يا نفس : هول لا تدرين متى يغشاك ، لم لا تستعدين له قبل أن يفجاك ، بيت :
وما  الموت إلا سارق دق شخصه      يصول بلا كف ويسمعي بلا رجل
  واعلمي : أن غاية كل متحرك سكون ، ونهاية كل متكون تكون ، وإذا الدهر أعار ، فاحسبيه قد أغار .
  شعر :
إذا  حـيوان كان طعمة iiضده      تـوقاه كالفأر الذي يتقي الهرا
ولا شك أن المرء طعمة دهره      فما  باله يا ويحه يأمن iiالدهرا
  يا نفس : من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة ، وطلاق الدنيا مهر الآخرة ، والزاهد في الدنيا كلما أزدادت له تجليا ، ازداد عنها توليا ، واعلمي : أنك لن تكسبي في الدنيا شيئا فوق معيشتك إلا كنت فيه خازنة (1) لورثتك ، يكثر به في الدنيا نصيبك ويقل ثوابك ويحظى به وارثك ويطول حسابك ، فخذي

--------------------------------
(1) في ب : حارسة .

محاسبة النفس _ 152 _

  من ممرك لمقرك ، ولا تهتكي أستارك عند من لا تخفى عليه أسرارك . يا نفس : أوحى الله إلى الدنيا : من خدمك فاستخدميه ، ومن خدمني فاخدميه ، واعلمي : أنه ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت ، ولا جرم أن المال يفنى ، والبدن يبلى ، والاعمال تحصى ، والذنوب لا تنسى .
  شعر :
ومن ينفق الساعات في جمع ماله      مـخافة فـقر فـالذي فعل iiالفقر
  يا نفس : اتخذي تقوى الله صناعة ، تأتك الارباح من غير بضاعة .
  فإن التقوى حرز من المهلكات واق ، وكنز من المحيى والممات باق ، من اتخذها ماحبا كانت له في ظلم القيامة نورا ، ومن نبذها جانبا ركب من الندامة مركبا عثورا .
   بيت :
تـزود  من التقوى فإنك iiراحل      وبادر  فإن الموت لا شك iiنازل
وإن امرأ قد عاش خمسين حجة      ولـم  يـتزود لـلمعاد iiفجاهل

محاسبة النفس _ 153 _

  يا نفس : كفى بجهنم عذابا ، وبالموت نائبا واغترابا .
وكل ذي غيبة يؤوب (1)      وغائب  الموت لا iiيؤوب
  واحذري مصارع الجهال ، واجتراح معصية لا تقال ، وأقيمي الصلاة وآتي الزكاة تأمني من العذاب الشديد ، فإن لله سطوات ونقمات وما هي من الظالمين ببعيد .
  بيت :
الخير يبقى وإن طال الزمان iiبه      والشر أخيب ما أوعيت من زاد
  يا نفس : وطني نفسك على ألم العبادة ، ليصير ذلك خلقا لك وعادة ، فإن المقامر يلتذ بالقمار وإن سلبه جميع ماله ، وكذلك اللاعب بالحمام وإن طال وقوفه وتعبه في إرساله ، فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ بالقبائح ، وتميل بالالف إلى غير الصالح (2) فكيف لا تستلذ بالحق لو ردت (3) مدة إليه ، وألزمت المواظبة عليه .

--------------------------------
(1) أي : يرجع ، اللسان 1 : 217 أوب .
(2) في أ ، ب ، ج : المصالح .
(3) في ب : لو رودت .

محاسبة النفس _ 154 _

  يا نفس : فالاخلاق السعيدة والافعال الحميدة ، تكتسب بالعادة ، والرياضة والافادة ، ومثاله : أنه من أراد ان يصير (1) في النسخ حاذقا ، وفي الكتابة فائقا ، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد هذه الخصلة الجميلة ، ويواظب عليها مدة طويلة ، فإذا طال عليه النسخ وضعا ، صدر منه حسن الخط طبعا .
  يا نفس : وكذلك من أراد أن يكون فقيها ، وكره أن يكون سفيها ، فلا طريق إلا بتعاطي أفعال (2) الفقهاء ، وتكرار أقوال العلماء ، وكذلك من أراد أن يصير عفيفا حليما ، ومتواضعا كريما ، لزمه أن يدأب (3) نفسه في التخلق بآدابهم ، والتعلق بأسبابهم .
  يا نفس : إذا أردت أن تقفين على عيوب نفسك ، فخذيها من ألسنة أعدائك لا من ألسنة أحبائك وأوليائك ، ولو سمعت صفتك عن غيرك لمقتيه ، إذا كنت لا

--------------------------------
(1) في ج : أن يكون .
(2) في د : أقوال .
(3) أي : يعود ، مجمع البحرين 2 : 54 دأب ، وفي ب : يؤدب .

