ج ـ وفي قوله تعالى ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ) (1) ، تبرز استقلالية الشريف الرضي في الرأي ، وشخصيته في النّقد ، واعتداده بصميم بلاغة العرب فيقول : « وهذه استعارة لأن تبوؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها ، ولا يصح حمل ذلك على حقيقته في الإيمان ، فلا بد إذن من حمله على المجاز والاتساع ، فيكون المعنى أنهم استقروا في الإيمان كاستقرارهم في الأوطان ، وهذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة ، وقد زاد اللفظ المستعار ههنا معنى الكلام رونقا ، إلا ترى كم بين قولنا : استقروا في الإيمان ، وبين قولنا : تبوؤا ، وأنا أقول أبدا : إن الألفاظ خدم للمعاني ، لأنها تعمل في تحسين معارضها ، وتنميق مطالعها » (2) .
   وحديثنا عن « تلخيص البيان » قد يطول لو استرسلنا فيه ، وفيما قدمناه من نماذج غناء في إقرار منهج هذه الدراسة القائمة على سبيل الإشارة والتلميح العابر لجهود المؤصلين .
   والأمر المنظور لدى الشريف الرضي في تلخيص البيان يتجلى في عدة حقائق نشير إليها :
1 ـ استقلاليتة في المنهج والفكر ، وأولويته في أولية هذا المنهج البلاغي كتابا مستقلا ، وكيانا قائما في مجاز القرآن .
2 ـ تورعه في ذات الله عن الجزم في المعنى القرآني ، إذ طالما نجده يبدأ تعقيبه على الآية بعبارة : والله أعلم .
3 ـ هذه العبارة المشرقة ، وهذا الأسلوب الحديث ، وذلك التدافع في الألفاظ ، وكأنك تقرأ فيه بلاغي اليوم لا بلاغي القرن الرابع الهجري .

--------------------
(1) الحشر : 9 .
(2) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 330 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 27 _
   لهذا فقد كان سليما ما قرره الدكتور محمد عبد الغني حسين في مقارنته بينه وبين سابقيه : أبي عبيدة وابن قتيبة ، في التعبير البلاغي ، والأداء الأدبي ، والذائقة الفنية ، فقال : « وخذ أي آية شئت من كتاب الله العزيز ، وتتبعها عند أبي عبيدة في مجازه ، وعند ابن قتيبة في مشكله ، وعند الشريف الرضي في تلخيص بيانه ، فإنك مؤمن معنا في النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم ، كان أغزر الثلاثة بيانا ، وأفصحهم لسانا ، وأبلغهم في التعبير عن مرامي القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة ، يتضح فيها ذوق الأديب ، ورقة الشاعر ، وحسن البليغ ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي ، وعلم النحوي » (1) .
3 ـ وأما الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) فقد سبق لنا القول أنه مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفينة (2) في كتابين الجليلين : « دلائل الإعجاز » (3) ، و « أسرار البلاغة » (4) ، فقد سبر فيهما أغوار الفن القولي شرحا وإيضاحا وتطبيقا ، اعتنى باللباب من هذا العلم ، وأكد فيه على الجانب الحي النابض ، وابتعد عن الفهم العشوائي ، والخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية وتطبيقاتها ، لم يعتن بالحدود المقيدة في علم المنطق ، ولم يعر للقوقعة اللفظية أهمية مطلقا ، كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض إبداعي ينهض بهذا الفن الأصيل الى أوج عظمته ويدفع به الى ذروة مشاركته في بناء الهرم الحضاري ، فماذا يجني الباحث والمتعلم ، وهذا العلم نفسه ، من الجفاف في الحد ، او الغلظة في الرسم ، أو الصرامة المضنية في القاعدة .

--------------------
(1) محمد عبد الغني حسن ، مقدمة تلخيص البيان : 48 .
(2) المؤلف ، أصول البيان العربي ، رؤية بلاغية معاصرة : 18 .
(3) حققه لأول مرة كل من الأستاذ محمد عبدة ، ومحمد محمود الشنقيطي ، القاهرة ، 1921 وصدرت مؤخرا طبعة منقحة ، بتحقيق محمود محمد شاكر ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1984 .
(4) حققه ، وخرج آياته ، وضبطه ضبطا علميا فريدا الأستاذ الدكتور هلموت ريتر، مطبعة المعارف ، استانبول ، 1954 م .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 28 _
   انظر إليه وهو يتحدث عن أصالة « علم البيان » والمجاز أساسه وقاعدته الصلبة ببيان ساحر ، ومنطق جزل ، وهو يصرح باسمه اصطلاحا فيقول : « ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا ، وأبسق فرعا ، وأحلى جنى ، وأعذب وردا ، وأكرم نتاجا وأنور سراجا من « علم البيان » الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي ، ويصوغ الحلي ، ويلفظ الدرر ، وينفث السحر ويقري الشهد ، ويريك بدائع من الزهر ، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر ، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها ، وتصويره إياها ، لبقيت كامنة مستورة ، ولما استبنت لها ـ يد الدهر ـ صورة ، ولاستمر السرار بأهلتها ، واستولى الخفاء على جملتها ، الى فوائد لا يدركها الإحصاء ، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء » (1) .
   لقد بحث عبد القاهر في أسرار البلاغة مفردات « علم البيان » وفي طليعتها المجاز ، وبحث في دلائل الإعجاز أغلب مفرجات علم المعاني ، وكرّ أيضا على المجاز ، والسبب في هذا واصح لأن المجاز القرآني من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز ، فالمجاز عنده في أسرار البلاغة نوعان : مجاز عن طريق اللغة ، وهو المجاز اللغوي ، ومضماره الاستعارة والكلمة المفردة ، ومجاز عن طريق المعنى والمعقول ، وهو المجاز الحكمي ، وتوصف به الجمل في التأليف والإسناد (2) .
   وحد المجاز الحكمي « أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأويل فهي مجاز (3) ، وقد فرّق بين المجاز العقلي واللغوي في الحدود والاستعمال والإرادة ، وقال : « أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة » (4) ، وكل من المجازين اللغوي والعقلي لا يدرك الا في التركيب ، ووراء كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي في الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (5) .

