إن كان حكم المطلق مخالفا لحكم المقيد ، لم يحمل المطلق عليه (1).
   وإن ماثله : فإن اتحد السبب (2) ، حمل المطلق عليه.

   التسوية من جميع الوجوه ، بل يقتضي التسوية في الحكم فقط ، وذلك حاصل بين هاهنا .
   « غاية البادي : ص 78 »
(1) نحو قول الآمر لمن تجب طاعته : اشتر رقبة واعتق رقبة مؤمنة وفي هذا الوجه لا يحمل المطلق على المقيد إتفاقا.
   إلا إذا دعت إلى ذلك ضرورة ، كما لو قال : اعتق رقبة ، ولا تتملك إلا رقبة مؤمنة ، فإن النص الثاني ناه عن تملك غير المؤمنة ، والاول موجب لعتق رقبة ، فيتعين أن يراد بها المؤمنة ، للتمكن من الامتثال.
   « أصول الفقه للخضري : ص 212 بتصرف »
(2) كما لو قال مثلا : ـ في كفارة الظهار ـ : « اعتقوا رقبة » ، ثم قال : « اعتقوا رقبة مسلمة » ، وجب تقييد المطلق بالمسلمة ، لان الآتي بالمطلق ليس بآت بالمقيد ، والآتي بالمقيد آت بالمطلق ، فيكون أولى ، لانه جمع بين الدليلين ، وانما قلنا إن الآتي بالمقيدات بالمطلق ، لان المطلق جزء من المقيد ، والآتي بالكل لا محالة يكون آتيا بالجزء .
   « غاية البادي : 79 ـ 80 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 152 ـ
   وإن اختلف ، لم يجب الحمل إلا بدليل منفصل (1).
   وقال بعض الشافعية : تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا وهو خطأ (2) ، لانه لو قال الشارع : أو جبت أي رقبة كانت في الظهار ، لم يناف التقييد بالايمان في القتل (3).

(1) كما لو قال مثلا في كفارة الظهار : « اعتق رقبة » ، وفي كفارة القتل : « اعتق رقبة مؤمنة » ، فلا يحمل المطلق على المقيد.
(2) قالت الشافعية : كلام الله واحد ، فإذا نص على الايمان في كفارة القتل لزم في الظهار ، وليس بسديد ، فإنه إن أريد المعنى القائم به ، فهو وإن كان واحدا ، إلا أن تعلقاته تختلف باختلاف المتعلقات فلا يلزم من تعلقه بأحد المختلفين ، بالاطلاق أو التقييد أو العموم أو الخصوص أو غير ذلك ، تعلقه بالآخر بذلك ، وإلا لزم أن يكون أمره ونهيه بأحد المختلفات أمرا ونهيا بالجميع ، وهو محال ....
   « منتهى الوصول : ص 100 بتصرف »
(3) فلان الشارع لو قال : في كفارة القتل أوجبت رقبة مؤمنة وفي كفارة الظهار أوجبت رقبة كيف كانت ، لم يكن بينهما تناقض ، وحينئذ تقييد احداهما لم يقتض تقييد الآخر.
   احتجوا : بأن القرآن كالكلمة الواحدة ، ولذلك لما قيد الشهادة بالعدالة في موضع ، لم يحتج تقييدها في سائر المواضع.
   والجواب : إن القرآن كالكلمة الواحدة في عدم التناقض فيه ، لا في كل شئ .
   وإلا لوجب تقييد جميع العمومات والمطلقات بكل خاص ومقيد .
   وأما تقييد الشهادة في سائر الصور فبالاجماع .
   « غاية البادي : ص 81 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 153 ـ
   وفيه : مباحث

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 154 ـ
   الاول« في : بعض التعاريف »
   البيان : هو الذي دل على المراد ، بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد (1).
   والمبين : يطلق على المستغني عن البيان (2) ، وعلى ما ورد عليه بيانه (3).
   والمجمل : ما أفاد شيئا معينا في نفسه (4) ، واللفظ

