تأليف
السيّد علي الحسيني الميلاني

سلسلة الكتب العقائدية ( 69 )
إعداد مركز الأبحاث العقائدية


مقدّمة المركز :
   لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة ، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة ، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث .
   وانطلاقاً من ذلك ، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن .
   ومن هذه المحاور : عقد الندوات العقائديّة المختصّة ، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين ، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة ، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها ، ثم يخضع ذلك الموضوع ـ بطبيعة الحال ـ للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج .
   ولاجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً ، كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم .
   وأخيراً ، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان « سلسلة الندوات العقائدية » بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها .
   وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها ، سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله .
مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون  

آيــــة المباهـــلــــة _ 2 _

التمهيد :
   الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الاولين والاخرين .
   كما تعلمون ، لعلّ من خير الاعمال في ليالي شهر رمضان هو مذاكرة العلم ، والامور الاعتقادية والمسائل التي تتعلق بأصول الدين من أشرف المسائل العلميّة ، ومسألة الامامة من بين المسائل الاعتقاديّة من أشرفها .
   ونسأل الله التوفيق لانْ نتمكّن من إلقاء بعض الاضواء على بعض القضايا المتعلّقة بمسألة الامامة ، لنرى ما يدلّ عليه الكتاب والسنّة في هذه المسألة المهمّة العقائديّة الحسّاسة ، ولست أدّعي أنّي مستوعب لجميع ما يتعلّق بهذه المسألة .
   ولست أدّعي أنّي على استعداد للاجابة على كلّ سؤال يطرح حول هذه المسألة .
   ولست من أهل الخطابة والبيان والقدرة على تنضيد الكلمات والتلاعب بالالفاظ كما يقال في هذه الايّام ، وسأحاول أنْ أبحث في هذه الليالي عن الامامة بذكر عدّة من أدلّة الامامية ، وعمدة أدلّة غيرهم ، ثم تحقيق الحال في جملة من المباحث المتعلّقة بالامامة ، وسأحاول أنْ أبسّط الالفاظ والمطالب بقدر الامكان ، حتّى لا يكون هناك تعقيد في البيان وصعوبة في استيعاب البحوث .
   قد يحمل هذا الكلام منّي على التواضع ، ولكن هذا من باب حسن الظن .

آيــــة المباهـــلــــة _ 3 _

مقدّمات البحث
   قبل الشروع في البحوث ، وقبل الدخول في المسائل الاساسيّة التي تقرّر أن نبحث عنها طبق المنهج المعلن عنه ، لابدّ من تقديم مقدمات ، فنقول :
   المقدّمة الاولى : بحث المسائل على أُسس متقنة في كلّ مسألة لابدّ وأنْ يكون البحث في تلك المسألة على أُسس متقنة مدروسة ، فتارةً يكون طرف البحث والخطاب شيعيّاً إماميّاً مثلك ، فأنت تباحثه وتحتج عليه بما هو حجة في داخل المذهب ، فلك حينئذ أنْ تستدلّ على رأيك برواية في كتاب الكافي مثلاً .
   وأمّا إذا لم يكن شيعيّاً اثني عشريّاً مثلك ، فالامر يختلف . . . لابدّ وأنْ يكون البحث بينكما ابتناءً على قضايا مشتركة ، وعلى أدلّة مشتركة .
الادلّة المشتركة :
أوّلاً : القرآن الكريم .
ثانياً : العقل السليم .
ثالثاً : الروايات الواردة في السنّة المتفق عليها بين الطرفين ، أو تحتجّ عليه من السنّة بما هو حجّة عنده وإنْ لم يكن حجةً عندك ، وليس لك أنْ تحتج عليه بكتاب الكافي ، كما ليس له أنْ يحتج عليك بكتاب البخاري .
   إذن ، لابدّ وأن تكون هناك نقطة وفاق واشتراك حتّى يتحاكم الطرفان إلى تلك النقطة ، من كتاب ، أو سنّة مسلّمة بين الطرفين ، أو قاعدة عقليّة قرّرها جميع العقلاء في بحوثهم .
   أمّا إذا كان طرف الخطاب سنّيّاً ، ولا يوافق على كتاب البخاري ، بل لا يرى صحّة شيء من الصحاح الستّة ، فلابدّ حينئذ من إقامة الدليل له ممّا يراه حجّة ، من الكتاب أو العقل ، فإن أردنا أن نقيم الدليل عليه من السنّة ، فلابدّ وأن نصحّح الرواية التي نحتجّ بها ، لكي يلتزم بتلك الرواية ، لانّها إذا صحّت على ضوء كلمات علماء الجرح والتعديل عندهم ، فلابدّ وأن يلتزم بتلك الرواية ، قد يكون في هذا الزمان بعض الباحثين من لا يقول بصحّة .

