يخفى ، وقد استدل عليه أيضا بوجهين آخرين :
  الاول (1) : الاجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف على تقدير اعتباره من باب الاخبار.
  وفيه : إنه لا وجه لدعواه ولو سلم اتفاق الاصحاب على الاعتبار ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الاخبار عليه.
  الثاني (2) : إن الظن الغير المعتبر ، إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه أن وجوده كعدمه عند الشارع ، وأن كلما يترتب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده ، وإن كان مما شك في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك ، فتأمل جيدا .
  وفيه : إن قضية عدم اعتباره لالغائه أو لعدم الدليل على اعتباره لا يكاد يكون إلا عدم إثبات مظنونه به تعبدا ، ليترتب عليه آثاره شرعا ، لا ترتيب آثار الشك مع عدمه ، بل لابد حينئذ في تعيين أن الوظيفة أي أصل من الاصول العملية من الدليل ، فلو فرض عدم دلالة الاخبار معه على اعتبار الاستصحاب فلابد من الانتهاء إلى سائر الاصول بلا شبهة ولا ارتياب ، ولعله أشير إليه بالامر بالتأمل (3) ، فتأمل جيدا .
  تتمة : لا يذهب عليك أنه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع ، وعدم

(1) هذا هو الوجه الاول في استدلال الشيخ ( ره ) على تعميم الشك ، في الامر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الاصول / 389.
(2) هذا هو الوجه الثالث في استدلال الشيخ ( ره ) على تعميم الشك ، في الامر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الاصول / 398.
(3) راجع فرائد الاصول ، الامر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب / 389.

كفاية الأصول ـ 427 ـ
  أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه ، فها هنا مقامان :
  المقام الاول : إنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا ، كاتحادهما حكما ، ضرورة أنه بدونه لا يكون الشك في البقاء بل في الحدوث ، ولارفع اليد عن اليقين في محل الشك نقض اليقين بالشك ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان ، والاستدلال (1) عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقومه بالموضوع وتشخصه به غريب ، بداهة أن استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبدا ، والالتزام بآثاره شرعا .
  وأما بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجا ، فلا يعتبر قطعا في جريانه لتحقق أركانه بدونه ، نعم ربما يكون مما لابد منه في ترتيب بعض الآثار ، ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده ، وإن كان محتاجا إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الانفاق عليه.
  وإنما الاشكال كله في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف ؟ أو بحسب دليل الحكم ؟ أو بنظر العقل ؟ فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الاحكام ، لقيام احتمال تغير الموضوع في كل مقام شك في الحكم بزوال بعض خصوصيات موضوعه ، لاحتمال دخله فيه ، ويختص بالموضوعات ، بداهة أنه إذا شك في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين منه حقيقة بخلاف ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، ضرورة أن انتفاء بعض الخصوصيات وإن كان موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال دخله في موضوعه ، إلا أنه ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوماته .
  كما أنه ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا ، مثلا

(1) استدل به الشيخ ( ره ) في خاتمة الاستصحاب ، في شروط جريان الاستصحاب ، فرائد الاصول / 400.

كفاية الأصول ـ 428 ـ
  إذا ورد ( العنب إذا غلى يحرم ) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفا هو خصوص العنب ، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه ، يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب ، كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان محكوما به كان من بقائه ، ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيلوه من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عما هو ظاهر فيه .
  ولا يخفى أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فيكون نقضا بلحاظ موضوع ، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر ، فلابد في تعيين أن المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره ، من بيان أن خطاب ( لا تنقض ) قد سيق بأي لحاظ .
  فالتحقيق أن يقال : إن قضية إطلاق خطاب ( لا تنقض ) هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي ، لانه المنساق من الاطلاق في المحاورات العرفية ومنها الخطابات الشرعية ، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم ، لا محيص عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف ، وإن لم يحرز بحسب العقل أو لم يساعده النقل ، فيستصحب مثلا ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين عرفا ، ولا يستصحب فيما لا اتحاد كذلك وإن كان هناك اتحاد عقلا ، كما مرت الاشارة إليه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي (1) ، فراجع .
  المقام الثاني : إنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الامارة المعتبرة

(1) في نهاية التنبيه الثالث / ص 406.