(1) انما قال : الذي دل عليه ، ولم يقل : خطاب دل ، ليشمل القول والفعل.
   وقوله : بخطاب لا يستقل ، يتعلق الجار والمجرور بالمراد ، لا ب‍ « دل » وإلا لزم أن يكون البيان غير مستقل في الدلالة ، فيحتاج إلى بيان آخر.
   وإنما قيد عدم الاستقلال بقوله : بنفسه ، لانه يعرض له الاستقلال بالبيان .
   وقيده : بالدلالة على المعنى ، لانه لو كان عدم الاستقلال لا على هذه الجهة ، لا يسمى بيانا .
   « غاية البادي : ص 82 »
(2) وهو ما كان مستقلا في الدلالة على المراد في الاصل ، نحو « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ».
   « غاية البادي : ص 82 »
(3) وهو : ما لم يكن مستغنيا في الاصل ، لكن طرأ عليه البيان نحو « أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ».
  « غاية البادي : ص 82 »
(4) مثل القرء.
  « هامش المصورة : ص 28 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 155 ـ
   لا يعينه (1).
   والتأويل : إحتمال يعضده دليل (2) ، يصير به أغلب على الظن ، من الذي دل الظاهر عليه (3).
   ثم المجمل : قد يكون لفظا ، باعتبار إرادة خلاف الظاهر منه ، كالعام المخصوص (4).

(1) قوله : واللفظ لا يعينه ، ليخرج ما كان متعينا عند المتكلم ، واللفظ يدل على التعيين ، فإنه ليس بمجمل.
   « غاية البادي : ص 83 »
(2) قولنا : بدليل يعضده : احترازا عن التأويل من غير دليل ، فإنه ليس تأويلا صحيحا .
  وقولنا : بدليل ، يعم القاطع والظني ، فعلى ذلك تبين أن التأويل لا يتطرق إلى النص ، ولا إلى المجمل ، وإنما يتطرق إلى الظاهر لا غير .
   « غاية البادي : 85 »
(3) فإن قوله تعالى : « يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ » يحتمل أن يكون المراد من اليد القدرة ، ويحتمل أن يكون الجارحة ، والاحتمال الاول مرجوح بالنسبة إلى اللفظ ، وهو مقوي بالدليل العقلي ، بحيث صار راجحا مع ذلك الدليل ، فهذا الاحتمال المرجوح من حيث اللفظ ، الراجح بدليل آخر عقلي أو سمعي ، هو التأويل.
   « غاية البادي : 85 »
(4) أي : كالعام المخصوص بمجمل ، سواء كان متصلا أو منفصلا .
   مثال المتصل قوله تعالى : « وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ » ، وقوله تعالى : « أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ » ، فإن الله تعالى قد خص العام الاول بصفة الاحصان ، والثاني بما استثني عنه ، وهما مجملان يحتاجان إلى البيان.

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 156 ـ
   أو لا (1) ، كالمتواطئ والمشترك.
   وقد يكون فعلا ، باعتبار عدم ما يدل على جهة وقوعه (2).

   يجوز ورود المجمل في كلام الله تعالى ، وكلام الرسول « ص » لامكانه في الحكمة ، ووقوعه فيهما .

   ومثال المنفصل قوله تعالى : «اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ» ، وقال الرسول : المراد بعضهم .
   وأعلم : أن المصنف أطلق القول في ذلك ، وجعل كل العام المخصوص مجملا ، سواء خص بمجمل أو لا ، وفيه نظر .
   « غاية البادي : ص 86 »
(1) وهو : الاسماء التي علم أن حقائقها غير مرادة ، ويكون له مجازان ، لم يكن أحدهما أولى من الثاني ، وهذا القسم لم يذكره المصننف صريحا بل إيماء ».
   « غاية البادي : ص 86 »
(2) الفعل من حيث هو فعل ، لم يدل على جهة وقوعه ، من الوجوب والندب والاباحة ، ما لم يقترن به ما يدل عليها ، فالفعل إذا تجرد عن القرينة ، يكون مجملا محتاجا إلى أن يبين ، أنه على أي وجه وقع من وجوهه .
   « غاية البادي : ص 86 ـ 87 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 157 ـ
   فمنها : التحليل والتحريم المضافان إلى الاعيان ، خلافا للكرخي (1) ، لافادتهما المعنى المطلوب من تلك الذات (2).
   ومنها : قوله تعالى : « وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ » [ 5 / 7 ] ، خلافا لبعض الحنفية.
   لان الباء : إما للتبعيض ، وإما للقدر المشترك بين الجميع والبعض ، ومعهما لا إجمال (3).

(1) عبيد الله بن الحسين الكرخي ، أبو الحسن : فقيه ، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق .
   مولده في الكرخ سنة 260 ه‍ ، ووفاته ببغداد سنة 340 ه‍.
   له « رسالة في الاصول التي عليها مدار فروع الحنفية ـ ط » و « شرح الجامع الصغير » و « شرح الجامع الكبير ».
   « أعلام الزركلي : 4 / 347 بتصرف »
(2) ذهب أبو عبد الله البصري وحكاه أبو الحسن الكرخي !! إلى أن قوله : « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ » ، وما أشبههما من الآيات التي علق التحريم فيها بالاعيان ، مجمل .
   وذهب أبو على وأبو هاشم ، إلى أن ذلك مفهوم من ظاهره ، وليس بمجمل .
   « العدة : 2 / 8 »
(3) والذي نقوله في هذه الآية : ان الباء تفيد التبعيض على ما بيناه

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 158 ـ
   ومنها : الفعل المنفي : خلافا لابي عبد الله البصري ، لان الاضمار لابد منه ، وإضمار الصحة أولى ، لانه أقرب مجاز إلى الحقيقة (1).
   ومنها : آية السرقة ، ليست مجملة في اليد ولا القطع ، لان اليد الموضوعة للعضو ، من المنكب ، واستعماله في البعض

   فيما مضى ، من أنها إنما تدخل للالصاق إذا كان الفعل لا يتعدى إلى المفعول به بنفسه ، فيحتاج إلى إدخال الباء ليلصق الفعل به .
   فأما إذا كان الفعل مما يتعدى بنفسه ، فلا يجوز أن يكون دخولها لذلك .
   فإذا ثبت ذلك ، فقوله فامسحوا برؤوسكم ، يتعدى بنفسه ، لانه يحسن أن يقول : امسحوا رؤوسكم ، فيجب أن يكون دخولها لفايدة اخرى وهي التبعيض.
   إلا أن ذلك البعض ، لما لم يكن معينا ، كان مخيرا بين أي بعض شاء ، فإن علم بدليل أنه أريد منه موضع معين لا يجوز غيره وقف ذلك على البيان ، وصارت الآية مجملة من هذا الوجه.
   « العدة : 2 / 9 »
(1) أقول : اختلفوا في قوله « ع » : لا صلاة إلا بطهور ، ولا صيام لمن لم يبيت الصيام ، ولا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، ونحو ذلك.
   فقال القاضي أبو بكر وأبو عبد الله البصري : أن ذلك مجمل ، لان حرف النفي دخل على هذه الحقايق مع تحققها ، فلابد من إضمار حكم من الاحكام ، كالصحة والكمال ، إذ في إضمار كل أحكامها مخالفة الدليل اكثر ، فيجب الامتناع عنه ، والبعض ليس اولى من البعض ، فثبت الاجمال.

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 159 ـ
   على سبيل المجاز ، وأما القطع فهو الابانة (1).

   ومنع ذلك الباقون : وهو الحق !!
   وبيانه يتوقف على مقدمة : وهي أن اللفظ إذا ورد من الشارع ، وجب حمله على الحقيقة الشرعية ، فإن لم يكن فعلى حقيقته العرفية ، فإن لم يكن فعلى حقيقته اللغوية.
   فإن كثرت الحقايق ، يحمل على حقيقة ضمت إليها قرينة من القرائن ، وإن لم يكن قرينة ثبت الاجمال.
   وكذلك : إذا تعذر حمله على الحقيقة ، ويكون له مجازات ، يحمل على أقرب مجاز إلى تلك الحقيقة.
   فإن تساوت المجازات ، ثبت الاجمال.
   إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : وجب حمل هذه الالفاظ على حقايقها الشرعية.
   ولو سلم تعذر ذلك : يحمل على نفي الفائدة ، إذ هو المعهود من عرف اللغة ، كما يقال : لا علم إلا ما نفع ، ولا كلام إلا ما أفاد.
   ولو سلم أيضا نفي ذلك : يحمل على أقرب مجاز إلى الحقيقة ، وهي نفي الصحة لان نفي الصحة أشبه شيء بنفي الحقيقة ، وعلى هذه التقادير لا إجمال.
   « غاية البادي : ص 90 ـ 91 »
(1) أقول : اختلفوا في قوله تعالى : « وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ».
   فقال بعضهم : إنها مجملة من جهة اليد والقطع.    أما اليد : فلانها تطلق إلى المنكب وإلى المرفق وإلى الكوع ، وليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر ، فتكون مجملة .
   وأما في القطع : فلان القطع يطلق على البينونة وعلى السف ،

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 160 ـ
   ومنها قوله « عليه السلام » : « رفع عن امتي الخطأ والنسيان » (1) لان المراد منه رفع المؤاخذة (2).

