التبعة والاحكام ، أما التبعة ، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها ، فإنها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار ، إلا أنها منتهية إلى الاختيار ، وهو كاف في صحة العقوبة ، بل مجرد تركهما كاف في صحتها ، وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة ، مع احتماله ، لاجل التجري وعدم المبالاة بها .
  نعم يشكل في الواجب المشروط والمؤقت ، لو أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما ، فضلا عما إذا لم يؤد إليها ، حيث لا يكون حينئذ تكليف فعلي أصلا ، لا قبلهما وهو واضح ، ولا بعدهما وهو كذلك ، لعدم التمكن (1) منه بسبب الغفلة ، ولذا التجأ المحقق الاردبيلي (2) وصاحب المدارك (3) ( قدس سرهما ) إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسيا تهيئيا ، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا على ما أدى إليه من المخالفة. فلا إشكال حينئذ في المشروط والمؤقت ، ويسهل بذلك الامر في غيرهما لو صعب على أحد ، ولم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار ، ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الاشكال إلا بذلك ، أو الالتزام بكون المشروط أو المؤقت مطلقا معلقا ، لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم ،

(1) إلا أن يقال بصحة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقت عند العقلاء إذا تمكن منهما في الجملة ، ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفت ، وعدم لزوم التمكن منهما بعد حصول الشرط ودخول الوقت مطلقا ، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء ومؤاخذتهم العبيد على ترك الواجبات المشروطة أو المؤقتة ، بترك تعلمها قبل الشرط أو الوقت المؤدي إلى تركها بعد حصوله أو دخوله ، فتأمل ( منه قدس سره ).
(2) راجع كلامه ( قدس سره ) في مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الاذهان 2 / 110 ، عند قوله : واعلم أيضا أن سبب بطلان الصلاة ... الخ.
(3) راجع مدارك الاحكام / 123 ، في مسألة إخلال المصلي بإزالة النجاسة عن بدنه أو ثوبه .

كفاية الأصول ـ 377 ـ
  فيكون الايجاب حاليا ، وإن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه ، ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته .
  وأما لو قيل بعدم الايجاب إلا بعد الشرط والوقت ، كما هو ظاهر الادلة وفتاوى المشهور ، فلا محيص عن الالتزام يكون وجوب التعلم نفسيا ، لتكون العقوبة ـ لو قيل بها ـ على تركه لا على ما أدى إليه من المخالفة ، ولا بأس به كما لا يخفى ، ولا ينافيه ما يظهر من الاخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا لنفسه ، حيث أن وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدميا ، بل للتهيؤ لايجابه ، فافهم .
  وأما الاحكام ، فلا إشكال في وجوب الاعادة في صورة المخالفة ، بل في صورة الموافقة أيضا في العبادة ، فيما لا يتأتى منه قصد القربة وذلك لعدم الاتيان بالمأمور به مع عدم دليل على الصحة والاجزاء ، إلا في الاتمام في موضع القصر أو الاجهار أو الاخفات في موضع الآخر ، فورد في الصحيح (1) ـ وقد أفتى به المشهور ـ صحة الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا ، ولو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها ، لان ما أتى بها وإن صحت وتمت إلا أنها ليست بمأمور بها .
  إن قلت : كيف يحكم بصحتها مع عدم الامر بها ؟ وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها ، حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها ؟ كما هو ظاهر إطلاقاتهم ، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الاتمام والاخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا ، ضرورة أنه لا تقصير هاهنا يوجب

(1) التهذيب 3 / 226 ، الباب 23 الصلاة في السفر ، الحديث / 80 ، وسائل الشيعة 5 / 531 الباب : 17 من أبواب صلاة المسافر الحديث 4.
التهذيب 2 / 162 الباب 9 تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون ، الحديث 93.
  ووسائل الشيعة 4 / 766 الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث 1.

كفاية الأصول ـ 378 ـ
  استحقاق العقوبة ، وبالجملة كيف يحكم بالصحة بدون الامر ؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة ؟ لولا الحكم شرعا بسقوطها وصحة ما أتى بها ?
  قلت : إنما حكم بالصحة لاجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنما لم يؤمر بها لاجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الاكمل والاتم.
  وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة فإنها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها ، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلا ـ مع تمكنه من التعلم ـ فقد قصر ، ولو علم بعده وقد وسع الوقت.
  فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام ، ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات ، وإن كان الوقت باقيا.
  إن قلت : على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا ، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.
  قلت : ليس سببا لذلك ، غايته أنه يكون مضادا له ، وقد حققنا في محله (1) أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.
  لا يقال : على هذا فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا ـ في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما ـ لكانت صلاته صحيحة ، وإن عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر.
  فإنه يقال : لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة

(1) مبحث الضد ، في الامر الثاني ، عند دفع توهم المقدمية بين الضدين ص 130.

