الفهرس العام


ما ذكره أحمد بن حنبل :
ما ذكره البخاري :
ما ذكره مسلم بن الحجاج :
ما ذكره ابن شبّة :



  ومن الأحاديث ما أخرجه أبو نعيم في الحلية بسنده عن أبي برزة الأسلمي ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : انّ الله تعالى عهد إليَّ في علي عهداً ، إنّ علياً راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين ، من أحبّه أحبني ، ومن أبغضه أبغضني ، فبشّره فجاء علي فبشرته بذلك ، فقال : يا رسول الله أنا عبد الله فإن يعذبني فبذنبي ، وإن يتمّ الذي بشّرني به فالله أولى به .
  قال ( صلى الله عليه وآله ) : قلت : اللّهمّ أجل قلبه واجعله ربيع الإيمان ، فقال الله تبارك وتعالى : قد فعلت به ذلك ، ثم قال تعالى : إنّي مستخصّه بالبلاء ، فقلت : يا رب إنه أخي ووصيي ، فقال تعالى : إنّه شيء قد سبق فيه قضائي ، إنّه مبتلى (1) .
   ومن الأحاديث ما أخرجه الموفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال : أعطى النبي ( صلى الله عليه وآله ) الراية يوم خيبر إلى علي ففتح الله عليه ، وفي يوم غدير خم أعلم الناس انّه مولى كل مؤمن ومؤمنة ، وقال له : أنت منّي وأنا منك ، وأنت تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، وقال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبي بعدي ، وقال له : أنا سلم لمن سالمك ، وحرب لمن حاربك ، وأنت العروة الوثقى ، وأنت تبيّن ما اشتبه عليهم من بعدي ، وأنت ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي ، وأنت الذي أنزل الله فيك : ( وَأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ ) (2) وأنت الآخذ بسنتي ، والذاب عن ملتي ، وأنا وأنت أوّل من تنشق الأرض عنه ، وأنت معي تدخل الجنة والحسن والحسين وفاطمة معنا ، إنّ الله أوحى إليَّ أن أبيّن فضلك ، فقلت للناس وبلّغتهم ما أمرني الله تبارك وتعالى بتبليغه .

---------------------------
(1) حلية الأولياء ، وعنه في ينابيع المودة : 134 .
(2) التوبة : 3 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 252 _

  ثم قال : اتق الضغائن التي كانت في صدور قوم لا تظهرها إلاّ بعد موتي ، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، وبكى ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال : أخبرني جبرئيل انّهم يظلمونك بعدي ، وأنّ ذلك الظلم لا يزول بالكلية عن عترتنا ، حتى إذا قام قائمهم ، وعلت كلمتهم ، واجتمعت الأمة على مودتهم ، والشانيء لهم قليلاً ، والكاره لهم ذليلاً ، والمادح لهم كثيراً ، وذلك حين تغيّر البلاد ، وضعف العباد حين اليأس من الفرج ، فعند ذلك يظهر القائم مع أصحابه ، فبهم يظهر الله الحق ، ويخمد الباطل بأسيافهم ، ويتبعهم الناس ، راغباً إليهم وخائفاً منهم ، ابشروا بالفرج ، فإنّ وعد الله حق لا يخلف ، وقضاؤه لا يرد ، وهو الحكيم الخبير ، وانّ فتح الله قريب .
  اللّهمّ إنّهم أهلي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، اللّهمّ اكلأهم وارعهم ، وكن لهم وانصرهم وأعزّهم ولا تذلّهم ، واخلفني فيهم ، إنّك على ما تشاء قدير (1) .
   وقال علي كرّم الله وجهه : كل حقد حقدته قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أظهرته فيَّ ، وستظهره في ولدي من بعدي ، مالي ولقريش إنّما وترتهم بأمر الله وأمر رسوله ، أفهذا جزاء من أطاع الله ورسوله إن كانوا مسلمين (2) .
ما ذكره أحمد بن حنبل :

  سابعاً : ماذا عند أحمد بن حنبل ( ت 241 هـ ) ؟
  النص الأول : أخرج في المسند (3) ، قال : حدّثنا عبد الرزاق ، قال : حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان

---------------------------
(1) المناقب للخوارزمي الحنفي وينابيع المودة : 135 .
(2) ينابيع المودة : 135 .
(3) المسند 1 : 26 ، برقم : 9 ، بتحقيق أحمد محمد شاكر .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 253 _

  ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك ، وسهمه من خيبر ، فقال لهم أبو بكر : إنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا نورّث ، ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإنّي والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيه إلا صنعته .
  أقول : لقد مرّ هذا الحديث عن المصنف لعبد الرزاق فراجع ( تاسعاً ) ستجد زيادة طويلة بترها أحمد ولم ينقلها ، ومما جاء في تلك الزيادة قال : فهجرته فاطمة فلم تكلّمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ، قالت عائشة : وكان لعلي من الناس حياة فاطمة حبوة ، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه ، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم توفيت .
قال معمر : فقال رجل للزهري : فلم يبايعه علي ستة أشهر ؟ قال : لا ، ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي .
  إلى غير ذلك ممّا مرّ لفظه نقلاً عن المصنف ، وهو كلام كثير يتضمن كيف بايع الإمام ، وتحت طائلة الضغط الاجتماعي ، وقد نبّهت هناك على ما صنعه أحمد والبخاري في اختصار هذا الحديث اختصاراً مهيناً ومشيناً فراجع ، على أنّ تخريج أحمد للحديث هنا في مسند أبي بكر لروايته لا نورّث ، فهو أشبه بمسند عائشة منه بمسند أبي بكر ، فلاحظ .
  النص الثاني : أخرج في المسند (1) ، فقال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة [قال عبد الله : وسمعته من عبد الله بن أبي شيبة] قال : حدّثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أرسلت فاطمة إلى أبي بكر : أنت ورثت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أم أهله ؟   قال : فقال : لا ، بل أهله ، قالت : فأين سهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : فقال أبو بكر : إنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إنّ الله ( عزّ وجلّ ) إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعله للذي