آيــــة المباهـــلــــة _4 _

   روايات الصحيحين فضلاً عن الصحاح كلّها ، وإنّما يطالب برواية صحيحة سنداً ، سواء كانت في الصحيحين أو في غير الصحيحين ، فإثبات صحّة تلك الرواية لابدّ وأنْ يكون على ضوء كلمات علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة بالنسبة لرواة تلك الرواية ، حتّى تتمّ صحّة الرواية ، ويمكنك الاستدلال بتلك الرواية ، فإنْ عاد وقال :
   ليست كلمات علماء الجرح والتعديل عندي بحجّة ، هذا الشخص حينئذ لا يتكلّم معه ويترك ، لانّ المفروض أنّه لا يقبل بالصحيحين ، ولا يقبل بالصحاح ، ولا يقبل برواية فرض صحّتها على ضوء كلمات علماء الجرح والتعديل من أئمّتهم ، حينئذ لا مجال للتكلّم مع هكذا شخص أبداً .
   لكن المشهور بين السنّة أنّهم يرون صحّة أخبار الصحيحين ، وإن كنّا أثبتنا في بعض بحوثنا أنّ هذا المشهور لا أصل له ، لكن المشهور بينهم هذا .
   وأيضاً المشهور بينهم صحّة روايات الصحاح الستّة ، وإنْ اختلفوا في تعيين تلك الصحاح بعض الاختلاف .
وإنّ المسانيد أيضاً كثير منها معتبر ، كمسند أحمد مثلاً ، وإنْ كان بعض كبارهم لا يرون التزام أحمد في مسنده بالصحة ، لكنْ عندنا شواهد وأدلّة تنقل بالاسانيد عن أحمد بن حنبل نفسه أنّه ملتزم في مسنده بالصحّة .

آيــــة المباهـــلــــة _ 5 _

   وهناك كتب أُخرى أيضاً مشهورة ونحن في بحوثنا هذه لا نعتمد إلاّ على الصحاح ، والمسانيد ، والكتب المشهورة ، بعد الاستدلال بالكتاب ، وبالعقل ، فإذا وصلت النوبة إلى السنّة نستدلّ بالاحاديث المعروفة المشهورة الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة ، الروايات المتفق عليها بين الطائفتين .
   فكما أشرنا من قبل ، لابدّ وأن تكون الرواية متّفقاً عليها بين الطائفتين ، بين الطرفين .
   هذا الاتفاق على الرواية من نقاط الاشتراك ، كالقرآن الكريم وكالعقل السليم .

المقدمة الثانية :

الاستدلال بالكتاب والعقل والسنة :
   ثمّ الاستدلال كما أشرنا في خلال كلماتنا هذه ، تارةً يكون بالكتاب ، وتارةً يكون بالعقل ، وتارةً يكون بالسنّة .
   أمّا الكتاب ، فآياته المتعلّقة بمباحث الامامة كثيرة ، لكنّ المهمّ هو تعيين شأن نزول هذه الايات ، وتعيين شأن نزول هذه الايات إنّما يكون عن طريق السنّة ، إذن ، يعود الامر إلى السنّة .
   وفي الاستدلال بالعقل أيضاً ، هناك أحكام عقلية هي كبريات عقليّة ، وتطبيق تلك الكبريات على الموارد لا يكون إلاّ بأدلّة من خارج العقل ، مثلاً يقول العقل بقبح تقدّم المفضول على الفاضل ، أمّا من هو المفضول ؟ ومن هو الفاضل ليقبح تقدّم المفضول على الفاضل بحكم العقل ؟ هذا يرجع إلى السنّة ، إذنْ رجعنا إلى السنّة .
   والسنّة أيضاً قد أشرنا إلى قواعدنا في إمكان التمسّك بها ، وإثبات مدّعانا واحتجاجنا على ضوئها ، فنحن لا نستدل على أهل السنّة بكتبنا ، كما لا يجوز لهم أن يستدلّوا بكتبهم علينا .
   نصّ على ذلك عدّة من أكابر علمائهم ، كابن حزم الاندلسي في كتابه الفصل ، فإنّه ينصّ على هذا المعنى ويصرّح بأنّه لا يجوز الاحتجاج للعامّة على الاماميّة بروايات العامّة ، يقول :
   لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا ، فهم لا يصدّقونها ، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدّقها ، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجة به ، سواء صدّقه المحتج أو لم يصدّقه ، لان مَن صدّق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري ، فيصير حينئذ مكابراً منقطعاً إن ثبت على ما كان عليه (1).

---------------------------
1 ـ الفصل في الاهواء والملل والنحل 4 / 159.

