الفهرس العام



موقف الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يومئذٍ :



  ورحم الله علي بن الفارقي مدرس العربية ببغداد ، وقد سأله ابن أبي الحديد فقال : قلت له : أكانت فاطمة صادقة في دعواها ؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فَدَك وهي صادقة ؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فَدَك بمجرد دعواها ، لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والمدافعة بشيء ، لأنّه يكون قد سجل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي ، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود (1) .
وقفة ايضاح واستيضاح :   لابد للباحث عن الحقيقة ، من معاناة البحث مهما تكثّرت المصاعب مما يعترض طريقه ، وحديث : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) الذي رواه أبو بكر محتجاً به دفع مطالبة الزهراء ( عليها السلام ) بفدك نحلة وميراثاً ، قد جرى عليه تحوير وتزوير ، سواء في رواته أو روايته ، وحتى فيما جرى الإختلاف والنقاش في قراءته .
  ومهما تهضّمنا تزوير الرواة عدداً ، فلا يسعنا ذلك في تعدد روايته ، ولابدّ لنا من استبيان الصحيح في قراءته، لأنّ الإختلاف بين أنصار الخلافة وأنصار الإمامة ، أحدث جدلاً في الحوار العقائدي ، لا تزال مصادر التراث عند الطرفين تحتفظ بنماذج تتأرجح بين المكابرة والمصابرة ، ويجد الباحث ذلك جليّاً عند من قرأ كلمة ( صدقةٌ ) بالرفع ، كما هو شأن أنصار الخلافة ليتم لهم ما أراد أبو بكر من حجة الدفع ، أمّا من قرأ الكلمة ( صدقةً ) بالنصب ، كما هو شأن أنصار الإمامة ليتم لهم ما أرادوا من دفع الدفع .
  وهكذا بقيت المكابرة تدفعها المصابرة في حدود الحوار العلمي ، ولم يكن

---------------------------
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 284 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 502 _

  الاختلاف وليد ساعة رواية من رواه ، بل حدث بعد زمان خلافته ، حيث نشط علماء الكلام من مدرسة الخلافة في توجيه قراءته بإعرابه بالرفع ، ليرفعوا عنهم إصر الدفع ، فكان من الطبيعي أن ينبري علماء الكلام من أنصار الإمامة إلى الرد على أولئك بتقريب قراءة النَصب لدفع حدة أهل النُصب ، وهذا ما أسعر نار الخصام بين علماء الكلام ، وسرى أوارها إلى علماء الحديث من أنصار الخلافة ، ولا يبعد أن تكون السياسة دسّت أنفها في توسيع الفجوة .
  ولو أردنا أن نفحص التراث السني بحثاً عن الصحيح في القراءة ، سنجد سيلاً من صور الحديث المختلفة مع وحدة الراوي ووحدة السبب ، وهذا مما يبعث على العجب ، وقد يفاجأ القارئ إذا أحيط علماً بأنّ صور الحديث تجاوزت العشرة ، وهو حديث واحد رواه أبو بكر ، فمن أين جاء الاختلاف في الرواية بين روايات كتب الصحاح والسنن والمسانيد والتاريخ والسيرة ؟
  والجواب ببساطة : إنّما جاء من الرواة من بعد أبي بكر ، فكلّما سمعوا نقداً له في دلالته ، وضعوا ما يسدّ الثغرة ولو بتحوير في قراءته ، ولما كان استعراض جميع التراث السني التي ذكرت الحديث بصوره المختلفة يحتاج وقتاً طويلاً ، فسأكتفي بعرض صور الحديث المختلفة في كتابين ، هما عند أنصار الخلافة من خيرة الصحاح ، وما ورد فيهما معاً محكوم عليه بالصحة عندهم ، والحديث الذي يرد فيهما معاً يقولوا عنه : متفق عليه ولا مجال لردّه ، لأنّه أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين ، والصيد كل الصيد في جوف الفراء .
  فنقول : لقد ورد الحديث في صحيح البخاري في عدة مواضع نافت العشرة ، كما ورد في صحيح مسلم في خمسة مواضع ، وقد اختلفت صور الحديث فيهما اختلافاً بيّناً يوهن الاحتجاج بالحديث ، ويكشف عن تعمّد الإبهام والإيهام لاستغفال القرّاء ، وسد باب الاستيضاح والاستفهام ، في وجه من يسأل ، حتى ولو لم يرد الحجاج والخصام .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 503 _

  وإلى القارئ عرض صور الحديث عند البخاري ، ومن بعد صوره عند مسلم .
  فماذا عند البخاري ؟
  الجواب : عنده بصورة ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) وعنده بصورة ( لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ) وعنده بصورة ثالثة : ( لا نورّث ما تركناه صدقة ) وكل من هذه الصور الثلاث وردت في عدة مواضع من صحيح البخاري سأعرضها أمام القارئ سنداً ومتناً ، معتمداً على طبعة بولاق الموثقة بأختام مشيخة الإسلام أيام عبد الحميد السلطان العثماني عام 1313 هـ ، ليرى الاختلاف الموهن للاستدلال .
  الصورة الأولى : وردت أولاً في كتاب الجهاد والسير (1) ، قال البخاري : حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدّثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين ، أخبرته أنّ فاطمة ( عليها السلام ) ابنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سألت أبا بكر ...أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ماتركنا صدقة ) .
  فغضبت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ستة أشهر ، قالت : وكانت فاطمة تسأل نصيبها مما ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من خيبر وفدك ، وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال : لست تاركاً شيئاً كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل به إلاّ وعملت به ، فإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس ، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، فهما على ذلك إلى اليوم .