كفاية الأصول ـ 379 ـ
  ولو مع العلم ، لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به ، كما لا يخفى. وقد صار بعض الفحول (1) بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب ، وقد حققناه في محبث الضد امتناع الامر بالضدين مطلقا ، ولو بنحو الترتب ، بما لا مزيد عليه فلا نعيد .
  ثم إنه ذكر (2) لاصل البراءة شرطان آخران :
  أحدهما : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.
  ثانيهما : أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.
  ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة تكون جارية ، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والاباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية ، لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه ، فإن لم يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف واقعا ، فهي وإن كانت جارية إلا أن ذاك الحكم لا يترتب ، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها ، وهذا ليس بالاشتراط .
  وأما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر ، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لاصالة البراءة ، كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالادلة الاجتهادية ، إلا أنه حقيقة لا يبقى لها مورد ، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا ، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك ، فلابد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي ، لا خصوص قاعدة الضرر ، فتدبر ، والحمد لله على كل حال .

(1) وهو كاشف الغطاء ( قدس سره ) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء / 27 في البحث الثامن عشر.
(2) ذكرهما الفاضل التوني ( قده ) في الوافية / 79 ، في شروط التمسك بأصالة البراءة.

كفاية الأصول ـ 380 ـ
  ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار ، وتوضيح مدركها وشرح مفادها ، وإيضاح نسبتها مع الادلة المثبتة للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية أو الثانوية ، وإن كانت اجنبية عن مقاصد الرسالة ، إجابة لالتماس بعض الاحبة ، فأقول وبه أستعين :
  إنه قد استدل عليها بأخبار كثيرة :
  منها : موثقة زرارة (1) ، عن أبي جعفر عليه السلام : ( إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الانصار ، وكان منزل الانصاري بباب البستان ، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلمه الانصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فجاء الانصاري إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فشكى إليه ، فأخبر بالخبر ، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الانصاري وما شكاه ، فقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه ، فقال : لك بها عذق في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للانصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار ).
  وفي رواية الحذاء (2) عن أبي جعفر عليه السلام مثل ذلك ، ألا أنه فيها بعد الاباء ( ما أراك يا سمرة إلا مضارا ، إذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه ) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة وغيرها (3) ، وهي كثيرة وقد ادعي (4) تواترها ، مع اختلافها لفظا وموردا ، فليكن المراد به تواترها إجمالا ، بمعنى

(1) التهذيب 7 : 146 ، الحديث 36 من باب بيع الماء ، مع اختلاف لا يخل بالمقصود.
الكافي 5 : 292 ، الحديث 2 من باب الضرار.
الفقيه 3 : 147 الحديث 18 من باب المضاربة.
(2) الفقيه 3 : 59 الحديث 9 الباب 44 حكم الحريم.
(3) الفقيه 3 : 45 الحديث 2 الباب 36 الشفعة.
الكافي 5 : 280 الحديث 4 باب الشفعة.
التهذيب 7 : 164 ، 727.
(4) إيضاح الفوائد : فخر المحققين 2 : 48 كتاب الدين ، فصل التنازع.

كفاية الأصول ـ 381 ـ
  القطع بصدور بعضها ، والانصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف ، وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها ، مع أن بعضها موثقة ، فلا مجال للاشكال فيها من جهة سندها ، كما لا يخفى .
  وأما دلالتها ، فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع ، من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال ، تقابل العدم والملكة ، كما أن الاظهر أن يكون الضرار معنى الضرر جيء به تأكيدا ، كما يشهد به إطلاق المضار على سمرة ، وحكي عن النهاية (1) لا فعل الاثنين ، وإن كان هو الاصل في باب المفاعلة ، ولا الجزاء على الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة ، وبالجملة لم يثبت له معنى آخر غير الضرر .
  كما أن الظاهر أن يكون ( لا ) لنفي الحقيقة ، كما هو الاصل في هذا التركيب حقيقة أو ادعاء ، كناية عن نفي الآثار ، كما هو الظاهر من مثل : ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) (2) و ( يا أشباه الرجال ولا رجال ) (3) فإن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء ، لا نفي الحكم أو الصفة ، كما لا يخفى .
  ونفي الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة ، مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة .
  وقد انقدح بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرري (4) ، أو الضرر الغير لمتدارك (5) ، أو إرادة النهي من النفي جدا (6) ، ضرورة بشاعة استعمال الضرر