محاسبة النفس _ 155 _

  تدرين من الموصوف وبغضتيه ، ولعل انتفاع الانسان بعدو يذكر معائبه ، أكثر من انتفاعه بصديق يشهر مناقبه ، فعن علي عليه السلام : جهل المرء بعيوبه ، من أكبر ذنوبه ، فمن داهنك (1) يا نفس في عيبك ، عابك في غيبك .
  يا نفس : إن محبتك لنفسك ، ونسيانك لرمسك (2) ، قد أصمك وأعماك ، وأضلك وأرداك ، لان الانسان إذا أحب الشئ أغمض (3) عن مواضع عيوبه كأنه لا ينظرها ، وأعرض عن المقابح من ذنوبه كأنه لا يسمعها ، فصار من هذا الوجه كالاعمى لتغاضيه ، والاصم لتغابيه .
  بيت :
فـعين الرضا عن كل عيب iiكليلة      كما أن عين السخط تبدي المساويا
  يا نفس : جاهدي نفسك على أربعة أقسام : قلة القوت من الطعام ، والغمض من المنام ، وترك إكثار الكلام ، واحتمال الاذى من الانام ، فإنه يتولد من قلة الطعام موت الشهوات ، ومن قلة المنام صفو الارادات ، ومن قلة الكلام السلامة من

--------------------------------
(1) المداهنة : المصانعة واللين ، اللسان 13 : 162 دهن .
(2) أي : قبرك ، مجمع البحرين 4 : 76 .
(3) في أ ، ب ، ج : أغضى .

محاسبة النفس _ 156 _

  الآفات ، ومن احتمال الاذى البلوغ إلى الغايات .
  يا نفس : الدنيا يجمع لها من لا عقل له ، وعليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعى من لا يقين له .
  شعر :
نـرقع دنيانا بتمزيق ديننا      فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فـطوبى لعبد آثر الله ربه      وجـاد  بـدنياه لما iiيتوقع
  يا نفس : دعي المساخرة والمشاجرة ، وصومي عن الدنيا تفطري بالآخرة (1) ، فإن رأس مال الدنيا الهوى ، وربحها لظى (2) ، تقرب المنية ، وتبعد الامنية .
  شعر :
ومـن يـجمد الـدنيا لعيش iiيسره      فسوف لعمري عن قليل يلومها (3)
إذا أدبرت كانت على المرء iiحسرة      وإن أقبلت كانت كبيرا همومها (4)

--------------------------------
(1) في ج ، د : والتذي بالآخرة .
(2) اللظى : اللهب الخالص ، ولظى غير مصروفة : اسم لجهنم ، المفردات 450 لظى .
(3) في ج ، د : غمومها .
(4) في د : سمومها .

محاسبة النفس _ 157 _

  يا نفس : لو أن الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لكان ينبغي لك أن تختاري ما يبقى على ما يفنى ، فكيف وقدا خترت خزفا يفنى على ذهب يبقى ؟ ! .
  بيت :
هب  الدنيا تساق إليك iiعفوا      أليس مصير ذاك إلى انتقال
ومـا دنـياك إلا مـثل iiفئ      أظـلك ثـم آذن iiبـالزوال
  يا نفس : الدنيا دار خراب واخرب منها قلب من يشيدها ويخطبها ، والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يريدها ويطلبها ، فبيعي دنياك بآخرتك تربحيهما ، ولا تبيعي آخرتك بدنياك تخسريهما .
  شعر :
يا خاطب الدنيا إلى نفسها      تـنح عـن خطبتها iiتسلم
إن  الـتي تخطب iiغدارة      قـريبة العرس من iiالمأتم
  يا نفس : إذا سألت الله الدنيا فإنما تسأليه طول الوقوف ، يوم الحشر الموصوف ،