---------------------------
(1) صحيح البخاري 4 : 79 ، كتاب الجهاد والسير ، باب فرض الخمس .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 504 _

  والسؤال الذي يفرض نفسه في المقام ، من هو القائل : ( فهما على ذلك إلى اليوم ) ؟ أهي عائشة ؟ أو هو عروة ؟ أو هو الزهري ؟ أو هم الرواة من بعده ؟ أو هو البخاري المتوفى 256 هـ ؟ .
  الصورة الثانية : في كتاب الجهاد والسير (1) قال البخاري :
  حدّثنا إسحاق بن محمد الفروي ، حدّثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، وكان محمد بن جبير ذكر لي ذكراً من حديثه ذلك ، فانطلقت حتى أدخل على مالك بن أوس فسألته عن ذلك الحديث ، فقال مالك : بينا أنا جالس في أهلي حين قشع النهار ، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني فقال : أجب أمير المؤمنين ، فانطلقت معه حتى أدخل على عمر ، فإذا هو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش ، متكئ على وسادة من أدم ، فسلّمت عليه ثم جلست ، فقال : يا مال إنّه قدم علينا من قومك أهل أبيات ، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه فاقسمه بينهم ، فقلت : يا أمير المؤمنين لو أمرت به غيري ، قال : اقبضه أيّها المرء .
  فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأذن لهم فدخلوا فسلّموا وجلسوا ، ثم جلس يرفأ يسيراً ثم قال : هل لك في علي وعباس ؟ قال : نعم ، فأذن لهما فسلّما فجلسا ، فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) من بني النضير ، فقال الرهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر .
  قال عمر : تيدكم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) يريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسه ؟ قال

---------------------------
(1) المصدر نفسه 4 : 79 / 81 ، كتاب الجهاد والسير ، باب فرض الخمس .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 505 _

  الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما الله أتعلمان انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قال ذلك ؟ قال : قد قال ذلك .
  قال عمر : فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر ، إنّ الله قد خصّ رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ : ( وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ) ـ إلى قوله ـ : ( قَدِيرٌ ) (1) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، قد أعطاكموه وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي يجعله مجعل مال الله ، فعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟
  قال عمر : ثم توفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله يعلم إنّه فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا ولي أبي بكر ، فقبضتها سنتين من أمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما عمل فيها أبو بكر ، والله يعلم أنّي فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم جئتماني تكلّماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد ، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا ـ يريد علياً ـ يريد نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) .
  فلما بدا لي أن أدفعه إليكما ، قلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه فتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبما عمل فيها أبو بكر ، وبما عملت فيها منذ وليتها ، فقلتما : إدفعها إلينا فبذلك دفعتها إليكما ، فأنشدكم

---------------------------
(1) الحشر : 6 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 506 _

  بالله هل دفعتها إليهما بذلك ؟ قال الرهط : نعم ، ثم أقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا : نعم ، قال : فتلتمسان منّي قضاءً غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليَّ فإنّي أكفيكماها (1) .
  الصورة الثالثة : في باب مناقب قرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومنقبة فاطمة ( عليها السلام ) بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (2) ، قال البخاري :
  حدّثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : حدّثني عروة بن الزبير ، عن عائشة أنّ فاطمة ( عليها السلام ) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، تطلب صدقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي بالمدينة ، وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال ـ يعني مال الله ـ ليس لهم أن يزيدوا على المأكل ، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) التي كانت عليها في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فتشهّد عليّ ثم قال : إنّا عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ، وذكر قرابتهم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحقهم ، فتكلّم أبو بكر فقال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي .

---------------------------
(1) لقد قال عمر فيما قال : ثم توفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقبضها ...وقال أيضاً : ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليّ أبي بكر فقبضتها سنتين ... فمن حق السائل أن يسأل كيف صدّق الصحابة الحضور وصادقوا على قول عمر : أبو بكر وليّ رسول الله ، وعمر وليّ أبي بكر ، وفهم الجميع عموم الولاية ، ولم يفهموا جميعاً ذلك العموم من قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غدير خم : ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) وفي لفظ : ( من كنت وليّه فعلي وليّه ) وهذا ما قاله في أكثر من مورد ، ورواه أكثر من واحد ، وأخرجه أكثر من عشرين حافظاً فيما أحصيت ، أمثال ابن حبان في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه ، والبيهقي في سننه ، والنسائي في خصائصه ، والطبراني في معجمه الكبير ، وغيرهم وغيرهم .
(2) صحيح البخاري ، باب مناقب قرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) 5 : 20 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 507 _