---------------------------
(1) المسند 1 : 28 ، برقم : 14 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 254 _

  يقوم من بعده ، فرأيت أن أرده على المسلمين ، فقالت : فأنت وما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أعلم .
  وهذا الحديث علّق عليه المحقق بقوله : إسناده صحيح ، الوليد بن جُميع هو الوليد بن عبد الله بن جميع ، نسب إلى جده وهو ثقة .
  أبو الطفيل : هو عامر بن واثلة ، من صغار الصحابة ، وهو آخرهم موتاً ، مات سنة : 107 ، أو سنة : 110 هـ .
  والحديث ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه (1) ، نقلاً عن المسند ثم قال : هكذا رواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل به ، ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة ، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة ، وفيهم من فيه تشيع ، فليعلم ذلك ، وأحسن ما فيه قولها : أنت وما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا هو الصواب ، وهو المظنون بها ، واللائق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها _ ( رضي الله عنها ) _ وكأنّها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظراً على هذه الصدقة ، فلم يجبها إلى ذلك لما قدمناه ، فتعتبت عليه بسبب ذلك ، وهي امرأه من بنات آدم ، تأسف كما يأسفن ، وليست بواجبة العصمة ، مع وجود نص رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومخالفة أبي بكر الصديق ، وقد روينا عن أبي بكر أنّه ترضّى فاطمة وتلاينها قبل موتها ، فرضيت ( رضي الله عنها ) .
  إلى هنا انتهى ما ذكره أحمد محمد شاكر في الهامش ، ولم يعقّب على ما ذكره ابن كثير بشيء ، فأقول : ومن هنا يعلم موافقته لما قاله ابن كثير ، ومن الواضح أنّ ابن كثير شامي ، والنصب في أهل الشام من مواريثهم من أيام معاوية ، وهو بعدُ تلميذ لابن تيمية ، وذلك يكفي في تعريفه لو شط به القلم وحدا به النصب لأن يقول عن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : ( وليست بواجبة العصمة ) .

---------------------------
(1) تاريخ الحافظ ابن كثير 5 : 289 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 255 _

  غير أنّ العتب على المحقق أحمد محمد شاكر الذي لم يعلّق على هذه الغميزة بما يرفع عنه إصر الموافقة عليها ، وهو لا شك أنّه قد قرأ آية التطهير في سورة الأحزاب : ( إنَّمَا يُر ِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) .
  ولا شك أنّه قد قرأ قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيها وفي بعلها علي ، وفي ابنيها الحسنين : اللهم هؤلاء أهل بيتي بعد أن جللهم بكساء ولم يدخل معهم أحداً ، ولا شك أنّه قد قرأ قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) الآخر : فاطمة بضعة منّي ...
وهو يعرف معنى البضعة، فكلّ هذا لا يوجب العصمة لفاطمة ( عليها السلام ) ؟ إنّها لظلامة الآخرين وليست بدون ظلامة الأولين ، فلك الله ناصراً يا بنت رسول الله صلى الله على أبيكِ وعلى بعلكِ وعليكِ وعلى أهل بيتكِ الطاهرين .
  النص الثالث : أخرج في المسند (2) ، قال : حدّثنا يعقوب ، قال : حدّثنا أبي عن صالح ، قال ابن شهاب : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبرته : أنّ فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما آفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، قال : وعاشت بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ستة أشهر .
  قال : وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركاً شيئاً كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل به إلا عملت به ، وإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن اُزيغ ، فأمّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس فغلبه عليها علي ، وأمّا خيبر

---------------------------
(1) الأحزاب : 33 .
(2) المسند 1 : 34 ، برقم : 25 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 256 _

  وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك اليوم .
  النص الرابع : وأخرج في المسند (1) ، قال : حدّثنا حجاج بن محمد ، حدّثنا ليث ، حدّثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّها أخبرته : إنّ فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ، ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإنّي والله لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك .
  فقال أبو بكر : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال ، فإنّي لم آل فيها عن الحق ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيها إلا صنعته .
  النص الخامس : وأخرج في المسند (2) ، قال : حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : إنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا نورّث ، ما تركنا صدقة ، وإنّما يأكل آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال ، وإنّي والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيه إلا صنعته .
  النص السادس : وأخرج في المسند (3) ، قال : حدّثنا عفّان ، حدّثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة أنّ فاطمة قالت لأبي بكر : من يرثك

---------------------------
(1) المسند 1 : 45 ، برقم : 55 .
(2) المسند 1 : 46 ، برقم : 58 .
(3) المسند 1 : 47 ، برقم : 60 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 257 _