--------------------
(1) عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 4 .
(2) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 376 .
(3) المصدر نفسه : 356 .
(4) ظ : المصدر نفسه : 344 .
(5) ظ : فتحي أحمد عامر ، فكرة النظم بين وجوه الإعجاز : 123 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 29 _
   وهذا التقسيم لم يكن واضحا بدقته هذه قبل عبد القاهر بل كان المجاز بجملته يشمل صور البيان بعامة ، وقد يتخصص بالاستعارة والمجاز كما هي الحال عند الشريف الرضي كما أسلفنا .
   وقد استنار بهذه التسمية كل من فخر الدين الرازي ( ت : 606 هـ ) وأبي يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) بل هما قد نسخا رأي عبد القاهر نسخا حرفيا ، فالرازي يقسم المجاز الى قسمين : مجاز في الإثبات ، ومجاز في المثبت ،وهما العقلي واللغوي ، وعنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة ، وأن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد (1) .
   والسكاكي يقسم المجاز الى قسمين : لغوي وعقلي ، واللغوي الى قسمين : خال من الفائدة ، ومتضمن لها ويسميها الاستعارة ، إلا أنه يغض النظر عن المجاز العقلي ، ويؤكد على اللغوي ، وكأنه يميل الى عدّه أساس المجاز (2) .
   وفي « دلائل الإعجاز » نجد عبد القاهر يحقق القول الدقيق في المجال الحكمي عنده ، والعقلي عنده وعند غيره ممّن تبعه فيه حتى في التسمية ، وهو برؤيته الثاقبة يلمس أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي ، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل في أحكام تجريها على اللفظ وهو متروك على ظاهره (3) ، والقول عنده في التفريق بين المجاز والاستعارة ، أن المجاز هو الاستعارة ، لأنه ليس هو بشيء غيرها ، وإنما الفرق أن « المجاز » أعم ، من حيث أن كل استعارة مجاز ، وليس كل مجاز استعارة (4) .

--------------------
(1) ظ : الرازي ، نهاية الإيجاز : 48 .
(2) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : 194 ـ 198 .
(3) ظ : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 293 وما بعدها ، تحقيق : محمود شاكر .
(4) ظ : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 462 تحقيق : محمود شاكر .


مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 30 _
   ان الوعي المجازي الذي أدركه عبد القاهر ، وميّز فروقه وخصائصه من أبلغ ما توصل إليه العمق البلاغي للمجاز ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المتطور لدقائق الاصطلاح المجازي ، وستجد ـ فيما بعد ـ في كل من فصلي « المجاز العقلي في القرآن » و « المجاز اللغوي في القرآن » سبرا لنظريته البلاغية في المجاز القرآني ، وإشارة مغنية لطائفة من آرائه التطبيقية في الموضوع ، فهناك موضعها الطبيعي من البحث .
   والذي نؤكد عليه هنا أن تنظير عبد القاهر في المجاز جاء طافحا بآيات القرآن المجيد فهي أصل ، وجاء الشعر والأمثال فرعا فيه ، لأنه معنيّ ببيان إعجاز القرآن ، فهو يستدل عليه بآياته الكريمة ، انظر إليه وهو يتحدث عن المجاز العقلي .
   « وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن ، فمنه قوله تعالى : ( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) (1) ، وقوله عز إسمه : ( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا )(2) ، وفي الأخرى : ( فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ) (3) ، وقوله : ( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * ) (4) ، وقوله عزّ وجلّ : ( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ) (5) .
   أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا الى المعقول على معنى السبب ، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل ، ولا الآيات توجد العلم في قلب السامع لها ، ولا الأرض تخرج الكامن في بطنها من الأثقال ، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأودع جوفها . . . والنكتة أن المجاز لم يكن مجازا لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه بل لأنه أثبت لما لا يستحق ، تشبيها وردا له إلى ما يستحق ، وأنه ينظر من هذا الى ذاك ، وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن الإثبات للأصل الذي هو المستحق . . . (6) .

--------------------
(1) إبراهيم : 25 .
(2) الأنفال : 2 .
(3) التوبة : 124 .
(4) الزلزلة : 2 .
(5) الأعراف : 57 .
(6) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 356 ـ 357 .


مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 31 _
4 ـ وإذا جئنا إلى دور جار الله الزمخشري ( ت : 358 هـ ) فسنرى له اليد الطولى في هذا المضمار ، وبحدود كبيرة مما أفاده من تجارب الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) المجازية ، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) البلاغي ، وكان الزمخشري يهدف في جهوده المجازية إلى أمرين :
الأول : هو الهدف المركزي ، وهو كشف بلاغة القرآن وتأكيد إعجازه ، وإثبات تميزه في التعبير على كل نصّ أرضي وسماويّ .
الثاني : الهدف الهامشي في دعم الفكر المعتزلي القائل باتساع المجاز في القرآن وعند العرب بمنظور كلامي .
   وأنا أذهب مذهبه في كلا الأمرين بأغلب وجهات نظره البيانية ، لا على اساس معتزلي ، فلا علاقة لي بهذا الملحظ ، بل من خلال الذائقة البلاغية والفنية في تقويم النصوص العربية العليا ليس غير ، للزمخشري في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن والمأثور العربي كتابان مهمان هما :
1 ـ أساس البلاغة (1) .
2 ـ الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (2) .

--------------------
(1) طبع طبعة منقحة فريدة بتحقيق : عبد الرحيم محمود ، وتقديم : العلامة أمين الخولي ، القاهرة 1953 .
(2) طبع عدة طبعات ، وصورت طبعاته بالأوفست ، وبين يدي طبعة دار المعرفة ، بيروت ( د . ت ) وبحاشيتها كتاب الإنصاف لأحمد بن المنير .


مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 32 _
   أما الأول ، فقد رتبه على أساس جديد من الأعمال المعجمية الرائدة ، فاتبع طريقة « الألفباء » في ترتيب مفرداته اللغوية ، وهو يورد الكلمة الواحدة في استعمالها الحقيقي تارة ، وباستعمالها المجازي تارة أخرى ، ويعطي معنى كل منهما ، والذي يبدوا لنا من عمله هذا أنه يميل الى أن معظم مفردات العربية مجاز وان الباقي هو الحقيقة ؛ وهو بهذا يحقق جهدا تراثيا عظيما إزاء هذه الغاية ، ويقوم بفهرسة إحصائية لمجاز اللغة ، ولدى ذكر خصائص كتابه الفنية نجده يشير الى هذه الحقيقة بقوله : « ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح ، بإفراد المجاز عن الحقيقة ، والكناية عن التصريح » (1) .
   ولم ينس الغرض من تأليف هذا الكتاب في بيان بلاغة القرآن هدفا رئيسا ، والوقوف عند وجوه إعجازه ، ولطائف أسراره فقال : « ولما أنزل الله تعالى كتابه مختصا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق السبّق ، وونت عنها خطا الجياد القرّح ، كان الموفق من العلماء الأعلام . . . من كانت مطامح نظره ، ومطارح فكره ؛ الجهات التي توصل الى تبين مراسم البلغاء ، والعثور على مناظم الفصحاء ؛ والمخابرة بين متداولات ألفاظهم ، متعاورات أقوالهم ، . . . والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقف ، وبأسراره ولطائفه أعرف ، حتى يكون صدر يقينه أثلج ، وسهم احتجاجه أفلج ، وحتى يقال : هو من علم البيان حظي ، وفهمه فيه جاحظي ، والى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير اليه محمود بن عمر الزمخشري ، عفا الله تعالى عنه في تصنيف كتاب أساس البلاغة » (2) .
   ويرى الأستاذ أمين الخولي في تصديره لأساس البلاغة : أن الزمخشري لم يستقص تتبع المجازات اللغوية بالنص عليها في أساسه ، الذي زعم له نفسه هذه الميزة (3) .

