سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه ، حيث أنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا ، حدوثا أو ارتفاعا ، كما أن اتصافها بها ليس إلا لاجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا ، للزوم أن يكون في العلة بأجزائها من ربط خاص ، به كانت مؤثرة (1) في معلولها ، لا في غيره ، ولا غيرها فيه ، وإلا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء ، وتلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين ، ومثل قول : دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا ، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له ، من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها ، وإن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ، ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.
ومنه انقدح أيضا ، عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ، لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة .
نعم لا بأس باتصافه بها عناية ، واطلاق السبب عليه مجازا ، كما لا بأس بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك ـ مثلا ـ بأنه سبب لوجوبها فكني به عن الوجوب عنده .
فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لاجزاء العلة للتكليف ، إلا ما هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل فيه على نحو غير دخل الآخر ، فتدبر جيدا .
وأما النحو الثاني : فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه ، حيث أن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلا بالامر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولا يكاد يتصف شيء بذلك ـ أي كونه جزء أو شرطا
(1) في ( أ ) : كان مؤثرا ، وفي ( ب ) : كانت مؤثرا .
كفاية الأصول ـ 402 ـ
للمأمور به ـ إلا بتبع ملاحظة الامر بما يشتمل عليه مقيدا بأمر آخر ، وما لم يتعلق بها الامر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية ، وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية ، وجعل الماهية واختراعها ليس إلا تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للامر بها ، فتصورها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الامر بها ، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الامر به ، بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الامر به لا اتصاف بها أصلا ، وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة ، كما لا يخفى .
وأما النحو الثالث : فهو كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك ، حيث أنها وإن كان من الممكن انتزاعها من الاحكام التكليفية التي تكون في مواردها ـ كما قيل ـ ومن جعلها بإنشاء أنفسها ، إلا أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى ، أو من بيده الامر من قبله ـ جل وعلا ـ لها بإنشائها ، بحيث يترتب عليها آثارها ، كما يشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكية والزوجية والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الايقاع ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف والآثار ، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح إعتبارها إلا بملاحظتها ، وللزم أن لا يقع ما قصد ، ووقع ما لم يقصد .
كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها ، فلا ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات ، ولا الزوجية من جواز الوطئ ، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والايقاعات.
فانقدح بذلك أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها ، يصح انتزاعها بمجرد إنشائها كالتكليف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.
وهم ودفع : أما الوهم (1) : فهو أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات
(1) انظر شرح التجريد 216 ، المسألة الثامنة في الملك.
كفاية الأصول ـ 403 ـ
الحاصلة بمجرد الجعل والانشاء التي تكون من خارج المحمول ، حيث ليس بحذائها في الخارج شيء ، وهي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة التي لا تكاد تكون بهذا السبب ، بل بأسباب أخر كالتعمم والتقمص والتنعل ، فالحالة الحاصلة منها للانسان هو الملك ، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه ؟
وأما الدفع : فهو أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك ، ويسمى بالجدة أيضا ، واختصاص شيء بشيء خاص ، وهو ناشئ إما من جهة إسناد وجوده إليه ، ككون العالم ملكا للباري جل ذكره ، أو من جهة الاستعمال والتصرف فيه ، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرفاته فيه ، أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختياره بيده ، كملك الاراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع شرعا وعرفا .
فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا ، غير الملك الذي هو اختصاص خاص ناشئ من سبب اختياري كالعقد ، أو غير اختياري كالارث ، ونحوهما من الاسباب الاختيارية وغيرها ، فالتوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا ، والغفلة عن أنه بالاشتراك بينه وبين الاختصاص الخاص والاضافة الخاصة الاشراقية كملكه تعالى للعالم ، أو المقولية كملك غيره لشيء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرها (1) من الاعمال ، فيكون شيء ملكا لاحد بمعنى ، ولآخر بالمعنى الآخر ، فتدبر .
إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل ، فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب دخل ماله الدخل في التكليف إذا شك في بقائه على ما كان عليه من الدخل ، لعدم كونه حكما شرعيا ، ولا يترتب عليه أثر شرعي ، والتكليف وإن كان مترتبا عليه إلا أنه ليس بترتب شرعي ، فافهم .
(1) في ( أ ) : غيرهما.
كفاية الأصول ـ 404 ـ
وإنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل ، حيث أنه كالتكليف ، وكذا ما كان مجعولا بالتبع ، فإن أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه ، وعدم تسميته حكما شرعيا لو سلم غير ضائر بعد كونه مما تناله يد التصرف شرعا ، نعم لا مجال لاستصحابه ، لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه ، فافهم .
ثم إن هاهنا تنبيهات :
الاول : إنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين ، فلا استصحاب مع الغفلة ، لعدم الشك فعلا ولو فرض أنه يشك لو التفت ، ضرورة أن الاستصحاب وظيفة الشاك ، ولا شك مع الغفلة أصلا ، فيحكم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل وصلى ثم شك في أنه تطهر قبل الصلاة ، لقاعدة الفراغ ، بخلاف من ألتفت قبلها وشك ثم غفل وصلى ، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك ، لكونه محدثا قبلها بحكم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.
لا يقال : نعم ، ولكن استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما ألتفت بعدها يقتضي أيضا فسادها .
فإنه يقال : نعم ، لولا قاعدة الفراغ المقتضية لصحتها المقدمة على أصالة فسادها.
