السادس : الطرد (1) وهو : أن يكون الوصف الذي ليس بمناسب (2) ولا مستلزم له ، لا يتخلف الحكم عنه في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع (3) ولا يدل على التعليل : لان الاطراد إنما يتم لو كان الوصف لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم (4) ، وهذا يتوقف على

   لا يقال : القوت كونه في البر صالح للعلية ، وفي الخضر غير صالح ، فنقول كون القوت من الذرة ، لا يكون من الثاني.
   « غاية البادي : ص 222 جمعا بين المتن والهامش »
(1) وهو أن يثبت معه الحكم ، فيما عدا المتنازع فيه .
   « هامش المصورة : ص 48 »
(2) أي : للحكم .
   « هامش المصورة : ص 48 بتصرف »
(3) وعلم من الشارع عدم الالتفات إليه ، لان التفات الشارع يستلزم المناسبة ، واستدل على دلالته على العلية ، بأن إستقراء الشرع دل على الحاق النادر في كل آن بالغالب ، فإذا رأينا وصفا يقارن الحكم في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع ، ثم رأينا ذلك الوصف حاصلا في محل النزاع ، وجب الحكم بثبوت ذلك الحكم فيه ، إلحاقا للنادر بالغالب .
   ولذلك !! إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الامير ، نحكم بكون القاضي عند الامير ، وما ذلك الا لمقارنة كون الفرس عند الباب ، وكون القاضي عند الامير ، في الصور المغايرة لهذه الصورة.
   « غاية البادي : 223 »
(4) أي : في الاصل.
   « هامش المصورة : ص 48 بتصرف »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 227 ـ
   وجود الحكم في الفرع.
   فلو أثبت وجود الحكم في الفرع ، يكون الوصف علة ، وثبتت عليته بالاطراد لزم الدور.
   وأيضا : فإن الطرد يوجد من دون العلية ، كالحد مع المحدود والجوهر مع العرض.
   ولان فتح هذا الباب يفضي إلى الهذيان ، كما نقول ـ في إزالة النجاسة بالخل ـ : مايع ، لا تبنى القطرة على جنسه فلا يجوز إزالة النجاسة به كالدهن .

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 229 ـ
   وفيه : مباحث

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 230 ـ
   الاول « في : تعارض الدليلين »
   لا يتعارض دليلان قطعيان :
   وهل يتعارض الظنيان ؟ جوزه قوم : لامكان أن يخبرنا إثنان عدلان بحكمين متنافيين ، ولا يترجح أحدهما على الآخر.
   ومنع منه آخرون : لانه لو تعارض دليلان ، على كون هذا الفعل مباحا أو محظورا ، فإن لم يعمل بهما أو عمل بهما لزم المحال ، وإن عمل بأحدهما على التعيين لزم الترجيح من غير مرجح ، أو لا على التعيين وهو باطل .
   لانا إذا خيرنا بين الفعل والترك ، فقد سوغنا له الترك ، فيكون ذلك ترجيحا لدليل الاباحة ، وقد تقدم بطلانه .
   والاول : عندي أقوى.
   والجواب عن الثاني : أن التخيير ليس إباحة ، لانه يجوز أن يقال له : إن أخذت بدليل الاباحة فقد أبحت لك ، وإن أخذت بدليل الحظر فقد حرمته عليك.
   كمن عليه درهمان ، فقال له صاحبهما : فقد تصدقت عليك بأحدهما إن قبلت ، وإن لم تقبل وأتيت بالدرهمين قبلتهما عن الدين.

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 231 ـ
   فإن من عليه الدين مخير ، إن شاء أتى بدرهم ، وإن شاء دفع درهمين عن الواجب.
   وكذا نقول في المسافر ـ إذا حضر في أحد الامكنة الاربعة (1) ، التي يستحب فيها التمام ـ فإنه مكلف بركعتين إن شاء الترخص ، وبأربع وجوبا إن لم يرده .
   إذا عرفت هذا !! فالتعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان حكمه التخيير ، وإن وقع للمفتي كان حكمه أن يخير المستفتي ، وإن وقع للحاكم كان حكمه العمل بأحدهما ووجب عليه التعيين.