--------------------
(1) ظ : الزمخشري ، أساس البلاغة ، المقدمة .
(2) ظ : المصدر نفسه : مقدمة المؤلف .
(3) ظ : أمين الخولي : أساس البلاغة بين المعجم ، تعريف بالكتاب في أوله .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 33 _
   وقد يكون هذا الرأي صحيحا بحدود ، إذ لم يكن أساس البلاغة موسوعيا كبقية المعاجم المطولة ، ولكنه بعمله قد جاء بشيء جديد من ناحيتين :
الأولى : التأكيد على الاستعمال المجازي في القرآن وعند العرب في معجمه هذا في أغلب المفردات وهو ما لم يفعله سواه .
الثانية : أنه اتبع الطريقة المعجمية السمحة بالنسبة لطلاب البحث العلمي ، فالتزم طريقة « الألفباء » كما صنع الراغب ( ت : 502 هـ ) في المفردات من ذي قبل ، ورفض طريقة المخارج في دقتها ، والأبنية في تعقيدها ، والباب والفصل في كل حرف كما هو شأن غيره ، « وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولا ، وأسهله متناولا ، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع ، من غير أن يحتاج في التقتير عنها الى الإيجاف والإيضاح ، والى النظر فيما لا يوصل الا بإعمال الفكر اليه ، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه » (1) .
   بهذا يختتم الزمخشري مقدمة كتابه ، ومهمته فيه التيسير ، وتهيئة المناخ العلمي للبحث دون عناء ، وهو إنجاز ضخم من الناحيتين العلمية والفنية ، وأما الكشاف ، فهو التفسير البياني الذي تلمس فيه مدى جمال المجاز القرآني ، وطلاوة رونقه ، وعذوبة مخارجه ، ودقائق استعمالاته ، أو هو الكتاب الذي تبصر به المجاز حيا نابضا متكلما بمعناه الاصطلاحي ومناخه الأدبي معا ، في ضوء ما أشار إليه ابن قتيبة ، وما ابتكره الشريف الرضي وما أسسه عبد القاهر الجرجاني .
   لقد فتح الزمخشري في الكشاف عمق دراسة رقيقة مهذبة في المجاز العربي بعامة ، والقرآني بخاصة ، فزاد ما شاءت له الزيادة من نكت بلاغية ، وصيغ جمالية ، ومعان إعجازية ، وسيرورة بيانية ، عاد فيها الكشاف كنزا لا تفنى فرائده ، وبحرا فنيا لا تدرك سواحله .

--------------------
(1) ظ : الزمخشري ، أساس البلاغة ، مقدمة المؤلف .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 34 _
   وقد تجلى في الكشاف ما أضافه الزمخشري من دلالات جمالية في نظم المعاني ، وما بحثه من المعاني الثانوية في المجاز القرآني ، والتي توصل اليها بفكره النير ، من خلال نظره الفاحص في تقديم المتأخر ، وعائدية الضمائر ، وأسلوب العبارة ، والتركيب الجملي ، لرصد المضمون البياني في القرآن المتمثل لديه في التمثيل والتشبيه والإستعارة وأصناف المجاز ، وهو كثيرا التنقل بالألفاظ القرأنية من الحقيقة الى المجاز مستعينا على ذلك بشؤون الكلام العربي في الحذف والإظهار ، والتقدير والإضمار ، ذلك بإزاء استجلاء إعجاز القرآن فنيا والتأكيد عليه لفظيا ومعنويا من خلال معطيات الشكل ومميزات المضمون .
   صحيح أن الهدف الجانبي عند الزمخشري قد يكون كلاميا كما أسلفنا ، ولكن هذا لا يمانع من أن يكون كتابه هذا جوهرة نحن بأمس الحاجة الى امثالها في تبيين روعة القرآن ، وجمال عبارته ، ودقة بلاغته ، ولست هنا في مجال الحديث عن الكشاف إلا إجمالا ، ومن خلال هذا الإجمال ، أضع نموذجين لتحقيقه المجازي بين يدي البحث : الأول ، تعقيبه على قوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * ) (1) ، فهو يبحثها بلاغيا في ضوء ما تستعمله العرب مجازا أو كناية في معنى العرش والأستواء ، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والموروث العربي ، فيقول : « ولما كان الأستواء على العرش ، وهو سرير الملك مما يردف الملك ، جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش ، يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة ، وقالوا أيضا ـ لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ـ : ملك ، في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط أدل على صورة الأمر ، ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة ، بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت : حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط ، أو لم تكن له يد رأسا ، قيل فيه : يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم هو جواد . ومنه قوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) ، أي هو بخيل ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (2) ، أي هو جواد من غير تصور يد ، ولا غل ، ولا بسط ، والتفسير بالنغمة ، والتمحل للتثنية من ضيق العطف ، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام » (3) .

--------------------
(1) طه : 5 .
(2) المائدة : 64 .
(3) الزمخشري ، الكشاف 2 : 530 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 35 _
الثاني : تعقيبه على قوله تعالى : ( فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ . . . ) (1) ، قال : « فإن قلت : كيف أسند الخسران الى التجارة وهو لأصحابها ؟ قلت : هو من الإسناد المجازي ، وهو أن يسند الفعل الى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين . . . فإن قلت : هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة ؟ قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تنساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماءً ورونقا وهو المجاز المرشح . . . فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ) (2) ، أتبعه بما يشاكله ويواخيه ، وما يكتمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته » (3) .
   وفيما عدا الزمخشري بتوسعه في ذكر مجازات القرآن ، بمعانيها الاصطلاحية فيما يبدوا لي ، فإننا لا نجد نظيرا لهذا التفسير من هذا الوجه فحسب ، نعم هناك شذرات مجازية في الجزء الخامس من « حقائق التأويل » للشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) أشرنا إليها ضمن البحث فيما يأتي ، ولو وصلنا حقائق التأويل كاملا لحصلنا على علم كثير .
   وهناك لمحات مجازية عند السيد المرتضى ( ت : 436 هـ ) في أماليه ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) وعند أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( ت : 406 هـ ) في التبيان ، وعند أبي علي الطبرسي ( ت : 548 هـ ) في مجمع البيان ، وعند فخر الدين الرازي ( ت : 606 هـ ) في مفاتيح الغيب ، وعند أمثالهم من الأكابر ، ولكنها لا تشكل عملا مجازيا تكامليا كما هي الحال في الكشاف .

