والآن سنقرأ من النصوص الثابتة ما يدحض معاذير علماء التبرير التي ساقوها ، ايغالاً في التحوير والتزوير ، ليخفوا حقائق الأمر الواقع ، ستراً على الشخوص والرموز ، وانصياعاً مع قداسة الموروث .
وقد يكون الكثير من القرّاء خصوصاً من لا يزال تحت ضغط الرواسب ، لم يطلع عليها من قبل ، أو اطّلع عليها فشك في صحتها ، وتمادى به الشك حتى أنكرها وولّى عنها مستكبراً ، وتحامل بظلم على أصحابه فرماهم بالعظائم مما هم بريئون منه ، وأدنى ما قال فيهم أنهم من الشيعة ، أو رواتهم من الشيعة ، أو ، أو ، كما مرّ في وقفة مع المصادر ، وكأنّه لم يقرأ ولم يسمع قوله تعالى : ( أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلا أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) .
لذلك فسوف نقرأ النصوص من مصادر موثوقة جميعها من التراث السني ، لما قدمناه أول الرسالة وكررنا ذكره ، انّ ذلك أبلغ في اقناع المنكرين ، وأدحض لحجة المستنكرين ، وأبعد من تهمة المعاندين المستكبرين ، فإذا كان كل ما سنقرأ بروايات أئمة حفاظهم من المحدّثين والمؤرّخين ، كذباً على أبي بكر وبقية رموز المشايعين والمتابعين ، فما ذنب الذين يحتجون عليهم بمروياتهم ، وهم أصحاب التراث السني الكبير الكثير ؟
---------------------------
(1) يونس : 35 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 202 _
والآن لنقرأ حديث أبي بكر مع عبد الرحمن بن عوف في مرضه الذي مات فيه ، وما لحقه من ايهام واستبهام مما ينصب أكثر من علامة استفهام ، فليقرأه أبناء الإسلام .
أخرج الطبري في تاريخه (1) ، وابن عبد ربه المالكي الأندلسي في كتابه العقد الفريد (2) ، وغيرهما كالجوهري والطبراني ممّن يمكن الرجوع إليهم لغرض المقارنة والتأكيد على صحة جوهر النص، لأن التفاوت في المنقول قد يوحي بالشك في صحة المنقول ، ولمّا كانت رواية الطبري وابن عبد ربه أوفى سنداً من رواية غيرهما ، فعنهما نذكر النص ، وهو كما يلي :
قال الطبري : حدّثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدّثنا الليث بن سعد ... وقال ابن عبد ربه : قال أبو صالح : أخبرنا محمد بن وضاح ، قال : حدّثني محمد بن ... بن المهاجر التميمي ، قال حدّثني الليث بن سعد (3) قال : حدّثنا علوان ، عن صالح بن كيسان ، عن عمر (4) بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه أنّه دخل على أبي بكر في مرضه الذي توفي فيه ، فأصابه مهتمّاً (5) فقال له عبد الرحمن : أصبحت والحمد لله بارئاً ! فقال أبو بكر :
---------------------------
(1) تاريخ الطبري 3 : 429 / 431 .
(2) العقد الفريد 4 : 267 .
(3) من هنا يتفق سند الطبري مع سند ابن عبد ربه ، فنسوق الخبر برواية الطبري، ونشير إلى الإختلاف بين الروايتين سنداً ومتناً .
(4) كذا في الطبري وفي العقد الفريد : عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، وسيأتي ذكره في أحد اسنادين آخرين في آخر الخبر عند الطبري .
(5) في العقد : ( مفيقاً ) .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 203 _
أتراه ؟ قال : نعم ، قال : ( أما إنّي على ذلك لشديد الوجع ، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي ) (1) .
إنّي وليت أمركم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الأمر له دونه ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا تقبل ، وهي مقبلة ، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج ، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري (2) كما يألم أحدكم أن ينام على حسك ( شوك السعدان ) والله لأن يُقدّم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا ، وأنتم أول ضالّ بالناس غداً ، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً ، يا هادي الطريق إنّما هو الفجر أو البجر (3) .
فقلت له : خفض عليك رحمك الله ، فإنّ هذا يهيضك في أمرك ، إنّما الناس في أمرك بين رجلين : إما رجل رأى ما رأيت فهو معك ، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك ، وصاحبك كما تحب ، ولا نعلمك أردت إلاّ خيراً ، ولم تزل صالحاً مصلحاً ، وأنّك لا تأسى على شيء من الدنيا .
قال أبو بكر : أجل ، إنّي لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهنّ وددت أنّي تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ وددت أنّي فعلتهنّ ، وثلاث وددت أنّي سألت عنهنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فأمّا الثلاث اللاتي وددت أنّي تركتهنّ : فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد غلقوه على حرب ، ووددت أنّي لم أكن حرقت الفجاءة السُلمي (4) ، وانّي كنت قتلته سريحاً أو خلّيته نجيحاً (5) ، ووددت أنّي يوم سقيفة بني
---------------------------
(1) ما بين القوسين من العقد الفريد .
(2) نسبة إلى آذربيجان .
(3) البجر _ بالفتح والضم ـ الداهية والأمر العظيم .
(4) كان قد أتى أبا بكر فادعى الإسلام، وطلب إليه مشاركته في جهاد المرتدين وأن يحمله ، فحمله، وأعطاه سلاحاً فشد غارة على كل مسلم ، ولمّا أمكنت الفرصة منه وجيىء به إلى أبي بكر أمر فأوقدوا ناراً ثم أمر به فرموه مقموطاً فيها ، وقول أبي بكر : كنت قتلته سريحاً أو خليّته نجيحاً .
(5) القتل السريح : السريع ، والنجيح : الوشيك .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 204 _
ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً .
وأما اللاتي تركتهنّ : فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنّه تخيل إليّ أنّه لا يرى شراً إلاّ أعان عليه ، ووددت أنّي حين سيّرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة (1) ، فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإن هربوا كنت بصدد لقاء أو مدداً .
ووددت أنّي كنت إذ وجّهت خالد بن الوليد إلى الشام ، كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق ، فكنت قد بسطت يديّ كلتيهما في سبيل الله ـ ومدّ يديه_ ، ووددت أنّي كنت سألت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لمن هذا الأمر ؟ فلا ينازعه أحد ، ووددت أنّي كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ؟ ووددت أنّي كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة ؟ فإنّ في نفسي منهما شيئاً .
قال لي يونس : قال لنا يحيى : ثم قدم علينا عُلوان بعد وفاة الليث ، فسألته عن هذا الحديث فحدّثني به كما حدّثني الليث بن سعد حرفاً حرفاً ، وأخبرني أنّه هو حدّث به الليث بن سعد ، وسألته عن أبيه ، فأخبرني أنّه علوان بن داود .
---------------------------
(1) موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلاً ، وبه نزل أبو بكر في خلافته لما وجّه خالد بن الوليد لقتال أهل الردة ( معجم البلدان ) ، وقال عبد الله الليثي : ـ وكانت بنو عبد مناة من المرتدة ـ وهم بنو ذبيان ـ في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حمى : أطعنا رسول الله ما كان بيننا أيورثها بكراً إذا مات بعده وهلاً خشيتم حس راغية البكر وإن التي سالوكم فمنعتمُ فيالعباد الله ما لأبي بكر وتلك لعمر الله قاصمة الظهر فهلا رددتم وفدنا بزمانه لكالتمر أو أحلى إليّ من التمر
تاريخ الطبري 340 : 246 ، وأوردها دون البيت الرابع الأصبهاني في الأغاني 3 : 157، منسوبة للحطيئة .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 205 _
وحدّثني محمد بن إسماعيل المرادي ، قال : حدّثنا عبد الله بن صالح المصري ، قال : حدّثني الليث ، عن عُلوان ، عن صالح بن كيسان ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أنّ أبا بكر قال : ـ ثم ذكر نحوه ، ولم يقل فيه ( عن أبيه ) _ .
إلى هنا انتهى النص ، وقد عقب عليه الطبري بإسنادين آخرين لروايته زيادة في التوثيق .
وقد مرّت الإشارة إلى أن هذا الخبر قد رواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري ( كان حياً سنة 320 هـ ) ، في كتاب السقيفة ، وما ذكره رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (1) ، حيث انتصب قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي مدافعاً عن أبي بكر ، وما طعن به عليه من هذا الخبر ، وذكر ابن أبي الحديد ردّ الشريف المرتضى عليه في كتابه الشافي ، وسيأتي ذكر ذلك .
كما سيأتي ذكر أكثر من عشرة آخرين رووا الخبر بتفاوت رواياتهم ، وجرى عليه من بعضهم محاولات بائسة ويائسة ، تكتماً وتلعثماً ، حتى أنّ بعضهم ذكر خبر عيادة عبد الرحمن بن عوف وتبرم أبي بكر ، لكنّه ألغى ذكر جميع المثلثات ، وآخر ذكرها دون ذكر ( كشف بيت فاطمة ) فكنّى عنه بقوله : ( كذا وكذا ) .
وثالث ذكرها وسمى البيت بيت علي ، تهرباً من ذكر بيت فاطمة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، غافلاً أو متغافلاً عن أنّ بيتهما واحد ، وهما في الحرمة سيان ، وبيتهما من أفاضل تلك البيوت التي أمر الله سبحانه وتعالى بأن تصان حرمتها ويعرف قدرها ، كما في رواية أنس وبريدة ، وقد رواها الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (2) ، والسيوطي في الدر المنثور (3) في ذيل تفسير قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (4) في سورة النور قال :
---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 2 : 45 / 47 ، وأشار إليه ثانية في 17 : 14 .
(2) شواهد التنزيل 1 : 41 .
(3) الدر المنثور 5 : 50 .
(4) النور : 36 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 206 _
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قالا : قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذه الآية : ( فِي بُيُوت أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله ؟
قال : بيوت الأنبياء ، فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها _ لبيت علي وفاطمة ـ قال : نعم ، من أفاضلها _ من أفضلها .
وهذا فيما أحسب هو الذي حدا بجمع من المحدّثين والمؤرّخين التستر على شناعة المثلثات ، وما فيها من إدانة لأبي بكر والطعن عليه ، خصوصاً ذكر ( كشف بيت فاطمة ) فذكره يعني الاعتراف بالإساءة والمهانة ، وهو حقيق بالإدانة .
ولئلا يظن ظان مستنكر أو متعال مستكبر أنّ ذلك منّا مجرّد تهويل، فلنعرض أمام القرّاء ما لحق مثلثات أبي بكر من تضليل ، فنقول :
إنّ أول من وقفت عليه مستعظماً ذكر ( كشف بيت فاطمة ) صراحة ، هو أبو عبيد القاسم ابن سلام ( ت 224 هـ ) ، في كتابه ( الأموال ) ، فقد ذكر الخبر وبادر إلى الكناية عن ( كشف بيت فاطمة ) فقال : ( أما الثلاث التي فعلتها ، ووددت أنّي لم أفعلها : فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا لخلة ذكرها لا أريد ذكرها ) ، وهذا ما جعلنا نهزأ منه حتى قلنا : إنّها لملكية فوق الملك .
فأبو بكر نفسه يذكر الخلّة ـ كشف بيت فاطمة ـ نادماً عليها وأبو عبيد يأبى ذكرها !