الثاني : إنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الك في بقاء شيء على تقدير ثبوته ، وإن لم يحرز ثبوته فيما رتب عليه أثر شرعا أو عقلا ؟ إشكال من عدم إحراز الثبوت فلا يقين ، ولابد منه ، بل ولا شك ، فإنه على تقدير لم يثبت ، ومن أن اعتبار اليقين إنما هو لاجل أن التعبد والتنزيل شرعا إنما هو في
كفاية الأصول ـ 405 ـ
البقاء لا في الحدوث ، فيكفي الشك فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبد به على هذا التقدير ، فيترتب عليه الاثر فعلا فيما كان هناك أثر ، وهذا هو الاظهر ، وبه يمكن أن يذب عما في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات المعتبرة على مجرد ثبوتها ، وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها ، من الاشكال بأنه لا يقين بالحكم الواقعي ، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي ، بناء على ما هو التحقيق (1) ، من أن قضية حجية الامارة ليست إلا تنجز التكاليف مع الاصابة والعذر مع المخالفة ، كما هو قضية الحجة المعتبرة عقلا ، كالقطع والظن في حال الانسداد على الحكومة ، لا إنشاء أحكام فعلية شرعية ظاهرية ، كما هو ظاهر الاصحاب.
ووجه الذب بذلك ، إن الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الطريق حينئذ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجة على ثبوت حجة على بقائه تعبدا ، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعا.
إن قلت : كيف ؟ وقد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الاخبار ، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.
قلت : نعم ، ولكن الظاهر أنه أخذ كشفا عنه ومرآة لثبوته ليكون التعبد في بقائه ، والتعبد مع فرض ثبوته إنما يكون في بقائه ، فافهم .
الثالث : إنه لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون خصوص أحد
(1) وأما بناء على ما هو المشهور من كون مؤديات الامارات أحكاما ظاهرية شرعية ، كما اشتهر أن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم ، فالاستصحاب جار ، لان الحكم الذي أدت إليه الامارة محتمل البقاء لامكان إصابتها الواقع ، وكان مما يبقى ، والقطع بعدم فعليته ـ حينئذ ـ مع احتمال بقائه لكونها بسبب دلالة الامارة ، والمفروض عدم دلالتها إلا على ثبوته ، لا على بقائه ، غير ضائر بفعليته الناشئة باستصحابه ، فلا تغفل ( منه قدس سره ).
كفاية الأصول ـ 406 ـ
الاحكام ، أو ما يشترك بين الاثنين منها ، أو الازيد من أمر عام ، فإن كان الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه وارتفاعه ، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام .
وإن كان الشك فيه من جهة تردد الخاص الذي في ضمنه ، بين ما هو باق أو مرتفع قطعا ، فكذا لا إشكال في استصحابه ، فيترتب عليه كافة ما يترتب عليه عقلا أو شرعا من أحكامه ولوازمه ، وتردد ذاك الخاص ـ الذي يكون الكلي موجودا في ضمنه ويكون وجوده بعين وجوده ـ بين متيقن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم حدوثه ، غير ضائر باستصحاب الكلي المتحقق في ضمنه ، مع عدم إخلاله باليقين والشك في حدوثه وبقائه ، وإنما كان التردد بين الفردين ضائرا باستصحاب أحد الخاصين اللذين كان أمره مرددا بينهما ، لاخلاله باليقين الذي هو أحد ركني الاستصحاب ، كما لا يخفى ، نعم ، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا المترتبة على الخاصين ، فيما علم تكليف في البين.
وتوهم كون الشك في بقاء الكلي الذي في ضمن ذاك المردد مسببا عن الشك في حدوث الخاص المشكوك حدوثه المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه فاسد قطعا ، لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه ، بل من لوازم كون الحادث المتيقن ذاك المتيقن الارتفاع أو البقاء ، مع أن بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه لا أنه من لوازمه ، على أنه لو سلم أنه من لوازم حدوث المشكوك فلا شبهة في كون اللزوم عقليا ، ولا يكاد يترتب بأصالة عدم الحدوث إلا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعا .
وأما إذا كان الشك في بقائه ، من جهة الشك في قيام خاص آخر في مقام ذاك الخاص الذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه ، ففي استصحابه إشكال ، أظهره عدم جريانه ، فإن وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده ، إلا
كفاية الأصول ـ 407 ـ
أن وجوده في ضمن المتعدد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له ، بل متعدد حسب تعددها ، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها ، لقطع بارتفاع وجوده ، وإن شك في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد ، أو لارتفاعه بنفسه أو بملاكه ، كما إذا شك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الايجاب بملاك مقارن أو حادث .
لا يقال : الامر وإن كان كما ذكر ، إلا أنه حيث كان التفاوت بين الايجاب والاستحباب وهكذا بين الكراهة والحرمة ، ليس إلا بشدة الطلب بينهما وضعفه ، كان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد وجود الطبيعي بينهما ، لمساوقة الاتصال مع الوحدة ، فالشك في التبدل حقيقة شك في بقاء الطلب وارتفاعه ، لا في حدوث وجود آخر.
فإنه يقال : الامر وإن كان كذلك ، إلا أن العرف حيث يرى الايجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين ، لا واحد مختلف الوصف في زمانين ، لم يكن مجال للاستصحاب ، لما مرت (1) الاشارة إليه وتأتي (2) ، من أن قضية إطلاق أخبار الباب ، أن العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه مع الشك بنظر العرف نقضا ، وإن لم يكن بنقض بحسب الدقة ، ولذا لو انعكس الامر ولم يكن نقض عرفا ، لم يكن الاستصحاب جاريا وإن كان هناك نقض عقلا.