محاسبة النفس _ 158 _

  هذا سوى ما يقاسيه أصحاب (1) الاموال في الدنيا من الخوف والحزن ، وتجشم المصاعب في الحفظ والخزن ، ودرياق الدنيا (2) ما قصد به المراضي والمثوبات ، وما صرف إلى الجيران والقرابات ، وما اعطي في الزكوات والصدقات ، وما عدا ذلك سموم وآفات .
  بيت :
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها      إن اغترار بظل زائل iiحمق
  يا نفس : لا تفرحي بما أتاك ، ولا تأسي على ما فاتك من دنياك ، ففرحك إنما هو بموجود لا يتركه في يدك الموت ، وأسفك إنما هو على مفقود لا يرده عليك الفوت ، وإذا قد علمت أن رزقك لا يأكله غيرك فلم به تهتمين ؟ ! وأن عملك (3) لا يعمله غيرك فلم بغيره تشتغلين ؟ ! وأن الموت يأتيك على بغتة فلم لا إلى الطاعة تبادرين ؟ ! وأنك بعين الله على كل حال فعلام منه لا تستحين ؟ ! وإياك أن يراك الله حيث زجرك ، أو يفقدك حيث أمرك .
  يا نفس : إن لم تقنعي بالقليل ، وطلبت المال الجزيل ، ساهمت النصارى واليهود

--------------------------------
(1) في ج ، د : أرباب .
(2) أي : دواء الدنيا ، اللسان 10 : 32 ترق .
(3) في ب : وان عملا .

محاسبة النفس _ 1596 _

  الارجاس (1) ، ومن لا دين له ولا عقل من الناس ، وإن قنعت بالحقير ، ورضيت باليسير ، ساهمت الاولياء في رتبتهم ، والانبياء في منزلتهم .
  يا نفس : إن كان لا يغنيك ما يكفيك ، فكل ما في الارض ما يغنيك (2) ، وأقل ما في الخطر في جمع المال يوم المقام ، أن يدخل الفقراء الجنة قبل الاغنياء بخمس مائة عام .
  بيت :
سر من عاش ما له فإذا حا      سـبه الله سـره iiالاعـدام
  يا نفس : إذا اثني عليك بالصلاح والورع ، وعدم الرياء والطمع ، وأنت تعلمين خبث سريرتك ، وعظم جريرتك ، كان ذلك من غاية جهالتك ، ونهاية سفاهتك ، وكنت كمن يهزء بإنسان ويقول له : يا فلان ما أكثر العطر الذي في أحشائك ، وما أطيب الروائح الارجة التي تفوح من أمعائك ، وذلك إذا قضى من الغائط حاجته ، ومن البول امنيته ، وهو يعلم ما اشتمل عليه قلبه من الشر والفتنة ،

--------------------------------
(1) في ب : والارجاس .
(2) في أ ، ج ، د : شعر : إن كان لا يغنيك ما يكفيك = فكل ما في الارض ما يغنيك .

محاسبة النفس _ 160 _

  واحتوت عليه أمعاؤه من الاقذار والنتنة .
 يا نفس : إياك والعجب وهو : استعظام العمل الصالح والنظر إلى استكثاره ، والابتهاج به والميل إلى استكباره ، فهو يوقع في مهاوي الهلكات ، ناقل للعمل الصالح من كفة الحسنات إلى كفة السيئات ، ومن رفيع الدرجات إلى أسفل الدركات ، فكم من عبادة أفسدها العجب ، وإذا أفسدها العجب لم يقبلها الرب ، فعن علي عليه السلام : سئية تسوء عاملها ، خير من حسنة تعجب فاعلها ، وفي الحديث : ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بعمل صالح صنع .
  يا نفس : وكيف تعجبين بقيام بعض ليلة ، ولا تنظرين إلى نعم الله الجزيلة وأياديه الجميلة ، لو قست أكثر عملك على التقدير ، بأقل نعمة من نعم اللطيف الخبير ، لم تجديه وافيا باليسير ، ولا ناهضا بعشر العشير ، ألا تنظرين إلى صاحب العبادة الطويلة ، كيف باعها بشربة وبولة .
  يا نفس : وأنت ترين الاجير يعمل طول النهار بدرهمين ، والحارس يسهر جملة الليل بدانقين ، وإذا صرفت الفعل إلى الملك العلام ، وصمت يوما من الايام ،