(1) النهاية لابن الاثير 3 : 81 مادة ضرر ، وفيها ( الضرار : فعل الاثنين ... وقيل هما بمعنى ، وتكرارهما للتأكيد ).
(2) دعائم الاسلام 1 : 148 في ذكر المساجد.
(3) نهج البلاغة ، الخطبة 27.
(4) التزم به الشيخ في فرائد الاصول / 314 في الشرط الثاني المحكي عن الفاضل التوني من شروط اصالة البراءة ، وكذا في رسالة قاعدة لا ضرر المطبوعة في المكاسب 373 .
(5) ذهب إليه الفاضل التوني ( ره ) ، الوافية / 79 ، في شروط التمسك بأصالة البراءة .
(6) اختاره السيد مير فتاح ، العناوين / 198 ، العنوان العاشر ، ومال إليه شيخ الشريعة الاصفهاني ،

كفاية الأصول ـ 382 ـ
  وإرادة خصوص سبب من أسبابه ، أو خصوص الغير المتدارك منه ، ومثله لو أريد ذاك بنحو التقييد ، فإنه وإن لم يكن ببعيد ، إلا أنه بلا دلالة عليه غير سديد ، وإرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز ، إلا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب ، وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها ، بعد إمكان حمله على نفيها إدعاء ، بل كان هو الغالب في موارد استعماله.
  ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للافعال بعناوينها ، أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الثابت له بعنوانه ، لوضوح أنه العلة للنفي ، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه.
  ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الاحكام ، وتقدم أدلته على أدلتها ـ مع أنها عموم من وجه ـ حيث أنه يوفق بينهما عرفا ، بأن الثابت للعناوين الاولية إقتضائي ، يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلته ، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الادلة المثبتة أو النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية ، والادلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الاولية.
  نعم ربما يعكس الامر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء ، بل بنحو العلية التامة.
وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أولي :
  تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا ، أو بالاضافة إلى عارض دون عارض ، بدلالة لا يجوز الاغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له ، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله.
  وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الاغماض عنها بسببه عرفا ، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي ، وأن العارض مانع فعلي ، هذا

  قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، 44.

كفاية الأصول ـ 383 ـ
  ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله ، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله ، كما قيل (1).
  ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلا ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين ، وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى ، ولا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب ، بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما ، لا من باب التعارض ، لعدم ثبوته إلا في أحدهما ، كما لا يخفى ، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر.
  وأما لو تعارض مع ضرر آخر ، فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين ضرري شخص واحد أو إثنين ، فلا مسرح إلا لاختيار أقلهما لو كان ، وإلا فهو مختار.
  وأما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره ، فالاظهر عدم لزوم تحمله الضرر ، ولو كان ضرر الآخر أكثر ، فإن نفيه يكون للمنة على الامة ، ولا منة على تحمل الضرر ، لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.
  نعم لو كان الضرر متوجها إليه ، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر ، اللهم إلا أن يقال : إن نفي الضرر وإن كان للمنة ، إلا أنه بلحاظ نوع الامة ، واختيار الاقل بلحاظ النوع منة ، فتأمل .

(1) التزم الشيخ ( قده ) بحكومة دليل لا ضرر على أدلة العناوين الاولية ، فرائد الاصول 315 ، في الشرط الثاني مما ذكره عن الفاضل التوني من شروط البراءة.

كفاية الأصول ـ 384 ـ
  فصل في الاستصحاب : وفي حجيته إثباتا ونفيا أقوال للاصحاب ، ولا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى ، إلا أنه تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه :
  إما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقا ، أو في الجملة تعبدا ، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا .
  وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الاجماع عليه كذلك ، حسبما تأتي الاشارة إلى ذلك مفصلا .
  ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل لان يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته مطلقا أو في الجملة ، وفي وجه ثبوته ، على أقوال.
  ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به الناشئ مع العلم بثبوته ، لما تقابل فيه الاقوال ، ولما كان النفي والاثبات واردين على مورد واحد بل موردين ، وتعريفه بما ينطبق على بعضها ، وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه ، إلا أنه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من قبيل شرح الاسم ، كما هو الحال في التعريفات غالبا ، لم يكن له دلالة على أنه نفس

كفاية الأصول ـ 385 ـ
  الوجه ، بل للاشارة إليه من هذا الوجه ، ولذا لا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس ، فإنه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس .
  فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له ، وما ذكر فيها من الاشكال ، بلا حاصل وطول بلا طائل .
  ثم لا يخفى أن البحث في حجيته (1) مسألة أصولية ، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية ، وليس مفادها حكم العقل بلا واسطة ، وإن كان ينتهي إليه ، كيف ؟ وربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا ، هذا لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا .
  وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته ، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية.
  وكيف كان ، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريف اعتبار أمرين في مورده : القطع بثبوت شيء ، والشك في بقائه ، ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول ، وهذا مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة.
  وأما الاحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل أم النقل ، فيشكل حصوله فيها ، لانه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه ، بسبب تغير بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا أو بقاء ، وإلا لما تخلف (2) الحكم عن موضوعه إلا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى ، ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا.