كفاية الأصول ـ 429 ـ
  في مورد ، وإنما الكلام في أنه للورود أو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه .
  والتحقيق أنه للورود ، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين ، وعدم رفع اليد عنه مع الامارة على وفقه ليس لاجل أن لا يلزم نقضه به ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة .
  لا يقال : نعم ، هذا لو أخذ بدليل الامارة في مورده ، ولكنه لم لا يؤخذ بدليله ويلزم الاخذ بدليلها ؟
  فإنه يقال : ذلك إنما هو لاجل أنه لا محذور في الاخذ بدليلها بخلاف الاخذ بدليله ، فإنه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص إلا على وجه دائر ، إذ التخصيص به يتوقف على اعتباره معها ، واعتباره كذلك يتوقف على التخصيص به ، إذ لولاه لا مورد له معها ، كما عرفت آنفا.
  وأما حديث الحكومة (1) فلا أصل له أصلا ، فإنه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل ، وإن كان دالا على إلغائه معها ثبوتا وواقعا ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أن قضية دليله إلغائها كذلك ، فإن كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة ، هذا مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة ، فافهم فإن المقام لا يخلو من دقة.
  وأما التوفيق ، فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ، لما عرفت من أنه لا يكون مع الاخذ به نقض يقين بشك ، لا أنه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك .

(1) القائل بها هو الشيخ الاعظم ( ره ) ، راجع فرائد الاصول ، في خاتمة الاستصحاب ، الشرط الثالث في جريان الاستصحاب / 407.

كفاية الأصول ـ 430 ـ
خاتمة   لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول العملية ، وبيان التعارض بين الاستصحابين.
  أما الاول : فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الامارة وبينه ، فيقدم عليها ولا مورد معه لها ، للزوم محذور التخصيص إلا بوجه دائر في العكس وعدم محذور فيه أصلا ، هذا في النقلية منها .
  وأما العقلية فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها ، بداهة عدم الموضوع معه لها ، ضرورة أنه إتمام حجة وبيان ومؤمن من العقوبة وبه الامان ، ولا شبهة في أن الترجيح به عقلا صحيح .
  وأما الثاني : فالتعارض بين الاستصحابين ، إن إن لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضاد في زمان الاستصحاب ، فهو من باب تزاحم (1) الواجبين.

(1) فيتخير بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهم ، وإلا فيتعين الاخذ بالاهم ، ولا مجال لتوهم أنه لا يكاد يكون هناك أهم ، لاجل أن إيجابهما إنما يكون من باب واحد وهو استصحابهما من دون مزية في أحدهما أصلا ، كما لا يخفى ، وذلك لان الاستصحاب إنما يثبت المستصحب ، فكما يثبت به الوجوب والاستحباب ، يثبت به كل مرتبة منهما ، فيستصحب ، فلا تغفل ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 331 ـ
  وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، فتارة يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر ، فيكون الشك فيه مسببا عن الشك فيه ، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة وقد كان طاهرا ، وأخرى لا يكون كذلك .
  فإن كان أحدهما أثرا للآخر ، فلا مورد إلا للاستصحاب في طرف السبب ، فإن الاستصحاب في طرف المسبب موجب لتخصيص الخطاب ، وجواز نقض اليقين بالشك في طرف السبب بعدم ترتيب أثره الشرعي ، فإن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته ، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته ، بخلاف استصحاب طهارته ، إذ لا يلزم منه نقض يقين بنجاسة الثوب بالشك ، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته ، وهو غسله بالماء المحكوم شرعا بطهارته .
  وبالجملة فكل من السبب والمسبب وإن كان موردا للاستصحاب ، إلا أن الاستصحاب في الاول بلا محذور (1) ، بخلافه في الثاني ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلا بنحو محال ، فاللازم الاخذ بالاستصحاب السببي ، نعم لو لم يجر هذا