   إذا وقع التعادل وجب الترجيح (2) ، وقيل : بالتخيير أو التوقف.

(1) المواطن الاربعة : مكة ، والمدينة ، والمسجد الجامع بالكوفة ، وحائر الحسين « ع » ، وهو ما حواه سور المشهد الحسيني على مشرفه السلام.
   « جمعا بين شرايع الاسلام : 1 / 135 ، ومجمع البحرين : 3 / 280 »
(2) المراد بالتعادل هنا : توارد دليلين متنافيي الحكم على شيء واحد ، والتعادل الذي تقدم ذكره : توارد دليلين متساويين في الدلالة ،

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 232 ـ
   لنا : أنه لو لم يعمل بالراجح لعمل بالمرجوح ، وهو خلاف المعقول (1) ، ولان الاجماع من الصحابة وقع على ترجيح بعض الاخبار على البعض (2).
   ومن المرجحات : كثرة الادلة ، كترجيح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة ، لان الظن أقوى ، لان تطرق تعمد الكذب إلى الجماعة أبعد من الواحد.
   وأيضا : فإن مخالفة الدليل على خلاف الاصل ، فمخالفة الدليلين أشد محذورا من مخالفة دليل واحد.
   وإذا أمكن العمل بكل واحد من الدليلين المتعارضين ، من وجه دون وجه ، كان أولى من إبطال أحدهما بالكلية .

   متنافيي الحكم على شيء واحد .
   « غاية البادي : ص 226 ـ 227 »
(1) وأيضا !! إذا وقع التعارض ثم ترجيح أحدهما ، كان العمل به متعينا عرفا فيجب شرعا ، لقوله « عليه السلام » : « ما رواه المسلمون حسنا فهو حسن عند الله تعالى ».
   « غاية البادي : ص 227 »
(2) فانهم قدموا خبر عائشة في إلتقاء الختانين على قول الانصار « لا ماء إلا من الماء » ، وقدموا خبر من روى من أزواجه أنه « ص » كان يصبح جنبا على ما رواه أبو هريرة ، أنه قال « من أصبح جنبا فلا صوم له » ، ...
   « غاية البادي : ص 227 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 233 ـ
   إذا تعارض دليلان (1) : فإن كانا عامين أو خاصين وكانا معلومين كان المتأخر ناسخا إن قبل المدلول النسخ ، وإلا تساقطا ووجب الرجوع إلى غيرهما ، وكذا لو لم يعلم التأريخ.
   ولو كانا مظنونين ، كان المتأخر ناسخا .
   ولو تقارنا أو لم يعلم التأريخ وجب الترجيح ، فإن تساويا ثبت التخيير.
   وإن كان أحدهما معلوما دون الآخر ، فإن كان المعلوم

(1) إذا تعارض دليلان : إما أن يكون كل واحد منهما عاما أو خاصا ، وعلى التقديرين إما أن يكون العموم والخصوص مطلقا أو من وجه دون آخر.
   وعلى التقادير إما أن يكون معلوما أو مظنونا ، وهذه ستة في ستة تصير ستة وثلاثين.
   وعلى التقادير : إما أن يعلم تقدم أحدهما على الآخر أو يعلم مقارنتهما أو لا يعلم شيء منهما ، وهذه ثلاثة إذا ضربت في ستة وثلاثين ، تصير مائة وثمانية ، هذا بحسب الحصر العقلي.
   وأما أحكامهما : فإن كانا معلومين متساويين في العموم والخصوص ...
   « غاية البادي : ص 230 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 234 ـ
   متأخرا كان ناسخا ، وإلا تعين العمل بالمعلوم .
   وإن كان أحدهما أعم من الآخر مطلقا وكانا معلومين أو مظنونين ، كان الخاص المتأخر ناسخا للعام المتقدم ، والعام المتأخر ناسخا للخاص المتقدم عند الحنفية ، وعند الشافعية يبنى العام على الخاص (1).
   وإن وردا معا ، خص العام بالخاص إجماعا ، وإن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا ، قدم المعلوم ، إلا إذا اقترنا وكان المظنون هو الخاص ، فإنه يخصص العام عند جماعة ، وقد تقدم .