--------------------
(1) البقرة : 16 .
(2) الزمخشري ، الكشاف : 1 / 191 وما بعدها .
(3) توفي ظهر الأربعاء : 9 / 3 / 1966 م عن واحد وسبعين عاما . وكان آخر لقائنا به في بغداد بتاريخ : 11 / 2 / 1966 م حينما اشتركنا معا في مهرجان تأبين علامة العراق الشيخ محمد رضا الشبيبي في جامع براثا ببغداد .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 36 _
   وأما الحديث عن ابن رشيق ( ت : 463 هـ ) في العمدة ، وابن سنان ( ت : 466 هـ ) في سر الفصاحة ، وابن الزملكاني ( ت : 651 هـ ) في كل من البرهان والتبيان ، وابن أبي الأصبع ( ت : 654 هـ ) في بديع القرآن ، وابن الأثير ( ت : 637 هـ ) في المثل السائر ، وسليمان بن علي الطوفي البغدادي ( ت : 716 هـ ) في الأكسير في علم التفسير ، وشهاب الدين محمود الحلبي ( ت : 725 هـ ) في حسن التوسل ، ويحيى بن حمزة العلوي ( ت : 749 هـ ) في الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز ، وبدر الدين الزركشي ( ت : 794 هـ ) في البرهان ، وجلال الدين السيوطي ( ت : 911 هـ ) في الاتقان . وأمثالهم من فطاحل البلاغيين والنقاد القدامى والتراثيين ، فلهم في المجاز نظرات متفاوتة ، إلا أن الملحظ لديهم الاستناد على أساس متين منه وهو مجاز القرآن ، ولكنهم لم يكتبوا فيه كتابا قائما بذاته ، أو جهدا موسوعيا كمن أسلفنا ، بل جاء جزءا من كل ، وتقاطيع في أبواب ، لذا أشرنا إليهم ، وستجد جملة من آراء بعضهم في الكتاب .
   وهنا يجب أن نشير الى حقيقة مؤكدة هي أن كلا من أبي يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) والخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) وسعد الدين التفتازاني ( ت : 791 هـ ) وأضرابهم من علماء البلاغة كالسبكي والطيبي ، قد كرسوا جهودهم التطبيقية في الحديث عن المجاز في البيان العربي على التمثل والاستشهاد والتنظير أولا بأول ـ بآيات المجاز في القرآن ، فكان ذلك دون شك : سراجهم الهادي ودليلهم الأمين ، ولا بد لي من الإشارة الهادفة الى ما قدمه أبو حيان ، أثير الدين ، محمد بن يوسف الأندلسي ( ت : 754 هـ ) في تفسيره : ( البحر المحيط ) من جهد متميز يقتفي فيه آثار الشريف الرضي والزمخشري في تتبع اللمسات البلاغية في القرآن ، والتأكيد على المجاز فنا بيانيا ، وبذلك فهو مشارك مشاركة جيدة في هذا المضمار دون ابتكار أو تزيد فيما يبدوا لي .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 37 _
مجاز القرآن في دراسات المحدثين :
   كان لتعيين استاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي رحمه الله (1) أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغية والنقدية في كلية الآداب في الجامعة المصرية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين ، كان له أثره الجليل في قلب المفاهيم التدرسية ، ونقد المناهج العلمية ، وتجديد الأساليب التفسيرية والبلاغية ، كان ذلك إيذانا بحياة قرآنية في الجامعة لا عهد لها بها ، وكان صاحبنا ذا منهج محدد يتحدث هو عنه : « فدخلت ميدان التجديد الأول ، على خبرة به ، ورأي ثابت عنه ، وخطة بينة فيه ، أدرت عليها عملي في درس البلاغة .
   وسواها . . . طفقت أتعرف معالم الدراسة الفنية الحديثة بعامة ، والأدبي منها بخاصة ، وأرجع الى كل ما يجدي في ذلك ، من عمل الغربيين وكتبهم ، واوازن بينه وبين صنيع اسلافنا ، وأبناء عصرنا في هذا كله . . . وكانت نظرتي الى القديم ـ تلك النظرة غير اليائسة ـ دافعة الى التأمل الناقد فيه ، والى العناية بتأريخ هذه البلاغة ، أسأله عن خطوات سيرها ، ومتحرجات طريقها ، أستعين بذلك على تبين عقدها ، وتفهم مشكلاتها ، ومعرفة أوجه الحاجة الى الإصلاح فيها . . . وبذلك كانت الطريقة التأريخية ، مع الأستفادة بالحديث : منهج درسي للبلاغة في الجامعة . . . مضيت في هذا الدرس المتأني ، أمس مسائل البلاغة مسا رفيقا جريئا معاً ، أقابل فيه القديم بالجديد ، فأنقد القديم وأنفي غثه ، وأضم سمينه الى صالح جديد . . . وتلك خطة لا تدوم في دراسة جامعية ، اساسها التجدد ، وحياتها في نماء متصل ، لذا قاربت أن أفرغ من النظر في القديم ، بعدما ضممت خياره الى الجديد ، فألفت منها نسقا كاملا ، يرجى أن يكون دستور البلاغة في درسها » ، فالخولي أستاذ للبلاغة قد وضع خطتاً لتطويرها ، ورسم منهجا في تجديد معالمها ، واستنّ طريقا لإغناء درسها .

--------------------
(1) أمين الخولي ، فن القول : 8 وما بعدها .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 38 _
   وكانت الجامعة المصرية أول نشأتها ، قد وجدت الحاجة في درس الأدب وتأريخه الى القول في القرآن ، بما هو مادة لذلك التاريخ الأدبي ، فجاء إذ ذاك أمين الخولي ، وهو من شيوخ المدرسة القديمة فيما يرى في ختام حياته التعليمية ، وغيّر في مناهجها ما غيّر ، وجعل تفسير القرآن مادة دراسية فيها ، وكان مفهوم التفسير عنده أو عند أمثاله لا يجاوز كثيرا تلك الكتب المتداولة فيه . . . وكلها يمكن أن يقال فيه : أنه لا يستطيع الوفاء ببيان ما في القرآن من قوة بلاغية ؛ وكانت الحياة الأدبية الجامعية خصبة ، متجددة ، متطلعة ، مستشرقة ، فاتبعت وراء ما استشرف إليه المفسرون من حسّ العربية وذوقها ، وبلاغة هذا الأسلوب ؛ ماهو وراء ذلك وأبعد ، على أن يكون لهذا التطلع ضابط من طبيعة اللغة وحيويتها ، فراحت الجامعة تحول التفسير درسا أدبيا محضا ، ويستعين بكل ما بلغته وستبلغه الثقافة الإنسانية الفنية من دقة وتطلع (1) .
   وكان صاحب هذا المنهج الجديد هو أمين الخولي باعتباره مدرسا لتفسير القرآن ، وواضعا لمفرداته العلمية ، فاستعان على ذلك بما كتبه في القرآن ، وكان « تاريخ القرآن » مجموعة محاضراته فيه ـ ولم ينشر ـ وكان « التفسير . . . معالم حياته . . . منهجه اليوم » من أروع البحوث في دائرة المعارف الإسلامية / المجلد الخامس ، وقد اشتمل عليه كتاب « مناهج تجديد » وكانت دراسته للقرآن العظيم بين هذا وذاك تشمل : حياة الألفاظ القرآنية ، وتدرج دلالتها ، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة ، الواحدة ، وكانت البلاغة القرآنية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال : اساس الدرس التفسيري مضافا إليها الغرض الديني والبعد العقائدي (2) .
   وكان بحثه الفريد « القرآن الكريم » في دائرة معارف الشعب المصرية في 1959 م مستوفيا لجملة من خصائص القرآن الأسلوبية في كل من المكي والمدني ، وما يتميز به كل منهما بتمييز حال المخاطبين .