(1) وسر ذلك أن رفع اليد عن اليقين في مورد السبب يكون فردا لخطاب : لا تنقض اليقين ، ونقضا لليقين بالشك مطلقا بلا شك ، بخلاف رفع اليد عن اليقين في مورد المسبب ، فإنه إنما يكون فردا له إذا لم يكن حكم حرمة النقض يعم النقض في مورد السبب ، وإلا لم يكن بفرد له ، إذ حينئذ يكون من نقض اليقين باليقين ، ضرورة أنه يكون رفع اليد عن نجاسة الثوب المغسول بماء محكوم بالطهارة شرعا ، باستصحاب طهارته لليقين بأن كل ثوب نجس يغسل بماء كذلك يصير طاهرا شرعا ، وبالجملة من الواضح لمن له أدنى تأمل ، أن اللازم ـ في كل مقام كان للعام فرد مطلق ، وفرد كان فرديته له معلقة على عدم شمول حكمه لذلك الفرد المطلق كما في المقام ، أو كان هناك عامان كان لاحدهما فرد مطلق وللآخر فرد كانت فرديته معلقة على عدم شمول حكم ذاك العام لفرده المطلق ، كما هو الحال في الطرق في مورد الاستصحاب ـ هو الالتزام بشمول حكم العام لفرده المطلق حيث لا مخصص له ، ومعه لا يكون فرد آخر يعمه أو لا يعمه ، ولا مجال لان يلتزم بعدم شمول حكم العام للفرد المطلق ليشمل حكمه لهذا الفرد ، فإنه يستلزم التخصيص بلا وجه ، أو بوجه دائر كما لا يخفى على ذوي البصائر ( منه قدس سره ) .

كفاية الأصول ـ 432 ـ
  الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسببي جاريا ، فإنه لا محذور فيه حينئذ مع وجود أركانه وعموم خطابه. (1)
  وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر ، فالاظهر جريانهما فيما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية للتكليف الفعلي المعلوم إجمالا ، لوجود المقتضي إثباتا وفقد المانع عقلا.
  أما وجود المقتضي ، فلاطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب في أطراف المعلوم بالاجمال ، فإن قوله عليه السلام في ذيل بعض أخبار الباب : ( ولكن تنقض اليقين باليقين ) (2) لو سلم أنه يمنع (3) عن شمول قوله عليه السلام في صدره : ( لا تنقض اليقين بالشك ) لليقين والشك في أطرافه ، للزوم المناقضة في مدلوله ، ضرورة المناقضة بين السلب الكلي والايجاب الجزئي ، إلا أنه لا يمنع عن عموم النهي في سائر الاخبار مما ليس فيه الذيل ، وشموله لما في أطرافه ، فإن إجمال ذاك الخطاب لذلك لا يكاد يسري إلى غيره مما ليس فيه ذلك .
  وأما فقد المانع ، فلاجل أن جريان الاستصحاب في الاطراف لا يوجب إلا المخالفة الالتزامية ، وهو ليس بمحذور لا شرعا ولا عقلا.
  ومنه قد انقدح عدم جريانه في أطراف العلم بالتكليف فعلا أصلا ولو في بعضها ، لوجوب الموافقة القطعية له عقلا ، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعية أو الاحتمالية ، كما لا يخفى .
  تذنيب لا يخفى أن مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل ، وقاعدة الفراغ

(1) في نسخة ( أ ) سقط من هنا إلى بداية المقصد الثامن.
(2) التهذيب 1 / 8 الحديث 11.
(3) هذا رد لوجه منع الشيخ عن جريان الاستصحابين ، راجع فرائد الاصول 429 ، خاتمة الاستصحاب ، القسم الثاني من تعارض الاستصحابين عند قوله : بل لان العلم الاجمالي هنا ... الخ.

كفاية الأصول ـ 433 ـ
  بعد الفراغ عنه ، وأصالة صحة عمل الغير إلى غير ذلك من القواعد المقررة في الشبهات الموضوعية إلا القرعة تكون مقدمة على استصحاباتها المقتضية لفساد ما شك فيه من الموضوعات ، لتخصيص دليلها بأدلتها ، وكون النسبة بينه وبين بعضها عموما من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها بعد الاجماع على عدم التفصيل بين مواردها ، مع لزوم قلة المورد لها جدا لو قيل بتخصيصها بدليلها ، إذ قل مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها ، كما لا يخفى .
  وأما القرعة فالاستصحاب في موردها يقدم عليها ، لاخصية دليله من دليلها ، لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه دونها ، واختصاصها بغير الاحكام إجماعا لا يوجب الخصوصية في دليلها بعد عموم لفظها لها ، هذا مضافا إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه ، حتى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر بعمل المعظم ، كما قيل ، وقوة دليله بقلة تخصيصه بخصوص دليل .
  لا يقال : كيف يجور تخصيص دليلها بدليله ؟ وقد كان دليلها رافعا لموضوع دليله لا لحكمه ، وموجبا لكون نقض اليقين باليقين بالحجة على خلافه ، كما هو الحال بينه وبين أدلة سائر الامارات ، فيكون ـ هاهنا أيضا ـ من دوران الامر بين التخصيص بلا وجه غير دائر والتخصص .
  فإنه يقال : ليس الامر كذلك ، فإن المشكوك مما كانت له حالة سابقة وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه بعنوانه الواقعي ، إلا أنه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشك ، والظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق لا في الجملة ، فدليل الاستصحاب الدال على حرمة النقض الصادق عليه حقيقة ، رافع لموضوعه أيضا ، فافهم .
  فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الامر بينه وبين رفع اليد عن دليله ، لوهن عمومها وقوة عمومه ، كما أشرنا إليه آنفا ، والحمد لله أولا وآخرا ، ( وصلى الله على محمد وآله وسلم ) باطنا وظاهرا .

