من الامر والنهي إلى متعلق الآخر ، لاتحاد متعلقيهما وجودا ، وعدم سرايته لتعددهما وجها ، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الاخرى ، فإن البحث فيها في أن النهي في العبادة [ أو المعاملة ] (1) يوجب فسادها ، بعد الفراغ عن التوجه إليها .
  نعم لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع ، يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة .
  فانقدح أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح .
  وأما ما أفاده في الفصول (2) ، من الفرق بما هذه عبارته :
  ( ثم اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم ، وهو أن الامر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا ؟ أما في المعاملات فظاهر ، وأما في العبادات ، فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الامر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ، وإن كان بينهما عموم مطلق ، وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد ، بأن تعلق الامر بالمطلق ، والنهي بالمقيد ) انتهى موضع الحاجة ، فاسد ، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات ، لا يوجب التمايز بين المسائل ، ما لم يكن هناك اختلاف الجهات ، ومعه لا حاجة أصلا إلى تعددها ، بل لابد من عقد مسألتين ، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها ، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس ، كما لا يخفى .
  ومن هنا انقدح أيضا فساد الفرق ، بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا ، وهناك في دلالة النهي لفظا ، فإن مجرد ذلك لو لم يكن تعدد الجهة في البين ، لا يوجب إلا تفصيلا في المسألة الواحدة ، لا عقد مسألتين ، هذا مع

(1) أثبتناها من ( ب ).
(2) الفصول / 140 ، فصل في دلالة النهي على فساد المنهي عنه.

كفاية الأصول ـ 152 ـ
  عدم اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ ، كما سيظهر.
  الثالث : إنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط ، كانت المسألة من المسائل الاصولية ، لا من مبادئها الاحكامية ، ولا التصديقية ، ولا من المسائل الكلامية ، ولا من المسائل الفرعية ، وإن كانت فيها جهاتها ، كما لا يخفى ، ضرورة أن مجرد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى ، يمكن عقدها معها من المسائل ، إذ لا مجال حينئذ لتوهم عقدها من غيرها في الاصول ، وإن عقدت كلامية في الكلام ، وصح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام ، وقد عرفت في أول الكتاب (1) أنه لا ضير في كون مسألة واحدة ، يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين ، لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة ، كانت بإحداهما من مسائل علم ، وبالاخرى من آخر ، فتذكر .
  الرابع : إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه ، أن المسألة عقلية ، ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الايجاب والتحريم باللفظ ، كما ربما يوهمه التعبير بالامر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول ، إلا أنه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما ، كما هو أوضح من أن يخفى ، وذهاب البعض (2) إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ، ليس بمعنى دلالة اللفظ ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنين ، وأنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين ، وإلا فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي ، غاية الامر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع ، فتدبر جيدا .
  الخامس : لا يخفى أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعم جميع أقسام الايجاب والتحريم ، كما هو قضية إطلاق لفظ الامر والنهي ،

(1) في الامر الاول من مقدمة الكتاب / 7.
(2) الاردبيلي في شرح الارشاد 2 / 110.

كفاية الأصول ـ 153 ـ
  ودعوى الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما ، غير خالية عن الاعتساف ، وإن سلم في صيغتهما ، مع أنه فيها ممنوع (1).
  نعم لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الاطلاق ، بمقدمات الحكمة الغير الجارية في المقام ، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الاقسام ، وكذا ما وقع في البين من النقض والابرام ، مثلا إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما ، وكذلك نهى عن التصرف في الدار والمجالسة مع الاغيار ، فصلى فيها مع مجالستهم ، كان حال الصلاة فيها حالها ، كما إذا أمر بها تعيينا (2) ، ونهى عن التصرف فيها كذلك في جريان النزاع في الجواز والامتناع ، ومجيء أدلة الطرفين ، وما وقع من النقض والابرام في البين ، فتفطن.
  السادس : إنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال ، بل ربما قيل : بأن الاطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح ، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.
  ولكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها في ما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال ، وهو اجتماع الحكمين المتضادين ، وعدم الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدين ، أو عدم لزومه ، وأن تعدد الوجه يجدي في رفعها ، ولا يتفاوت في ذلك أصلا وجود المندوحة وعدمها ، ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.
  نعم لابد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا ، لمن يرى التكليف بالمحال محذورا ومحالا ، كما ربما لابد من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضا.
  وبالجملة لا وجه لاعتبارها ، إلا لاجل اعتبار القدرة على الامتثال ، وعدم

(1) في ( ب ) : ممنوعة.
(2) في ( ب ) : تعينا.