   الخبر الذي رواته أكثر ، أو أعلى إسنادا ، أو كان رواته

(1) وإما أن يكون أحدهما أعم من الآخر من وجه دون وجه ، كقوله « ص » : « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها » مع نهيه عن الصلاة في غير الاوقات الخمسة.
   فإن الاول عام في الاوقات خاص في صلاة القضاء ، والثاني عام في الصلاة خاص في الاوقات ، ولم يذكره المصنف.
   « غاية البادي : ص 23(1) 232 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 235 ـ
   أعلم أو أزكى أو أزهد أو أشهر ، راجح (1).
   والفقيه أرجح من غيره ، والافقه أرجح.
   والعالم بالعربية أرجح ، والاعلم بها أرجح من العالم.
   وصاحب الواقعة أرجح (2).
   والاكثر مجالسة للعلماء أرجح ، والمعلوم عدالته بالاختبار أرجح من المزكى ، والمزكى بالاعلم أولى.
   والاشد ضبطا أرجح ، والجازم أرجح من الظان.
   والمشهور بالرياسة أرجح من غيره (3).
   والمتحمل وقت البلوغ أرجح.

(1) رجح الشيخ « ره » : بالضابط والاضبط والعالم والاعلم ، محتجا بأن الطائفة قدمت ما رواه محمد بن مسلم وبريد بن معاوية والفضيل ابن يسار ونظائرهم ، على من ليس له حالهم .
   المعارج : ص 90 »
(2) ولذلك قدم الصحابة خبر عائشة في إيجاب الغسل بالتقاء الختانين على خبر غيرها « إنما الماء من الماء ».
   « غاية البادي : ص 234 »
(3) سواء كانت شهرته بمنصبه أو بنسبه ، لاحترازه عما يوجب نقص منزلته المشهورة ، يكون أكثر.
   ولذلك !! كان علي « ع » يحلف الرواي ، ويقبل رواية أبي بكر بلا يمين .
   وكذلك مشهور الاسم مقدم .
   وكذلك إذا كان في رواة أحد الخبرين ، من يلتبس اسمه باسم بعض الضعفاء ، بخلاف الآخر يكون مرجوحا .
   « غاية البادي : 233 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 236 ـ
   وذكر السبب أولى.
   وراوي اللفظ أرجح من راوي المعنى ، والمعتضد بحديث غيره أرجح ، والمدني أرجح من المكي ، لقلة المكي بعد المدني.
   والوارد بعد ظهور النبي « عليه السلام » أرجح (1).
   وذو السبب أولى.
   والفصيح أولى من الركيك ، ولا يترجح الافصح على الفصيح (2).
   والخاص متقدم .
   والدال بالوضع الشرعي أو العرفي أولى من اللغوي.
   والحقيقة أولى من المجاز ، والدال بوجهين أولى من الدال بوجه واحد (3).