كفاية الأصول ـ 435 ـ
المقصد الثامن
تعارض الادلة والامارات

كفاية الأصول ـ 437 ـ
  فصل التعارض هو تنافي الدليلين أو الادلة بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا ، بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا ، وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما ، إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة ، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كمية ما أريد من الآخر ، مقدما (1) كان أو مؤخرا ، أو كانا على نحو إذا عرضنا على العرف وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما ، كما هو مطرد في مثل الادلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الاولية ، مع مثل الادلة النافية للعسر والحرج والضرر والاكراه والاضطرار ، مما يتكفل لاحكامها بعناوينها الثانوية ، حيث يقدم في مثلهما الادلة النافية ، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلا ويتفق في غيرهما ، كما لا يخفى .

(1) خلافا لما يظهر في عبارة الشيخ من اعتبار تقدم المحكوم ، راجع فرائد الاصول 432 ، التعادل والترجيح ، عند قوله وضابط الحكومة ... الخ.

كفاية الأصول ـ 438 ـ
  أو بالتصرف فيهما ، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما ، أو في أحدهما المعين ولو كان الآخر أظهر ، ولذلك تقدم الامارات المعتبرة على الاصول الشرعية ، فإنه لا يكاد يتحير أهل العرف في تقديمها عليه بعد ملاحظتهما ، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا ، بخلاف العكس فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر ، كما أشرنا إليه (1) في أواخر الاستصحاب.
  وليس (2) وجه تقديمها حكومتها على أدلتها بعدم كونها ناظرة إلى أدلتها بوجه ، وتعرضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها ، وإلا كانت أدلتها أيضا دالة ـ ولو بالالتزام ـ على أن حكم مورد الاجتماع فعلا هو مقتضى الاصل لا الامارة ، وهو مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الامارة ، بل ليس مقتضى حجيتها إلا نفي ما قضيته عقلا من دون دلالة عليه لفظا ، ضرورة أن نفس الامارة لا دلالة له إلا على الحكم الواقعي ، وقضية حجيتها ليست إلا لزوم العمل على وفقها شرعا المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه وهو قضية الاصل ، هذا مع احتمال أن يقال : إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا وتنجز الواقع مع المصادفة ، وعدم تنجزه في صورة المخالفة.
  وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبدا ، كي يختلف الحال ويكون مفاده في الامارة نفي حكم الاصل ، حيث أنه حكم الاحتمال بخلاف مفاده فيه ، لاجل أن الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه ، كيف ؟ وهو حكم الشك فيه واحتماله ، فافهم وتأمل جيدا.
  فانقدح بذلك أنه لا تكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الاصل والامارة ، إلا بما أشرنا سابقا وآنفا ، فلا تغفل ، هذا ولا تعارض أيضا إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، كما في الظاهر مع النص أو الاظهر ، مثل

(1) في خاتمة الاستصحاب / ص 430.
(2) القائل بالحكومة هو الشيخ في فرائد الاصول 432 ، أول مبحث التعادل والترجيح .

كفاية الأصول ـ 439 ـ
  العام والخاص والمطلق والمقيد ، أو مثلهما مما كان أحدهما نصا أو أظهر ، حيث أن بناء العرف على كون النص أو الاظهر قرينة على التصرف في الآخر.
  وبالجملة : الادلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها ، إلا أنها غير متعارضة ، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الاثبات ، بحيث تبقى ابناء المحاورة متحيرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في البعض عرفا ، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين ، ولا فرق فيها بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا ، فيقدم النص أو الاظهر ـ وإن كان بحسب السند ظنيا ـ على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا .
  وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور مما كان التنافي فيه بين الادلة بحسب الدلالة ومرحلة الاثبات ، وإنما يكون التعارض بحسب السند فيما إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة ، أو ظنيا فيما إذا لم يكن التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل ، فإنه حينئذ لا معنى للتعبد بالسند في الكل ، إما للعمل بكذب أحدهما ، أو لاجل أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها ، فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ ، كما لا يخفى .
  فصل التعارض وإن كان لا يوجب إلا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا ، حيث لا يوجب إلا العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر ، إلا أنه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا ـ فإنه لم يعلم كذبه إلا كذلك ، واحتمال كون كل منهما كاذبا ـ لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه ، لعدم التعيين (1) في الحجة أصلا ، كما لا يخفى .
  نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية ، وصلاحيته على ما هو عليه من عدم التعين لذلك لا بهما ، هذا بناء على حجية الامارات من باب

(1) في ( أ و ب ) التعين.

كفاية الأصول ـ 440 ـ
  الطريقية ، كما هو كذلك حيث لا يكاد يكون حجة طريقا إلا ما احتمل إصابته ، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعا عن حجيته ، وأما بناء على حجيتها من باب السببية فكذلك لو كان الحجة هو خصوص ما لم يعلم كذبه ، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها إلا فيه ، كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها ، وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور ، لا للتقية ونحوها ، وكذا السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضا ، وظهوره فيه لو كان هو الآيات والاخبار ، ضرورة ظهورها فيه ، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.
  وأما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين ، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين ، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي ، فإنه حينئذ لا يزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء ، إلا أن يقال بأن قضية اعتبار دليل الغير الالزامي أن يكون عن اقتضاء ، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي الالزامي ، ويحكم فعلا بغير الالزامي ، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي الغير الالزامي ، لكفاية عدم تمامية علة الالزامي في الحكم بغيره .
  نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه من الاحكام ، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به ، وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وإن كان واضحا ، ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الاحكام ، إلا أنه لا دليل نقلا ولا عقلا على الموافقة الالتزامية للاحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية ، كما مر تحقيقه (1).
  وحكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم

(1) في مبحث القطع ، الامر الخامس ، ص 268.

كفاية الأصول ـ 441 ـ
  يكن أحدهما معلوم الاهمية أو محتملها في الجملة ، حسبما فصلناه (1) في مسألة الضد ، وإلا فالتعيين ، وفيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الاخذ بما دل على الحكم الالزامي ، لو لم يكن في الآخر مقتضيا لغير الالزامي ، وإلا فلا بأس بأخذه والعمل عليه ، لما أشرنا إليه من وجهه آنفا ، فافهم .
  هذا هو قضية القاعدة في تعارض الامارات ، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما ، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما ، كما عرفته في الصور السابقة ، مع أن في الجمع كذلك أيضا طرحا للامارة أو الامارتين ، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه ، وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنديهما قطعيين ، وفي السندين إذا كانا ظنيين ، وقد عرفت أن قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من الحكمين ، لا بقاؤهما على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما ، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل ، فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا ، ولا ينافيه الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذ وتعينه ، فإن أولويته من قبيل الاولوية في أولي الارحام ، وعليه لا إشكال فيه ولا كلام .
  فصل لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات ، إنما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها ، وإلا فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الاخبار ، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار ، ولا يخفى أن اللازم فيما إذا لم

(1) لم يتقدم منه ـ قدس سره ـ في مسألة الضد تفصيل ولا إجمال من هذه الحيثية ، نعم له تفصيل في تعليقته على الرسالة ، راجع حاشية فرائد الاصول / 269 ، عند قوله : اعلم أن منشأ الاهمية تارة ... الخ.

كفاية الأصول ـ 442 ـ
  تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع بحجيته تخييرا أو تعيينا ، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته ، والاصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته ، بل ربما ادعي الاجماع (1) أيضا على حجية خصوص الراجح ، واستدل عليه بوجوه أخر أحسنها الاخبار ، وهي على طوائف :
  منها : ما دل على التخيير على الاطلاق ، كخبر (2) الحسن بن الجهم ، عن الرضا ـ عليه السلام ـ : ( قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيهما الحق ، قال : فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت ). وخبر (3) الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبدالله عليه السلام : ( إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه ). ومكاتبة (4) عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام ( اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، في ركعتي الفجر ، فروى بعضهم : صل في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلا في الارض ، فوقع عليه السلام : موسع عليك بأية عملت ) ومكاتبة الحميري (5) إلى الحجة عليه السلام ـ إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان ... إلى أن قال عليه السلام ـ ( وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا ) إلى غير ذلك من الاطلاقات .
  ومنها : ما (6) دل على التوقف مطلقا .
  ومنها : ما (7) دل على ما هو الحائط منها .

(1) ادعاه الشيخ في فرائد الاصول 441 ، المقام الثاني في التراجيح من مبحث التعادل والتراجيح.
(2) الاحتجاج 357 ، في احتجاجات الامام الصادق ( عليه السلام ).
(3) المصدر السابق.
(4) التهذيب 3 ، الباب 23 ، الصلاة في السفر ، الحديث 92 ، مع اختلاف يسير.
(5) الاحتجاج 483 ، في توقيعات الناحية المقدسة.
(6) الاصول من الكافي 1 / 66 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث 7 ، عوالي اللآلي 4 / 133 ، الحديث 230.
(7) وسائل الشيعة 18 / 111 ، الباب 12 من ابواب صفات القاضي.

كفاية الأصول ـ 443 ـ
  ومنها : ما دل (1) على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة ، من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسنة ، والاعدلية ، والاصدقية ، والافقهية والاورعية ، والاوثقية ، والشهرة على اختلافها في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها .
  ولاجل اختلاف الاخبار اختلفت الانظار.
  فمنهم من أوجب الترجيح بها ، مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير ، وهم بين من اقتصر على الترجيح بها ، ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لاقوائية ذي المزية وأقربيته ، كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (2) ، أو المفيدة للظن ، كما ربما يظهر من غيره (3).
  فالتحقيق أن يقال : إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو المقبولة (4) والمرفوعة (5) ، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جدا ، والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال ، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما ، ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره ، كما لا يخفى.
  ولا وجه لدعوى تنقيح المناط ، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين ، وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون إلا بالترجيح ولذا أمر عليه السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه ( عليه السلام ) في صورة

(1) وسائل الشيعة 18 / 75 الباب 9 من ابواب صفات القاضي.
(2) فرائد الاصول 450 ، في المقام الثالث من مقام التراجيح.
(3) مفاتيح الاصول / 688 ، التنبيه الثاني من تنبيهات تعارض الدليلين.
(4) التهذيب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحديث 52 ، الكافي 1 / 67 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث 15
الفقيه 3 / 5 ، الباب 9 ، الحديث 2.
(5) عوالي اللآلي 4 / 133 الحديث 229.

كفاية الأصول ـ 444 ـ
  تساويهما فيما ذكر من المزايا ، بخلاف مقام الفتوى ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة ، كما لا يخفى .
  وإن أبيت إلا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين ، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الامام عليه السلام بهما ، لقصور المرفوعة سندا وقصور المقبولة دلالة ، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه السلام ، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح ، مع أن تقييد الاطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين ـ بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين ، مع ندرة كونهما متساويين جدا ـ بعيد قطعا ، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب ، كما فعله بعض الاصحاب (1) ، ويشهد به الاختلاف الكثير بين ما دل على الترجيح من الاخبار.
  ومنه قد انقدح حال سائر أخباره ، مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا ، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة ، بشهادة ما (2) ورد في أنه زخرف ، وباطل ، وليس بشيء ، أو أنه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، وكذا الخبر الموافق للقوم ، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية ـ بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لولا القطع به ـ غير جارية ، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك ، وكذا الصدور أو

(1) الظاهر هو السيد الصدر شارح الوافية ، لكنه ( رحمه الله ) حمل جميع أخبار الترجيح على الاستحباب ، شرح الوافية ، ص مخطوط .
(2) الوسائل 18 / 78 ، الباب 9 من ابواب صفات القاضي ، الاحاديث : 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 40 ، 47 ، 48 ، والمحاسن : 1 / 220 ، الباب 11 ، الاحاديث 128 إلى 131 وص 225 ، الباب 12 ، الحديث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحديث 150.