  الصورة الرابعة قال البخاري (1) :
  حدّثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النصري ، أنّ عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد يستأذنون ؟ فقال : نعم ، فأدخلهم ، فلبث قليلاً ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، وهم يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) من بني النضير ، فاستبّ علي وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر .
  فقال عمر : اتئدوا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) يريد بذلك نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على عباس وعلي فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قال ذلك ؟ قالا : نعم ، قال : فإنّي أحدّثكم عن هذا الأمر ، إنّ الله سبحانه كان خص رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الفيء بشيء لم يخصه أحداً غيره ، فقال جلّ ذكره : ( وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكَاب ) _ إلى قوله ـ : ( قَدِيرٌ ) (2) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم ، لقد أعطاكموها وقسّمها فيكم ، حتى بقي هذا المال منها ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مال الله .
  فعمل ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حياته ، ثم توفي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : فأنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنتم حينئذٍ ـ فأقبل

---------------------------
(1) صحيح البخاري 5 : 89 ، باب حديث بني النضير ، ومخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إليهم في دية الرجلين وما أرادوا من الغدر برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
(2) الحشر : 6 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 508 _

  على علي وعباس وقال : ـ تذكران أنّ أبا بكر فيه كما تقولان ، والله يعلم أنّه فيه لصادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا ولي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر (1) ، فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيه بما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وابو بكر ، والله يعلم أنّي فيه صادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتني ـ يعني عباساً ـ فقلت لكما : انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) ، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعته إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر ، وما عملت فيه مذ وليت ، وإلاّ فلا تكلّماني ، فقلتما : ادفعه إلينا بذلك فدفعته إليكما ، فتلتمسان منّي قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعا إليّ فأنا أكفيكما .
   قال : فحدّثت هذا الحديث عروة بن الزبير فقال : صدق مالك بن أوس .
  الصورة الخامسة : ... سمعت عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) تقول : أرسل أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهنّ مما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فكنت أنا أردهنّ ، فقلت إليهنّ : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقول : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) يريد بذلك نفسه ، إنّما يأكل آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى ما أخبرتهنّ ، قال : فكانت هذه الصدقة بيد علي ، منعها علي عباساً فغلبه عليها ، ثم كان بيد حسن بن علي ، ثم بيد حسين بن علي ، ثم بيد علي بن حسين وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولونها ، ثم بيد زيد بن حسن ، وهي صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حقاً .

---------------------------
(1) لقد مرّ في الصورة الثالثة من النص قول عمر : ( فكنت أنا ولي أبي بكر ) وفي هذا المورد ارتقى فقال : أنا ولي رسول الله وأبي بكر ، فمن رقّاه ؟

المحسن السبط مولود أم سقط _ 509 _

  الصورة السادسة قال البخاري (1) : حدّثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنّ فاطمة ( عليها السلام ) والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما ، أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( لا نورث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال ) والله لقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحب إليَّ أن أصل من قرابتي .
  الصورة السابعة قال البخاري (2) : حدّثنا يحيى بن بكر ، حدّثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنّ فاطمة ( عليها السلام ) بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال ) وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
  فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها عليّ ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها .
  وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر ، فقال عمر : لا والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال أبو بكر : وما عسيتهم أن يفعلوا بي ، والله لآتينّهم .
  فدخل عليهم أبو بكر ، فتشهد علي فقال : إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنّك استبددت علينا بالأمر ، وكنّا نرى

---------------------------
(1) صحيح البخاري 5 : 90 .
(2) صحيح البخاري 5 : 139 ، باب غزوة خيبر .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 510 _

  لقرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نصيباً ، حتى فاضت عينا أبي بكر ، فلما تكلّم أبو بكر قال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحبّ إليَّ أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيها إلا صنعته .
  فقال علي لأبي بكر : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلّى أبو بكر الظهر رقى على المنبر ، فتشهد وذكر شأن عليّ وتخلّفه عن البيعة ، وعذره بالذي اعتذر إليه ثم استغفر ، وتشهد عليّ فعظّم حق أبي بكر ، وحدّث أنّه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ، ولا إنكاراً للذي فضّل الله به ، ولكنّا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً فاستبدّ علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسُرّ بذلك المسلمون وقالوا : أصبت ، وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف .
  الصورة الثامنة قال البخاري (1) :
  حدّثنا سعيد بن عُفير ، قال : حدّثني الليث ، قال : حدّثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان ، وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكراً من حديثه ، فانطلقت حتى دخلت على مالك بن أوس فسألته ، فقال مَلِك : انطلقت حتى أدخل على عمر إذ أتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأذن لهم ، قال : فدخلوا وسلّموا فجلسوا ، ثم لبث يرفأ قليلاً فقال لعمر : هل لك في علي وعباس ؟ قال : نعم ، فأذن لهما .
  فلما دخلا سلّما وجلسا ، فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، فقال الرهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر ، فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي به تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) يريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسه ؟ قال

---------------------------
(1) صحيح البخاري 7 : 63 ، كتاب النفقات ، باب حبس نفقة الرجل قوت سنة على أهله وكيف نفقات العيال .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 511 _

  الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك .
  قال عمر : فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر : إنّ الله كان خصّ رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال بشيء لم يعطه أحداً غيره ، قال الله : ( وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ) ـ إلى قوله ـ : ( قَدِيرٌ ) (1) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموها وبثّها فيكم ، حتى بقي منها هذا المال فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم .
  ثم توفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها أبو بكر يعمل فيها بما عمل به فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنتما حينئذٍ ـ وأقبل على علي وعباس ـ تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا ، والله يعلم أنّه فيها صادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر ، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر ، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتى هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعته إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبما عمل به فيها أبو بكر ، وبما عملت فيها منذ وليتها ، وإلا فلا تكلّماني فيها ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك ، فدفعتها إليكما بذلك ، أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك ؟ فقال الرهط : نعم ، قال : فأقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا : نعم ، قال : أفتلتمسان منّي قضاء غير

---------------------------
(1) الحشر : 6 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 512 _

  ذلك ، فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها فأنا أكفيكماها .
  الصورة التاسعة قال البخاري (1) : حدّثنا عبد الله بن محمد ، حدّثنا هشام ، أخبرنا معمّر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر ، فقال لهما أبو بكر : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال ) قال أبو بكر : والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيه إلاّ صنعته ، قال : فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت .
  الصورة العاشرة قال البخاري (2) : حدّثنا إسماعيل بن أبان ، أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) .
  الصورة الحادية عشرة قال البخاري (3) : حدّثنا يحيى بن بكير ، حدّثنا الليث ، عن عُقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان ـ وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي من حديثه ذلك ، فانطلقت حتى دخلت عليه فسألته ـ فقال : انطلقت حتى أدخل على عمر ، فأتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد ؟ قال : نعم ، فأذن لهم ، ثم قال : هل لك في علي وعباس ؟ قال : نعم .
  قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، قال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورث ما تركنا

---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 : 149 ، كتاب الفرائض باب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) .
(2) المصدر نفسه 8 : 149 .
(3) المصدر نفسه 8 : 149 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 513 _

  صدقة ) يريد رسول الله نفسه ؟ فقال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل على علي وعباس فقال : هل تعلمان أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك .
  قال عمر : فإنّي أحدّثكم عن هذا الأمر ، إنّ الله قد كان خص رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، فقال ( عزّ وجلّ ) : ( وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ) ـ إلى قوله ـ : ( قَدِيرٌ ) (1) ، فكانت خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه وبثّها حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي منها فيجعله مجعل مال الله ، ففعل بذاك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم .
  فتوفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر ، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك ، فتلتمسان منّي قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها .
  الصورة الثانية عشرة قال البخاري (2) : حدّثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنّ أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهنّ ، فقالت عائشة : إليس قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) .

---------------------------
(1) الحشر : 6 .
(2) المصدر نفسه 8 : 150 ، نفس الباب السابق .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 514 _

  الصورة الثالثة عشرة قال البخاري (1) : حدّثنا عبد الله بن يوسف ، حدّثنا الليث ، حدّثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني مالك بن أوس النصري ـ وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكراً من ذلك فدخلت على مالك فسألته ـ فقال : انطلقت حتى أدخل على عمر أتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فدخلوا فسلموا وجلسوا ، فقال : هل لك في علي وعباس فأذن لهما ، قال العباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين الظالم فاستبّا ، فقال الرهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر .
  فقال : اتئدوا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) يريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسه ، قال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك ؟ قالا : نعم ، قال عمر : فإنّي محدّثكم عن هذا الأمر ، إنّ الله كان خص رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال بشيء لم يعطه أحداً غيره ، فإنّ الله يقول : ( وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ) (2) الآية .
  فكانت هذه خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم ، وقد أعطاكموها وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك في حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ فقالوا : نعم ، ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما الله هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم .

---------------------------
(1) المصدر نفسه 9 : 97 ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم .
(2) الحشر : 6 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 515 _

  ثم توفى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) فقال أبو بكر : أنا وليّ رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنتما حينئذٍ ـ وأقبل على علي وعباس ـ تزعمان أنّ أبا بكر فيها كذا ، والله يعلم أنّه فيها صادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر ، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو بكر .
  ثم جئتماني وكلمتكما على كلمة واحدة وأمركما جميع ، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه تعملان فيها بما عمل به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبما عمل فيها أبو بكر ، وبما عملت فيها منذ وليتها ، وإلا فلا تكلّماني فيها ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك ، فدفعتها إليكما بذلك ، أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك ؟ قال الرهط : نعم .
  فأقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا : نعم ، قال : أفتلتمسان منّي قضاء غير ذلك ، فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها .
  هذه موارد ذكر الحديث بلفظ ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) تكرّرت أكثر من عشر مرّات ، وأما بلفظ : ( لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ) ورد مرّة واحدة كما مرّ .
  وإذا لاحظنا الأسانيد في تلك الموارد ، نجد سبعة منها مدارها على الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، كما في الموارد : 1 / 3 / 5 / 6 / 7 / 10 / 12 ، وخمسة مدارها على الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، كما في الموارد : 2 / 4 / 8 / 11 / 13 .
  وإذا قارنّا بين الروايات نجد التفاوت اللفظي كثيراً مما يغيّر أو يغاير بين المعاني ، مضافاً إلى التضبيب المتعمد من البخاري على ما قاله عمر لعلي وعباس