(1) الخبر الذي يرد بعد استظهار النبي وقوة شوكته ، مقدم على غيرها ، لان احتمال وقوع مقابله قبل قوة الشوكة اكثر من إحتمال وقوعه بعد وقوع الشوكة ، فكان تأخيره أغلب.
   « غاية البادي : ص 235 »
(2) راوي اللفظ الفصيح يقدم على راوي اللفظ الركيك ، لان من الناس من رد الركيك ، لكونه ـ صلى الله عليه وآله ـ أفصح العرب ، فالاكثر أن يكون مرجوحا .
   ولا يقدم الافصح على الفصيح ، لانه كما يوجد في كلامه الافصح ، كذلك يوجد في كلامه الفصيح.
   « غاية البادي : ص 232 »
(3) أو يكونان مجازين ، لكن مصحح التجوز ـ أعني العلاقة ـ

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 237 ـ
   والمعلل أولى ، والمؤكد أولى ، وما فيه تهديد أولى.
   والناقل عن حكم الاصل راجح على المقرر ، وقيل : بالعكس (1).
   والمشتمل على الحظر راجح عند الكرخي على المشتمل على الاباحة ، ومستويان عند أبي هاشم (2).

   في أحدهما أشهر وأقوى وأظهر منه في الآخر ، فيجب ترجيح الاقوى والاشهر والاظهر.
   « معالم الدين : ص 245 بتصرف »
(1) إذا كان أحد الخبرين مخالفا لحكم الاصل والآخر موافقا ، كان المخالف راجحا ، وهو قول جمهور الاصوليين ، لان الشارع إنما يحتاج إليه ، ليعرفنا ما لم تستقل عقولنا بإدراكه ، لا ما كان لعقولنا دلالة عليه.
   وقيل : بل كان الموافق راجحا لكونه معتضدا بالاصل .
   « غاية البادي : ص 234 »
(2) إذا كان حكم أحد الخبرين الحظر ، وحكم الآخر الاباحة ، فعند الكرخي واحمد بن حنبل والرازي من أصحاب أبي حنيفة يقدم دليل الحظر ، وعند أبي هاشم وعيسى ابن أبان تساويا وتساقطا .
   لنا : إن الاخذ بدليل الاباحة ، لا يؤمن معه الوقوع في المآثم ، فيكون مرجوحا ، ولذلك !! إذا تولد حيوان ، بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل ، قدم التحريم.
  وكذا إذا طلق إنسان بعض نسائه بعينها ثم نسيها ، حرم عليه وطئ الجميع.
   وإليه الاشارة بقوله « ص » : « ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال ».

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 238 ـ
   والمثبت للطلاق والعتاق ، مقدم على النافي عند الكرخي لموافقته الاصل ومستويان عند آخرين (1).
   والنافي للحد راجح على المثبت (2).
   والذي عمل به بعض العلماء ، أرجح من الذي تركه ، إذا كان بحيث لا يخفى عليه.

   وقال « ع » : « دع ما يريبك إلى ما لا يربيك ».
   « غاية البادي : ص 23(4) 235 »
(1) وقيل : هما متساويان متساقطان ، لان المثبت وإن كان موافقا لذلك الاصل ، لكن النافي أيضا موافق الدليل ، المقتضي لصحة النكاح ، وإثبات ملك اليمين ، وهذا حسن .
   غاية البادي : ص 235 »
(2) لنا : أن النافي إن لم يفد الجزم ، فلا أقل من إفادة الشبهة ، ومع حصول الشبهة يسقط الحد ، لقوله « ص » : « إدرؤا الحدود بالشبهات ».
   « غاية البادي : ص 236 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 239 ـ
   وفيه : مباحث

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 240 ـ
   الاول « في : الاجتهاد »
   الاجتهاد : هو استفراغ الوسع في النظر ، فيما هو من المسائل الظنية الشرعية ، على وجه لا زيادة فيه :
   ولا يصح في حق النبي « عليه السلام » ـ وبه قال الجبائيان ـ.
   لقوله تعالى : « وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى » [ 53 / 4 ].
   ولان الاجتهاد أنما يفيد الظن ، وهو « عليه السلام » قادر على تلقيه من الوحي.
   وأنه كان يتوقف في كثير من الاحكام حتى يرد الوحي (1) ولو ساغ له الاجتهاد لصار إليه ، لانه أكثر ثوابا .
   ولانه لو جاز له ، لجاز لجبريل (2) « عليه السلام » (3) ،