   كما يقال برئ القلم فقطع يده .
   وقال آخرون : إنها ليست مجملة .
   أما اليد : فإنها وإن اطلقت على ما ذكروه ، لكنها حقيقة إلى المنكب ، مجار فيما دونه ، ولذلك يصح أن يقال لما دون المنكب بعض اليد ، فيكون ظاهرا في جملة اليد ، فلا يكون مجملا.
   وأما القطع : فهو حقيقة للابانة ، والسف إبانة لكن إبانة ذلك الجزء المخصوص ، وقولهم فلان قطع اليد في الشق ، مجاز في اليد ، إطلاق الكل على الجزء ، والقطع مستعمل في حقيقته ، هكذا قيل .
   « غاية البادي : ص 92 »
(1) الجامع الصغير : 2 / 24 ، وكشف الخفاء : 1 / 433.
(2) قال بعضهم : إن قوله « عليه السلام » : « رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » ، مجمل ، لان الخطأ ليس بمرفوع عنهم قطعا ، فوجب أن يكون المرفوع حكما من الاحكام.
   والجواب : أن المراد رفع المؤاخذة ، لان السيد إذا قال لعبده ، رفعت عنك الخطأ ، ينصرف عرفا إلى رفع المؤاخذة.
   فكذلك إذا قال الرسول « ع » ينصرف إلى رفع المؤاخذة في الاحكام الشرعية ، بحسب العرف.
   « غاية البادي : ص 93 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 161 ـ
   قد وقع الاجماع : على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق .
   وأما تأخيره عن وقت الخطاب : فقد منع أبو الحسين من تأخير البيان ، فيما له ظاهر وقد استعمل في خلافه (1) ، وزعم أن البيان الاجمالي كاف فيه ، وجوز تأخير البيان ، فيما ليس له ظاهر ، إلى وقت الحاجة.
   والاشاعرة : جوزوا التأخير مطلقا (2).
   احتج أبو الحسين : بأن القصد من الخطاب الافهام ، وإلا كان عبثا .
   فإن كان المراد إفهام ظاهره مع عدم إرادته ، كان إغراء بالجهل .
   وإن كان غير ظاهره مع عدم بيانه ، لزم تكليف ما لا يطاق .
   أحتجت الاشاعرة : بأن الله تعالى كلف بني إسرائيل

(1) كالعام في الخصوص ، والنكرة إذا أريد بها معين ، والاسماء الشرعية.
   « المعارج : ص 57 »
(2) أي : فيما له ظاهر أم لا.
   « هامش المصورة : ص 29 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 162 ـ
   ذبح بقرة معينة .
   لقوله تعالى : « قَالُواْ : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ؟ » [ 2 / 69 ] (1) ، ثم إنه تعالى ما بينها حتى سألوا .
   ولقوله تعالى : « فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ » [ 75 / 19 ]. وثم للتراخي (2).
   والجواب : أنهما دلتا على تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو غير جائز إجماعا ، فلابد من التأويل (3).

(1) هكذا في المطبوعة ، وفي المصورة : ص 30 « لقوله : إِنَّهَا بَقَرَةٌ * ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ؟ ».
(2) هاتان حجتان للاشاعرة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب « غاية البادي : ص 95 »
(3) الجواب : ان الآيتين كما دلتا بظاهرهما على تأخير البيان عن وقت الخطاب ، كذلك دلتا على تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولما كان هذا باطلا بالاجماع ، فكذلك ذاك.
   أما الاولى : فلان وقت خطابهم بذبح بقرة ، كانوا محتاجين إلى الذبح ولذلك سألوا سؤالا بعد سؤال .
   وأما الثانية : فلان الضمير ان عاد إلى بعض القرآن ، فلا دلالة فيها على محل النزاع ، وان عاد إلى الجميع ، دل على جواز التأخير عن وقت الحاجة أيضا ، ودل أيضا على احتياج جميع القرآن إلى البيان ، وذلك لم يقل به أحد.
   إذا ثبت ذلك : فلابد من تأويل الآيتين.
   أما الاولى فنقول : ان المأمور به في الحالة الاولى بقرة غير معينة ،