كفاية الأصول ـ 154 ـ
  لزوم التكليف بالمحال ، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال ، فافهم واغتنم.
  السابع : إنه ربما يتوهم تارة أن النزاع في الجواز والامتناع ، يبتني على القول بتعلق الاحكام بالطبائع ، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالافراد فلا يكاد يخفى ، ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي ، ولو كان ذا وجهين على هذا القول.
  وأخرى أن القول بالجواز مبني على القول بالطبائع ، لتعدد متعلق الامر والنهي ذاتا عليه ، وإن اتحد وجودا ، والقول بالامتناع على القول بالافراد ، لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا ، وكونه فردا واحدا.
  وأنت خبير بفساد كلا التوهمين ، فإن تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود والايجاد ، لكان يجدي ولو على القول بالافراد ، فإن الموجود الخارجي الموجه بوجهين ، يكون فردا لكل من الطبيعتين ، فيكون مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد ، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين ، لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكل من الطبيعتين ، وإلا لما كان يجدي أصلا ، حتى على القول بالطبائع ، كما لا يخفى ، لوحدة الطبيعتين وجودا واتحادهما خارجا ، فكما أن وحدة الصلاتية والغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر بتعددهما وكونها طبيعتين ، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا غير ضائر بكونه فردا للصلاة ، فيكون مأمورا به ، وفردا للغصب فيكون منهيا عنه ، فهو على وحدته وجودا يكون اثنين ، لكونه مصداقا للطبيعتين ، فلا تغفل.
  الثامن : إنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع ، إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا ، حتى في مورد

كفاية الأصول ـ 155 ـ
  التصادق والاجتماع ، كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين ، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى ، كما يأتي تفصيله (1) .
  وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك ، فلا يكون من هذا الباب ، ولا يكون مورد الاجتماع محكوما إلا بحكم واحد منها ، إذا كان له مناطه ، أو حكم آخر غيرهما ، فيما لم يكن لواحد منهما ، قيل بالجواز والامتناع ، هذا بحسب مقام الثبوت .
  وأما بحسب مقام الدلالة والاثبات ، فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان ، إذا احرز أن المناط من قبيل الثاني ، فلابد من حمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح والتخيير ، وإلا فلا تعارض في البين ، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين ، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا ، لكونه أقوى مناطا ، فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا ، بل لابد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات ، كما يأتي الاشارة (2) إليها .
  نعم لو كان كل منها متكفلا للحكم الفعلي ، لوقع بينهما التعارض ، فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة ، لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة ، فتفطن .
  التاسع : إنه قد عرفت أن المعتبر في هذا الباب ، أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها ، مشتملة على مناط الحكم مطلقا ، حتى في حال الاجتماع ، فلو كان هناك ما دل على ذلك من اجماع أو غيره فلا إشكال ، ولو لم يكن إلا اطلاق دليلي الحكمين ، ففيه تفصيل وهو :
  إن الاطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي ، لكان دليلا على ثبوت

(1 و 2) راجع التنبيه الثاني من تنبيهات اجتماع الامر والنهي ، ص 174 .

كفاية الأصول ـ 156 ـ
  المقتضي والمناط في مورد الاجتماع ، فيكون من هذا الباب ، ولو كان بصدد الحكم الفعلي ، فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز ، إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين ، وأما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان ، من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا ، فإن انتفاء أحد المتنافيين ، كما يمكن أن يكون لاجل المانع مع ثبوت المقتضي له ، يمكن أن يكون لاجل انتفائه ، إلا أن يقال : إن قضية التوفيق بينهما ، هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي ، لو لم يكن أحدهما أظهر ، وإلا فخصوص الظاهر منهما.
  فتلخص أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين ، كان من مسألة الاجتماع ، وكلما لم تكن هناك دلالة عليه ، فهو من باب التعارض مطلقا ، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز ، وإلا فعلى الامتناع.
  العاشر (1) : إنه لا إشكال في سقوط الامر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا ، ولو في العبادات ، وإن كان معصية للنهي أيضا ، وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الامر ، إلا أنه لا معصية عليه ، وأما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الامر به مطلقا في غير العبادات ، لحصول الغرض الموجب له ، وأما فيها فلا ، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا ، فإنه وإن كان متمكنا ـ مع عدم الالتفات ـ من قصد القربة ، وقد قصدها ، إلا أنه مع التقصير لا يصلح لان يتقرب به أصلا ، فلا يقع مقربا ، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للامر به عبادة ، كما لا يخفى ، وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا ، وقد قصد القربة بإتيانه ، فالامر

(1) من هنا إلى ص 184 عند قوله ( ضرورة أنه لو لا جلعه ) سقط من نسخة ( أ ) المعتمدة عندنا.

