قومنا وانه أبى إلا الإنحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .
  ثم تكلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فتلا شيئاً من القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم .
  فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع أزرنا (1) .
  فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر .
  وتكلم بعده أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وانا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا . ؟
  فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم قال : بل الدَمُ الدم ، والهدمُ الهدم (2) أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم (3) .
  ثم أمرهم رسول الله أن يختاروا منهم أثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم يتحملون المسؤولية تجاه رسول الله فاخرجوا منهم اثني عشر نقيباً (4) تسعة من

---------------------------
(1) الإزار : كناية عن المرأة ، وكناية عن النفس أيضاً .
(2) قال ابن قتيبة : كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار : دمي دمُك ، وهدمي هدمك ، أي ما هدمت من الدماء هدمته انا ، وما يجري عليك يجري علينا ، وقد يقصد بالهدم ، الجلاء والإرتحال .
(3) راجع السيرة لإبن هشام 2 / 64 وما قبلها .
(4) واسماءهم كالتالي : سعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن =

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 37 _

  الخزرج ، وثلاثة من الأوس .
  ولما اجتمعوا للبيعة ـ بعد اختيار النقباء ـ قال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري :
  يا معشر الخزرج ، هل تدرون على مَ تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم ، قال : إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا انهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً ، أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال (1) وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة .
  قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك ـ يا رسول الله ـ إن نحن وفينا ؟ قال : الجنة .
  قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده ، فبايعوه على ذلك .
  وكان أول من ضرب يده على يد رسول الله سعد بن زرارة ، وقيل : الهيثم بن التيهان ، وتتابع القوم يتسابقون على بيعته (2) .
  وتطاير الخبر الى مشركي مكة بما جرى للنبي مع الأوس والخزرج ،

---------------------------
  = مالك ، والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حزام ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، وكلهم من الخزرج ، ومن الأوس : أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر ، سيرة بن هشام / 65 .
(1) نهكة الأموال : نقصها .
(2) راجع سيرة المصطفى / 234 وفي سيرة ابن هشام : عن كعب بن مالك قال : فلما بايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب ـ المنازل ـ هل لكم في مذَمّم والصبأة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ! قال ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هذا أزَبُّ العقبة ! أتسمع ـ أي عدو الله ـ أما والله لأفرغن لك ، السيرة 2 ـ 67 ، وأزب العقبة : إسم شيطان ، والمنازل : منازل منى .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 38 _

  فاجتمع وجوه القرشيين ، واقبلوا إلى الأنصار حيث ينزلون ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، لقد بلغنا أنكم جئتم الى صاحبنا محمد لتخرجوه من بين أظهرنا ، وتبايعوه على حربنا ، وانه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم !
  فاسرع جماعة من مشركي الأوس والخزرج ممن لم يكونوا قد علموا بشيء مما جرى وحلفوا لهم بالله إنه لم يكن مما يقولون شيء ، فصدقوا وانصرفوا .
  ولما انتهى موسم الحج ، ورجع الأنصار ، ايقنت قريش بالأمر ، فخرج جماعة في طلبهم فادركوا سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ـ وهما من النقباء الإثني عشر ـ واستطاع المنذر أن يفلت من أيديهم ، وأمسكوا بسعد وربطوا يديه إلى عنقه وادخلوه مكة مكتوفاً وهم ينهالون عليه بالضرب ، ويقذعون له بالشتم حتى خلصه جبير بن مطعم ، والحارث بن حرب بن أمية .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 39 _

الإِعـداد للهجـرة
  ولم تكن قريش تتوقع هذا التطور المفاجئ في حركة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد كانت حركته بادىء الأمر منحصرةً داخل مكة فكان هو وأصحابه تحت قبضة قريش وسلطانها ! أما بعد مبايعة أهل يثرب له على حرب الأحمر والأسود ، فإن هذا يعني فتح جبهةٍ عسكرية واسعة ضد قريش يمكن أن تلهب معها الحرب في أي لحظة !
  كما يعني إنتشار الإِسلام في ارجاء الجزيرة ، وسقوط هيبة قريشٍ من أعين العرب ! وعندها تخسر كل شيء .
  لذلك ، بدأ القرشيون يفكرون في فرض مخطط جديد يحول دون ذلك ، ولكن بعد فوات الآوان .
  أما رسول الله ، فهو بدوره أيضاً فكر أن يهاجر ، ولكن ما كان ليقطع أمراً دون أمر الله ووحيه ، حتى إذا نزلت الآيات المباركات التي تأذن له بالقتال :
  ( أُذِنَ للذين يُقَاتَلون بأنهم ظُلِموا وأنَّ الله على نصْرِهم لقَديرٌ * الذين أُخرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَغير حقٍّ إلاّ أنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله ولولا دَفَعُ الله الناسَ بَعضَهُم بِبَعض لَهُدِّمَت صَوامِعُ وبيَعٌ وصَلَوَاتٌ ومَسَاجِدُ يُذكر فيها إسمُ الله كثيراً وليَنصُرَنَّ الله من يَنصُرُهُ إنّ الله لقويٌ عزيزُ * الذينَ إن مَكنَّاهُم في الأرض أقاموا الصلاةَ وآتَوُا الزَكَاةَ وأمرُوا بالمعْرُوفِ ونَهَوا عن المنكَرِ ولله عاقبةُ الأمور ) (1) .