  إذا متّ ؟ قال : ولدي وأهلي ، قالت : فمالنا لا نرث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إنّ النبي لا يورّث ، ولكنّي أعول من كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعول ، وأنفق على من كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينفق .
  وهذا علّق عليه المحقق بأنّه منقطع الإسناد ، ولمّا أعاد أحمد بن حنبل إخراجه مرّة ثانية برقم : 79 بالسند إلى أبي سلمة ، ثم رفعه هنا عن أبي هريرة ، ببركة وجوده تم توصيل الانقطاع ، فقال المحقق : إسناده صحيح ، وقد سبق مطولاً برقم : 60 ، ولكن هناك مطولاً ، ولدى المقارنة نجد بين الخبرين فرقاً واضحاً ، فقارن ما يلي مع ما سبق فالحديث عن أبي هريرة أنّ فاطمة جاءت أبا بكر وعمر تطلب ميراثها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالا : إنّا سمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إنّي لا أورّث .
  النص السابع : وجاء في المسند (1) : حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال : ذكروا عند عائشة أنّ علياً كان وصياً ، فقالت : متى أوصى إليه ؟ فقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت : حجري ، فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري ، وما شعرت أنّه مات ، فمتى أوصى إليه ؟
  وهذا الخبر يوحي بأنّ أناساً كانوا يذكرون أنّ علياً كان وصياً ، ومتى كان كذلك ، فقيام غيره بالأمر بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان بغير حق وغصباً لحقه ، ودفعاً لذلك صارت عائشة تزعم أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) مات وهي مسندته إلى صدرها أو في حجرها .
  ويبدو أنّ أحمد بن حنبل روى في مسنده أحاديث عائشة على نحو ما وصلت إليه بما فيها من تناقض ، وزعمها أنّ النبي مات وهي مسندته إلى صدرها _ كما هنا _ نجد عدة أحاديث أخرى عنها تختلف ألفاظها ومعانيها ، فمنها : مات ( صلى الله عليه وآله ) بين حاقنتي وذاقنتي (2) .

---------------------------
(1) المسند 6 : 32 .
(2) المصدر نفسه 6 : 64 و 77 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 258 _

  ومنها : مات ( صلى الله عليه وآله ) وهو يوتر بالسحر (1) .
  ومنها : مات ( صلى الله عليه وآله ) بين سحري ونحري (2) .
  ومنها : كان ( صلى الله عليه وآله ) في حجري حين نزل به الموت (3) .
  ومنها : مات ( صلى الله عليه وآله ) ورأسه على فخذ عائشة (4) .
  إلى غير ذلك من اختلاف رواياتها مما يشيعه عنها أبناء أختها أسماء ، وهم أبناء الزبير ومن لفّ لفّهم من رواتها ، ولقد نمّت هي على نفسها بأنّها غير مصدقة عند بعض الناس في ذلك ، فكانت تدافع عن نفسها بقولها في حديث رواه أحمد (5) : مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سنّي أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة ، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي (6) .
  ومع ذلك كلّه بقيت الأحاديث عنها في ذلك غير مقبولة ، وأثارت الشكوك حول صحتها ، فرباح ـ أحد الرواة ـ قال : قلت لمعمر : قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو جالس ؟ قال : نعم (7) .
  والأسود بن يزيد راوي الحديث الآنف الذكر أولاً هو أبو غطفان ، وهو الذي يسأل ابن عباس فيقول : أرأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) توفي ورأسه في حجر أحد ، قال : توفي وهو لمستند إلى صدر علي ، قلت : فإنّ عروة حدّثني عن عائشة أنّها

---------------------------
(1) المصدر نفسه 6 : 204 .
(2) المصدر نفسه 6 : 48 و 121 و 274 .
(3) المصدر نفسه 6 270 .
(4) المصدر نفسه 6 : 89 .
(5) المصدر نفسه 6 : 274 .
(6) وهذا أخرجه ابن سعد في الطبقات 2 ، ق 2 : 50 .
(7) المسند 6 : 274 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 259 _

  قالت : توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين سحري ونحري ، فقال ابن عباس : أتعقل ؟ والله لتوفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنّه لمستند إلى صدر علي ، وهو الذي غسّله (1) .
  ولمزيد من البحث حول الموضوع راجع كتاب ( علي إمام البررة ) (2) .
  ونعود إلى حديث الأسود ـ أبي غطفان ـ الذي رواه أحمد كما مرّ فنقول : وهذا أيضاً رواه البخاري ومسلم كما ستأتي الإشارة إليه ، وجميعهم بتروا من آخره سؤال الراوي من ابن عباس ، وجوابه رداً على زعم عائشة مشفوعاً باليمين ، ومستنفراً لمشاعره بقوله : ( أتعقل ) وهي كلمة لها دلالتها في إثارة الوعي والتنبيه على تلقي الجواب ، مع أنّ الحديث رواه ابن سعد بتمامه كما مرّ ، فلاحظ مدى الأمانة عند أحمد والشيخين .
  ويؤكد صحة ما قاله ابن عباس ما رواه أحمد في مسنده (3) من حديث أم سلمة قالت : والذي أحلف به أن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قالت : عدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غداة بعد غداة يقول : جاء علي ؟ _ مراراً _ ، قالت : وأظنّه كان بعثه في حاجة ، قالت : فجاء بعد فظننت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت ، فقعدنا عند الباب ، فكنت من أدناهم إلى الباب ، فأكبّ عليه علي فجعل يساره ويناجيه ، ثم قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من يومه ذلك ، فكان أقرب الناس به عهداً .
  ويزيد ذلك تأكيداً ما جاء عن عمر بن الخطاب ـ وهو غير متهم في المقام ـ وقد مرّ فيما عند ابن سعد حيث سأله كعب الأحبار : ما كان آخر ما تكلّم به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال عمر : سل علياً ، قال : أين هو ؟ قال : هو هنا فسأله ، فقال علي : أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة ، فقال كعب : كذلك

---------------------------
(1) وهذا أخرجه ابن سعد في الطبقات 2 ، ق 2 : 51 .
(2) علي إمام البررة 3 : 347 / 361 ، ط : دار الهادي .
(3) المسند 6 : 300 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 260 _