كفاية الأصول ـ 445 ـ
  الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند ولا الظهور ، كما لا يخفى ، فتكون هذه الاخبار في مقام تميز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة ، فافهم .
  وإن أبيت عن ذلك ، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها وبين الاطلاقات ، إما على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا ، هذا ثم إنه لولا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات ، وهي آبية عنه ، كيف يمكن تقييد مثل : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل ) ؟ كما لا يخفى .
  فتلخص ـ مما ذكرنا ـ أن اطلاقات التخيير محكمة ، وليس في الاخبار ما يصلح لتقييدها ، نعم قد استدل على تقييدها ، ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أخر :
  منها : دعوى (1) الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين.
  وفيه أن دعوى الاجماع ـ مع مصير مثل الكليني إلى التخيير ، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء ، قال في ديباجة الكافي : ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من التخيير ـ مجازفة .
  ومنها (2) : أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا .
  وفيه انه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع ، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالاضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان ، وكان الترجيح بها بلا مرجح ، وهو قبيح كما هو واضح ، هذا .
  مضافا إلى ما هو في الاضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع ، من أن

(1) حكاه الشيخ ( ره ) عن كلام جماعة / فرائد الاصول 469 ، المرجحات الخارجية ، من الخاتمة في التعادل والتراجيح.
(2) استدل به المحقق القمي ( ره ) قوانين الاصول 2 / 278 ، في قانون الترجيح من الخاتمة.

كفاية الأصول ـ 446 ـ
  الترجيح بلا مرجح في الافعال الاختيارية ومنها الاحكام الشرعية ، لا يكون إلا قبيحا ، ولا يستحيل وقوعه إلا على الحكيم تعالى ، وإلا فهو بمكان من الامكان ، لكفاية إرادة المختار علة لفعله ، وإنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة ، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح ، إلا من باب امتناع صدوره منه تعالى ، وأما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره .
  وبالجملة : الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علة محال ، وبمعنى بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال ، فلا تشتبه .
  ومنها : غير ذلك (1) مما لا يكاد يفيد الظن ، فالصفح عنه أولى وأحسن.
  ثم إنه لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين ، في عمل نفسه وعمل مقلديه ، ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية ، لعدم الدليل عليه فيها .
  نعم له الافتاء به في المسألة الاصولية ، فلا بأس حينئذ باختيار المقلد غير ما اختاره المفتي ، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه .
  وهل التخيير بدوي أم استمراري ؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية الاطلاقات أيضا كونه استمراريا.
  وتوهم (2) أن المتحير كان محكوما بالتخيير ، ولا تحير له بعد الاختيار ، فلا يكون الاطلاق ولا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار ، لاختلاف الموضوع فيهما ، فاسد ، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله ، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا ، كما لا يخفى .
  فصل هل على القول بالترجيح ، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة المنصوصة ، أو يتعدى إلى غيرها ؟ قيل (3) بالتعدي ، لما في الترجيح بمثل الاصدقية

(1) راجع فرائد الاصول 442 ـ 444 ، المقام الثاني من مقام التراجيح.
(2) يظهر ذلك من الشيخ ( ره ) في فرائد الاصول 440 ، المقام الاول في المتكافئين.
(3) القائل هو الشيخ ( قده ) ونسبه إلى جمهور المجتهدين ، فرائد الاصول / 450.

كفاية الأصول ـ 447 ـ
  والاوثقية ونحوهما ، مما فيه من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة للاقربية إلى الواقع ، ولما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه ، من استظهار أن العلة هو عدم الريب فيه بالاضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب ، ولما في التعليل بأن الرشد في خلافهم .
  ولا يخفى ما في الاستدلال بها :
  أما الاول : فإن جعل خصوص شيء فيه جهة الاراءة والطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته ، بل لا إشعار فيه كما لا يخفى ، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته ، لا سيما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلا تعبدا ، فافهم .
  وأما الثاني : فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها ، مع أن الشهرة في الصدر الاول بين الرواة وأصحاب الائمة ـ عليهم السلام ـ موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها ، بحيث يصح أن يقال عرفا : إنها مما لا ريب فيها ، كما لا يخفى ، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى كل مزية ولو لم يوجب إلا أقربية ذي المزية إلى الواقع ، من المعارض الفاقد لها .
  وأما الثالث : فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة ، لحسنها ، ولو سلم أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف ، فلا شبهة في حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة ، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله ، كما مر آنفا.
  ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لاجل انفتاح باب التقية فيه ، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك ، مع الوثوق بصدورهما ، لولا القطع به في الصدر الاول ، لقلة الوسائط ومعرفتها ، هذا .
  مع ما في عدم بيان الامام ـ عليه السلام ـ للكلية كي لا يحتاج السائل إلى

