بحكمه ، مصداقا له ، مثل ما إذا علم أن زيدا يحرم إكرامه ، وشك في أنه عالم ، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص ( أكرم العلماء ) أنه ليس بعالم ، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الاحكام.
  فيه إشكال ، لاحتمال اختصاص حجيتها بما إذا شك في كون فرد العام محكوما بحكمه ، كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الاصول اللفظية وإن كان حجة ، إلا أنه لابد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا دليل هاهنا إلا السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل .
  فصل هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ؟ فيه خلاف ، وربما نفي (1) الخلاف عن عدم جوازه ، بل ادعي الاجماع (2) عليه ، والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام ، أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا ؟ أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به ؟ بعد الفراغ عن (3) اعتبارها بالخصوص في الجملة ، من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ، ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا ، وعليه فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص والياس.
  فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص ، فيما إذا كان في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لاجل أنه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقل من الشك ،

(1) الغزالي في المستصفى 2 / 157.
(2) مطارح الانظار / 197 ، قال : ( بل ادعى عليه الاجماع كما عن النهاية ) ولم نعثر عليه في مظانه من النهاية ، راجع نهاية الاصول / 139. ونقل الاجماع عن الغزالي والامدي ، راجع فواتح الرحموت 1 / 267.
(3) في ( ب ) : من.

كفاية الأصول ـ 227 ـ
  كيف ؟ وقد ادعي الاجماع على عدم جوازه ، فضلا عن نفي الخلاف عنه ، وهو كاف في عدم الجواز ، كما لا يخفى .
  وأما إذا لم يكن العام كذلك ، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في السنة أهل المحاورات ، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص ، وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له ، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الاجمالي به (1) أو حصول الظن بما هو التكليف (2) ، أو غير ذلك رعايتها ، فتختلف مقداره بحسبها ، كما لا يخفى .
  ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ، باحتمال أنه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ، ولو قبل الفحص عنها ، كما لا يخفى .
  إيقاظ : لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا ، وبينه في الاصول العملية ، حيث أنه هاهنا عما يزاحم الحجة (3) ، بخلافه هناك ، فإنه بدونه لا حجة ، ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان ، والنقل وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا ، إلا أن الاجماع بقسميه على تقييده به ، فافهم .
  فصل هل الخطابات الشفاهية مثل : ( يا أيها المؤمنون ) تختص بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعم غيره من الغائبين ، بل المعدومين ؟

(1) استدل بهذا الوجه الشيخ ( قده ) مطارح الانظار / 202 ، رابعها.
(2) راجع زبدة الاصول / 97.
(3) في ( ب ) : الحجية.

كفاية الأصول ـ 228 ـ
  فيه خلاف ، ولابد قبل الخوض في تحقيق المقام ، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والابرام بين الاعلام.
  فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين ، كما صح تعلقه بالموجودين ، أم لا ؟ أو في صحة المخاطبة معهم ، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام إليهم ، وعدم صحتها ، أو في عموم الالفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب ، للغائبين بل المعدومين ، وعدم عمومها لهما ، بقرينة تلك الاداة.
  ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الاولين يكون عقليا ، وعلى الوجه الاخير لغويا ، إذا عرفت هذا ، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، ضرورة أنه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلا من الموجود ضرورة ، نعم هو بمعنى إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر ، لا استحالة فيه أصلا ، فإن الانشاء خفيف المؤونة ، فالحكيم تبارك وتعالى ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة ، طلب شيء قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، فتدبر .
  ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون ، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة ، بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقى لها من الواقف بعقده ، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية ، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا ، إلا استعدادها لان تصير ملكا له بعد وجوده ، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا .
  وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط ، فإمكانه بمكان

كفاية الأصول ـ 229 ـ
  من الامكان، وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة ، وعدم إمكانه ، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ، ويلتفت إليه.
  ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب ، مثل أدوات النداء ، لو كان موضوعا للخطاب الحقيقي ، لاوجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين ، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره ، لكن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك ، بل للخطاب الايقاعي الانشائي ، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسرا وتأسفا وحزنا مثل : يا كوكبا ما كان أقصر عمره (1) ...
  أو شوقا ، ونحو ذلك ، كما يوقعه مخاطبا لمن يناديه حقيقة ، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي ـ حينئذ ـ التخصيص بمن يصح مخاطبته ، نعم لا يبعد دعوى الظهور ، انصرافا في الخطاب الحقيقي ، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها ، على ما حققناه في بعض المباحث السابقة (2) ، من كونها موضوعة للايقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في

