنا لهذه النسخة في هامش الكتاب ب ـ ( ش ) .
  الثانية : النسخة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران تحت رقم 1017 ، كتبها بخط النسخ حسين بن مسلم بن حسين بن محمد الشهير بابن شعير العاملي ، تلميذ الشهيد الثاني نحو سنة 954 هـ ، تحتوي النسخة على مقدمة الكتاب وبعض من الباب الثاني والثالث والرابع ، توجد في ورقة 73 ب عبارة ( تمت 954 ) بخطّ آخر ، وفي ورقة 69 ألف توجد عبارة ( ثم بلغ قراءة وفقه الله تعالى ) بخط الشهيد الثاني .
  تملك النسخة كل من علي بن محمد حسين الموسوي الشوشتري في 15 ج 2 سنة 1268 هـ ، وعلي بن حسين بن محمد علي بن زين الدين الموسوي وعلي محمد الموسوي .
  ورق النسخة من النوع السمرقندي بحجم 14 × 5 / 18 و 5 / 8 × 13 س 17. وقد رمزنا لهذه النسخة ب ـ ( د ) .
  انظر فهرس مكتبة جامعة طهران ، الجزء الثالث ، القسم الاول ، ص 679 .
  الثالثة : النسخة المطبوعة على الحجر في ايران ، كتبها ابن علي أكبر الجيلاني في يوم الاثنين 26 صفر سنة 1310 هـ في طهران ، وقد رمزنا لها في هامش الكتاب ب ـ ( ح ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 12 _

  واستناداً للمنهجية المتبعة في مؤسسة آل البيت ـ عليهم السلام ـ لإحياء التراث ، مر تحقيق الكتاب بعدة مراحل ، هي كالآتي :
  (1) لجنة المقابلة : ومهمتها مقابلة النسخ المخطوطة وإثبات اختلافاتها .
  (2) لجنة استخراج الأحاديث : ومهمتها إستخراج النصوص الواردة في الكتاب وإسنادها إلى مصادرها .
  (3) لجنة ضبط الإختلافات الرجالية : ومهمتها ضبط ما ينتج من مقابلة النسخ من اختلافات في الأعلام ، وإسناد ذلك إلى المصادر الرجالية .
  (4) لجنة تقويم النص : ومهمتها إظهار نص مضبوط وصحيح للكتاب أقرب ما يكون لما تركه المؤلف ، وقد اتبعت طريقة التلفيق بين النسخ بحيث يثبت النص الصحيح في المتن ويشار لما عداه في الهامش .
  (5) كتابة الهامش : وذلك بالاستفادة من كل ما تقدم لترتيب وتنسيق الهوامش .
  (6) الملاحظة النهائية : ويتم فيها مراجعة الكتاب متناً وهامشاً ، لعل فيه مازاغ عن البصر ، لإصلاحه .
  وختاما ... نتقدم بجزيل الشكر وعظيم التقدير للإخوة الأفاضل الذين ساهموا في اخراج هذا الكتاب بهذه الحلة الجيدة .
  مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث قم ـ 21 شوال 1407 هـ