المحسن السبط مولود أم سقط _ 516 _

  في رأيهما في صنع أبي بكر ، والتعبير عن ذلك بكذا وكذا ، بينما نرى معاصره مسلم بن الحجاج أصدق لهجة وحديثاً منه في ذكر ذلك بصراحة تامة في صحيحه ، كما سيأتي .
  ثم إنّ البخاري دسّ بأنف أبي هريرة بين تلك الموارد ، فذكر حديثاً في كتاب الفرائض في باب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) فقال (1) : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا يقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ) .
  وهذا أخرجه مسلم في صحيحه (2) ، باسنادين توثيقاً للخبر ، ثم ارتقى بأبي هريرة بسند ثالث عنه عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) وهذا فيما يبدو من التدرج من خبره الأول : لا يقتسم ورثتي ديناراً الخ ، حتى روى عين ما رواه أبو بكر ورواه عمر وروته عائشة ، ولا غرابة فهو من الضالعين في ركاب الحاكمين .
  روايات الحديث في صحيح مسلم :
أورد مسلم الحديث أربع مرّات بأسانيده إلى كل من الزهري عن عروة عن عائشة ، فمرّة في حديثها عن أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) أردن أن يبعثن عثمان .
  ومرّتين في حديثها أنّ فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
  ومرّة في حديثها أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر .

---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 : 150 .
(2) صحيح مسلم 5 : 156 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 517 _

  وأورده مرّة واحدة باسناده إلى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان في خصومة علي والعباس ، وعطف عليه ثانية مشيراً إليه باسناد آخر (1) .
  كما أنه لم يخل صحيحه من روايتي أبي هريرة ، كما مرّت الإشارة إلى ذلك قريباً .
  وكل مرويات مسلم تجدها في كتاب الجهاد والسير في باب حكم الفيء ، وباب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) (2) .
  وإذا قارنّا بين مرويات مسلم ومرويات البخاري ، فيما اتفقا عليه اسناداً بدءاً من الزهري ، سواء في حديثه عن عروة عن عائشة ، أو حديثه عن مالك بن أوس بن الحدثان ، لا نجد حقيقة الاتفاق بتمام اللفظ والمعنى ، بل نجد التفاوت واضحاً ، ولا نطيل البحث في ذلك ، إلاّ أنّ الذي لا ينبغي التجاوز عنه هو ما جاء في حديث مالك بن أوس عند مسلم من قول عباس : اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن ، ولما كان مسلم قد روى الخبر بأسانيد بعضها عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، وقد مرّ الخبر عن عبد الرزاق في المصنف (3) ، وليس فيه قول العباس في علي : هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن .
  والذي ورد في البخاري في كتاب الاعتصام ـ كما مرّ _ قوله : اقض بيني وبين الظالم ، استبّا .
  ولما كان ذلك في الفظاعة مما ينمّ عن كذب راويه ، فقد جعل موازنة لما يأتي بعده في نفس الخبر من قول عمر لعلي والعباس : فرأيتماه ـ يعني أبا بكر في قضائه عليهما ـ كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إنّه لصادق

---------------------------
(1) صحيح مسلم 2 : 53 .
(2) صحيح مسلم 5 : 151 ط صبيح ، و 2 : 52 ط بولاق .
(3) المصنف 5 : 469 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 518 _

  بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر وأنا وليّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم إنّي لصادق بارّ راشد تابع للحق .
  وهذا الذي قاله عمر حكاية عنهما في أبي بكر وفيه ، أشدّ فظاعة خصوصاً مع سكوتهما عليه وعدم اعتذارهما منه ، إذ لم يتنصلا مما نسبه عمر إليهما ولم يدفعا عنهما بشيء ، بل سكوتهما ربما أشعر بإصرارهما على ذلك .
  وقد تسبب ذلك في إرباك شراح الصحيحين ، ولولا خوف الإطالة لأحطت القارئ خُبراً بذلك ، وحسبي أن أحيله على قراءة ما في شرح النووي لصحيح مسلم (1) ، من أقوال المازري والقاضي عياض مما هو ظاهر البطلان، لحملهما على الألفاظ معاني تأباها العقول السليمة بفطرتها .
  كما أنّ في فتح الباري لابن حجر ، وارشاد الساري للقسطلاني ، وغيرهما من شروح صحيح البخاري نحو ذلك ، وقد علّق المعلّق على صحيح مسلم (2) قال : قوله : اقض بيني وبين هذا الخ ، كان سيدنا عمر على ما يأتي بيانه في ص 155 دفع صدقته ( صلى الله عليه وآله ) بالمدينة إلى علي وعباس ( رضي الله تعالى عنهما ) على مقتضى طلبهما ، فغلبه عليها علي ، فكانا يتنازعان فيها .
  فكان علي كما ذكره البلاذري يقول : إنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول : هي ملك رسول الله وأنا وارثه ، فكانا يتخاصمان إلى سيدنا عمر ، وأما ما روي هنا من قول عباس لعلي ، وكذا ما رواه البخاري في كتاب الاعتصام من قوله : ( اقض بيني وبين الظالم استبّا ) فمما يأبى القلب تصديق صدوره من عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حق ابن عم النبي وصهره ، وكذا رواية مسابتهما في خليفة مثل سيدنا عمر بمحضر من سادة الصحابة ( رضي الله تعالى عنهم ) .