(1) وعجزه .... وكذاك عمر كواكب الاسحار.
وهو من رائية ابو الحسن التهامي في رثاء ولده الذي مات صغيرا ، وهي في غاية الحسن والجزالة وفخامة المعنى وجودة السرد وصدرها : حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار سجن بالقاهرة سنة 416 ثم قتل سرا ، رأه بعض اصحابه بعد موته في المنام وساله عن حاله قال : غفر لي ربي ، فقال : باي الاعمال ، قال : بقولي في مرثية ولدي الصغير : جاورت اعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري ( شهداء الفضيلة : 24 )
(2) في مبحث الاوامر / 64.

كفاية الأصول ـ 230 ـ
  الواقعي منها انصرافا ، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه ، كما يمكن دعوى وجوده غالبا في كلام الشارع ، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل : ( يا أيها الناس اتقوا ) و ( يا أيها المؤمنون ) بمن حضر مجلس الخطاب ، بلا شبهة ولا ارتياب .
  ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالادوات ، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية ، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية .
  وتوهم كونه ارتكازيا ، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه ، والتفتيش عن حاله مع حصوله بذلك لو كان مرتكزا ، وإلا فمن أين يعلم بثبوته كذلك ؟ كما هو واضح .
  وإن أبيت إلا عن وضع الادوات للخطاب الحقيقي ، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الالهية بأداة الخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام بدون الاداة كغيرها بالمشافهين ، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم.
  وتوهم صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين ، فضلا عن الغائبين ، لاحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال ، فاسد ، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب ، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى ، كما لا يخفى ، كما أن خطابه اللفظي لكونه تدريجيا ومتصرم الوجود ، كان قاصرا عن أن يكون موجها نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة ، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل يا أيها الناس اتقوا في الكتاب حقيقة إلى غير النبي صلى الله عليه وآله بلسانه .
  وأما إذا قيل بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحيا أو إلهاما ، فلا محيص إلا عن كون الاداة في مثله للخطاب الايقاعي ولو مجازا ، وعليه لا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين ، بل يعم المعدومين ، فضلا عن الغائبين.

كفاية الأصول ـ 231 ـ
  فصل ربما قيل : إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان :
  الاولى (1) : حجية ظهور خطابات (2) الكتاب لهم كالمشافهين.
  وفيه : إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم ، ولو سلم ، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع ، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك ، وإن لم يعمهم الخطاب ، كما يومئ إليه غير واحد من الاخبار.
  الثانية (3) : صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم ، لثبوت الاحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين ، وإن لم يكن متحدا مع المشافهين في الصنف ، وعدم صحته على عدمه ، لعدم كونها حينئذ متكفلة لاحكام غير المشافهين ، فلابد من إثبات اتحاده معهم في الصنف ، حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الاحكام ، وحيث لا دليل عليه حينئذ إلا الاجماع ، ولا إجماع عليه إلا فيما اتحد الصنف ، كما لا يخفى .
  ولا يذهب عليك ، أنه يمكن إثبات الاتحاد ، وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له ، بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق ، مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان ، وإن صح فيما لا يتطرق إليه ذلك ، وليس المراد بالاتحاد في الصنف إلا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الاحكام ، لا الاتحاد فيما كثر

(1) ذكرها المحقق القمي ( ره ) في القوانين 1 / 233 ، في الخطابات المشافهة.
(2) في ( ب ) : الخطابات.
(3) راجع كلام المحقق الوحيد البهبهاني ( قده ) في كتاب ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد / 55.

كفاية الأصول ـ 232 ـ
  الاختلاف بحسبه ، والتفاوت بسببه بين الانام ، بل في شخص واحد بمرور الدهور والايام ، وإلا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين ـ فضلا عن المعدومين ـ حكم من الاحكام.
  ودليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين ، فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان ، لو [ لم ] (1) يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم أيضا ، فلولا الاطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم ، لما أفاد دليل الاشتراك ، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم ، فتأمل جيدا .
  فتلخص : أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلا على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه ، مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص به في غير المقام ، واشير (2) إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام.
  فصل هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، يوجب تخصيصه به أو لا ؟ فيه خلاف بين الاعلام .
  وليكن محل الخلاف ما إذا وقعا في كلامين ، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام ، كما في قوله تبارك وتعالى : ( والمطلقات يتربصن ) إلى قوله ( وبعولتهن أحق بردهن ) (3) وأما ما إذا كان مثل : والمطلقات ازواجهن احق بردهن ، فلا شبهة في تخصيصه به .