  آخر عهد الأنبياء وبه اُمروا وعليه يبعثون ، قال : فمن غسّله يا أمير المؤمنين ؟ قال : سل علياً ، قال : فسأله فقال : كنت أنا أغسله ، وكان عباس جالساً (1) .
  ومع هذا كله فعائشة تقول : مات بين سحري ونحري ، وبين حاقتني وذاقتني و ، و ، كل ذلك لأنّها لا تطيب له نفساً كما قال ابن عباس ، حيث قالت عائشة : فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويدٌ له على العباس ، ( كما في مسند أحمد ) (2) ، أو على الفضل بن عباس ، ( كما في روايتها الأخرى في مسند أحمد ) (3) ، وعلى رجل آخر وهو يخط برجليه الأرض ، فحدّث عبيد الله بن عبد الله راوي الحديث بذلك ابن عباس ، فقال له : أتدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة ؟ هو علي ، ولكن عائشة لا تطيب له نفساً .
  بل بلغ بها الحال حين تسمع من يقع في علي صراحة ، فلا تستنكر إلا بما يكشف عن قديم حقدها عليه ، فقد روى أحمد في مسنده (4) بسنده عن عطاء بن يسار قال : جاء رجل فوقع في علي وفي عمار _ رضي الله تعالى عنهما _ عند عائشة فقالت : أما علي فلست قائلة لك فيه شيئاً ، وأما عمار فإنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما .
  ونحن مع روايتها هذه فإنّا ندينها من فمها حيث اختار عمار علياً إماماً دون غيره ، ووقف إلى جانبه منذ حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبعد وفاته في السلم وفي الحرب ، حتى قتلته الفئة الباغية بصفّين ، وهو معه يقول في بعض رجزه كما في وقعة صفّين (5) :
أنا  مع  الحق أحامي عن iiعلي      صهر النبي ذي الأمانات الوفي

---------------------------
(1) الطبقات 2 ، ق 2 : 51 .
(2) المسند 6 : 34 .
(3) المصدر نفسه 6 : 228 .
(4) المصدر نفسه 6 : 113 .
(5) وقعة صفّين : 289 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 261 _

  كما كان عمار قد اختار أن يكون مع علي في الدار يوم هجم عمر ومن معه عليهم ، كما ستأتي أسماء النفر الذين كانوا في الدار يومئذٍ .
  وإنّما صنع ذلك عمار امتثالاً لأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) حيث قال له : يا عمار إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره ، فاسلك مع علي ودع الناس ، إنه لن يدلِك في ردى ، ولن يخرجك من هدى ، يا عمار إنّ طاعة علي من طاعتي ، وطاعتي من طاعة الله ( عزّ وجلّ ) (1) .
  فما دامت عائشة على ذكر من قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عمار : ( لا يخيّر بين أمرين إلا اختار أرشدهما ) وقد اختار طاعة علي ( عليه السلام ) فتبعه ، فلماذا حاربته يوم الجمل ؟ فهي لم تكن في محاربته برشيدة إذن .
ما ذكره البخاري :

  ثامناًً : ماذا عند محمد بن إسماعيل البخاري ( ت 256 هـ ) ، في كتابه الجامع الصحيح .
  مما ينبغي التنبيه عليه قبل عرض نماذج مما رواه في كتابه من النصوص ، فانّ الرجل كان شغوفاً بكثرة الرواية حتى ولو عن هيّان بن بيّان ، لذلك نجد كثرة الرواية عن كل من هبّ ودبّ ، وإن تناقضت رواياته ، حتى الكذب .
  وما أكثر الشواهد على ذلك في رواياته عن عائشة وابن عمر وأبي هريرة ، فبينها من التكاذب ما يثير العجب ، وما كثرة الدفاع عنه إلا لكثرة ما فيه من مؤاخذات ، ولست في مقام التدليل على ذلك ، فحسب القارئ الطالب للحقيقة الرجوع إلى كتاب ( هدى الساري ) لابن حجر من المتقدمين ، وكتاب ( أضواء على السنة ) للشيخ محمد أبو رية ، وأخيراً إلى كتاب ( نحو تفعيل قواعد نقد متن

---------------------------
(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 13 : 186 ، وابن عساكر في ترجمة الإمام من تاريخه 3 : 170 ، والحمويني في فرائد السمطين 2 : 178 ، والخوارزمي الحنفي في مناقبه 57 و 124 ، وأخيراً المتقي الهندي في كنز العمّال 12 : 212 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 262 _

  الحديث ) دراسة تطبيقية على بعض أحاديث الصحيحين، لمؤلفه إسماعيل الكردي ، ط : دار الأوائل سنة 2002م سورية دمشق ، وهو من خيرة ما قرأت من الكتب في هذا المجال .
  ومع ذلك كله فليبق كتاب البخاري عند زوامل الأسفار ( أصح كتاب بعد كتاب الله ) ولست في مقام محاسبتهم ، فلهم رأيهم وعلى الله حسابهم .
  والآن إلى نماذج مما أخرجه البخاري في كتابه ( الجامع الصحيح ) فيما يخص الأحداث التي تزامنت مع سقوط السيد المحسن السبط من قبل ومن بعد .
  النص الأول : أخرج البخاري في كتاب الحدود ( باب رجم الحبلى ) (1) ، حديث بيعة أبي بكر فلتة من قول عمر على المنبر ، واستمر على المنبر يروي حديث السقيفة بطوله ، فكان مما قال عمر : ( إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنّها قد كانت كذلك ، ولكن وقى الله شرّها ) .
  وكان مما قال : ( وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبو بكر فقال : ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ) .
  ولمّا كان هذا الخبر مرّ برواية ابن إسحاق في سيرته في النص الثاني ، وعبد الرزاق في المصنف في النص الثالث منه ، فلا حاجة لإعادته بطوله ، غير أنّ في روايتهما قال أبو بكر : ( ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش...) والآن في رواية البخاري لم يذكر لفظ ( العرب ) وأرجو أن لا يكون الحذف منه متعمداً لشعوبيته التي عرفناها منه في صحيحه كما في كتاب المناقب ( باب قصة

---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 : 168 / 170 ، باب رجم الحبلى .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 263 _