كفاية الأصول ـ 157 ـ
  يسقط ، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به ، لاشتماله على المصلحة ، مع صدوره حسنا لاجل الجهل بحرمته قصورا ، فيحصل به الغرض من الامر ، فيسقط به قطعا ، وإن لم يكن امتثالا له بناء على تبعية الاحكام لما هو الاقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا ، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح ، لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محله .
  مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك ، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه وبين سائر الافراد في الوفاء بغرض (1) الطبيعة المأمور بها ، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها ، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
  ومن هنا انقدح أنه يجزي ، ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة ، وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية ، كما يكون كذلك في ضد الواجب ، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا .
  وبالجملة مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا أو حكما ، يكون الاتيان بالمجمع امتثالا ، وبداعي الامر بالطبيعة لا محالة ، غاية الامر أنه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها ، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للاحكام الواقعية ، وأما لو قيل بعدم التزاحم إلا في مقام فعلية الاحكام ، لكان مما تسعه وامتثالا لامرها بلا كلام .
  وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين ، وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا ، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا ، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع ، وقيل بالامتناع ، وتقديم جانب الحرمة ، حيث يقع صحيحا في غير مورد من موارد الجهل والنسيان ، لموافقته للغرض بل للامر ، ومن هنا علم أن

(1) في ( ب ) : لغرض ، وما أثبتناه من النسخ المطبوعة هو الاصح.

كفاية الأصول ـ 158 ـ
  الثواب عليه من قبيل الثواب على الاطاعة ، لا الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة.
  وقد ظهر بما ذكرناه ، وجه حكم الاصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ، مع النسيان أو الجهل بالموضوع ، بل أو الحكم إذا كان عن قصور ، مع أن الجل لو لا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة ، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر ، فلتكن من ذلك على ذكر.
  إذا عرفت هذه الامور ، فالحق هو القول بالامتناع ، كما ذهب إليه المشهور ، وتحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل ، أو يمكن أن يقال ، من وجوه الاستدلال لسائر الاقوال ، يتوقف على تمهيد مقدمات :
  إحداها : إنه لاريب في أن الاحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها ، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان ، وإن لم يكن بينها مضادة ما لم يبلغ إلى تلك المرتبة ، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل البلوغ إليها ، كما لا يخفى ، فاستحالة اجتماع الامر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال ، بل من جهة أنه بنفسه محال ، فلا يجوز عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضا.
  ثانيتها : إنه لا شبهة في أن متعلق الاحكام ، هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه ، وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه ، بحيث لو لا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا ، لا كان بحذائه شيء خارجا ويكون خارج المحمول ، كالملكية والزوجية والرقية والحرية والمغصوبية (1) ، إلى غير ذلك من الاعتبارات والاضافات ، ضرورة أن البعث ليس نحوه ، والزجر لا يكون عنه ، وإنما يؤخذ في متعلق الاحكام آلة للحاظ

(1) في ( ب ) : الغصبية.

كفاية الأصول ـ 159 ـ
  متعلقاتها ، والاشارة إليها ، بمقدار الغرض منها والحاجة إليها ، لا بما هو هو وبنفسه ، وعلى استقلاله وحياله.
  ثالثتها : إنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون ، ولا ينثلم به وحدته ، فإن المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد ، وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة ، بل بسيط من جمبع الجهات ، ليس فيه حيث غير حيث ، وجهة مغايرة لجهة أصلا ، كالواجب تبارك وتعالى ، فهو على بساطته ووحدته وأحديته ، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية ، له الاسماء الحسنى والامثال العليا ، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الاحد. عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير .
  رابعتها : إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد ، إلا ماهية واحدة وحقيقة فاردة ، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلا تلك الماهية ، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة ، وكانت عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده ، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية وذاتا لا محالة ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الامر والنهي ، إلا أنه كما يكون واحدا وجودا ، يكون واحدا ماهية وذاتا ، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.
  ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة ، على القولين في تلك المسألة ، كما توهم في الفصول (1) ، كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج ، وعدم تعدده ، ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له ، وإن مثل الحركة في دار من أي

(1) راجع الفصول / 125.