محاسبة النفس _ 161 _

  أو تهجدت ليلة في جنح الظلام ، لاعد لك ما لا تحصره الاقلام ، ولا تبلغه خطرات الانام ، بل لو سجدت لله سجدة حتى يغشاك فيها النعاس ، باهى الله بك الملائكة فأين القياس ؟ فهلا تنظرين إلى يومك الذي قيمته درهمان مع احتمال التعب العظيم ، كيف صار له هذه القيمة بالنسبة إلى طاعة الرب الكريم ؟ !
  وكم زمان السجدة ، مع ما حصل فيها من الغفلة والرقدة ، لكن لما نسبت السجدة إلى الملك الجبار ، بلغت قيمتها من النفاسة والجلالة هذا المقدار يا نفس : فحقيق عليك أن تقصري من أملك ، وترين حقارة عملك ، ففي : الحديث من مقت نفسه وألزمها الندامة ، آمنة الله تعالى من فزع يوم القيامة ، وروي : أنه إن يبيت أحدكم نادما على ذنوبه وأفعاله ، خير له من أن يصبح مبتهجا بصالح أعماله ، ونائم مقر بذنبه ، خير من مصل مدل على ربه .
  يا نفس : فعليك بتحصين عملك من العجب والرياء ، والغيبة والكبرياء ، فالعجب هلاك ، والرياء إشراك ، والغيبة قوت كلاب الجحيم ، والكبر مصيدة إبليس الرجيم ، والعجب ممن يدخله العجب والكبر ، والتبختر والفخر ، وأوله نطفة ، وآخره جيفة .
  شعر :
ما بال من أوله نطفة      وجـيفة آخره iiيفخر

محاسبة النفس _ 162 _

  وفي الحديث : من رفع نفسه قال ملكاه : اللهم ضعه ، ومن وضعها قالا : اللهم ارفعه .
  يا نفس : وعليك بالذكر ، والحمد والشكر ، فإنه يرفع البلاء الحاصل ، ويدفع السوء النازل ، وفي الحديث : ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم حسرة وندامة ، ووبالا يوم القيامة ، وأنه من شغله ذكر الله عن مسألته ، أعطاه الله أفضل ما يعطي السائلين من امنيته ، وأنه في كل حاله ، لا تصيبه منيات السوء ولا تناله ، وأنه ينير البصائر ، ويؤنس الضمائر ، وأنه شيمة كل مؤمن ، ولذة كل موقن ، وأنه دعامة الايمان ، وعصمة من الشيطان .
  يا نفس : وعليك بالاستغفار خصوصا في الاسحار ، فقد روي : أنه من أكثر الاستغفار رفعت صحيفته وهي تتلألأ بالانوار ، وجعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، فعودي نفسك الاستتار ، في الذكر (1) والاستغفار ، تمحى عنك الحوبة ، وتعظم لك المثوبة ، فمن تعطر بأرياح استغفاره ، لم ينفضح من نتنة إصراره على أوزاره ، ومن قبل فم الشهوات عضته أسنان الندامة ، ومن تلفع بأردية التقوى اعتنقته (2) أكناف السلامة ، فانتهبي زمانك قبل الزمن ، ولا

--------------------------------
(1) في ب : فعودي نفسك الاستتار والذكر .
(2) في ب : كشفته .

محاسبة النفس _ 163 _

  تغتري بالدنيا فإنها خضراء الدمن ، واقعدي (1) مقعد صدق وانظري عند من ، إن الدنيا تعطي تفاريق وتسترجع جملا ، وترضي أفاويق وتعظم عجلا .
  شعر :
خـطبت يـا خاطب الدنيا iiمشمرة      في ذبح أولادها الغيد الغرانيق (2)
كـم صن ذبيح لها من تحت iiليلتها      زفـت إلـيه بـمعزاف iiوتصفيق
  يا نفس : [ أترين ] من استؤجر على إصلاح آنية من الدر ، وشرط له على ذلك شيئا من الاجر ، وكان الشارط إذا وعد وفى ، وإذا توعد عفى ، فجاء الاجير إلى الآنية وكسرها بعهده (3) ، وأفسد مصالحها بجهده (4) ، ثم جلس على الباب ، ينتظر الاجر والثواب ، بزعم أن المستأجر كريم وهاب ، أفتراه العقلاء في انتظاره متمنيا مغرورا ، أم راجيا مأجورا ؟ هيهات أنه (ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى) (5) ، وما أجهل من يتوقع المغفرة مع الاصرار ، وما أسفه من يتمنى العفو مع ملازمة الاوزار .

--------------------------------
(1) في أ : واطلي .
(2) الغيد : النعومة ، والغرانيق جمع غرنوق وهو : الابيض الشباب الناعم الجميل ، اللسان 3 : 328 غيد و 10 : 86 غرنق .
(3) في أ : بعمده .
(4) في ج ، د : وكسرها إذ باشرها ، وأفسد باطنها وظاهرها .
(5) النجم 53 : 39 / 40 .

محاسبة النفس _ 164 _

  يا نفس : لا تكوني كالذي يسبح الله ويهلله مائة مرة في أول تذكاره ، ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم بسائر نهاره ، فهو أبدا يتأمل (1) في فضائل تسبيحاته وتهليلاته ، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة نميماته وغيباته ، ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجر التسبيح ، وما يكتبونه من هذيانه القبيح ، لزاد أجر هذيانه على ثوابه ، ونقصت مدة حسناته (2) عن مدة عقابه .
  بيت :
متى يبلغ البنيان يوما تمامه      إذا كنت تبنيه وغيرك iiيهدم
  يا نفس : وأي عاقل يبدل البر بالجفا ، أو يستكف (3) النار بالحلفا (4) .
  شعر :
والـلوزة  المرة إن iiتبصر      يفسد بالطعم (5) بها السكر
  فالغيبة تحرق الحسنات ، وتبطل الطاعات .

--------------------------------
(1) في ب : لا يتأمل .
(2) في ج ، د : حسابه .
(3) في أ : أو يكشف .
(4) الحلفاء : نبات حمله قصب النشاب ، اللسان 9 : 56 حلف .
(5) في ب : في الطعم .

محاسبة النفس _ 165 _

  شعر :
احذري الغيبة فهي الفسق لا رخصة فيه      إنـما الـمغتاب كـالآكل من لحم iiأخيه
  وهي تأكل الاجر والثواب ، كما تأكل النار يابس الاحطاب ، بل هي أحرق من النار في الحليج (1) ، وأضر من الثلج بالمفاليج .
  يا نفس : الطاعة مع عدم الايمان لا ترفع ، والعلم بغير العمل لا ينفع ، ومثاله : مريض عظم داؤه ، وعز شفاؤه ، فأعلمه طبيب حاذق ، بدواء موافق ، وفصل له أخلاطه ، ومقاديره (2) وأشراطه ، فكتبه المريض بنسخة مليحة ، وقرأه قراءة صحيحة ، غير أنه مال إلى إهماله ، ولم يشتغل بشربه واستعماله ، [ أفترين ] علمه به من غير عمل يداويه ، ومن شدة مرضه يشفيه ؟ هيهات لو كتب منه ألف نسخة في ألف قرطاس ، وعلمه كافة الناس ، لم يشف من مرضه ، ولم ينل شيئا من غرضه ، دون أن يشتري الداوء ، ويقدم الاحتماء ، ثم يشربه في وقته وأوانه ، بعد خلط أخلاطه وصحة أوزانه .

--------------------------------
(1) وهو : القطن المندوف ، اللسان 2 : 239 حلج .
(2) في أ ، ب : وتقاديره .

محاسبة النفس _ 166 _

  يا نفس : وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها ، وأتقن معرفة (1) الاخلاق المحمودة وأهملها ، قال الله تعالى : (قد أفلح من زكاها) (2) ولم يقل : قد أفلح من يعلم كيفية تزكيتها ومعناها ، فعلم بلاعمل ، كحمل على جمل ، فكوني يا نفس عاملة ، ولا تكوني حاملة ، ولا تكوني كمن ينقل الوسوق (3) من السوق ، ويحمل الشهد ولا يذوق ، وعلم بلا عملء كشجر بلا ثمر ، وقوس بلا وتر .
  بيت :
ترجو  النجاة ولا تسلك iiمسالكها      إن السفينة لا تجري على اليبس
  يا نفس : العلم في صدور الكسالى كشموع تلمع من بين يدي الضرير المحجوب ، أو كعروس (4) ، تزف إلى الخصي المجبوب ، فمن الغبن يا نفس أن تري المياه جارية ، ثم [ تموتين ] صادية (5) .

--------------------------------
(1) في ب : وأيقن بمعرفة .
(2) الشمس 91 : 9 .
(3) أي : الحمل ، اللسان 10 : 379 وسق .
(4) في أ ، ب : أو كشموع ، وما أثبتناه من ج ، د ، وهو الانسب .
(5) أي : عطشانة ، مجمع البحرين 1 : 262 صدى . (*)

محاسبة النفس _ 167 _

  بيت : كالعير في البيداء تشتكي الظمأ = والماء فوق ظهورها محمول ومن الخسران يا نفس جزار يأكل الميت ، ومكي لا يزور البيت .
  يا نفس : إن تأخير العمل عن العلم حبس الماء عن النبت ، والترخص في العمل حيلة أصحاب السبت ، فلا تكوني كالجمل الطليح (1) يتجشم (2) لغيره أسفارا ، أو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، وفي الحديث : أعظم الناس عذابا يوم القيامة ظالم لم يقلع عن ظلمه ، وعالم لم ينتفع بشئ من علمه ، والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل .
  واعلمي : أن العلم والعبادة لاجلهما خلقت الارضون والسماوات ، وارسلت الرسل بالبينات ، فالعلم بمنزلة الشجرة ، والعبادة بمنزلة الثمرة ، فلو لم تكن لهذه الشجرة ثمرة في الوجود ، لم تصلح إلا للوقود ، للكفعمي مؤلف الكتاب عفى الله تعالى عنه .
  بيت :
إذا  المرء مع إيمانه ليس عاملا      بـشئ  من الخيرات تلفاه iiخائنا
وذلك مثل السفن في البحر تلقها      جوار  وفي غير البحار iiسواكنا

--------------------------------
(1) من الطلاحة التي هي : الاعياء ، العين 3 : 170 طلح .
(2) أي : يتكلف ، مجمع البحرين 6 : 29 جشم .

محاسبة النفس _ 168 _

  يا نفس : ليس الفقيه من استفاد وأفاد ، بل الفقيه من أصلح المعاد ، ولا العالم من أفتى ودرس ، بل العالم من تستر بالورع وتترس ، ولا المجتهد من بنى (1) أساس الملة ، على قياس العلة ، بل المجتهد من شغله الحق عن المنع والتسليم ، واكتفى بعلم الخضر عن علم الكليم ، وارعوى بمسئولات الحشر ، عن المقولات العشر فلا تحسبي المتشبه بالفقيه فقيها ، فليس ذو الوجهين عند الله وجيها .
  يا نفس : مثل العالم بالله وأسمائه ، وصفاته وآلائه ، وهو يقصر في طاعته ويضجع ، ويهمل أوامره ويضيع ، كمثل من أراد خدمة رئيس ، أو ملك نفيس ، فعرف الملك وأخلاقه ، وطبعه وأعرافه ، فقصد خدمة جنابه ، والتعلق بأسبابه ، إلا أنه ملابس لجميع ما يبغضه ويشناه (2) ، وعاطل من جيمع ما يحبه ويهواه ، أما كان كل عاقل يحكم بجهالته ، وعظم سفاهته ، ولا يتصور أن يعرف الاسد عاقل ويعرف أوصافه ، إلا وهو يتقيه ويخافه ، فعنه عليه السلام : من ازداد علما ولم يزدد هدى ، لم يزدد من الله إلا بعدا .

--------------------------------
(1) في ب : بين .
(2) في ج ، د : ويشاه .

محاسبة النفس _ 169 _

  يا نفس : كيف تحبي لقاء الله وأنت تعصينه ، فلو عصيت آدميا ما اشتهيت أن تلقينه .
  شعر :
تعصي الاله وأنت تظهر حبه      هـذا  محال في القياس iiبديع
لـو كان حبك صادقا iiلاطعته      أن الـمحب لمن يحب iiمطيع
  فإياك وملازمة هوى الشيطان ، ومجانبة رضى الرحمن ، فإنه يصرع الرجال ، ويقطع الآجال (1) ، ويزيل النعم ، ويطيل الندم .
  يا نفس : كل إثم اقترفتيه في سر أو علانية فهو عليك مرقوم ، وكل شئ يشغلك عن مراضي ربك فهو عليك مشئوم ، فعنه عليه السلام : إن العبد (2) إذا خلا فاستحيى من الله أن يعصيه ، ورضي باليسير مما قسم له فيه ، رزقه الله في الآخرة حسن المآب ، وأنبت له جناحين يطير بهما إلى الجنة بغير حساب .

--------------------------------
(1) في ب : الآمال .
(2) لفظ : إن العبد ، لم يرد في أ ، ب ، وأثبتناه من ج ، د ، لعدم استقامة المعنى بدونه .