وللإنصاف أن نقول له : إنّ حميد بن زنجويه ( ت 251 هـ ) ، الذي أتى بعدك زماناً ، وهو أقل ذكراً وشأناً ، كان أفصح بياناً وأقوى جناناً ، فقد ذكر الخبر مرّتين في كتابه الأموال ، كانت الأولى في صفحة 303 / 305 ، فذكر الخبر بنصّه وفصّه لم يغير شيئاً مما يمس جوهر القضية ، وحتى في إسناده كان رجاله ثقاة (1) .
---------------------------
(1) كتاب الأموال لحميد بن زنجويه 1 : 303 / 305 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 207 _
لكنه في المرّة الثانية في صفحة / 347 فقد ذكر النص بسند آخر .
فقال فيه : ( أما اللاتي وددت أنّي تركتهنّ ، فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا ، لشيء ذكره . . . ) وهذا منه مستغرب بعد ذكره أولاً كما مرّ ، ولا أحسبه إلاّ أنّه إنهار أمام تهديد أو وعيد ، فاتقى الشر فذكره كناية .
أما ثالث القوم الذين تلاعبوا بالنص بصورة غير ذكية ، فهو أبو العباس المبرد في كتابه الكامل (1) ، فقد ذكر الخبر مقتصراً على حديث أبي بكر مع عبد الرحمن بن عوف من دون ذكر المثلثات ، وهذا ممّا يؤاخذ عليه .
ورابعهم كان المسعودي الشافعي ( ت 345 هـ ) ، فهو ليس بدون من تقدّمه في تعامله مع النص بغير مسوّغ ، فقد ذكره في كتابه مروج الذهب (2) ، فقال : ( ومرض أبو بكر قبل وفاته بخمسة عشر يوماً ، ولمّا احتضر قال : ما آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتها وددت أنّي تركتها ، فوددت أنّي لم أكن فتشت بيت فاطمة ، وذكر كلاماً كثيراً ) ، فعدم ذكره ذلك الكلام الكثير مما يؤاخذ عليه .
وخامسهم الباقلاني ( ت 403 هـ ) ، فقد ذكر في كتابه إعجاز القرآن (3) ، عيادة عبد الرحمن بن عوف لأبي بكر ، وحديث أبي بكر وتبرّمه من أصحابه ، ولم يذكر عن المثلثات شيئاً ، فحذفها جملة وتفصيلاً ، وقد مرّ في نظرة إلى المصادر ما في طبعتي الكتاب ، وعمل المحققين فيه فراجع .
وسادس هذا النمط المفرط في الايهام والاستبهام ، أبو نعيم الاصبهاني ( ت 430 هـ ) ، فقد ذكر في كتابه حلية الأولياء (4) حديث أبي بكر مع عبد الرحمن
---------------------------
(1) الكامل 1 : 6 .
(2) مروج الذهب 2 : 308 .
(3) إعجاز القرآن للباقلاني 210 / 211 .
(4) حلية الأولياء 1 : 34 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 208 _
بن عوف الا ذكر المثلثات ، فلم يأت بشيء عنها أبدا ، لماذا ذلك ؟ والجواب لا يخفى على أولي الألباب .
نعم ، ذكر نصاً يوحي بندامة أبي بكر على ما فرّط ، فقد قال : إنّ عمر دخل على أبي بكر وهو يجبذ لسانه ، فقال له عمر : مه ؟ غفر الله لك ، فقال أبو بكر : إن هذا أوردني الموارد (1) .
وسابع تابع لم يتخلّف عن المسيرة ، وذلك هو الحافظ الهيثمي ( ت 807 هـ ) ، فقد ذكر الحديث في مجمع الزوائد (2) ، وقال : رواه الطبراني وفيه علوان بن داود البجلي وهو ضعيف ، وهذا الأثر مما أنكر عليه .
وثامنهم المتقي الهندي ( ت 975 هـ ) ، ذكر الخبر في كنز العمّال (3) ، وذكر في الكنز مصادره التي روى الخبر عنها فقال : ( أبو عبيد في كتاب الأموال ، عق ، وخيثمة بن سليمان الإطرابلسي في فضائل الصحابة ، طب ، كر ، حن ) وقال : إنّه حديث حسن إلاّ أنّه ليس فيه شيء عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أخرج ( خ ) في كتابه غير شيء من كلام الصحابة ) .
أقول : إنّ المتقي الهندي أشار إلى المصادر التالية :
1 ـ كتاب الأموال لأبي عبيد ، وقد تقدم ذكره ، وإنّ المطبوع ليس فيه التصريح بكشف بيت فاطمة ، فراجع .
---------------------------
(1) حلية الأولياء 1 : 33 ، قال الجوهري في الصحاح : 1059 ، وفي حديث أبي بكر حيث دخل عليه عمر وهو ينصنص لسانه ، ويقول : هذا أوردني الموارد، قال أبو عبيد هو بالصاد لا غير ، قال : وفيه لغة أخرى ليست في الحديث نضنضت بالضاد ، وكذا جاء في لسان العرب، وتاج العروس وغيرهما في مادتي : ( نص ) و ( نض ) ، فراجع .
(2) مجمع الزوائد 5 : 202 / 203 .
(3) كنز العمال 5 : 368 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 209 _
2 ـ عق = يعني كتاب الضعفاء للعقيلي (1) ( ت 322 هـ ) ، وهو قد ذكر الخبر في ترجمة عُلوان بن داود بأربعة أسانيد ، ومع ذلك فقد جرح عُلوان فوصفه : بأنّه منكر الحديث .
3 ـ خيثمة = يعني خيثمة بن سليمان الإطرابلسي ، ( ت 343 هـ ) ، له كتاب فضائل الصحابة ، والخبر فيه في ترجمة أبي بكر .
4 ـ طب = يعني الطبراني ، ذكر الخبر في المعجم الكبير (2) .
5 ـ كر = يعني ابن عساكر في تاريخ دمشق ، والخبر فيه في ترجمة أبي بكر .