ومما ذكرنا في المقام ، يظهر ـ أيضا ـ حال الاستصحاب في متعلقات الاحكام في الشبهات الحكمية والموضوعية ، فلا تغفل.
الرابع : إنه لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الامور القارة أو التدريجية الغير القارة ، فإن الامور الغير القارة وإن كان وجودها ينصرم ولا يتحقق
(1) ص 386.
(2) ص 427.
كفاية الأصول ـ 408 ـ
منه جزء إلا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم ، إلا أنه ما لم يتخلل في البين العدم ، بل وإن تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفا وإن انفصل حقيقة ، كانت باقية مطلقا أو عرفا ، ويكون رفع اليد عنها ـ مع الشك في استمرارها وانقطاعها ـ نقضا ، ولا يعتبر في الاستصحاب ـ بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلته ـ غير صدق النقض والبقاء كذلك قطعا ، هذا مع أن الانصرام والتدرج في الوجود في الحركة ـ في الاين وغيره ـ إنما هو في الحركة القطعية ، وهي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان ، لا التوسطية وهي كونه بين المبدأ والمنتهى ، فإنه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا .
فانقدح بذلك أنه لا مجال للاشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار وترتيب مالهما من الآثار ، وكذا كلما إذا كان الشك في الامر التدريجي من جهة الشك في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى ، أو أنه بعد في البين ، وأما إذا كان من جهة الشك في كميته ومقداره ، كما في نبع الماء وجريانه ، وخروج الدم وسيلانه ، فيما كان سبب الشك في الجريان والسيلان الشك في أنه بقي في المنبع والرحم فعلا شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما ، فربما يشكل في استصحابهما حينئذ ، فإن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جاريا ، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه ، ولكنه يتخيل بأنه لا يختل به ما هو الملاك في الاستصحاب ، بحسب تعريفه ودليله حسبما عرفت .
ثم إنه لا يخفى أن استصحاب بقاء الامر التدريجي ، إما يكون من قبيل استصحاب الشخص ، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه ، فإذا شك في أن السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شيء منها ، صح فيه استصحاب الشخص والكلي ، وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة ، كان
كفاية الأصول ـ 409 ـ
من القسم الثاني ، وإذا شك في أنه شرع في أخرى مع القطع بأنه قد تمت الاولى كان من القسم الثالث ، كما لا يخفى.
هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيات ، وأما الفعل المقيد بالزمان ، فتارة يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده ، وطورا مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أخرى ، كما إذا احتمل أن يكون التعبد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله.
فإن كان من جهة الشك في بقاء القيد ، فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان ، كالنهار الذي قيد به الصوم مثلا ، فيترتب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما لم يقطع بزواله ، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد ، فيقال : إن الامساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان فيجب ، فتأمل.
وإن كان من الجهة الاخرى ، فلا مجال إلا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلا ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما لموضوعه ، وإلا فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه فيما بعد ذاك الزمان ، فإنه غير ما علم ثبوته له ، فيكون الشك في ثبوته له ـ أيضا ـ شكا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه ، لا في بقائه.
لا يقال : إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أخذ ظرفا لثبوت الحكم في دليله ، ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه.
فإنه يقال : نعم ، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر العقل ، وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين ، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الاول ، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني ، فلا يكون مجال إلا لاستصحاب ثبوته .
كفاية الأصول ـ 410 ـ
لا يقال : فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النظرين ، ويقع التعارض بين الاستصحابين ، كما قيل.
فإنه يقال : إنما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين ، وإلا فلا يكاد يصح إلا إذا سبق بأحدهما ، لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما ، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما ، فلا يكون هناك إلا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فيما إذا أخذ قيدا ، لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي ، ولا شبهة في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع ما قبله متحد في الاول ومتعدد في الثاني بحسبه ، ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر ، ولو بالنظر المسامحي العرفي.
نعم ، لا يبعد أن يكون بحسبه ـ أيضا ـ متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه ، من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي ، وأن حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده قطعا ، إلا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب ، فتأمل جيدا.
إزاحة وهم : لا يخفى أن الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلها يكون مما إذا وجدت بأسبابها ، لا يكاد يشك في بقائها إلا من قبل الشك في الرافع لها ، لا من قبل الشك في مقدار تأثير أسبابها ، ضرورة أنها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها ، كانت من الامور الخارجية أو الامور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية ، فلا أصل لاصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وأصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرة ، كما حكي عن بعض الافاضل (1) ، ولا يكون ها هنا أصل إلا أصالة الطهارة أو
(1) هو الفاضل النراقي في مناهج الاحكام والاصول / 242 ، في الفائدة الاولى من فوائد ذكرها ذيل
كفاية الأصول ـ 411 ـ
النجاسة ، الخامس : إنه كما لا إشكال فيما إذا كان المتيقن حكما فعليا مطلقا ، لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان مشروطا معلقا ، فلو شك في مورد لاجل طروء بعض الحالات عليه في بقاء أحكامه ، ففيما صح استصحاب أحكامه المطلقة صح استصحاب أحكامه المعلقة ، لعدم الاختلال بذلك فيما اعتبر في قوام الاستصحاب من اليقين ثبوتا والشك بقاء .
وتوهم (1) أنه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه فاختل أحد ركنيه فاسد ، فإن المعلق قبله إنما لا يكون موجودا فعلا ، لا أنه لا يكون موجودا أصلا ، ولو بنحو التعليق ، كيف ؟ والمفروض أنه مورد فعلا للخطاب بالتحريم ـ مثلا ـ أو الايجاب ، فكان على يقين منه قبل طروء الحالة فيشك فيه بعده ، ولا يعتبر في الاستصحاب إلا الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته ، واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك .
وبالجملة : يكون الاستصحاب متمما لدلالة الدليل على الحكم فيما أهمل أو أجمل ، كان الحكم مطلقا أو معلقا ، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة ، فيحكم ـ مثلا ـ بأن العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقا في حال عنبيته ، من أحكامه المطلقة والمعلقة لو شك فيها ، فكما يحكم ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه .
إن قلت : نعم ، ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلق لمعارضته باستصحاب ضده المطلق ، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير
تتميم الاستصحاب بشروط الاستصحاب ، عند قوله : وإذا شك في بقاء الطهارة الشرعية الحاصلة بالوضوء ... الخ.
(1) راجع المناهل للسيد المجاهد / 652.
كفاية الأصول ـ 412 ـ
باستصحاب حليته المطلقة.
قلت : لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شك في بقاء حكم المعلق بعده ، ضرورة أنه كان مغيى بعدم ما علق عليه المعلق ، وما كان كذلك لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع فضلا عن الاستصحاب ، لعدم المضادة بينهما ، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا معا بالقطع قبل بلا منافاة أصلا ، وقضية ذلك انتفاء الحكم (1) المطلق بمجرد ثبوت ما علق عليه المعلق ، فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلية ، فإذا شك في حرمته المعلقة بعد عروض حالة عليه ، شك في حليته المغياة لا محالة أيضا ، فيكون الشك في حليته أو حرمته فعلا بعد عروضها متحدا خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة بنحو كانتا عليه ، فقضية استصحاب حرمته المعلقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حليته المغياة حرمته فعلا بعد غليانه وانتفاء حليته ، فإنه قضية نحو ثبوتهما كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب ، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الالباب ، فالتفت ولا تغفل (2).
السادس : لا فرق أيضا بين أن يكون المتيقن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة ، إذا شك في بقائه وارتفاعه بنسخه في هذه الشريعة ، لعموم أدلة الاستصحاب ، وفساد توهم اختلال أركانه فيما كان
(1) في ( ب ) حكم المطلق.
(2) كي لا تقول في مقام التفصي عن إشكال المعارضة : إن الشك في الحلية فعلا بعد الغليان يكون مسببا عن الشك في الحرمة المعلقة ، فيشك بأنه لا ترتب بينهما عقلا ولا شرعا ، بل بينهما ملازمة عقلا ، لما عرفت من أن الشك في الحلية أو الحرمة الفعليين بعده متحد مع الشك في بقاء حرمته وحليته المعلقة ، وإن قضية الاستصحاب حرمته فعلا ، وانتفاء حليته بعد غليانه ، فإن حرمته كذلك وإن كان لازما عقلا لحرمته المعلقة المستصحبة ، إلا أنه لازم لها ، كان ثبوتها بخصوص خطاب ، أو عموم دليل الاستصحاب ، فافهم ( منه قدس سره ).
كفاية الأصول ـ 413 ـ
المتيقن من أحكام الشريعة السابقة لا محالة ، إما لعدم اليقين بثبوتها في حقهم ، وإن علم بثبوتها سابقا في حق آخرين ، فلا شك في بقائها أيضا ، بل في ثبوت مثلها ، كما لا يخفى ، وإما لليقين بارتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة ، فلا شك في بقائها حينئذ ، ولو سلم اليقين بثبوتها في حقهم ، وذلك لان الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لافراد المكلف ، كانت محققة وجودا أو مقدرة ، كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة ، وهي قضايا حقيقية ، لا خصوص الافراد الخارجية ، كما هو قضية القضايا الخارجية ، وإلا لما صح الاستصحاب في الاحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها ، كان الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامة أفراد المكلف ممن وجد أو يوجد ، وكان (1) الشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته ، والشريعة السابقة وإن كانت منسوخة بهذه الشريعة يقينا ، إلا أنه لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها ، ضرورة أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك ، بل عدم بقائها بتمامها ، والعلم إجمالا بارتفاع بعضها إنما يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه منها ، فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا ، لا فيما إذا لم يكن من أطرافه ، كما إذا علم بمقداره تفصيلا ، أو في موارد ليس المشكوك منها ، وقد علم بارتفاع ما في موارد الاحكام الثابتة في هذه الشريعة.
ثم لا يخفى أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة (2) ـ أعلى الله في الجنان
(1) في كفاية اليقين بثبوته ، بحيث لو كان باقيا ولم ينسخ لعمه ، ضرورة صدق أنه على يقين منه ، فشك فيه بذلك ، ولزوم اليقين بثبوته في حقه سابقا بلا ملزم .
وبالجملة : قضية دليل الاستصحاب جريانه لاثبات حكم السابق للاحق وإسراؤه إليه فيما كان يعمه ويشمله ، لولا طروء حالة معها يحتمل نسخه ورفعه ، وكان دليله قاصرا عن شمولها ، من دون لزوم كونه ثابتا له قبل طروئها أصلا ، كما لا يخفى ( منه قدس سره ).
(2) فرائد الاصول / 381 ، عند قوله : وثانيا ان اختلاف الاشخاص ... الخ.