كفاية الأصول ـ 160 ـ
  مقولة كانت ، لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها ، وقعت جزءا للصلاة أو لا ، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا (1).
  إذا عرفت ما مهدناه ، عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا ، كان تعلق الامر والنهي به محالا ، ولو كان تعلقهما به بعنوانين ، لما عرفت من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه ، متعلقا للاحكام لا بعناوينه الطارئة عليه ، وأن غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الاحكام تتعلق بالطبائع لا الافراد (2) ، فإن غاية تقريبه أن يقال : إن الطبائع من حيث هي هي ، وإن كانت ليست إلا هي ، ولا تتعلق بها الاحكام الشرعية ، كالآثار العادية والعقلية ، إلا أنها مقيدة بالوجود ، بحيث كان القيد خارجا والتقيد داخلا ، صالحة لتعلق الاحكام بها ، ومتعلقا الامر والنهي على هذا لا يكونان متحدين أصلا ، لا في مقام تعلق البعث والزجر ، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الامر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.
  أما في المقام الاول ، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين فيما هو خارج عنهما ، بما هما كذلك .
  وأما في المقام الثاني ، فلسقوط أحدهما بالاطاعة ، والآخر بالعصيان بمجرد الاتيان ، ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد ؟
  وأنت خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت ، من أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا ولا ماهية ، ولا تنثلم به وحدته أصلا ، وأن المتعلق للاحكام هو المعنونات لا العنوانات ، وأنها إنما تؤخذ في المتعلقات بما

(1) وقد عرفت أن صدق العناوين المتعددة ، لا تكاد تنثلم به وحدة المعنون ـ لا ذاتا ولا وجودا ـ غايته أن تكون له خصوصية بها يستحق الاتصاف بها ، ومحدودا بحدود موجبة لانطباقها عليه ، كما لا يخفى ، وحدوده ومخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلا ، فتدبر جدا ( منه قدس سره ).
(2) كما في قوانين الاصول 1 / 140.

كفاية الأصول ـ 161 ـ
  هي حاكيات كالعبارات ، لا بما هي على حيالها واستقلالها.
  كما ظهر مما حققناه : أنه لا يكاد يجدي أيضا كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه ، وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار ، وذلك ـ مضافا إلى وضوح فساده ، وأن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج ، كيف ؟ والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود ، ولا تعدد كما هو واضح ـ أنه إنما يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهية ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد.
  ثم إنه قد استدل (1) على الجواز بأمور :
  منها (2) : إنه لو لم يجز اجتماع الامر والنهي ، لما وقع نظيره وقد وقع ، كما في العبادات المكروهة ، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمام والصيام في السفر وفي بعض الايام.
  بيان الملازمة : إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددهما ، لعدم اختصاصهما من بين الاحكام بما يوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادها بأسرها ، والتالي باطل ، لوقوع اجتماع الكراهة والايجاب أو الاستحباب ، في مثل الصلاة في الحمام ، والصيام في السفر ، وفي عاشوراء ولو في الحضر ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة أو الاستحباب ، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار.
  والجواب عنه أما إجمالا : فبأنه لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع ، بعد قيام الدليل على الامتناع ، ضرورة أن

(1) انظر قوانين الاصول 1 / 140.
(2) هذا هو الوجه الثاني الذي استدل له ، قوانين الاصول 1 / 142.

كفاية الأصول ـ 162 ـ
  الظهور لا يصادم البرهان ، مع أن قضية ظهور تلك الموارد ، اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك ، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين ، فهو أيضا لابد [ له ] من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة ، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا ، كما لا يخفى.
  وأما تفصيلا : فقد أجيب عنه بوجوه (1) ، يوجب ذكرها بما فيها من النقض والابرام طول الكلام بما لا يسعه المقام ، فالاولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الاشكال ، فيقال وعلى الله الاتكال : إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام :
  أحدها : ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ، ولا بدل له ، كصوم يوم عاشوراء (2) ، والنوافل المبتدئة في بعض الاوقات (3).
  ثانيها : ما تعلق به النهي كذلك ، ويكون له البدل ، كالنهي عن الصلاة في الحمام (4).
  ثالثها : ما تعلق النهي به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجودا ،

(1) راجع مطارح الانظار / 130 وما بعده.
(2) الكافي 4 / 146 ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الاحاديث 3 إلى 7 ـ وللمزيد راجع وسائل الشيعة ، 7 / 339 الباب 21 من أبواب الصوم المندوب.
(3) الكافي 3 / 288 باب التطوع في وقت الفريضة والساعات التي لا يصلى فيها ـ الاستبصار 1 / 277 باب وقت نوافل النهار ـ وللمزيد راجع وسائل الشيعة 3 / 170 ، الباب 38 من أبواب المواقيت.
(4) الكافي 3 / 390 الحديث 12 من باب الصلاة في الكعبة ... الخ.