---------------------------
(1) شرح النووي لصحيح مسلم 12 : 71 / 76 .
(2) صحيح مسلم 2 : 152 ، في الهامش .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 519 _

  ومهما يكن حشرهم وحشدهم فلن يستطيعوا إخفاء الحق ، ومهما يكن من زعمهم انقطاع الشيعة في ذلك ، فهو هراء محض ، ومن ذا الذي لا يقدر على دفع الباطل من الشيعة حتى زعموا انقطاعهم عند المحاججة .
  ولمطارفة القراء أذكر لهم ما أشاروا إليه من محاججة الشيخ المفيد مع علي بن شاذان صاحب أبي بكر الباقلاني ، فقد ذكر الآبي الوشتاني ( ت 828 هـ ) في اكمال اكمال المعلم (1) في شرح حديث أبي هريرة : ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) قال : مجمع على صحته وقبوله من أهل السنة ، وأنّه اشتمل على جملتين ، والثانية هي قوله : ( ما تركناه صدقة ) ف ـ ( ما ) في موضع رفع بالابتداء و ( صدقة ) الخبر ، وحرّفه الإمامية قالوا : إنّما هو ( لا يورّث ) بالياء ، وما مفعوله ، وصدقة منصوبة على الحال ، وقالوا : إنّ المعنى : إنّ الشيء الذي تركناه صدقة لا يورّث ويورّث غيره ، وهذا خلاف ما فهمه أهل السنة ، وحمله عليه أئمة الصحابة ، ولما نص عليه الصدّيق مما يرفع الإبهام كقوله : كل مال النبي ( صلى الله عليه وآله ) صدقة ، وقوله في الحديث : إنّا لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ، وكقوله في الحديث قبله : لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ما تركناه صدقة .
  وقد اعترض بهذا الهوس أبو عبد الله بن المعلم من الأئمة الإمامية على القاضي علي بن شاذان صاحب القاضي أبي بكر الباقلاني لعلمه بضعفه في العربية ، فقال له ابن شاذان : لا أعلم ما صدقة من صدقة ، ولا أحتاج إلى ذلك في هذه المسأله ، هذه فاطمة وعلي والعباس لا شك عندي وعندك في أنّهم من أفصح العرب ، وأعلمهم بالفرق بين اللفظين ، وهذا أبو بكر من أفصح العالمين بذلك كالثلاثة ، وقد جاء الثلاثة يطلبون الميراث فأجابهم أبو بكر بالحديث ،

---------------------------
(1) اكمال اكمال المعلم 5 : 81 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 520 _

  فسلموا ولم ينازعوا ، فلو كان اللفظ لا يقتضي المنع لم يورده أبو بكر ولم يسلّمه الآخرون ، وأيضاً فالرفع هو المروي ومدعي النصب مبطل .
  وهذا الذي ذكره الوشتاني لم يأت فيه بجديد ، بل سبق إلى ذكره من قبل أبو الوليد الباجي المالكي ( ت 494 هـ ) فقد ذكر المحاججة بصورة أوسع (1) .
  ومن الغريب جعلهم عدم ردّ الصديقة فاطمة ( عليها السلام ) ، والإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعمهما العباس ( رضي الله عنه ) على أبي بكر احتجاجه بقراءة الحديث بالرفع دليلاً على صحة القراءة ، ولست أدري لماذا الاستغفال والتعمية ؟ ألا يكفي انصرافهم غضابى ، ومقاطعتهم لأبي بكر طيلة حياة فاطمة ( عليها السلام ) فلم يبايع واحد منهم ، أن يكون ذلك دليلاً على عدم قبولهم الحديث جملة وتفصيلاً ، وأما قراءة النصَب والرفع إنّما صار الكلام فيها عند المتكلمين بعد ذلك ، وقد مرّ في كلام الشريف المرتضى ما يتعلّق بالمقام في ردّه على القاضي عبد الجبار ، ونقله عنه ابن أبي الحديد فراجع .
  وكم لعلماء التبرير من عناء مرير في التطوير والتحوير ، وبلغ الحال بهم إلى التزوير كما سيأتي نماذج من أقوالهم فيما يتعلّق بأحداث السقيفة وما بعدها ، وحتى إسقاط المحسن السبط فانتظر .
  ونعود إلى حديث ( لا نورّث ) فنقول : الذي لا شك فيه أنّ أبا بكر قال ذلك مرّة واحدة في رد مطالبة الزهراء ( عليها السلام ) والعباس في دعوى الميراث ، فما ورد في مصادر الحديث عند العامة في أنّه قال ذلك في رد دعوى النحلة لا يمكن تصديقه ، لأنّ الردّ لا ينفي المدّعى ، ولو أغضينا النظر عن ذلك ، فما هو اللفظ الذي ذكره أبو بكر زاعماً أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قاله ، هل ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ) ؟ أو ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ) ؟