آيــــة المباهـــلــــة _ 6 _

   إنّ من الواضح أنّ الشيعي لا يرى حجّية الصحيحين فضلاً عن غيرهما ، فلا يجوز للسنّي أنْ يحتجّ بهما عليه ، كما لا يجوز للشيعي أن يستدلّ على السنّي بكتاب شيعي ، لانّ السنّي لا يرى اعتبار كتاب الكافي مثلاً .
   فنحن إذن نستدلّ بروايات الصحاح ، وبروايات المسانيد ، وبالروايات المتفق عليها بين الطرفين ، ولربّما نحتاج إلى تصحيح سند بخصوصه على ضوء كتب علمائهم وأقوال كبارهم في الجرح والتعديل ليتمّ الاحتجاج ، ولا يكون حينئذ مناص من التسليم ، أو يكون هناك تعصّب وعناد ، ولا بحث لنا مع المعاند والمتعصّب .
   بعض التقسيمات في الاستدلال بالسنّة وعندما يعود الامر إلى الاستدلال بالسنّة ، فالروايات المتعلّقة ببحث الامامة تنقسم إلى أقسام ، نذكر أوّلاً انقسامها إلى قسمين أساسيّين رئيسيّين :
القسم الاوّل
   الروايات الشارحة للايات ، والمبيّنة لشأن نزول الايات ، فكما قلنا من قبل ، فإنّ الاستدلال بالقرآن لا يتمّ إلاّ بالسنّة ، إذ ليس في القرآن اسم لاحد ، فهناك آيات يستدلّ بها في مباحث الامامة ، لكن ماورد معتبراً في السنّة في تفسير تلك الايات وشأن نزول تلك الايات ، هو المتمّم للاستدلال بالقرآن الكريم .

آيــــة المباهـــلــــة _ 7 _

القسم الثاني
   الروايات المستدلّ بها على الامامة والولاية والخلافة بعد رسول الله ، وليس بها أيّة علاقة بالايات .
   ثمّ الروايات تنقسم إلى أقسام ، فهذه الروايات من القسم الثاني تنقسم إلى ثلاثة أقسام .
القسم الاوّل : ما يدلّ على الامامة بالنص .
القسم الثاني : ما يدلّ على الامامة عن طريق إثبات الافضليّة ، هذه الافضليّة التي هي الصغرى بإصطلاحنا لكبرى قاعدة قبح تقدّم المفضول على الفاضل .
القسم الثالث : الروايات الدالّة على العصمة ، واشتراط العصمة واعتبارها في الامام أيضاً حكم عقلي ، وفي مورده أيضاً أدلّة من الكتاب والسنّة .

المقدمة الثالثة :
أهمية البحث عن الامامة والبحث عن الامامة بحث في غاية الحساسيّة والاهميّة ، لانّنا نرى وجوب معرفة الامام ، وعندما نبحث عن الامام وتعيين الامام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، نريد أن نعرف الحقّ في هذه المسألة الخلافية ، ثمّ لنتّخذه قدوةً واُسوة ، لنقتدي به في جميع شؤوننا ،وفي جميع أدوار حياتنا .
   إنّما نريد أن نعرفه ولنجعله واسطة بيننا وبين ربّنا ، بحيث لو سئلنا في يوم القيامة عن الامام ، بحيث لو سئلنا يوم القيامة لماذا فعلت كذا ؟ لماذا تركت كذا ؟ أقول : قال إمامي إفعل كذا ، قال إمامي لا تفعل كذا ، فحينئذ ينقطع السؤال .
   عندما نريد البحث عن الامام لهذه الغاية ، فبالحقيقة يكون البحث عن الامام والامامة بحثاً عن الواسطة والوساطة بين الخالق والمخلوق ، نريد أنْ نجعله واسطة بيننا وبين ربّنا ، نريد أن نحتجّ بما وصلنا وبلغنا من أقواله وأفعاله في يوم القيامة على الله سبحانه وتعالى ، أو نعتذر أمامه في كلّ فعل أو ترك صدر منّا وسألنا عنه ، فنعتذر بأنّه قول إمامنا أو فعل إمامنا ، وهكذا بلغنا ووصلنا عنه ، هذا هو ـ في الحقيقة ـ لبّ البحث عن الامامة .

آيــــة المباهـــلــــة _ 8 _

   إذن ، يظهر أنّ البحث عن الامامة بحث مهمّ جدّاً ، لانّ الامام حينئذ يكون كالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واسطةً بيننا وبين ربّنا عند فقد النبي .
   أمّا أنْ يكون الامام حاكماً بالفعل أو لا يكون حاكماً ، أنْ يكون مبسوط اليد أو لا يكون مبسوط اليد ، أن يكون مسموع الكلمة أو لا يكون مسموع الكلمة ، أن يكون في السجن أو يكون غائباً عن الانظار ، أو أن يقتل ، وإلى غير ذلك ، هذه الاُمور كلّها أُمور أُخرى .