كفاية الأصول ـ 163 ـ
  أو ملازم له خارجا ، كالصلاة في مواضع التهمة (1) ، بناء على كون النهي عنها لاجل اتحادها مع الكون في مواضعها .
  أما القسم الاول : فالنهي تنزيها عنه بعد الاجتماع على أنه يقع صحيحا ، ومع ذلك يكون تركه أرجح ، كما يظهر من مداومة الائمة عليهم السلام على الترك ، إما لاجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وإن كان مصلحة الترك أكثر ، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين ، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين ، وإلا فيتعين الاهم وإن كان الآخر يقع صحيحا ، حيث أنه كان راجحا وموافقا للغرض ، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وارجحية الترك من الفعل لا توجب (2) حزازة ومنقصة فيه أصلا ، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته ، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع ، فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به ، بخلاف المقام ، فإنه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض ،

(1) التهذيب 2 / 219 الحديث 71 من باب 11 ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان ... الخ، وللمزيد راجع وسائل الشيعة 3 / 466 الباب 34 من أبواب مكان المصلي.
(2) ربما يقال : إن أرجحية الترك ، وإن لم توجب منقصة وحزازة في الفعل أصلا ، إلا أنه توجب المنع منه فعلا ، والبعث إلى الترك قطعا ، كما لا يخفى ، ولذا كان ضد الواجب ـ بناء على كونه مقدمة له ـ حراما ، ويفسد لو كان عبادة ، مع أنه لا حزازة في فعله ، وإنما كان النهي عنه وطلب تركه لما فيه من المقدمية له ، وهو على ما هو عليه من المصلحة ، فالمنع عنه لذلك كاف في فساده لو كان عبادة ، قلت : يمكن أن يقال : إن لنهي التحريمي لذلك وإن كان كافيا في ذلك بلا إشكال ، إلا أن التنزيهي غير كاف ، إلا إذا كان عن حزازة فيه ، وذلك لبداهة عدم قابلية الفعل للتقرب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخيصه في ارتكابه ، بخلاف التنزيهي عنه إذا كان لا لحزازة فيه ، بل لما في الترك من المصلحة الراجحة ، حيث أنه معه مرخوص فيه ، وهو على ما هو عليه من الرجحان والمحبوبية له تعالى ، ولذلك لم تفسد العبادة إذا كانت ضد المستحبة أهم اتفاقا ، فتأمل ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 164 ـ
  كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا.
  وإما لاجل ملازمة الترك لعنوان كذلك ، من دون انطباقه عليه ، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت ، إلا في أن الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي ، بل بالعرض والمجاز ، فإنما يكون في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة ، كما في سائر المكروهات من غير فرق ، إلا أن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل ، وفيه رجحان في الترك ، من دون حزازة في الفعل أصلا ، غاية الامر كون الترك أرجح .
  نعم يمكن أن يحمل النهي ـ في كلا القسمين ـ على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل ، أو ملازم لما هو الارجح وأكثر ثوابا لذلك ، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة ، لا بالعرض والمجاز ، فلا تغفل .
  وأما القسم الثاني : فالنهي فيه يمكن أن يكون لاجل ما ذكر في القسم الاول ، طابق النعل بالنعل ، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها ، لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها ، كما في الصلاة في الحمام ، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فيه ، لا يناسب كونها معراجا ، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه ولا حزازة فيه أصلا ، بل كان راجحا ، كما لا يخفى .
  وربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والامكنة الشريفة ، وذلك لان الطبيعة المأمور بها في حد نفسها ، إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة ، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزية ، كالصلاة في الدار مثلا ، وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بماله شدة الملاءمة ، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة ، ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى ، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد ، ويكون أكثر ثوابا منه ، وليكن

كفاية الأصول ـ 165 ـ
  هذا مراد من قال : إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا ، ولا يرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الاخرى بالكراهة ، ولزوم اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب ، لانه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة ، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا ، إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها ، ولا منقصة من المشخصات ، وكذا كونه أكثر ثوابا.
  ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح إلا للارشاد ، بخلاف القسم الاول ، فإنه يكون فيه مولويا ، وإن كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان.
  وأما القسم الثالث : فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز ، وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان ، ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها من سائر الافراد ، مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له ، إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة ، بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا ، هذا على القول بجواز الاجتماع.
  وأما على الامتناع ، فكذلك في صورة الملازمة ، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الامر ـ كما هو المفروض ، حيث أنه صحة العبادة ـ فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني ، فيحمل على ما حمل عليه فيه ، طابق النعل بالنعل ، حيث أنه بالدقة يرجع إليه ، إذا على الامتناع ، ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملاءمة كما عرفت.
  وقد انقدح بما ذكرناه ، أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الاول مطلقا ، وفي هذا القسم على القول بالجواز ، كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها ، وأن الامر الاستحبابي يكون على نحو