6 ـ ص = يعني سعد بن منصور ( ت 227 هـ ) ، والخبر في سننه .
فهذه ستة مصادر سبق ذكر الأول منها فقط ، وتضاف الخمسة الباقية إلى الأرقام الثمانية التي استعرضنا ما عند أصحابها ممّن لم يستمرؤا طعم مرارة الاعتراف ، ولم يخضعوا لقبول الحق والإنصاف ، فتحامل بعضهم على الرواة ، وأجهز بعضهم على الخبر فبتر منه ما ظن يجديه ، وما درى أن الحذف أو الاضمار ليس يغنيه ، مهما فعل حفاظاً على قداسة الموروث مما يعنيه ، فأبو بكر نفسه قال ذلك واعياً جازماً ، وآسفاً نادماً .
وأجدى بهم لو قالوا لأتباعهم وأشياعهم إنّه قال ذلك هجراً من غلبة الوجع عليه ، كما سبق لهم أن قالوا تبعاً لعمر بن الخطاب ومن شايع وتابع ، حين قال في النبي ( صلى الله عليه وآله ) مثل ذلك ، كما في حديث الرزية كل الرزية ويرويه حبر الأمة عبد الله بن عباس ويبكي حتى يبلّ بدموعه الحصباء ، وحديثه في البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح والسنن والسيرة .
ولكنّهم تشبثوا في المقام بنسائج العنكبوت ، وأقوى من شمّر فاشتهر بحرارة الدفاع وطول الباع ، هو قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني ، إلا أنّه لم يحسن قيلاً ولم يغن فتيلاً ، ولقد انبرى لتفنيد مزاعمه وأباطيله ، وكشف تدجيله وأضاليله ، الشريف المرتضى علم الهدى ( رحمه الله ) (1) في كتابه الشافي ، وهو شافٍ وكافٍ ، وقد لخصه الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) .
ومن الخير أن أعرض أمام القارئ ملخص ما قاله الأول ـ عبد الجبار _ وما رد الثاني ـ الشريف المرتضى ـ في خصوص المقام نقلاً عن تخليص الشافي، لئلا يظن بنا ظان غير الحق والصدق .
كما ننقل ذلك برواية ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة ، فهو قد نقل النص عن الشافي بواسطة تلخيصه ، وإن لم يصرّح بذلك .
روى ابن أبي الحديد في شرح النهج (2) ، قال : قال : قاضي القضاة . . . : ومما طعنوا به على أبي بكر أنه قال عند موته : ليتني كنت سألت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن
---------------------------
(1) أقول : وشمّر ابن أبي الحديد عن ساعديه ، وانبرى ناصباً من نفسه قاضياً ، فعقّب على كلام الشريف المرتضى وناقشه في رده على قاضي القضاة ، في مسألة الشك في الإمامة، وتمني أبي بكر السؤال عنها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورده على القاضي في الاستشهاد بالآية المباركة في مسألة إبراهيم ( عليه السلام ) ، وأطال في ذلك فمن أراده فليراجعه ،
ويعنينا في المقام تعقيبه على تمني أبي بكر عدم كشف بيت فاطمة ( عليها السلام ) ، وقد أنكره قاضي القضاة وأثبته الشريف المرتضى، قال ابن أبي الحديد : وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة ( عليها السلام ) فقد تقدم الكلام فيه ، والظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى والشيعة ، ولكن لا كل ما يزعمونه ، بل كان بعض ذلك ، وحقٌ لأبي بكر أن يندم ويتأسّف على ذلك ، وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى ، فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعناً عليه .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 164 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 211 _
ثلاثة : فذكر في أحدها : ليتني كنت سألت هل للأنصار في هذا الأمر حق ؟ قالوا : وذلك يدل على شكه في صحة بيعته .
وربما قالوا : قد روي أنّه قال في مرضه : ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني في ظلة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين ، فكان هو الأمير وكنت الوزير .
قالوا : وذلك يدلّ على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة ( عليها السلام ) ، عند اجتماع علي ( عليه السلام ) والزبير وغيرهما فيه ، ويدلّ على أنّه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه .
قال قاضي القضاة : والجواب أنّ قوله : ( ليتني ) لا يدل على الشك فيما تمنّاه ، وقول إبراهيم ( عليه السلام ) : ( ر َبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (1) أقوى من ذلك في الشبهة ، ثم حمل تمنّيه على أنه أراد سماع شيء مفصل ، أو أراد : ليتني سألته عند الموت لقرب العهد ، لأنّ ما قرب عهده لا يُنسى ، ويكون أردع للأنصار على ما حاولوه .
ثم قال : على أنّه ليس في ظاهره أنّه تمنى أن يسأل : هل لهم حق في الإمامة أم لا ؟ لأنّ الإمامة قد يتعلّق بها حقوق سواها ، ثم دفع الرواية المتعلّقة ببيت فاطمة ( عليها السلام ) ، وقال : فأمّا تمنيه أن يبايع غيره : فلو ثبت لم يكن ذماً ، لأنّ من اشتد التكليف عليه فهو يتمنّى خلافه .
ثم قال ابن أبي الحديد (2) : اعترض المرتضى ( رحمه الله ) هذا الكلام فقال : ليس يجوز أن يقول أبو بكر : ( ليتني كنت سألت عن كذا ) إلاّ مع الشك والشبهة ، لأنّ مع العلم واليقين لا يجوز مثل هذا القول ، هكذا يقتضي الظاهر ، فأمّا قول
إبراهيم ( عليه السلام ) ، فإنّما ساغ أن يعدل عن ظاهره لأنّ الشك لا يجوز على الأنبياء ويجوز على غيرهم ، على أنّه ( عليه السلام ) قد نفى عن نفسه الشك بقوله : ( بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل . . . وأيّ شيء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله : ( إنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ لهذا الحي من قريش ) وأيّ فرق بين ما يقال عند الموت ، وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظاً معلوماً ، لم ترفع كلمة ولم تنسخ .