(1) اثبتناه من ( ب ).
(2) في رده للثمرة الاولى / 231.
(3) البقرة : 228.

كفاية الأصول ـ 233 ـ
  والتحقيق أن يقال : إنه حيث دار الامر بين التصرف في العام ، بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه ، أو التصرف في ناحية الضمير : إما بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه ، أو إلى تمامه مع التوسع في الاسناد ، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكل توسعا وتجوزا ، كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها في جانب الضمير ، وذلك لان المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد ، لا في تعيين كيفية الاستعمال ، وإنه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الاسناد مع القطع بما يراد ، كما هو الحال في ناحية الضمير .
  وبالجملة : أصالة الظهور إنما يكون حجة فيما إذا شك فيما أريد ، لا فيما إذا شك في أنه كيف اريد ، فافهم ، لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم ، بأن لا يعد ما اشتمل على الضمير مما يكتنف به عرفا ، وإلا فيحكم عليه بالاجمال ، ويرجع إلى ما يقتضيه الاصول ، إلا أن يقال باعتبار اصالة الحقيقة تعبدا ، حتى فيما إذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقي كما عن بعض الفحول .
  فصل قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف ، مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق ، على قولين ، وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور .
  وتحقيق المقام : أنه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ، ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر ، ودار الامر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما إن كانت

كفاية الأصول ـ 234 ـ
  بالاطلاق بمعونة مقدمات الحكمة ، أو بالوضع ، فلا يكون هناك عموم ، ولا مفهوم ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لاجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك ، فلا بد من العمل بالاصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلا كان مانعا عن انعقاد الظهور ، أو استقراره في الآخر.
  ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ، ذاك الارتباط والاتصال ، وأنه لا بد أن يعامل مع كل منهما معاملة المجمل ، لو لم يكن في البين أظهر ، والا فهو المعول ، والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.
  فصل الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل (1) أو خصوص الاخيرة (2) ، أو لا ظهور له في واحد منهما (3) ، بل لابد في التعيين من قرينة ؟ أقوال.
  والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الاخيرة على أي حال ، ضرورة أن رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل ، وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم (4) ( رحمه الله ) حيث مهد مقدمة لصحة رجوعه إليه ، أنه محل الاشكال والتأمل.

(1) نسبه السيد المرتضى ( ره ) إلى مذهب الشافعي وأصحابه ، الذريعة إلى أصول الشريعة : 1 / 249 ، راجع المعتمد في أصول الفقه : 1 / 245 ، وشرح المختصر للعضدي : 1 / 260.
(2) في المصدرين المتقدمين أنه مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
(3) الذريعة إلى اصول الشريعة 1 / 249.
(4) معالم الدين / 127 ، حيث قال : ولنقدم على توجيه المختار مقدمة ... الخ.

كفاية الأصول ـ 235 ـ
  وذلك ضرورة أن تعدد المستثنى منه ، كتعدد المستثنى ، لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الاداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا ، وكان المستعمل فيه الاداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا ، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال ، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوما.
  وبذلك يظهر أنه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع ، أو خصوص الاخيرة ، وإن كان الرجوع إليها متيقنا على كل تقدير ، نعم غير الاخيرة أيضا من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهرا فيه ، فلابد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاصول.
  اللهم إلا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبدا ، لا من باب الظهور ، فيكون المرجع (1) عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا ، لا ما إذا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، فإنه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع ، فتأمل (2).
  فصل الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص كما جاز بالكتاب ، أو بالخبر المتواتر ، أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد ، بلا ارتياب ، لما هو الواضح من سيرة الاصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الائمة ( عليهم السلام ) ، واحتمال أن يكون ذلك