  زمزم وجهل العرب ) (1) ، ولا مناسبة بين شقي العنوان ، ومن قرأ المعنون يجد التنديد بالأعراب .
  ومهما يكن فالخبر بطوله على ما فيه لا يتهم رواته على الشيخين لموالتهم لهما ، وما أود تنبيه القارئ عليه مبلغ احتجاج أبي بكر على الأنصار : ( إنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش ، فهم أوسط العرب داراً ونسباً ... ) ، وهذه الحجة منقوضة عليه ، وأول من نقضها هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، بقوله : واعجباً أن تكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة (2) .
  قال الرضي ـ رحمه الله تعالى ـ وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى ، وهو :
فإن  كنتَ  بالشورى ملكتَ iiأمروهم      فكيف    بهذا   والمشيرون   iiغيّب
وإن كنتَ بالقربى حججت خصيمهم      فغيرك    أولى    بالنبي    وأقرب
  وقد علق محمد عبدة في شرحه على ذلك بقوله : يريد بالمشيرين أصحاب الرأي في الأمر ، وهم علي وأصحابه من بني هاشم ، ويريد باحتجاج أبي بكر على الأنصار بأنّ المهاجرين شجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
  النص الثاني : أخرج البخاري في أواخر باب غزوة خيبر (3) ، فقال : حدّثنا يحيى بن بكير ، حدّثنا الليث ، عن عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنّ فاطمة ( عليها السلام ) بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال ، وإنّي

---------------------------
(1) المصدر نفسه 4 : 185 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 : 416 ، حكمة : 185 .
(3) صحيح البخاري 5 : 139 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 264 _

  والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
  فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلى عليها .
  وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر : أن إئتنا ولا يأتنا أحد معك ـ كراهية لمحضر عمر _ فقال عمر : لا والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال أبو بكر : وما عسيتهم أن يفعلوا بي ، والله لآتينّهم .
  فدخل عليهم أبو بكر ، فتشهد علي فقال : إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنّا نرى لقرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نصيباً ، حتى فاضت عينا أبي بكر ، فلما تكلم أبو بكر قال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال ، فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيها إلا صنعته .
  فقال علي لأبي بكر : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلّى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلّفه عن البيعة وعذَرَه بالذي اعتذر إليه ، ثم استغفر ، وتشهد علي فعظّم حق أبي بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسةً على أبي بكر ، ولا إنكاراً للذي فضله الله به ، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبدّ علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسُر بذلك المسلمون وقالوا : أصبت ، وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف .
  فهذا الخبر مر نحوه عن عبد الرزاق بسنده عن ابن شهاب ـ الزهري ـ عن

المحسن السبط مولود أم سقط _ 265 _

  عروة عن عائشة ، وأشرنا تعقيباً عليه أنّ أحمد في مسنده ، والبخاري في صحيحه أوردا الخبر بصورة مهينة ومشينة ، وذكرنا أنّها رواية البخاري (1) في باب مناقب قرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم نشر إلى ما ذكرناه هنا من روايته الثانية بسنده الآخر عن الزهري .
  ومع أنها أوفى مما ذكره في باب مناقب قرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ففيها تفاوت وفجوات وتساؤلات ، والحديث كله عن الزهري عن عروة عن عائشة ، فلماذا الاختلاف والتفاوت ؟
  النص الثالث : أخرج في كتاب الفرائض باب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لا نورّث ما تركنا صدقة (2) .
  قال : حدّثنا عبد الله بن محمد ، حدّثنا هشام ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس ( عليهما السلام ) أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك ، وسهمهما من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا نورّث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال ، قال أبو بكر : والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيه إلا صنعته ، قال : فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت .
  فهذا الخبر ترويه عائشة كسائر المروي عنها في هذا الباب ، ولا يتفق فيه خبران على صيغة واحدة ، واللافت للنظر في هذه الصورة قولها : ( وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك ، وسهمهما من خيبر ) وهو يدل على أنّه كانت لكل من فاطمة والعباس أرض مختصة بهما ، ولذا صحت الإضافة إليهما .
  كما دلّ على أنّ لكل منهما سهم من خيبر منذ عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأخذ ذلك أبو بكر واستولى عليه فجاءا يطلبان ذلك ، فذكر لهما ما رواه عن سماعه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول :

---------------------------
(1) المصدر نفسه 5 : 20 ، باب مناقب قرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
(2) المصدر نفسه ، كتاب الفرائض 8 : 149 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 266 _

  لا نورّث ما تركنا صدقة ... ولم تذكر لنا عائشة عن فاطمة والعباس ردّهما على ذلك لا نفياً ولا إثباتاً ، واكتفى الراوي بقوله : فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت .
  ولدى مراجعة شروح البخاري كالفتح للعسقلاني ، والإرشاد للقسطلاني ، والدراري للكرماني ، فلم نجد فيها ما يفسّر لنا المراد من قول عائشة : ( وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك ، وسهمهما من خيبر ) وكيف يصح أن يأخذ أبو بكر أرض القرابة المختصة بهم ، ومالهم من سهم في خيبر بحجة رواية : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) فإنّ ذلك ليس من الصدقات في شيء ، ولا من الميراث بل هو من مختصاتهم ، كسائر مختصات باقي الناس التي يملكونها .
  ثم ما بال أبي بكر لم يخضع سهام باقي الصحابة في خيبر لحجته المزعومة : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) فيستولي عليها كما استولى على أرضي فاطمة والعباس وسهمهما من خيبر ؟ فإنّ ذكر مقاسم خيبر وأموالها بعد فتحها ذكرته كتب السيرة ، كسيرة ابن إسحاق ، وعنها سيرة ابن هشام وغيرهما ، وجاء فيها : ( وكانت عدة الذين قُسّمت عليهم خيبر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألف سهم وثمان مئة سهم ، رجالهم وخيلهم ، الرجال أربع عشرة مئة ، والخيل مِئتا فارس ، فكان لكل فرس سهمان ولفارس سهم ، وكان لكل راجل سهم ، فكان لكل منهم رأس جُمع إليه مئة رجل ، فكانت ثمانية عشر سهماً جُمع ...) .
  قال ابن إسحاق : فكان علي بن أبي طالب رأساً ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي أخو بني العجلان ، وأسيد بن حضير ، وسهم الحارث بن الخزرج ، وسهم ناعم ، وسهم بني بياضة ، وسهم بني عبيد ، وسهم بني حرام من بني سلمة ، وعبيد السهام ـ قال ابن هشام : إنّما قيل له عبيد السهام لما اشترى من السهام يوم خيبر ... ـ وسهم ساعدة ، ومنهم غفار وأسلم ، وسهم النجار ومنهم حارثة ، وسهم أوس .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 267 _