(1) كما في مسألة الظهار واللعان.
   « غاية البادي : ص 238 »
(2) جبريل أو جبرائيل : إسم ملك من ملائكة الله المقربين ، وهو روح القدس الذي يرسله الله إلى رسله لتبليغ رسالاتهم.
   وقيل : جبر في اللغة السريانية هو العبد ، وإيل هو الله ، فمعنى جبريل عبد الله.
   « جمعا بين قاموس الالفاظ والاعلام القرآنية : ص 61 ، ومجمع البيان : 1 / 166 باختصار »
(3) بجامع كونهما مبلغين ، لكنه لم يجز ، إذ لو جاز لم يحصل لنا العلم ، بأن هذا الشرع من عند الله ، لجواز أن يكون من إجتهاده.
   « غاية البادي : ص 238 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 241 ـ
   وذلك يسد باب الجزم ، بأن الشرع الذي جاء به محمد « عليه السلام » من الله تعالى .
   ولان الاجتهاد قد يخطي وقد يصيب ، فلا يجوز تعبده « عليه السلام » به ، لانه يرفع الثقة بقوله .
   وكذلك لا يجوز لاحد من الائمة « عليهم السلام » الاجتهاد عندنا ، لانهم معصومون ، وإنما أخذوا الاحكام بتعليم الرسول « عليه السلام » ، أو بإلهام من الله تعالى .
   وأما العلماء فيجوز لهم الاجتهاد ، بإستنباط الاحكام من العمومات ، في القرآن والسنة ، وترجيح الادلة المتعارضة.
   أما بأخذ الحكم من القياس والاستحسان فلا .

   وينظمها شيء واحد ، وهو أن يكون المكلف ، بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الاحكام.
   وهذه المكنة أنما تحصل بأن يكون : عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه ، وبحكمة الله تعالى وعصمة الرسول « عليه السلام » ، ليحصل له الوثوق بإرادة ما يقتضيه ظاهر اللفظ إن تجرد ، وغير ظاهره مع القرينة.


مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 242 ـ
   وعالما : بتجرد اللفظ أو عدم تجرده ، ليأمن التخصيص والنسخ .. وبشرايط التواتر والآحاد ... وبجهات الترجيح عند تعارض الادلة.
   وهذه !! أنما يحصل بمعرفة الكتاب ـ لا بجميعه ، بل بما يتعلق بالاحكام منه ، وهو خمسمائة آية (1) ـ ومعرفة الاحاديث المتعلقة بالاحكام ، لا بمعنى أن يكون حافظا لذلك ، بل يكون عالما بمواقع الآيات ، حتى يطلب منها الآية المحتاج إليها ، وعنده أصل محقق ، يشتمل على الاحاديث المتعلقة بالاحكام (2).
   وأن يكون عالما بالاجماع ، لئلا يفتي بما يخالفه .
   وأن يكون عارفا بالبراءة الاصلية (3).

(1) يراجع !! المدخل إلى علم اصول الفقه : 1 / 20.
(2) أي : أن يكون عارفا بأحوال الرجال ، النقلة لاحاديث الاحكام حافظا للاحكام لا جميعها ، لانه متعذر أو متعسر ، لكونها لا تكاد تتناهي ، بل بأكثرها .
   ولذلك !! سئل مالك عن أربعين مسألة ؟ فقال : ستة وثلاثين منها : لا أدري ، مع كونه من كبار المجتهدين.
   « غاية البادي : ص 24(1) 242 »
(3) وتقسم إلى قسمين هما :
   أولا : البراءة الشرعية : وهي « الوظيفة الشرعية النافية للحكم الشرعي عند الشك فيه واليأس من تحصيله » ، وهي حجة لقوله تعالى : « لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا » ، بمعنى أن الله تعالى لا يكلف الناس

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 243 ـ
   ولا بد أن يكون عالما بشرايط الحد والبرهان والنحو واللغة والتصريف ، ويعلم الناسخ والمنسوخ وأحوال الرجال.
   إذا عرفت هذا !! فالحق أنه يجوز أن يحصل الاجتهاد لشخص ، في علم دون آخر ، بل في مسألة دون اخرى (1).
   وإنما يقع الاجتهاد في الاحكام الشرعية ، إذا خلت عن

   إلا بالاحكام الواصلة إليهم ، فيكون مفاد هذه الآية الكريمة ، هو نفي التكليف بالحكم غير الواصل إلى المكلف ، وهو معنى البراءة الشرعية.
   ولقوله « ص » : « رفع عن امتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكير في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » ...
   ثانيا : البراءة العقلية : « الوظيفة المؤمنة من قيل العقل عند عجز المكلف عن بلوغ حكم الشارع أو وظيفته ». وهي حجة للقاعدة العقلية « قبح العقاب بلا بيان واصل من الشارع ».
   بمعنى « أن العقل يدرك قبح عقاب الشارع لعبيده إذا لم يؤذنهم بتكاليفه وخالفوها ، أو آذنهم بها ولم تصل إليهم مع فحصهم عنها واختفائها عنهم ، مهما كانت اسباب الاختفاء ويأسهم عن بلوغها ». « وهذه القاعدة مما تطابق عليها العقلاة ، على اختلاف مللهم ومذاهبهم ، وتباين أذواقهم ومستوياتهم ، وتشعب أزمانهم وبيئاتهم ».
   « جمعا بين الاصول العامة : 484 ، 513 ومبادئ اصول الفقه : ص 120 ـ 123 بتصرف واختصار »
(1) خلافا لبعضهم ، كأن يكون واحد مجتهدا في العبادات دون العقود ، أو في الفرائض دون باقي الابواب ، أو في فقه المناسك دون غيره.
   « غاية البادي : ص 242 »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 244 ـ
   دليل قطعي .

   الحق !! أن المصيب واحد ، وأن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا ، وأن عليه دليلا ظاهرا لا قطعيا .
   والمخطئ بعد الاجتهاد غير مأثوم ، لان كل واحد من المجتهدين ، إذا اعتقد رجحان أمارته ، كان أحد هذين الاعتقادين خطأ (1).

(1) اختلف في تصويب المجتهدين ، بناء على الخلاف في أن لكل صورة حكما معينا ، وعليه دليل قطعي أو ظني .
   والمختار ما صح عن الشافعي « ره » : أن في الحادثة حكما معينا عليه أمارة ، من وجدها أصاب ومن فقدها أخطأ ولم يأثم ، لان الاجتهاد مسبوق بالدلالة لانه طلبها ، والدلالة متأخرة عن الحكم ، فلو تحقق الاجتهادان لا جتمع النقيضان ، ولانه قال « ص » : « من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر ».
   قيل : لو تعين الحكم ، فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله ، فيفسق ويكفر لقوله تعالى « وَمَن لَّمْ يَحْكُم ... » ، قلنا لما أمر بالحكم بما ظنه ـ وإن أخطأ ـ حكم بما أنزل الله.
   قيل : لو لم يصوب الجميع ، لما جاز نصب المخالف ، وقد نصب

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 245 ـ
   لان إحدى الامارتين ، إما أن تكون راجحة أولا ، وأيا ما كان يلزم الخطأ فيكون منهيا عنه.
   وأيضا : القول بغير طريق باطل بالاجماع ، فذلك الطريق إن خلا عن المعارض تعين العمل به إجماعا ، وإن كان له معارض ، فإن كان أحدهما راجحا تعين العمل بالراجح إجماعا وإلا كان الحكم إما التخيير (1) أو التساقط.
   وعلى التقديرين !! فالحكم معين ، وكان تاركه مخطيا .

   أبو بكر زيدا رضي الله عنهما ، قلنا : لم يجز تولية المبطل ، والمخطئ ليس بمبطل.
   « منهاج الوصول : ص 73 »
(1) ومعناه : أن للمكلف أن يتخير إحدى الامارتين المتعارضتين ، ويعمل على وفقها ، وذلك عند توفر كل منهما على جميع شروط الحجية بشكل متكافئ ، وعند عدم تمكنه من الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما على الاخرى ، وفقا لاصول الترجيح التي مرت الاشارة إليها ، في البحث الرابع من الفصل الحادي عشر .
   علما !! بأن المراد بالامارة هنا : هي نصوص السنة غير المقطوعة الصدور ، التي اعتبر الشارع مؤداها هو الواقع.
   نعم ، في هذه الحالة ، فإن وظيفة المكلف ، التي جعلها الشارع له رفعا للحيرة ، هي التخيير ، « مبادئ اصول الفقه : ص 126 ـ 127 جمعا بين المتن والهامش وبتصرف »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 246 ـ
   المجتهد : إذا أداه إجتهاده إلى حكم ، ثم تغير إجتهاده ، وجب الرجوع إلى الاجتهاد الثاني.
   ويجب على المستفتي العمل بما أداه إجتهاده ثانيا .
   وإذا أفتى غيره عن إجتهاد ، ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة فله الفتوى بالاول ، إن كان ذاكرا للاجتهاد الاول.
   وإن كان ناسيا ، لزم الاجتهاد ثانيا على إشكال ، منشأه غلبة الظن ، بأن الطريق الذي أفتى به ، صالح لذلك الحكم.

   المسألة : إما أن تكون من باب الاصول أو من باب الفروع
   فالاول : لا يجوز التقليد فيه إجماعا ، إذ يلزم من تقليد من اتفق ، اعتقاد النقيضين ، أو الترجيح من غير مرجح ، فلابد

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 247 ـ
   من تقليد المصيب ، وهو يستلزم النظر ، فيدور (1).
   ولان النبي « صلى الله عليه وآله » كان مأمورا بالعلم فيه لقوله تعالى : « فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ » [ 47 / 20 ] ، فيكون واجبا علينا ، لقوله تعالى : « فاتبعوه » [ 6 / 156 ].
   والثاني : يجوز التقليد فيه ، خلافا لمعتزلة بغداد .
   وقال الجبائي : يجوز في الاجتهادية.
   لنا : عدم إنكار العلماء في جميع الاوقات على الاستفتاء.
   ولان ذلك حرج ومشقة ، إذ تكليف العوام للاجتهاد في المسائل يقتضي إخلال نظام العالم ، واشتغال كل واحد منهم بالنظر في المسائل عن أمور معاشه .
   ولقوله تعالى : « فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ » [ 9 / 123 ] أوجب النفور على بعض الفرقة ، ولو كان الاجتهاد واجبا على الاعيان ، لاوجب على كل فرقة النفور.
   الاتفاق : على أنه لا يجوز أن يستفتي ، إلا من غلب على

(1) وجه الدور : معرفة كون المجتهد مصيبا في رأيه ، تتوقف على علمه بالاصول ، والمفروض : أن علمه بالاصول ، متوقف على تقليد المجتهد.

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 248 ـ
   ظنه ، أنه من أهل الاجتهاد والورع ، بأن يراه منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق.
   وعلى أنه !! لا يجوز أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين .
   ويجب عليه : الاجتهاد في معرفة الاعلم والاورع ، فإن استويا ، تخير في استفتاء من شاء منهما ، وإن ترجح أحدهما من كل وجه ، تعين العمل بالراجح ، وإن ترجح كل منهما على صاحبه بصفة (1) ، فالاقوى الاخذ بقول أعلم (2).
   إذا افتى غير المجتهد ، بما يحكيه عن المجتهد ، فإن كان يحكي عن ميت ، لم يجز الاخذ بقوله ، إذ لا قول للميت ، فإن الاجماع (3) ، لا ينعقد مع خلافه حيا ، وينعقد بعد موته .