فأمّا قوله : إنّا قد بيّنا أنّه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنّى أنّه لم يفعله ، فقد بينّا فساد ما ظنّه فيما تقدم ، فأمّا قوله : إنّ من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه ، فليس بصحيح، لأنّ ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين ، والنظر للمسلمين في تلك الحال ، وما عداها كان مفسدة ، ومؤدياً إلى الفتنة ، فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحاً .
والآن فلنستعرض نصوص الإدانة ، ننقلها بأمانة من مصادر موثوقة عند الخصوم ، وليقرأها القارئ بإمعان وتدبّر، ليعرف مدى الظلم الذي ألحقه نفرٌ من الصحابة بالقرابة ، مع قرب العهد بوصايا الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) بهم ، وهو بعدُ لم تجنّه أكفانه ، اكتنفه أهله الأدنون ومعهم من قوي إيمانه ، وعافهم من خفّ ميزانه وغرّه أعوانه ، فكانت السقيفة ، وتنصيب الخليفة ، وتتابعت الأحداث على علي والزهراء ( عليهما السلام ) حتى ماتت بغصّتها أسيفة .
وسنأتي على ذكر النصوص حسب تسلسلها في مصادر المؤرّخين الذين مرّ ذكرهم والتعريف بهم ، وربما أشرنا إلى ما عند غيرهم مما يوافق ما عندهم .
فماذا عندهم ؟
ما ذكره ابن إسحاق :
أولاً : ماذا عند محمد بن إسحاق ( ت 151 هـ ) ؟
النص الأوّل : قال ابن إسحاق : ولمّا قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل عليّ بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ، فأتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر ، فقال : إنّ هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة ، فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بيته لم يُفرغ من أمره ، قد أغلق دونه الباب أهلُه ، قال
المحسن السبط مولود أم سقط _ 214 _
عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه (1) .
فهذا الخبر صريح بأنّ الانقسام والتحزب ظهر عند الصحابة حين قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يعقل ولا يقبل أن يقال بحدوثه مقارناً لظهوره ، بل إن جذور الخلاف كانت موجودة قبل ذلك الحين ، إذ لا يكون ظهور إلاّ بعد خفاء ، وهذا ما نجد له شواهد في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد عرف ذلك منهم ، فحذّرهم مغبّة العواقب السيّئة ، وأنذرهم بسوء العاقبة ، ودعاهم إلى وحدة الكلمة وتوحيد الصف ، وأبان لهم أنّه تركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها .
كما أنّ الخبر صريح بأنّ رموز الصحابة من مهاجرين وأنصار _ عدا أهل البيت ( عليهم السلام ) _ قد تركوا الجثمان الطاهر ، وانصرفوا يتنازعون أمر الخلافة .
والخبر صريح بأنّ أهل البيت ( عليهم السلام ) قد أغلقوا دونه الباب ، وهنا تبدو إشارة خفيّة إلى أنّ ابن إسحاق قد غصّ بذكر أسماء من هم أهله الذين أغلقوا دونه الباب وعمّن أغلقوه ؟ ولا ضير فإنّ ابن إسحاق يعيش في كنف العباسيين ، وهو بمثابة مؤرّخ دولة رسمي عندهم ، فكيف يجرأ على أن يذكر الأسماء ، ولابد له من ذكر علي ( عليه السلام ) في أولهم وفي مقدمتهم ، ثم يذكر العباس وابنه الفضل ، وهذا ما لا يرضاه أولياء نعمته ، ففي الكتمان السلامة ، وإن لحقته في ذلك الملامة .
النص الثاني : قال ابن إسحاق : وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار ، انّ عبد الله بن أبي بكر حدّثني عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عوف ـ قال : وكنت في منزله بمنى أنتظره ، وهو عند عمر في آخر حجة حجّها
---------------------------
(1) انظر : السيرة النبوية لابن هشام في أمر سقيفة بني ساعدة : ق 2/656 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 215 _
عمر _ قال : فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر ، فوجدني في منزله بمنى أنتظره ـ وكنت أقرئه القرآن ـ .
قال ابن عباس : فقال عبد الرحمن بن عوف : لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً ، والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت ، قال : فغضب عمر ، فقال : إنّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس ، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم .
قال عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، وإنّهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وإنّي أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها اولئك عنك كل مطير ، ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة ، فإنّها دار السنة ، وتخلّص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً ، فيعي أهل الفقه مقالتك ، ويضعوها على مواضعها ، قال : فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة .
قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجّلت الرواح حين زالت الشمس ، فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر ، فجلست حذوه ، تمسّ ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب ، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد : ليقولنّ العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف ، قال : فأنكر عليّ سعيد بن زيد ذلك ، وقال : ما عسى أن يقول ما لم يقل قبله ؟ .
فجلس عمر على المنبر ، فلمّا سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهل له ، ثم قال : أمّا بعد ، فإنّي قائل لكم اليوم مقالة ، قد قدّر لي أن أقولها ، ولا أدري
المحسن السبط مولود أم سقط _ 216 _
لعلّها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب عليّ :
إنّ الله بعث محمداً وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، وإذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف .
ثم إنّا قد كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : ( لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) ألا إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله ) .
ثم إنّه قد بلغني أنّ فلاناً قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً ، فلا يغرنّ امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، وإنّها قد كانت كذلك ، إلا أنّ الله قد وقى شرّها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فإنّه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا .
إنّه كان من خبرنا حين توفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) أنّ الأنصار خالفونا ، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة ، وتخلّف عنّا علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : إنطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يامعشر المهاجرين ، اقضوا أمركم ، قال : قلت : والله لنأتينّهم .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 217 _
فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل (1) ، قلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ماله ؟ فقالوا : وجع .