كفاية الأصول ـ 414 ـ
مقامه ـ في ذب اشكال (1) تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب من الوجه الثاني إلى ما ذكرنا ، لا ما يوهمه ظاهر كلامه ، من أن الحكم ثابت للكلي ، كما أن الملكية له في مثل باب الزكاة والوقف العام ، حيث لا مدخل للاشخاص فيها ، ضرورة أن التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك ، بل لا بد من تعلقه بالاشخاص ، وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية ، وكان غرضه من عدم دخل الاشخاص عدم أشخاص خاصة ، فافهم .
وأما ما أفاده من الوجه الاول (2) ، فهو وإن كان وجيها بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين ، إلا أنه غير مجد في حق غيره من المعدومين ، ولا يكاد يتم الحكم فيهم ، بضرورة اشتراك أهل الشريعة الواحدة أيضا ، ضرورة أن قضية الاشتراك ليس إلا أن الاستصحاب حكم كل من كان على يقين فشك ، لا أنه حكم الكل ولو من لم يكن كذلك بلا شك ، وهذا واضح .
السابع : لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في إستصحاب الاحكام ، ولاحكامه في استصحاب الموضوعات ، كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية والعقلية ، وإنما الاشكال في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة غير شرعية عادية كانت أو عقلية ، ومنشؤه أن مفاد الاخبار : هل هو تنزيل المستصحب والتعبد به وحده ؟ بلحاظ خصوص ما له من الاثر بلا واسطة ، أو تنزيله بلوازمه العقلية أو العادية ؟ كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والامارات ، أو بلحاظ مطلق ما له من الاثر ولو بالواسطة ؟ بناء على
(1) الصحيح ما أثبتناه خلاف لما في النسخ.
(2) فرائد الاصول / 381 ، عند قوله : وفيه اولا ... الخ.
كفاية الأصول ـ 415 ـ
صحة التنزيل (1) بلحاظ أثر الواسطة أيضا لاجل أن أثر الاثر أثر ، وذلك لان مفادها لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه ، لم يترتب عليه ما كان مترتبا عليها ، لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبدا ، ولا يكون تنزيله بلحاظه ، بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه ، أو بلحاظ ما يعم آثارها ، فإنه يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها .
والتحقيق أن الاخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي لا يكون كذلك ، كما هي محل ثمرة الخلاف ، ولا على تنزيله بلحاظ ماله مطلقا ولو بالواسطة ، فإن المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه ، وأما آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلا ، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه ، كما لا يخفى .
نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان محسوبا بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أن مفاد الاخبار عرفا ما يعمه أيضا حقيقة ، فافهم .
كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، أو بوساطة ما لاجل وضوح
(1) ولكن الوجه عدم صحة التنزيل بهذا اللحاظ ، ضرورة أنه ما يكون شرعا لشيء من الاثر لا دخل له بما يستلزمه عقلا أو عادة ، وحديث أثر الاثر أثر وإن كان صادقا إلا أنه إذا لم يكن الترتب بين الشيء وأثره وبينه وبين مؤثره مختلفا ، وذلك ضرورة أنه لا يكاد يعد الاثر الشرعي لشيء أثرا شرعيا لما يستلزمه عقلا أو عادة أصلا ، لا بالنظر الدقيق العقلي ولا النظر المسامحي العرفي ، إلا فيما عد أثر الواسطة أثرا لذيها لخفائها أو لشدة وضوح الملازمة بينهما ، بحيث عدا شيئا واحد ذا وجهين ، وأثر أحدهما أثر الاثنين ، كما يأتي الاشارة إليه ، فافهم ( منه قدس سره ).
كفاية الأصول ـ 416 ـ
لزومه له ، أو ملازمته معه بمثابة عد اثره اثرا لهما ، فإن عدم ترتيب مثل هذا الاثر عليه يكون نقضا ليقينه بالشك أيضا ، بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفا ، فافهم .
ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول التعبدية وبين الطرق والامارات ، فإن الطريق والامارة حيث أنه كما يحكي عن المؤدى ويشير إليه ، كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها ، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها ، وقضيته حجية المثبت منها كما لا يخفى ، بخلاف مثل دليل الاستصحاب ، فإنه لا بد من الاقتصار مما فيه من الدلالة على التعبد بثبوته ، ولا دلالة له إلا على التعبد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره ، حسبما عرفت فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه ، كسائر الاصول التعبدية ، إلا فيما عد أثر الواسطة أثرا له لخفائها ، أو لشدة وضوحها وجلائها ، حسبما حققناه .
الثامن : إنه لا تفاوت في الاثر المترتب على المستصحب ، بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شيء ، أو بوساطة عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتحد معه وجودا ، كان منتزعا عن مرتبة ذاته ، أو بملاحظة بعض عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة ، فإن الاثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة ، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه ، لغيره مما كان مباينا معه ، أو من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة كسواده مثلا أو بياضه ، وذلك لان الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده ، كما أن العرضي كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الاثر ، لا شيء آخر ، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت كما توهم (1) .
(1) المتوهم هو الشيخ ( ره ) في الامر السادس من تنبيهات الاستصحاب عند قوله لا فرق في الامر
كفاية الأصول ـ 417 ـ
وكذا لا تفاوت في الاثر المستصحب أو المترتب عليه ، بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف وبعض أنحاء الوضع ، أو بمنشأ انتزاعه كبعض أنحائه كالجزئية والشرطية والمانعية ، فإنه أيضا مما تناله يد الجعل شرعا ويكون أمره بيد الشارع وضعا ورفعا ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه .
ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب مجعولا مستقلا كما لا يخفى ، فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية بمثبت ، كما ربما توهم (1) بتخيل أن الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية ، بل من الامور الانتزاعية ، فافهم .
وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الاثر ووجوده ، أو نفيه وعدمه ، ضرورة أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته ، وعدم إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر ، إذ ليس هناك ما دل على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عنه كصدقه برفعها من طرف ثبوته كما هو واضح ، فلا وجه للاشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف ، وعدم المنع عن الفعل بما في الرسالة (2) ، من أن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية ، فإن عدم استحقاق العقوبة وإن كان غير مجعول ، إلا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع ، وترتب عدم الاستحقاق مع كونه عقليا على استصحابه ، إنما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر ، فتأمل.
التاسع : إنه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الاثر الغير الشرعي ولا
(1) المتوهم هو الشيخ ( ره ) في القول السابع في الاستصحاب ، عند قوله أن الثاني مفهوم منتزع الخ فرائد الاصول / 351.
(2) هذا مفاد كلام الشيخ في التمسك باستصحاب البراءة في ادلة اصل البراءة ، فرائد الاصول / 204.
كفاية الأصول ـ 418 ـ
الشرعي بوساطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب ، إنما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعا ، فلا يكاد يثبت به من آثاره إلا أثره الشرعي الذي كان له بلا واسطة ، أو بوساطة أثر شرعي آخر ، حسبما عرفت فيما مر (1) ، لا بالنسبة إلى ما كان للاثر الشرعي مطلقا ، كان بخطاب الاستصحاب أو بغيره من أنحاء الخطاب ، فإن آثاره الشرعية كانت أو غيرها يترتب عليه إذا ثبت ولو بأن يستصحب ، أو كان من آثار المستصحب ، وذلك لتحقق موضوعها حينئذ حقيقة ، فما للوجوب عقلا يترتب على الوجوب الثابت شرعا باستصحابه أو استصحاب موضوعه ، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلى غير ذلك ، كما يترتب على الثابت بغير الاستصحاب ، بلا شبهة ولا ارتياب ، فلا تغفل .
العاشر : إنه قد ظهر مما مر (2) لزوم أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو ذا حكم كذلك ، لكنه لا يخفى أنه لابد أن يكون كذلك بقاء ولو لم يكن كذلك ثبوتا فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما ولا له أثر شرعا وكان في زمان استصحابه كذلك ـ أي حكما أو ذا حكم ـ يصح استصحابه كما في استصحاب عدم التكليف ، فإنه وإن لم يكن بحكم مجعول في الازل ولا ذا حكم ، إلا أنه حكم مجعول فيما لا يزال ، لما عرفت من أن نفيه كثبوته في الحال مجعول شرعا ، وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتا ، أو كان ولم يكن حكمه فعليا وله حكم كذلك بقاء ، وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه والعمل ، كما إذا قطع بارتفاعه يقينا ، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتا فيه وفي تنزيلها بقاء ، فتوهم اعتبار الاثر سابقا ـ كما ربما يتوهمه الغافل من اعتبار كون المستصحب حكما أو ذا حكم ـ فاسد قطعا ، فتدبر جيدا .
(1) راجع التنبيه السابع ، ص 413.
(2) المصدر المتقدم.
كفاية الأصول ـ 419 ـ
الحادي عشر : لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق حكم أو موضوع .
وأما إذا كان الشك في تقدمه وتأخره بعد القطع بتحققه وحدوثه في زمان :
فإن لو حظ بالاضافة إلى أجزاء الزمان ، فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحققه في الزمان الاول ، وترتيب آثاره لا آثار تأخره عنه ، لكونه بالنسبة إليه مثبتا إلا بدعوى خفاء الواسطة ، أو عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحققه إلى زمان وتأخره عنه عرفا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، ولا آثار حدوثه في الزمان الثاني ، فإنه نحو وجود خاص ، نعم لا بأس بترتيبها بذا ك الاستصحاب ، بناء على أنه عبارة عن أمر مركب من الوجود في الزمان اللاحق وعدم الوجود في السابق.
وإن لو حظ بالاضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضا ، وشك في تقدم ذاك عليه وتأخره عنه ، كما إذا علم بعروض حكمين أو موت متوارثين ، وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فإن كانا مجهولي التاريخ :
فتارة كان الاثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن ، لا للآخر ولا له بنحو آخر ، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض ، بخلاف ما إذا كان الاثر لوجود كل منهما كذلك ، أو لكل من أنحاء وجوده ، فإنه حينئذ يعارض ، فلا مجال لاستسحاب العدم في واحد ، للمعارضة باستصحاب العدم في آخر ، لتحقق أركانه في كل منهما. هذا إذا كان الاثر المهم مترتبا على وجوده الخاص الذي كان مفاد كان التامة .
وأما إن كان مترتبا على ما إذا كان متصفا بالتقدم ، أو بأحد ضديه الذي كان مفاد كان الناقصة ، فلا مورد ها هنا للاستصحاب ، لعدم اليقين السابق فيه ، بلا ارتياب.
وأخرى كان الاثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، فالتحقيق أنه أيضا ليس
كفاية الأصول ـ 420 ـ
بمورد للاستصحاب ، فيما كان الاثر المهم مترتبا على ثبوته [ للحادث ، بأن يكون الاثر الحادث ] (1) المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان ، [ بل قضية الاستصحاب عدم حدوثه كذلك ، كما لا يخفى ] (2) ، وكذا فيما كان مترتبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا ، وإن كان على يقين منه في آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما ، لعدم إحراز اتصال زمان شكه وهو زمان حدوث الآخر بزمان يقينه ، لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به .