---------------------------
(1) الحج ـ آية 39 ـ 40 ـ 41 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 40 _

  عند ذلك أمر رسول الله أصحابه أن يلحقوا بالأنصار في يثرب على أن يتركوا مكة متفرقين يتسللون ليلاً ونهارا حتى لا يثيروا قريشاً فتقف في طريقهم ، وهكذا انطلقوا من مكة يتسللون في جوف الليل ـ كما أمرهم الرسول ـ أفراداً وجماعات ، وأحست قريش بذلك ، فردت من استطاعت ارجاعه ، وفرقت بين الزوج وزوجته وأخذت تنكل بكل من وقع تحت قبضتها دون القتل لأن المهاجرين اكثرهم من القبائل المكية ، والقتل قد يثير حرباً اهلية تكون لصالح محمد في النهاية .
  وأخذ المسلمون يتوافدون إلى المدينة أفواجاً في ظل ضيافة الأنصار وترحابهم ، ولم يبق في مكة إلا نفر يسير من المستضعفين ومعهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلي ابن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة .
  عند ذلك أحست قريش بالخطر الداهم فكان عليها أن تتخذ قراراً حاسماً في حق محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاجتمعوا في دار الندوة ، وتشاوروا فيما بينهم في خطةٍ تقضي على حياة محمد !
  قال بعضهم قيدوه بالحديد ، وضعوه في بيت وأغلقوه حتى يأتيه الموت !
  ورأى آخر أن يطرد من مكة ، وتنفض قريش يدها منه ، فلم يتفق الحاضرون على هذين الرأيين ، وارتأى أبو جهل بن هشام أن تختار كل قبيلة فتىً من فتيانها الأشداء ، ويأخذ كل واحد سيفاً قاطعاً ، ويعمدون إليه بأجمعهم ، فيضربونه ضربةً واحدة ، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلا يستطيع بنو هاشم الطلب بدمه ، فيختارون ديته على القتال .
  فاستحسن الجميع هذا الرأي ، واستعدوا لتنفيذه ، فاختاروا الفتية ، وعينوا الليلة ، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 41 _

  مبيت علي عليه السلام في فراش الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعظم مفتدٍ لأعظم مفتدىً ، لم يحدثنا التاريخ بأروع من قصة الفداء هذه ، فالملأ من قريش مجمعون على قتل محمد في فراشه ، وعلم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك وأخبر علياً ، فبكى خوفاً على الرسول ، لكن الرسول حين أمره أن يبيت على فراشه ، قال له علي : اوتسلم يا رسول إن فديتك بنفسي ؟ ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم : نعم ، بذلك وعدني ربي .
  فاستبشر عليٌّ وانفرجت أسارير وجهه ابتهاجاً بسلامة النبي ، وتقدم إلى فراشه مطمئن النفس ثابت الجنان نام فيه متشحاً ببرده اليماني .
  فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج النبي من الدار وهو يقرأ : ( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فاغشيناهم فهم لا يبصرون . . . ) ومر على الملأ من قريش وأخذ حفنة من التراب وجعل ينثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون ، ولما حان الوقت المحدد لهجومهم على الدار إقتحموا ، ! ، فثار علي عليه السلام في وجوههم ، فانهزموا منه ، ثم سألوه عن النبي فقال : لا أدري أين ذهب (1) .

---------------------------
(1) وفي تاريخ اليعقوبي : أن الله تعالى أوحى في تلك الليلة الى ملكين من ملائكته المقربين ـ وهما جبريل وميكائيل ـ أني قضيت على أحدكما بالموت ؛ فايكما يفدي صاحبه ؟ فاختار كل منهما الحياة ، فاوحى إليهما : هلا كنتما كعلي بن أبي طالب ، لقد آخيت بينه وبين محمد ، وجعلت عمر أحدهما أطول من الآخر ، فاختار علي الموت وآثر محمداً بالحياة ونام في مضجعه ، إهبطا فاحفظاه من عدوه ، فهبطا يحرسانه في تلك الليلة وهو لا يعلم ، وجبريل =

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 42 _

الهجرة
  وأوصى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علياً بحفظ ذمته وأداء أماناته ، وأمره أن يقيم منادياً بالأبطح غدوةً وعشية ينادي : آلا من كانت له قِبلَ محمدٍ أمانة فيأت لتؤدى إليه أمانته ، وأوصاه بالصبر ، وأن يقدم عليه مع ابنته فاطمة وغيرها من النسوة إذا فرغ من آداء المهمّات التي كلفه بها .
  وأمر أبا بكر ، وهند بن أبي هالة (*) أن يقعدا له في مكان حدده لهما في طريقه إلى الغار ، فلما خرج ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ظلمة الليل ، إنطلق جنوباً ميمماً غار ثور ، فوجدهما في الطريق ، ورجع هند متخفياً إلى مكة ، ودخل هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابو بكر الغار ، فأرسل الله في تلك الساعة عنكبوتاً نسجت على بابه ، وشاءت قدرته أن تلتجئ إلى باب الغار حمامتان بريتان .
  ومضت قريش جادة في طلبه ومعها أهل الخبرة بالقيافة وتتّبع الأثر ، إلى أن بلغوا الغار ، وانقطع الأثر عنهم ، فنظروا ، فرأوا العنكبوت قد غطت بابه بنسيجها ، واذا بالحمامتين على جانب من جوانب بابه مما لا يترك أقل شك في

---------------------------
  = يقول : بخ لك يا بن أبي طالب من مثلك يباهي به الله ملائكة سبع سموات ، راجع سيرة المصطفى / 251 نقلاً عن اليعقوبي 2 / 29 واسد الغابة 4 / 25 والشبلنجي في نور الابصار / 77 والمناوي في كنوز الحقائق / 31 والغزالي في احياء العلوم .
(*) هند بن أبي هالة التميمي : ربيب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أمه خديجة زوج النبي ، وكان فصيحاً بليغاً ، وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأحسن واتقن ، وقد استشهد مع علي عليه السلام في حرب الجمل ـ راجع الإصابة 3 / 611 ـ 612

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 43 _

  انهما ليسا فيه ، فقال بعضهم لبعض : إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد ! (1) .
  وبقي الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ـ على رواية ـ ثم ارتحلا ومعهما غلام لأبي بكر يدعى عامر بن فهيرة ، أردفه ابو بكر خلفه ، وأخذ بهم الدليل على طريق الساحل .
  ولم تتوانى قريش في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعلت لمن قتله أو أسره مائة ناقة .
  ومروا في طريقهم على خيمة أم معبد الخزاعية ، وكانت تقري الضيف ، فسألوها تمراً أو لحماً يشترونه منها ، فلم يجدوا عندها شيئاً ، فقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم ، ! فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شاة في جانب الخيمة وقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟
  قالت : هي شاة خلّفها الجَهدُ عن الغنم ! فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل بها من لبن ؟
  قالت : هي أجهد من ذلك ؟ فقال : أتأذنين لي أن أحلبها ؟ فقالت : نعم ، فداك أبي وأمي إن رأيت بها حلباً .
  فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشاة ، فمسح ضرعها وذكر اسم الله ، ثم قال : بارك الله في شأنها . فدّرت من ساعتها ، فدعا بإناءٍ كبير فحلب فيه فسقاها وسقى أصحابه حتى رويت ورووا ، وشرب هو آخرهم ، ثم قال :
  وساقي القوم آخرهم شرابا .
  ثم حلب في الإِناء حتى إمتلاء وتركه لها وارتحل ، وما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حيّلاً عجافاً هُزلاً ، فلما رأى اللبن تعجب وقال : من أين لكم هذا والشاة عازبة ؟ ولا حلوبة في البيت ؟ !

---------------------------
(1) مقتضب من سيرة المصطفى 250 وما بعدها .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 44 _

  قالت : لا والله ، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك ، وقصت عليه قصته .
  فقال : والله أني لأظنه صاحب قريش الذي تطلب ؟ صفيه لي !
  قالت : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة ، مُنبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تُعيهِ ثَلجة (1) ، ولم تُزرِ به صلعَة (2) ، وسيمٌ ، قسيمٌ (3) ، في عينيه دعج (4) ، وفي اشفاره وَطَف (5) ، وفي صوته صَحَل (6) ، أحور ، أكحل ، ازَج ، أقرن (7) ، شديد سواد الشعر ، في لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما ، وعلاه البهاء ، حلو المنطق ، لا نزر ولا هذر ، ومضت تعدد صفاته . فلما انتهت من وصفه قال لها أبو معبد : والله هذا صاحب قريش ، ولو وافقته ـ يا أم معبد ـ لإلتمست ان أصحبه ، ولأفعلن إذا وجدت إلى ذلك سبيلا ، وأخيراً هاجر أبو معبد وزوجته إلى يثرب وأسلما .
  وبينما النبي في طريقه إلى يثرب إذ عرض له سراقة بن مالك بن خثعم ـ يريد به شراً ـ فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسخت قوائم فرسه في الأرض ! فقال : يا محمد ، ادع الله ان يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي ، فدعا له النبي ، فانطلقت الفرس ، فرجع سراقة ووجد الناس يلتمسون رسول الله ، فقال لهم : إرجعوا ، فقد استبرأت لكم خبره فلم أجد له أثراً ، فرجعوا .

---------------------------
(1) أي لم يكن شديد البياض .
(2) كناية عن جمال شعر رأسه .
(3) قسيم وسيم : أي جميل كله .
(4) الدعج : سواد العين مع سعتها .
(5) الوطف كثرة شعر الحاجبين والعينين .
(6) الصحل : بحة في الصوت .
(7) هذه الصفات الأربع لجمال العينين ، فالحور : هو اشتداد بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ( كعيون الظبي ) وازج : رفيع الحاجبين .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 45 _

  وتابع ركب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طريقهم يقطعون السهول والجبال والأودية ، ويتحملون حرّ الهاجرة وجهد السير سبعة أيام حتى أمنوا من طلب قريش .
  وخرج ابو ذر في قبيلتي غفار وأسلم ، للقاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما دنا منه الركب ، أسرع إلى ناقة النبي وأخذ بزمامها وهو يكاد يطير فرحاً بلقائه ، فأخبره أن غفاراً قد أسلم أكثرها ، واجتمع عليه بنو غفار فقالوا له : يا رسول الله ، إن أبا ذر قد علمنا ما علمته ، فأسلمنا وشهدنا أنك رسول الله .
  واسرع المتخلفون منهم الى الإسلام ، وبايعوا النبي وأعلنوا إسلامهم .
  ثم تقدمت أسلم ، فقالوا : إنا قد أسلمنا ودخلنا فيما دخل فيه إخواننا وحلفاؤنا ، فأشرق وجه النبي سروراً بنصر الله ، ثم قال : غفار ، غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله .
  وإستأنف طريقه ، فلما قارب المدينة قال : من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف .
  فمشى أمامه جماعة ، فلما بلغ منازلهم ، نزل فيهم بقبا (*) في ربيع الأول ، وأراد أبو بكر منه أن يدخل المدينة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وابنتي ـ يعني علياً وفاطمة ( عليهما السلام ) ـ .
  واستقبل رسول الله بالتكبير والتهليل ، وكان في استقباله من بني عوف نحو من خمسمائة .
  ثم كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبا إلى علي ( عليه السلام ) ، فلما ورد كتابه الى علي ابتاع ركائب لمن معه من النسوة وتهيأ للخروج ، وأمر من كان قد بقي في مكة

---------------------------
(*) قُبا : أصله اسم بئر ، عُرفت القرية باسمه ، وكانت مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار . فيها أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وبنى رسول الله مسجده المعروف هناك فسمي ( قبا ) وهو اليوم في أجمل منطقة من المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام ، وفي أجمل موقع .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 46 _

  من ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ليلاً الى ذي طوي ، وخرج عليه السلام بالفواطم (1) وتبعتهم أم أيمن مولاة رسول الله ، وأبو واقد الليثي ، فجعل ابو واقد يسوق الرواحل سوقا حثيثاً ، فقال له علي : ارفق بالنسوة يا أبا واقد ، ثم جعل علي يسوق بهن ويقول : لـيس إلا الله فـارفع ظنكـا يكفيـك رب النـاس ما أهمكـا .
  فلما قارب ضجنان (2) أدركه الطلب ، وكانوا ثمانية فرسان ملثمين معهم مولىً لحرب بن أمية ، إسمه : جناح ، فقال علي عليه السلام لأيمن وابي واقد : انتحيا الإِبل واعقلاها ، وتقدم وأنزل النسوة ، واستقبل القوم بسيفه ، فقالوا : أظننت يا غدار إنك ناج بالنسوة ؟ إرجع ، لا أبا لك .
  فقال عليه السلام : فإن لم أفعل ؟ ! قالوا : لترجعن راغماً ! ودنوا من المطايا ليثورها ، فحال علي بينهم وبينها ، فأهوى له جناح ، فراغ عليٌّ عن ضربته وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين حتى دخل السيف إلى كتف فرسه ، وشد على أصحابه ، فتفرق القوم عنه وقالوا : إحبس نفسك عنّا يا بن أبي طالب !
  فقال لهم : إني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله ، فمن سرّهُ أن أفري لحمه ، واريق دمه ، فليدن مني !!
  ثم أقبل عليه السلام على أيمن وأبي واقد ، وقال لهما : أطلقا مطاياكما .
  وسار بها ظافراً قاهراً حتى نزل ضجنان ، فلبث بها يومه وليلته تلك هو والفواطم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، حتى طلع الفجر ، فلما

---------------------------
(1) الفواطم : هن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة بنت أسد ام الإمام علي ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وفاطمة بنت حمزة راجع سيرة المصطفى / 259 .
(2) ضجنان : إسم جبل على اربعة فراسخ من مكة .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 47 _

  صلوا صلاة الفجر سار بهم حتى قدموا المدينة ، وكان قد تفطرت قدماه ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتنقه وبكى رحمةً لما به ، ثم تفل في يديه وأمرهَّما على قدمي علي ودعا له بالعافية ، فلم يعد يشتكي منهما (1) .

---------------------------
(1) راجع سيرة المصطفى 258 وما بعدها .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 48 _

النبي الأعظم في المدينة
  وخرج صلى الله عليه وآله وسلم من قبا يوم الجمعة ، فادركته الصلاة في بني سالم بن عوف ، فصلاها عندهم ومعه مائة من المسلمين ، وبعد الصلاة دعا براحلته فركبها ، والتف حوله المسلمون وهم مدججون بالسلاح ، وكان لا يمر بحي من أحياء الانصار إلا تعلقوا به ، يقولون له : انزل على الرحب والسعة يا نبي الله ، إلى القوة والمنعة والثروة ، فيدعو لهم بالخير ويقول : دعوا الراحلة فإنها مأمورة ، وما زالت تسير به ، وكلما مرَّ بحيٍّ أخذوا بزمامها وألحوا على النزول بينهم وهو يرفض ذلك إلى أن انتهت إلى حيث مسجده الآن فبركت عنده .
  فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فحط رحله وأدخله منزله ، فقال رسول الله المرء مع رحله ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام ناقة رسول الله وأدخلها داره .
  قال زيد بن ثابت : وأول هديةٍ دخلت رسول الله في منزل ابي أيوب ، قصعة مثرودة فيها خبز وسمن ولبن ، فقلت : أرسلت بهذه القصعة أمي ، يا رسول الله ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : بارك الله فيك وفي أمك ، ودعا أصحابه فأكلوا .
  ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ، وما كان من ليلةٍ من الليالي إلا وعلى باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الثلاثة والأربعة يحملون الطعام ، يتناوبون ذلك ، حتى فرغ رسول الله من بناء مسجده ومنازله ، وتحول عن منزل أبي أيوب ، وكان

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 49 _

  مقامه فيه سبعة أشهر .
  واهتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتوكيد الروابط بين المهاجرين والانصار ، وتأصيلها في نفوسهم على أساس التقوى والإيمان ، فآخى بين المهاجرين والأنصار ، وأطفأ بهديه وبراعته نار الحقد بين الأوس والخزرج ، ولم يكتف ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك ، بل حاول جاهداً تحقيق الوحدة بين جميع سكان يثرب من المسلمين والمشركين وأهل الكتاب من اليهود ، مخافة أن تثور بهم البغضاء والعصبيات وتعصف بهم الأحقاد فيصبح حينئذٍ بين خطرين ، خطر من داخل المدينة ، وخطر قريش ، وعندها يصاب هذا الدين الجديد بالنكسة ، لذلك كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أحكم الأمر فعقد معاهدةً بين المسلمين والفئات الأخرى من أهل المدينة ليحفظ وحدتها ويصون اهلها ويغلق الباب على المفسدين ، ولولا هذا التدبير الرائع ، لواجه صلوات الله عليه صعوبات ومشاق لا تقل في حجمها عن تلك التي واجهها من قريش في مكة .
  والكلمة الأخيرة : فإن موقف الأنصار من الرسول والمهاجرين معه كان أشرف موقف يسجله تأريخ أمة ، نصروهم بعد أن خذلهم قومهم ، وقاسموهم آموالهم ، وآثروهم على انفسهم ووفروا لهم وسائل العمل حتى أصبح الكثير منهم في مصاف الأثرياء من أهل المدينة ، وقد أجمل الإِمام علي عليه السلام موقف الأنصار من المهاجرين بقوله مخاطباً مسلمي قريش :
  ( إن حب الأنصار إيمان ، وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم ، وبقي ما عليكم ، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله الى المدينة ، وكره له قريشاً فنقله إلى الأنصار ، ثم قدمنا عليهم دارهم ، فقاسمونا الأموال ، وكفونا العمل ، فصرنا منهم بين بذل الغني وايثار الفقير ، ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم ، وقد أنزل الله تعالى فيهم آيةً من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نِعَم فقال : ( والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم يُحبّون من هاجر

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 50 _

  إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةًٍ مَّما أوتوا ويؤثرون على أنفُسِهمَ ولو كان بهم خَصَاصَة ومن يُوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) (1) .