فلما جلسنا تشهّد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت دافّة من قومكم (2) ، قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر .
فلمّا سكت أردت أن أتكلم ، وقد زوّرت (3) في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم وهو كان أعلم منّي وأوقر ، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل حتى سكت .
قال : أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيّهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئاً ممّا قاله غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يُقرّبني ذلك إلى إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر .
قال قائل من الأنصار : أنا جُذيلها المحكك (4) وعذيقها المرجب (5) ، منّا أمير ومنكم أمير ، يا معشر قريش ، قال : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات ، حتى تخوّفت
---------------------------
(1) مزمّل : ملتفٌ في كساء أو غيره .
(2) الدافة : القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد ، وفي المقام كناية عن بوادر غير محمودة لهضم حقوق الأنصار .
(3) زوّرت مقالة : أصلحتها وحسّنتها .
(4) الجذيل : تصغير جذل ، وهو عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتك به ، وتستريح إليه ، فتضرب به المثل للرجل يستشفى برأيه ووجد عنده الراحة .
(5) العذيق : تصغير عذق وهي النخلة بنفسها ، والمرجب الذي تبنى إلى جانبه دعامة ترفده لكثرة حمله ، يضرب به المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه قومه .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 218 _
الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ون ـ زونا (1) على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عُبادة ، قال : فقلت : قتل الله سعد بن عبادة (2) .
وفي هذا الخبر عدّة وقفات تدعو إلى التأمّل ، نشير إلى بعضها لغرض تنبيه القارئ عليها ، وله رأيه في تفسيرها :
أ ـ التكتم على اسم الرجل الذي أتى عمر فقال له : هل لك في فلان يقول ، فمن هو ذلك الرجل النمّام ؟ ومن هو فلان القائل : والله لو قد مات عمر . . . لقد بايعت فلاناً ؟ ، وأخيراً : فمن هو فلان الذي يريد مبايعته ؟
تكتّم يبعث على الريبة في الرواة بدءاً من ابن إسحاق ومروراً برجال إسناده ، وانتهاءً بعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف ، وإن كانا هما آخر من تتوجه اليهما أصابع الاتهام ، لأنّهما كانا يرويان ما هو أشد إدانة .
أما ابن عباس فمروياته في تلك الأحداث سابقاً ولاحقاً كثيرة ، وفي محاججته مع عمر في أمر الخلافة ما يرفع عنه إصر الإتهام ، وأما عبد الرحمن بن عوف ، فلا مجال لتهمته في المقام بعد أن قرأنا له فيما سبق روايته مثلثات أبي بكر ، وهي تكفي في الإدانة ، فتبقى أطراف الشبهة بين الأربعة :
أولهم : ابن إسحاق ، وقد مرّ التعريف به .
وثانيهم : شيخه عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، أثنى عليه علماء الرجال ، فوثّقه ابن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي وغيرهم .
وثالثهم : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وهذا هو أقرب إلى التهمة من غيره ، فقد كان مبالغاً في ركاب الأمويين ، وله روايات عديدة كتم فيها اسم الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وردت في مصنّف عبد الرزاق وغيره ، فراجع .
ورابعهم : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو أحد فقهاء المدينة ، تابعي كثير الحديث ، وثّقه وأثنى عليه غير واحد ، فهو بعيد عن التهمة .
ب ـ وفي الخبر إشعار بأنّ هناك اُناس يتربصون موت عمر ليبايعوا من يرونه أهله ، وقد أقلق ذلك عمر ، فصار يعدّ لتحذير الناس منهم عدّته ، وأراد أن يفاجأ الناس في أيام منى ، لولا أنّ عبد الرحمن بن عوف حذّره مغبة ذلك ، فأخذ بنصيحته .
ج ـ وفي الخبر تصريح خطير من عمر في المدينة في ذكره آية الرجم : ( فقرأناها وعلمناها ووعيناها ) وليس في كتاب الله أيّ آية في ذلك ، وقد شرق أصحاب الحديث وغرّبوا في توجيه ذلك ، وسيأتي ما يتعلق به فيما عند البخاري .
د ـ وفي الخبر كذلك ما ذكر من قراءته في كتاب الله : ( لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) وهذا ما خلا منه كتاب الله ، ولأئمة الحديث في توجيهه كسابقه كلام طويل عريض .
هـ _ إقرار عمر بأنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وإنّ الله قد وقى شرّها . فهي فلتة عن غير سابق مشورة بين المسلمين ، ولا عهد من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد تمت ، وفيها شرّ إلاّ أنّ الله قد وقى شرها .
و ـ وفي الخبر ذكر تخلف علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما ، وفي إقراره بتخلّف هؤلاء يكفي لنسف زعم الإجماع على خلافة أبي بكر .
ذ ـ وفي الخبر : واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، وتكرر ذكر المهاجرين مرّة أخرى ، ولم يصرّح باسم واحدٍ غير أبي عبيدة بن الجراح كان معه ، فمن هم أولئك المهاجرون الذين كانوا معه ؟
ح ـ وفي الخبر قول أبي بكر في حجته : ( ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش . . . ) فأين هذا من مزاعم حيكت له من بعد كدعوى تقديمه في الصلاة ، وصحبة الغار وو .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 220 _
ط ـ وفي الخبر قول أبي بكر : ( وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم . . . ) وكأن ولاية الأمر إليه مفوضة ، وله أن يرشح من يرضاه .
ي ـ وفي الخبر قول الأنصاري : ( منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش . . . ) وهذا يدلّ على أنّ الاجتماع كان لاقتسام السلطة بين من حضر من قريش وبين الأنصار ، وليس ثمة عهد نبوي ، ولا هناك حساب لآخرين من المهاجرين لم يحضروا .