  واستمر ابن هشام نقلاً عن ابن إسحاق بتفصيل كيفية استخراج السهام يومئذٍ إلى أن قال : ( ثم قسّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الكتيبة ـ وهي وادي خاص ـ بين قرابته وبين نسائه ، وبين رجال المسلمين ونساء أعطاهم منها ، فقسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة ابنته مئتي وسق ، ولعلي بن أبي طالب مئة وسق ، ولأسامة بن زيد مئتي وسق ، وخمسين وسقاً من نوى ، ولعائشة أم المؤمنين مئتي وسق ، ولأبي بكر بن أبي قحافة مئة وسق ، ولعقيل بن أبي طالب مئة وسق وأربعين وسقاً ، ولبني جعفر خمسين وسقاً ... ) .
  ثم ساق أسماء من أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رجالاً ونساءً إلى أن قال ابن هشام : قمح وشعير وتمر ونوى ، وغير ذلك ، قسمه على قدر حاجتهم ، وكانت الحاجة في بني عبد المطلب أكثر ، ولهذا أعطاهم أكثر (1) .
  النص الرابع : أخرج في كتاب فرض الخمس (2) ، حديث مالك بن أوس بن الحدثان في خصومة علي والعباس في الفيء مرتين ، وبين الصورتين تفاوت في اللفظ والسند ، كما أنّ فيهما معاً نقص متعمّد ، كما سيأتي التصريح بذلك نقلاً عن ابن حجر في فتح الباري ، وإلى القارئ صورة الحديث كما في كتاب فرض الخمس ، وما بين القوسين من روايته الثانية ، قال البخاري :
  حدّثنا إسحاق بن محمد الفروي ، حدّثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، وكان محمد بن جبير ذكر لي ذكراً من حديثه ذلك ، فانطلقت حتى أدخل على مالك بن أوس ، فسألته عن ذلك الحديث ، فقال مالك : بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار ، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني فقال : أجب أمير المؤمنين ، فانطلقت معه حتى أدخل على عمر ، فإذا هو جالس على رحال سرير ليس بينه وبينه فراش ، متكئ على وسادة من أدم ، فسلّمت عليه ثم جلست ، فقال : يا مال انّه قدم علينا من قومك أهل أبيات ، وقد أمرت فيهم برضخ

---------------------------
(1) السيرة النبوية لابن هشام ق 2 : 350 / 352 .
(2) صحيح البخاري 4 : 79 ، و 5 : 89 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 268 _

  فاقبضه فاقسمه بينهم ، فقلت : يا أمير المؤمنين لو أمرت به غيري ، قال : اقبضه أيها المرء .
   فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان ، وعبدالرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأذن لهم فدخلوا فسلّموا وجلسوا ، ثم جلس يرفأ يسيراً ، ثم قال : هل لك في علي وعباس ؟ قال : نعم ، فأذن لهما فدخلا ، فسلما فجلسا ، فقال عباس : يا أمير المؤمنين إقض بيني وبين هذا ، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير .
  فقال الرهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر ، قال عمر : تيدكم ـ اتئدوا ـ أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ما تركنا صدقة ، يريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسه ؟ قال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما الله أتعلمان أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك .
  قال عمر : فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر ، إنّ الله قد خص رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ : ( وَمَا أفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل ٍوَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ء قَدِيرٌ ) (1) ، فكانت فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟ (2) .
  قال عمر : ثم توفى الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ( وأنتما حينئذٍ ، فأقبل على علي وعباس وقال : تذكران أنّ أبا بكر فيه كما تقولان ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها

---------------------------
(1) الحشر : 6 .
(2) لم يذكر جواب علي وعباس على ذلك ، فهل اقرا له بصدق ما قاله أم ردّا عليه قوله ؟

المحسن السبط مولود أم سقط _ 269 _

  أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله يعلم (1) إنّه فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فكنتُ أنا ولي أبي بكر ، فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما عمل فيها أبو بكر (2) ، والله يعلم إنّي فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد ، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا ـ يريد علياً ـ يريد نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ما تركنا صدقة ، فلما بدا لي أن أدفعه اليكما ، قلت : إن شئتما دفعتها اليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبما عمل فيها أبو بكر ، وبما عملت فيها منذ وليتها ، فقلتما ادفعها إلينا ، فبذلك دفعتها إليكما ، فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك ؟ قال الرهط : نعم ، ثم أقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا : نعم ، قال : فتلتمسان منّي قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، لا أقضي فيها قضاء غير ذلك ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فإنّي أكفيكماها .
  أقول : هذا الخبر فيه أكثر من علامة استفهام ، تحاشى جلّ شرّاح صحيح البخاري عن التعرض للإجابة عليها ، إلاّ أن ابن حجر في فتح الباري فقد تعقب الخبر في باب فرض الخمس ، وأطال في تعقيبه باذلاً جهده في بيان اختلاف الرواة في ألفاظ الرواية ، ولا يخلو تعقيبه من فوائد منها :

