فكرة الشورى وابعادها
  أرسل المغيرة بن شعبة (*) إلى عمر يقول : ( إن عندي غلاماً نقاشاً نجاراً حداداً فيه منافع لأهل المدينة ، فإن رأيت أن تأذن لي في الإِرسال به ، فعلتُ ) فإذن له (1) فبعث بغلامه أبي لؤلؤة فيروز الفارسي .
  وكان عمر لا يأذن لسبيىٍّ قد احتلم في دخوله المدينة حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة (2) .
  مكث أبو لؤلؤة في المدينة فترة غير طويلة لا تتعدى الأشهر كان سيده المغيرة قد فرض عليه في خلالها ضريبةً قدرها مائة درهم لكل شهر .
  في هذه الفترة كانت أقبية المدينة تشهد لوناً من ألوان الصراع الحزبي كشفت عنه الأيام فيما بعد وكان للأمويين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين دور كبير فيه ، وفي هذه الفترة أيضاً ومن خلال ذلك الصراع العنيف يبدو للمتتبع أن مؤامرة ما كانت تحاك في الظلام ، وربما استهدف فيها الخليفة نفسه ! سيما إذا أخذنا بعين الإِعتبار السياسة الخشنة التي انتهجها عمر والتي لا ترضي أقطاب قريش . . .
  ومرت الأيام تتوالى سراعاً حتى إذا كان الظرف مؤاتياً والأمر مستوسقاً بدأ

---------------------------
(*) المغيرة بن شعبة ، قال عنه الشعبي : كان من دهاة العرب ، وقال قبيصة بن جابر : صحبت المغيرة ، فلو أن مدينةً لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر ، لخرج المغيرة من أبوابها كلها ( الإصابة 3 / 452 ) .
(1) مروج الذهب 2 / 320 .
(2) تاريخ الخلفاء 152 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 144 _

  التنفيذ لهذه المؤامرة على أدق ما يتصور ، فقبل مقتل عمر بثلاثة أيام أقبل إليه كعب الأحبار (*) ليزُفّ إليه بشارةً ما أظن أن أبعادها خفيت على الخليفة ، فقال : أجدك في التوارة تقتل شهيداً !
  فقال عمر : وأنى لي بالشهادة ، وأنا في جزيرة العرب ؟ ! (1) وكأنه بجوابه هذا يقرأ سراً إنطوى عليه قلب كعب !!
  وكأن كعباً بقولته تلك يحاول تضليل الخليفة عن تلك المؤامرة والتي يظهر أن لكعب ضلعاً فيها ، فليست قولته هذه إلا ( شاهد من شواهد ذلك الصراع الحزبي العنيف الأخرس ، وفلتة ربما دانت كعباً بالإنتماء الى الحزب الأموي والتجسس على عمر في ثوب المخلص له المقرب إليه ، فقد كان كعب بعد ذلك ركناً في بلاط معاوية يدير فيه الدعاية ويعلم فيه الدس عن طريق القصص والوضع . . .(2) .
  وفي ذات يوم أقبل أبو لؤلؤة إلى عمر يشكو إليه ثقل خراجه الذي فرضه عليه المغيرة ، فقال له عمر : وما تحسن من الأعمال ؟
  قال : نقاش ، نجار ، حداد .

---------------------------
(*) كعب بن مانع ، قدم من اليمن في خلافة عمر بن الخطاب فأخذ عنه الصحابة وغيرهم ! ومات بحمص بعدما ملأ الشام وغيرها بخرافاته اليهودية . . . ومن خرافاته : أن الأرضون السبع على صخرة ، والصخرة في كف ملك ، والملك على جناح الحوت ، والحوت في الماء ، والريح على الهواء ريح عقيم لا تلقح ، وان قرونها معلقة في العرش . . . الخ ـ كما جاء في تذكرة الحفاظ للذهبي .
  وجاء في الطبقات الكبرى : أنه ظل بعد اسلامه يحرص على قراءة أسفار التوراة ، وهو الذي أخبر عمر بن الخطاب بأنه سيقتل وذلك قبل مقتله بثلاثة أيام مدعياً أنه وجد ذلك في التوراة . . . وكعب هذا يهودي من اليمن وهو من اكثر من تسربت منهم أخبار اليهود الى المسلمين ـ راجع الموضوعات في الآثار والأخبار ـ 105 وما بعدها .
(1) نفس المصدر 124 .
(2) حليف مخزوم ـ 160 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 145 _

  فقال له عمر : ما خراجك بكثير في كنه ما تحسن من الأعمال ، فمضى عنه وهو يتذمر .
  ومر بعمر يوماً وهو قاعد ، فقال له عمر : الم أحدَّث عنك أنك تقول : لو شئتُ أن أصنع رحاً تطحن بالريح ، لفعلتُ ؟ !
  فقال ابو لؤلؤة : لأصنعن لك رحاً يتحدث الناس بها ! ثم ولى عنه .
  فقال عمر : أما العلج فقد توعدني آنفاً ! (1) .
  وأخذ أبو لؤلؤة خنجراً ذا رأسين ، وشحذه وسمّه ( فاشتمل عليه ، ثم قعد لعمر في زاوية من زوايا المسجد في الغلس ، فلم يزل هناك حتى خرج عمر ، فلما مرّ به طعنه ثلاث طعنات ، إحداهن تحت سرته ، وهي التي قتلته .
  وطعن إثني عشر رجلاً من أهل المسجد ، فمات منهم ستة وبقي ستة ، ثم نحر نفسه بخنجره فمات .
  ونقل الخليفة إلى داره مضرجاً بدمائه ، وأحب في تلك اللحظات الصعبة أن يكتشف ما إذا كانت عملية الإغتيال هذه قد أتت عن أمر دُبّر بليل ، أو أنها كانت مجرد حقد شخصي من أبي لؤلؤة ، فأمر مناديه ، فنادى بالناس .
  ( أعن ملأٍ ورضىً منكم كان هذا ؟
  فقالوا : معاذ الله ، ما علمنا ولا إطلعنا ! ) (2) .
  وأقبل الطبيب ينظر جراح الخليفة التي أخذت تنزف ، علّه يجد بلاًّ لها أو شفاء ، فأراد أن يعرف ما إذا كانت الطعنات قد نفذت في أمعائه وأحشائه ، أو أنها كانت دون الصفاق (3) ، فنظر الى عمر وقال :