ك ـ وأخيراً تمت البيعة بقول عمر : ( ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته . . . ) .
ما ذكره عبد الرزاق الصنعاني :
ثانياً : ماذا عند عبد الرزاق بن همام الصنعاني ؟
عنده عدّة نصوص نختار منها ما يلي :
النص الأول : لقد روى في كتابه المصنّف (1) عن معمر قال : وأخبرني أيوب عن عكرمة قال : قال العباس بن عبد المطلب : والله لأعلمنّ ما بقاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فينا ، فقلت : يا رسول الله لو اتخذت شيئاً تجلس عليه يدفع عنك الغبار ، ويردّ عنك الخصم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لأدعنّهم ينازعوني ردائي ويطؤون عقبي ، ويغشاني غبارهم حتى يكون الله يريحني منهم ، فعلمت أنّ بقاءه فينا قليل .
قال : فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قام عمر فقال : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يمت ، ولكن صعق كما صعق موسى ، والله أنّي لأرجو أن يعيش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى يقطع أيدي رجال وألسنتهم من المنافقين يقولون : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد مات .
فقام العباس بن عبد المطلب فقال : أيّها الناس هل عند أحد منكم عهدٌ أو عقدٌ من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : فإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يمت حتى وصل
---------------------------
(1) مصنف عبد الرزاق 5 : 433 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 221 _
الحبال ، ثم حارب وواصل وسالم ونكح النساء وطلّق ، وترككم عن حجة بيّنة وطريق ناهجة ، فإن يك ما يقول ابن الخطاب حقاً فإنّه لن يعجز الله أن يحثو عنه فيخرجه إلينا ، وإلاّ فخل بيننا وبين صاحبنا ، فإنّه يأسن كما يأسن الناس .
فهذا الخبر يكشف لنا عن أمور هي كما يلي :
1 ـ ثمة غبار يُثار عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيؤذيه ، فيشير عليه عمه العباس باتخاذ ما يدفع عنه الغبار .
2 ـ وثمة خصومة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أشار إليها عمه بقوله : ويرد عنك الخصم .
3 ـ وثمة سخط وألم من أولئك الذين يؤذون النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فينازعونه رداءه ، ويطؤون عقبه ، ويغشونه غبارهم ، وهو ( صلى الله عليه وآله ) يصبر على جميع ذلك حتى يكون الله يخرجه منهم .
4 ـ وثمة مقالة عمر الفجة الجوفاء الحمقاء بإنكار موت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والقرآن فيه : ( إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (1) وفيه : ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ ) (2) وفيه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ . . ) (3) فهل يعقل أنّ عمر كل هذا لم يقرأه ولم يسمعه .
وهب أنّ ذلك كله كان ، أفهل نسي حديث الكتف والدواة الذي انبرى هو للرد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكلمته الجافية النابية : ( إنّه يهجر ) .
5 ـ ثم ما باله يصف من قال مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالمنافقين ، فمن هم أولئك ؟ إنّها مكابرة وقحة ، وجرأة عظيمة على أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
6 ـ وفي قيام العباس للرد عليه في سؤاله من الناس عمّن عنده عهد أو عقد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وفي هذا كشف عمّا تكنّه الصدور ، وتقرير بأن ليس عند
واحد من الناس أيّ عهد أو عقد يمكن أن يحتج به بعد ذلك ، وهي لفتة بارعة تدلّ على حنكة وحزم في مثل ذلك الموقف الرهيب أمام الوعيد العمري .
7 ـ وأخيراً يكشف آخر الخبر أنّ عمر كان ممانعاً من تجهيز الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لذلك قال العباس : فخل بيننا وبين صاحبنا ، فانّه يأسن كما يأسن الناس .
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات ، والدارمي في سننه ، وابن حجر في فتح الباري ، وغيرهم بتفاوت يسير في ألفاظهم (1) .
النص الثاني : عبد الرزاق (2) قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، قال : أخبرني أنس بن مالك أنّه سمع خطبة عمر الآخرة ، حين جلس على منبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : فتشهد عمر وأبو بكر صامت لا يتكلم ، ثم قال عمر : أما بعد ، فإنّي قلت مقالة وإنّها لم تكن كما قلت ، وإنّي والله ما وجدت المقالة التي قلت في كتاب الله تعالى ، ولا في عهد عهده إليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولكنّي كنت أرجو أن يعيش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى يدبرُنا _ يريد بذلك حتى يكون آخرنا _ فإن يك محمد قد مات فإنّ الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به ، هذا كتاب الله فاعتصموا به تهتدون لما هدى الله به محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم إن أبا بكر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وثاني اثنين ، وانّه أولى الناس بأموركم ، فقوموا فبايعوه .
وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة ، وكانت بيعة العامة على المنبر ، قال الزهري : ، أخبرني أنس ، قال : لقد رأيت عمر يُزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً .
وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في الطبقات (3) إلى ذكر كتاب الله والاهتداء به ، إلا أنّ البخاري رواه في صحيحه كما في فتح الباري (4) ، وفي آخره : سمعت عمر
---------------------------
(1) طبقات ابن سعد 2 : 266 ، والدارمي في سننه 1 : 22 وابن حجر في فتح الباري 8 : 103 .
(2) المصنف 5 : 437 .
(3) طبقات ابن سعد 2 : 270 .
(4) صحيح البخاري ، فتح الباري 13 : 164 بتمامه .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 223 _
يقول لأبي بكر يومئذٍ : اصعد المنبر ، فلم يزل به حتى صعد المنبر ، فبايعه الناس عامة .
وفي الخبر دلالة واضحة على موقف عمر من شد أزر أبي بكر ، وحرصه على إتمام الأمر له .