تفرّع على بحث الامامة
   ليس البحث عن الامامة بحثاً عن الحكومة ، وإنّما الحكومة من شؤون الامام .
   وكثيراً ما يختلط الامر على الباحثين ، وكثيراً ما نراهم يعترضون على مذهبنا بعدم التمكّن من الحكومة والسيطرة والسلطنة على الناس ، وإلى غير ذلك ، وهذه الاُمور خارجة الان عمّا نحن بصدده .
   إذن ، لابدّ من البحث عن الامام بعد النبي ، لانّا نريد أن نعرف الحق ونعرف الواسطة بيننا وبين ربّنا .
   أمّا طريق معرفته ، فهذا الطريق أيضاً يجب أنْ يكون تعيّنه من قبل الله سبحانه وتعالى ، لانّه لو رجع وطالبنا في يوم القيامة وقال : من أيّ طريق عرفت هذا الامام ؟ فلو ذكرت له طريقاً لا يرتضيه ، لقال هذا الامام ليس بحق ، ومن قال لك هذا الطريق موصل إلى معرفة الامام الواسطة بينك وبيني ليكون عمله وقوله حجة لك في يوم القيامة ؟
   إذن ، نفس الطريق أيضاً لابدّ وأن ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى ، إنتهاؤه إلى الله أي انتهاؤه إلى الكتاب والسنّة والعقل السليم كما أشرنا من قبل .
   ومن هنا ، فقد اخترنا آيات من القرآن الكريم ، وأحاديث من السنّة النبويّة ، لكي نستدلّ بها على إمامة علي ، ورجعنا إلى العقل في المسألة لنعرف حكمه فيها .

آيــــة المباهـــلــــة _ 9 _

دوران البحث بين علي وأبي بكر
   البحث يدور بين علي وأبي بكر ، أمّا خلافة عمر وعثمان فيتفرّعان على خلافة أبي بكر .
   إذن ، يدور الامر بين علي وأبي بكر ، قالت الاماميّة : بأنّ عليّاً هو الخليفة ، هو الامام ، بعد رسول الله بلا فصل .
   وقال أهل السنّة : الخليفة بعد رسول الله هو أبو بكر بن أبي قحافة .
   استدلّت الاماميّة بآيات من القرآن الكريم ، وبأحاديث ، على ضوء النقاط التمهيدية التي ذكرتها ، وسترون أنّا لا نخرج عن الاطار الذي ذكرناه قيد شعرة .
   آية المباهلة قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1).
هذه الاية تسمّى بـ « آية المباهلة » .

المباهلة في اللغة
   المباهلة : من البهل ، والبهل في اللغة بمعنى تخلية الشيء وتركه غير مراعى ، هذه عبارة الراغب في كتاب المفردات (2).

---------------------------
1 ـ سورة آل عمران : 61.
2 ـ المفردات في غريب القرآن : « بهل ».

آيــــة المباهـــلــــة _ 10 _

   وعندما تراجعون القاموس وتاج العروس وغيرهما من الكتب للغوية ترونهم يقولون في معنى البهل أنّه اللعن (1).
   لكنّي رأيت عبارة الراغب أدق ، فالبهل هو ترك الشيء غير مراعى ، كأنْ تترك الحيوان مثلاً من غير أن تشدّه ، من غير أن تربطه بمكان ، تتركه غير مراعى ، تخلّيه وحاله وطبعه .
   وهذا المعنى موجود في رواياتنا بعبارة : « أوكله الله إلى نفسه » ، فمن فعل كذا أوكله الله إلى نفسه .
   وهذا المعنى دقيق جدّاً .
   تتذكّرون في أدعيتكم تقولون : « ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً » ، وإنّه لمعنى جليل وعميق جدّاً ، لو أنّ الانسان ترك من قبل الله سبحانه وتعالى لحظة ، وانقطع ارتباطه بالله سبحانه وتعالى ، وانقطع فيض الباري بالنسبة إليه آناً من الانات ، لانعدم هذا الانسان. لهلك هذا الانسان .
   ولو أردنا تشبيه هذا المعنى بأمر مادّي خارجي ، فانظروا إلى هذا الضياء ، هذا المصباح ، إنّه متّصل بالمركز المولّد ، فلو انقطع الاتصال آناً ما لم تجد هناك ضياءً ولا نوراً من هذا المصباح .
   هذا معنى إيكال الانسان إلى نفسه ، تقول « ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً » .

---------------------------
1 ـ تاج العروس : « بهل ».

آيــــة المباهـــلــــة _ 11 _

   هناك كلمة لامير المؤمنين ( عليه السلام ) في نهج البلاغة ، أُحبُّ أن أقرأ عليكم هذه الكلمة ، لاحظوا ، أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول :
   « إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان ، رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل ، مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالٌّ عن هدي من كان قبله ، مضلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمّالٌ لخطايا غيره ، رهنٌ بخطيئته » (1).
   وجدت عبارة الراغب أدق ، معنى البهل ، معنى المباهلة : أن يدعو الانسان ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يترك شخصاً بحاله ، وأنْ يوكله إلى نفسه ، وعلى ضوء كلام أمير المؤمنين أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الشخص أبغض الخلائق إليه ، وأيّ لعن فوق هذا ، وأيّ دعاء على أحد أكثر من هذا ؟.
   لذا عندما نرجع إلى معنى كلمة اللعن في اللغة نراها بمعنى الطرد ، الطرد بسخط ، والحرمان من الرحمة ، فعندما تلعن شخصاً ـ أي تطلب من الله سبحانه وتعالى أن لا يرحمه ـ تطلب من الله أن يكون أبغض الخلائق إليه ، فالمعنى في القاموس وشرحه أيضاً صحيح ، إلاّ أنّ المعنى في مفردات الراغب أدق ، فهذا معنى المباهلة .