وبالجملة (3) كان بعد ذاك الآن الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما زمانان : أحدهما زمان حدوثه ، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الذي يكون طرفا للشك في أنه فيه أو قبله ، وحيث شك في أن أيهما مقدم وأيهما مؤخر لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، ومعه لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشك من نقض اليقين بالشك .
لا يقال : لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين بذاك الآن ، وهو بتمامه زمان الشك في حدوثه لاحتمال تأخره على الآخر ، مثلا إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة ، وصار على يقين من حدوث أحدهما بلا تعيين في ساعة أخرى بعدها ، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة ، كان زمان الشك في حدوث كل منهما تمام الساعتين لا خصوص أحدهما ، كما لا يخفى .
(1) جاءت العبارة في نسخة ( أ ) وحذفت من ( ب ).
(2) أثبتنا الزيادة من ( ب ).
(3) وإن شئت قلت : إن عدمه الازلي المعلوم قبل الساعتين ، وإن كان في الساعة الاولى منهما مشكوكا ، إلا أنه حسب الفرض ليس موضوعا للحكم والاثر ، وإنما الموضوع هو عدمه الخاص ، وهو عدمه في زمان حدوث الآخر المحتمل كونه الساعة الاولى المتصلة بزمان يقينه ، أو الثانية المنفصلة عنه ، فلم يحرز اتصال زمان شكه بزمان يقينه ، ولابد منه في صدق : لا تنقض اليقين بالشك ، فاستصحاب عدمه إلى الساعة الثانية لا يثبت عدمه في زمان حدوث الآخر إلا على الاصل المثبت فيما دار الامر بين التقدم والتأخر ، فتدبر ، ( منه قدس سره ).
كفاية الأصول ـ 421 ـ
فإنه يقال : نعم ، ولكنه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان ، والمفروض إنه لحاظ إضافته إلى الآخر ، وأنه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهة أن زمان شكه بهذا اللحاظ إنما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه لا الساعتين.
فانقدح أنه لا مورد ها هنا للاستصحاب لاختلال أركانه لا أنه مورده ، وعدم جريانه إنما هو بالمعارضة ، كي يختص بما كان الاثر لعدم كل في زمان الآخر ، وإلا كان الاستصحاب فيما له الاثر جاريا.
وأما لو علم بتاريخ أحدهما ، فلا يخلو أيضا إما يكون الاثر المهم مترتبا على الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن ، فلا إشكال في استصحاب عدمه ، لو لا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر أو طرفه ، كما تقدم .
وإما يكون مترتبا على ما إذا كان متصفا بكذا ، فلا مورد للاستصحاب أصلا ، لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه كما لا يخفى ، لعدم اليقين بالاتصاف به سابقا فيهما .
وإما يكون مترتبا على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة في زمان الآخر ، فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جاريا ، لاتصال زمان شكه بزمان يقينه ، دون معلومه لانتفاء الشك فيه في زمان ، وإنما الشك فيه بإضافة زمانه إلى الآخر ، وقد عرفت جريانه فيهما تارة وعدم جريانه كذلك أخرى.
فانقدح أنه لا فرق بينهما ، كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين ، ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين ، فيما اعتبر في الموضوع خصوصية ناشئة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدم ، أو أحد ضديه وشك فيها ، كما لا يخفى .
كما انقدح أنه لا مورد للاستصحاب أيضا فيما تعاقب حالتان متضادتان
كفاية الأصول ـ 422 ـ
كالطهارة والنجاسة ، وشك في ثبوتهما وانتفائهما ، للشك في المقدم والمؤخر منهما ، وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة بزمان الشك في ثبوتهما ، وترددها بين الحالتين ، وأنه ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم وتأمل في المقام فإنه دقيق .
الثاني عشر : إنه قد عرفت (1) أن مورد الاستصحاب لابد أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم كذلك ، فلا إشكال فيما كان المستصحب من الاحكام الفرعية ، أو الموضوعات الصرفة الخارجية ، أو اللغوية إذا كانت ذات احكام شرعية .
وأما الامور الاعتقادية التي كان المهم فيها شرعا هو الانقياد والتسليم والاعتقاد بمعنى عقد القلب عليها من الاعمال القلبية الاختيارية ، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكما وكذا موضوعا ، فيما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ، لصحة التنزيل وعموم الدليل ، وكونه أصلا عمليا إنما هو بمعنى أنه وظيفة الشك تعبدا ، قبالا للامارات الحاكية عن الواقعيات ، فيعم العمل بالجوانح كالجوارح ، وأما التي كان المهم فيها شرعا وعقلا هو القطع بها ومعرفتها ، فلا مجال له موضوعا ويجري حكما ، فلو كان متيقنا بوجوب تحصيل القطع بشيء ـ كتفاصيل القيامة ـ في زمان وشك في بقاء وجوبه ، يستصحب .
وأما لو شك في حياة إمام زمان مثلا فلا يستصحب ، لاجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه ، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع امكانه ، ولا يكاد يجدي في مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا ، إلا إذا كان حجة من باب إفادته الظن وكان المورد مما يكتفى به أيضا ، فالاعتقاديات كسائر الموضوعات لابد في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي ، يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه ، كان ذاك متعلقا بعمل الجوارح أو الجوانح.
(1) في التنبيه السابع / ص 413 .
كفاية الأصول ـ 423 ـ
وقد انقدح بذلك أنه لا مجال له في نفس النبوة ، إذا كانت ناشئة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها ، وكانت لازمة لبعض مراتب كمالها ، إما لعدم الشك فيها بعد اتصاف النفس بها ، أو لعدم كونها مجعولة بل من الصفات الخارجية التكوينية ، ولو فرض الشك في بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها بتلك المثابة ، كما هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات ، وعدم أثر شرعي مهم لها يترتب عليها باستصحابها .
نعم لو كانت النبوة من المناصب المجعولة وكانت كالولاية ، وإن كان لابد في إعطائها من أهلية وخصوصية يستحق بها لها ، لكانت موردا للاستصحاب بنفسها ، فيترتب عليها آثارها ولو كانت عقلية بعد استصحابها ، لكنه يحتاج إلى دليل كان هناك غير منوط بها ، وإلا لدار ، كما لا يخفى ، وأما استصحابها بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها ، فلا إشكال فيها كما مر (1).
ثم لا يخفى أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم ، إلا إذا اعترف بأنه على يقين فشك ، فيما صح هناك التعبد والتنزيل ودل عليه الدليل ، كما لا يصح أن يقنع به إلا مع اليقين والشك والدليل على التنزيل.
ومنه انقدح أنه لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى أصلا ، لا إلزاما للمسلم ، لعدم الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة ، واليقين بنسخ شريعته ، وإلا لم يكن بمسلم ، مع أنه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنه على يقين وشك ، ولا اقناعا مع الشك ، للزوم معرفة النبي بالنظر إلى حالاته ومعجزاته عقلا ، وعدم الدليل على التعبد بشريعته لا عقلا ولا شرعا ، والاتكال على قيامه في شريعتنا لا يكاد يجديه إلا على نحو محال ، ووجوب العمل بالاحتياط عقلا في حال
(1) في التنبيه السادس / ص 411.
كفاية الأصول ـ 424 ـ
عدم المعرفة بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم منه الاختلال ، للعلم بثبوت إحداهما على الاجمال ، إلا إذا علم بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال.
الثالث عشر : إنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العام ، لكنه ربما يقع الاشكال والكلام فيما إذا خصص في زمان في أن المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسك بالعام .
والتحقيق أن يقال : إن مفاد العام ، تارة يكون ـ بملاحظة الزمان ـ ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام ، وأخرى على نحو جعل كل يوم من الايام فردا لموضوع ذاك العام ، وكذلك مفاد مخصصه ، تارة يكون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه ، وأخرى على نحو يكون مفردا ومأخوذا في موضوعه .
فإن كان مفاد كل من العام والخاص على النحو الاول ، فلا محيص عن استصحاب حكم الخاص في غير مورد دلالته ، لعدم دلالة للعام على حكمه ، لعدم دخوله على حدة في موضوعه ، وانقطاع الاستمرار بالخاص الدال على ثبوت الحكم له في الزمان السابق ، من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللاحق ، فلا مجال إلا لاستصحابه.
نعم لو كان الخاص غير قاطع لحكمه ، كما إذا كان مخصصا له من الاول ، لما ضر به في غير مورد دلالته ، فيكون أول زمان استمراد حكمه بعد زمان دلالته ، فيصح التمسك ب ( أوفوا بالعقود ) (1) ولو خصص بخيار المجلس ونحوه ، ولا يصح التمسك به فيما إذا خصص بخيار لا في أوله ، فافهم .
وإن كان مفادهما على النحو الثاني ، فلا بد من التمسك بالعام بلا كلام ،
(1) سورة المائدة : الآية 1.
كفاية الأصول ـ 425 ـ
لكون موضوع الحكم بلحاظ هذا الزمان من أفراده ، فله الدلالة على حكمه ، والمفروض عدم دلالة الخاص على خلافه .
وإن كان مفاد العام على النحو الاول والخاص على النحو الثاني ، فلا مورد للاستصحاب ، فإنه وإن لم يكن هناك دلالة أصلا ، إلا أن انسحاب الحكم الخاص إلى غير مورد دلالته من إسراء حكم موضوع إلى آخر ، لا استصحاب حكم الموضوع ، ولا مجال أيضا للتمسك بالعام لما مر آنفا ، فلا بد من الرجوع إلى سائر الاصول.
وإن كان مفادهما على العكس كان المرجع هو العام ، للاقتصار في تخصيصه بمقدار دلالة الخاص ، ولكنه لولا دلالته لكان الاستصحاب مرجعا ، لما عرفت من أن الحكم في طرف الخاص قد أخذ على نحو صح استصحابه ، فتأمل تعرف أن اطلاق كلام (1) شيخنا العلامة ( أعلى الله مقامه ) في المقام نفيا وإثباتا في غير محله .
الرابع عشر : الظاهر أن الشك في أخبار الباب وكلمات الاصحاب هو خلاف اليقين ، فمع الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق يجري الاستصحاب ، ويدل عليه ـ مضافا إلى أنه كذلك لغة كما في الصحاح ، وتعارف استعماله فيه في الاخبار في غير باب ـ قوله عليه السلام في أخبار الباب : ( ولكن تنقصه بيقين آخر ) حيث أن ظاهره أنه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين وأنه ليس إلا اليقين ، وقوله أيضا : ( لا حتى يستيقن أنه قد نام ) بعد السؤال عنه عليه السلام عما ( إذا حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ) حيث دل بإطلاقه مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الامارة الظن ، وما إذا لم تفد ، بداهة أنها لو لم تكن مفيدة له دائما لكانت مفيدة له أحيانا ، على عموم النفي لصورة الافادة ، وقوله عليه السلام بعده : ( ولا تنقض اليقين بالشك ) أن الحكم في المغيى مطلقا هو عدم نقض اليقين بالشك ، كما لا