النص الثالث : روىأيضاً (1) خطبة عمر التي قال فيها تعقيباً على ما بلغه من مقالة بعضهم : لو مات _ عمر _ قد بايعت فلاناً .
وجاء فيها : ( إنّ الله بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بالحق وأنزل معه الكتاب ، فكان مما أنزل الله عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورجمنا بعده ، وإنّي خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : والله ما الرجم في كتاب الله ، فيضل أو يترك فريضة أنزلها الله ، ألا وانّ الرجم حق على من زنى إذا أحصن وقامت البينة ، وكان الحمل والاعتراف .
ثم قد كنّا نقرأ : ( ولا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم ) أو ( فإنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) ، ثم إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم صلوات الله عليه ، فإنّما أنا عبد الله ، فقولوا عبد الله ورسوله ، ثم أنّه بلغني أنّ فلاناً منكم يقول : انّه لو قد مات أمير المؤمنين قد بايعت فلاناً ، فلا يغرنّ أمرءاً أن يقول : انّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقد كانت إلا أن الله وقى شرها ، وليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر .
إنّه كان من خبرنا حين توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن علياً والزبير ومن معه تخلفوا عنه في بيت فاطمة ، وتخلّفت عنّا الأنصار بأسرها في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون على أبي بكر ، فقلت : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمّهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار قد شهدا بدراً ، فقالوا : . . .
---------------------------
(1) المصنف 5 : 439 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 224 _
ثم قال ـ أبو بكر _ : ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، فهم أوسط العرب داراً ونسباً ، وإنّي قد رضيت لكم هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم . . . فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح . . .
قام رجل من الأنصار فقال : أنا جُذيلها المحكك وعذيقها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير ، يا معشر قريش ، فقال عمر بن الخطاب : لا يصلح سيفان في غمدٍ واحد ؟ ولكن منّا الأمراء ومنكم الوزراء . . .
فارتفعت الأصوات بيننا ، وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف ، فقلت :
المحسن السبط مولود أم سقط _ 225 _
يا أبا بكر ابسط يدك أبايعك ، فبسط يده فبايعته فبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ، ون ـ زونا على سعد حتى قال قائل : قتلتم سعداً ، قلت : قتل الله سعداً . . . فلا يغرنّ امرأ أن يقول انّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أنّ الله وقى شرّها . . .
وهذا الخبر أخرجه البخاري في صحيحه في باب رجم الحبلى ، وأحمد في المسند ، وفيه عدّة مواقع للنظر وكلها عليها علامات استفهام ، لماذا الطعن في كتاب الله المقروء والموجود فعلاً ، وليس فيه ما زعمه عمر بقوله : فكان مما أنزل الله عليه ـ على النبي ـ آية الرجم ؟ فأين هي اليوم في القرآن ؟ ، وأيضاً قوله : قد كنّا نقرأ ( ولا ترغبوا . . . ) فأين هي الآن في القرآن ؟ بماذا يجيب البخاريون عن رواية بخاريّهم .
وقوله : وإنّ علياً والزبير ومن معه تخلفوا عنه في بيت فاطمة ، عمّن تخلفوا ؟ ولماذا تخلّفوا ؟ وقوله : وتخلفت عنّا الأنصار بأسرها ، لماذا تخلفوا ؟ وعن أيّ شيء تخلفوا ؟ وقوله : واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فمن هم أولئك ؟ وما هي أسماؤهم ؟ ولم نجد التصريح بهم إلاّ ما جاء من تسمية أبي بكر أبا عبيدة بن الجراح ، فتبيّن أنّهما المهاجرون ، فجمعهم على طريقة المناطقة وهو أقلّ الجمع ! !
وقوله : فارتفعت الأصوات بيننا وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف ، فقلت : يا أبا بكر ابسط يدك أبايعك ؟ فهذا اعتراف خطير من عمر في شرعية بيعة أبي بكر ، وإنّها لم تكن باجماع بل ولا باختيار ، أليس كذلك ؟
وقوله : ون ـ زونا على سعد ـ أي تواثبنا _ لماذا المواثبة ، وقد تمت المغالبة ؟ هل كان ذلك لقتله ، وربما دل عليه قول القائل قتلتم سعداً ، وجواب عمر : قتل الله سعداً .
النص الرابع : وروى عبد الرزاق في المصنف (1) ، عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : قال عمر : اعقل عنّي ثلاثاً : الإمارة شورى ، وفي فداء العرب مكان كل عبد عبد ، وفي ابن الأمة عبدان ، وكتم ابن طاووس الثالثة .
فماذا كانت الثالثة ؟ وهل هي على نحو وصية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الثالثة ، كما في حديث الكتف والدواة ؟ (2) .
ربما كانت كذلك ، فتلك كانت وصيته بأهل بيته ، إلاّ أنّ بعض الرواة كتمها تناسياً وليس نسياناً ، ولكن هاهنا كتمها ابن طاووس عمداً ، لماذا ؟ فهل خشي على نفسه من بطش الأمويين ؟ كيف وهو على خاتم سليمان بن عبد الملك : وكان كثير الحمل على أهل البيت ( عليهم السلام ) (3) .
النص الخامس : وروى عبد الرزاق (4) ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : لمّا بويع لأبي بكر تخلّف علي في بيته ، فلقيه عمر فقال : تخلّفت عن بيعة أبي بكر ؟ !
فقال : إنّي آليت بيمين حين قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألاّ أرتدي برداء إلاّ إلى الصلاة المكتوبة حتى أجمع القرآن ، فإنّي خشيت أن يتفلت القرآن ، ثم خرج فبايعه .
---------------------------
(1) المصنف 5 : 446 .
(2) راجع بشأنها موسوعة ( عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ) الحلقة الأولى 1 : 227 / 229 .
(3) تهذيب التهذيب 5 : 268 .
(4) المصنف 5 : 450 .