---------------------------
(1) مروج الذهب 2 / 320 .
(2) الإمامة والسياسة 1 / 26 .
(3) الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 146 _

  أيَّ الشراب أحب اليك ؟
  فقال : النبيذ ! فسقوه نبيذاً ، فخرج من بعض طعناته !
  وذهل الطبيب لما رأى ، لكن الناس اشتبه عليهم الأمر ، فقالوا : صديد ! صديد ! اسقوه لبناً ، وكأنهم أرادوا أن يثبتوا للطبيب خطأ تقديره .
  فسقوه لبناً ، فخرج اللبن أبيض صريحاً !
  وذُهل الناس ! أما الطبيب ، فالتفت إلى الخليفة قائلاً : لا أرى أن تمسي ، فما كنت فاعلاً فافعل .
  بعد هنيهة جاء كعب الأحبار ، فدخل عليه وقال له معزياً ومسلياً : قد أنبأتك أنك شهيد !
  لكن الخليفة نظر إليه نظرة استرخاء ، فيها شيء من السخرية والاستهزاء ، مفهماً إياه أن الامر أدق مما يحاول تصويره ، وأنه ليس هناك حيث يظن ، معيداً إلى ذاكرته ما كان اجابه به قبل ثلاثة أيام ، فقال له : وانى لي بالشهادة ، وأنا في جزيرة العرب ؟ ! وما ضرّ كعباً أن لا يعلق على جوابه هذا ، فلم يبق من عمره إلا ساعات من نهار ، وفي ذلك أمانٌ له من الدِرّة ، لكنه فهم أن عمر ليس بالإنسان الساذج البسيط الذي تنطوي عليه هذه العبارات الفارغة ، دون أن يفهم أبعادها .
  وخرج كعب من عنده : ليترك المجال للناس يثنون على الخليفة وهو في آخر ساعات من حياته ، ( فجعل الناس يثنون عليه ويذكرون فضله ) ، فوجدوا منه غير ما كانوا يتوقعون ، حيث إلتفت إليهم قائلاً : ( إن من غررتموه لمغرور ، إني والله وددت أن أخرج منها كفافاً كما دخلت فيها ، والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطَلَع ، ! ) (1) .
  ثم أقبل إليه المتزلفون يستثيرون منه مكمن العاطفة ، يتقربون إليه

---------------------------
(1) الإمامة والسياسة 1 / 26 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 147 _

  بذلك ، ويظهرون له وّدهم وإخلاصهم ، فأشاروا عليه بأن يولي ولده عبد الله !
  فقال لهم : ( لا هالله ، إذن لا يليها رجلان من ولد الخطاب ، حسبُ عمر ما حمل ، حسب عمر ما احتقب ، لا هالله ، لا أتحملها حياً وميتاً ! ) .
  ومرة ثانية يأتيه الناس ، فيقولون له : يا أمير المؤمنين لو عهدتَ ؟
  فيقول لهم : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم ، أن أولي رجلاً أمركم ، أرجو أن يحملكم على الحق ـ وأشار الى علي ـ ثم رأيت أن لا أتحملها حيّاً وميتاً .
  ومرةً أخرى يتأوه ويتذمر فيقول : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته . . . ! لو كان معاذ بن جبل حياً لإستخلفته . . . لو كان خالد بن الوليد حياً لإستخلفته !! ثم يعلل ذلك بأن : أبو عبيدة أمين هذه الأمة ، ومعاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة ! وخالد بن الوليد سيف من سيوف الله . . . ! كما سمع هو من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حقهم . . . (1) .
  ثم أرتأى أن يجعلها في ستةٍ من المسلمين ، وهم : علي ، وطلحة ، وعثمان ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، موهماً أنه بذلك يخرج عن تحمل تبعاتها ومسؤولياتها ، وفي غمرة المسؤولية وقع حين حصرها في هؤلاء الستة حصراً لا يمكن فكه حسبما خطط ، !
  المهم ، أنه استدعى هؤلاء الستة ، فدخلوا عليه وهو ملقىً على فراشه يجود بنفسه ، فنظر إليهم فقال : أَكُلَكُمْ يَطمَعُ في الخلافة بعدي ؟ ! فوجموا ، فقال لهم ثانيةً .
  فأجابه الزبير ، وكأن استشعر السخرية في سؤاله ، فقال :

---------------------------
(1) راجع الإمامة والسياسة 1 / 28 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 148 _

  ( وما الذي يبعدنا منها !؟ وُليتها أنتَ فقمتَ بها ، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ، ولا في القرابة ! )
  فقال عمر : أفلا أخبركم عن أنفسكم ؟
  قال : قل ، فأنا لو استعفيناك لم تعفنا .
  فقال : أما أنت يا زبير ، فوعِق لقِس (1) مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ، ويوماً شيطان ، ولعلها لو افضت إليك ظلتَ يومك تلاطم بالبطحاء على مدٍّ من شعير ! أفرأيت إن افضت إليك ، فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ، ومن يكون يوم تغضب ! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة وأنت على هذه الصفة .
  ثم أقبل على طلحة ، وكان له مبغضاً ـ منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر ـ (2) ، فقال له : أقول ، أم أسكت ؟
  قال : قل ، فإنك لا تقول من الخير شيئاً .
  قال : أما اني أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أُحد ، والبأو (3) الذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب (4) .