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 13 _

صوره الورقة الاولى من مخطوطة آية الله المرعشي العامة ـ قم

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 14 _

صوره الورقة الاخيرة من مخطوطة مكتبة آية الله المرعشي العامة ـ قم

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 15 _

صوره الورقة الاولى من مخطوطة جامعة طهران

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 16 _

صوره الورقة الاخيرة من مخطوطة جامعة طهران

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 17 _

بِسْمِ اللهِ الرّحْمن الرحيم

  الحمد لله الذي قضى بالفناء والزوال على جميع عباده ، وأنفذ أمره فيهم على وفق حكمته ومراده ، ووعد الصابرين على قضائه جميل ثوابه وإسعاده ، وأوعد الساخطين جزيل نكاله وشديد وباله في معاده ، ولذذ قلوب العارفين بتدبيره ، فبهجة نفوسهم في تسليمها لقياده ، هذا مع عجز كلّ منهم عن دفاع ما أمضاه وإن تمادى الجاهل في عناده ، فإياه ـ سبحانه ـ أحمد على كل حال ، وأسأله الإمداد بتوفيقه وإرشاده .
  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة أستدفع بها الاهوال في ضيق المحشر ووهاده (1) ، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله ، أفضل من بشر وحذر ، وأعظم من رضي بالقضاء وصبر ، وخدم به سلطان معاده ، صلى الله عليه وعلى آله الأخيار ، أعظم الخلق بلاءً ، وأشدّهم عناءً ، أسدهم تسليماً ورضاءً ، صلاة دائمة واصلة إلى كل واحد بانفراده .
  وبعد : فلما كان الموت هو الحادث العظيم ، والأمر الذي هو على تفريق الأحبة مقيم ، وكان فراق المحبوب يعد من أعظم المصائب ، حتى يكاد يزيغ له قلب ذي العقل (2) ، والموسوم بالحدس (3) الصائب ، خصوصاً ومن أعظم الأحباب الولد ، الذي هو

-------------------------------
(1) الوهاد : جمع وهدة وهي الحفرة ، اُنظر ( القاموس المحيط ـ وهد ـ 1 : 347 ) .
(2) في نسخة ( د ) و ( ش ) : الغفلة .
(3) في نسخة ( ش ) : بالخدش .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 18 _


مهجة الألباب :
ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب ، ووعد أبواه شفاعته فيهما يوم المآب .
  فلذلك جمعت في هذه الرسالة جملة من الآثار النبوية ، وأحوال أهل الكمالات العلية ، ونبذة من التنبيهات الجلية ، ما ينجلي به ـ إن شاء الله تعالى ـ الصدأ عن قلوب المحزونين ، وتنكشف به الغمة عن المكروبين ، بل تبتهج به نفوس العارفين ، ويستيقظ من اعتبره من سنة الغافلين ، وسميتها (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والاولاد) ورتبتها على مقدمة ، وأبواب ، وخاتمة .
  أمّا المقدمة : فاعلم أنه ثبت أن العقل هو الآلة التي بها عرف الله (1) سبحانه ، وحصل به تصديق الرسل والتزام الشرائع ، وأنه المحرض على طلب الفضائل ، والمخوف من الإتصاف بالرذائل ، فهو مدبر أمر الدارين ، وسبب لحصول الرئاستين ، ومثله كالنور في الظلمة ، فقد يقل عند قوم ، فيكون كعين الأعشى (2) ، ويزيد عند آخرين ، فيكون كالنهار في وقت الضحى .
  فينبغي لمن رزق العقل أن لا يخالفه فيما يراه ، ولا يخلد (3) إلى متابعة غفلته وهواه ، بل يجعله حاكماً له وعليه ، ويراجعه فيما يرشده إليه ، فيكشف له حينئذ ما يوجب الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى ، سيما فيما نزل به من هذا الفراق ، من وجوه كثيرة ، نذكر بعضها :
  الاول : إنك نظرت إلى عدل الله وحكمته ، وتمام فضله ورحمته ، وكمال عنايته ببريته ، إذا أخرجهم إد من العدم (4) ، وأسبغ عليهم جلائل النعم ، وأيدهم بالالطاف ، وأمدهم بجزيل المعونة والإسعاف ، كلى الوجول ذلك ليأخذوا حظهم من السعادة الأبدية والكرامة السرمدية ، لا لحاجة منه إليهم ، ولا لاعتماد في شيء من أمره عليهم ؛ لأنه الغني المطلق ، والجواد المحقق .
  وكلفهم بالتكاليف الشاقة ، والاعمال الثقيلة ؛ يأخذوا منه حظاً وأملاً وليبلوهم أيهم أحسن عملاً ، وما فعل ذلك إلا لغاية منفعتهم ، وتمام مصلحتهم ، وأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم الكتب ، وأودعها ما فيه بلاغ للعالمين .