---------------------------
(1) المنتقى شرح موطأ مالك 7 : 317 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 521 _

  أو ( لا نورّث ما تركنا صدقة ) ؟ كما مرّ عن البخاري ومسلم .
  أو ( لا نورّث ما تركناه صدقة ) ؟ وقد مرّ أيضاً .
  أو ( لا نورّث ما تركنا فهو صدقة ) ؟ وقد مرّ أيضاً .
  فبأيّ صيغة قاله النبي ( صلى الله عليه وآله ) إن صح زعم الزاعم أنّه قال في ذلك شيئاً ؟ ولابدّ أن تكون الصيغة واحدة ، إذ لا يعقل أنّه قال ذلك مراراً بصيغ متعددة ولم يسمعها منه غير أبي بكر ، كما لا حاجة بنا إلى اتهام أبي بكر في اتيانه بجميع الصيغ المتعددة ما دام التداعي قد انتهى حين رد الزهراء والعباس عند مطالبتهما له بدعوى الميراث ، وما قيل عنه في رد دعوى النحلة لا يستقيم الاحتجاج به ، كما قلنا إنّ الرد برواية لا نورّث لا ينفي المدّعى .
  ويدلّ على أن تخبّط الرواة من أنصار الخلافة هو السبب في الخلط بين المقامين في التداعي ، والذي يدل على صحة ما قلناه أنه في دعوى النحلة طالب الزهراء ( عليها السلام ) بالشهود ، ولسنا في مقام التبرير أو الإدانة في هذه المسألة ، لكن هل كان من حقه أن يطلب ذلك منها ، وهي صاحبة اليد وهو المدعي ، فعليه هو إقامة البينة على صحة ما يقول .
خطبة الزهراء ( عليها السلام ) :   ( فإنّها من محاسن الخطب وبدايعها ، عليها مسحة من نور النبوّة ، وفيها عبقة من أرج الرسالة ، وقد أوردها المؤالف والمخالف ) هكذا قال عنها الإربلي ( ت 692 هـ ) ، وقد أوردها في كتابه كشف الغمة نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلّفها في ربيع الآخر سنة ( 322 هـ ) روى عن رجاله من عدة طرق ، وقد مرّ بنا توثيق الجوهري ، وأنّه عالم محدث ، كثير الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدثون ، ورووا عنه مصنفاته .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 522 _

  وقد روى الخطبة عن عمر بن شبّة ، وهذا أيضاً وثّقه الدارقطني ، وابن أبي حاتم ، والخطيب وغيرهم كما في تهذيب التهذيب (1) ، ومرّ بنا نقل ما قالوه فيه أيضاً ، وذكرنا انّ وفاته كانت في جمادى الآخرةت سنة 262 هـ ، فيعدّ هو أول من وصلت إلينا الخطبة من طريقه في التراث السني ، ومن بعده يأتي ابن طيفور ( ت 280 هـ ) فقد رواها في بلاغات النساء (2) .
  وثالث القوم ـ بعد عمر بن شبة وابن طيفور ـ هو ابن قتيبة ( ت 276 هـ ) فقد أشار إلى الخطبة في كتابه ( غريب الحديث ) (3) ، فقال : لمّة الرجل من النساء مثله في السنّ .
  ومنه قيل في الحديث الموضوع ؟ ! على فاطمة رحمها الله : إنّها خرجت في لمّة من نسائها تتوطأ ذيولها ، حتى دخلت على أبي بكر فكلّمته بذلك الكلام .
   وقد كنت كتبته وأنا أرى أن له أصلاً ، ثم سألت عنه رجال الحديث فقال لي بعض نقلة الأخبار : أنا أسنّ من هذا الحديث وأعرف من عمله .
  أقول : ليت ابن قتيبة سمّى لنا من ذا الذي سأله من رجال الحديث ؟
  وما اسم ذلك البعض من نقلة الأخبار الذي قال له هو أسنّ من الحديث ؟
  ثم لماذا لم يسمّ له مَن عمله ما دام يزعم معرفته ؟
  وأخيراً ما دام قرّ عند ابن قتيبة أنّه موضوع ، معتمداً على مقالة مجهول عن مجهول ، فلماذا استشهد به ما دام موضوعاً ؟
  والغريب أن يقول ابن قتيبة ذلك ، ومعاصره ابن طيفور رواه وذكر الخطبة في كتاب ( بلاغات النساء ) وهو كتاب مطبوع ، ثم انّ ابن قتيبة ذكر بعد ما تقدم أنّ

---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 7 : 460 .
(2) بلاغات النساء : 14 .
(3) غريب الحديث 1 : 590 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 523 _