---------------------------
(1) هنا أسقط جملة : ( وأنتما تزعمان أنّه فيها ظالم فاجر ) ، كما في المصنف لعبد الزراق 5 : 470 ، وعلّق المحقق في الهامش : انّ الحديث في البخاري، ولم يشر إلى تغييب الجملة المذكورة .
(2) وهنا أيضاً أسقطت جملة : ( وأنتما تزعمان أنّي فيها ظالم فاجر ) ، وهي كسابقتها مذكورة في الحديث كما رواه عبد الرزاق في المصنف ، ومرّ آنفاً ، ويأتي في حديث مسلم في صحيحه : ( فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً فاجراً ) .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 270 _

  1 ـ قال : ( وليس لمالك بن أوس في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع ) .
  2 ـ وقال : ( تنبيه : ظنّ قوم أنّ الزهري تفرّد برواية هذا الحديث ، فقال أبو علي الكرابيسي : أنكره قوم وقالوا : هذا من مستنكر ما رواه ابن شهاب ، قال : فإن كانوا علموا أنّه ليس بفرد فهيهات ، وإن لم يعلموا فهو جهل ، فقد رواه عن مالك بن أوس ، وعكرمة بن خالد ، وأيوب بن خالد ، ومحمد بن عمر ، وابن عطاء وغيرهم ) .
  3 ـ قال : ( زاد شعيب ويونس : فاستب علي وعباس ، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض : اقض بيني وبين هذا الظالم ، استبا ، وفي رواية جويرية : وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن ، ولم أر في شيء من الطرق أنّه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم ... واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث ) .
  4 ـ قال : ( زاد في رواية عقيل : وانتما حينئذٍ ـ وأقبل على علي وعباس ـ تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا ، وفي رواية شعيب : كما تقولان ... فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ) .
  5 ـ قال : ( وكأن الزهري كان يحدث به تارة فيصرّح ، وتارة فيكنّي ، وكذلك مالك ، وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عن الإسماعيلي وغيره ، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي ، وهذه الزيادة من رواية عمر عن أبي بكر حذفت من رواية إسحاق الفروي شيخ البخاري ، وقد ثبتت أيضاً في رواية بشر بن عمر عنه عند أصحاب السنن ، والإسماعيلي وعمرو بن مرزوق وسعيد بن داود كلاهما عند الدارقطني ، كلاهما عن مالك على ما قال جويرية عن مالك ، واجتماع هؤلاء عن مالك يدل على أنّهم حفظوه ، وهذا القدر المحذوف من

المحسن السبط مولود أم سقط _ 271 _

  رواية إسحاق ثبت من روايته في موضع آخر من الحديث ، لكن جعل القصة فيه لعمر... واقتصر بعض الرواة على ما لم يذكره الآ خر ، ولم يتعرض أحد من الشرّاح لبيان ذلك ) .
  6 ـ قال : ( وفي ذلك إشكال شديد ، وهو أن أصل القصة صريح في أنّ العباس وعلياً قد علما بأنّه ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ، فإن كان سمعاه من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكيف يطلبانه من أبي بكر ؟ وإن كانا إنّما سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك ، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر ؟ والذي يظهر والله أعلم حمل الأمر في ذلك على ما تقدم في الحديث الذي قبله في حق فاطمة ، وأنّ كلاً من علي وفاطمة والعباس اعتقد أنّ عموم قوله ( لا نورّث ) مخصوص ببعض ما يخلّفه دون بعض ، ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنّهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك ) .
  إلى غير ذلك مما دلّ على مدى تلاعب الرواة بهذا الحديث فيزيد هذا وينقص ذاك ، وكأنّ الأمر الأهم هو تزكية الشيخين فيما فعلا ، وإن جرحهما علي وعباس على ما قاله عمر عنهما بمحضر من وجوه الصحابة كعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، فلم ينكر علي وعباس ما نسبه اليهما عمر من رأيهما في أبي بكر : ( فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ) .
  كما لم ينكرا ذلك من رأيهما فيه على نحو رأيهما في أبي بكر ( فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ) ، كما لم يستنكر ذلك وجوه الصحابة الحضور ، وهذا يعني موافقتهم لعمر في صحة ما نسبه إلى علي وعباس ، إن لم تكن موافقة منهم لرأي علي وعباس في الشيخين .
  وفي صحيح مسلم وشروحه ما يؤيّد ما قلناه ، فقد رواه بإسناده إلى مالك بن أوس وساق الحديث ، وفيه فقال عباس : يا أمير المؤمنين إقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن ( ؟ ) .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 272 _

  وفيه : فرأيتماه ـ يعني أبا بكر ـ كاذباً آثماً غادراً خائناً .
  وفيه : فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً .
  وعقب القاضي عياض في شرحه على قول العباس في علي بقوله : هذا الكلام لا يليق أن يقع من مثل العباس ، وعلي من ـ زه عن بعضه فضلاً عن كله ، والعصمة وإن كانت لا تثبت إلا لنبي ولمن شهد له بها نبي ، لكنّا مأمورون بتحسين الظن بالصحابة ، ونفي كل رذيلة عنهم ، وقد أسقط بعضهم هذه الألفاظ من نسخته تورّعاً ، ولعله وهم الراوي ، وإن صحت هذه الألفاظ فأوجه ما فيها أن يقال : إنّها صدرت من العباس على وجه الدالة على ابن أخيه ، لأنّه في الشرع بمنزلة أبيه... ) (1) .
  أقول : وعلى هذا كان قول المازري بالنسبة للموردين الآخرين المتعلقين بالشيخين ( فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ) فقال : ويجب عندي تأويل قول عمر هذا في أبي بكر ، وقوله على نفسه مثل ذلك ، ثم تكلف في التوجيه ما زاد الحال في الغموض والتمويه (2) .
ما ذكره مسلم بن الحجاج :