محاسبة النفس _ 170 _

  يا نفس : إن الله خلق الآفة وجعل النطق مثارها (1) ، وقدر السلامة وجعل الصمت مدارها ، فالصمت يلزمك السلامة ، ويؤمنك الندامة ، واللسان قليل الخير ، وغير مأمون الغير ، والصمت سلم الخلاص ، والنطق يحبس الهزار (2) في الاقفاص ، واللفظ شين (3) المحافل ، والجرس آفة القوافل ، خير القوس المكتوم ، وخير الشراب المختوم ، رنين القسي يطرد الظبا ، ووسواس الحلي يوقظ الرقبا ، وفرسان الكلام يوم القيامة مشاة ، والمتجملون بزخارف العبارات عراة .
  يا نفس : فما اللسان إلا سبع صوال فقيديه ، أو صارم مسلول فاغمديه ، وسيأتي يوم يندم فيه الفصيح ، والطير الذي يصيح ، ولو كان سحبان (4) عاقلا ، لتمنى أن يكون باقلا (5) ، وأجبن الفرسان ، من حارب باللسان ، وأحمس (6) الكماة ،

--------------------------------
(1) في ب : منارها .
(2) بفتح الهاء : العندليب والجمع العنادل ، والبلبل يعندل : إذا صوت ، حياة الحيوان 2 : 82 .
(3) وهو خلاف الزين ، أو العيب ، اللسان 13 : 244 شين .
(4) هو : سحبان بن زفر بن أياس الوائلي من باهلة ، خطيب وفصيح يضرب به المثل في البيان ، اشتهر في الجاهلية وعاش زمنا في الاسلام ، وكان إذا خطب يسيل عرقا ولا يعيد كلمة ، ولا يتوقف ولا يقعد حتى يفرغ ، الاعلام للزركلي 3 : 79 .
(5) هو : باقل الايادي ، جاهلي يضرب بعيه المثل ، قيل اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فمر بقوم فسألوه بكم اشتريته ؟ فمد لسانه ومد يديه ، يريد أحد عشر ، فشرد الظبي وكان تحت إبطه ، والمثل ـ ( أعيى من باقل ) ـ مشهور ، الاعلام للزركلي 2 : 42 ، والمنجد في الاعلام : 113 .
(6) في ب : وأحسن .

محاسبة النفس _ 171 _

  من استعان على قرنه بالصمات ، ولو صمت الكليم لعلم العجائب ، ولو سكت يوسف لعصم من النوائب ، وحصائد الالسنة قد تزرع العداوة ، وطيارات الكلم قد تطير العلاوة . فخدش اللسان ثلمة لا تنسد ، والكلام كالنبل إذا طار لا يرتد .
  بيت :
رأيـت  الـلسان عـلى iiأهله      إذا ساسه الجهل ليثا (1) مغيرا
  يا نفس : وعليك بالعزلة والانفراد ، في طاعة المهيمن الجواد ، فإن العزلة توقر الغرض وتستر الفاقة ، وترفع عنك ما ليس لك به طاقة ، والتخلي (2) للعبادة دليل على الفضل ، والصبر على الوحدة علامة قوة العقل .
  بيت :
في عزلة المرء عن كل الورى نعم      أقـلها  أنـه خـال مـن iiالـكلف
يـرضى  القناعة مسرورا iiبوحدته      إذا  تـنازع أقـوام عـلى iiالجيف
  يا نفس : لا زمي الوحدة فإنها أسلم جانبا ، ونادمي الكتب فإنها أكرم صاحبا .

--------------------------------
(1) في ج ، د : لبنا .
(2) في أ : والتحلي ، وفي ب : والتجلي ، وما أثبتناه من ج ، د ، وهو الانسب .

محاسبة النفس _ 172 _

  شعر :
فطوبى لمستجلس (1) iiبيته      قـنوع لـه بـلغة iiكـافية
نداماه دون الورى كتبه (2)      لا إثـم فـيها ولا iiلاغـية
فـمن شره الناس في راحة      ومـن شـرهم نفسه iiناجية
  يا نفس : متى فتشت أحوال العالم وجدت الصالح منها ذا لونين ، فإن ذقتيه وجدتيه ذا طعمين ، فإن قلبتيه وجدتيه ذا وجهين ، فإذا استنطقتيه وجدتيه ذا لسانين ، فإن كشفتيه وجدتيه ذا طبعين ، وتجدين الانام ، كالانعام : قلوبهم لاهية ، ومجالستهم لاغية ، والفاحشة فيهم فاشية ، فتنحي عنهم ناحية ، [ تجدين ] الامن والعافية .
  شعر :
إن أردتـي سـلامة iiوفـلاحا      الزمي الصمت ثم كوني وحيدة
إنـما  الاثم في مخالطة iiالخلق      فـدعيها  لكي تصيري iiسعيدة
كـل  نفس تعاشر الناس iiتلفى      عند  أهل التحقيق غير iiرشيدة
وانـبذي  جـيفة عليها iiكلاب      تـرقنها (3) وكـوني iiبـعيدة