(1) كما إذا ترجح أحدهما بالورع ، والآخر بالعلم .
(2) هكذا في المصورة ، وإن كان السياق أفضله ـ كما يبدو ـ ، الاخذ بقول الاعلم.
(3) دليل على أنه لا قول للميت .
   توضيح ذلك : يشترط في إنعقاد الاجماع ، أن لا يكون أحد مخالفا له ، وهذا يدل على اعتبار قوله ، حيث يمنع من إنعقاد الاجماع

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 249 ـ
   وإن كان يحكي عن حي مجتهد : فإن سمعه مشافهة ، فالاقرب جواز العمل به ، وإن وجده مكتوبا ـ وكان موثوقا به ـ فالاقرب جواز العمل به أيضا ، وإلا فلا .

   العالم لم يبلغ رتبة الاجتهاد ، إذا وقعت له واقعة ، فالاقرب جواز الاستفتاء والمجتهد الذي لم يغلب على ظنه حكم !! فقال محمد بن الحسن (1) : يجوز للعالم تقليد الاعلم.
   وقيل يجوز فيما يخصه ، إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد فاته الوقت ، وهو جيد ، لانه مأمور بالاجتهاد ، ولم يأت ،

   على خلافه .
   هذا !! بالنسبة للحي ، وأما الميت فلا يضر قوله بالاجماع ، لو كان قوله مخالفا للاجماع ، وهذا يدل على عدم اعتبار قوله ، إذ لو لم يكن كذلك ، لكان خلافه مضرا بالاجماع .
(1) محمد بن الحسن بن علي الطوسي ، مفسر ، نعته السبكي بفقيه الشيعة ومصنفهم انتقل من خراسان إلى بغداد سنة 408 ه‍ ، وأقام أربعين سنة ، ورحل إلى الغري « بالنجف » فاستقر إلى أن توفي عام 460 ه‍ ، من تصانيفه العدة في الاصول ، « الاعلام : 6 / 315 بتصرف واختصار »

مبادئ الوصول إلى علم الاصول ـ 250 ـ
   فكان مأثوما ، وإنما سوغنا له التقليد مع ضيق الوقت للضرورة .

   الاقرب !! أنه حجة (2).

(1) الاستصحاب : هو حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك من حيث الجري العملي » .
   كما إذا كان المكلف على وضوء وكان متيقنا من ذلك ، ثم شك في انتقاض وضوئه هذا بنوم أو غيره.
   فإنه هنا يبني على وضوئه السابق ، ويرتب عليه آثاره الشرعية ، من جواز الصلاة به وغيره ، ويلغي الشك الطارئ عليه ، بمعنى أنه لا يرتب عليه أي أثر.
   « مبادئ اصول الفقه : ص 116 باختصار »
(2) استدل على حجية الاستصحاب بعدة أدلة أهمها ما يلي :
   أولا : سيرة العقلاء ، والملخص هو « أن الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية العامة ، التي ولدت مع المجتمعات ودرجت معها ، وستبقى ـ مادامت المجتمعات ـ ضمانة لحفظ نظامها وإستقامتها .
   ولو قدر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب ، لما استقام نظامها بحال .
   فالشخص الذي يسافر ـ مثلا ـ ويترك بلده وأهله وكل ما يتصل به ، لو ترك للشكوك سبيلها إليه ـ وما اكثرها لدى المسافرين ـ ولم يدفعها بالاستصحاب ، لما أمكن له أن يسافر عن بلده ، بل أن يترك عتبات بيته أصلا ، ولشلت حركتهم الاجتماعية وفسد نظام حياتهم فيها ».
   ثانيا : السنة ، وقد استدل على حجية الاستصحاب بأحاديث منها ،