(1) في ( ب ) : مرجع.
(2) إشارة إلى أنه يكفي في منع جريان المقدمات ، صلوح الاستثناء لذلك ، لاحتمال اعتماد المطلق حينئذ في التقييد عليه ، لاعتقاد أنه كاف فيه ، اللهم إلا أن يقال : إن مجرد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه ، غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع ، فأصالة الاطلاق مع عدم القرينة محكمة ، لتمامية مقدمات الحكمة ، فافهم ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 236 ـ
  بواسطة القرينة واضح البطلان، مع أنه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ، لو سلم وجود ما لم يكن كذلك .
  وكون العام الكتابي قطعيا صدورا ، وخبر الواحد ظنيا سندا (1) ، لا يمنع عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعا ، وإلا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا ، مع أنه جائز جزما .
  والسر : أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر ، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية (2) على التصرف فيها ، بخلافها ، فإنها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره ، ولا ينحصر (3) الدليل على الخبر بالاجماع ، كي يقال بأنه فيما لا يوجد على خلافه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنية (4) يسقط وجوب العمل به ، كيف ؟ وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات الكتابية.
  والاخبار الدالة على أن الاخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها (5) أو ضربها على الجدار ، أو أنها زخرف (6) ، أو أنها مما لم يقل به الامام عليه السلام (7) ، وإن كانت كثيرة جدا ، وصريحة الدلالة على طرح المخالف ، إلا

(1) انظر معالم الدين / 147 ، في جواز تخصيص الكتاب بالخبر ...
(2) في ( ب ) : للقرينة.
(3) رد على ما أجاب به المحقق عن استدلال المجوزين لتخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، معارج الاصول / 96.
(4) في ( ب ) دلالة القرائنة.
(5) أصول الكافي : 1 / 69 باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب ، وسائل الشيعة 18 / 78 الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 10.
(6) اصول الكافي : 1 / 69 الحديث 3 ، 4 ، وسائل الشيعة 18 / 78 الحديث 12 و 14.
(7) اصول الكافي 1 / 69 الحديث 5 ، وسائل الشيعة / 18 / 79 الحديث 15 .

كفاية الأصول ـ 237 ـ
  أنه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الاخبار غير مخالفة العموم ، إن لم نقل بأنها ليست من المخالفة عرفا ، كيف ؟ وصدور الاخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليهم السلام كثيرة جدا ، مع قوة احتمال أن يكون المراد أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعا ـ وإن كان هو على خلافه ظاهرا ـ شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من كلامه ، فافهم .
  والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة ، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما ، لاختصاص النسخ بالاجماع على المنع ، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه ، ولذا قل الخلاف في تعيين موارده ، بخلاف التخصيص.
  فصل لا يخفى أن الخاص والعام المتخالفين ، يختلف حالهما ناسخا ومخصصا ومنسوخا ، فيكون الخاص : مخصصا تارة ، وناسخا مرة ، ومنسوخا أخرى ، وذلك لان الخاص إن كان مقارنا مع العام ، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له .
  وإن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا ، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي ، وإلا لكان الخاص أيضا مخصصا له ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات .
  وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام ، يحتمل أن يكون العام ناسخا له ، وإن كان الاظهر أن يكون الخاص مخصصا ، كثرة التخصيص ، حتى اشتهر ( ما من عام الا وقد خص ) مع قلة النسخ في الاحكام جدا ، وبذلك يصير ظهور الخاص في

كفاية الأصول ـ 238 ـ
  الدوام ـ ولو كان بالاطلاق ـ أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع ، كما لا يخفى ، هذا فيما علم تاريخهما.
  وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الاصول العملية.
  وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا ، وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا ، وأنه واجد لشرطه إلحاقا له بالغالب ، إلا أنه لا دليل على اعتباره ، وإنما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، لصيرورة الخاص لذلك في الدوام اظهر من العام ، كما أشير إليه ، فتدبر جيدا.
  ثم إن تعين الخاص للتخصيص ، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به ، إنما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلا فلا يتعين له ، بل يدور بين كونه مخصصا (1) وناسخا في الاول ، ومخصصا ومنسوخا في الثاني ، إلا أن الاظهر كونه مخصصا ، وإن كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص في الدوام (2) ، لما أشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه ، وندرة النسخ جدا في الاحكام.
  ولا بأس بصرف (3) الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ ، فاعلم أن

(1) لا يخفى أن كونه مخصصا بمعنى كونه مبينا بمقدار المرام عن العام ، وناسخا بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الامر في مورد الخاص ، مع كونه مرادا ومقصودا بالافهام في مورده بالعام كسائر الافراد ، وإلا فلا تفاوت بينهما عملا أصلا ، كما هو واضح لا يكاد يخفى ( منه قدس سره ).
(2) في ( ب ) : ولو فيما كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهور الخاص في الخصوص.
(3) في ( ب ) : لصرف .