(1) في ( ب ) : حجية .
(2) في ( ب ) : لا يتخلف .

كفاية الأصول ـ 386 ـ
  ويندفع هذا الاشكال ، بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما ، وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه ، إلا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه ، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له ، مما يعد بالنظر العرفي من حالاته ـ وإن كان واقعا من قيوده ومقوماته ـ كان جريان الاستصحاب في الاحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها ـ لاجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها ، مما عد من حالاتها لا من مقوماتها ، بمكان من الامكان ، ضرورة [ صحة ] (1) إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبدا ، أو لكونه مظنونا ولو نوعا ، أو دعوى دلالة النص أو قيام الاجماع عليه قطعا ، بلا تفاوت (2) في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا .
  أما الاول فواضح ، وأما الثاني ، فلان الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه ، مما لا يرى مقوما له ، كان مشكوك البقاء عرفا ، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا ، وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعا .
  إن قلت : كيف هذا ؟ مع الملازمة بين الحكمين .
  قلت : ذلك لان الملازمة إنما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف لا في مقام الثبوت ، فعدم استقلال العقل إلا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال ، وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل ، كان على حاله في كلتا الحالتين ، وإن لم يدركه إلا في إحداهما ، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه ، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا ، وإن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك .
  وبالجملة : حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا ، لا ما هو

(1) أثبتناها من ( ب ).
(2) إشارة إلى تضعيف تفصيل الشيخ ( قده ) ، فرائد الاصول / 325 .

كفاية الأصول ـ 387 ـ
  مناط حكمه فعلا ، وموضوع حكمه كذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الاهمال والاجمال ، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا ، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا ، فرب خصوصية لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله ، فبدونها لا استقلال له بشيء قطعا ، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا ، ومعه يحتمل بقاء حكم الشرع جدا لدورانه معه وجودا وعدما ، فافهم وتأمل جيدا .
  ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الاصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا ، وعدم حجيته كذلك ، والتفصيل بين الموضوعات والاحكام ، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي ، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة ، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها ، وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها ، وهو الحجية مطلقا ، على نحو يظهر بطلان سائرها ، فقد استدل عليه بوجوه :
  الوجه الاول : استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا .
  وفيه : أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا ، بل إما رجاء واحتياطا ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا ولو نوعا ، أو غفلة كما هو الحال في سائر الحيوانات دائما وفي الانسان أحيانا.
  وثاينا : سلمنا ذلك ، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماض ، ويكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم ، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات ، فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لابد في اتباعه من الدلالة على إمضائه ، فتأمل جيدا .

كفاية الأصول ـ 388 ـ
  الوجه الثاني (1) : إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق. وفيه : منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا ، فإنه لا وجه له أصلا إلا كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم ، وهو غير معلوم ، ولو سلم ، فلا دليل على اعتباره بالخصوص ، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم .
  الوجه الثالث : دعوى الاجماع عليه ، كما عن المبادئ (2) حيث قال :
  ( الاستصحاب حجة ، لاجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم ، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا ؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بأن الاستصحاب حجة ، لكان ترجيحا لاحد طرفي الممكن من غير ) مرجح ، انتهى. وقد نقل عن غيره (3) أيضا.
  وفيه : إن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية الاشكال ، ولو مع الاتفاق ، فضلا عما إذا لم يكن وكان مع الخلاف من المعظم ، حيث ذهبوا إلى عدم حجيته مطلقا أو في الجملة ، ونقله موهون جدا لذلك ، ولو قيل بحجيته لولا ذلك .
الوجه الرابع : وهو العمدة في الباب ، الاخبار المستفيضة ، منها : صحيحة زرارة (4) ( قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ،

(1) راجع شرح مختصر الاصول / 453.
(2) مبادئ الاصول / 250 ، ونظير هذا ما عن النهاية على ما حكاه الشيخ ـ قدس سره ـ فرائد الاصول / 329.
(3) راجع معالم الاصول / 231 ، الدليل الرابع.
(4) التهذيب 1 / 8 الباب 1 ح 11 ، باختلاف يسير في اللفظ.