كفاية الأصول ـ 166 ـ
  الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا على نحو الحقيقة ، ومولويا اقتضائيا كذلك ، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب ، أو متحدا (1) معه على القول بالجواز .
  ولا يخفى أنه لا يكاد يأتي القسم الاول هاهنا ، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد إيجابه ، لا أنه يوجب استحبابه أصلا ، ولو بالعرض والمجاز ، إلا على القول بالجواز ، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان ، فإنه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائيا بالعرض والمجاز ، فتفطن.
  ومنها : إن أهل العرف يعدون من اتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم ، مطيعا وعاصيا من وجهين (2) ، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص ، كما مثل به الحاجبي (3) والعضدي (4) ، فلو خاطه في ذاك المكان ، عد مطيعا لامر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان .
  وفيه ـ مضافا إلى المناقشة في المثال ، بأنه ليس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجودا أصلا ، كما لا يخفى ـ

(1) في ( ب ) : متحدة.
(2) دليل آخر للمجوزين ، قوانين الاصول 1 / 148.
(3 و 4) انظر شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 92 ، 93. مسألة استحالة كون الشيء واجبا حراما من جهة واحدة.
ابن الحاجب ابو عمرو عثمان بن عمر بن ابي بكر المالكي ، تولد سنة 570 ه‍ باسناد كان ابوه جنديا ، اشتغل ابنه في صغره بالقاهرة ، وحفظ القرآن المجيد ، واخذ بعض القراءات عن الشاطبي وسمع من البوصيري وجماعة ، لزم الاشتغال حتى برع في الاصول والعربية ، ثم قدم دمشق ودرس بجامعها ، كان الاغلب عليه النحو ، وصنف في عدة علوم ، له كتاب ( الكافية ) في النحو و ( الشافية ) في الصرف و ( مختصر الاصول ) ثم انتقل إلى الاسكندرية ، مات بها سنة 646 ه‍. ( الكنى والالقاب 1 / 244 ).

كفاية الأصول ـ 167 ـ
  المنع إلا عن صدق أحدهما ، إما الاطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الامر ، أو العصيان فيما غلب جانب النهي ، لما عرفت من البرهان على الامتناع.
  نعم لا بأس بصدق الاطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات ، وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها ، إلا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه ، كما تقدم (1) .
  بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الاعلام (2) ، والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا.
  وفيه : إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع ، إلا طريق العقل ، فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما أشرنا إليه من النظر المسامحي الغير المبتني على التدقيق والتحقيق ، وأنت خبير بعدم العبرة به ، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق ، وقد عرفت فيما تقدم (3) أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الامر والنهي ، بل في الاعم ، فلا مجال لان يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل ، ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه (4) تناف ، لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين ، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين ، فتدبر .
  وينبغي التنبيه على أمور :
  الاول : إن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام ، وإن كان يوجب ارتفاع حرمته ، والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه ـ لو كان ـ مؤثرا له ، كما إذا لم يكن

(1) في الامر العاشر / 156.
(2) المحقق الاردبيلي في شرح الارشاد 2 : 110 ، وقد ينسب ذلك إلى صاحب الرياض ( قده ) أيضا وكأنه مسموع منه شفاها ، على حد تعبير صاحب مطارح الانظار / 129.
(3) في الامر الرابع / 152.
(4) في ( ب ) تعينه.

كفاية الأصول ـ 168 ـ
  بحرام بلا كلام ، إلا أنه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة ، فإن الخطاب بالزجر عنه حينئذ ، وإن كان ساقطا ، إلا أنه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب ، لا يصلح لان يتعلق بها الايجاب ، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب.
  وإنما الاشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره ، مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام ، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار في كونه منهيا عنه ، أو مأمورا به ، مع جريان حكم المعصية عليه ، أو بدونه ، فيه أقوال ، هذا على الامتناع.
  وأما على القول بالجواز ، فعن أبي هاشم (1) أنه مأمور به ومنهي عنه ، واختاره الفاضل القمي (2) ، ناسبا له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء.
  والحق أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان له بسوء الاختيار ، ولا يكاد يكون مأمورا به ، كما إذا لم يكن هناك توقف (3) عليه ، أو بلا انحصار به ، وذلك ضرورة أنه حيث كان قادرا على ترك

(1) راجع شرح مختصر الاصول / 94.
هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، ولد عام 247 ه‍ من أبناء ابان مولى عثمان ، عالم بالكلام ، من كبار المعتزلة ، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت ( البهشمية ) نسبة إلى كنيته أبي هاشم وله مصنفات منها : ( الشامل ) في الفقه و ( تذكرة العالم ) و ( العدة ) في الاصول مات سنة 321 ه‍. ( الاعلام للزركلي 4 / 7 ).
(2) قوانين الاصول 1 / 153 ، في التنبيه الثاني ، من قانون دلالة النهي على الفساد.
(3) لا يخفى إنه لا توقف ها هنا حقيقة ، بداهة أن الخروج إنما هو مقدمة للكون في خارج الدار ، لا مقدمة لترك الكون فيها الواجب ، لكونه ترك الحرام ، نعم بينهما ملازمة لاجل التضاد بين الكونين ، ووضوح الملازمة بين وجود الشيء وعدم ضده ، فيجب الكون في خارج الدار عرضا ، لوجوب ملازمه حقيقة ، فيجب مقدمته كذلك ، وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أن مثل الخروج يكون مقدمة لما هو الواجب من ترك الحرام ، فافهم. ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 169 ـ
  الحرام رأسا ، لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره ، ويكون معاقبا عليه ، كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه ، أو مع عدم الانحصار به ، ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به ، لكونه بسوء الاختيار.
  إن قلت : كيف لا يجديه ، ومقدمة الواجب واجبة ؟
  قلت : إنما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة ، ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية.
  وإطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها ، إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة ، والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلا أنه كان بسوء الاختيار ، ومعه لا يتغير عما هو علهى من الحرمة والمبغوضية ، وإلا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره ، وعدم حرمته مع اختياره له ، وهو كما ترى ، مع أنه خلاف الفرض ، وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار.
  إن قلت (1) : إن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام ، بلا إشكال ولا كلام ، وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم ، ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام ، فهو ليس بحرام في حال من الحالات ، بل حاله حال مثل شرب الخمر ، المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الاوقات.

(1) إشارة إلى مختار الشيخ ( قده ) مطارح الانظار / 155 ، الهداية 6 من القول في جواز اجتماع الامر والنهي.

كفاية الأصول ـ 170 ـ
  ومنه ظهر المنع عن كون جميع انحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول ، وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج ، وذلك لانه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه ، وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلا ترك الدخول ، فمن لم يشرب الخمر ، لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلا ، لم يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة ، لا أنه ما شرب الخمر فيها ، إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، كما لا يخفى .
  وبالجملة لا يكون الخروج ـ بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو سببا له ـ إلا مطلوبا ، ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية ، ويحكم عليه بغير المطلوبية.
  قلت : هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأمورا به ، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، على ما في تقريرات بعض الاجلة (1) ، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب ، إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل ، وإن كان قبيحا ذاتا إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه ، ولم يقع بسوء اختياره ، إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام ، وإما في الاقدام على ما هو قبيح وحرام ، لولا [ أن ] (2) به التخلص بلا كلام كما هو المفروض في المقام ، ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره .
  وبالجملة كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا ، كما يتمكن منه دخولا ، غاية الامر يتمكن منه بلا واسطة ، ومنه بالواسطة ، ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا ، كما هو الحال في البقاء ، فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الاوقات ، فكذلك الخروج ، مع أنه مثله في

(1) مطارح الانظار 155. الهداية 6 ، من القول في جواز اجتماع الامر والنهي.
(2) اثبتناها من بعض النسخ المطبوعة.

كفاية الأصول ـ 171 ـ
  الفرعية على الدخول ، فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده ، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته ، وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين.
  ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة ، وأنه إنما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة ، وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه ، لكون الغرض فيه أعظم ، [ ف ] (1) من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى هلاك النفس ، أو شرب الخمر ، لئلا يقع في أشد المحذورين منهما ، فيصدق أنه تركهما ، ولو بتركه ما لو فعله لادي لا محالة إلى أحدهما ، كسائر الافعال التوليدية ، حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى اسبابها ، واختيار تركها بعدم العمد إلى الاسباب ، وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج ، وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو أكثر عقوبة .
  ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك ، ولو على نحو هذه السالبة ، ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة ، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة ، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلص بالخروج ، أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما (2) ، لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج .
  إن قلت : كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا ؟ مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه ، و [ وضوح ] (3) سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ، ولو كان بسوء الاختيار ، والعقل قد استقل بان

(1) أثبتناه من بعض النسخ المطبوعة.
(2) في ( ب ) : فيها.
(3) أثبتناها من هامش ( ب ) المصححة.

كفاية الأصول ـ 172 ـ
  الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا ، قلت : أولا : إنما كان الممنوع كالممتنع ، إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين ، وقد عرفت لزومه بحكمه ، فإنه مع لزوم الاتيان بالمقدمة عقلا ، لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه ، فإنه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع ، كما إذا كانت المقدمة ممتنعة.
  وثانيا : لو سلم ، فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والايجاب لا لزوم إتيانه عقلا ، خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا ، ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الاشد ونقض الغرض الاهم ، حيث أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية ، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا ، وإنما كان سقوط الخطاب لاجل المانع ، وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والايجاب له فعلا ، فتدبر جيدا.
  وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به ، مع إجراء حكم المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق ، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة ، ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والايجاب ، قبل الدخول وبعده ، كما في الفصول (1) ، مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما ، وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما ، وهذا أوضح من أن يخفى ، كيف ؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول ، عصيانا للنهي السابق ، وإطاعة للامر اللاحق فعلا ، ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد ، وهذا مما لا يرضى به القائل بالجواز ، فضلا عن القائل بالامتناع.
  كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة ، كون النهي مطلقا وعلى كل حال ، وكون الامر مشروطا بالدخول ، ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك ، مع وجوبه

(1) الفصول / 138 ، الفصل الرابع من فصول النهي.