  تاسعاًً : ماذا عند مسلم بن الحجاج النيسابوري ( ت 261 هـ ) ؟
  النص الأول : أخرج في كتاب الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (3) ، قال : حدّثنا يحيى بن يحيى التميمي ، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بن مغول ، عن طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبي

---------------------------
(1) راجع إكمال إكمال المعلم للوشتاني الآبي 5 : 74 .
(2) المصدر نفسه 5 : 75 .
(3) صحيح مسلم 5 : 74 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 273 _

  أوفى : هل أوصى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال : لا ، قلت : فلم كتب على المسلمين الوصية ؟ أو فلم أُمِروا بالوصية ؟ قال : أوصى بكتاب الله ( عزّ وجلّ ) ، ثم ذكر له أسانيد غير ما سبق .
  وهذا الخبر سبق أن ذكرناه فيما رواه ابن هشام في سيرته ، وعقبنا عليه بما وسع له المقام فراجع .
  ولشرّاح صحيح مسلم فيه تطبيل وتضليل من غير تحصيل ، فراجع النووي ، والوشتاني الآبي ، والسنوسي الحسيني في شروحهم في المقام .
  النص الثاني : وأخرج في كتاب الوصية أيضاً وفي الباب الآنف الذكر (1) ، بسنده عن الأسود بن يزيد قال : ذكروا عند عائشة أنّ علياً كان وصياً ، فقالت : متى أوصى إليه ، فقد كنت مسندته إلى صدري ( أو قالت حجري ) فدعا بالطست ، فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنّه مات ، فمتى أوصى إليه ؟ !
  وهذا الخبر أيضاً تقدم مثله عن أحمد في مسنده ، في النص السابع وذكرنا ما يتعلق به ، ونضيف هنا قول الوشتاني الآبي في شرحه المسمى إكمال اكمال المعلم بشرح صحيح مسلم (2) ، فقد قال : ( قوله : فلم يوص بشيء ، فيه : انّ الشهادة على النفي من العلم مقبولة ، وبهذا المعنى صار قولها حديثاً ، كأنّه بمنزلة قوله : لا أوصي بشيء ، ثم سبب الوصية إنّما هو حدوث المرض لا الانتهاء إلى هذه الحالة ، وحينئذٍ لا يتقرر ما ذكرت دليلاً على أنه لم يوص ، لاحتمال أن يكون أوصى قبل ذلك ) .
  والشيعة إنّما كانت تقول أنّه ( صلى الله عليه وآله ) أوصى إلى علي بولاية الأمر والخلافة في امته من بعده ، وهذا ما أنكرته عائشة وزعمت موته ( صلى الله عليه وآله ) بين حاقنتها وذاقنتها أو بين سحرها نحرها ... كما مرّ ذلك عنها ، ومرّ تكذيب زعمها عن ابن عباس وعن أم سلمة وعن عمر ، فراجع ذلك في النص السابع عند أحمد .

---------------------------
(1) المصدر نفسه 5 : 75 .
(2) إكمال إكمال المعلم 4 : 352 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 274 _

  النص الثالث : أخرج أيضاً تلو ما سبق بسنده ، قال : حدّثنا سعيد بن منصور ، وقتيبة بن سعيد ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ( واللفظ لسعيد ) قالوا : حدّثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بلّ دمعه الحصى ، فقلت : يابن عباس وما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجعه فقال : إئتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي ، فتنازعوا ، وما ينبغي عند نبي تنازع ، وقالوا : ما شأنه أهجر استفهموه ، قال : دعوني فالذي أنا فيه خير ، أوصيكم بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، قال : وسكت عن الثالثة ، أو قالها فأنسيتها انتهى .
  وأردف في هذا الحديث بثان في معناه ولفظه : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا وكيع ، عن مالك بن مغول ، عن طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنّه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إئتوني بالكتف والدواة ( أو اللوح والدواة ) أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فقالوا : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يهجر .
   وساق الحديث ثالثاً بسند آخر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : لما حُضِر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده ، فقال عمر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قوموا .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 275 _

  قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية ما حال بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .
  أقول : إنّ هذا الحديث رواه ابن سعد في الطبقات ، وعبد الرزاق في المصنف ، والبخاري في صحيحه مكرراً وفي عدة أبواب ، وغيرهم كثير وهو ( حديث الرزية ) وقد استوفينا طرقه ومتونه باختلاف رواته في موسوعة ( عبدالله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ) ، وذكرنا مختلف آراء العلماء فيه .
  والتحقيق أنّ القائل للكلمة الجافية النابية ( إنّه ليهجر ) هو عمر بن الخطاب ، وإنّ الغرض من الكتاب هو النص ( تحريرياً ) على خلافة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، حسماً للنزاع ، لكن عمر منع من ذلك واعترف بعد حين حيث قال لابن عباس : واراده رسول الله للأمر فمنعت من ذلك راجع الموسوعة تجد فيها ما يزيل البهمة ويكشف الغمة ، وقد مرّ في ذيل حديث البخاري في تخاصم علي والعباس عند عمر ما يتعلّق برواية مسلم للحديث ، وفيه ما لم يوجد عند البخاري في روايته فراجع .
ما ذكره ابن شبّة :

  عاشراًً : ماذا عند عمر بن شبّة البصري النحوي الأخباري ( ت 262 هـ ) ؟
  ذكر في كتابه تاريخ المدينة المنورة ( أخبار المدينة المنورة ) (1) ( ذكر فاطمة والعباس وعلي ( رضي الله عنهم ) وطلب ميراثهم من تركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ) ثم ساق خمسة عشر حديثاً ننتخب منها ما يلي :
  النص الأوّل : قال : حدّثنا سويد بن سعيد ، والحسن بن عثمان قالا : حدّثنا الوليد بن محمد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : أنّ فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله )

---------------------------
(1) أخبار المدينة المنورة 1 : 122 .