--------------------------------
(1) في أ : لمستخص ، وفي ج ، د : لمستخلص نيته .
(2) في ب : كتب .
(3) كذا في ب ، ولم يرد البيت الاخير بأكمله في أ . (*)

محاسبة النفس _ 173 _

  وعن علي عليه السلام : تبذل ولا تشتهر ، ووار شخصك ولا تذكر ، واسكت تسلم ، وتعلم واعمل تغنم .
  بيت :
كن وحيدا فكل أهل ومال      تـعب للنفوس iiوالاجسام
إنـما  الله وحـده iiفتشبه      بـصفات  الهيمن iiالعلام
  يا نفس : الموت يطلبك وأنت للدنيا تأملين ، والله يمقتك وأنت ملافيك تضحكين ، أفبالصحة تغترين ، أم بطول العافية تفرحين ، أم من الموت تأمنين ؟ !
  فكأني بك وقد أمر منك ما كان حلوا ، وكدر منك ما كان صفوا ، بيت :
وسالمتك  الليالي فاغتررت iiبها      وعند صفو الليالي يحدث الكدر
  فعلام لنفسك فتنت ، وتربصت وارتبت ، حتى جاء يوم النشور ، وغرك بالله الغرور .
  يا نفس : كم من عامر مونق يخرب ، وكم من سالم صحيح يعطب ، فبادري بفعل الجميل ، قبل أن ينادى بالرحيل .

محاسبة النفس _ 174 _

  وأعلمي : أنه من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان مقيما قاطنا ، ويقطع المسافة وإن كان واقفا ساكنا .
  بيت :
إن  الـليالي لـلانام (1) iiمناهل      تطوى وتنشر دونها الاعمار (2)
  أفبعد المشيب تخدعين بالزبيب ، وقد علمت أن الموت قريب ، وللنقص في كل يوم منك نصيب .
  يا نفس : لو رأيت قرب ما بقى من أجلك ، لزهدت في طول أملك ، ولرغبت في الزيادة من صالح عملك ، ولقصرت من حرصك وحيلك ، وإنما يلقاك غدا ندمك ، لو زلت بك قدمك ، وأسلمك أهلك وحشمك ، وفارقك الولد القريب ، ورفضك الوالد والنسيب ، فلا أنت إلى دنياك عائدة ، ولا في حسناتك زائدة ، فاعملي ليوم القيامة ، قبل الحسرة والندامة .
  يا نفس : ألا تستحين من التوبيخ والتعنيف ، على طول التسويف ، والذي يدعوك إلى التسويف اليوم هو معك غدا ، وإنما تزدادين بطول المدة ردى ، وكلما فعلت

--------------------------------
(1) في ج ، د : والايام .
(2) في ب : الاعمال .

محاسبة النفس _ 175 _

  حوبة ، وعدت نفسك التوبة ، وتقولين : إن شبت (1) تبت ، أو عمرت أنبت ، ويرى جهلك أن الانسان ، يستبعد الموت مع الشبان ، وهذا جهل منك أيها النفس القرونة (2) ، والامر بالعكس يا مسكينة ، لان الموت في الشباب أكثر ، وفي الشيوخ أنزر يا نفس : ومثاله : لو عددت مشايخ بلدتك ، وشيب قريتك ، لكانوا أقل من عشرة رجال ، وتجدين الشبان والاطفال (3) أكثر منهم على كل حال ، فإلى أن يموت شيخ يموت ألف من الاطفال والشبان ، والغلمان والصبيان ، على أن الموت ليس له وقت مخصوص ، ولا عليه آن منصوص ، بعيد أو قريب ، في شباب أو شيب ، في شتاء أو صيف ، أو ربيع أو خريف ، فإذا جهلك بموتك وحب الدنيا ، دعياك إلى طول الامل واتباع الهوى .
  يا نفس : مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالها ، ونسيانهم للاخرة وإهمالها ، كمثل قوم ركبوا السفينة في البحر للتجارة ، فعدلوا إلى جزيرة لاجل الطهارة ، والملاح يناديهم : إياكم وطول المكث ، ودوام اللبث ، فمن اشتغل منكم بغير الوضوء والصلاة فاتته سفينة النجاة ، فالعقلاء منهم لم يمكثوا ، وشرعوا في الوضوء

--------------------------------
(1) في ب : شئت .
(2) في ج ، د : البقرية .
(3) في ب : وتجدين الشبان والغلمان والصبيان .