كفاية الأصول ـ 389 ـ
  أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ قال : يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، وإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء ، قلت : فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، قال : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، ولكنه ينقضه بيقين آخر ).
  وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أن إضمارها لا يضر باعتبارها ، حيث كان مضمرها مثل زرارة ، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الامام ـ عليه السلام ـ لا سيما مع هذا الاهتمام.
  وتقريب الاستدلال بها أنه لا ريب في ظهور قوله عليه السلام : ( وإلا فإنه على يقين ... إلى آخره ) عرفا في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه ، وأنه عليه السلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله عليه السلام : ( لا ) في جواب : ( فإن حرك في جنبه ... إلى آخره ) ، وهو اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية الغير المختصة بباب دون باب ، واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله : ( فإنه على يقين ... إلى آخره ) غير سديد ، فإنه لا يصح إلا بارادة لزوم العمل على طبق يقينه ، وهو إلى الغاية بعيد ، وأبعد منه كون الجزاء قوله : ( لا ينقض ... إلى آخره ) وقد ذكر : ( فإنه على يقين ) للتمهيد .
  وقد انقدح بما ذكرنا ضعف احتمال اختصاص قضية : ( لا تنقض ... إلى آخره ) باليقين والشك بباب الوضوء جدا ، فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعا ، ويؤيده تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية أو ما يرادفها ، فتأمل جيدا ، هذا.
  مع أنه لا موجب لاحتماله إلا احتمال كون اللام في اليقين للعهد ، إشارة إلى اليقين في ( فإنه على يقين من وضوئه ) مع أن الظاهر أنه للجنس ، كما هو

كفاية الأصول ـ 390 ـ
  الاصل فيه ، وسبق : ( فإنه على يقين ... إلى آخره ) لا يكون قرينة عليه ، مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضا ، فافهم .
  مع أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء ، لقوة احتمال أن يكون ( من وضوئه ) متعلقا بالظرف لا ب‍ ( يقين ) ، وكان المعنى : فإنه كان من طرف وضوئه على يقين ، وعليه لا يكون الاوسط (1) إلا اليقين ، لا اليقين بالوضوء ، كما لا يخفى على المتأمل .
  وبالجملة : لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك ، خصوصا بعد ملاحظة تطبيقها في الاخبار على غير الوضوء أيضا .
  ثم لا يخفى حسن اسناد النقض ـ وهو ضد الابرام ـ إلى اليقين ، ولو كان متعلقا بما ليس فيه اقتضاء للبقاء والاستمرار ، لما يتخيل فيه من الاستحكام بخلاف الظن ، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وإن كان متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك ، وإلا لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له ، مع ركاكة مثل ( نقضت الحجر من مكانه ) ولما صح أن يقال : ( انتقض اليقين باشتعال السراج ) فيما إذا شك في بقائه للشك في استعداده ، مع بداهة صحته وحسنه .
  وبالجملة : لا يكاد يشك في أن اليقين كالبيعة والعهد إنما يكون حسن إسناد النقض إليه بملاحظته لا بملاحظة متعلقة ، فلا موجب لارادة ما هو أقرب إلى الامر المبرم ، أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء لقاعدة ( إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات ) بعد تعذر إرادة مثل ذاك الامر مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة .
  فإن قلت : نعم ، ولكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة ، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما صح إسناد الانتقاض إليه بوجه

(1) كذا صححه في ( ب ) وفي ( أ ) : الاصغر.

كفاية الأصول ـ 391 ـ
  ولو مجازا ، بخلاف ما إذا كان هناك ، فإنه وإن لم يكن معه أيضا انتقاض حقيقة إلا أنه صح إسناده إليه مجازا ، فإن اليقين معه كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل وانفصم بسبب الشك فيه ، من جهة الشك في رافعه .
  قلت : الظاهر أن وجه الاسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا ، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا ، وهو كاف عرفا في صحة إسناد النقض إليه واستعارته له ، بلا تفاوت في ذلك أصلا في نظر أهل العرف ، بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن ، وكونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي تعيينه لاجل قاعدة ( إذا تعذرت الحقيقة ) ، فإن الاعتبار في الاقربية إنما هو بنظر العرف لا الاعتبار ، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله ، هذا كله في المادة .
  وأما الهيئة ، فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل لا الحقيقة ، لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار ، سواء كان متعلقا باليقين ـ كما هو ظاهر القضية ـ أو بالمتيقن ، أو بآثار اليقين بناء على التصرف فيها بالتجوز أو الاضمار ، بداهة أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين ، كذلك لا يتعلق بما كان على يقين منه أو أحكام اليقين ، فلا يكاد (1) يجدي التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها ، فلا مجوز له فضلا عن الملزم ، كما توهم .
  لا يقال : لا محيص عنه ، فإن النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره ، لمنافاته مع المورد.
  فإنه يقال : إنما يلزم لو كان اليقين ملحوظا بنفسه وبالنظر الاستقلالي ،

(1) فيه تعريض بالشيخ ( قدس سره ) فرائد الاصول / 336 ، عند قوله : ثم لا يتوهم الاحتياج ... الخ.