---------------------------
(1) الوعق : الضجر المتبرم ، واللقس : من لا يستقيم على وجه .
(2) الكلمة التي قالها طلحة لأبي بكر هي : ما أنت قائل لربك غداً ، وقد وليت علينا فظاً غليظاً ، تفرق منه النفوس ، وتنفض عنه القلوب ! ( شرح النهج 1 / 164 ) .
(3) البأو : الكبر والفخر .
(4) قال الجاحظ : الكلمة المذكورة ، ان طلحة لما أنزلت آية الحجاب ، قال بمحضرٍ ممن نقل عنه الى رسول الله ، : ما الذي يغنيه حجابهن اليوم ، وسيموت غداً فننكحهن !!
  وقال الجاحظ أيضاً : لو قال لعمر قائل : أنت قلت أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مات وهو راض عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنه مات عليه السلام ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه ! والمشقص : فصل السهم إذا كان طويلاً . ( نفس المصدر ) .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 149 _

  ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص ، فقال : إنما أنت صاحب مِقنَب (1) من هذه المقانب تقاتل به ، وصاحب قنصٍ ، وقوس ، وأسهم ، وما زُهرة (2) والخلافة وأمور الناس ؟ !
  ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف ، فقال : وأما أنت يا عبد الرحمن فلو وُزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك ، لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعفٌ كضعفِك ، وما زُهرة وهذا الأمر ، !
  ثم أقبل على عليّ عليه السلام فقال : لله أنت لولا دعابة فيك . . . ! أما والله لئن وُلّيتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والحجة البيضاء .
  ثم أقبل على عثمان ـ وكأنه يناوله الخلافة ـ فقال له :
  هيهاً إليك ، كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبّها إياك ، فحملت بني أمية ، وبني أبي مُعيط على رقاب الناس ، وآثرتهم الفيئ ، فسارت إليك عصابةً من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلنّ ، ولئن فعلتَ ليفعَلُنّ ، ثم أخذ بناصيته فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولي ، فإنه كائن !! (3) .
  بعد هذا ، أراد أن يبرم الأمر إبراماً تصدق معه فراسته في تسليم الأمر لعثمان ، فاستدعى أبا طلحة الأنصاري ، فقال له :
  ( انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي ، فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بامضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم .

---------------------------
(1) المِقنَب : جماعة الخيل .
(2) زهرة : قبيلة سعد بن أبي وقاص .
(3) شرح النهج 1 / 186 ـ 187 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 150 _

  فإن اتفق خمسة ، وأبى واحد فاضرب عنقه .
  وان اتفق اربعة وأبى إثنان فاضرب اعناقهما .
  وان اتفق ثلاثة ، وخالف ثلاثة ، فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن ، فارجع الى ما قد اتفقت عليه ! فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها ، فاضرب أعناقها وان مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر ، فاضرب أعناق الستة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم (1) .
  وقال للمقداد الكندي : إذا وضعتموني في حفرتي ، فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم (2) ولعله إنما أشار على المقداد بذلك ليكون ممثلاً للمهاجرين في مراقبة هذه الشورى .
  تخطيط دقيق محكم لولا أنه لم يكن ساتراً لبعض المتناقضات التي وقع فيها الخليفة ، كما لم يكن ساتراً لرغبته في عثمان حين جعل صوت عبد الرحمن ـ صهر عُثمان ـ بصوتين ، وما ذلك إلا إضعافاً لجانب علي .
  ثمّة أمر آخر هو أهم ما انطوت عليه عملية الشورى هذه حيث استقام له فيها ( وضع نظام يجمع بين التعيين والإنتخاب ، وحسبه من الإنتخاب صورته ، وان كانت هذه الصورة قلقة لا تكاد تستقر على قاعدة دينيةٍ صريحة ، ولا على مبدأ شعبي معترف به ، فالحقيقة أنه إنما صنع الإنتخاب ليتجنب التعيين ، لا أكثر (3) وبذلك يسلم من سخط أحد الفريقين المتخاصمين ، اتباع علي ، وأتبع عثمان .
  عمر ، يعرف جيداً أن عليّاً هو صاحب الحق ، ولم تكن لتخفى عليه مؤهلاته للخلافة وسابقته وجهاده ، وقد أفصح للناس عن مسلك علي بقوله

---------------------------
(1) شرح النهج 1 / 186 و 187 .
(2) العقد الفريد 4 / 275 والكامل 3 / 67 .
(3) حليف مخزوم .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 151 _

  لهم : ( يحملكم على الحق . . . ) لكن هناك قوة ثانية ترفض علياً وتأباه ، وهي قريش وحلفاؤها ، إنها ترى فيه الشبح المرعب الذي يبدد كل آمالها وأحلامها ، فبالأمس القريب ( في بدر وأحد ) كانت هامات صناديدها من بني أمية وبني عبد الدار طعاماً هشاً لسيف علي ، ومع ضرباته كانت ألويتهم تتهاوى لواءً بعد لواء ، ويتهاوى معها الشرف الجاهلي ، وليست قريش وحدها كانت تحذر علياً وتخشاه ، بل المنافقون واليهود أيضاً يشاركونهم هذا الشعور ، فهم لا ينسون أبداً ضربته يوم ( الخندق ) وثبات سيفه في جمجمة عمرو بن ود دون أن يلتوي في يده أو يُفل ، ويوم ( خيبر ) لا زالوا يذكرون كيف كان سيفه يقعقع في أضراس ( مرحب ) وأخيه ( الحارث ) ولم يكتف بذلك حتى امسك بباب الحصن وجعلها ترساً له حتى فتح الله على يديه ، حين يذكرون ذلك تنخلع قلوبهم خوفاً وفرقاً ، لذلك هم يرفضونه . . . ويرفضونه . . . يرون فيه المارد الذي يلاحقهم يلّوح لهم بالموت الأحمر إن لم يفيئوا إلى الحق ، وهم يهربون من الحق .
  وعثمان ، يعرفه عمر جيداً ، ويعرف مدى ضعفه عن أمر الخلافة ، وكيف أنه إن وَلِيَها سيؤثر أهله وذوي قرابته على سائر المسلمين ، وأنه ( سيحمل بني أمية وبني أبي مُعَيط على رقاب الناس ) كما أنبأه بذلك ، ولكن ! قريش تريد عثمان .
  الناس تريد عدل علي واستقامته ، وقريش تحذر عدل علي واستقامته ، وأبو حفص كان يعلم هذا وذاك ، مأزق حرج لا يمكنه معه الأختيار صراحة .
  أيعلن للناس استخلاف علي دون غيره صراحة ؟ فيخسر بذلك قريشاً ، فلا يسلم من سخطها وإنتقامها بعد موته ويصبح مضغةً في أفواه شعرائها وخطبائها ، ونهشةً لرواة السوء ـ كما فعلوا بعلي فيما بعد ـ أم يعلن استخلاف عثمان صراحةً ، وهو يعلم ما لعلي من مكانةٍ في نفوس المسلمين ، فلن يسلم أيضاً من سبّه التاريخ ! ودفعاً لهذا وذاك ، تركها حرةً طليقة ، ولكن بعد أن

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 152 _

  امسك بزمامها ، تروح ثم تغدو إليه آخر الأمر .
  وأدرك عليٌّ أبعاد هذه الشورى وما انطوت عليه من تدبير ، فلقي عمه العباس وقال له : ( عُدِلت عنا ! ) يعني الخلافة .
  قال له : وما أعلمك ؟
  قال : قرن بي عثمان ثم قال إن رضي ثلاثةٌ رجلاً ، ورضي ثلاثةٌ رجلاً ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ! فسعدٌ لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فلو كان الآخران معي ما نفعاني (1) .
  وكان عمه العباس قبل ذلك قد أشار عليه باعتزال هذه الشورى والترفع عن جلساتها محذراً إياه بأنه سيلقى ما يكره ، فكان جواب علي له : ( انني أكره الخلاف ! )
  والحق أن بغضه للخلاف ليس وحده هو الدافع لمشاركته لهم في هذا الأمر ، سيما بعد أن استبق النتيجة وعلم الأمر سيكون لغيره ، بل هناك دافع آخر للمشاركة معهم ، وهو يتلخص : ( في أن لعلي مذهباً في السياسة ، مثاليّاً واقعيّ المثالية ، لا يتنازل عنه إلا أن يتنازل عن نفسه وشخصيته ، وما أظنك مغالياً إذا ظننت أن مذهبه هذا أعان خطة الشورى المكشوفة المقنّعة على النجاح ، كما اعان على علي نفسه قبل الشورى وبعدها مراتٍ عديدة (2) .

---------------------------
(1) العقد الفريد 4 / 276 وغيره .
(2) حليف مخزوم 172 ـ 173 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 153 _

سير عملية الشورى وما أفرزت من تناقضات
  جمع المقداد أعضاء الشورى الستة في بيت ، بينما وقف أبو طلحة الأنصاري على الباب ومعه خمسون رجلاً متقلدي سيوفهم تنفيذاً لوصية عمر ، أما عبد الرحمن بن عوف فقد أمضى أياماً ثلاثة يشاور الناس في أمر الخلافة .
  وأقبل الناس نحو المسجد يتدافعون إلى جهة الباب ، وهم لا يشكون في مبايعة علي بن أبي طالب .
  وكان هوى قريش كافة ـ ما عدا بني هاشم ـ في عثمان ، وهوى طائفة من الأنصار مع علي ، وهوى طائفةٍ أخرى مع عثمان ـ وهي أقل الطائفتين ـ وطائفة لا يبالون أيهما يبايع (1) .
  وقام كل واحد من الستة يدلي برأيه على مسمع الآخرين ـ كما ذكر الطبري ـ في خطبة يستهلها بالحمد والثناء على الله ، حتى قام علي عليه السلام فقال :
  الحمد لله الذي إختار محمداً منا نبيّا ، وإبتعثه إلينا رسولا ، فنحن أهلُ بيت النبوّة ، ومعدنُ الحكمةِ ، أمانٌ لأهل الأرض ، ونجاةٌ لمن طلب ، إنّ لنا حقاً إن نُعطَهُ نأخذه ، وان نمنعه نركب أعجاز الإِبل (2) وإن طال السرى ! لو

---------------------------
(1) شرح النهج 9 / 52 .
(2) قوله عليه السلام : نركب أعجاز الإِبل ، كناية عن المعاناة والمشقة ، فهو يحتمل أحد تفسيرين ، الأول : إن نُمنعه : نصبر على المشقة كما يصبرعليها راكب عجز البعير ، والثاني أن نمنعه نتأخر ونتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير عن مردفه .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 154 _

  عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله عهداً لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولاً لجالدنا عليه حتى نموت . لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق ، وصلة رحم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1) .
  إسمعوا كلامي ، وعوا منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع تنتظى فيه السيوف ، وتخانُ فيه العهود ، حتى لا يكون لكم جماعة ، وحتى يكون بعضكم أئمةً لأهل الضلالة ، وشيعةً لأهل الجهالة .
  إنتهى كل واحد من كلامه ، وخيّم سكون مملٍ ، بينما كان الصخب يملأ أرجاء المسجد ، والهتاف يتعالى معلناً إسم علي تارةً واسم عثمان أخرى ، مما دفع بالأربعة الباقين أن يتخذوا القرار المناسب في حق أنفسهم فيدلي كل واحد منهم بصوته إلى عثمان أو علي ، لأنهم علموا أن الناس لا يعدلوهم بهما ، ولأن عبد الرحمن فرض نفسه من أول الأمر كمنظم لهذه الشورى ومدير لها ، سيما وأن عمر ألمح إليه بأن الخلافة لا تصلح له ، حين قال له : ( وما زهرة وهذا الأمر ! )
  إذن ، كان الناس فريقان ، فريق يريدها لعلي ، وهو الفريق الممثل بالمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ، وفريق يريدها لعثمان ، وهو الفريق الممثل بابن أبي سرح وابن أبي المغيرة ، وتعالت الأصوات في هذا الحال ، كل فريق ينادي باسم صاحبه .
  أقبل المقداد بن الأسود على الناس ، فقال : أيها الناس ، إسمعوا ما أقول ، أنا المقداد بن عمرو ، إنكم إن بايعتم عليّاً سمعنا وأطعنا ، وان بايعتم عثمان سمعنا وعصينا ! ) .
  فقام عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، وقال : ( ايها الناس ، إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا ، وان بايعتم عليّاً سمعنا وعصينا . . . ) .

---------------------------
(1) شرح النهج 1 / 195 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 155 _

  فانتفض المقداد ورد عليه فقال : ( يا عدُو الله ، وعُدو رسوله ، وعدُو كتابه ، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون ! ) ؟
  فقال له عبد الله : يابن الحليف العسيف ، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش !
  وصاح عبد الله بن أبي سرح : ( أيها الملأ ، إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها ، فبايعوا عثمان ) .
  فنهض عمار بن ياسر وقال : ( إن أردتم أن لا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليّاً ) ، ثم أقبل على ابن أبي سرح وقال له : يا فاسق يا ابن الفاسق ، أأنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم ! )
  فتكلم بنو هاشم وبنو أمية ، فقام عمار فقال : أيها الناس ، إن الله اكرمكم بنبيه وأعزكم بدينه ، فالى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ! ) (1) .
  كانت أصوات الفريقين تعجل في حسم الأمر خوفاً من وقوع الفتنة ، فتقدم طلحة فأشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان .
  فقال الزبير : وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي .
  فقال سعد بن أبي وقاص : وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن (2) .
  وسكت عليٌّ وظل عثمان ساكتاً ، وأسفرت الجولة الأولى عن رجحان بين لعبد الرحمن ، لقد ملك صوتين كعلي وعثمان ، وزاد عليهما بأن صوته يعادل

---------------------------
(1) شرح النهج 9 / 52 .
(2) شرح النهج 1 / 187 ـ 188 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 156 _

  صوتين ، فهو حتى الآن مركز الثقل حقاً .
  ترى ، أيضم صوته لنفسه فيخرج على خطة عمر القائلة : ( وما زهرة وهذا الأمر ؟ ) أم يمضي الى أمر عمر وخدمة صهره ؟ أم يعدل عن هذا كله ويتجه الى علي صاحب الأمر في عقيدة الكل ؟
  كان الرجل ساكتاً أيضاً ، وكان يدير في فكره لفتةً بارعةً ، لا ندري أهي من بناته أم من محفوظاته ؟ ولكنها بارعةٌ في كل حال (1) فقد التفت إليهما وقال :
  أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الإختيار في الإثنين الباقيين ؟ فلم يتكلم منهما أحد ، فقال عبد الرحمن : أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما (2) .
  ومن براعة لفتته أنه لم يلتفت إلى عثمان ، بل التفت الى علي فقال له : أمدد يدك أبايعك على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين .
  فيقول علي : بل على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، وأجتهاد رأيي .
  فيلتفت آنذاك عبد الرحمن إلى عثمان فيذكر له شروطه الثلاثة ، فيقرها عثمان .
  ثم لا يعجل عبد الرحمن ، فيسرع إلى بيعة أخي زوجه من أول مرة ، فهو مطمئن إلى ان علياً يرفض الخلافة بغير شرطه هو ، لأنه لا يناقض نفسه ، ولا يسر حسواً في إرتغاء ، ومن أجل هذا إستأنى عبد الرحمن وكرّرَ عرضه على عليّ الذي أباه ثلاث مرات ! ثم نهض وعبد الرحمن يَصفِق على يد عثمان

---------------------------
(1) حليف مخزوم 175 .
(2) شرح النهج 1 / 188 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 157 _

  بالبيعة (1) ويقول له : السلام عليك يا أمير المؤمنين .
  وهنا يلتفت علي إلى عبد الرحمن ، فيقول له : والله ما فعلتها إلا لأنك رجوتَ منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دَقّ الله بينكما عِطر مَنشِم ) (2) .
  وقد عبر علي بن أبي طالب عن عدم رضاه عن هذه النتيجة ، وتسليمه بالأمر الواقع ، قائلاً .
  ( لأُسَلِمّنَّ ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة ) (3) .
  وفي رواية الطبري : أن علياً عليه السلام قال حين بويع عثمان : ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ؟ والله ما وليته الأمر إلا ليردّهُ إليك ، والله كل يوم في شأن .
  فقال عبد الرحمن : لا تجعل على نفسك سبيلاً يا عليّ ـ يعني أمرَ عُمر أبا طلحة أن يضرب عُنق المخالف ـ فقام علي عليه السلام فخرج ، وقال :

---------------------------
(1) حليف مخزوم 175 .
(2) شرح النهج 1 / 188 .
  قال الأصمعي : منشم إسم امرأة كانت بمكة عطارة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال : أشأم من عطر منشم ، فصار مثلاً ، وقال أبو هلال العسكري في كتاب ( الأوائل ) ، استجيبت دعوة علي عليه السلام في عثمان وعبد الرحمن فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين . . . ولما بنى عثمان قصر طمار بالزوراء وصنع طعاماً كثيراً ودعا الناس إليه ، كان فيهم عبد الرحمن ، فلما نظر للبناء والطعام قال : يابن عفان ، لقد صدّقنا عليك ما كنا نُكذّب فيك ، واني استعيذ الله من بيعتك ، فغضب عثمان وقال : اخرجه عني يا غلام ، فاخرجوه وأمر الناس أن لا يجالسوه ، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس ، كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض ، ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان وكلمه ، فلم يكلّمه حتى مات ، شرح النهج 1 / 196 .
(3) ثورة الحسين / 34 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 158 _

  سيبلغ الكتاب أجلَهُ .
  فقال عمار : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته ، وانه من الذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون .
  وقال المقداد : تالله ما رأيت مثل ما أُوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ، واعجباً لقريش ! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أن أحداً أقضى بالعدل ، ولا أعلم ، ولا أتقى منه ! أما والله لو أجد أعواناً .
  فقال عبد الرحمن : إتق الله يا مقداد ، فإني خائف عليك الفتنة .
  لكن عليّاً عليه السلام إلتفت نحو المقداد وعمار ، وقال ، مسلياً ومهدئاً لهما :
  ( اني لأعلم ما في أنفسهم ، إن الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر في صلاح شأنها ، فتقول : إن وليَ الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً ، وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش ) (1) .

---------------------------
(1) شرح النهج 1 / 194 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 159 _

خلفيات الشورى
  ذكروا : أن معاوية بعث إلى ابن الحصين (*) ليلاً فخلا به وقال له : يا بن الحصين ، بلغني أن عندك ذهناً وعقلاً ، فأخبرني عن شيءٍ أسألك عنه .
  قال : سلني عما بدا لك .
  قال : اخبرني مالذي شتت أمر المسلمين وفرّق أهوائهم ؟
  قال : قتل الناس عثمان ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير علي إليك وقتاله إياك ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتال عليّ إياهم ! قال : ما صنعت شيئاً .
  قال : ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين .
  قال : فأنا أخبرك ، إنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهوائهم ، ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر . . . فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت إلى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف ابو بكر ، ما كان في ذلك إختلاف (1) .

---------------------------
(*) ابن الحصين : هو عمران بن حصين الخزاعي ، أسلم عام خيبر وغزا عدة غزوات وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح ـ كذا في الإصابة ، واعتزل حرب الجمل ، وكان قد نزل البصرة ، وفي سنة 45 للهجرة ولاه زياد قضاء البصرة ، وتوفي في سنة 52 ، كما في الكامل .
(1) العقد الفريد : 4 ـ 281 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 160 _

  تحليل رائع من سياسي بارع خاض تجارب كثيرة في مضماري الملك والزعامة ، فمعاوية وان كان قد باع شرفه وآخرته بدنياه في خوضه حرباً ظالمةً ضد ثاني رجل في الدولة الإسلامية ، إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون له نظرة صائبة وعميقة حول بعض المفاهيم السياسية ! إنه هنا يكشف ـ في الحقيقة ـ سراً من الأسرار التي أودت إلى تمزق الأمة وتفككها ، فالشورى كانت واحدة من الأسباب التي ساهمت في ذلك ، وليست هي السبب الرئيسي .
  هو هنا يطرح لمحدثه سبباً واحداً كان يراه علة الكل ، وعلة العلل في تفرق شمل الأمة ، يرى الشورى ـ بما زرعت في قلوب أعضائها من طموح للخلافة دفعهم للتهيؤ لها ـ هي السبب الوحيد في ذلك !
  وربما كان معاوية يلمز من حديثه هذا إلى علي ، وكأنه يريد أن يجعله في عداد هؤلاء الطامحين ، كما تكشف عن ذلك مواقفه من علي .
  لكن الشيء الواضح من أخطاء هذه الشورى ، أنها بالإضافة إلى كونها حفزت أعضائها على التهيوء للخلافة وأوجدت تكتلات حزبية مختلفة ومتناحرة ، فقد جعلت في نفس الوقت أناساً آخرين ليسوا من أعضائها ينحون هذا المنحى .
  ( فقد طمح إلى الخلافة رجال غير رجال الشورى من قريش ، لأنهم رأوا أن بعض من رشحهم عمر لا يفضلونهم في شيء ، بل ربما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة ) (1) ولعل معاوية واحد منهم .

---------------------------
(1) ثورة الحسين / 33 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 161 _

بدء المعارضة
  فوجىء الناس ـ في اليوم الأول لبيعة عثمان ـ بأمور ما عهدوها من سيرة الشيخين أبي بكر وعمر ، وانما تفرد بها عثمان ، مما دفعهم لإِعلان الاستياء والاستنكار ، جاعلين في حسابهم أنه بذلك يخرق العهد الذي اخذه عليه عبد الرحمن .
  قال اليعقوبي : وخرج عثمان والناس يهنئونه ، فصعد المنبر ، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة ، فتكلم الناس في ذلك ، فقال بعضهم : اليوم ولد الشر .
  وروي : أنه خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة وبين يديه شمعة ، فلقيه المقداد بن عمرو ، فقال ما هذه البدعة ! (1) .
  ولم تكن حكاية المنبر والشمعة هذه بذات بال لولا أنها خارجة على سيرة الشيخين ، وأنها مؤشر لإِرتكاب أمور أفضع وأخطر بكثير ! .
  لكن أمراً آخر حصل في ذلك اليوم أثار حفيظة المخلصين ، فدفعهم إلى الجهر بالمعارضة ، فقد تناهى إلى سمعهم قول لأبي سفيان في محضر الخليفة تستشم منه رائحة الإِلحاد في دين الله ، وبداية التفكير في تحويل الخلافة الى ملك ، وذلك .

---------------------------
(1) اليعقوبي 2 / 162 ـ 163 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 162 _

  أن عثمان ـ بعد البيعة ـ دخل رحله ، فدخل اليه بنو أمية حتى إمتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا .
  قال : تلقّفوها يا بني أميّة تلقُّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنّةٍ ، ولا نار ، ولا بعث ، ولا قيامة ! ) فانتهره عثمان وساءه بما قال ، وأمر بإخراجه .
  فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان ، فقال له : ما صنعت ! فوالله ما وُفقت حيث تدخل رحلك قبل ان تصعد المنبر ، فتحمد الله وتثني عليه ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعدَ الناس خيراً .
  فخرج عثمان ، فصعد المنبر ، فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال : هذا مقام لم نكن نقومه ، ولم نُعدّ له من الكلام الذي يقام به في مثله ، وسأهيء ذلك ان شاء الله . . . (1) .
  وشاعت مقالة أبي سفيان بين المسلمين ، فساءهم ذلك ، فكان أول من أعلن استنكاره وغضبه ، عمار بن ياسر ، فأقبل في اليوم التالي حتى دخل المسجد والناس مجتمعون فيه ، فقام وقال :
  ( يا معشر قريش ، أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة ، وههنا مرة ، فما أنا بآمنٍ من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله (2) .
  وخرج المقداد في ذلك اليوم ، فلقي عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيده وقال :

---------------------------
(1) شرح النهج 9 / 53 ـ 54 .
(2) مروج الذهب 2 / 343 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 163 _

  إن كنت أردت ـ بما صنعت ـ وجه الله ، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإن كنت إنما أردت الدنيا ، فاكثر الله مالك !
  فقال عبد الرحمن : إسمع ، رحمك الله ، إسمع ! قال : لا أسمع والله ، وجذب يده من يده ، ومضى حتى دخل على علي عليه السلام ، فقال :
  قم ، فقاتل حتى نقاتل معك ، قال علي : فبمن أقاتل ، رحمك الله ؟ !
  وأقبل عمار بن ياسر ينادي :
                                         يا ناعي الإِسلام قم فإنعه        قـد مات عرفٌ وبدا iiنُكرُ
  أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم ! والله لئن قاتلهم واحد ، لأكونن له ثانياً !
  فقال علي : يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعواناً ، ولا احب أن أعرضكم لما لا تطيقون (1) وجاءت حادثة العفو عن عبيد الله بن عمر ( قاتل الهرمزان ) فزادت الطين بلة .
  قال اليعقوبي : واكثر الناس في دم الهرمزان ، وإمساك عبيد الله بن عمر ! وصعد عثمان المنبر ، فخطب الناس ، ثم قال :
  آلا إني ولي دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر !
  فقام المقداد بن عمرو ، فقال : إن الهرمزان مولىً لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله .
  قال : فننظر ، وتنظرون . ثم اخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً فنسب الموضع إليه فقيل : ( كويفة ابن عمر . . . ) (2) .

---------------------------
(1) شرح النهج 9 / 55 ـ 56 ـ 57 .
(2) اليعقوبي 2 / 163 ـ 164 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 164 _

قصة الهرمزان ، ومقتله على يد بن عمر
  كان الهرمزان أحد ملوك فارس ، وكان قد عقد صلحاً مع المسلمين في السنة السادسة عشرة للهجرة ، ما لبث أن نقضه فيما بعد بتحريض من يزدجرد ، وعلم المسلمون بذلك فجهزوا جيشاً لمحاربته ومحاربة من تعاقد معه على ذلك ، فأسر ، وأقبلوا به الى المدينة مكتوفاً وعليه تاجه وحليته ، فأراد عمر أن يضرب عنقه ، فأعلن إسلامه في قصة طريفة .
  فقد روي : أن عمر قال له : ( يا هرمزان ، كيف رأيت وبال الغدر ) ؟
  فقال : يا عمر ، إنا وإياكم في الجاهلية كنا نغلبكم ، إذ لم يكن الله معكم ، ولا معنا ! فلما كان الله معكم غلبتمونا .
  قال : فما عذرك في انتقاضك مرةً بعد مرة ؟ !
  قال : أخاف إن قلتُ أن تقتلني ، قال : لا بأس عليك ، فاخبرني .
  فاستسقى ماءً ، فأخذه ، وجعلت يده تُرعَد ، قال : مالك ؟ قال : أخاف أن تقتلني وأنا اشرب .
  قال : لا بأس عليك حتى تشربه ، فألقاه من يده ، فقال : ما بالك ! أعيدوا عليه الماء ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش .
  قال : كيف تقتلني ، وقد أمنتني ! ؟
  قال : كذبت ! قال : لم أكذب .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 165 _

  فقال أنس : صدق يا أمير المؤمنين ، قال : ويحك يا أنس ! أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك ! والله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنّك !
  قال : إنك قلت : ، لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشرب ) ! وقال له ناس من المسلمين مثل قول أنس .
  فأقبل على الهرمزان ، فقال : تخدعني ! والله لا تخدعني إلا أن تُسلم ، فأسلم ، ففرض له الفين وأنزله المدينة ) (1) .
  فلما قُتل عمر ، ظن ابنه عبيد الله أن الهرمزان كان شريكاً لأبي لؤلؤة في قتل والده ، فعمد إلى الهرمزان فقتله ، وقتل معه جفينة ابنة ابي لؤلؤة .
  ( وأراد عبيد الله أن لا يترك سبيّاً بالمدينة يومئذٍ إلا قتله ، فاجتمع المهاجرون الأولون ، فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء ، واشتدوا عليه وزجروه عن السبي .
  فقال : والله لأقتلنهم وغيرهم ـ يعرض ببعض المهاجرين ـ فلم يزل عمرو بن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه . . . (2) »
  فلما استخلف عثمان ، دعا المهاجرين والأنصار ، فقال : اشيروا علي في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق ! فاجمع راي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله ، وقال جل الناس : أبعد الله الهرمزان وجفينة ، يريدون يتبعون عبيد الله أباه !! .
  وعن المطلب بن عبد الله قال : قال علي لعبيد الله بن عمر : ما كان ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها ؟ فكان رأي علي حين إستشاره عثمان ، ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله ، لكن عمرو بن العاص كلم عثمان

---------------------------
(1) شرح النهج 12 / 114 .
(2) الغدير 8 / 132 .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 166 _

  حتى تركه ، فكان علي يقول : لو قدرت على عبيد الله بن عمر وليَ سلطانٌ لإقتصصت منه (1) .
  أما عثمان ، فحين بلغه مقالة علي تلك ، قام فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
  ( أيها الناس ، إنه كان من قضاء الله ان عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، أصاب الهرمزان وهو رجل من المسلمين ليس له وارثٌ إلا الله والمسلمون ؟ وأنا إمامكم ، وقد عفوت ، أفتعفون عن عبيد الله بن خليفتكم بالأمس ؟ قالوا نعم ، فعفا عنه (2) .
  وفي ذلك اليوم قال المقداد مقالته الآنفة .
  فلما بلغ علياً ـ ما قاله عثمان ـ تضاحك ، وقال : سبحان الله ! لقد بدأ بها عثمان ! أيعفو عن حق إمرئ ليس بواليه ! تالله إن هذا لهو العجب ! .
  وكان عبيد الله قد حبس في بيت ، وقيل في السجن ، فأطلقه عثمان وكان رجلٌ من الأنصار يقال له : زياد بن لبيد البياضي ، إذا رأى عبيد الله بن عمر قال :
ألا يــا عـبيد الله مـالك مـهربٌ        ولا ملجأٌ من ابن أروى (3)  ولا خفرْ
أصـبت دمـاً والله فـي غـير iiحِلّهِ        حـراماً وقـتل الـهرمزان له iiخطر
عـلى  غير شيء غير أن قال iiقائل        أتـتهمون  الـهرمزان عـلى iiعمر
فـقـال سـفيهٌ والـحوادث iiجّـمة        نـعم  ، أتـهمه قـد أشار وقد iiأمر
وكـان سـلاح العبد في جوف iiبيته        يـقـلبه  والأمـر بـالأمر iiيـعتبر

---------------------------
(1) راجع الغدير 8 / 132 إلى 135 .
(2) راجع شرح النهج 9 / 54 ـ 55 .
(3) ابن أروى : هو عثمان .

المقداد بن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام _ 167 _

  فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره ، فدعا عثمان زياداً فنهاه ، فقال زياد في عثمان :
أبـا عمرو عبيد الله iiرهنٌ        فلا  تشكك بقتل iiالهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم iiعنه        واسباب الخطا فرسا رهانِ
أتعفو ، إذ عفوتَ بغير iiحقٍ        فـما لك بالذي تحكي يدانَ
  فدعا عثمان زياداً ، فنهاه وشذ به (1) .
  ولما اكثر الناس التحدث في دم الهرمزان ، أمر عثمان عبيد الله بالرحيل إلى الكوفة وأقطعه فيها داراً وأرضاً فسمي ذلك الموضع بـ ( كويفية بن عمر ) وحين ولي الإمام علي عليه السلام الخلافة ، طلب عبيد الله فهرب إلى معاوية ، فقال عليه السلام : لئن فاتني في هذا اليوم لا يفوتني في غيره !
  فلما كانت حرب صفين قتل فيها ، وقيل : إن علياً هو الذي قتله ، ضربه ضربةً فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفُه حشوة جوفه (2) .

---------------------------
(1) راجع الكامل 3 / 75 ـ 76 ، وشذ به : إذا قُرئت كلمة واحدة يكون معناها : طرده ، واذا قرئت كلمتين ، هكذا : شذ به : يكون المعنى عزله عن الناس .
(2) راجع مروج الذهب 2 / 385 .