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 163 ـ
   يجوز أن يسمع المكلف العام من غير أن يسمع ما يخصصه خلافا لابي علي ، ولابي الهذيل (1).
   لانه : يجوز في المخصوص بدليل العقل ، وإن لم يعلم السامع في العقل ما يدل عليه عندهما.
   فكذا هنا ، وقد سمعوا « ... اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ » [ 9 / 6 ] ،

   ولذلك أتى بلفظة بقرة منونة ، وما كانوا محتاجين إلى البيان ، بل أي بقرة ذبحوها وقع الامتثال للامر .
   ثم لما سألوا ، نسخ الله تعالى تلك ، وأوجب بقرة معينة بالصفات المذكورة.
   وهكذا مروي عن ابن عباس ، فإنه قال : لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لاجزأت ، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
   وأما الثانية فنقول : لا نسلم أن لفظة ثم للتراخي في الجمل ، بل في المفردات سلمناه ، لكن لا نسلم أن المراد تأخير مطلق البيان ، سواء كان تفصيليا أو إجماليا ، ولم لا يكون المراد من البيان ، البيان التفصيلي ، وذلك لا ننكره نحن .
   « غاية البادي : ص 96 ـ 97 »
(1) محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبيدي مولى عبد القيس ، من أئمة المعتزلة ، ولد في البصرة سنة 135 ، واشتهر بعلم الكلام ، وكان حسن الجدل قوي الحجة ، سريع الخاطر ، كف بصره في آخر عمره

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 164 ـ
   ولم يسمعوا « سنوا بهم سنة أهل الكتاب » (1) ، إلا بعد حين (2).

   وتوفي بسامرا ، له كتب كثيرة ، منها كتاب سماه « ميلاس » على اسم يهودي اسلم على يده ، توفي عام 235 ه‍.
   « الاعلام : 7 / 355 باختصار »
(1) المنتقى لابن تيمية : 2 / 836.
(2) استدل المصنف على الجواز بوجهين :
   الاول : إن الخصم يسلم جواز ذلك ، إذا كان المخصص هو العقل ، مع أنه يجوز ألا يخطر ببال المكلف المخصص ذلك الوقت ، فيجوز في المخصص بالنقل قياسا عليه ، والجامع تمكن المكلف من معرفة المراد في الصورتين.
   والثاني : بالوقوع ، فإن الله تعالى قال « اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ » ، ولم يسمع المخصص الا في زمان عمر وهو قوله « ص » ، « سنوا بهم سنة الكتاب ».
   « غاية البادي : ص 97 ـ 98 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 165 ـ
   وفيه : مباحث

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 166 ـ
  الاول « في : عصمة الانبياء »

   مذهبنا :
   أن الانبياء معصومون : عن الكفر والبدعة خلافا للفضيلية (1) ، وعن الكبائر خلافا للحشوية (2) ، عن الصغائر عمدا خلافا لجماعة من المعتزلة ، وخطأ في التأويل خلافا للجبائيين ، وسهوا خلافا للباقين .
   وبالجملة : فالعصمة واجبة في كل زمان ، وقد بينا ذلك

(1) من الخوارج ، فانهم اعتقدوا أن كل ذنب فهو كفر ، وجوزوا صدور الذنب عن الانبياء.
   « غاية البادي : ص 99 »
(2) الحشوية : الحشو في اللغة ما يملا به الوسادة ، وفي الاصطلاح : عبارة عن الزائد الذي لا طائل تحته ، وسميت الحشوية حشوية ، لانهم يحشون الاحاديث التي لا أصل لها ، في الاحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، أي يدخلونها فيها وليست منها ، وجميع الحشوية يقولون : بالجبر والتشبيه ، وأن الله تعالى موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر ، وقالوا : كل ثقة من العلماء ، يأتي بخبر مسند عن النبي « ص » ، فهو رحمة .
   راجع : التعريفات للجرجاني « الحشو » ، الحور العين : ص 34 ، الملل والنحل : ص 11.

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 167 ـ
   في علم الكلام ، فلا حاجة إليه هنا (1).

والحق !! ذلك ، خلافا لقوم (3).