كفاية الأصول ـ 173 ـ
  في بعض الاحوال ، وأما القول (1) بكونه مأمورا به ومنهيا عنه ، ففيه ـ مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين ، فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام ، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص ، وكان بغير إذن المالك ، وليس التخلص إلا منتزعا عن ترك الحرام المسبب (2) عن الخروج ، لا عنوانا له ـ أن الاجتماع ها هنا لو سلم أنه لا يكون بمحال ، لتعدد العنوان ، وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد ، كان محالا لاجل كونه طلب المحال ، حيث لا مندوحة هنا ، وذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع ، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار ، وما قيل أن الامتناع أو الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، إنما هو في قبال استدلال الاشاعرة للقول بأن الافعال غير اختيارية ، بقضية أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
  فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول ، بأن الامر بالتخلص والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للتقييد عقلا ، لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين ، إذ منشأ الاستحالة : إما لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم ، مع تعدد الجهة ، وإما لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار ، وذلك لما عرفت من

(1) راجع قوانين الاصول 1 / 140 ، قانون اجتماع الامر والنهي.
(2) قد عرفت ـ مما علقت على الهامش ـ أن ترك الحرام غير مسبب عن الخروج حقيقة ، وإنما المسبب عنه إنما هو الملازم له ، وهو الكون في خارج الدار ، نعم يكون مسببا عنه مسامحة وعرضا ، وقد انقدح بذلك أنه لا دليل في البين الا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج ، من باب أنه أقل المحذورين وأنه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر ، فحينئذ يجب إعماله أيضا ، بناء على القول بجواز الاجتماع كاحتمال [ كإعمال ] النهي عن الغصب ، ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، فافهم ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 174 ـ
  ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كانا بعنوانين ، وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة ، مع عدم تعددها هاهنا ، والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال ، نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الايجاب.
  ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع ، وأما على القول بالامتناع ، فكذلك ، مع الاضطرار إلى الغصب ، لا بسوء الاختيار أو معه ولكنها وقعت في حال الخروج ، على القول بكونه مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية (1) عليه ، أو مع غلبة ملاك الامر على النهي مع ضيق الوقت ، أما مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن الضد واقتضائه ، فإن الصلاة في الدار المغصوبة ، وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة ، إلا أنه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها تضادها ، بناء على أنه لا يبقي مجال مع إحداهما للاخرى ، مع كونها أهم منها ، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب ، لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه ، فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة ، وإن لم تكن مأمورا بها.
  الامر الثاني : قد مر (2) ـ في بعض المقدمات ـ أنه لا تعارض بين مثل خطاب ( صل ) وخطاب ( لا تغصب ) على الامتناع ، تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان ، كي يقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا ، بل إنما هو من باب

(1) اختاره الشيخ ( قده ) ، مطارح الانظار / 153 ، وابن الحاجب ، راجع شرح مختصر الاصول 94.
(2) في الامر التاسع من المقصد الثاني في النواهي / 155.

كفاية الأصول ـ 175 ـ
  تزاحم المؤثرين والمقتضيين ، فيقدم الغالب منهما ، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه ، هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما ، وإلا كان بين الخطابين تعارض ، فيقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا ، وبطريق الان يحرز به أن مدلوله أقوى مقتضيا ، هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي ، وإلا فلا بد من الاخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان ، وإلا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الاصول العملية .
  ثم لا يخفى (1) أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا ، كما هو قضية التقييد والتخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين ، بل قضيته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا ، وذلك لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها ، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها ، لاضطرار أو جهل أو نسيان ، كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا ، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى ، أو لم يكن واحد من الدليلين دالا على الفعلية أصلا .
  فانقدح بذلك فساد الاشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما ، فيما إذا قدم خطاب ( لا تغصب ) كما هو الحال فيما إذا كان الخطابان من أول الامر متعارضين ، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا ، وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب كما إذا لم يقع بينهما تعارض ، ولم يكونا متكلفين للحكم الفعلي ، فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلا المختص بما إذا لم يمنع عن

(1) هذا رد على الشيخ ( قدس سره ) ، مطارح الانظار / 152.