كفاية الأصول ـ 239 ـ
  النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا ، إلا أنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا ، وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره ، أو أصل إنشائه وإقراره ، مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار ، أو ليس له دوام واستمرار ، وذلك لان النبي صلى الله عليه وآله الصادع للشرع ، ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال ، وأنه ينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم اطلاعه على ذلك ، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى ، ومن هذا القبيل لعله يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل .
  وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا ، وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العلم ، لعدم لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى ، بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة ، ولا لزوم (1) امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، فإن الفعل إن كان مشتملا على مصلحة موجبة للامر به امتنع النهي عنه ، وإلا امتنع الامر به ، وذلك لان الفعل أو دوامه لم يكن متعلقا لارادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته ، ولم يكن الامر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة ، وإنما كان إنشاء الامر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة .
  وأما البداء في التكوينيات (2) بغى ذاك المعنى ، فهو مما دل عليه الروايات المتواترات (3) ، كما لا يخفى ، ومجمله أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره ، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به ، مع علمه بأنه يمحوه ، أو مع عدم علمه به ، لما أشير إليه من عدم الاحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وإنما يخبر به لانه حال الوحي أو الالهام لارتقاء نفسه الزكية ، واتصاله بعالم لوح المحو والاثبات اطلع على

(1) في بعض النسخ المطبوعة : وإلا لزم.
(2) في ( ب ) : التكوينات.
(3) الوافي : 1 / 112 ، باب البداء.

كفاية الأصول ـ 240 ـ
  ثبوته ، ولم يطلع على كونه معلقا على [ أمر ] (1) غير واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله تبارك وتعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) (2) الآية ، نعم من شملته العناية الالهية ، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي [ هو ] من أعظم العوالم الربوبية ، وهو أم الكتاب ، يكشف عنده الواقعيات على ماهي عليها ، كما ربما يتفق لخاتم الانبياء ، ولبعض الاوصياء ، كان عارفا بالكائنات (3) كما كانت وتكون .
  نعم مع ذلك ، ربما يوحى إليه حكم من الاحكام ، تارة بما يكون ظاهرا في الاستمرار والدوام ، معه أنه في الواقع له غاية وأمد يعينها (4) بخطاب آخر ، وأخرى بما يكون ظاهرا في الجد ، مع أنه لا يكون واقعا بجد ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار ، كما أنه يؤمر وحيا أو الهاما بالاخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع ، لاجل حكمة في هذا الاخبار أو ذاك الاظهار ، فبدا له تعالى بمعنى أنه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولا ، ويبدي ما خفي ثانيا .
  وإنما نسب إليه تعالى البداء ، مع إنه في الحقيقة الابداء ، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره ، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الالباب.
  ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ ، ضرورة أنه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأسا ، وعلى النسخ ، على ارتفاع حكمه عنه من حينه ، فيما دار الامر بينهما في المخصص ، وأما إذا دار بينهما في الخاص والعام ، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا ، وعلى النسخ كان محكوما به من حين صدور دليله ، كما لا يخفى .

(1) أثبتناها من ( ب ).
(2) الرعد : 39.
(3) في ( ب ) : على الكائنات.
(4) في ( ب ) : يتعينها.

كفاية الأصول ـ 241 ـ
المقصد الخامس
المطلق والمقيد

كفاية الأصول ـ 243 ـ
  فصل عرف (1) المطلق بأنه : ما دل على شائع في جنسه ، وقد أشكل عليه بعض الاعلام (2) ، بعدم الاطراد أو الانعكاس ، وأطال الكلام في النقض والابرام ، وقد نبهنا في غير مقام على أن مثله شرح الاسم ، وهو مما يجوز أن لا يكون بمطرد ولا بمنعكس ، فالاولى الاعراض عن ذلك ، ببيان ما وضع له بعض الالفاظ التي يطلق عليها المطلق ، أو من غيرها مما يناسب المقام.
  فمنها : اسم الجنس ، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض إلى غير ذلك من أسماء الكليات من الجواهر والاعراض بل العرضيات ، ولا ريب أنها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة ، بلا شرط أصلا ملحوظا معها ، حتى لحاظ أنها كذلك.
  وبالجملة : الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى ، وصرف المفهوم الغير الملحوظ معه شيء أصلا الذي هو المعنى بشرط شيء ، ولو كان ذاك الشيء هو الارسال والعموم البدلي ، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه الذي هو

(1) هذا التعريف لاكثر الاصوليين على ما ذكره المحقق القمي ، القوانين 1 / 321 ، المطلق والمقيد.
(2) المستشكل هو صاحب الفصول ، قال في الفصول / 218 ، في فصل ( المطلق ) : ويخرج بقولنا شيوعا حكميا ... إلى أن قال : وقد أهملوا هذا القيد فيرد ذلك على طردهم ... الخ.

كفاية الأصول ـ 244 ـ
  الماهية اللابشرط القسمي ، وذلك لوضوح صدقها بما لها من المعنى ، بلا عناية التجريد عما هو قضية الاشتراط والتقييد فيها ، كما لا يخفى ، مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الافراد ، وإن كان يعم كل واحد منها بدلا أو استيعابا ، وكذا المفهوم اللابشرط (1) القسمي ، فإنه كلي عقلي لا موطن له إلا الذهن لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها ، بداهة أن مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجا ، فكيف يمكن أن يتحد معها ما لا وجود له إلا ذهنا ؟
  ومنها : علم الجنس (2) كأسامة ، والمشهور بين أهل العربية أنه موضوع للطبيعة لا بما هي هي ، بل بما هي متعينة بالتعين (3) الذهني ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.
  لكن التحقيق أنه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلا كاسم الجنس ، والتعريف فيه لفظي ، كما هو الحال في التأنيث اللفظي ، وإلا لما صح حمله على الافراد بلا تصرف و تأويل ، لانه على المشهور كلي عقلي ، وقد عرفت أنه لا يكاد صدقه عليها مع صحة حمله عليها بدون ذلك ، كما لا يخفى ، ضرورة أن التصرف في المحمول بإرادة نفس المعنى بدون قيده تعسف ، لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه ، مع أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال ، لا يكاد يصدر عن جاهل ، فضلا عن الواضع الحكيم.
  ومنها : المفرد المعرف باللام ، والمشهور أنه على أقسام : المعرف بلام الجنس ، أو الاستغراق ، أو العهد بأقسامه ، على نحو الاشتراك بينها لفظا أو معنى ، والظاهر أن الخصوصية في كل واحد من الاقسام من قبل خصوص

(1) في ( أ ) : لا بالشرط .
(2) في ( ب ) : للجنس .
(3) في ( ب ) : بالتعيين .

كفاية الأصول ـ 245 ـ
  اللام ، أو من قبل قرائن المقام ، من باب تعدد الدال والمدلول ، لا باستعمال المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك ، فكان المدخول على كل حال مستعملا فيما يستعمل فيه الغير المدخول.
  والمعروف أن اللام تكون موضوعة للتعريف ، ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني ، وأنت خبير بأنه لا تعين في تعريف الجنس إلا الاشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهنا ، ولازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الافراد ، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا بالتجريد ، ومعه لا فائدة في التقييد ، مع أن التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف ، هذا .
  مضافا إلى أن الوضع لما لا حاجة إليه ، بل لا بد من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه ، كان لغوا ، كما أشرنا إليه ، فالظاهر أن اللام مطلقا يكون للتزيين ، كما في الحسن والحسين ، واستفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لابد منها لتعينها على كل حال ، ولو قيل بإفادة اللام للاشارة إلى المعنى ، ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الاشارة ، لو لم تكن مخلة ، وقد عرفت إخلالها ، فتأمل جيدا .
  وأما دلالة الجمع (1) المعرف باللام على العموم مع عدم دلالة المدخول عليه ، فلا دلالة فيها على أنها تكون لاجل دلالة اللام على التعين (2) ، حيث لا تعين إلا للمرتبة المستغرقة لجميع الافراد ، وذلك لتعين المرتبة الاخرى ، وهي أقل مراتب الجمع ، كما لا يخفى .
  فلا بد أن يكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك لذلك ، لا إلى دلالة

(1) رد على صاحب الفصول ، الفصول / 169. التنبيه الاول.
(2) في ( ب ) : التعيين.

كفاية الأصول ـ 246 ـ
  اللام على الاشارة إلى المعين ، ليكون به التعريف ، وإن أبيت إلا عن استناد الدلالة عليه إليه ، فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسيط الدلالة على التعيين ، فلا يكون بسببه تعريف إلا لفظا ، فتأمل جيدا .
  ومنها : النكرة مثل ( رجل ) في ( وجاء رجل من أقصى المدينة ) أو في ( جئني برجل ) ولا إشكال أن المفهوم منها في الاول ، ولو بنحو تعدد الدال والمدلول ، هو الفرد المعين في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد الرجل.
  كما أنه في الثاني ، هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة ، فيكون حصة من الرجل ، ويكون كليا ينطبق على كثيرين ، لا فردا مرددا بين الافراد (1).
  وبالجملة : النكرة ـ أي [ ما ] بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم ـ إما هو فرد معين في الواقع غير معين للمخاطب ، أو حصة كلية ، لا الفرد المردد بين الافراد ، وذلك لبداهة كون لفظ ( رجل ) في ( جئني برجل ) نكرة ، مع أنه يصدق على كل من جيء به من الافراد ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره ، كما هو قضية الفرد المردد ، لو كان هو المراد منها ، ضرورة أن كل واحد هو هو ، لا هو أو غيره ، فلابد أن تكون النكرة الواقعة في متعلق الامر ، هو الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة ، فيكون كليا قابلا للانطباق ، فتأمل جيدا .
  إذا عرفت ذلك ، فالظاهر صحة اطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس والنكرة بالمعنى الثاني ، كما يصح لغة ، وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الاطلاق على وفق اللغة ، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها ، كما لا يخفى.
  نعم لو صح ما نسب إلى المشهور ، من كون المطلق عندهم موضوعا لما

(1) قال به صاحب الفصول ، الفصول / 163 ، في صيغة العموم ، عند قوله : ومدلولها فرد من الجنس لا بعينه ... الخ.

كفاية الأصول ـ 247 ـ
  قيد بالارسال والشمول البدلي ، لما كان ما أريد منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق ، إلا أن الكلام في صدق النسبة ، ولا يخفى أن المطلق بهذا المعنى لطروء القيد غير قابل ، فإن ماله من الخصوصية ينافيه ويعانده ، بل (1) وهذا بخلافه بالمعنيين ، فإن كلا منهما له قابل ، لعدم انثلامهما بسببه أصلا ، كما لا يخفى .
  وعليه لا يستلزم التقييد تجوزا في المطلق ، لامكان إرادة معنى لفظه منه ، وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال ، وإنما استلزمه لو كان بذاك المعنى ، نعم لو أريد من لفظه المعنى المقيد ، كان مجازا مطلقا ، كان التقييد بمتصل أو منفصل .
  فصل قد ظهر (2) لك أنه لا دلالة لمثل ( رجل ) إلا على الماهية المبهمة وضعا ، وأن الشياع والسريان كسائر الطوارئ يكون خارجا عما وضع له ، فلا بد في الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة ، وهي تتوقف على مقدمات :
  إحداها : كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، لا الاهمال أو الاجمال.
  ثانيتها : انتفاء ما يوجب التعيين.
  ثالثتها : انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ولو كان المتيقن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين ، فإنه غير مؤثر في رفع الاخلال بالغرض ، لو كان بصدد البيان ، كما هو الفرض ، فإنه فيما تحققت لو لم يرد الشياع لاخل بغرضه ، حيث أنه لم ينبه مع أنه بصدده ، وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به ، حيث لم يكن مع انتفاء الاولى ، إلا في مقام الاهمال أو الاجمال ، ومع انتفاء الثانية ، كان البيان بالقرينة ، ومع انتفاء الثالثة ،

(1) أثبتناها من ( أ ).
(2) تقدم في المقصد الخامس ، الفصل الاول / 243.

كفاية الأصول ـ 248 ـ
  لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده ، فإن الفرض أنه بصدد بيان تمامه ، وقد بينه ، لا بصدد بيان أنه تمامه ، كي أخل ببيانه ، فافهم (1).
  ثم لا يخفى عليك أن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده ، مجرد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه ، ولو لم يكن عن جد ، بل قاعدة وقانونا ، لتكون حجة فيما لم تكن حجة أقوى على خلافه ، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا يكون الظفر بالمقيد ـ ولو كان مخالفا ـ كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحة التمسك به أصلا ، فتأمل جيدا .
  وقد انقدح بما ذكرنا (2) أن النكرة في دلالتها على الشياع والسريان ـ أيضا ـ تحتاج فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال من مقدمات الحكمة ، فلا تغفل .
  بقى شيء : وهو أنه لا يبعد أن يكون الاصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، هو كونه بصدد بيانه ، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالاطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة ، ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها ، مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان ، وبعد كونه لاجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان ، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم ، ولعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الاحراز والغفلة عن وجهه ، فتأمل جيدا .

(1) إشارة إلى أنه لو كان بصدد بيان أنه تمامه ما أخل ببيانه ، بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الافراد ، فإنه بملاحظته يفهم أن المتيقن تمام المراد ، وإلا كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها ، وإلا قد أخل بغرضه ، نعم لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلا بصدد بيان أن المتيقن مراد ، لا بصدد بيان أن غيره مراد أو ليس بمراد ، قبالا للاجمال والاهمال المطلقين ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة ( منه أعلى الله مقامه ).
(2) في صفحة 247 من هذا الكتاب.

كفاية الأصول ـ 249 ـ
  ثم إنه قد انقدح بما عرفت ـ من توقف حمل المطلق على الاطلاق ، فيما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة ـ أنه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الافراد أو الاصناف ، لظهوره فيه ، أو كونه متيقنا منه ، ولو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه ، حسب اختلاف مراتب الانصراف ، كما أنه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك ، بل يكون بدويا زائلا بالتأمل ، كما أنه منها ما يوجب الاشتراك أو النقل.
  لا يقال : كيف يكون ذلك وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق أصلا.
  فإنه يقال : مضافا إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له ، لا عدم إمكانه ، فإن استعمال المطلق في المقيد بمكان من الامكان ، إن كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ولو بدال آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزية أنس ، كما في المجاز المشهور ، أو تعينا (1) واختصاصا به ، كما في المنقول بالغلبة ، فافهم .
  تنبيه : وهو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة ، كان واردا في مقام البيان من جهة منها ، وفي مقام الاهمال أو الاجمال من أخرى ، فلابد في حمله على الاطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة ، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أخرى ، إلا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة ، كما لا يخفى .
  فصل إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين ، فإما يكونان مختلفين في الاثبات والنفي ، وإما يكونان متوافقين ، فإن كانا مختلفين مثل ( أعتق رقبة ) و ( لا

(1) في ( ب ) : تعيينا.

كفاية الأصول ـ 250 ـ
  تعتق رقبة كافرة ) فلا إشكال في التقييد ، وإن كانا متوافقين ، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد ، وقد استدل بأنه جمع بين الدليلين وهو أولى.
  وقد أورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر ، مثل حمل الامر في المقيد على الاستحباب .
  وأورد عليه بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ ، وإنما هو تصرف في وجه من وجوه المعنى ، اقتضاه تجرده عن القيد ، مع تخيل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الاجمال ، فلا إطلاق فيه حتى يستلزم تصرفا ، فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد ، بحمل أمره على الاستحباب .
  وأنت (1) خبير بأن التقييد أيضا يكون تصرفا في المطلق ، لما عرفت من أن الظفر بالمقيد لا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان ، بل عن عدم كون الاطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة ، بمراد جدي ، غاية الامر أن التصرف فيه بذلك لا يوجب التجوز فيه ، مع أن حمل الامر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوزا فيه ، فإنه في الحقيقة مستعمل في الايجاب ، فإن المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب ، كان من أفضل أفراد الواجب ، لا مستحبا فعلا ، ضرورة أن ملاكه لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه .
  نعم ، فيما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالاصل ، كان من التوفيق بينهما ، حمله على أنه سيق في مقام الاهمال على خلاف مقتضى الاصل ، فافهم. ولعل وجه التقييد كون ظهور إطلاق الصيغة في الايجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق .

(1) رد على الشيخ ( قده ) في انتصاره لدليل المشهور ، مطارح الانظار / 220.