-------------------------------
(1) في نسخة ( د ) : الإله .
(2) الإعشى : الذي لا يبصر بالليل ، ويبصر في النهار فقط ( الصحاح ـ عشا ـ 6 : 2427 ) .
(3) في نسخة ( ش ) : يخلل .
(4) في ( ح ) : من العدم إلى الوجود .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 19 _

  وتحقيق هذا المرام مستوفى في باب العدل من علم الكلام .
  وإذا كانت أفعاله ـ تعالى وتقدس ـ كلها لمصلحتهم ، وما فيه تمام شرفهم ، والموت من جملة ذلك كما نطق به الوحي الإلهي في عدة آيات ، كقوله تعالى : ( وما كان لنفس ان تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ) (1) ، ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز إليكم الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) (2) ، ( أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) (3) ، ( الله يتوفى الانفس حين موتها ) (4) ، إلى غير ذلك من الآيات .
  فلولا أن في ذلك غاية المصلحة ، ونهاية الفائدة للعبد الضعيف الغافل عن مصلحته ، التائه في حيرته وغفلته ، لما فعله الله تعالى به ؛ لما قد عرفت من أنه أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، فإن حدثتك نفسك بخلاف ذلك فاعلم أنه الشرك الخفي ، وإن أيقنته ولم تطمئن نفسك وتسكن روعتك فهو الحمق الجلي .
  وإنما نشأ ذلك من الغفلة عن حكمة ( الله تعالى ) (5) في بريته ، وحسن قضائه في خليقته ، حتى أن العبد ليبتهل ويدعو الله تعالى أن يرحمه ، ويجيب دعائه في أمثال ذلك ، فيقول الله تعالى لملائكته : كيف أرحمه من شيء به أرحمه !‍ فتدبر ـ رحمك الله تعالى ـ في هذه الكلمة الإلهية ، تكفيك في هذا الباب إن شاء الله تعالى .
  الثاني : أنه إذا نظرت إلى أحوال الرسل عليهم السلام ، وصدقتهم فيما أخبروا به من الامور الدنيوية والاخروية ، ووعدوا به من السعادة الأبدية ، وعلمت أنهم إنما أتوا أتوا بما أتوا به عن الله جل جلاله ، ( واعتقدت أن قولهم ) (6) معصوم عن الخطأ ، محفوظ من الغلط والهوى ، وسمعت (7) ما وعدوا به من الثواب على أي نوع من أنواع المصاب (8) كما ستراه وتسمعه ، سهل عليك موقعه ، وعلمت أن لك في ذلك غاية الفائدة ، وتمام السعادة الدائمة ، وأنك قد أعددت لنفسك كنزاً من الكنوز مذخوراً (9) ، بل حرزاً ومعقلاً وجنة

-------------------------------
(1) آل عمران 3 : 145 .
(2) آل عمران 3 : 154 .
(3) النساء 4 : 78 .
(4) الزمر 39 : 42 .
(5) في نسخة ( د ) و ( ش ) : أيضاً .
(6) في نسخة ( د ) و ( ش ) : وقولهم .
(7) في نسخة ( د ) و ( ش ) : وسمع .
(8) في نسخة ( د ) و ( ح ) : المصائب .
(9) ليس في نسخة ( ش ) و ( د ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 20 _