--------------------
(1) ظ : كامل سعفان في كتابه : أمين الخولي ، 113 وما بعدها وانظر مصادره .
(2) ظ : أمين الخولي ، مناهج تجديد : 293 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 39 _
   وكانت محاضراته في « أمثال القرآن » ـ وقد أملاها على طلاب الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة ـ جوهرة ثمينة إجرى فيها تحقيقا لغويا لكلمة « المثل » وجمع الآيات التي تضمنت لفظ المثل ، وقام بتصنيف بعض الأمثال وإرجاعها الى موضوعاتها مكتفيا بتمثيل الحياة الدنيا ، والعمل الطيّب والخبيث ،وصفات الله سبحانه وتعالى ، وتمثيل المؤمنين والكفار واليهود والمنافقين ، ومثل الجنة (1) .
   وكانت نتيجة هذا الجهد المتواصل للأستاذ أمين الخولي وأمثاله من الأساتذة ذوي الحمية على كتاب العربية الأكبر ، أن أدخلوا « القرآن » في مختلف شؤونه الجمالية موضوعا بلاغيا وتفسيريا في الدراسات العليا بجامعة القاهرة ، وفي كلية الأداب منها ، وفي قسم اللغة العربية وآدابها بخاصة ، فكتبت عشرات الرسائل بإشرافهم ، وهي تتناول مجاز القرآن وبيان القرآن ، واستعارة القرآن ، وكناية القرآن ، وإعجاز القرآن ، وقصص القرآن ، ومجموعة الصور الفنية في جمالياته بعامة إضافة الى التفسير وعلوم القرآن ، وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة المتطورة الحقة في ضوء القرآن الكريم ، فكانت رسائل الماجستير والدكتوراه بداية عصر جديد في النهضة العلمية في الجامعات العربية ، إذ اتخذت القرآن منهجا لاستنباط شتى مقومات البلاغة العربية .
   لقد أفادت المكتبة القرآنية من هذا المنعطف الجديد بداية صالحة ـ على يد علماء متخصصين ـ لدراسات المحدثين في بلاغة القرآن ، وكان منهج الخولي يميل الى دراسة القرآن « موضوعا موضوعا ، لا أن يفسر على ترتبيه في المصحف سورا ، أو قطعا ، وأن تجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستفيضا ، ويعرف بترتيبها الزمني ، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها ، ثم ينظر فيما بعد لتفسّر وتفهم ، فيكون ذلك التفسير أهدى الى المعنى ، وأوثق في تجديده » (2) .
   وهذا يعني قيام « التفسير الموضوعي للقرآن الكريم » وأن يعنى المتخصصون بدراسة شذرات ونجوم من القرآن كل بحسب تخصصه ، فيجمع الباحث مادة موضوع من موضوعات القرآن ، ويستقصيها إحصاءً لتكون هيكلا مترابطا يشكل وحدة موضوعية متكاملة ، ثم يقوم بتفسيرها ودراستها بحسب منهجه العلمي .

--------------------
(1) ظ : المؤلف : الصور الفنية في المثل القرآني ، 406 ، محمد جابر الفياض ، الأمثال في القرآن الكريم ، المقدمة : 10 .
(2) ظ : أمين الخولي ، دائرة المعارف الإسلامية ، مادة : تفسيره : 368 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 40 _
   وحينما عهد برئاسة قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة الى الأستاذ العلامة يوسف عبد القادر خليف في السبعينات ، استجاب سيادته وأمثاله من الأساتذة الى هذا المنهج فوجهوا طلابهم هذا الوجه ، فتخصص معظم البلاغيين العرب بجزء مهم من القرآن الكريم ، فبحث إعجازه حينا ، وقراءاته حينا آخر ، وتشبيهاته تارة أخرى ، وبلاغته وصوره الفنية تارة اخرى ، وكان لي الشرف إن كنت أحدهم في هذا المضمار الكريم (1) .
   ان هذه الجهود التي أرسى أسسها أمين الخولي ، قد وجدت آذانا واعية لدى الشباب المتحفز ، فاتّسمت بحوث طائفة منهم بإشارات قيمة الى جملة من الصنوف البيانية في القرآن ، واعتماد المنهج البلاغي في الكشف عن وجود الإعجاز القرآني ، وكان ذلك متمثلا بالبحث حينا ، وبالتطبيق حينا آخر ، وأما على سبيل الأستشهاد والتمثيل فلا أعلم بحثا قرآنيا يخلو من الأستناد الى مجازات القرآن وكناياته وتشبيهاته واستعاراته ، إلا أن الذي يحز بالنفس إن لم أوفق على الوقوف على عمل مستقل بمجاز القرآن .
   نعم يمكن القول بأن جهود المحدثين في هذا المجال قد اتخذت طابعا ذا شعبتين في التوجه نحو بيان القرآن بعامة ، ومجازه بخاصة : مجال التهيئة والدعوة الى خوض عباب القرآن ، والكشف عن كنوزه وأسراره كما صنع الخولي ، ومجال التأليف الجزئي في المجاز أو البيان ـ وصور القرآن الجمالية ، وسأقف عند هذين الجانبين بحدود ما لمسته حسيا ، وتابعت أضواءه شخصيا ، مما شكل انطباعا خاصا ، قد يضاف غيره إليه .

--------------------
(1) كتب المؤلف رسالته للدكتوراه « الصور الفنية في المثل القرآني : دراسة نقدية وبلاغية » بإشراف الأستاذ الدكتور يوسف عبد القادر خليف في قسم اللغة العربية وأدبها في كلية الآداب بجامعة القاهرة .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 41 _
   ففي الجانب الأول ، يبرز في الجامعات العراقية ـ مثلا ـ دور كل من :
1 ـ الدكتور أحمد عبد الستار الجواري ، فما زلت أتذكر ـ قبل ربع قرن أو أكثر ـ ونحن طلاب في الدراسات الأولية الجامعية ، أنه كان يأخذنا أخذا شديدا في مدارسة النحو في ضوء القرآن كاشفا عن بلاغته ووجوه إعجازه ، ومطابقة عباراته من خلال نظم المعاني لمقتضى الحال ، وربما ضاق بعضنا ذرعا من جديته هذه فيتذرع بالقول : إن الغاية من النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال أو الكلام ، فكان ـ رحمه الله ـ (1) يجيب : بأن هذا صحيح بالنسبة لعامة الطلاب ، أما بالنسبة لكم فالغاية : خدمة القرآن العظيم .
   وكان الجواري في هذا المنهج يصدر عن رأي استاذه الخولي ، فما شوهد متحدثا إلا وآيات القرآن على شفتيه ، ولا درّس إلا وشواهده من القرآن ، وألف وهو معني بالنحو والقرآن معا : « نحو التيسير » « نحو القرأن » و « نحو الفعل » و « نحو المعاني » وفي كتبه شذرات قيمة من معاني القرآن وبيانه كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز العقلي واللغوي وإن كان النحو مضمارها .
2 ـ الدكتور جميل سعيد ـ عضو المجمع العلمي العراقي ، وقد عني عناية خاصة بتدريس إعجاز القرآن وتصوير أبعاده الفنية والجمالية ، وتمخض لهذا الجانب في الدراسات العربية العليا ، وكان « دلائل الأعجاز » و « أسرار البلاغة » مضماره الأول في مظان التدريس ، وهو بإزاء كشف البيان القرآني ، وطالما كان يحث الكثيرين من تلامذة الدراسات العليا ـ وأنا منهم ـ على متابعة الاستنارة في القرآن ، وعلى تحرير الرسائل الجامعية في ضوء هداه ، وإبراز الوجهة الأدبية والبلاغية للبيان العربي من خلال معطياته البيانية الفريدة ، وفضلا عن هذا المنهج فإن بحوثه العلمية غنية بالموروث القرآني العظيم .

--------------------
(1) توفي الدكتور الجواري فجأة عند باب داره ظهر الجمعة : 22 / 1 / 1988 م وهو في طريقه لأداء الصلاة ، عن عمر يناهز خمسة وستين عاما .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 42 _
   وفي الجانب الثاني من هذا المجال يجب أن نشير بإعجاب الى ما حققه الدكتور مصطفى صادق الرافعي في كتاباته عن إعجاز القرآن ، فقد كان من الرواد في بدايات النهضة الأدبية لهذا القرن في المقام ، والى ما أنتجه بأصالة وعمق الدكتور بدوي أحمد طبانة في كتاباته البيانية المتشعبة ، والى ما قدمه الدكتور مصطفى الصاوي الجويني في متابعاته البلاغية والتفسيرية والخدمات القرآنية ، والى ما أبقاه السيد قطب في كل من « ظلال القرآن » و « مشاهد القيامة في القرآن » و « التصوير الفني في القرآن » ، والى ما أضافه الدكتور محمد عبد الله دراز في الشؤون الإعجازية والقرآنية ، والى ما حققه الدكتور محمد المبارك في منهل الأدب الخالد ، والى ما اكتشفه الأستاذ مالك بن نبي في « الظاهرة القرآنية » ، والدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابه « من بلاغة القرآن » والدكتور بكري الشيخ أمين في « التعبير الفني في القرآن » .
   فكل من هؤلاء قد أفرغ ما في كنانته من سهام مضيئة في التنوير العام بين يدي القرآن وأسلوبه البياني ، وكان المجاز جزءا رصينا مما كتبوا ، جزاهم الله خيرا عن كتابه المجيد ، وأقف عن كثب بمتابعة المجاز القرآني عند كل من :
1 ـ الدكتورة عائشة عبد الرحمن « بنت الشاطئ » الأستاذة في كلية الآداب / جامعة عين شمس في القاهرة .
   اقتفت بنت الشاطئ آثار زوجها وأستاذها الراحل أمين الخولي من منهج التفسير الأدبي للنص القرآني ، وكانت موفقة الى حد كبير يطمئن اليه ، وسياق جليل في الاهتداء الى استجلاء ظواهر القرآن الأسلوبية وتحديد دلالته البلاغية في « التفسير البياني للقرآن الكريم » وكان المجاز الإسنادي والمجاز اللغوي حافلا به في رصد جديد ، وبأسلوب جديد ، فيه ملاحقة لنماذجه في طائفة من سور القرآن عملت على تفسيرها في جزئين اشتملا على تحقيق القول البياني في أربع عشرة سورة مكية حيث العناية بالأصول الكبرى للإسلام ، وحرصت فيها أن تخلص لفهم النص القرآني فهما مستشفاً لروح العربية ومزاجها ، مستأنسا في كل لفظ ، بل في كل حركة ونبرة ، بأسلوب القرآن نفسه ، محتكمة اليه وحده عندما يشجر الخلاف ، ويلتوي الطريق ، وتتكاثف الظلال ، على هدي التتبع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن ، والتدبر الواعي لدلالة سياقه ، والإصغاء المتأمل الى إيحاء التعبير في ذلك النمط الفذ من البيان المعجز . . . وقد قصدت بهذا الاتجاه الى توصيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير ، وبين منهجها الحديث الذي يتناول النص القرآني في جوه الإعجازي ، ويلتزم في دقة بالغة بقول السلف : « القرآن يفسر بعضه بعضا » (1) .

--------------------
(1) ظ : بنت الشاطئ ، التفسير البياني للقرآن الكريم : 1 / 18 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 43 _
   تقول بنت الشاطئ : « فكنت كلما اجتليت باهر أسراره البيانية ، ألفيت من الصعب أن أقدمه على النحو الذي يفي بجلالها ، وتهيبت أن أؤدي بالمألوف من تعبيرنا ، أسرارا من البيان المعجز تدق وتشف ، حتى لتجل عن الوصف ، وتبدو كلماتنا حيالها عاجزة صماء » (1) .
   وكان هذا التفسير ثمرة صالحة لجهود سابقة في جملة من قضايا البيان القرآني ، توجتها بنت الشاطئ ببحوث لاحقة في الموضوع نفسه في جولات متعددة بين مشرق الإسلام ومغربه ضمن مؤتمرات علمية أشير الى بعضها :
أ ـ في مؤتمر المستشرقين الدولي في نيودلهي عام 1964 قدمت بحثا بعنوان : « مشكلة الترادف اللغوي في ضوء التفسير البياني للقرآن الكريم » .
ب ـ في كلية الآداب بجامعة بغداد ، في مارس 1965 قدمت بحثا بعنوان « من أسرار العربية في القرآن الكريم » .
ج ـ في الكويت ، في نوفمبر 1965 م حاضرت ببحث عن : « القرآن الكريم وحرية الإرادة » .
د ـ في كلية الشريعة بجامعة بغداد عام 1965 ، قدمت تفسيرا منهجيا لسورة العصر .
هـ ـ في عام 1968 قدمت محاضرات في البيان القرآني في جامعتي الرباط وفاس بالمغرب ، وجامعة الجزائر .

--------------------
(1) المصدر نفسه : 2/7 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 44 _
   وكان كتابها « الإعجاز البياني للقرآن » موضع إعجاب الباحثين ، وقد أعطت فيه مجالا رحبا لمجاز القرآن .
2 ـ الدكتور أحمد مطلوب استاذ في كلية الآداب / جامعة بغداد ، هذا الشاب المتحفّز ، الذي يعتبر من شيوخ الصناعة اليوم ، فقد تعقب في كتبه البلاغية كل أصناف البلاغة القرآنية ، حتى يكاد لا يستشهد في نظرياته التطبيقية وآرائه البيانية ، وتقسيماته للبلاغة العربية إلا بآيات القرآن الكريم باعتباره نصا إلهيا مقدسا من وجه ، وباعتباره كتاب العربية الأكبرمن وجه آخر ، عرض للمجاز القرآني وأثبت وقوعه في القرآن وفي اللغة العربية على حد سواء « لأن أية لغة لا يمكن أن تبقى محصورة في ألفاظها الوضعية وأنه لا بد من انتقالها للدلالة على معان جديدة تتطلبها الحياة وتطورها ، والمجاز كثير في اللغة العربية ويعد من مفاخرها ،وهو دليل الفصاحة ورأس البلاغة .
   وفي القرآن الكريم كثير من هذا الفن وإن اختلف الباحثون في ذلك فرأى بعضهم أن كتاب الله كله حقيقة ، وإذا كان معنى الحقيقة الصدق فذلك صحيح ، أما إذا كان معنى المجاز العدول في اللفظ من معنى الى آخر ، فليس الأمر كذلك لأنه جاء الكثير منه في كتاب الله . . . وعليه معظم البلاغيين » (1) .
   بحث الدكتور أحمد مطلوب المجاز في القرآن وفي العربية في أغلب كتبه القيمة ، فاشتملت عليه « مصطلحات بلاغية » و « البلاغة عند السكاكي » و « القزويني وشروح التلخيص » ووقف عنده موقف الناقد البصير والعارض المنصف في « فنون بلاغية » وأعطى لتقسيماته الفنية بعدا إحصائيا مبتكرا على أساس معجمي حديث في « معجم المصطلحات البلاغية وتطورها » ، وكرس جهدا قيما للموضوع في « مناهج بلاغية » ، أخذ الله بيده لإكمال مسيرته البلاغية في ضوء القرآن الكريم ، وهكذا نجد في دراسات المحدثين لقطات نادرة من أمثال المجاز القرآني ، يستقطب بعضها البحث المشرق ، ويسترشد بعضها الآخر الاستشهاد السائر ، ويستخلص منها آخرون قواعد البلاغة وأسس البيان فتعرض على القرآن وتخضع له ، ومع كل هذه الجهود المتناثرة فلم أقف على عمل خاص ، وجهد قائم بذاته في مصنف منفرد في مجاز القرآن ـ كما أسلفنا ـ فجاء هذا البحث ـ بعون الله تعالى ـ متمحضا لهذا الغرض ، ومتخصصا فيه .

--------------------
(1) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 84 ـ 86 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 45 _
   وقد زعم الدكتور أحمد بدوي : « إن كثيرا ممن تعرضوا لدراسة المجاز في القرآن الكريم ، قد مضوا يلتمسون أمثلته ، يبوّبونه ويذكرون أقساما كثيرة له ، حتى بلغوا من ذلك حد التفاهة ، ومخالفة الذوق اللغوي » (1) .
   وهذا الزعم منحصر في جملة من النماذج التي لا تنهض دليلا قاطعا على صحة الرأي ؛ إذ يعارضه : أن ما كتب في مجاز القرآن بمعناه الاصطلاحي لا يتجاوز الدراسات الأنموذجية القائمة على سبيل المثال لا الحصر والاستقصاء ، والمثال قد يتكلف به ، وقد يأتي طيعا متساوقا ، وإذا كان الامر كذلك ، فأختيار بعض البلاغيين للنماذج المقحمة لا يشكل حكما عاما بهذه السهولة ، وكما لا نوافق على هذا الزعم ، فكذلك لا نميل أيضا الى ما ذهب اليه الأستاذ عباس محمود العقاد من أن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية الى الكتابة بالحروف الأبجدية (2) .
   فلا دليل على هذا من أثر أو تاريخ ، ولا وضوح في هذا الملحظ ، وهو شبيه بادّعاء الأثر الإغريقي واليوناني في البلاغة العربية ، فكلاهما لا يصدر عن نص موثوق ، أو دليل قاطع ، بل هي تكهنات لا تنهض مقياسا على صحة دعوى وأصالة رأي ، فالمجاز وإن استعمل في اللغات العالمية الحية ولكنه يدور معها في حدود معينة ، وهو بخلاف هذا في لغة القرآن ، إذ الاستعمال المجازي فيها أساسي وليس أمرا عارضا ، لأنه أحد شقي الكلام وطرفيه ، وهما الحقيقة والمجاز ، ولما كان القرآن الكريم جاريا على سنن العرب كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام ، وها هي مسيرة المجاز القرآن لا تقف عند حدّ ، ولا يستوعبها أحد ، فهي تشق طريقها في عباب اللغة تارة ، وترسخ أصالتها في صنوف البيان تارة أخرى ، تلتقط من هذا وذاك جواهره ولآليه ، تغذي العقول ، وتربّ الأفئدة ، خاشعة لها الأبصار ؛ بدرا يدور به فلك من المعارف لا تنتهي فرائده ، وسراجا تهتدي به العربية في ليل سراها الطويل ، ولعل في هذا الكتاب ألقا من ذلك السّنا ، ووهجا من تلك الأضواء ، يصور جزئيات منتظمة ، ويعكس نظريات قد تتبلور ، والله المستعان .

--------------------
(1) أحمد أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن : 224 .
(2) ظ : عباس محمود العقاد ، اللغة الشاعرة : 26 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 46 _


1 ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح .
2 ـ وقوع المجاز في القرآن .
3 ـ تقسيم المجاز القرآني .
4 ـ مجاز القرآن : عقلي ولغوي .

حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح :
   يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي ، فلقد نقل ابن منظور ( ت : 711 هـ ) قول اللغويين : « جزت الطريق ، وجاز الموضع جوازا ومجازا : سار فيه وسلكه ، وجاوزت الموضع بمعنى جزته ، والمجاز والمجازة الموضع (1) ، وكان عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز ، فالمجاز عنده : « مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه ، وإذا عدل باللفظ عما نوجبه أصل اللغة ، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي ، أو جاز هو مكان الذي وضع به أولا » (2) .
   وهو لا يكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة ، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فيقول : « ثم إعلم بعد : إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا ؛ وهو أن الأسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه » (3) .

--------------------
(1) ابن منظور ، لسان العرب ، مادة : جاز .
(2) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 365 .
(3) المصدر نفسه : 365 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 47 _
   والقوام بانا ، والحلم طودا ، لافتراع الغصن استقامة ، ورشاقة البان طولا ، ورسوخ الطود ثباتا ، فجاء النقل متساوقا في مناسبته مع المعاني الجديدة دون النبو عنها في شيء ، والطريف عند عبد القاهر أن يعود ليؤكد المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز ، متناولا قضية الوضع الحقيقي ، وتجاوزه الى المعنى الثانوي المستجد في المجاز ، فيقول : « وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول ، فهي مجاز ، وإن شئت قلت : كل كلمة جزت بها . ما وقعت له في وضع الواضع الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها ، فهي مجاز » (1) .
   وهذا التعقيب لرأي عبد القاهر في الموضوع ليس عبثا ، بل منطلق من اعتبار عبد القاهر مرجعا في هذا النص ، ومصدرا من مصادر التفريق بين الجزئيات المتقاربة في الحدود والتعريفات ومتمرسا في اكتشاف ما بين الأصول والفروع من أواصر وصلات ، ومن هنا يبدوا أن التقرير اللغوي متحدر من التبادر الذهني للفظ المجاز ، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي ، وذلك فيما وضعه أبو يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش ، فيقول : « المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة الى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع » (2) ، وهذا التحديد ـ كما تراه ـ لا يخلو من بعد منطقي في التعبير ، وأثر علم المنطق واضح في تخريجات السكاكي في هذا وسواه .

--------------------
(1) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 325 .
(2) السكاكي ، مفتاح العلوم : 170 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 48 _
   ويبدوا أن اللغويين والبلاغيين معا ، لم يأتوا بجديد في الموضوع ، وإنما تمايزوا بالأداء المختلف ، واتفقوا على الأصل ، وقد سبقهم أبو الفتح عثمان بن جني ( ت : 392 هـ ) في التوصل الى كنه هذا الأصل حينما عرف الحقيقة ببساطة ، وحدد المجاز بما يقابلها بقوله : « فالحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة ، والمجاز : ما كان بضد ذلك » (1) .
   ويترجح عندي وجود علاقة قائمة بين التعريف لغة واصطلاحا ؛ وذلك لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي عنه ، وهو الاجتياز والتخطي من موضع الى موضع ، وهذا ما يكشف عن سر العلاقة المدعاة بين استعمال المجاز لغة واستعماله اصطلاحا ، فكما يجتاز الإنسان ، ويتنقل في خطاه من موضع الى موضع ، فكذلك تجتاز الكلمة وتتخطى حدودها بمرونتها الاستعمالية من موقع الى موقع ، ويتجاوز اللفظ محله من معنى الى معنى ، مع إرادة المعنى الجديد بقرينة تدل على ذلك ؛ فيكون أصل الوضع باقيا على معناه اللغوي ، والنقل إضافة لغوية جديدة في معنى جديد ، وبهذا يبدو لنا أن المجاز يتضمن عملية تطوير لدلالة اللفظ المنقول المعنى ، وتحميله المعنى المستحدث بما لا يستوعبه اللفظ نفسه لو ترك واصل وضعه الحقيقي (2) .
   وكان التحرر من الضيق اللفظي ، والانطلاق في مجالات الخيال ، والتأثر بالوجدان النفسي ، والحنين الى العاطفة الصادقة ، والاتساع في رحاب اللغة ، والتوجه نحو الحياة الحرة الطليقة : أساس هذا الاستعمال ، فرارا من الجمود ، وتهربا من التقوقع في فلك واحد ، حول محور واحد ، وفي ضوء هذا الفهم جديدا كان أو مسبوقا ، فإن ما يقال عن المجاز في تعبيره الموحي بالمعاني الجديدة ، وتركيزه على استكناه الصور الإبداعية ، فإنه ينطبق على التشبيه والاستعارة باعتبارهما استعمالين مجازيين ، مع فرض وجود العلاقة الدالة على المعنى المستحدث . وليس هذا الفهم جديدا ، بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي ، فالجاحظ ( ت : 255 هـ ) كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز ، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم المجاز ، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصور الفنية (3) .

--------------------
(1) ابن جني ، الخصائص : 2 / 442 .
(2) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : 35 .
(3) الجاحظ في استعمالاته لإطلاق المجاز ، الحيوان 5 : 23 ـ 34 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 49 _
   ولا يعتبر هذا رجوعا الى الوراء في التماس حقائق الأشياء ، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه ، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة ، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة ، ويتم ذلك بالنظر الى الكلام العربي عن كثب :
أ ـ فإن أريد فيه التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز .
ب ـ وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه ، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه ، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه ، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب .
ج ـ وإن أريد التشبيه في ذكر الشبه وحذف المشبه به ؛ فهو الاستعارة (1) .
   إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات ، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة ، وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء ، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية الفصحى بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة ، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها الا بالتعبير عنها ، والتصوير اللفظي لها ، وذلك لا يتحدد بزمن أو بيئة أو إقليم ، وإنما هو متسع للعربية في أعصارها وأدوارها وتواجدها ، وتنقلها في تخطي حدودها الجغرافية الى بقاع الأرض المختلفة ، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن ، وبما يضفيه من علاقات لغوية مبتكرة ، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون ، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج في اللغة الى ميدان أوسع ، والتطلع بها نحو أفق رحيب ، ولما كان القرآن العظيم اساس العربية ودستورها ، كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام ، وهما : الحقيقة والمجاز ، وسنرصد في الصفحات التالية وقوعه في القرآن بشكل لا يقبل الشك استقراء ومجانسة وبيانا .

--------------------
(1) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : 40 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 50 _
وقوع المجاز في القرآن :
   ومجاز القرآن في الذروة من البيان العربي ، فالقرآن كتاب العربية الأكبر ، وهو ناموسها الاعظم ، يحرس لغتها من التدهور ، ويحفظ أمدادها من النضوب ، ويقوّم أودها من الانحطاط ، وقد كان إعجازه البياني موردا متأصلا من موارد إعجازه الكلي ، وتفوقه البلاغي حقيقة ناصعة من تفوقه في الفن القولي ، وقد وقف العرب عاجزين أمام حسّه المجازي ، وبعده التشبيهي ، ورصده الاستعاري ، وتهذيبه الكنائي، وأعجبوا أيما إعجاب بوضع ألفاظه من المعنى المراد حيث يشاء البيان السّمح ؛ والإرادة الاستعمالية المثلى ، تأنقا في العبارة ، وتحيزا للمعاني ؛ فلا غرابة أن يكون القرآن مصدرا للثروة البلاغية الكبرى عند العرب ، وأصلا لتفجير طاقات تلك البلاغة ، والمجاز منها عقدها الفريد .
   ولذلك يرى بعض البلاغيين : « إن المجاز هو علم البيان بأجمعه ، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة ؛ لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل ويشجع الجبان » (1) .
   ومن نافلة القول التوسع في بحث إمكان وقوع المجاز في القرآن دون طائل ، فقد ثبت وقوعه دون أدنى شك في كوكبة متناثرة من ألفاظه تعد في القمة من الأستعمال البياني ، فقد رد عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) القول بحمل اللفظ على ظاهره في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ ) (2) .
ب ـ ( وَجَاء رَبُّكَ ) (3) .
ج ـ ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * ) (4) .

--------------------
(1) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 84 وانظر مصادره .
(2) البقرة : 210 .
(3) الفجر : 22 .
(4) طه : 5 .