---------------------------
1 ـ نهج البلاغة : 51 ، الخطبة رقم 17.

آيــــة المباهـــلــــة _ 12 _

   إذن ، عرفنا لماذا أُمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالمباهلة ، ثمّ عرفنا في هذا المقدار من الكلام أنّه لماذا عدل القوم عن المباهلة ، لماذا تراجعوا ، مع أنّهم قرّروا ووافقوا على المباهلة ، وحضروا من أجلها ، إلاّ أنّهم لمّا رأوا رسول الله ووجوه أبنائه وأهله معه قال أُسقفهم : « إنّي لارى وجوهاً لو طلبوا من الله سبحانه وتعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لازاله »(1).
   فلماذا جاء رسول الله بمن جاء ؟ لا نريد الان أن نعيّن من جاء مع رسول الله ، لكن يبقى هذا السؤال : لماذا جاء رسول الله بمن جاء دون غيرهم ؟ فهذا معنى المباهلة إلى هنا .

تعيين من خرج مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المباهلة
   إنّه ـ كما أشرنا من قبل ـ ليس في الاية المباركة اسم لاحد ، لا نجد اسم علي ولا نجد اسم غير علي في هذه الاية المباركة .
   إذن ، لابدّ أن نرجع إلى السنّة كما ذكرنا ، وإلى أيّ سنّة نرجع ؟ نرجع إلى السنّة المقبولة عند الطرفين ، نرجع إلى السنّة المتّفق عليها عند الفريقين .
   ومن حسن الحظ ، قضيّة المباهلة موجودة في الصحاح ، قضيّة المباهلة موجودة في المسانيد ، قضيّة المباهلة موجودة في التفاسير المعتبرة .
   إذن ، أيّ مخاصم ومناظر وباحث يمكنه التخلّي عن هذا المطلب وإنكار الحقيقة ؟.

---------------------------
1 ـ راجع : الكشاف 1 / 369 ، تفسير الخازن 1 / 242 ، السراج المنير في تفسير القرآن 1 / 222 ، تفسير المراغي 13 / 175 ، وغيرها.

آيــــة المباهـــلــــة _ 13 _

   وتوضيح ذلك : إنّا إذا رجعنا إلى السنّة فلابدّ وأن نتمّ البحث دائماً بالبحث عن جهتين ، وإلاّ لا يتمّ الاستدلال بأيّ رواية من الروايات :
الجهة الاُولى
   جهة السند ، لابدّ وأن تكون الرواية معتبرة ، لابدّ وأن تكون مقبولة عند الطرفين ، لابدّ وأن يكون الطرفان ملزمين بقبول تلك الرواية ، هذا ما يتعلّق بالسند .
الجهة الثانية
   جهة الدلالة ، فلابدّ وأن تكون الرواية واضحة الدلالة على المدعى .
   وإلى الان فهمنا أنّ الاية المباركة وردت في المباهلة مع النصارى ، نصارى نجران ، ونجران منطقة بين مكّة واليمن على ما في بالي في بعض الكتب اللغوية ، أو بعض المعاجم المختصة بالبلدان .
   وإذا رجعنا إلى السنّة في تفسير هذه الاية المباركة ، وفي شأن من نزلت ومن خرج مع رسول الله ، نرى مسلماً والترمذي والنسائي وغيرهم من أرباب الصحاح (1)
يروون الخبر بأسانيد معتبرة .

---------------------------
1 ـ راجع : صحيح مسلم 7 / 120 ، مسند أحمد 1 / 185 ، صحيح الترمذي 5 / 596 ، خصائص أمير المؤمنين : 48 ـ 49 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 150 ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7 / 60 ، المرقاة في شرح المشكاة 5 / 589 ، أحكام القرآن للجصاص 2 / 16 ، تفسير الطبري 3 / 212 ، تفسير ابن كثير 1/319 ، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2 / 38 ، الكامل في التاريخ 2 / 293 ، أسد الغابة في معرفة الصحابة 4 / 26 ، وغيرها من كتب التفسير والحديث والتاريخ.

آيــــة المباهـــلــــة _ 14 _

   فمضافاً إلى كونها في الصحاح ، هي أسانيد معتبرة أيضاً ، يعني حتّى لو لم تكن في الصحاح بهذه الاسانيد ، هي معتبرة قطعاً :
   خرج رسول الله ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين ، وليس معه أحد غير هؤلاء .
   فالسند معتبر ، والخبر موجود في الصحاح ، وفي مسند أحمد ، وفي التفاسير إلى ما شاء الله ، من الطبري وغير الطبري ، ولا أعتقد أنّ أحداً يناقش في سند هذا الحديث بعد وجوده في مثل هذه الكتب .
   نعم ، وجدت حديثاً في السيرة الحلبيّة بلا سند ، يضيف عمر بن الخطّاب وعائشة وحفصة ، وأنّهما خرجتا مع رسول الله للمباهلة (1).
   ووجدت في كتاب تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة(2).
   أنّه كان مع هؤلاء ناس من الصحابة ، ولا يقول أكثر من هذا .
ووجدت رواية في ترجمة عثمان بن عفّان من تاريخ ابن عساكر(3).

