فيه ؟ مع أنها كخصوصيات الاخبار ، تكون ناشئة من الاستعمال ، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال ، كما هو واضح لمن تأمل .
  الامر الثاني : إنه إذا تعدد الشرط ، مثل ( إذا خفي الاذان فقصر ، وإذا خفي الجدران فقصر ) ، فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم ، لابد من التصرف ورفع اليد عن الظهور.
  إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر ، فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين.
  وإما برفع اليد عن المفهوم فيهما ، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شيء آخر في الجزاء ، بخلاف الوجه الاول ، فإن فيهما الدلالة على ذلك.
  وإما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر ، فيكون الشرط هو خفاء الاذان والجدران معا ، فإذا خفيا وجب القصر ، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ولو خفي أحدهما.
  وإما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما ، بأن يكون تعدد الشرط قرينة على أن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص ، بل بما هو مصداق لما يعمهما من العنوان.
  ولعل العرف يساعد على الوجه الثاني ، كما أن العقل ربما يعين هذا الوجه ، بملاحظة أن الامور المتعددة بما هي مختلفة ، لا يمكن أن يكون كل منها مؤثرا في واحد ، فإنه لا بد من الربط الخاص بين العلة والمعلول ، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطا بالاثنين بما هما اثنان ، ولذلك إيضا لا يصدر من الواحد إلا الواحد ، فلا بد من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة واحد ، وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم ، وبقاء إطلاق الشرط في كل منهما على حاله ، وإن كان بناء العرف والاذهان العامية

كفاية الأصول ـ 202 ـ
  على تعدد الشرط وتأثير كل شرط بعنوانه الخاص ، فافهم ، الامر الثالث : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء ، فلا إشكال على الوجه الثالث ، وأما على سائر الوجوه ، فهل اللازم لزوم الاتيان بالجزاء متعددا ، حسب تعدد الشروط ؟ أو يتداخل ، ويكتفى بإتيانه دفعة واحدة ؟
  فيه أقوال : والمشهور عدم التداخل ، وعن جماعة ـ منهم المحقق الخوانساري (1) ـ التداخل ، وعن الحلي (2) التفصيل بين اتحاد جنس الشروط وتعدده.
  والتحقيق : إنه لما كان ظاهر الجملة الشرطية ، حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه ، أو بكشفه عن سببه ، وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط ، كان الاخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجودا محالا ، ضرورة أن لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة ـ مثل الوضوء ـ بما هي واحدة ، في مثل ( إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ) ، أو فيما إذا بال مكررا ، أو نام (3) كذلك ، محكوما بحكمين متماثلين ، وهو واضح الاستحالة كالمتضادين.
  فلابد على القول بالتداخل من التصرف فيه : إما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث ، بل على مجرد الثبوت ، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحدا صورة ، إلا أنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط ، متصادقة على واحد ، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة ، حسب

(1) مشارق الشموس 61 ، كتاب الطهارة في تداخل الاغسال الواجبة ، قال : لان تداخل الاسباب لا يوجب تعدد المسببات.
(2) السرائر / 55 ، في باب أحكام السهو والشك في الصلاة ، هو محمد بن احمد بن ادريس الحلي ، فاضل فقيه ومحقق نبيه ، فخر الاجلة وشيخ فقهاء الحلة صاحب كتاب ( السرائر ) و ( مختصر تبيان الشيخ ) توفي سنة 598 وهو ابن خمس وخمسين ( الكنى والالقاب 1 / 201 ).
(3) في ( ب ) : و.

كفاية الأصول ـ 203 ـ
  تعدد الشروط ، إلا أن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها ، كما في ( أكرم هاشميا وأضف عالما ) ، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ، ضرورة أنه بضيافته بداعي الامرين ، يصدق أنه امتثلهما ، ولا محالة يسقط الامر بامتثاله وموافقته ، وإن كان له امتثال كل منهما على حدة ، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة ، وأضاف العالم الغير الهاشمي.
  إن قلت : كيف يمكن ذلك ـ أي الامتثال بما تصادق (1) عليه العنوانان ـ مع استلزامه محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه ؟
  قلت : انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين ، بل غايته أن انطباقهما عليه يكون منشأ لاتصافه بالوجوب وانتزاع صفته له ، مع أنه ـ على القول بجواز الاجتماع ـ لا محذور في اتصافه بهما ، بخلاف ما إذا كان بعنوان واحد ، فافهم .
  أو الالتزام بحدوث الاثر عند وجود كل شرط ، إلا أنه وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الاول ، وتأكد وجوبه عند الآخر.
  ولا يخفى أنه لا وجه لان يصار إلى واحد منها ، فإنه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه ، مع ما في الاخيرين من الاحتياج إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق على واحد ، وإن كان صورة واحدا سمي (2) باسم واحد ، كالغسل ، وإلى إثبات أن الحادث بغير الشرط الاول تؤكد ما حدث بالاول ، ومجرد الاحتمال لا يجدي ، ما لم يكن في البين ما يثبته.
  إن قلت : وجه ذلك هو لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية ، لعدم امكان الاخذ بظهورها ، حيث أن قضيته اجتماع الحكمين في الوضوء في

(1) في ( أ و ب ) : تصادقا .
(2) في ( أ ) مسمى .

كفاية الأصول ـ 204 ـ
  المثال ، كما مرت الاشارة إليه.
  قلت : نعم ، إذا لم يكن المراد بالجملة ـ فيما إذا تعدد الشرط كما في المثال ـ هو وجوب وضوء مثلا بكل شرط غير ما وجب بالآخر ، ولا ضير في كون فرد محكوما بحكم فرد آخر أصلا ، كما لا يخفى .
  إن قلت : نعم ، لو لم يكن تقدير تعدد الفرد على خلاف الاطلاق.
  قلت : نعم ، لو لم يكن ظهور الجملة [ الشرطية ] (1) في كون الشرط سببا أو كاشفا عن السبب ، مقتضيا لذلك أي لتعدد الفرد ، و (2) بيانا لما هو المراد من الاطلاق.
  وبالجملة : لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الاطلاق ضرورة أن ظهور الاطلاق يكون معلقا على عدم البيان ، وظهورها في ذلك صالح لان يكون بيانا ، فلا ظهور له مع ظهورها ، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلا ، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى (3).
  فتلخص بذلك ، أن قضية ظاهر الجملة الشرطية ، هو القول بعدم التداخل عند تعدد الشرط.
  وقد انقدح مما ذكرناه ، أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه

(1) أثبتناها من ( ب ).
(2) في ( أ ) : والا كان بيانا ، ولكن شطب عليه المصنف في ( ب ).
(3) هذا واضح بناء على ما يظهر من شيخنا العلامة من كون ظهور الاطلاق معلقا على عدم البيان مطلقا ، ولو كان منفصلا ، وأما بناء على ما اخترناه في غير مقام ، من أنه إنما يكون معلقا على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا ، فالدوران حقيقة بين الظهورين حينئذ وإن كان ، إلا أنه لا دوران بينهما حكما ، لان العرف لا يكاد يشك بعد الاطلاع على تعدد القضية الشرطية أن قضيته تعدد الجزاء ، وأنه في كل قضية وجوب فرد غير ما وجب في الاخرى ، كما إذا اتصلت القضايا وكانت في كلام واحد ، فافهم ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 205 ـ
  التي ذكرناها ، لا مجرد كون الاسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات ، فلا وجه لما عن الفخر (1) وغيره ، من ابتناء المسألة على أنها معرفات أو مؤثرات (2) ، مع أن الاسباب الشرعية حالها حال غيرها ، في كونها معرفات تارة ومؤثرات أخرى ، ضرورة أن الشرط للحكم الشرعي في الجمل (3) الشرطية ، ربما يكون مما له دخل في ترتب الحكم ، بحيث لولاه لما وجدت له علة ، كما أنه في الحكم الغير الشرعي ، قد يكون أمارة على حدوثه بسببه ، وإن كان ظاهر التعليق أن له الدخل فيهما ، كما لا يخفى .
  نعم ، لو كان المراد بالمعرفية في الاسباب الشرعية أنها ليست بدواعي الاحكام التي هي في الحقيقة علل لها ، وإن كان لها دخل في تحقق موضوعاتها ، بخلاف الاسباب الغير الشرعية ، فهو وإن كان له وجه ، إلا أنه مما لا يكاد يتوهم أنه يجدي فيما هم وأراد .
  ثم إنه لا وجه للتفصيل (4) بين اختلاف الشروط بحسب الاجناس وعدمه ، واختيار عدم التداخل في الاول ، والتداخل في الثاني ، إلا توهم عدم صحة التعلق بعموم اللفظ في الثاني ، لانه من أسماء الاجناس ، فمع تعدد أفراد شرط واحد لم يوجد إلا السبب الواحد ، بخلاف الاول ، لكون كل منها سببا ، فلا وجه لتداخلها ، وهو فاسد .

(1) فخر المحققين ابو طالب محمد بن جمال الدين حسن بن يوسف المطهر الحلي ، ولد سنة 682 ، فاز بدرجة الاجتهاد في السنة العاشرة من عمره الشريف كان والده العلامة يعظمه ويثني عليه ، له كتب منها ( غاية السؤل ) و ( شرح مبادئ الاصول )، توفي سنة 771 ه‍ ، ( روضات الجنات 6 / 230 رقم 591 ).
(2) حكى الشيخ الاعظم ( ره ) نسبته إلى فخر المحققين ( ره ) واحتمل تبعة النراقي ( ره ) له في العوائد / مطارح الانظار / 175 في الهداية 6 من القول في المفهوم والمنطوق .
(3) في ( ب ) : الجملة.
(4) المفصل هو ابن إدريس في السرائر / 55 ، عند قوله ( قده ) : فإن سها المصلي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرات كثيرة ... الخ.

كفاية الأصول ـ 206 ـ
  فإن قضية اطلاق الشرط في مثل ( إذا بلت فتوضأ ) هو حدوث الوجوب عند كل مرة لو بال مرات ، وإلا فالاجناس المختلفة لابد من رجوعها إلى واحد ، فيما جعلت شروطا وأسبابا لواحد ، لما مرت إليه الاشارة ، من أن الاشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسبابا لواحد ، هذا كله فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلا للتعدد .
  وأما ما لا يكون قابلا لذلك ، فلابد من تداخل الاسباب ، فيما لا يتأكد المسبب ، ومن التداخل فيه فيما يتأكد .
  فصل الظاهر أنه لا مفهوم للوصف وما بحكمه مطلقا ، لعدم ثبوت الوضع ، وعدم لزوم اللغوية بدونه ، لعدم انحصار الفائدة به ، وعدم قرينة أخرى ملازمة له ، وعليته فيما إذا استفيدت غير مقتضية له ، كما لا يخفى ، ومع كونها بنحو الانحصار وإن كانت مقتضية له ، إلا أنه لم يكن من مفهوم الوصف ، ضرورة أنه قضية العلة الكذائية المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام ، وهو مما لا إشكال فيه ولا كلام ، فلا وجه لجعله تفصيلا في محل النزاع ، وموردا للنقض والابرام .
  ولا ينافي ذلك ما قيل من أن الاصل في القيد أن يكون احترازيا ، لان الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضية ، مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد ، فلا فرق أن يقال : جئني بإنسان أو بحيوان ناطق ، كما أنه لا يلزم في حمل المطلق على المقيد ، فيما وجد شرائطه إلا ذلك ، من دون حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم ، فإنه من المعلوم أن قضية الحمل ليس إلا أن المراد بالمطلق هو المقيد ، وكأنه لا يكون في البين غيره ، بل ربما قيل (1) :

(1) مطارح الانظار / 183.

كفاية الأصول ـ 207 ـ
  إنه لا وجه للحمل لو كان بلحاظ المفهوم ، فإن ظهوره فيه ليس بأقوى من ظهور المطلق في الاطلاق ، كي يحمل عليه ، لو لم نقل بأنه الاقوى ، لكونه بالمنطوق ، كما لا يخفى .
  وأما الاستدلال على ذلك ـ أي عدم الدلالة على المفهوم ـ بآية ( وربائبكم اللاتي في حجوركم ) (1) ففيه أن الاستعمال في غيره أحيانا مع القرينة مما لا يكاد ينكر ، كما في الآية قطعا ، مع أنه يعتبر في دلالته عليه عند القائل بالدلالة ، أن لا يكون واردا مورد الغالب كما في الآية ، ووجه الاعتبار واضح ، لعدم دلالته معه على الاختصاص ، وبدونها لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم ، فافهم .
  تذنيب : لا يخفى أنه لا شبهة في جريان النزاع ، فيما إذا كان الوصف أخص من موصوفه ولو من وجه ، في مورد الافتراق من جانب الموصوف ، وأما في غيره ، ففي جريانه إشكال أظهره عدم جريانه ، وإن كان يظهر مما عن بعض الشافعية (2) ، حيث قال : ( قولنا في الغنم السائمة زكاة ، يدل على عدم الزكاة في معلوفة الابل ) جريانه فيه ، ولعل وجهه استفادة العلية المنحصرة منه .
  وعليه فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعم مطلقا أيضا ، فيدل على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه ، فلا وجه في التفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخص من وجه (3) ، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، بأنه لا وجه للنزاع فيهما ، معللا بعدم الموضوع ، واستظهار جريانه من بعض الشافعية فيه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا .

(1) النساء / 23.
(2) راجع المنخول للغزالي / 222 ، في مسائل المفهوم ، عند قوله : ( كقوله : في عوامل الابل زكاة ... الخ ).
(3) التفصيل للشيخ ، مطارح الانظار 182 ، عند قوله قده : ثم إن الوصف قد يكون مساويا...

كفاية الأصول ـ 208 ـ
  فصل هل الغاية في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية ، بناء على دخول الغاية في المغيى ، أو عنها وبعدها ، بناء على خروجها ، أو لا ؟
  فيه خلاف ، وقد نسب (1) إلى المشهور الدلالة على الارتفاع ، وإلى جماعة منهم السيد (2) والشيخ (3) ، عدم الدلالة عليه.
  والتحقيق : إنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للحكم ، كما في قوله : ( كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام ) (4) ، و ( كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ) (5) ، كانت دالة على ارتفاعه عند حصولها ، لانسباق ذلك منها ، كما لا يخفى ، وكونه قضية تقييده بها ، وإلا لما كان ما جعل غاية له بغاية ، وهو واضح إلى النهاية.
  وأما إذا كانت بحسبها قيدا للموضوع ، مثل ( سر من البصرة إلى

(1) كما في مطارح الانظار / 186 ، في مفهوم الغاية ، المقام الثاني.
(2) الذريعة 1 / 407 ، في عدم الفرق بين الوصف والغاية .
(3) راجع عدة الاصول 2 / 24 ، تعليق الحكم بالغاية .
هو ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي ، ولد سنة 385 ، قدم العراق سنة 408 ه‍ ، تلمذ على الشيخ المفيد والسيد المرتضى وابي الحسين علي بن احمد بن محمد بن ابي الجيد القمي ، ثم هاجر إلى مشهد امير المؤمنين ( عليه السلام ) خوفا من الفتنة التي تجددت ببغداد واحرقت كتبه وكرسي درسه ، بقي في النجف إلى ان توفي سنة 460 ه‍ له مصنفات كثيرة منها : ( التبيان ) و ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) و ( المبسوط ) و ( الخلاف ) و ( العدة ) في الاصول ، ( الكنى والالقاب 2 / 357 )
(4) الكافي : 5 / 313 ، الحديث 40 من باب النوادر ، كتاب المعيشة ، باختلاف يسير .
(5) التهذيب : 1 / 284 ، الحديث 119 ، باختلاف يسير .

كفاية الأصول ـ 209 ـ
  الكوفة ) ، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة ، وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه وتعلق الطلب به ، وقضيته ليس إلا عدم الحكم فيها إلا بالمغيى ، من دون دلالة لها أصلا على انتفاء سنخه عن غيره ، لعدم ثبوت وضع لذلك ، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا ، دلت على اختصاص الحكم به ، وفائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد ، غير منحصرة بإفادته كما مر في الوصف.
  ثم إنه في الغاية خلاف آخر ، كما أشرنا إليه ، وهو أنها هل هي داخلة في المغيى بحسب الحكم ؟ أو خارجة عنه ؟ والاظهر خروجها ، لكونها من حدوده ، فلا تكون محكومة بحكمه ، ودخوله فيه في بعض الموارد إنما يكون بالقرينة ، وعليه تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الاول ، كما أنه على القول الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقا ، ثم لا يخفى أن هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كان قيدا للحكم ، فلا تغفل (1) .
  فصل لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم ـ سلبا أو إيجابا ـ بالمستثنى منه ولا يعم المستثنى ، ولذلك يكون الاستثناء من النفي إثباتا ، ومن الاثبات نفيا ، وذلك للانسباق عند الاطلاق قطعا ، فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة (2) من عدم الافادة ، محتجا بمثل ( لا صلاة إلا بطهور ) ضرورة ضعف احتجاجه :

(1) حيث أن المغيى حينئذ هو نفس الحكم ، لا المحكوم به ليصح أن ينازع في دخول الغاية في حكم المغيى ، أو خارج عنه ، كما لا يخفى ، نعم يعقل أن ينازع في أن الظاهر هل هو انقطاع الحكم المغيى بحصول غايته [ في ] الاصطلاح ، اي مدخول إلى أو حتى ، أو استمراره في تلك الحال ، ولكن الاظهر هو انقطاعه ، فافهم واستقم ، ( منه قدس سره ).
(2) راجع شرح مختصر الاصول للعضدي / 265 ، والتقرير والتحبير 1 / 313.

كفاية الأصول ـ 210 ـ
  أولا : يكون المراد من مثله (1) أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لاجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة ، إلا إذا كانت واجدة للطهارة ، وبدونها لا تكون صلاة على وجه ، وصلاة تامة مأمورا بها على آخر.
  وثانيا : بأن الاستعمال مع القرينة ، كما في مثل التركيب ، مما علم فيه الحال لا دلالة له على مدعاه أصلا ، كما لا يخفى.
  ومنه قد انقدح (2) أنه لا موقع للاستدلال على المدعى ، بقبول رسول الله صلى الله عليه وآله إسلام من قال كلمة التوحيد ، لامكان دعوى أن دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.
  والاشكال في دلالتها عليه ـ بأن خبر ( لا ) اما يقدر ( ممكن ) أو ( موجود ) وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه ، أما على الاول : فإنه (3) حينئذ لا دلالة لها إلا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى ، لا وجوده ، وأما على الثاني : فلانها وإن دلت على وجوده تعالى ، إلا أنه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر ـ مندفع ، بأن المراد من الاله هو واجب الوجود ، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج ، وإثبات فرد منه فيه ـ وهو الله ـ يدل بالملازمة البينة على امتناع تحققه في ضمن غيره تبارك وتعالى ، ضرورة أنه لو لم يكن ممتنعا لوجد ، لكونه من أفراد الواجب.

أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي ولد عام 80 ه‍ امام الحنفية ـ احد الائمة الاربعة عند اهل السنة ، قيل اصله من ابناء فارس ، ولد ونشأ بالكوفة ، وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ثم انقطع للتدريس والافتاء ، توفي ببغداد عام 150 ه‍ ( الكنى والالقاب 1 / 50 )
(1) بل المراد من مثله في المستثنى منه نفي الامكان ، وأنه لا يكاد يكون بدون المستثنى ، قضيته ليس إلا إمكان ثبوته معه لا ثبوته فعلا ، لما هو واضح لمن راجع أمثاله من القضايا العرفية ( منه قدس سره ).
(2) رد على صاحب الفصول والشيخ ( قدس سره ) أنظر الفصول / 195 ، مطارح الانظار / 187
(3) في ( ب ) فلانه .

كفاية الأصول ـ 211 ـ
  ثم إن الظاهر أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم ، وأنه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية ، نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة ، كانت بالمنطوق ، كما هو ليس ببعيد ، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد .
  ومما يدل على الحصر والاختصاص ( إنما ) وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك ، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف والمحاورة .
  ودعوى ـ أن الانصاف (1) أنه لا سبيل لنا إلى ذلك ، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا ، حتى يستكشف منها (2) ما هو المتبادر منها ـ غير مسموعة ، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا ، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل.
  وربما يعد مما دل على الحصر ، كلمة ( بل ) الاضرابية.
  والتحقيق أن الاضراب على أنحاء :
  منها : ماكان لاجل أن المضرب عنه ، إنما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه ، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه ، فلا دلالة له على الحصر أصلا ، فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء ، كما لا يخفى .
  ومنها : ما كان لاجل التأكيد ، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه ، فلا دلالة له عليه أيضا .
  ومنها : ما كان في مقام الردع ، وإبطال ما أثبت أولا ، فيدل عليه (3) وهو

(1) المدعي هو الشيخ ( قدس ) مطارح الانظار / 188 .
(2) في ( ب ) : منه .
(3) إذا كان بصدد الردع عنه ثبوتا ، وأما إذا كان بصدده إثباتا ، كما إذا كان مثلا بصدد بيان أنه إنما أثبته أولا بوجه لا يصح معه الاثبات اشتباها ، فلا دلالة له على الحصر أيضا ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره )

كفاية الأصول ـ 212 ـ
  واضح ، ومما يفيد الحصر ـ على ما قيل ـ تعريف المسند إليه باللام .
  والتحقيق أنه لا يفيده إلا فيما اقتضاه المقام ، لان الاصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس ، كما أن الاصل في الحمل في القضايا المتعارفة ، هو الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود ، فإنه الشائع فيها ، لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم ، كما لا يخفى ، وحمل شيء على جنس وماهية كذلك ، لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به وحصرها عليه ، نعم ، لو قامت قرينة على أن اللام للاستغراق ، أو أن مدخوله أخذ بنحو الارسال والاطلاق ، أو على أن الحمل عليه كان ذاتيا لافيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه به .
  وقد انقدح بذلك الخلل في كثير من كلمات الاعلام في المقام ، وما وقع منهم من النقض والابرام ، ولا نطيل بذكرها فإنه بلا طائل ، كما يظهر للمتأمل ، فتأمل جيدا.
  فصل لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم ، وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلا ، وقد عرفت أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم ، كما أن قضية التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه ، لانه ليس بذاك الخاص والمقيد ، وأما الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالاضافة إلى كلا طرفيه ، نعم لو كان لمجرد التحديد بالنظر إلى طرفه الاقل لما كان في الزيادة ضير أصلا ، بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة ، كما لا يخفى .
  وكيف كان ، فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم ، بل إنما يكون لاجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق ، كما هو معلوم .

كفاية الأصول ـ 213 ـ
المقصد الرابع
العام والخاص


كفاية الأصول ـ 215 ـ
  فصل قد عرف (1) العام بتعاريف ، وقد وقع من الاعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام ، فإنها تعاريف لفظية ، تقع في جواب السؤال عنه ب‍ ( ما ) (2) الشارحة ، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب‍ ( ما ) (3) الحقيقية ، كيف ؟ وكان المعنى المركوز منه في الاذهان أوضح مما عرف به مفهوما ومصداقا ، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه ، المقياس في الاشكال عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة يعتريه من أحد ، والتعريف لابد أن يكون بالاجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى .
  فالظاهر أن الغرض من تعريفه ، إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الاحكام ، لا بيان ما هو حقيقته (4) وماهيته ، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الاحكام من أفراده ومصاديقه ، حيث لا يكون بمفهومه العام محلا لحكم من الاحكام.

(1) راجع معارج الاصول / 81 ، وزبدة الاصول / 95 ، والمستصفى 2 / 32.
(2 و 3) في ( أ ) : بالما ، وفي ( ب ) : بالماء .
(4) في ( ب ) حقيقة .

كفاية الأصول ـ 216 ـ
  ثم الظاهر أن ما ذكر له من الاقسام : من الاستغراقي (1) والمجموعي والبدلي إنما هو باختلاف كيفية تعلق الاحكام به ، وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الامر أن تعلق الحكم به تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم ، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا ، بحيث لو أخل بإكرام واحد في ( أكرم كل فقيه ) مثلا ، لما امتثل أصلا ، بخلاف الصورة الاولى ، فإنه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو يكون كل واحد موضوعا على البدل ، بحيث لو أكرم واحدا منهم ، لقد أطاع وامتثل ، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل .
  وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها ، فافهم .
  فصل لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصه ـ لغة وشرعا ـ كالخصوص كما يكون ما يشترك بينهما ويعمهما ، ضرورة أن مثل لفظ ( كل ) وما يرادفه في أي لغة كان تخصه ، ولا يخص الخصوص ولا يعمه ، ولا ينافي اختصاصه به استعماله في الخصوص عناية ، بادعاء أنه العموم ، أو بعلاقة العموم والخصوص .
  ومعه لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة ، ولو في ضمنه بخلافه ، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى ، ولا إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع ، حتى قيل : ( ما من عام إلا وقد خص ) ، والظاهر يقتضي كونه حقيقة ، لما هو الغالب تقليلا للمجاز ، مع أن تيقن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به ، مع

(1) إن قلت : كيف ذلك ؟ ولكل واحد منها لفظ غير ما للآخر ، مثل ( أي رجل ) للبدلي ، و ( كل رجل ) للاستغراقي.
قلت : نعم ، ولكنه لا يقتضي أن تكون هذه الاقسام له بملاحظة إختلاف كيفية تعلق الاحكام ، لعدم إمكان تطرق هذه الاقسام إلا بهذه الملاحظة ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 217 ـ
  كون العموم كثيرا ما يراد ، واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز ، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية ، كما يأتي توضيحه ، ولو سلم فلا محذور فيه أصلا إذا كان بالقرينة ، كما لا يخفى .
  فصل ربما عد من الالفاظ الدالة على العموم ، النكرة في سياق النفي أو النهي ، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا ، لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة ، إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود ، وإلا كانت موجودة ، لكن لا يخفى أنها تفيده إذا أخذت مرسلة (1) لا مبهمة قابلة للتقيد ، وإلا فسلبها لا يقتضي إلا استيعاب السلب ، لما أريد منها يقينا ، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فإنها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها ، لا الافراد التي يصلح لانطباقها عليها ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ ( كل ) على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة .
  نعم لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها ، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعا كان أو مفردا ـ بناء على إفادته للعموم ـ ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره ، وإطلاق التخصيص على تقييده ، ليس إلا من قبيل ( ضيق فم الركية ) ، لكن دلالته على العموم وضعا محل منع ، بل إنما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى ، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمركب منهما ، كما لا يخفى ، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.

(1) وإحراز الارسال فيما اضيفت [ إليه ] إنما هو بمقدمات الحكمة ، فلولاها كانت مهملة ، وهي ليست إلا بحكم الجزئية ، فلا تفيد إلا نفي هذه الطبيعة في الجملة ولو في ضمن صنف منها ، فافهم فإنه لا يخلو من دقة ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 218 ـ
  فصل لا شبهة في أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقى فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقا ولو كان متصلا ، وما احتمل دخوله فيه أيضا إذا كان منفصلا ، كما هو المشهور (1) بين الاصحاب ، بل لا ينسب الخلاف إلا إلى بعض (2) أهل الخلاف ، وربما فصل (3) بين المخصص المتصل فقيل بحجيته فيه ، وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته .
  واحتج النافي بالاجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات ، وتعيين (4) الباقي من بينها بلا معين ترجيح بلا مرجح.
  والتحقيق في الجواب أن يقال : إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا ، أما في التخصيص بالمتصل ، فلما عرفت من أنه لا تخصيص أصلا ، وإن أدوات العموم قد استعملت فيه ، وإن كان دائرته سعة وضيقا تختلف باختلاف ذوي الادوات ، فلفظة ( كل ) في مثل ( كل رجل ) و ( كل رجل عالم ) قد استعملت في العموم ، وإن كان أفراد أحدهما بالاضافة إلى الآخر بل في نفسها في غاية القلة .
  واما في المنفصل ، فلان إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاص قرينة عليه ، بل من الممكن قطعا استعماله معه في العموم قاعدة ، وكون الخاص مانعا عن حجية ظهوره تحكيما للنص ، أو الاظهر على الظاهر ، لامصادما لاصل ظهوره ، ومعه لا مجال للمصير إلى أنه قد استعمل فيه مجازا ، كي يلزم الاجمال.

(1) أنظر مطارح الانظار / 192 .
(2) كأبي ثور وعيسى بن أبان ، راجع الاحكام في أصول الاحكام ، الجزء الثاني / 443 .
(3) كالبلخي ، راجع المصدر المتقدم / 444 .
(4) في ( ب ) تعين .

كفاية الأصول ـ 219 ـ
  لا يقال : هذا مجرد احتمال ، ولا يرتفع به الاجمال ، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه .
  فإنه يقال : مجرد احتمال استعماله فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم ، والثابت من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجية تحكيما لما هو الاقوى ، كما أشرنا إليه آنفا .
  وبالجملة : الفرق بين المتصل والمنفصل ، وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الاول إلا في الخصوص ، وفي الثاني إلا في العموم ، إلا أنه لا وجه لتوهم استعماله مجازا في واحد منهما أصلا ، وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الاول ، وعدم حجية ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجة فيه في الثاني ، فتفطن .
  وقد أجيب عن الاحتجاج (1) ، بأن الباقي أقرب المجازات .
  وفيه : لا اعتبار في الاقربية بحسب المقدار ، وإنما المدار على الاقربية بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال .
  وفي تقريرات بحث شيخنا الاستاذ (2) ( قدس سره ) في مقام الجواب عن الاحتجاج ، ما هذا لفظه : والاولى أن يجاب بعد تسليم مجازية الباقي ، بأن دلالة العام على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة ، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لان المانع في مثل المقام إنما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالاصل عدمه ، انتهى موضع الحاجة .

(1) الجواب للمحقق القمي والمحقق الحائري ، القوانين 1 / 266 الفصول / 200
(2) مطارح الانظار / 192 ، في العموم والخصوص .

كفاية الأصول ـ 220 ـ
  قلت : لا يخفى أن دلالته على كل فرد إنما كانت لاجل دلالته على العموم والشمول ، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص ـ كما هو المفروض ـ مجازا ، وكان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز انتهاء التخصيص إليه ، واستعمال العام فيه مجازا ممكنا ، كان تعين (1) بعضها بلا معين ترجيحا بلا مرجح ، ولا مقتضي لظهوره فيه ، ضرورة أن الظهور إما بالوضع وإما بالقرينة ، والمفروض أنه ليس بموضوع له ، ولم يكن هناك قرينة ، وليس له موجب آخر ، ودلالته على كل فرد على حدة حيث كانت في ضمن دلالته على العموم ، لا يوجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم ، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه ، فالمانع عنه وإن كان مدفوعا بالاصل ، إلا أنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع ، نعم إنما يجدي إذا لم يكن مستعملا إلا في العموم ، كما فيما حققناه في الجواب ، فتأمل جيدا .
  فصل إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا ، بأن كان دائرا بين الاقل والاكثر وكان منفصلا ، فلا يسري إجماله إلى العام ، لا حقيقة ولا حكما ، بل كان العام متبعا فيما لا يتبع فيه الخاص ، لوضوح أنه حجة فيه بلا مزاحم أصلا ، ضرورة أن الخاص إنما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه ، تحكيما للنص أو الاظهر على الظاهر ، لا فيما لا يكون كذلك ، كما لا يخفى .
  وإن لم يكن كذلك بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا ، أو بين الاقل والاكثر فيما كان متصلا ، فيسري إجماله إليه حكما في المنفصل المردد بين المتباينين ، وحقيقة في غيره :

(1) في ( أ ) : تعيين .

كفاية الأصول ـ 221 ـ
  أما الاول : فلان العام ـ على ما حققناه (1) ـ كان ظاهرا في عمومه ، إلا أنه يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما.
  وأما الثاني : فلعدم (2) انعقاد ظهور من رأس للعام ، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكل واحد من الاقل والاكثر ، أو لكل واحد من المتباينين ، لكنه حجة في الاقل ، لانه المتيقن في البين .
  فانقدح بذلك الفرق بين المتصل والمنفصل ، وكذا في المجمل بين المتباينين والاكثر والاقل ، فلا تغفل .
  وأما إذا كان مجملا بحسب المصداق ، بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون فردا له أو باقيا تحت العام ، فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لو كان متصلا به ، ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام إلا في الخصوص ، كما عرفت .
  وأما إذا كان منفصلا عنه ، ففي جواز التمسك به خلاف ، والتحقيق عدم جوازه ، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه ، أن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان فعلا حجة ، ولا يكون حجة فيما اشتبه أنه من أفراده ، فخطاب ( لا تكرم فساق العلماء ) لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم مثل ( أكرم العلماء ) ولا يعارضه ، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة ، وهو في غاية الفساد ، فإن الخاص وإن لم يكن دليلا في الفرد المشتبه فعلا ، إلا أنه يوجب اختصاص حجية العام في غير عنوانه من الافراد ، فيكون ( أكرم العلماء ) دليلا وحجة في العالم الغير الفاسق ، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقا للعام بلا كلام ، إلا أنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة ، لاختصاص حجيته بغير الفاسق .
  وبالجملة العام المخصص بالمنفصل ، وإن كان ظهوره في العموم ، كما إذا

(1) في صفحة 219.
(2) في ( ب ) : ولعدم.

كفاية الأصول ـ 222 ـ
  لم يكن مخصصا ، بخلاف المخصص بالمتصل كما عرفت ، إلا أنه في عدم الحجية إلا في غير عنوان الخاص مثله ، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين ، فلابد من الرجوع إلى ما هو الاصل في البين ، هذا إذا كان المخصص لفظيا .
  وأما إذا كان لبيا ، فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم ، إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ، فهو كالمتصل ، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص ، وإن لم يكن كذلك ، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه .
  والسر في ذلك ، أن الكلام الملقى من السيد حجة ، ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم ، فلابد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلا إذا قال المولى : ( أكرم جيراني ) وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدوا له منهم ، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام ، للعلم بعدواته ، لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا ، فإن قضية تقديمه عليه ، هو كون الملقى إليه كأنه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلا ، والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجيته ، إلا فيما قطع أنه عدوه ، لا فيما شك فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى له لو لم يكرم واحدا من جيرانه لاحتمال عداوته له ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة ، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة ، والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور .
  وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك ، ولعله لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما ، بإلقاء حجتين هناك ، تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام ، كأنه لم يعمه حكما من رأس ،

كفاية الأصول ـ 223 ـ
  وكأنه لم يكن بعام ، بخلاف هاهنا ، فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في ( اكرم جيراني ) مثلا ، لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه من تحته ، فإنه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلابد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه .
  بل يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك ، أنه ليس فردا لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه ، فيقال في مثل ( لعن الله بني أمية قاطبة ) (1) : إن فلانا وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا ، فينتج أنه ليس بمؤمن ، فتأمل جيدا .
  إيقاظ : لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل ، لما كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، كان إحراز المشتبه منه بالاصل الموضوعي في غالب الموارد ـ إلا ما شذ ـ ممكنا ، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به بلا كلام ، ضرورة أنه قلما لا يوجد (2) عنوان يجري فيه أصل ينقح به أنه مما بقي تحته ، مثلا إذا شك أن امرأة تكون قرشية ، فهي وإن كانت وجدت اما قرشية أو غيرها ، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها ، إلا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش (3) تجدي في تنقيح أنها ممن لا تحيض إلا إلى خمسين ، لان المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش (4) انتساب أيضا باقية تحت ما دل على أن المرأة إنما ترى الحمرة إلى خمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية ، فتأمل تعرف.
  وهم وإزاحة : ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك

(1) كامل الزيارات / 176 ، الباب 71.
(2) في ( ب ) : لم يوجد.
(3 و 4) في ( أ و ب ) القريش.

كفاية الأصول ـ 224 ـ
  في فرد ، لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل ( أوفوا بالنذور ) فيما إذا وقع متعلقا للنذر ، بأن يقال : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم ، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا ، للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به ، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات (1) وفي السفر (2) إذا تعلق بهما النذر كذلك .
  والتحقيق أن يقال : إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكلفة لاحكام العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها ، إذا أخذ في موضوعاتها أحد الاحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الاولية (3) ، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد ، والوفاء بالنذر وشبهه في الامور المباحة أو الراجحة ، ضرورة أنه معه لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شيء أو حليته جواز التمسك بعموم دليل وجوب الاطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته .
  نعم لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه ، فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا ، فإذا شك في جوازه صح (4) التمسك بعموم دليلها في الحكم بجوازها ، وإذا كانت محكومة بعناوينها الاولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية ، وقع (5) المزاحمة بين المقتضيين ، ويؤثر الاقوى منهما لو

(1) التهذيب 5 / 53 ، الاحاديث 8 إلى 10 من باب 6 المواقيت.
الاستبصار 2 / 161 الاحاديث 8 إلى 10 من باب 93 من أحرم قبل الميقات ، وللمزيد راجع وسائل الشيعة 8 / 236 الباب 13 من ابواب المواقيت.
(2) التهذيب 4 / 235 الحديث 63 و 64 من باب 57 حكم المسافر والمريض في الصيام وللمزيد راجع وسائل الشيعة 7 / 139 الباب 10 من ابواب من يصح منه الصوم الحديث 1 و 7 .
(3) في ( أ ) : الاولوية.
(4) في ( أ ) : فصح .
(5) في ( أ ) : فتقع .

كفاية الأصول ـ 225 ـ
  كان في البين ، وإلا لم يؤثر أحدهما ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح ، فليحكم عليه حينئذ بحكم آخر ، كالاباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والآخر للحرمة مثلا .
  وأما صحة الصوم في السفر بنذره فيه ـ بناء على عدم صحته فيه بدونه ـ وكذا الاحرام قبل الميقات ، فإنما هو لدليل خاص ، كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات ، وإنما لم يأمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر ، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك ، كما ربما يدل عليه ما في الخبر من كون الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت (1).
  لا يقال : لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما ، ضرورة كون وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه إلا الاتيان بالمنذور بأي داع كان .
  فإنه يقال : عباديتهما إنما تكون لاجل كشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ، ملازم لتعلق النذر بهما ، هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل ، وإلا أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما ، بعد تعلق النذر بإتيانهما عباديا ومتقربا بهما منه تعالى ، فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله ، إلا أنه يتمكن منه بعده ، ولا يعتبر في حصة النذر إلا التمكن من الوفاء ولو بسببه ، فتأمل جيدا .
  بقي شيء ، وهو أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص ؟ في إحراز عدم كون ما شك في أنه من مصاديق العام ، مع العلم بعدم كونه محكوما

(1) لم نعثر على الخبر المشار إليه في المتن ، ولكن ورد أنه كمن صلى في السفر اربعا وترك الثنتين.
  راجع الكافي 4 / 321 الحديث 2 ، 6 من باب من احرم دون الوقت .