كفاية الأصول ـ 392 ـ
  لا ما إذا كان ملحوظا بنحو المرآتية بالنظر الآلي ، كما هو الظاهر في مثل قضية ( لا تنقض اليقين ) حيث تكون ظاهرة عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء والعمل ، بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما ، ولحكمه إذا كان موضوعا ، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعا ، وذلك لسراية الآلية والمرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي ، فيؤخذ في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه ، مع عدم دخله فيه أصلا ، كما ربما يؤخذ فيما له دخل فيه ، أو تمام الدخل ، فافهم .
  ثم إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلا للتنزيل بلا تصرف وتأويل ، غاية الامر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه ، وتنزيل الحكم بجعل مثله ـ كما أشير إليه آنفا ـ كان قضية ( لا تنقض ) ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية ، واختصاص المورد بالاخيرة لا يوجب تخصيصها بها ، خصوصا بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية ، قد أتي بها في غير مورد لاجل الاستدلال بها على حكم المورد ، فتأمل.
  ومنها : صحيحة أخرى لزرارة (1) : ( قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ، ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ، ثم إني ذكرت بعد ذلك ، قال : تعيد الصلاة وتغسله ، قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر عليه ، فلما صليت وجدته ، قال عليه السلام : تغسله وتعيد ، قلت : فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا فصليت ، فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك ؟

(1) تهذيب الاحكام 1 : 421 الباب 22 ، الحديث 8.

كفاية الأصول ـ 393 ـ
  قال : لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ، قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ، ولم أدر أين هو ، فأغسله ؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها ، حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ قال : لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ، قال : تنقض الصلاة وتعيد ، إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا ، قطعت الصلاة وغسلته ، ثم بنيت على الصلاة ، لانك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك.
  وقد ظهر مما ذكرنا في الصحيحة الاولى تقريب الاستدلال بقوله : ( فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك ) في كلا الموردين ، ولا نعيد .
  نعم دلالته في المورد الاول على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من اليقين في قوله عليه السلام : ( لانك كنت على يقين من طهارتك ) اليقين بالطهارة قبل ظن الاصابة كما هو الظاهر ، فإنه لو كان المراد منه اليقين الحاصل بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤية بعد الصلاة ، كان مفاد قاعدة اليقين ، كما لا يخفى .
  ثم إنه أشكل على الرواية ، بأن الاعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة [ في النجاسة ] (1) ليست نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها ، بل باليقين بارتفاعها ، فكيف يصح أن يعلل عدم الاعادة بأنها نقض اليقين بالشك ؟
  نعم إنما يصح أن يعلل به جواز الدخول في الصلاة ، كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن التفصي عن هذا الاشكال إلا بأن يقال : إن الشرط في الصلاة فعلا

(1) اثبتنا الزيادة من ( ب ).

كفاية الأصول ـ 394 ـ
  حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها ، ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها ، فيكون قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها ، كما أن إعادتها بعد الكشف يكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب حالها ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا .
  لا يقال : لا مجال حينئذ لاستصحاب الطهارة فإنها إذا لم تكن شرطا لم تكن موضوعة لحكم مع أنها ليست بحكم (1) ، ولا محيص في الاستصحاب عن كون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم .
  فإنه يقال : إن الطهارة وإن لم تكن شرطا فعلا ، إلا أنه غير منعزلة عن الشرطية رأسا ، بل هي شرط واقعي اقتضائي ، كما هو قضية التوفيق بين بعض الاطلاقات ومثل هذا الخطاب ، هذا مع كفاية كونها من قيود الشرط ، حيث أنه كان إحرازها بخصوصها لا غيرها شرطا .
  لا يقال : سلمنا ذلك ، لكن قضيته أن يكون علة عدم الاعادة حينئذ ، بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة ، هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها ، لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب ، مع أن قضية التعليل أن تكون العلة له هي نفسها لا إحرازها ، ضرورة أن نتيجة قوله : ( لانك كنت على يقين ... إلى آخره ) ، أنه على الطهارة لا أنه مستصحبها ، كما لا يخفى .
  فإنه يقال : نعم ، ولكن التعليل إنما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال ، لنكتة التنبيه على حجية الاستصحاب ، وأنه كان هناك استصحاب مع وضوح استلزام ذلك لان يكون المجدي بعد الانكشاف ، هو ذاك الاستصحاب لا الطهارة ، وإلا لما كانت الاعادة نقضا ، كما عرفت في الاشكال.

(1) هذا ما أثبتاه من ( ب ) المصححة ، وفي ( أ ) : الضمائر كلها مذكرة .

كفاية الأصول ـ 395 ـ
  ثم إنه لا يكاد يصح التعليل ، لو قيل باقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، كما قيل (1) ، ضرورة أن العلة عليه إنما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للاجزاء وعدم إعادتها ، لا لزوم النقض من الاعادة كما لا يخفى ، اللهم إلا أن يقال : إن التعليل به إنما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، بتقريب أن الاعادة لو قيل بوجوبها كانت موجبة لنقض اليقين بالشك في الطهارة قبل الانكشاف وعدم حرمته شرعا ، وإلا للزم عدم اقتضاء ذاك الامر له ، كما لا يخفى ، مع اقتضائه شرعا أو عقلا ، فتأمل (2).
  ولعل ذلك مراد من قال (3) بدلالة الرواية على إجزاء الامر الظاهري. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل ، مع أنه لا يكاد يوجب الاشكال فيه ـ والعجز عن التفصي عنه ـ إشكالا في دلالة الرواية على الاستصحاب ، فإن لازم على كل حال ، كان مفاده قاعدته أو قاعدة اليقين ، مع بداهة عدم خروجه منهما ، فتأمل جيدا.
  ومنها : صحيحة ثالثة لزرارة (4) : ( وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع ، وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين فيبنى عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات ).
  والاستدلال بها على الاستصحاب مبني على إرادة اليقين بعدم الاتيان

(1) راجع فرائد الاصول / 331.
(2) وجه التأمل أن اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ليس بذاك الوضوح ، كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النقض من الاعادة ، كما لا يخفى ( منه قدس سره ) ، أثبتنا هذه التعليقة من ( أ و ب ).
(3) كما عن بعض مشايخ الشيخ الانصاري.
(4) الكافي : 3 / 352 ، الحديث 3.

كفاية الأصول ـ 396 ـ
  بالركعة الرابعة سابقا والشك في إتيانها، وقد أشكل (1) بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصة ، ضرورة أن قضيته إضافة ركعة أخرى موصولة ، والمذهب قد استقر على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة ، وعلى هذا يكون المراد باليقين اليقين بالفراغ ، بما علمه الامام عليه السلام من الاحتياط بالبناء على الاكثر ، والاتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولة .
  ويمكن ذبه (2) بأن الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة ، بل كان أصل الاتيان بها باقتضائه ، غاية الامر إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض ، وقد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة وغيره ، وأن المشكوكة لا بد أن يؤتى بها مفصولة ، فافهم .
  وربما أشكل أيضا ، بأنه لو سلم دلالتها على الاستصحاب كانت من الاخبار الخاصة الدالة عليه في خصوص المورد ، لا العامة لغير مورد ، ضرورة ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل ، ومرجع الضمير فيها هو المصلي الشاك.
  وإلغاء خصوصية المورد ليس بذاك الوضوح ، وإن كان يؤيده تطبيق قضية ( لا تنقض اليقين ) وما يقاربها على غير مورد .
  بل دعوى أن الظاهر من نفس القضية هو أن مناط حرمة النقض إنما يكون لاجل ما في اليقين والشك ، لا لما في المورد من الخصوصية ، وإن مثل اليقين لا ينقض بمثل الشك ، غير بعيدة .
  ومنها قوله (3) : ( من كان على يقين فأصابه شك فليمض على

(1) المستشكل هو الشيخ الانصاري ( قدس سره ) فرائد الاصول 331.
(2) الصحيح ما أثبتناه خلافا لما في النسخ.
(3) الخصال ، 619.

كفاية الأصول ـ 397 ـ
  يقينه ، فإن الشك لا ينقض اليقين ) أو ( فإن اليقين لا يدفع بالشك ) (1)، وهو وإن كان يحتمل قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين ، وإنما يكون ذلك في القاعدة دون الاستصحاب ضرورة إمكان اتحاد زمانهما ، إلا أن المتداول في التعبير عن مورده هو مثل هذه العبارة ، ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين وسرايته إلى الوصفين ، لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتحاد ، فافهم .
  هذا مع وضوح أن قوله : ( فإن الشك لا ينقض ... إلى آخره ) ، هي القضية المرتكزة الواردة مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب (2).
  ومنها : خبر الصفار (3) ، عن علي بن محمد القاساني ، ( قال : كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ، هل يصام أم لا ؟ فكتب : اليقين لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية ) حيث دل على أن اليقين ب‍ ( شعبان ) (4) لا يكون مدخولا بالشك في بقائه وزواله بدخول شهر رمضان ، ويتفرع [ عليه ] (5) عدم وجوب الصوم إلا بدخول شهر رمضان .
  وربما يقال : إن مراجعة الاخبار الواردة في يوم الشك يشرف القطع بأن المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان ، وأنه لابد في وجوب الصوم ووجوب الافطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب ؟ فراجع ما عقد في الوسائل (6) لذلك من الباب تجده شاهدا

(1) الارشاد ، 159 .
(2) جامع أحاديث الشيعة 2 / 384 ، الباب 12 من أبواب ما ينقض الوضوء وما لا ينقض .
(3) تهذيب الاحكام 4 / 159 ، الباب 41 علامة اول شهر رمضان وآخره .
(4) في نسختي ( أ ) و ( ب ) بالشعبان .
(5) زيادة تقتضيها العبارة.
(6) وسائل الشيعة 7 / 182 الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان .

كفاية الأصول ـ 398 ـ
  عليه ، ومنها : قوله عليه السلام : ( كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ) (1) وقوله عليه السلام : ( الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس ) (2) وقوله عليه السلام : ( كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام ) (3).
  وتقريب دلالة مثل هذه الاخبار على الاستصحاب أن يقال : إن الغاية فيها إنما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحلية ظاهرا ، ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه ، لا لتحديد الموضوع ، كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته ، وذلك لظهور المغيى فيها في بيان الحكم للاشياء بعناوينها ، لا بما هي مشكوكة الحكم ، كما لا يخفى. فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيل القاعدة ولا الاستصحاب إلا أنه بغايته دل على الاستصحاب ، حيث أنها ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهرا ما لم يعلم (4) بطروء ضده أو نقيضه ، كما أنه لو صار مغيى لغاية ، مثل الملاقاة بالنجاسة أو ما يوجب الحرمة ، لدل على استمرار ذاك الحكم واقعا ، ولم يكن له حينئذ بنفسه ولا بغايته دلالة على الاستصحاب.
  ولا يخفى أنه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين اصلا ، وإنما يلزم لو جعلت الغاية مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه ، ليدل على القاعدة والاستصحاب من غير تعرض لبيان الحكم الواقعي للاشياء أصلا ، مع وضوح ظهور مثل ( كل شيء حلال ، أو طاهر ) في أنه لبيان حكم الاشياء بعناوينها الاولية ، وهكذا ( الماء كله طاهر ) ، وظهور الغاية في كونها حدا للحكم لا لموضوعه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

(1) المقنع / 5 ، الهداية ، 13 ، الباب 11 ، مع اختلاف في الالفاظ.
(2) الكافي 3 / ص 1 وفيه الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر .
(3) الكافي : 5 / 313 الحديث 40 باب النوادر من كتاب المعيشة مع اختلاف يسير .
(4) في ( أ ) : ما لم يعلم بارتفاعه لطروء ضده .

كفاية الأصول ـ 399 ـ
  ولا يذهب عليك انه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلية والطهارة وبين سائر الاحكام ، لعم الدليل وتم.
  ثم لا يخفى أن ذيل موثقة عمار (1) : ( فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك ) يؤيد ما استظهرنا منها ، من كون الحكم المغيى واقعيا ثابتا للشيء بعنوانه ، لا ظاهريا ثابتا له بما هو مشتبه ، لظهوره في أنه متفرع على الغاية وحدها ، وأنه بيان لها وحدها ، منطوقها ومفهومها ، لا لها مع المغيى ، كما لا يخفى على المتأمل .
  ثم إنك إذا حققت ما تلونا عليك مما هو مفاد الاخبار ، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الاقوال ، والنقض والابرام فيما ذكر لها من الاستدلال.
  ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع ، وأنه حكم مستقل بالجعل كالتكليف ، أو منتزع عنه وتابع له في الجعل ، أو فيه تفصيل ، حتى يظهر حال ما ذكر ها هنا بين التكليف والوضع من التفصيل.
  فنقول وبالله الاستعانة : لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوما ، واختلافهما في الجملة موردا ، لبداهة ما بين مفهوم السببية أو الشرطية ومفهوم مثل الايجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة.
  كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي والوضعي ، بداهة أن الحكم وإن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه ولم يكد يصح إطلاقه على الوضع ، إلا أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحة إطلاقه عليه بهذا المعنى ، مما (2) لا يكاد ينكر ، كما لا يخفى ، ويشهد به كثرة

(1) التهذيب 1 / 285 : الباب 12 ، الحديث 119.
(2) في ( أ ) : كان مما لا يكاد ينكر.

كفاية الأصول ـ 400 ـ
  إطلاق الحكم عليه في كلماتهم ، والالتزام بالتجوز فيه ، كما ترى ، وكذا لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة ، كالشرطية والسببية والمانعية ـ كما هو المحكي عن العلامة ـ أو مع زيادة العلية والعلامية ، أو مع زيادة الصحة والبطلان ، والعزيمة والرخصة ، أو زيادة غير ذلك ـ كما هو المحكي عن غيره (1) ـ أو ليس بمحصور ، بل كلما ليس بتكليف مما له دخل فيه أو في متعلقه وموضوعه ، أو لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم ، ضرورة أنه لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها ، مع أنه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك ، وإنما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه ، أو غير مجعول كذلك ، بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله.
  والتحقيق أن ما عد من الوضع على أنحاء ، منها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا ، وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك ، ومنها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعا للتكليف ، ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه ، وتبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه ، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه ، على ما يأتي الاشارة إليه، أما النحو الاول : فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو

(1) الآمدي ، الاحكام في أصول الاحكام / 85 ، في حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه.