صنعت بالفرس ، فإذا هو قد قتل مسعدة وسجاه ببردِه .
  ورجعنا ، فإذا فرس في يد عُلبةَ بن زيد الحارثي ، فقلت : فرسي هذا ، وعلامتي فيه !
  فقال : تعال إلى النبي ، فجعله مغنماً .
  وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو ليسبق الخيل مثل السبع .
  قال سلمة : حتى لحقت القوم ، فجعلت أرميهم بالنبل واقول حين أرمي : خذها مني وأنا ابن الأكوع ، فتكر علي خيل من خيلهم ، فإذا وجَّهت نحوي انطلقت هارباً فاسبقها واعمد إلى المكان المعور (1) فاشرف عليه وأرمي بالنبل إذا امكنني الرمي وأقول :
                                        خذها وأنا ابن الأكوع        والـيوم  يوم الرُّضع
  فما زلت أكافحهم وأقول : قفوا قليلاً يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار ، فيزدادون علي حنقاً فيكرون علي ، فاعجزهم هرباً حتى انتهيت بهم إلى ذي قَرَد (2) ولحِقَنَا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والخيول عشاءً ، فقلت : يا رسول الله ، إن القوم عطاش وليس لهم ماءٌ دون أحساء كذا وكذا (3) فلو بعثتني في مائة رجل ، استنقذت ما بأيديهم من السرح ، وأخذت باعناق القوم .
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ملكت ، فأسجح (4) ، ثم قال النبي

---------------------------
(1) المعور : المكمن للستر .
(2) ذي قرد : مكان يبعد عن المدينة مسيرة يوم وقيل يومين .
(3) دون أحساء كذا وكذا : أي دون بلوغهم مكان كذا وكذا .
(4) ملكت فاسجح : أي قدرت ، فسهل ، وأحسن العفو . وهو مثل معروف .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 113 _

  ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنهم ليُقرَونَ في غطفان (1) .
  قال : ثم توافت الخيل وهم ثمانية : المقداد وأبو قَتَادة ، ومُعاذ بن ماعِص وسعد بن زيد ، وأبو عيَّاش الزُرَقي ، ومُحرِز بن نَضلَة ، وعُكاشة بن مِحصَن ، وربيعة بن أكثَم .
  ولم تزل الأمداد تترى ، حتى إنتهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذي قرد ، فاستنقذوا عشر لقائح ، وافلت القوم بما بقي ، وهي عشر .
  وقتل في هذه المعركة من المسلمين واحد ، وهو محرز بن نضلة ، قتله مسعدة .
  وقتل من المغيرين خمسة مسعدة بن حكمة ، قتله أبو قتادة ، وأوثار وابنه عمرو بن أوثار ، قتلهما عكاشة بن محصن ، وحبيب بن عيينة كان على فرس له ، قتله المقداد بن عمرو ، وكذلك فَرقَة بن مالك قتله المقداد أيضاً .
  وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة ، قول حسان بن ثابت .
لـولا  الذي لاقت ومسَّ iiنسورها        بجنوب ساية أمس في التقواد (2)
لـلقينكم  يـحملن كـل iiمـدجَّج        حـامي الحقيقة ماجد الأجداد (3)ii
ولـسـر أولاد الـلـقيطة iiأنـنا        سـلم غـداة فوارس المقداد (4)ii
كـنـا ثـمانيةً وكـانوا جَـحفلاً        لـجباً  فـشكوا بالرماح بداد (5)

---------------------------
(1) يقرَون : يُضيفون .
(2) ساية : اسم وادٍ بالحجاز .
(3) الحقيقة : ما يحق عليك أن تحميه .
(4) وقد اعترض سعيد بن زيد على حسان حيث جعل المقداد هو القائد ـ وسعيد هذا أنصاري ـ والمقداد مهاجري ، فاعتذر إليه حسان ، راجع السيرة 3 / 180 والمغازي / 548 .
(5) اللجب : الجلبة والصياح ، وبداد : يقال جاءت الخيل بَدادِ بَدادِ أي متفرقة .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 114 _

كـنا  مـن الـقوم الذين iiيلونهم        وَيُـقدمون  عِـنان كـلِ iiجـوادِ
كـلا  ورب الـراقصات إلى iiمنىً        يقطعن عرض مخارم الأطواد (1)
حـتى نـبيل الخيل في iiعرصاتكم        ونـؤوب بـالملكات والأولاد (2)
رهـواً  بـكل مـقلصٍ وطـمرة        في كل معترك عطفن روادي (3)ii
أفـنى  دوابـرها ولاح iiمـتونها        يـوم  تـقاد بـه ويـوم iiطِـرِاد
فـكـذاك إن جـيـادنا iiمـلبونة        والـحرب مشعلة بريح غـواد (4)
وسـيوفنا  بـيض الحدائد iiتجتلي (5)       جُـنَنَ  الـحديد وهـامةَ iiالمرتادِ

---------------------------
(1) الراقصات : يقصد بها الإبل ، ومخارم الأطواد : شقوق الجبال ، ويقصد بها الطرق .
(2) نبيل الخيل : نجعلها تبول في دياركم .
(3) الرهو : المشي الهادئ ، المقلَّص : المشمر ، والطِّمرة : الفرس الجواد ، وروادي : سريعة .
(4) ملبونة : الملبون : من به كالسِّكر من شرب اللبن ، وغواد : من الغادية وهي السحابة .
(5) تجتلي : تقطع ، جنن الحديد : ما ستره الحديد ، أو المقصود به الترس خاصة ، راجع المغازي للواقدي من صفحة 537 إلى 549 للتفصيل ، وكذا السيرة لإبن هشام 3 / 175 الى 181 والكامل 2 / 188 ـ 190 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 115 _

غزوة خيبر (*)
  وقد وقعت في السنة السادسة للهجرة أيضاً ، وذلك :
  إن النبي صلى الله عليه وآله كان قد قصد مكة في أوائل شهر ذي القعدة من نفس هذه السنة لأداء مناسك الحج ، فصدته قريش عن دخولها ، فكان أن أبرمت وثيقة الصلح المسمى بصلح ( الحديبية ) بعد مشاورات طويلة بين وفود الطرفين .
  ورجع النبي إلى المدينة ، وفي طريقه أنزل الله عليه سورة الفتح ، فتلاها على المسلمين مستبشراً بالنصر .
  وكان صلى الله عليه وآله قد إطمأن بعد صلح الحديبية إلى حدّ ما من ناحية قريش والعرب الذين كانوا لا يزالون على الشرك ، إلا إنه ظل يراقب اليهود الذين كانوا خارج المدينة ، ويخشى غدرهم لأنه لمس منهم انهم لا يلتزمون بعهدٍ ولا بحلف ، لذلك صمم على غزوهم ومحاربتهم ، فلم يلبث في المدينة اكثر من شهر حتى أعلن رأيه هذا لأصحابه ، وأمرهم ان يتجهزوا لغزو خيبر .

---------------------------
(*) قال في معجم البلدان : وتشتمل خيبر ـ هذه الولاية ـ على سبعة حصون ، ومزارع ، ونخل كثير ، واسماء حصونها : حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن مسلمة ، والقموص ، وحصن الشق ، وحصن النطاة ، وحصن السلالم وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة ، وأما لفظ خيبر ، فهو بلسان اليهود : يعني الحصن ، ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر ، 2 / 409 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 116 _

  فخرج من المدينة في ألف وستمائة مقاتل ، ومضى في طريقه الى خيبر ، وقطع المسافة التي بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام ، ودخل إلى مشارفها ليلاً ، وكانت خيبر تترائ للمسلمين واحةً تمتد بين تلال الحرّة وصخورها السوداء ، وكأنها بحيرة من الزمرد الأخضر . . . وأقام المسلمون تلك الليلة على مشارفها مخيمين هناك يستريحون من عناء الرحلة ، حتى إذا تمطى الليل عن الصبح ، وانتشرت أشعة الشمس المشرقة تكسو آعالي النخيل بلون ذهبي جميل ، انتشر عمال خيبر ـ كعادتهم ـ خارجين من قلاعهم الى بساتينهم يحملون محافرهم وفؤوسهم ، وقد علقوا السلال باكتافهم ، فبصروا بجند المسلمين الآتين من الحرّة ، ومعهم الرماح والسيوف المتوهجة في أشعة الشمس ، فصاحوا : ( محمد ، والخميس (1) معه ! ) وأدبروا هاربين مخلفين المحافر ، والفؤوس والسلال .
  فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( الله اكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحةِ قوم فساءَ صباح المنذرين . ) .
  ووقف العرب عامة ، وبخاصة قريش ، يتطلعون بشوق ولهفة إلى نتائج هذه الغزوة ، وفي حسابهم أن الدائرة ستدور على محمد وأصحابه .
  أما اليهود ، فقد تشاوروا فيما بينهم ، واتفقوا أخيراً على القتال ، فأدخلوا نساءهم وذراريهم وأموالهم حصن ( الوطيح والسلالم ) وأدخلوا ذخائرهم حصن ( ناعم ) ودخلت المقاتلة في حصن ( نطاة ) والتقى الجمعان حول هذا الحصن ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتى جرح عدد كبير من المسلمين ، واستبسل الفريقان ، وظلوا على ذلك شطراً من النهار .

---------------------------
(1) الخميس : الجيش .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 117 _

  وقتل في ذلك اليوم محمود بن مسلمة ، كان حين أنهكه التعب قد استظل بجدار الحصن فالقى عليه يهودي رحى من أعلى الحصن فقتله .
  وأظهرت قلاع ( النطاة ) وناعم صموداً أمام معسكر المسلمين ما لبث أن إنهار بعد أيام أمام ضرباتهم واصرارهم العنيد ، ولكن خيبر لم تفتح ، فقد بقي من قلاعها قلعة ( القموص ) وهي أهم قلاعها ، كانت قائمة على قمة تل صخري أملس رأسي الحواف ، محاطة بجدار ضخم مرتفع ، وقد اشتهرت بالقوة والمناعة ، وكان يدافع عنها ( مرحب ) البطل الشهير .
  وطال الحصار ، ودبت المجاعة بالجيش ، ففترت همة الجند ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلما أعطى الراية لبعض أصحابه يرجع منهزماً كاسفاً ، فرأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يحشد كل قواه الضاربة لفتح هذا الحصن ، فاجتماع اليهود فيه يجعلهم أقدر على الفتك بالمسلمين .
  وجمع محمد جيشه ، وأمرهم أن يقتحموا الحصن ، وسلم أبا بكر راية الجيش ، ولكن أبا بكر لم يستطع أن يصنع شيئاً ولا أن يقتحم الحصن ، فبعث في اليوم الثاني عمر ابن الخطاب ، فكان نصيبه كنصيب صاحبه ، ( فقد انكشف عمر وأصحابه ورجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما في رواية الطبري : يجبنه أصحابه ويجبنهم ) وظل القتال مستمراً وكلما أعطى الراية إلى أحد ، رجع خائباً ، أو فاراً (1) .
  ولما بلغ الجهد بالمسلمين مبلغاً تخشى عواقبه وساء رسول الله ذلك ، فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً ، كرّاراً غير فرّاراً ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ولا يرجع حتى يفتح الله على يده ) (2) فتطاولت لها

---------------------------
(1) راجع سيرة المصطفى / 549 .
(2) إعلام الورى / 107 وغيره .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 118 _

  قريش ، ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب الراية وكان علي في تلك الحال أرمد لا يكاد يبصر أمامه ، ولما سمع مقالة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : اللهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ) .
  فأصبح رسول الله واجتمع إليه الناس كل يرجوها له ، حتى روي عن عمر أنه قال : إني ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم ، وتمنيت أن أعطى الراية بعد أن سمعت ذلك من رسول الله .
  قال سعد بن أبي وقاص : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ثم قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني ! فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إدعوا لي عليّاً ، فصاح الناس من كل جانب : إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه ، فقال : إرسلوا إليه وادعوه ! فأتي به يُقاد ، فوضع رأسه على فخذه ، ثم تفل في عينيه ، فقام وكأن عينيه جزعتان ، وبرء من ساعته ، وقال له : خذ الراية ، ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك .
  فقال له عليّ : على ماذا أقاتلهم يا رسول الله .
  قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأني رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم ، ثم دعا له .
  قال سلمة بن الأكوع ، فانطلق عليّ عليه السلام يهرول هرولةً ونحن خلفه نتتبع أثره ، حتى ركز الراية بين حجارة مجتمعة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من أعلى الحصن وقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب .
  قال اليهودي : ( عَلوتم ! وما أنزل على موسى !! )(1) وخرج إليه اليهود يتقدمهم أبطالهم ، وفيهم الحارث أخو

---------------------------
(1) وفي الكامل 2 / 220 : فاشرف عليه رجل من يهود فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال اليهودي غُلبتم يا معشر اليهود ، وفي بقية المصادر والمراجع بمضمون واحد ، وقوله : وما انزل على موسى : أي قسماً بما أنزل على موسى .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 119 _

  مرحب وكان من شجعانهم المعروفين ، فحمل بمن معه على المسلمين ، فوثب علي عليه السلام وضربه بسيفه ، فخر صريعاً ، ثم كر بأصحابه على اليهود ، فتفرقوا بين يديه وانخذلوا بعد مقتل الحارث وجماعة منهم ، وولوا منهزمين الى داخل الحصن .
  فاستعظم ذلك قائدهم ( مرحب ) بعد أن شهد مصرع أخيه وهزيمة من معه ، فخرج يطلب الثأر ( وكان هو حقاً سيد فرسان خيبر ، ولكنه خرج إلى علي بطيئاً ، في كبرياءٍ وثقةٍ مطمئنة ، مهيباً ضخماً ، بيده حربة ذات ثلاث رؤوس ، وكل جسده الفارع الشاهق ، في الزرد ، والحديد يغطي رأسه وساقيه ، وليس في كل بدنه ثغرة ينفذ منها سيف ) ، فجعل يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر أني مرحب        شاكي السلاح بطل iiمجرب
إذا الـسيوف أقبلت تلتهب        أطعن أحياناً وحيناً iiأضرب
  فبرز إليه علي وهو يقول :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة *     كليث غابات شديد قسورة
أكـيـلـكـم بـالـسـيـف     كــيـل iiالـسـنـدرة
  وتقدم إليه علي بقامته المعتدلة ، وهو بلا درع ، وفي يده السيف وحده ، وتوقع المسلمون واليهود جميعاً أنها نهاية علي عليه السلام ، ولكن علياً إستطاع أن يحسن الإستفادة من تخففه من الدرع والزرد ، وترك مرحباً يتقدم بدرعه وزرده وحربته ، حتى إذا أوشك سِن الحربة أن يمس صدر علي ( عليه السلام ) تراجع على فجأةً ثم قفز في الهواء متفادياً حربة مرحب ، ثم إقتحم وأهوى بكل قوته على رأس مرحب بالسيف ، فانفلق الحديد من على رأس مرحب ، وسقط سيف علي على الجمجمة

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 120 _

  فشقها نصفين وهوى مرحب وسط ذعر اليهود وعجبهم ، وصيحات النصر ترتفع من معسكر المسلمين .
  ثم إقتلع علي عليه السلام باب الحصن ـ وكان حجراً طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع ـ فرمى به الى خلفه ، ودخل الحصن هو والمسلمون (1) .
  وبعد فتح حصن ( القموص ) ، أيقن سكان خيبر بالهلكة ، وكانت قلاع ( الوطيح والسلالم ) لم تسقط بعد ، فأرسلوا الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يطلبون الصلح ـ بعد أن حاز النبي أموالهم كلها بالشق ونطاة ، والكتيبة ، ـ على أن يحقن دماءهم ، فقبل النبي بذلك ، وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم .
  وقسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أموال خيبر ونتاجها الزراعي على المسلمين ، ( فأطعم كل إمرأةٍ من نسائه ثمانين وسقاً (*) من تمر وعشرين وسقاً شعيراً ، وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق ، ولفاطمة وعلي عليهما السلام من الشعير والتمر ثلاثمائة وسق . . . وللمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً شعيراً . ) (2) .
  وفي السيرة لإبن هشام : قسم لنسائه من القمح مائة وثمانين وسقاً ، ولفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خمسة وثمانين وسقاً ، ولأسامة بن زيد أربعين وسقاً ، ولمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً ولأم رميثة خمسة أوسق (3) .

---------------------------
(1) اليعقوبي 2 / 56 وغيره .
(*) الوسق : ستون صاعاً أو حمل البعير .
(2) الواقدي : 693 .
(3) السيرة النبوية لإبن هشام 3 / 229 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 121 _

  قال الواقدي : وحدثني موسى بن يعقوب ، عن عمته ، عن أمها ، قالت :
  بعنا طعمة المقداد بن عمرو من خيبر ( خمسة عشر وسقاً شعيراً ) من معاوية ابن أبي سفيان بمائة ألف درهم (1) .

---------------------------
(1) المغازي / 694 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 122 _

زوجـتـه وأولاده   موقف الإسلام من الزواج .
  قصة : جويبر ، وجُلبيب ، وتزويجهما .
  تزويج المقـداد .
  بين الأشعث بن قيس والإمام علي عليه السلام .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 125 _

موقف الإسلام من الزواج
  كانت مشكلة الشعور بالتفوق العرقي لدى العرب تحول دون شد الأواصر فيما بينهم فضلاً عن تثبيتها بينهم وبين القوميات الأخرى ، فكان العربي الذي ينتمي الى قبيلةٍ ما ، يأنف من تزويج كريمته إلى عربي آخر من جنسه ينتمي إلى قبيلةٍ أخرى يراها دونه في الحسب والنسب والمحتد ، فضلاً عن أن يزوجها إلى رجل حليف ، أو غير عربي ، فإنه يرى في ذلك مجلبةً للمهانة عليه ، بل ومدعاة للصغار والذلة بين القبائل الآخرى .
  فكانوا يطلقون على سلالة العربي إذا تزوج من غير العرب : الهجناء ! ولم تكن هذه المشكلة الإنسانية قائمة لدى المجتمع العربي فقط ، بل عند الفرس أيضاً ، وما ذلك إلا إمعاناً في الغيّ ، وتجريحاً في نقاء الإنسانية .
  فكانت العرب في الجاهلية لا تُورث الهجين ، كما كانت الفُرسُ تطرحه ولا تعده ، ولو وجدوا له أمّا أمةً على رأس ثلاثين أمّاً حرة ، ما أفلح عندهم ! (1) فالمأساة إذن كانت عامة وغير مختصة بالعرب (*) .

---------------------------
(1) راجع العقد الفريد 6 / 130 .
(*) كانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء . . . وكانوا يتحرون أن يكون من تقلد الخلافة منهم من أم عربيةٍ ، وكان أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك من رجالهم المعدودين ، إلا أن كونه ابن أمة حال بينه وبين الخلافة ، وعرض مسلمة على عَمرَة بنت الحارس أن يتزوج منها ، فقالت : يا بن التي تعلم ! وانك لهناك ؟ تعني أن امه أمة . ( بلاغات =

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 126 _

  وجاء الإسلام ، فكان لا بد له من كلمة فصل تخفف من مآسي الإنسانية في شتى المجالات ، فكان له في هذا الأمر دور كبير ابتدأه

---------------------------
  = النساء ـ 190 ) وسابق عبد الملك بين مسلمة وأخيه سليمان ، فسبق سليمان ، فقال عبد الملك .
ألـم أنهكم ان تحملوا iiهجناءكم        عـلى خيلكم يوم الرهان فتدركُ
وما يستوي المرآن هذا بن حرة        وهذا  بن أخرى ظهرها iiمتشركُ
  فأجابه ابنه مسلمة بقول حاتم الطائي :
ومــا انـكـحونا طـائعين iiبـناتهم        ولـكن  خـطبناها بـأسيافنا iiقـسرا
فـما  زادهـا فـينا الـسباء iiمـذلةً        ولا كُـلّفت خـبزاً ولا طـبخت iiقـدراً
ولـكـن  خـلطناها بـخير iiنـساءنا        فجاءت بهم بيضاً وجوههم زهرا . . .
  ولما تنقص هشام بن عبد الملك ، الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ، لم يجد ما يعيره فيه إلا قوله : أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة ، وأنت ابن أمة ثم أختلف الحال في آخر أيام الأمويين ، فإن آخر من تقلد الخلافة منهم ابراهيم بن الوليد ، ومروان بن محمد ، كانا من أبناء الإماء
  أما الخلفاء في الدولة العباسية ، وعددهم سبعة وثلاثون ، فلم يكن فيهم من هو عربي الأم الا ثلاثة ، الأول : ابو العباس السفاح ، أمه ريطة بنت عبد المدان الحارثي وكان يدعى ابن الحارثية ، وكانت عروبة امه السبب في تقدمه على أخيه المنصور الذي يكبره في السن فإن أم المنصور بربرية اسمها : سلامة ، والثاني : المهدي بن المنصور ، وأمه أم موسى بنت منصور بن عبد الله الحميري والثالث : محمد الأمين بن هارون الرشيد ، أمه : زبيدة بنت جعفر بن المنصور ، قالوا : لم يلي الخلافة هاشمي من هاشميين الا ثلاثة : الإمام علي بن أبي طالب ، وابنه الحسن ، ومحمد الأمين ، أما بقية الخلفاء العباسيين فكلهم أبناء امهات أولاد .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 127 _

  صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله بنفسه ليكون عبرةً للآخرين وسُنَّةً يقتدى بها المسلمون عبر العصور .
  وقد أوضح الإمام زين العابدين عليه السلام ذلك في كتاب بعثه إلى هشام بن عبد الملك حين لامه على زواجه من أمته ، كتب يقول :
  ( ولنا برسول الله أسوة ، زوّج زينب بنت عمه زيداً مولاه ، وتزوج مولاته بنت حيي بن أخطب . ) (1) وكتب إليه أيضاً : ( إنه ليس فوق رسول الله صلى الله عليه وآله مرتقىً في مجدٍ ، ولا مستزادٌ في كرم . . . ) (2) .

---------------------------
(1) الوسائل 14 ب 27 من أبواب النكاح ح 10 / ص 50 .
(2) الوسائل 14 ب 27 من أبواب النكاح ح 2 / 48 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 128 _

( قصة جويبر وجلبيب )
  وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد استعمل نفوذه في تطبيق هذه الخطة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، غنيهم وفقيرهم امعاناً منه صلوات الله عليه في دفن هذه الصرعة الجاهلية المقيتة التي لا تزيد الإنسان إلا بُعداً عن أخيه الإنسان ، بل التي تخلق فجوات بين المسلمين لا تحمد عقباها ، هم في غنىً عنها وعن أمثالها ، انطلاقاً من المقهوم السهل البسيط للإنسانية والرحم : ( كلكم لآدم ، وآدم من تراب ) وانطلاقاً من المفهوم القرآني السمح : ( إن اكرمكم عند الله أتقاكم ) .
  إستعمل صلى الله عليه وآله نفوذه في تطبيق هذه الخطة مع نفسه أولاً ، فتزوج صفية بنت حُييّ بن أخطب بعد أن أعتقها ، وتزوج ابنة عمه زينب بعد أن زوجها من مولاه زيدٍ ، وطلقها زيد ، ثم طبقها ثانياً مع المسلمين ، ومنهم جويبر .
  وكان جويبر هذا من أهل اليمامة وكان قصيراً دميماً محتاجاً عارياً ، وكان من قباح السودان ، إلا أنه كان قد أسلم وحسن إسلامه ، وفي ذات يوم ، نظر رسول الله إليه بعطف ورقة ، وقال له :
  ( يا جويبر ، لو تزوجت إمرأة ) فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك ؟

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 129 _

  فقال له جويبر : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، من يرغب فيّ ؟ ! فوالله ما من حسب ولا نسب ، ولا مال ، ولا جمال ، فأيّة إمرأة ترغب فيّ ؟
  فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : يا جويبر ، إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً ، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها ، وباسق أنسابها ، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم ، وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم ، وان آدم خلقه الله من طين ، وان أحب الناس إلى الله ، اطوعهم له وأتقاهم ، وما أعلم ـ يا جويبر ـ لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً ؟ إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع .
  ثم قال له : إنطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه أشرف بني بياضة حسباً فيهم ، فقل له : إني رسول رسول الله إليك ، وهو يقول لك : زوج جويبراً بنتك الدلفاء (1) الحديث ، فزوجه إياها .
  ومرة ثانية يأتي رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وآله فيقول له :
  يا رسول الله ، عندي مهيرة العرب ، وأنا أحب أن تقبلها ، وهي ابنتي .
  قال : فقال صلى الله عليه وآله : قد قبلتها .
  قال : وأخرى ، يا رسول الله ، قال : وما هي ؟ قال : لم يضرب عليها صدع قَط !
  قال صلى الله عليه وآله : لا حاجة لي فيها ، ولكن زوجها من ( جلبيب ) ! قال : فسقط رجلا الرجل مما دخله ـ أي اسقط ما في يديه لشدة

---------------------------
(1) الوسائل 14 / ب 25 ح 1 ص 43 ـ 44 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 130 _

  الصدمة لأن جلبيب هذا كان قصيراً دميماً ، ـ ثم أتى أمها فأخبرها الخبر ، فدخلها مثل ما دخله (*) فسمعت الجارية مقالته ورأت ما دخل أباها ( وأمها ) فقالت لهما : ارضيا لي ما رضي الله ورسوله .
  قال : فتسلى ذلك عنهما ، وأتى أبوها النبيَّ صلى الله عليه وآله وأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : قد جعلت مهرها الجنة (1) .

---------------------------
(*) وقال في الإستيعاب : وكانت فيه دمامة وقصر ، فكأن الأنصاري وامرأته كرها ذلك ، فسمعت ابنتهما بما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ذلك ، فتَلَت قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخَيرةُ من أمرهم ) وقالت : رضيتُ وسلّمت لما يرضى لي به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فدعا لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اللهم أصبب عليها الخير صبّاً ولا تجعل عيشها نكدا ، ثم قتل عنها جلبيبها فلم يكن في الأنصار أيم انفق منها ، وفي الوسائل : فمات عنها جلبيب ، فبلغ مهرها بعده مائة ألف درهم ( تتمة زيادة الحديث ) .
  ومن حديث أنس بن مالك ، عن جلبيب : قال : فعرض عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التزويج ، فقال : إذن تجدني ـ يا رسول الله ـ كاسداً ! فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : انك عند الله لست بكاسد .
  وفي حديث عن ابي برزة الأسلمي : ان رسول الله كان في مغزاه ، فأفاء الله عليه ، فقال لأصحابه : هل تفقدون أحداً ؟ قالوا : نعم ، فلاناً وفلاناً ، ثم قال : هل تفقدون أحداً ؟ قالوا : لا ! قال : لكني أفقد جلبيباً ، فاطلبوه ، قال فوجدوه الى جنب سبعة قد قتلهم ، ثم قُتل ، فأتاه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فوقف عليه وقال : قَتَل سبعة ثم قُتِل ، هذا مني وأنا منه . . . ثم أحتمله النبي على ساعديه ، ماله سريرٌ غير ساعدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم حفروا له ، فوضعه في قبره .
(1) الوسائل 14 ب 5 من ابواب النكاح ح 2 ص 44 ـ 45 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 131 _

تزويج المقداد بن الأسود
  ومن هنا ، من هذا المنطلق الإيماني ، زوج رسول الله صلى الله عليه وآله المقداد بن الأسود .
  وذلك : أن المقداد وعبد الرحمن بن عوف كانا جالسين ، فقال عبد الرحمن للمقداد :
  مالك لا تتزوج ؟
  قال : زوجني ابنتك .
  فغضب عبد الرحمن وأغلظ له ! (1) .
  قام المقداد من عنده منكسفاً ، يتعثر بأذيال الفشل ، فلم يكن يتوقع من صحابي كعبد الرحمن أن يرده هذا الرد القاسي ويغلظ له في القول ، وشعر في قرارة نفسه أن طلبه هذا قد جرَّ عليه مهانةً كان في غنى عنها ، وان عبد الرحمن الزهري نظر إليه نظرةً قَبليّةً ، فبنو زهرة من صميم قريش ، وأنى لحليف لهم من بهراء لاجئ ان يتطاول على هذا البيت العريق يريد مصاهرته ! ومن يكون المقداد في جنب عبد الرحمن ، وابنة عبد الرحمن !!
  غضب عبد الرحمن وأغلظ له ، فما كان من المقداد إلا أن يمم قاصداً رحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وآله حيث يجد المؤمن فيض الرحمة والحنان

---------------------------
(1) الإصابة 3 / 454 ـ 455 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 132 _

  والعطف ، وحيث تجد الإِنسانية المعذبة من يلم جراحها ويمسح آلامها ، مشى نحو النبي فشكا ذلك إليه .
  ( فقال صلى الله عليه وآله ) : أنا أزوجك ! (1) .
  محمدٌ ومن مثل محمد ! ؟ وهبّت في تلك اللحظات نسمةٌ كأنها أتت من الجنة ، هدأت لها نفس المقداد وارتاحت بعد عناء ، وأطرق يفكر في جوٍّ مفعم بالنشوة ، من يا ترى ؟ من تكون هذه التي سيختارها له محمد ؟
  وربما خطر على باله أنه سيختار له واحدةً من بنات المهاجرين والأنصار كما فعل مع جويبر وجلبيب رضي الله عنهما ، ولا أظن أن تصوره ذهب إلى أبعد من ذلك ، وفي ذلك الهناء والسعادة ، ولكن كانت المفاجأة أعظم وأكبر من التصور !!
  فقد اختار له النبي صلى الله عليه وآله كريمة درجت في أعز بيت من قريش والعرب ، وأعز بيت في الإِسلام ، اختار له ابنة عمه ( ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ) ، وإنما فعل ذلك ، ـ كما ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ـ ( للتتضع المناكح ، وليتأسوا برسول الله صلى الله عليه وآله وليعلموا أن اكرمهم عند الله أتقاهم . ) (2) وليعلموا أن اشرف الشرف الإسلام (3) كما في حديث آخر .

---------------------------
(1) تتمة رواية الإصابة .
(2) راجع الوسائل 14 ب 26 ح 1 ص 45 .
(3) مكارم الأخلاق / 207 : قال رسول الله الخ . . .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 133 _

  ( بين الأشعث بن قيس والإِمام علي عليه السلام )
  ثمة رواية تقول : أن الأشعث بن قيس الكندي ( دخل على علي بن أبي طالب عليه السلام فوجد بين يديه صبّية تدرج ، فقال : من هذه يا أمير المؤمنين ؟
  قال هذه زينب بنت أمير المؤمنين !
  قال : زوجنيها ـ يا أمير المؤمنين .
  قال عليه السلام : أعزب ، بفيك الكثكث (1) ، ولك الأَثلب ، أغَرك ابن أبي قحافة حين زوَّجك ام فروة ؟ ! إنها لم تكن من الفواطم ، ولا العواتك من سُليم !
  فقال : قد زوجتم أخمل مني حسباً ، وأوضع مني نسباً ، المقداد بن عمرو ، وإن شئتَ فالمقداد بن الأسود ؟!
  قال علي عليه السلام : ذلك رسول الله فعله ، وهو أعلم بما فعل ، ولئن عُدَتَ إلى مثلها لأَسؤَنّك (2) ! .
  ورُبَّ معترضٍ على مضمون كلام الإِمام مع الأشعث ، حيث يُستشمُّ منه رائحة التعصيب والمنطق القبلي ـ حاشا الإمام ذلك ـ فيؤخذ بالوهم والتباس

---------------------------
(1) الكثكث التراب والحجارة ، والأثلب : التراب والحجارة ، أو مطلق ما يعاب به الإنسان .
(2) العقد الفريد 6 / 136 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 134 _

  الحقيقة ، فالإمام علي عليه السلام أبعد ما يكون عن هذا التفكير العشائري لو وجد خصمه أهلاً وكفؤاً لزينب ، حسب الموازين الإسلامية .
  لقد كان الأشعث بن قيس يرى في نفسه كبراً تظهر آثاره بين الفينة والفينة سيما مع الإمام علي ، فقد كان جريئاً عليه ، وجرأته تلك تنم عن وقاحة وسوء ظن ، وغلظة ، فكان يعترض الإمام في أحرج المواطن وأشدها (*) وكان ينهج في

---------------------------
(*) فيما كان الإمام علي عليه السلام يخطب ذات يوم ، إذ اعترض عليه الأشعث بشأن التحكيم ، فكان من جملة ما قاله الإمام له : ( ما يدريك ما عليّ مما لي ، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك بن حائك ، منافق بن كافر ، والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى ، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك ، وإن إمرءً دل على قومه السيف ، وساق إليهم الحتف لحريٌ أن يمقته الأقرب ، ولا يأمنه الأبعد ) ، تصنيف نهج البلاغة / 222 . واسم الأشعث : معدي كرب ، وأبوه قيس الأشج ، وكان الأشعث أبداً أشعث الرأس فسمي الأشعث وغلب عليه حتى نُسي إسمُهُ وقد تزوج رسول الله أخته قتيلة ، فتوفي قبل أن تصل إليه ، وأما الأسر الذي أشار إليه امير المؤمنين هنا في الجاهلية ، فهو انه حين قتل أبوه خرج يطلب الثأر فأسر ، وفدي بثلاثة آلاف بعير ، لم يفد بها عربي قبله ولا بعده ، وفي ذلك يقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي .
فكان فداؤه ألفي بعيرٍ * وألفا من طريفاتٍ وتُلدِ . . .
  وأما الأسر الثاني في الإسلام ، فقد كان في عهد أبي بكر ، وذلك أن بني وليعة ارتدوا بعد رسول الله ، وملكوا عليهم الأشعث ، فحاصره المسلمون وكان في حصن ، فاستسلم بعد أن شرط عليهم أن يبعثوا به الى ابي بكر ، ثم فتح لهم الحصن ، فدخلوه واستنزلوا كل من فيه وأخذوا أسلحتهم وقتلوهم وكانوا ثمانمائة ، ! وقيل : أمنوه مع عشرة من أهل بيته فقط ، ثم أخذ موثقاً بالحديد ، قال الطبري : وكان المسلمون يلعنون الأشعث ويلعنه الكافرون أيضاً وسبايا قومه ، وسماه نساء قومه عرف النار ـ وهو اسم للغادر عندهم .
  وقال ابن أبي الحديد : كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي عليه السلام ، وهو في أصحاب امير المؤمنين عليه السلام كما كان عبد الله بن أبي بن سلول في اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه ـ راجع شرح النهج 1 / من ص 292 ـ 927 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 135 _

  ذلك منهج : خالف تُعرف ! وكان الإِمام عليه السلام يعامله بالمثل ، وقد انكشفت حقيقته لديه فيما بعد .
  إن هذا الرجل كان بعيداً عن الإيمان وعن مبدأ علي ، فلم يبق له شيءٌ يفتخر فيه أمام عليّ إلا النسب والعشيرة حيث قال : قد زوجتم اخمل مني حسباً !
  بيد أن الإمام عليه السلام تناوله من حيث بدأ ، فأفهمه أنه ليس كفؤاً لزينب ، ولا لواحدة من الفواطم والعواتك ، وأن كندة التي يفتخر بها الأشعث ، ليست كفؤاً لهاشم وسُلَيم ، قرعاً للحجة بالحجة ، وفلاًّ للحديد بالحديد .
  وحين ضرب له الأشعث مثلاً بالمقداد ، لم يُطل معه الإمام الشرح ، بل أجابه بقوله : ذاك رسول الله فعله .
  جواب مسكتٌ لا يمكن معه رَدٌّ ، أو اعتراض من مسلم ! فهل يفعل الرسول إلا ما فيه المصلحة والرجحان ؟ وهل كان ليزوج المقداد من ابنة عمه ضباعة لو لم يكن كفؤاً لها ؟

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 136 _

زوجة المقداد وأولاده
  وضباعة كنيتها أم حكيم وقد ولدت للمقداد عبد الله ، وكريمة .
  وكانت تروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن زوجها المقداد ، وروى عنها ابن عباس ، وعائشة ، وبنتها كريمة بنت المقداد ، وابن المسيب وعروة ، والأعرج وغيرهم (1) .
  وقتل عبد الله بن المقداد في حرب الجمل مع عائشة ( سنة ست وثلاثين ) فمر به علي بن أبي طالب ، فقال : بئس ابن الأخت أنت (2) ولم أجد لعبد الله ترجمةً أوسع مما ذكرت ، وأما معبد فقد ذكر في ( الإصابة ) ، وأظن أن أمره قد التبس على ابن حجر ، فتارةً يقول : مرت ترجمته في ترجمة والده ، وتارةً يذكر : معبد بن المقدام بدل المقداد ، وأما في غير هذا الكتاب من الكتب التي بين يدي فإنها لا تتعرض لذلك ، والله أعلم .
  واليوم ، هناك عائلة واسعة الانتشار تسمى : ( بآل المقداد ) وهم يسكنون في سوريا ولبنان وغيرهما من البلاد العربية .
  وقد سألت السيد حسن محمد المقداد عن سبب التسمية ، فأجابني أنهم ينتمون إلى ( المقداد ) وأن هذا أمر توارثه الأبناء عن الآباء ، وقال فيما قال : أن النزوح الأساسي كان إلى الشام قبل مئات السنين بسبب

---------------------------
(1) الإصابة 4 / 352 .
(2) الإصابة 3 / 65 كما عن طبقات بن سعد .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 137 _

  الإضطهاد الديني ، ثم توزعوا بين الشام وجهات بعلبك .
  وأخبرني الحاج كاظم المقداد : أن شجرة النسب ( نسبهم ) توجد عند آل المقداد الموجودين في ( بصرى الشام ) وهم وإياهم ابناء العم ، وذلك : أن إثنين من ابناء المقداد كانوا في قلعة السويداء ، فنزحوا الى منطقة ( حجولا ـ كسروان ) ثم رجع أحدهم فسكن بصرى الشام .
  وحدثني بعض الثقات بما يقرب من هذه المضامين ، وهو ليس ببعيد ، والله أعلم .
  الشورى ، وموقف المقداد منها
  شبح المؤامرة !
  فكرة الشورى وأبعادها .
  سير عملية الشورى ، وما افرزت من تناقضات .
  خلفيات الشورى .
  بدء المعارضة وقصة عبد الله بن عمر مع الهرمزان .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 141 _

شبح المؤامرة
  قال الإِمام علي عليه السلام يصف عملية الشورى ، وموقفه منها :   ( حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في ستةٍ زعم أني أحدهم ، فيالله وللشورى ! متى إعترض الريبُ فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقرنَ إلى هذه النظائر ! لكني أسفَفتُ إذ أسفوّا وطرتُ إذْ طاروا ، فَصَغا رجلٌ منهم لضِغْنِهِ ، ومالَ الآخَرُ لصِهرِهِ مع هَنٍ وهن . . . ) .