---------------------------
(1) شرح النهج 6 / 33 ـ 34 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 51 _

بين الرسول الأعظم والمقداد
  في خلال السنة الأولى للهجرة كان المقداد لا يزال ـ هو وبعض المستضعفين ـ في مكة ، وليس من السهل أن يغادرها إلى المدينة سيما وانه حليف للأسود بن عبد يغوث ـ كما قدمنا ـ فإنه لو فعل لكان مصيره إلى القتل بلا أدنى شك ، لذلك كان يترقب فرصةً سانحةً يمكنه معها الفرار إلى يثرب واللقاء بالرسول والإلتحاق بركبه ، حتى كانت سرية حمزة بن عبد المطلب وكان معها الخلاص ، فقد خرج مع المشركين يوهمهم أنه يريد القتال معهم ، وهكذا إنحاز إلى سرية حمزة ورجع معه الى المدينة .
  وكان نزوله في المدينة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ضيافته ، ولم يكن وحده بل كانوا جماعة ، ومن الواضح أن وضع المسلمين الإقتصادي ـ في تلك الفترة ـ كان متردّياً إلى درجةٍ بعيدة ، بل يظهر أنهم كانوا يعانون الفقر المدقع ـ لولا مساعدة الأنصار لهم ـ فقد تركوا كل ما لديهم من مال في مكة وخرجوا منها صفر اليدين ، لا يملكون إلا أبدانهم وثيابهم ، ورواحلهم ، وليس من الوارد أن يكونوا في خلال ستة أشهر ، أو تسعة ، في وضع إقتصادي مريح على الأقل ، سيما وأن النفقة ـ الصادر ـ اكثر من الوارد ، فبناء المسجد ، وبناء الدور ـ وان كانت من جريد النخل مغروساً بالطين ـ تتطلب بذل مالٍ كثير نسبةً لذلك الوقت وتلك الظروف .
  وقوافل المسلمين الجدد الذين كانوا يأتون المدينة لم تقف عند حد الهجرة ، هجرة النبي ، بل توالت ، فكان على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين أن يستقبلوا

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 52 _

  ضيوفهم ، وأن يهيئوا لهم ما يحتاجون من متطلبات الحياة الضرورية على الأقل .
  فكان إذا هاجر بعض المسلمين ، وزّعهم رسول الله ، اثنان اثنان ، أو ثلاثة ثلاثة . . . أو . . . حسب العدد على إخوانهم المهاجرين الذين استقرت بهم الدار في المدينة وأصبحوا قادرين على النهوض بأنفسهم وعوائلهم .
  والذي يظهر ، أن المقداد كان من جملة أولئك الوافدين المهاجرين الجدد ، وكان في عدد لا يستهان به ، كما يلحظ ذلك في مطاوي كلامه ، فقد ذكر أحمد بن حنبل بسنده عن المقداد ، قال :
  لما نزلنا المدينة ، عشرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عشرةً عشرةً في كل بيت ! قال : فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
  إلا أن هذه الإقامة في بيت الرسول لا تكون طويلةً بحسب العادة ، إذ يتخللها بعوثٌ وسرايا وغزوات ، قد يطول أمدها ، وعند العودة يتبدّل المكان ، سيّما إذا اخذنا بعين الإعتبار ما لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هيبةٍ في نفوس المسلمين تزرع في نفوسهم الخجل من أن يكلموه في النزول عليه وفي ضيافته .
  يستفاد ذلك من حديث آخر مروي عن المقداد ، حيث قال : أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعُنا وأبصارُنا من الجهد (*) فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليس أحد منهم يقبلنا ، لا لبخل فيهم ، بل لأنهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء ! ( فأتينا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ! )
  فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إحتلبوا هذا اللبن بيننا .

---------------------------
(1) الإستيعاب ( على هامش الإصابة ) 3 / 476 .
(*) الجهد : الجوع والتعب والمشقة .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 53 _

  قال : فكنا نحتلب ، فيشرب كل انسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصيبه ، فيجيء ( صلى عليه وآله وسلم ) ليلاً فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ، ويسمع اليقظان ، ثم يأتي المسجد فيصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب (1) .
  وفي هذه الأثناء تحصل مواقف نادرة بينه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من جهة وبين اصحابه من جهةٍ أخرى ، وهي بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من اقتباس الحكمة منه صلوات الله عليه والتوجيه الرفيع ، فإنها لا تخلو من ظرف وخفة روح من جانب بعض أصحابه أحياناً ونجده في هذه الحالات يعاملهم معاملة الأب لأبنائه دون قسوةٍ أو غلظة وربما أنبههم إلى الخطأ أو الغلط بأسلوب هادئ مقنع لا يملك معه مستمعوه إلا الإذعان والإنقياد ولوكم النفس على التفريط إن كان هناك تفريط أو تسامح ، كما حصل للمقداد حين كان في ضيافته صلى الله عليه وآله وسلم على ما جاء في تتمة الرواية .
  قال : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ ، وقد شربتُ نصيبي ـ من اللبن ـ فقال : محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ، ما به حاجة إلى هذه الجرعة .
  فأتيتها فشربتها ، فلما أن وغلت (2) في بطني ، وعلمتُ أنه ليس إليها سبيل ، ندَّمني الشيطان ، فقال : ويحك ؟ ما صنعتَ ؟ أشربتَ شرابَ محمد فيجيء فلا يجده ، فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وآخرتك . !
  وعليّ شملة ، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وأذا وضعتها على رأسي خرج قدماي ، وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت .
  قال : فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسلّم كما كان يُسلّم ، ثم أتى المسجد ، فصلى