(1) وللمرتضى علم الهدى كتاب مختص بهذا الشأن ، سماه تنزيه الانبياء ، وهو في الشهرة كالشمس ، وهو مطبوع .
   « غاية البادي : ص 100 بتصرف »
(2) معناه : أنه إذا فعل فعلا !! هل يجب علينا مثل فعله أم لا ؟ وليس الخلاف في الامور الجبلية كالقيام والقعود ، ولا فيما علم اختصاصه « ص » به ، كوجوب صلاة الضحى ، ووجوب الوتر ، ووجوب التهجد ، والمشاورة ، والتخيير في نسائه ، وصوم الوصال ، والزيادة على أربع حراير .
   ولا فيما كان بيانا ، كقوله « ص » : « صلوا كما رأيتموني أصلي » ، و « خذوا عني مناسككم » فإنهما وقعا بيانا لقوله تعالى : « أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ » و « لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ».
   بل فيما عدا ذلك : وهو إما أن يكون صفته معلومة من الوجوب والندب والاباحة ، أو لا تكون معلومة ، « غاية البادي : ص 101 »
(3) خلافا لابي علي ، تلميذ أبي هاشم بن خلاد من المعتزلة ، فإنه قال بالوجوب في العبادات ، دون غيرها من المناكحات والمعاملات.
   « غاية البادي : ص 101 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 168 ـ
   لنا : قوله تعالى : « ... فَاتَّبِعُوهُ ... « [ 6 / 154 ] ، و « لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة » [ 33 / 22 ] ، وقوله : « قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ » [ 3 / 32 ]
   إذا عرفت هذا !! فمعنى التأسي به : أنه « عليه السلام » ، إذا فعل فعلا على وجه الوجوب ، يجب علينا أن نفعله على وجه الوجوب ، وإن تنفل به ، كنا متعبدين بالتنفل ، وإن فعله على وجه الاباحة ، كنا متعبدين بإعتقاد إباحته ، وجاز لنا فعله .
   هذا !! إذا علم وجه الفعل.
   أما إذا لم يعلم !! فقال ابن سريج (1) : إنه للوجوب في حقنا ، وقال الشافعي للندب ، وقال مالك (2) : للاباحة ، واكثر المعتزلة : على الوقف ، وهو الاقرب.
   لان عصمته تنفي القبح عنه ، والوجوب والندب زائدان

(1) احمد بن عمر بن سريج البغدادي ، أبو العباس ، فقيه الشافعية في عصره ، مولده ووفاته في بغداد « 249 ه‍ ـ 306 ه‍ » ، له نحو 400 مصنف ، وكان يلقب بالباز الاشهب ، ولي القضاء بشيراز ، وكان حاضر الجواب ، له مناظرات ومساجلات مع محمد بن داود الظاهري ، وله نظم حسن .
   « الاعلام : 1 / 178 ـ 179 باختصار »
(2) ابن أنس بن مالك الاصبحي الحميري ، أبو عبد الله ، امام دار الهجرة ، إليه تنسب المالكية ، مولده ووفاته في المدينة 9(3) 179 ه‍ من كتبه « الموطأ ـ ط » ... « الاعلام : 6 / 128 بتصرف واختصار »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 169 ـ
   فالمشترك هو الجواز (1).

   إذا ورد خطاب متناول للامة خاصة ، ثم فعل « عليه السلام » فعلا ينافيه ، وجب المصير إلى الفعل.
   وإن كان متناولا لنا وله ، وتراخى فعله ، صار منسوخا عنه وعنا ، للتأسي .
   وإن تناوله دوننا ، كان منسوخا عنه .
   وإن كان الفعل متقدما (3) ، وجب التأسي.
   فإن كان القول متناولا له خاصة ، كان مخصصا له عن ذلك العموم.

(1) وأما الوقف : فبالحقيقة عائد إلى القول بالاباحة ، لان التوقف في الوجوب والندب ، لا يستلزم التوقف في الجواز بعد ثبوت العصمة.
   « غاية البادي : ص 103 »
(2) إذا تعارض قوله وفعله « ص » « غاية البادي : ص 103 »
(3) أي : وإن كان فعل النبي متقدما على الخطاب.
   « هامش المصورة : ص 32 بتصرف »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 170 ـ
   وإن تناول امته خاصة ، كان حكم الفعل مختصا به .
   وإن كان عاما لنا وله ، دل على سقوط حكم الفعل عنه وعنا.
   وإن لم يعلم تقدم أحدهما ، قدم القول ، لانه أقوى دلالة من الفعل.

   الحق !! أنه « عليه السلام » ، لم يكن متعبدا بشرع من قبله ، قبل النبوة ولا بعدها .
   وإلا !! لاشتهر ، ولافتخر به أهل تلك الملة ، ولوجب مراجعة من تقدم ، لو كان متعبدا بعد النبوة ، ولعلم معاذا (1)

(1) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الانصاري الخزرجي ، أبو عبد الرحمان ، صحابي جليل ، هو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي « ص » ، أسلم وهو فتى ، وآخى النبي « ص » بينه وبين جعفر بن أبي طالب ، وشهد العقبة مع الانصار السبعين ، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله « ص » ، وبعثه رسول الله بعد غزوة تبوك ، قاضيا ومرشدا لاهل اليمن ، ولد عام 20 ق ، ه‍ وتوفي عام 18 ه‍.
   « الاعلام : 8 / 166 بتصرف واختصار »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 171 ـ
   عند سؤاله (1).

(1) حين بعثه إلى اليمن قاضيا ، فقال « عليه السلام » : بم تحكم ؟
   فقال : بكتاب الله.
   فقال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله.
   قال : فإن لم تجد ؟ قال : اجتهد رأيي ، فأقره « عليه السلام ».
   فلو كان متعبدا بشرع من قبله ، لامره بالرجوع إليه.
   « هامش المصورة : ص 32 بتصرف »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 173 ـ
   وفيه : مباحث

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 174 ـ
   الاول في : تعريفه
   النسخ في اللغة : النقل والتحويل (1) ، وقيل : الابطال.
   وفي عرف الفقهاء : رفع الحكم الثابت ، بالخطاب المتقدم (2) بخطاب متراخ عنه ، على وجه لولاه لكان ثابتا .
   واختلفوا !! فقال القاضي أبو بكر (3) : النسخ رفع ،

(1) كما في تاج العروس : 2 / 283.
   « بتصرف »
(2) قوله : الثابت بالخطاب ، يخرج رفع الحكم الثابت بالعقل ، كبراءة الذمة.
   وإنما قال : بخطاب متراخ عنه ، لانه لو لم يكن متراخيا ، لم يكن نسخا بل بيانا .
   وقال : على وجه لولاه لكان ثابتا ، لانه لو لم يكن كذلك ، لم يكن رفعا ، بل بيانا لانتهاء الحكم السابق.
   « غاية البادي : ص 108 »
(3) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري ، الاشبيلي المالكي ، أبو بكر ابن العربي ، قاض ، من حفاظ الحديث ، ولد في اشبيلية عام 468 ه‍ ، ورحل إلى المشرق ، وبرع في الادب ، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين ، وصنف كتبا في الحديث والفقه والاصول والتفسير والادب والتأريخ ، وولي قضاء اشبيلية ، ومات بقرب فارس عام 543 ه‍ ودفن بها ، من كتبه « المحصول » في اصول الفقه.
   « الاعلام : 7 / 106 بتصرف واختصار »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول  ـ 175 ـ
   ومعناه أن خطابه تعالى تعلق بالفعل ، بحيث لولا طريان النسخ ، لبقي .
   وقال أبو إسحاق (1) : إنه بيان انتهاء مدة الحكم ، بمعنى أن الخطاب الاول ، انتهى بذاته في ذلك الوقت ، وحصل بعده حكم آخر.

   اكثر المسلمين : على ذلك.
   وخالف فيه : أبو مسلم الاصفهاني ، (2) وجماعة من

(1) ابراهيم بن أحمد المروزي ، أبو إسحاق : فقيه انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق بعد ابن سريج .
   مولده بمرو الشاهجان « قصبة خراسان » وأقام ببغداد اكثر أيامه.
   وتوفي بمصر عام 340 ه‍.
   له تصانيف منها « شرح مختصر المزني ».
   « الاعلام : 1 / 2(2) 23 بتصرف »
(2) محمد بن بحر الاصفهاني ، أبو مسلم : وال ، من أهل أصفهان معتزلي ، من كبار الكتاب ، كان عالما بالتفسير وبغيره من صنوف العلم ، وله شعر ، ولي أصفهان وبلاد فارس للمقتدر العباسي ، واستمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان ، سنة 321 ه‍ ، فعزل .
   من كتبه « جامع التأويل » في التفسير ، أربعة عشر مجلدا ، و « مجموع رسائله » ، ولد عام 254 ه‍ ، وتوفي عام 322 ه‍ .
   « الاعلام : 6 / 273 بتصرف »