كفاية الأصول ـ 448 ـ
  إعادة السؤال مرارا ، وما في أمره ـ عليه السلام ـ بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة ، من الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة ، كما لا يخفى .
  ثم إنه بناء على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة مالا يوجب الظن بذي المزية ولا أقربيته ، كبعض صفات الراوي مثل الاورعية أو الافقهية ، إذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن أو الاقربية ، كالتورع من الشبهات ، والجهد في العبادات ، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الاصولية ، فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الاقربية ، بل إلى كل مزية ، ولو لم تكن بموجبة (1) لاحدهما ، كما لا يخفى .
  وتوهم أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح ، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ ، فاسد ، فإن الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا ، وإنما يضر فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه ، ولم يؤخذ في اعتبار الاخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك ، هذا مضافا إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدورا ، وإلا فلا يوجبه الظن بصدور أحدهما لامكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما ، أو إرادته تقية ، كما لا يخفى .
  نعم لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته وفي جهة إثباته وطريقيته ، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك ، وإن كان موجب لقوة مضمون ذيه ثبوتا ، كالشهرة الفتوائية أو الاولوية الظنية ونحوهما ، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقن منها ، إنما هو الاقوى دلالة ، كما لا يخفى ، فافهم (2) .

(1) في ( أ ) و ( ب ) بموجبه.
(2) اثبتنا الامر بالفهم من ( أ ).

كفاية الأصول ـ 449 ـ
  فصل قد عرفت سابقا أنه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي ، ولا يعمها ما يقتضيه الاصل في المتعارضين ، من سقوط أحدهما رأسا وسقوط كل منهما في خصوص مضمونه ، كما إذا لم يكونا في البين ، فهل التخيير أو الترجيح يختص أيضا بغير مواردها أو يعمها ؟ قولان : أولهما المشهور ، وقصارى ما يقال في وجهه : إن الظاهر من الاخبار العلاجية ـ سؤالا وجوابا ـ هو التخيير أو الترجيح في موارد التحير ، مما لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفا ، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق ، فإنه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.
  ويشكل بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق ، لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع ، لصحة السؤال بملاحظة التحير في الحال لاجل ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا بحسب المآل ، أو للتحير في الحكم واقعا وإن لم يتحير فيه ظاهرا ، وهو كاف في صحته قطعا ، مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة ، وجل العناوين المأخوذة في الاسئلة لولا كلها يعمها ، كما لا يخفى .
  ودعوى أن المتيقن منها غيرها مجازفة ، غايته أنه كان كذلك خارجا لا بحسب مقام التخاطب ، وبذلك ينقدح وجه القول الثاني.
  اللهم إلا أن يقال : إن التوفيق في مثل الخاص والعام والمقيد والمطلق ، كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان الائمة عليهم السلام ، وهي كاشفة إجمالا عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي ، لولا دعوى اختصاصها به ، وأنها سؤالا وجوابا بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحير والاحتياج ، أو دعوى الاجمال وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص ، ولا ينافيها مجرد صحة السؤال لما لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنه لذلك ، فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عما هو

كفاية الأصول ـ 450 ـ
  عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء ، من التوفيق وحمل الظاهر على الاظهر ، والتصرف فيما يكون صدورهما قرينة عليه ، فتأمل .
  فصل قد عرفت حكم تعارض الظاهر والاظهر وحمل الاول على الآخر ، فلا إشكال فيما إذا ظهر أن أيهما ظاهر وأيهما أظهر ، وقد ذكر فيما أشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلا ، فلا بأس بالاشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها :
  منها : ما قيل (1) في ترجيح ظهور العموم على الاطلاق ، وتقديم التقييد على التخصيص فيما دار الامر بينهما ، من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا ، بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق ، فإنه معلق على عدم البيان ، والعام يصلح بيانا ، فتقديم العام حينئذ لعدم تمامية مقتضى الاطلاق معه ، بخلاف العكس ، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه إلا على نحو دائر ، ومن أن التقييد أغلب من التخصيص ، وفيه : إن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة ، إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الابد ، وأغلبية التقييد مع كثرة التخصيص بمثابة قد قيل : مامن عام إلا وقد خص ، غير مفيد ، فلابد (2) في كل قضية من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لاظهرية أحدهما من الآخر ، فتدبر .
  ومنها : ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ ـ كما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا أو يكون العام ناسخا ، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا للعام ، أو ناسخا له ورافعا لاستمراره ودوامه ـ في وجه تقديم التخصيص على النسخ ، من غلبة التخصيص وندرة النسخ.

(1) راجع فرائد الاصول 457 ، المقام الرابع من مقام التراجيح .
(2) في ( ب ) : ولا بد .