  فاطمة ( عليها السلام ) قالت بعد موت أبيها ( صلى الله عليه وآله ) :
قـد كـان بـعدك أنباء iiوهنبثة      لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّـا فـقدناك فقد الأرض وابلها      فاختلّ  قومك فاشهدهم ولا iiتغب(1)
.
  والرابع من الأعلام في التراث السني هو المبارك مجد الدين ابن الأثير ( ت 606 هـ ) فقد ذكر الخطبة في كتابه ( منال الطالب في شرح طوال الغرائب ) (2) كما أشار إليها في النهاية في غريب الحديث (3) ، فقال : في حديث فاطمة ( أنّها خرجت في لمّة من نسائها تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته ) أي في جماعة من نسائها .
  والخامس محمد بن عمران المرزباني رواها باسناده إلى عروة بن الزبير عن عائشة كما في شرح النهج (4) ، كما رواها المرزباني أيضاً باسناده إلى زيد بن علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن آبائه (5) .
  السادس وأخيراً من المعاصرين عمر رضا كحالة في كتابه أعلام النساء (6) ، فقد ذكر الخطبة .
  أما مصادر الخطبة في التراث الشيعي فمن الطبيعي أن تفوق ما سبق عدداً ، غير أنّا نكتفي بذكر عدد ما سبق من القدماء .

---------------------------
(1) لقد مرّ ما يتعلق بالبيتين ونسبتهما إلى الصديقة إنشاءاً أو إنشاداً . ، وقد ذكرهما أهل اللغة في ( هنبث ) فراجع النهاية لابن الأثير 5 : 277 ، والفائق للزمخشري 4 : 116 ، ولسان العرب لابن منظور 2 : 199 .
(2) منال الطالب : 501 / 534 .
(3) غريب الحديث 4 : 273 .
(4) شرح النهج 4 : 93 .
(5) المصدر نفسه 4 : 94 .
(6) أعلام النساء 4 : 116 / 123 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 524 _

  1 ـ أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي من أعاظم علماء الإمامية في المائة الرابعة ، أخرج الخطبة في كتابه دلائل الإمامة (1) بستة أسانيد تنتهي إلى ابن عباس ، وإلى زينب بنت أمير المؤمنين ، وإلى عبد الله بن الحسن بن الحسن عن آبائه ، وإلى زيد بن علي عن آبائه .
  2 ـ الشريف المرتضى ( ت 346 هـ ) أخرج بروايته عن المرزباني ، وهو رواها من طريقين أحدهما ينتهي إلى عروة بن الزبير عن عائشة ، والآخر عن أبي العيناء عن ابن عائشة البصري ، كما في الشافي (2) .
  3 ـ الشيخ الطوسي ( ت 460 هـ ) أخرج الخطبة برواية شيخه المرتضى المتقدّم ، ذكره في كتابه تلخيص الشافي (3) .
  4 ـ الشيخ الطبرسي ( من أعلام القرن السادس ) روى الخطبة في كتابه الاحتجاج على أهل اللجاج (4) .
  5 ـ الشيخ علي بن عيسى الإربلي ( ت 692 هـ ) روى الخطبة في كتابه كشف الغمة (5) ، وهو نقلها عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروء ة على مؤلّفها في ربيع الآخر سنة ( 322 هـ ) كما مرّ .
   وهناك مصادر أخرى كثيرة ، وقد تناولها جمع بالشروح والتعليق راجع بشأنها كتاب الذريعة .

---------------------------
(1) دلائل الإمامة : 31 / 39 .
(2) الشافي : 230 .
(3) تلخيص الشافي 3 : 139 / 145 .
(4) الاحتجاج على أهل اللجاج : 61 / 66 .
(5) كشف الغمة 1 : 453 / 466 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 525 _

موقف الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يومئذٍ :

  لما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد تقدم إلى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بما سيجري عليه من بعده ، وما سيلاقيه من العتاة من غصبهم مقامه ، وأنّ الأمة ستغدر به وتعصي النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أوامره باتباعها له ، وأنّها ستنكر ولايته وإمامته ، وعيّن له ما يجب عليه القيام من بعده إتماماً لجهوده في إقامة دينه ، وأنّ عليه أن يصبر على ذهاب حقه في سبيل الحفاظ على شريعته ، فقد روى أحمد في مسنده (1) ، بسنده عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( انّه سيكون بعدي اختلاف أو أمر ، فإن استطعت أن تكون السَلَم فافعل ) .
  وعليه أن يعامل المستحوذين على حقه معاملة المسلمين ما داموا ينطقون بالشهادتين ، وقد جاء في نهج البلاغة (2) : ومن كلام له ( عليه السلام ) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم ، جاء فيه :
  وقام إليه رجل وقال : أخبرنا عن الفتنة ؟ وهل سألت عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال ( عليه السلام ) : لما أنزل الله سبحانه قوله : ( الم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفْتَنُونَ ) (3) ، علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها ؟ فقال : يا علي إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي ، فقلت : يارسول الله ، أوليس [قد] قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عنّي الشهادة فشقّ ذلك علي ، فقلت لي : أبشر فإنّ الشهادة من ورائك ؟
  فقال لي : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذا ً ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هنا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر ،

---------------------------
(1) مسند أحمد 1 : 90 .
(2) نهج البلاغة 2 : 64 ، الخطبة : 154 ، شرح محمد عبدة .
(3) العنكبوت : 1 / 2 .