  ( من العذاب الأليم والعقاب العظيم ) (1) ، الذي لا يطيقه بشر ، ولا يقوى به أحد ، مع أن ولدك مشاركك في هذه السعادة ، فقد فزت أنت وهو ، فلا ينبغي أن تجزع .
  ومثل نفسك : أنه لو دهمك أمر عظيم ، أو وثب عليك سبع أو حية ، أو هجمت عليك نار مضرمة ، وكان عندك أعز أولادك ، وأحبهم إلى نفسك ، وبحضرتك نبي من الأنبياء ، لا ترتاب في صدقه ، وأخبرك : أنك إن افتديت بولدك سلمت أنت وولدك ، وإن لم تفعل عطبت ، و ( الحال أنك ) (2) لا تعلم هل يعطب ولدك ، أو يسلم ؟
  أيشك عاقل أن الإفتداء بالولد الذي يتحقق معه سلامة الولد ، ويرجى معه ـ أيضاً ـ سلامة الوالد ، هو عين المصلحة ، وأن عدم ذلك ، والتعرض لعطب الأب والولد هو عين المفسدة ! بل ربٌما قدٌم كثير من النٌاس نفسه على ولده ، وافتدى به وإن تيقٌن عطب الولد ، كما اتفق ذلك في المفاوز (3) والمخمصة (4) .
  هذا كله في نار وعطب ينقضي ألمه في ساعة واحدة ، وربما ينتقل بعده إلى الراحة والجنة ، فما ظنك بألم يبقى أبد الآباد ، ويمكث سنين !؟ وإن يوماً عند ربك منها كألف سنة مما تعدون ، ولو وآها أحدنا ، وأشرف عليها ، لود أن يفتدي ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في ألارض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لضى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى (5) .
  ومن هنا جاء ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله ، أنه قال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه ، وقد مات ولده ، فاشتد حزنه عليه : ( يا ابن مظعون ، إن للجنة ثمانية أبواب ، وللنار سبعة أبواب ، أفما يسرك أن لا تأتي باباً منها إلا وجدت ابنك الى جنبه (6) ، آخذاً بحجزتك يستشفع لك إلى ربك (7) ، حتى يشفعه الله تعالى ؟ ) .
  وسيأتي له نظائر كثيرة إن شاء الله .
  الثالث : إنك تحب بقاء ولدك لينفعك في دنياك ، أو في آخرتك ، ولا تريد

-------------------------------
(1) في نسخة ( ش ) و ( د ) : من العذاب العظيم .
(2) ما بين القوسين ليس في ( ش ) و ( د ) .
(3) المفاوز : البوادي ( مجمع البحرين ـ فوز ـ 4 : 30 ) .
(4) المخمصة : المجاعة ( مجمع البحرين ـ خمص ـ 4 : 169 ) .
(5) إقتباس من سورة المعارج 70 : 11 / 18 .
(6) في نسخة ( ح ) وأمالي الصدوق : جنبك .
(7) رواه الصدوق في الامالي : 63 / 1 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 21 _

  في الأغلب بقاءه لنفسه ، فإن هذا هو المجبول عليه طبع الخلق ، ومنفعته لك على تقدير بقائه غير معلومة ، بل كثيراً ما يكون المظنون عدمها ، فإن الزمان قد صار في آخره ، والشقوة والغفلة قد شملت أكثر الخلائق ، وقد عز السعيد ، وقل الصالح الحميد ، فنفعه لك ـ بل لنفسه ـ على تقدير بقائه غير معلوم ، وانتفاعه الآن وسلامته من الخطر ونفعه لك قد صار معلوماً ، فلا ينبغي أن تترك الأمر المعلوم لأجل الأمر المظنون بل الموهوم ، وتأمل أكثر الخلف لأكثر السلف ، هل تجد منهم نافعاً لأبويه إلا أقلهم ، أو مستيقظاً إلا أوحديّهم حتى إذا رأيت واحداً كذلك ، فعد ألوفاً بخلافه ، وإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر الفذ (1) دون الأغلب الكثير ، عين الغفلة والغباوة ، فإن الناس بزمانهم أشبه منهم بآئهم ، كما ذكره سيد الوصيين ، وترجمان رب العالمين ، صلوات الله عليه وسلامه عليه .
  مع ان ذلك الفرد الذي تريد مثله ، إنما هو صالح نافع بحسب الظاهر ، وما الذي يدريك بباطنه وفساد نيته وظلمه لنفسه ؟ ! فلعلك لو كشفت عن باطنه ، ظهر لك أنه منطو على معاصي وفضائح ، لا ترضاها لنفسك ولا لولدك ، وتتمنى أن ولدك لو كان على مثل حالته يموت فإنه خير له .
  هذا كله إذا كنت تريد أن تجعل ولدك واحداً في العالمين ، وولياً من الصالحين ، فكيف وأنت لا تريده إلا ليرث بيتك ، أو بستانك ، أو دوابك ، وأمثال ذلك من الأمور الخسيسة الزائلة عما قريب ! وتتركه يرث الفردوس الأعلى في جوار اولاد النبيين والمرسلين ، مبعوثاً مع الآمنين الفرحين ، مربىً إن كان صغيراً في حجر سارة اُم النبيين ، كما وردت به الأخبار عن سيد المرسلين (2) ، ما هذا إلا معدود من السفه لو عقلت ! .
  ولو كان مرادك أن تجعله من العلماء الراسخين والصلحاء المتقين ، وتورثه علمك وكتبك وغيرها من أسباب الخير ، فاذكر ايضاً أن ذلك كله لو تم معك ، فما وعد الله تعالى من العوض على فقده أعظم من مقصدك ، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى .
  مثل ما رواه الصدوق ، عن الصادق عليه السلام : ( ولد واحد يقدمه الرجل ،

-------------------------------
(1) ليس في نسخة ( د ) و ( ش ) .
(2) روى الصدوق في الفقيه 3 : 316 / 2 ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الله تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة فإذا كان يوم القيامة البسوا وطيبوا واهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم وهو قول الله عز وجل : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 22 _

  أفضل من سبعين ولداً يبقون بعده ، يدركون القائم عليه السلام ) (1) .
  واعتبر أنه لو قيل : إن رجلاً فقيراً معه ولد عليه خلقان (2) الثياب ، قد أسكنه في خربة مقفرة ذات آفات كثيرة ، وفيها بيوت حيات وعقارب وسباع ضارية ، وهو معه على خطر عظيم ، فاطلع عليه رجل حكيم جليل ، ذو ثروة وحشمة (3) وخدم وقصور عالية ورتب سامية ، فرق لهذا الرجل ولولده ، فأرسل إليه بعض غلمانه : إن سيدي يقول لك : إني قد رحمتك مما بك في هذه الخربة ، وهو خائف عليك وعلى ولدك ( من العاهات ) (4) ، وقد تفضلت عليك بهذا القصر ، ينزل به ولدك ، ويوكل به جارية عظيمة من كرائم جواريه تقوم بخدمته إلى ان تقضي أنت أغراضك التي في نفسك ، ثم إذا قدمت ، وأردت الإقامة أنزلتك معه في القصر ، بل في قصر ، بل في قصر أحسن من قصره .
  فقال الرجل الفقير : أنا لا أرضى بذلك ، ولا يفارقني ولدي في هذه الخربة ، لا لعدم وثوقي بالرجل الباذل ، ولا زهداً مني في داره وقصره ، ولا لأماني على ولدي في هذه الخربة ، بل طبعي اقتضى ذلك ، وما أريد أن أخالف طبعي .
  أفما كنت ـ أيها السامع لوصف هذا الرجل ـ تعده من أدنياء السفهاء وأخساء الأغبياء ؟ ! فلا تقع (5) في خلق لا ترضاه لغيرك ، فإن نفسك أعز عليك من غيرك .
  واعلم ان لسع الافاعي ، وأكل السباع ، وغيرهما من آفات الدنيا لا نسبة لها إلى أقل محنة من محن الآخرة المكتسبة في الدنيا ، بل لا نسبة لها إلى إعراض الحق (6) سبحانه ، وتوبيخه ساعة واحدة في عرصة القيامة ، أو عرضة واحدة على النار مع الخروج منها بسرعة .
  فما ظنك بتوبيخ يكون ألف عام ، أو أضعافه ، وبنفحة من عذاب جهنم يبقى ألمها ألف عام ، ولسعة من حياتها وعقاربها يبقى ألمها أربعين خريفاً ! وأي نسبة لأعلى قصر في دار الدنيا ، إلى أدنى مسكن في الجنة ! وأي مناسبة بين خلقان الثياب في الدنيا

-------------------------------
(1) ثواب الأعمال : 233 / 4 .
(2) خَلُقَ الثوب بالضم : إذا بلي ( مجمع البحرين ـ خلق ـ 5 : 158 ) .
(3) في هامش : ( ح ) : وحشم .
(4) ليس في نسخة ( ش ) و ( د ) .
(5) في هامش ( ح ) : فاياك أن تقع .
(6) في ( ح ) : الخالق .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 23 _

  إلى فاخرها إلى أعلى ما في الدنيا ، بالإضافة إلى سندس الجنة وإستبرقها ، وهلم جرا إلى ما فيها من النعيم المقيم ؟ !
  بل لو تأملت بعين بصيرتك في هذا المثل ، وأجلت فيه رؤيتك ، علمت أنّ ذلك الكريم الكبير ، بل جميع العقلاء لا يرضون من ذلك الفقير بمجرد تسليم ولده ورضاه بأخذه ، بل لا بدّ في الحكمه من حمده عليه وشكره عليه وشكره ، وإضهار الثناء عليه بما هو أهله ؛ لأن ذلك هو مقتضى حق النعمة .
  الرابع : إن في الجزع بذلك والسخط انحطاطاً عظيماً عن مرتبة الرضى بقضاء الله تعالى ، وفي فوات ذلك خطر وخيم ، وفوات نيل عظيم ، فقد ذم الله تعالى من سخط بقضائه ، وقال : ( من لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، فليعبد رباً سواي ) (1) .
  وفي كلامه تعالى لموسى عليه السلام حين قال له : دلني على أمر فيه رضاك ، قال : ( إنّ رضاي في رضاك بقضائي ) (2) .
  وفي القرآن الكريم : ( رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (3) .
  وأوحى الله تعالى إلى داود : ( يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم ما أريد أتعبك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ) (4) .
  وقال تعالى : ( لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بمَا آتاكُم ) (5) .
  واعلم أن الرضى بقضاء الله ـ تعالى ـ ثمرة المحبة لله ، إذ من أحب شيئاً رضي بفعله ، ورضى العبد عن الله دليل على رضى الله تعالى عن العبد ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وصاحب هذه المرتبة مع رضى الله تعالى عنه ـ الذي هو أكمل السعادات ، وأجل الكمالات ـ لا يزال مستريحاً ؛ لأنه لم يوجد منه أريد ولا أريد ، كلاهما عنده واحد ، ورضوان الله أكبر ، إن ذلك لمن عزم الاُمور .
   وسيأتي لذلك بحث آخر أن شاء الله تعالى في باب الرضا (6) .

-------------------------------
(1) جامع الأخبار : 133 ، دعوات الراوندي : 169 / 471 ، الجامع الصغير 2 : 235 / 6010 .
(2) رواه الراوندي في دعواته : 164 / 453 ، باختلاف يسير .
(3) المائدة 5 : 119 .
(4) رواه الصدوق في التوحيد : 337 / 4 .
(5) الحديد 57 : 23 .
(6) يأتي في ص 79 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 24 _

  واعلم أن البكاء لا ينافي الرضى ، ولا يوجب السخط ، وإنما مرجع ذلك إلى القلب ، كما ستعرفه ـ إن شاء الله تعالى ـ ومن ثم بكاء الأنبياء والأئمة عليهم السلام على أبنائهم وأحبائهم ، فإن ذلك أمر طبيعي للإنسان ، لا حرج فيه إذا لم يقترن بالسخط ، وسيأتي .
  الخامس : أن ينظر صاحب المصيبة إلى أنه في دار قد طبعت على الكدر والعناء ، وجبلت على المصائب والبلاء ، فما يقع فيها من ذلك هو مقتضى جبلتها وموجب طبيعتها ، وإن وقع خلاف ذلك فهو على خلاف العادة لأمر آخر ، خصوصاً على الأكابر والنبلاء من الأنبياء والأوصياء والأولياء ، فقد نزل بهم من الشدائد والأهوال ما يعجز عن حمله الجبال ، كما هو معلوم في المصنفات ، التي لو ذكر بعضها لبلغ مجلدات .
  وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالامثل ) (1) .
  وقال النبي صلى الله عليه وآله : ( الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ) (2) .
  وقد قيل : إن الدنيا ليس فيها لذة على الحقيقة ، إنما لذاتها راحة من مؤلم ، هذا وأحسن لذاتها ، وأبهى بهجاتها مباشرة النساء ، المترتب عليه حصول الأبناء ، كم يعقبه من قذى (3) ، أقله ضعف القوى وتعب الكسب والعناء ، ومتى حصل محبوب كانت آلامه تربو على لذاته ، والسرور به لا يبلغ معشار حسراته ، وأقل آفاته في الحقيقة الفراق الذي ينكث (4) الفؤاد ، ويذيب (5) الأجساد .
  فكلما تظن في الدنيا أنه شراب سراب ، وعمارتها ـ وإن حسنت ـ إلى

-------------------------------
(1) رواه الكليني في الكافي 2 : 196 / 2 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1334 / 4023 ، والترمذي في سننه 4 : 28 / 2509 ، وأحمد في مسنده 1 : 172 ، 180 ، 185 ، والدارمي في سننه 2 : 320 ، والحاكم النيسابوري في مستدركه 1 : 41 و 4 : 307 ، باختلاف يسير .
(2) رواه الصدوق في الفقيه 4 : 262 ، والطوسي في أماليه 2 : 142 ، ومحمد بن همام في التمحيص : 48 : 76 ، ومسلم في صحيحه 4 : 2272 / 2956 ، وأحمد في مسنده 2 : 323 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1378 / 4113 .
(3) القذى : ما يقع في العين والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك ( مجمع البحرين ـ قذى ـ 1 : 335 ) .
(4) ينكث : من النكث وهو النقض والهدم والهزال ( القاموس المحيط ـ نكث ـ 1 : 176 ) .
(5) في ( ح ) : ويذهب .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 25 _

  خراب ، ومالها ـ وإن اغتر بها الجاهل ـ إلى ذهاب ، ومن خاض الماء الغمر (1) لا يجزع من بلل ، كما أن من دخل بين الصفين لايخلوه من وجل ، ومن العجب من أدخل يده في فم الأفاعي كيف ينكر اللسع ، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع !
  وما أحسن قول بعض الفضلاء (2) في مرثية ابنه :
طبعت على كدر وأنت تريدها      صفواً   من  الأقذاء  والأكدار
ومكلف   الأيام  ضد  iiطباعها      متطلب  في  الماء  جذوة iiنار
وإذا  رجوت  المستحيل iiفإنما      تبني  البناء  على  شفيرٍ iiهار
  وقال بعض العارفين : ينبغي لمن نزلت له مصيبة أن يسهلها على نفسه ، ولا يغفل عن تذكّر ما يعقبه من وجوب الفناء وتقتضي المسار ، وأن الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، يجمعها من لا عقل له ، ويسعى لها من لا ثقة له ، وفيها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، من صح فيها سقم ، ومن سقم فيها برم ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن استغنى فيها فتن .
  واعلم أنك قد خلقت في هذه الدار لغرض خاص ؛ لأن الله تعالى منزه عن العبث، وقد قال الله تعالى : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) (3) وقد جعلها مكتسبا لدار القرار ، وجعل بضاعتها الأعمال الصالحة ، ووقتها العمر ، وهو قصير جداً بالنظر إلى ما يطلب من السعادة الأبدية ، التي لا انقضاء لها .
  فإن اشتغلت بها ، واستيقظت استيقاظ الرجال ، واهتممت بشأنك اهتمام الأبدال ، رجوت أن تنال نصيبك منها ، فلا تضيع عمرك في الإهتمام بغير ما خلقت له ، يضيع وقتك ، ويذهب عمرك بلا فائدة ؛ فان الغائب لا يعود والميت لا يرجع ، وتفوتك

-------------------------------
(1) الغمر : بفتح الغين وسكون الميم : الكثير .
(2) هو علي بن محمد بن نهد التهامي ، أبو الحسن ، شاعر مشهور من أهل تهامة ، زار الشام والعراق ، وولي خطابة الرملة ، ثم رحل إلى مصر ، متخفيا ، فعلمت به حكومة مصر ، فاعتقل وحبس في دار البنود ، ثم قتل سراً في سجنه سنة 416 هـ ، قال ابن خلكان : له مرثية في ولده وكان قد مات صغيراً ، وهي في غاية الحسن، ويقال : إن بعض أصحابه رآه في النوم بعد موته ، فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقال : بأي الاعمال ؟ فقال : بقولي في مرثية ولدي الصغير :
جاورت أعدائي وجاور ربه      شتان  بين جواره iiوجواري
  اُنظر ( وفيات الأعيان 3 : 378 / 471 ، الأعلام للزركلي 4 : 327 ) .
(3) الذاريات 51 : 56 .