---------------------------
(1) للرواية تتمة تأتي .
(2) وغلت : أي استقرت وتمكنت في بطنه .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 54 _

  ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيءً ، فرفع رأسه الى السماء .
  فقلت : الآن يدعو عليّ فأهلك ، فقال : ( اللهم أطعم من أطعمني ، واسقِ من سقاني ) قال : فعمدت الى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة ، فانطلقت الى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإذا هي حافلة (1) .
واذا هن حفل كلهن ، فعمدت الى إناءٍ لآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه ،
  قال : فحلبت فيه حتى علته رغوة ، فجئت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال :
  أشربتم شرابكم الليلة ؟
  قال : قلت : يا رسول الله ؟ اشرب .
  فشرب ، ثم ناولني ، فقلت : يا رسول الله ، إشرب . فشرب ، ثم ناولني .
  فلما عرفت أن النبي قد روي ، وأصبتُ دعوته ، ضحكتُ حتى القيت إلى الأرض .
  قال : فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إحد سوآتك (2) يا مقداد .
  فقلت : يا رسول الله ، كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا .
  فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما هذه إلا رحمةٌ من الله (3) آفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها .
  قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ؛ ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك

---------------------------
(1) حافلة : أي أن ضرعها ملآن باللبن .
(2) احدى سوآتك : أي انك فعلت سوآة من الفعلات ، فما هي ؟
(3) اي أن أحداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته ، رحمة من الله .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 55 _

  من أصابها من الناس (1) .
  هذا موقف لأبي معبد ينطوي على شيء من الظرف وخفة الروح ، بالإضافة إلى إستشعاره الخطيئة حين عمد إلى شراب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فشربه ، ولاحظنا أن موقف النبي منه كان موقف الشفيق العطوف الرحيم الذي ينظر إلى أصحابه بميزان خاص يتلائم مع عقولهم ونفوسهم ، وربما تلاحظ معي أن الرسول الكريم ـ كما يظهر من الحديث ـ تمنى لو أن المقداد أيقض صاحبيه ليصيبا معهما الشراب ، شراب ذلك اللبن المبارك .
  وموقف آخر لأبي معبد مع الرسول ، تتجلى فيه عظمة الإسلام ، ونبي الإسلام ، كان من جملة المواقف التي خلدت على الزمان بما تحمل من نبل كلمة وسمو خلق ، ورفيع مستوى في التوجيه والتهذيب ، بل وغرس الروح الإنضباطية لدى المسلم .
  فقد سأله ذات مرة : يا رسول الله ، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار ، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ، فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ، أفأقتله ـ يا رسول الله ـ بعد أن قالها ؟ !
  قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تقتله .
  قال : فقلت : يا رسول الله ، انه قطع يدي ! ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟
  قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ! وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ! (2) .
  ويلاحظ هنا مدى ارتقاء الإسلام بالنفس البشرية إلى آعالي قمم الكرامة

---------------------------
(1) صحيح مسلم ج 3 ك 36 ص 1625 ـ 1626 ح 174 .
(2) صحيح مسلم ج 1 ك 1 ص 96 ح 155 ـ 156 ـ 157 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 56 _

  والإنسانية ، كلمة واحدة فقط من لسانٍ صادق كفيلة بإنقاذ حياة صاحبها من موتٍ محتم .
  أي عمق هذا في تعزيز الروح الإنسانية ، وأي صيانةٍ لها ؟ ؟ هكذا الإسلام دائماً يهتم بصيانة النوع وحمايته ، فكلمة صادقة ، كفيلة في أن تقلب الموازين وكلمة صادقة ، هي مرآة للنفس تعكس آلامها وآمالها ، وليس للحقد في دنيا الإسلام مكان .
  انه موقفٌ شواهد الحكمة فيه ، ومعه .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 57 _

  من مواقفه البطولية .
  في سرية ( نخلة ) ، ينقذ أسيراً فيسلم .
  في غزوة بدر الكبرى .
  غزوة احد .
  غزوة الغابة .
  عزوة خيبر .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 59 _

في سرية ( نخلة ) (*) ينقذ أسيراً ، فيسلم !
  بعد سبعة عشر شهراً من الهجرة ، أراد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يتتبع أخبار قريش ، ويتحسس تنقلاتها ، ويرصد تحركاتها في المنطقة ، فدعا عبد الله بن جحش ، وأمره أن يوافيه مع الصباح بكامل سلاحه .
  قال : فوافيت الصبح وعلي سيفي ، وقوسي ، وجعبتي ، ومعي درقتي ، فصلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الصبح بالناس ، ثم انصرف فوجدني قد سبقته واقفاً عند باب داره ومعي نفر من قريش .
  فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبي بن كعب ، فدخل عليه ، فأمره أن يكتب كتاباً .
  ثم دعاني ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأعطاني صحيفةً من أديم خولاني فقال : قد استعملتك على هؤلاء النفر ، فامضي حتى إذا سرت ليلتين ، فانشر كتابي ، ثم امضي لما فيه .
  قلت : يا رسول الله ، أي ناحية أسير ؟ فقال : اسلك النجدّية ، تؤم رُكيّة ( بئر ) .
  فانطلق عبد الله ، حتى إذا صار ببئر ضمرة نشر الكتاب فإذا فيه : ( سر حتى تأتي بطن نخلة على إسم الله وبركاته ، ولا تكرهنَّ أحداً من

---------------------------
(*) سميت باسم المكان ، وهو بطن نخلة : ( قرية قريبة من المدينة ) ، هكذا قال ياقوت .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 60 _

  أصحابك على المسير معك ، وامضِ لأمري فيمن تبعك حتى تأتي ( بطن نخلة ) فترصَّد بها عِيرَ قريش ) .
  فقرأ عبد الله الكتاب على أصحابه ، ثم قال : لست مستكرهاً منكم أحداً ، فمن كان يريد الشهادة ، فليمضِ لأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن أراد الرجعة ، فمن الآن . !
  فقالوا جميعاً : نحن سامعون ومطيعون لله ولرسوله ولك ، فسر على بركة الله حيث شئت .
  فسار حتى جاء نخلة ، فوجد عيراً لقريش فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله وهم من بني مخزوم .
  وكان ذلك اليوم مشتبها في أنه آخر يوم من رجب ، أو اول يوم من شعبان ، ورجب من الأشهر الحرم ، فقال قائل : لا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم ، أم لا ؟
  وقائل يقول : إن اخرتم عنهم هذا اليوم ، دخلو في الحرم ـ حرم مكة ـ وإن أصبتموهم ، ففي الشهر الحرام .
  هذا ، مع أن النبي صلوات الله عليه لم يأمرهم بالقتال ، وانما أمرهم بمراقبة تحركاتهم .
  وكان رأي واقد بن عبد الله ، وعكاشة بن محصن مقاتلتهم ، وأخيراً غلب رأيهم على رأي من سواهم ، فشجُعَ القوم ، فقاتلوهم .
  فخرج واقد بن عبد الله يقدم القوم ، قد أنبض قوسه وفوّق بسهمه ـ وكان لا يخطئ رميته ـ فرمى عمرو بن الحضرمي بسهم ، فقتله .
  وأسِرَ عثمان بن عبد الله ، وحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 61 _

  واستاق المسلمون العِير ـ وكانت تحمل خمراً وزبيباً وجلوداً ـ إلى رسول الله فوقّفها ولم يأخذ منها شيئاً ، وقال لهم : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام .
  أما الأسيران ، فحبسهما عنده ، لأن اثنين من المسلمين كانا قد ضلا وتأخرا عن أصحابهم ، فظن الناس أن قريشاً قد حبستهما أو قتلتهما .
  وأرسلت قريش إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في فداء أصحابهم ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لن نفديهما حتى يقدما صاحبانا .
  وكان المقداد رضي الله عنه هو الذي قد أسر الحكم بن كيسان ، وأنقذه من القتل ، وذلك كما يحدثنا هو فيقول :
  أراد أمير الجيش أن يضرب عنقه ، فقلت : دعه نقدم به على رسول الله .
  فقدمنا به على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعوه إلى الإسلام ، فأطال رسول الله كلامه .
  فقال عمر بن الخطاب : تكلم هذا يا رسول الله ؟ والله لا يسلم هذا آخر الأبد ! دعني اضرب عنقه ، ويقدم الى أمه الهاوية ، ! فجعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يقبل على عمر .
  قال الحكم : وما الإسلام ؟
  فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : تعبد الله وحده لا شريك له ، وتشهد أن محمداً عبد ورسوله .
  قال : قد أسلمت .
  فالتفت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أصحابه ، فقال : لو أطعتكم فيه آنفاً فقتلته ، دخل النار .
  قال عمر : فما هو إلا أن رأيته قد أسلم ، وأخذني ما تقدم وتأخر وقلت :