---------------------------
1 ـ إنسان العيون 3 / 236.
2 ـ تاريخ المدينة المنورة 1 / 581.
3 ـ ترجمة عثمان من تاريخ دمشق : 168.

آيــــة المباهـــلــــة _ 15 _

   أنّ رسول الله خرج ومعه علي وفاطمة والحسنان وأبو بكر وولده وعمر وولده وعثمان وولده .
   فهذه روايات في مقابل ما ورد في الصحاح ومسند أحمد وغيرها من الكتب المشهورة المعتبرة ، لكن هذه الروايات في الحقيقة :
أوّلاً : روايات آحاد .
ثانياً : روايات متضاربة فيما بينها .
ثالثاً : روايات انفرد رواتها بها ، وليست من الروايات المتفق عليها .
رابعاً : روايات تعارضها روايات الصحاح .
خامساً : روايات ليس لها أسانيد ، أو أنّ أسانيدها ضعيفة ، على ما حقّقت في بحثي عن هذا الموضوع .
   إذن ، تبقى القضيّة على ما في صحيح مسلم ، وفي غيره من الصحاح ، وفي مسند أحمد ، وغير مسند أحمد من المسانيد ، وفي تفسير الطبري والزمخشري والرازي ، وفي تفسير ابن كثير ، وغيرها من التفاسير إلى ما شاء الله ، وليس مع رسول الله إلاّ علي وفاطمة والحسنان .

دلالة آية المباهلة على إمامة عليّ ( عليه السلام )
   أمّا وجه الدلالة في هذه الاية المباركة ، بعد بيان شأن نزولها وتعيين من كان مع النبي في تلك الواقعة ، دلالة هذه الاية على إمامة علي من أين ؟ وكيف تستدلّون أيّها الاماميّة بهذه الاية المباركة على إمامة علي ؟ فيما يتعلّق بإمامة أمير المؤمنين في هذه الاية ، وفي الروايات الواردة في تفسيرها ، يستدلّ علماؤنا بكلمة : ( وأنفسنا ) ، تبعاً لائمّتنا ( عليهم السلام ) .
  ولعلّ أوّل من استدلّ بهذه الاية المباركة هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نفسه ، عندما احتجّ في الشورى على الحاضرين بجملة من فضائله ومناقبه ، فكان من ذلك احتجاجه بآية المباهلة ، وهذه القصّة ، وكلّهم أقرّوا بما قال أمير المؤمنين ، وصدّقوه في ما قال ، وهذا .

آيــــة المباهـــلــــة _ 16 _

   لاحتجاج في الشورى مروي أيضاً من طرق السنّة أنفسهم (1).
وأيضاً هناك في رواياتنا (2).
أنّ المأمون العباسي سأل الامام الرضا ( عليه السلام ) قال : هل لك من دليل من القرآن الكريم على إمامة علي ، أو أفضليّة علي ؟ السائل هو المأمون والمجيب هو الامام الرضا ( عليه السلام ) .
   المأمون كما يذكرون في ترجمته كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي وغيره (3).
أنّه كان من فضلاء الخلفاء ، أو من علماء بني العباس من الخلفاء ، طلب المأمون من الامام أن يقيم له دليلاً من القرآن ، كأنّ السنّة قد يكون فيها بحث ، بحث في السند أو غير ذلك ، لكن لا بحث سندي فيما يتعلّق بالقرآن الكريم ، وبآيات القرآن المجيد .
   فذكر له الامام ( عليه السلام ) آية المباهلة ، واستدلّ بكلمة : ( وأنفسنا ) . لانّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما أُمر أنْ يخرج معه نساءه ، فأخرج فاطمة فقط ، وأبناءه فأخرج الحسن والحسين فقط ، وأُمر بأن يخرج معه نفسه ، ولم يخرج إلاّ علي ، وعلي نفس رسول الله .

---------------------------
1 ـ ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق 3 / 90 الحديث 1131.
2 ـ الفصول المختارة من العيون والمحاسن : 38.
3 ـ تاريخ الخلفاء : 306.

آيــــة المباهـــلــــة _ 17 _

   بحسب الروايات الواردة بتفسير الاية ، كما أشرنا إلى مصادر تلك الروايات ، ولم يخرج رسول الله إلاّ عليّاً ، فكان علي نفس رسول الله ، إلاّ أن كون علي نفس رسول الله بالمعنى الحقيقي غير ممكن ، فيكون المعنى المجازي هو المراد ، وأقرب المجازات إلى الحقيقة يؤخذ في مثل هذه الموارد كما تقرّر في كتبنا العلمية ، فأقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي في مثل هذا المورد هو أن يكون علي مساوياً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إلاّ أنّ المساواة مع رسول الله في جميع الجهات وفي جميع النواحي حتّى النبوّة ؟ لا .
   فتخرج النبوّة بالاجماع على أنّه لا نبي بعد رسول الله ، وتبقى بقيّة مزايا رسول الله ، وخصوصيات رسول الله ، وكمالات رسول الله ، موجودةً في علي بمقتضى هذه الاية المباركة .
   من خصوصيّات رسول الله : العصمة ، فآية المباهلة تدلّ على عصمة علي بن أبي طالب قطعاً .
   من خصوصيّات رسول الله : أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فعلي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كرسول الله قطعاً .   من خصوصيّات رسول الله : أنّه أفضل جميع الخلائق ، أفضل البشر والبشريّة ، منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى العالم وخلق الخلائق كلّها ، فكان أشرفهم رسول الله محمّد بن عبدالله ، وعلي كذلك .
   فحينئذ حصل عندنا تفسير الاية المباركة على ضوء الاحاديث المعتبرة ، حصل عندنا صغرى الحكم العقلي بقبح تقدّم المفضول على الفاضل ، بحكم هذه الاحاديث المعتبرة .
   وناهيك بقضيّة الاولويّة ، رسول الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وعلي أولى بالمؤمنين من أنفسهم .
   وفي جميع بحوثنا هذه ، وإلى آخر ليلة ، سترون أنّ الاحاديث كلّها وإنْ اختلفت ألفاظها ، اختلفت أسانيدها ، اختلفت مداليلها ، لكنّ كلّها تصبّ في مصب واحد ، وهو أولويّة علي ، وهو إمامة علي ، وهو خلافة علي بعد رسول الله بلا فصل .
   لابدّ وأنّكم تتذكّرون حديث الغدير : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا بلى ، قال : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه » .
   نفس المعنى الذي قاله في حديث الغدير ، هو نفس المفهوم الذي تجدونه في آية المباهلة ، وبالنظر إلى ما ذكرنا من المقدّمات والممهّدات ، التي كلّ واحد منها أمر قطعي أساسي ، لا يمكن الخدشة في شيء ممّا ذكرت .

آيــــة المباهـــلــــة _ 18 _

ابن تيمية في آية المباهلة
   ولو أنّ مدّعياً يدّعي أو متعصّباً أو جاهلاً يقول كما قال ابن تيميّة في منهاج السنّة (1).
بأنّ رسول الله إنّما أخرج هؤلاء معه ، ولم يخرج غيرهم ، يعترف بعدم خروج أحد مع رسول الله غير هؤلاء ، يعترف ابن تيميّة ، واعتراف ابن تيميّة في هذه الايام وفي أوساطنا العلميّة وفي مباحثنا العلميّة له أثر كبير ، لانّ كثيراً من الخصوم يرون ابن تيميّة « شيخ الاسلام » .
   إلاّ أنّ بعض كبارهم قال : من قال بأنّ ابن تيميّة شيخ الاسلام فهو كافر !! المهم ، فابن تيميّة أيضاً يعترف بعدم خروج أحد مع رسول الله في قضية المباهلة غير هؤلاء الاربعة ، يعترف بهذا ، وراجعوا كتابه منهاج السنّة ، موجود ، إلاّ أنّه يقول بأنّ عادة العرب في المباهلة أنّهم كانوا يخرجون أقرب الناس إليهم ، كانوا يخرجون معهم إلى المباهلة من يكون أقرب الناس إليهم ، كانت عادتهم أن يخرجوا الاقرب نسباً وإنْ لم يكن ذا فضيلة ، وإن لم يكن ذا تقوى ، وإنْ لم يكن ذا منزلة خاصة أو مرتبة عند الله سبحانه وتعالى ، يقول هكذا .
   لكنّه يعترض على نفسه ويقول : إنْ كان كذلك ، فلم لم يخرج العباس عمّه معه ؟ والعباس في كلمات بعضهم ـ ولربّما نتعرّض إلى بعض تلك الكلمات في حديث الغدير ـ أقرب إلى رسول الله من علي ، فحينئذ لِمَ لمْ يخرج معه ؟ .
   يقول في الجواب : صحيحٌ ، لكنْ لم يكن للعباس تلك الصلاحية والقابليّة واللياقة لان يحضر مثل هذه القضية ، هذا بتعبيري أنا ، لكن راجعوا نصّ عبارته هذا النقل كان بالمعنى ، يقول بأنّ العباس لم يكن في تلك المرتبة لان يحضر مثل هذه القضيّة ، يقول ابن تيميّة فلذا يكون لعلي في هذه القضية نوع فضيلة .
   بهذا المقدار يعترف ، ونغتنم من مثل ابن تيميّة أن يعترف بفضيلة لعلي في هذه القضيّة .
   ولو أنّك راجعت الفضل ابن روزبهان الخنجي ، ذلك الذي ردّ كتاب العلاّمة الحلّي رحمه الله بكتاب أسماه إبطال الباطل ، لرأيته في هذا الموضع أيضاً يعترف بثبوت فضيلة لعلي لا يشاركها فيها أحد(2).

---------------------------
1 ـ منهاج السنة 7 / 122 ـ 130.
2 ـ أنظر : إحقاق الحق 3 / 62.

آيــــة المباهـــلــــة _ 19 _

   نعم ، يقول ابن تيميّة : لم تكن الفضيلة هذه لعلي فقط ، وإنّما كانت لفاطمة والحسنين أيضاً ، إذن ، لم تختصّ هذه الفضيلة بعلي .
   وهذا كلام مضحك جدّاً ، وهل الحسنان وفاطمة يدّعون التقدم على علي ؟ وهل كان البحث في تفضيل علي على فاطمة والحسنين ، أو كان البحث في تفضيل علي على أبي بكر ؟ أو كان البحث في قبح تقدم المفضول على الفاضل بحكم العقل ؟ والعجب أنّ ابن تيميّة يعترف في أكثر من موضع من كتابه منهاج السنّة بقبح تقدّم المفضول على الفاضل ، يعترف بهذا المعنى ويلتزم ، ولذلك يناقش في فضائل أمير المؤمنين لئلاّ تثبت أفضليّته من الغير .
   ثمّ مضافاً إلى كلّ هذا ، ترون في قضيّة المباهلة أنّ رسول الله يقول لعلي وفاطمة والحسنين : « إذا أنا دعوت فأمّنوا » (1).
أي فقولوا آمين ، وأيّ تأثير لقول هؤلاء آمين ، أن يقولوا لله سبحانه وتعالى بعد دعاء رسول الله على النصارى أن يقولوا آمين ، أيّ تأثير لقول هؤلاء ؟ ألم يكف دعاء رسول الله على النصارى حتّى يقول رسول الله لفاطمة والحسنين وهما صغيران أن يقول لهم قولوا آمين ؟.

---------------------------
1 ـ الكشاف 1 / 368 ، الخازن 1 / 243 ، وغيرهما.

آيــــة المباهـــلــــة _ 20 _

خاتمة المطاف
   إذن ، كان لعلي ولفاطمة وللحسنين سهم في تقدّم الاسلام ، كان علي شريكاً لرسول الله في رسالته .
   وهذا معنى ( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) (1).
   فهارون كان ردءاً يصدّق موسى في رسالته ، وهارون كان شريكاً لموسى في رسالته .
   وهذا معنى : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، وقد قلت من قبل : إنّ الاحاديث هذه كلّها تصب في مصبّ واحد ، ترى بعضها يصدّق بعضاً ، ترى الاية تصدّق الحديث ، وترى الحديث يصدّق القرآن الكريم ، وهكذا الامر فيما يتعلّق بأهل البيت :
   رسول الله يجمع أهله تحت الكساء فتنزل الاية المباركة آية التطهير ، وفي يوم الغدير ينصب عليّاً ويعلن عن إمامته في ذلك الملا فتنزل الاية المباركة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (2).
وأي ارتباط هذا بين أفعال رسول الله والايات القرآنيّة النازلة في تلك المواقف ، ترون الارتباط الوثيق ، يقول الله سبحانه وتعالى : ( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) ويخرج رسول الله بعلي وفاطمة والحسن والحسين فقط ، وهذا هو الارتباط بين الوحي وبين أفعال رسول الله وأقواله .
   إذن ، فالاية المباركة غاية ما دلّت عليه هو الامر بالمباهلة ، وقد عرفنا معنى المباهلة ، لكن الحديث دلّ على خروج علي وفاطمة والحسن والحسين مع رسول الله .
   الاية المباركة ليس فيها إلاّ كلمة : ( وأنفسكم ) لكن الحديث فسّر تفسيراً عملياً هذه الكلمة من الاية المباركة ، وأصبح علي نفس رسول الله ، ليس نفس رسول الله بالمعنى الحقيقي ، فكان كرسول الله ، كنفس رسول الله ، فكان مساوياً لرسول الله ، ولهذا أيضاً شواهد أُخرى ، شواهد أُخرى من الحديث في مواضع كثيرة .

---------------------------
1 ـ سورة القصص : 34.
2 ـ سورة المائدة : 3.

آيــــة المباهـــلــــة _ 21 _

   يقول رسول الله مهدّداً إحدى القبائل : « لتنتهنّ أو لارسل إليكم رجلاً كنفسي » ، وكذا ترون في قضيّة إبلاغ سورة البراءة ، إنّه بعد عودة أبي بكر يقول : بأنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إليه بأنّه لا يبلّغ السورة إلاّ هو أو رجل منه ، ويقول في قضيّة : « علي منّي وأنا من علي وهو وليّكم من بعدي » ، وهو حديث آخر ، وهكذا أحاديث أُخرى يصدّق بعضها بعضاً .
   إلى هنا ينتهي البحث عن دلالة آية المباهلة على إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وإنْ شئتم المزيد فهناك كتب أصحابنا من الشافي للسيد المرتضى ، وتلخيص الشافي ، وكتاب الصراط المستقيم للبيّاضي ، وكتب العلاّمة الحلّي رحمة الله عليه ، وأيضاً كتب أُخرى مؤلّفة في هذا الموضوع .
ولي ـ والحمد لله ـ رسالة في هذا الموضوع أيضاً ، وتلك الرسالة مطبوعة ، ومن شاء التفصيل فليراجع .
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين .