كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى ، بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة ، كما لا يخفى أنه التزام بالاشكال وعدم جريانه فيها ، وهو كما ترى .
  قلت : لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها ، مما يتعلق بها الامر المتعلق بها ، فيشكل جريانه حينئذ ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها (1) ، وقد عرفت أنه فاسد (2) ، وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لاجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه .
  وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الامكان ، ضرورة التمكن من الاتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ، غاية الامر أنه لابد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا ، بأن يؤتى به بداعي احتمال الامر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى ، فيقع حينئذ على تقدير الامر به امتثالا لامره تعالى ، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى ، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد .
  وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها (3) ،

(1) هكذا صححه في ( ب ) ، وفي ( أ ) : لعدم التمكن من إتيان جميع ما اعتبر فيها ... إلخ.
(2) راجع ص 72 في المقدّمة الثانية من مبحث التعبدي والتوصلي.
(3) هذا مع أنه لو أغمض عن فساده ، لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الاشكال فيها ، فكما يلتزم في دفعه بتعدد الامر فيها ، ليتعلق أحدهما بنفس الفعل والآخر بإتيانه بداعي أمره ، كذلك فيما احتمل وجوبه منها ، كان على هذا احتمال أمرين كذلك ، أي أحدهما كان متعلقا بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذاك الامر ، فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله ، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجبا ، وانقيادا لو لم يكن كذلك.
نعم كان بين الاحتياط ها هنا وفي التوصليات فرق ، وهو أن المأتي به فيها قطعا كان موافقا لما احتمل وجوبه مطلقا ، بخلافه هاهنا ، فإنه لا يوافق إلا على تقدير وجوبه واقعا ، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلا على هذا التقدير ، ولكنه ليس بفارق لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه ، وكونه واجبا ، ودعوى عدم كفاية الاتيان برجاء الامر في صيرورته عبادة أصلا ـ ولو على هذا التقدير ـ مجازفة ، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالا لامره على نحو العبادة لو كان ، وهو الحاكم في باب الاطاعة والعصيان ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 352 ـ
  بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء ، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها ، كما لا يخفى .
  فظهر أنه لو قيل (1) بدلالة أخبار (2) ( من بلغه ثواب ) على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف ، لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف ، بل كان عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه .
  لا يقال : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه ، وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان ، بل بعنوان أنه محتمل الثواب ، لكانت دالة على استحباب الاتيان به بعنوان الاحتياط ، كأوامر الاحتياط ، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الارشادي .
  فإنه يقال : إن الامر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا ، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط ، ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفا .
  ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الاخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب ، فإن صحيحة (3) هشام بن سالم المحكية عن المحاسن ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : ( من بلغه عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول الله ـ ( ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) ـ لم يقله ) ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) أنه ذو ثواب.

(1) هذا رد للشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغيره ، فرائد الاصول / 229.
(2) الوسائل : 1 / 59 ب 18 من أبواب مقدمة العبادات ، أحاديث الباب.
(3) المحاسن / 25 ، وكتاب ثواب الاعمال الباب 1 ، الحديث 2.

كفاية الأصول ـ 353 ـ
  وكون العمل متفرعا على البلوغ ، وكونه الداعي إلى العمل غير موجب (1) لان يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه ، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط ، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان ، وإتيان (2) العمل بداعي طلب قول النبي ( ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) كما قيد به في بعض الاخبار (3) ، وإن كان انقيادا ، إلا أن الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل ، ولا موجب لتقييدها به ، لعدم المنافاة بينهما ، بل لو أتى به كذلك أو إلتماسا للثواب الموعود ، كما قيد به في بعضها الآخر (4) ، لاوتي الاجر والثواب على نفس العمل ، لا بما هو احتياط وانقياد ، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة ، فيكون وزانه وزان ( من سرح لحيته ) (5) أو ( من صلى أو صام فله كذا ) ولعله لذلك أفتى المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمل.
  الثالث : إنه لا يخفى أن النهي عن شيء ، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان ، بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا ، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالاصل ، فلا يجوز الاتيان بشيء يشك معه في تركه ، إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الاتيان به.
  نعم ، لو كان بمعنى طلب تركه كل فرد منه على حدة ، لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد ، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه ، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة.
  فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة ، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة ، أو كان

(1 و 2) تعريض بالشيخ في أخبار من بلغ ، فرائد الاصول / 230.
(3) الوسائل : 1 / 60 ، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 4.
(4) المصدر السابق ، الحديث 7.
(5) الوسائل : 1 / 429 ، الباب 76 من أبواب آداب الحمام.

كفاية الأصول ـ 354 ـ
  الشئ مسبوقا بالترك ، وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا ، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لامره ، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه ، غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالاصل ، كذلك يحرز ترك الحرام به ، والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ، إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا ، فتفطن .
  الرابع : إنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا ، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك ، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة ، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فردا للواجب أو الحرام ، ما لم يخل بالنظام فعلا ، فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا ، كان في الامور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها ، وكان احتمال التكليف قويا أو ضعيفا ، كانت الحجة على خلافه أو لا ، كما أن الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسنا كذلك ، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الامر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا ، فافهم .

كفاية الأصول ـ 355 ـ
  فصل إذا دار الامر بين وجوب شيء وحرمته ، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ، ففيه وجوه :
  الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ، ووجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ، والتخيير بين الترك والفعل عقلا ، مع التوقف عن الحكم به رأسا ، أو مع الحكم عليه بالاباحة شرعا .
  أوجهها الاخير ، لعدم الترجيح بين الفعل والترك ، وشمول مثل ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) له ، ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا .
  وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الاحكام إلتزاما ، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا ، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا ، وقياسه بتعارض الخبرين ـ الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب ـ باطل ، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة ، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة ، إلا أن أحدهما ـ تعيينا أو تخييرا ـ حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الاصابة مع

كفاية الأصول ـ 356 ـ
  اجتماع سائر الشرائط ، صار (1) حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعيينا ، أو التخيير تخييرا ، وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا ؟ وهو حاصل ، والاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.
  نعم ، لو كان التخيير بين الخبرين لاجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة ، وإحداثهما الترديد بينهما ، لكان القياس في محله ، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير ها هنا ، فتأمل جيدا .
  ولا مجال ـ ها هنا ـ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنه لا قصور فيه ـ ها هنا ـ وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها ، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى .
  ثم إن مورد هذه الوجوه ، وإن كان ما [ إذا ] (2) لم يكن واحدا من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا ، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الاباحة ، لانها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الاستاذ (3) ( قدس سره ) ، إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي ، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه ، وتركه كذلك ، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح .
  فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام ، وإن اختص بعض الوجوه بهما ، كما لا يخفى .
  ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه (4) كما هو الحال

(1) كذا صححه في ( ب ) ، وفي ( أ ) : جعل.
(2) أثبتناها من ( ب ).
(3) راجع فرائد الاصول / 236.
(4) في ( ب ) : بتبعيته.

كفاية الأصول ـ 357 ـ
  في دوران الامر بين التخيير والتعيين في غير المقام ، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما ، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الاخلال بها في صورة المزاحمة ، ووجب الترجيح بها ، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.
  ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا ، لاجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام ، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما ؟ فافهم .

كفاية الأصول ـ 358 ـ
  فصل لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم ، فتارة لتردده بين المتابينين ، وأخرى بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، فيقع الكلام في مقامين :
  المقام الاول : في دوران الامر بين المتابينين.
  لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا ـ ولو كانا فعل أمر وترك آخر ـ إن كان فعليا من جميع الجهات ، بأن يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي ، مع ما هو [ عليه ] (1) من الاجمال والتردد والاحتمال ، فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته ، وحينئذ لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الاباحة مما يعم أطراف العلم مخصصا عقلا ، لاجل مناقضتها معه.
  وإن لم يكن فعليا كذلك ، ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته ، لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلة البراءة الشرعية للاطراف.
  ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي ، إلا أنه لا مجال

(1) زيادة يقتضيها السياق.

كفاية الأصول ـ 359 ـ
  للحكم الظاهري مع التفصيلي ، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات ، لا محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات ، وله مجال مع الاجمالي ، فيمكن أن لا يصير فعليا معه ، لامكان جعل الظاهري في أطرافه ، وإن كان فعليا من غير هذه الجهة ، فافهم .
  ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة ، وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم ، مع كونه فعليا لولاه من سائر الجهات .
  وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها ، في التنجز وعدمه ، فيما كان المعلوم إجمالا فعليا ، يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.
  والحاصل أن اختلاف الاطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم ، ولو أوجب تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر ، وعدمها مع عدمه ، فلا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الاطراف قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك ، وقد عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين التفصيلي والاجمالي في ذلك ، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا ، فتأمل تعرف .
  وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها ، ضرروة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجب موافقته قطعا ، وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا .
  ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا ، إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه ، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا ، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر ، كأيام حيض المستحاضة

كفاية الأصول ـ 360 ـ
  مثلا ، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته ، وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية ، لكان منجزا ووجب موافقته ، فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية ، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي ، كالحج في الموسم للمستطيع ، فافهم.

تنبيهات
  الاول : إن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين ، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين ، ضرورة أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الاطراف أو تركه ، تعيينا أو تخييرا ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا ، وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا ، وذلك لان (1) التكليف المعلوم بينها من أول الامر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة ، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما ، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين ، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الاطراف بلا تعيين .
  لا يقال : الاضطرار إلى بعض الاطراف ليس إلا كفقد بعضها ، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن

(1) لا يخفى أن ذلك إنما يتم فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، وأما لو كان إلى أحدهما المعين ، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز ، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالا ، المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر ، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلا ، وعروض الاضطرار إنما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه ، لا عن فعلية المعلوم بالاجمال المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض ، والمطلق في الآخر بعد العروض ، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقا ، فافهم وتأمل ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 361 ـ
  عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه ، فإنه يقال : حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ، كان التكليف المتعلق به مطلقا ، فإذا اشتغلت الذمة به ، كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه ، فإنه من حدود التكليف به وقيوده ، ولا يكون الاشتغال به من الاول إلا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده ، ولا يكون إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية ، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا.
  الثاني : إنه لما كان النهي عن الشيء (1) إنما هو لاجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه ، لو لم يكن له داع آخر ـ ولا يكاد يكون ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به ، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها ، فليس للنهي عنه موقع أصلا ، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل ـ كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لابد منه في تأثير العلم ، فإنه بدونه لا علم بتكليف فعلي ، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به .
  ومنه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا ، هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال ، ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة ، لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب (2) ، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء (3) بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه ، لا فيما شك في اعتباره في صحته ، تأمل (4) لعلك تعرف إن شاء الله تعالى .

(1) كما أنه إذا كان فعل الشيء الذي كان متعلقا لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد ، وأن لا يكون له داع إليه ، لم يكن للامر به والبعث إليه موقع أصلا ، كما لا يخفى ( منه قدس سره ).
(2) تعريض بما قد يظهر من الشيخ ، فرائد الاصول / 252 .
(3) هكذا صححه المصنف في ( ب ) ، وفي ( أ ) : به .
(4) نعم لو كان الاطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء ـ لو لم يكن هناك ابتلاء مصحح للتكليف ـ

كفاية الأصول ـ 362 ـ
  الثالث : إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم ، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة .
  نعم ربما تكون كثرة الاطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها أو ارتكابه ، أو ضرر فيها أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا ، وليس بموجبة لذلك في غيره ، كما أن نفسها ربما يكون موجبة لذلك ولو كانت قليلة في مورد آخر ، فلابد من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالاجمال أنه يكون أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون مع كثرة أطرافه وملاحظة أنه مع أية مرتبة من كثرتها كما لا يخفى .
  ولو شك في عروض الموجب ، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان ، وإلا فالبراءة لاجل الشك في التكليف الفعلي ، هذا هو حق القول في المقام ، وما قيل (1) في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف .
  الرابع : إنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الاطراف ، مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها ، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه واقعا .
  ومنه ينقدح الحال في المسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالاجمال ، وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه ، فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها ، فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في البين قطعا ، ولو لم يجتنب عما يلاقيه ، فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من النجس ، قد شك في وجوده ، كشيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر.

كان الاطلاق وعدم بيان التقييد دالا على فعليته ، ووجود الابتلاء المصحح لهما ، كما لا يخفى ، فافهم ( منه قدس سره ).
(1) راجع فرائد الاصول / 260 ـ 262.

كفاية الأصول ـ 363 ـ
  ومنه ظهر أنه لا مجال لتوهم (1) أن قضية الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا ، ضرورة أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه ، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وإن احتمل.
  وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه ، فيما لو علم إجمالا نجاسته أو نجاسة شيء آخر ثم حدث ( العلم ب‍ ) (2) الملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء أيضا ، فإن حال (3) الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي ، وأنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا ، لا إجمالا ولا تفصيلا ، وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي ، ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده.
  وثالثة يجب الاجتناب عنهما ، فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة ، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا : إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى ، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين ، وهو الواحد أو الاثنان (4).
  المقام الثاني : ( في دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ).
  والحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بينهما ـ أيضا ـ يوجب الاحتياط عقلا بإتيان الاكثر ، لتنجزه به حيث تعلق بثبوته فعلا .

(1) جعل الشيخ هذا التوهم أحد الاحتمالين في المسألة ، مستشهدا له بكلام السيد أبي المكارم في الغنية ولم نعثر عليه في الغنية ، نعم استدل أبو المكارم بايتي تحريم الخبائت وتحريم الميتة ، ولكن يظهر ما ذكره الشيخ من كلام السيد المرتضى في الناصريات ، للمزيد راجع فرائد الاصول 252 والغنية ( الجوامع الفقهية 489 ) والناصريات ( الجوامع الفقهية 214 ).
(2) أثبتناها من ( ب ).
(3) وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه إلا من ملاقاته ، ( منه قدس سره ).
(4) في نسختي ( أ و ب ) الاثنين.

كفاية الأصول ـ 364 ـ
  وتوهم (1) انحلاله إلى العلم بوجوب الاقل تفصيلا والشك في وجوب الاكثر بدوا ـ ضرورة لزوم الاتيان بالاقل لنفسه شرعا ، أو لغيره كذلك أو عقلا ، ومعه لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالاكثر ـ فاسد قطعا ، لاستلزام الانحلال المحال ، بداهة توقف لزوم الاقل فعلا إما لنفسه أو لغيره على تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالاقل كان خلفا ، مع أنه يلزم من وجوده عدمه ، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم لعدم لزوم الاقل مطلقا ، المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال .
  نعم إنما ينحل إذا كان الاقل ذا مصلحة ملزمة ، فإن وجوبه حينئذ يكون معلوما له ، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الاكثر ذا مصلحتين ، أو مصلحة أقوى من مصلحة الاقل ، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام ، إلا أنه خارج عما هو محل النقض والابرام في المقام ، هذا .
  مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز إلا بالاكثر ، بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ، وقد مر (2) اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الامر وسقوطه ، فلابد من إحرازه في إحرازها ، كما لا يخفى .
 ولا وجه للتفصي عنه (3) : تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية ، وجريانها على ما ذهب إليه الاشاعرة المنكرين (4) لذلك ، أو

(1) تعريض بالشيخ ( قدس سره ) ، راجع فرائد الاصول / 274.
(2) في المبحث الخامس من الفصل الثاني من المقصد الاول في الاوامر حيث قال : وإن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد له وجه إلا عدم حصول غرضه ... إلخ.
(3) رد على الشيخ ، أنظر فرائد الاصول / 273 .
(4) في نسخ ( أ ) و ( ب )، المنكرين ... المكتفين ، والصحيح ما اثبتناه.

كفاية الأصول ـ 365 ـ
  بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به ، وأخرى بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال ، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ـ ليؤتى بها مع قصد الوجه ـ مجال ، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الامر ، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به ، فإنه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا ، لتنجزه بالعلم به إجمالا ، وأما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته ، فإن العقوبة عليه بلا بيان .
  وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة ـ على مذهب الاشعري ـ لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية ، بل من ذهب إلى ما عليه غير المشهور ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر ومصلحته ـ على هذا المذهب أيضا ـ هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا ، فافهم.
  وحصول اللطف والمصلحة في العبادة ، وإن كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال ، إلا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء وإتيانها على وجهها ، كيف ؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين ، ولا يكاد يمكن مع اعتباره ، هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك ، والمراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ، هو وجه نفسه من وجوبه النفسي ، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي ، وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الاكثر بمكان من الامكان ، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الاقل ، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه.
  واحتمال اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر ، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله ، بلا تمييز ماله دخل في الواجب من أجزائه ، لاسيما إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته وجزءا لفرده ، حيث ينطبق الواجب على المأتي

كفاية الأصول ـ 366 ـ
  حينئذ بتمامه وكماله ، لان الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته ، نعم ، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا لما كان منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزءا ، لكنه غير ضائر لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزء غايته ، لا بتمامه بل بسائر أجزائه هذا.
  مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه ، مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لابد أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات ، مع أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد والاحتمال ، فلا وجه معه للزوم مراعاة الامر المعلوم أصلا ، ولو بإتيان الاقل لو لم يحصل الغرض ، وللزم الاحتياط بإتيان الاكثر مع حصوله ، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه مع الاقل بسبب بقاء غرضه ، فافهم.
  هذا بحسب حكم العقل.
  وأما النقل (1) فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته ، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عما تردد أمره بين الاقل والاكثر ، ويعينه في الاول.
  لا يقال (2) : إن جزئية السورة المجهولة (3) ـ مثلا ـ ليست بمجعولة وليس لها أثر مجعول ، والمرفوع بحديث رافع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره ، ووجوب الاعادة

(1) لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي ، ضرورة أنه ينافيه دفع الجزئية المجهولة ، وإنما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك ، بل علم مجرد ثبوته واقعا ، وبالجملة الشك في الجزئية والشرطية وإن كان جامعا بين الموردين ، إلا أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية ، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالايجاب ، فافهم ( منه قدس سره ) .
(2) القائل هو الشيخ الانصاري ( قدس سره ) ، فرائد الاصول / 278 .
(3) هكذا صححه في ( ب ) وفي ( أ ) : المنسية .

كفاية الأصول ـ 367 ـ
  إنما هو أثر بقاء الامر الاول بعد العلم (1) مع أنه عقلي ، وليس إلا من باب وجوب الاطاعة عقلا .
  لانه يقال : إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها ، إلا أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها ، وهذا كاف في صحة رفعها .
  لا يقال : إنما يكون ارتفاع الامر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه ، إلا أن نسبة حديث الرفع ـ الناظر إلى الادلة الدالة على بيان الاجزاء ـ إليها نسبة الاستثناء ، وهو معها يكون دالة على جزئيتها إلا مع الجهل بها ، كما لا يخفى ، فتدبر جيدا.
  وينبغي التنبيه على أمور :
  الاول : إنه ظهر مما مر حال دوران الامر بين المشروط بشيء ومطلقه ، وبين الخاص كالانسان وعامه كالحيوان ، وأنه لا مجال ها هنا للبراءة عقلا ، بل كان الامر فيهما أظهر ، فإن الانحلال المتوهم في الاقل والاكثر لا يكاد يتوهم هاهنا ، بداهة أن الاجزاء التحليلية لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا ، فالصلاة ـ مثلا ـ في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها ، وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها ، كما لا يخفى .
  نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المشروط وغيره ، دون دوران الامر (2) بين الخاص وغيره ، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته ، وليس كذلك خصوصية الخاص ، فإنها إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص ، فيكون الدوران بينه و ( بين ) (3) غيره من قبيل الدوران بين

(1) في ( أ ) : التذكر.
(2) في ( أ ) : دون الدوران بين ... إلخ.
(3) اثبتناها من ( ب ).

كفاية الأصول ـ 368 ـ
  المتباينين ، فتأمل جيدا .
  الثاني : إنه لا يخفى أن الاصل فيما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في حال نسيانه عقلا ونقلا ، ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية ، فلولا مثل حديث الرفع (1) مطلقا ولا تعاد (2) في الصلاة لحكم (3) عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسيانا ، كما هو الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته مطلقا نصا أو إجماعا.
  ثم لا يذهب عليك أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع ، كذلك يمكن تخصيصهما (4) بهذا الحال بحسب الادلة الاجتهادية ، كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقا ، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر ، أو وجه إلى الناسي خطاب يخصه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص ، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان ، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة ، كما توهم (5) لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب العمل الخالي عن المنسي على الناسي ، فلا تغفل .
  الثالث : إنه ظهر ـ مما مر ـ حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا أو شطرا في الواجب ـ مع عدم اعتباره في جزئيته ، وإلا لم يكن من زيادته بل من نقصانه ـ وذلك لاندراجه في الشك في دخل شيء فيه جزءا أو شرطا ، فيصح لو أتى به مع الزيادة عمدا تشريعا أو جهلا قصورا أو تقصيرا أو سهوا ، وإن استقل العقل

(1) الخصال 2 / 417 ، الحديث 9 والفقيه 1 / 36 الحديث 4 .
(2) الفقيه 1 / 225 ، أحكام السهو الحديث 8 ، الفقيه 1 / 181 ، في القبلة / الحديث 17 ، والتهذيب 2 / 52 ، ب 9 / الحديث 55.
(3) في ( ب ) : يحكم.
(4) في ( ب ) : تخصيصها.
(5) المتوهم هو الشيخ ( قدس سره ) ، فرائد الاصول / 286.

كفاية الأصول ـ 369 ـ
  لولا النقل بلزوم الاحتياط ، لقاعدة الاشتغال ، نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك ، على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه ، لكان باطلا مطلقا أو في صورة عدم دخله فيه ، لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة ، مع استقلال العقل بلزوم الاعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال.
  وأما لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحا ، ولو كان مشرعا في دخله الزائد فيه بنحو ، مع عدم علمه بدخله ، فإن تشريعه في تطبيق المأتي مع المأمور به ، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرب به على كل حال .
  ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة ، وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهم في المقام ، ويأتي (1) تحقيقه في مبحث الاستصحاب ، إن شاء الله تعالى .
  الرابع : إنه لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة ، ودار ( الامر ) (2) بين أن يكون جزءا أو شرطا مطلقا ولو في حال العجز عنه ، وبين أن يكون جزءا أو شرطا في خصوص حال التمكن منه ، فيسقط الامر بالعجز عنه على الاول ، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به ، لا على الثاني فيبقى متعلقا بالباقي ، ولم يكن هناك ما يعين أحد الامرين ، من إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا ، أو إطلاق دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله ، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقي ، فإن العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان .
  لا يقال : نعم ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن منه .
  فإنه يقال : إنه لا مجال ها هنا لمثله ، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان ،

(1) الظاهر انه ( قدس سره ) لم يف بوعده ، وللمزيد راجع نهاية الدراية 2 / 288.
(2) اثبتناها من ( ب ).

كفاية الأصول ـ 370 ـ
  فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته ، نعم ربما يقال (1) : بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في حال التعذر أيضا.
  ولكنه لا يكاد يصح إلا بناء على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي ، أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب ، وكان ما تعذر مما يسامح به عرفا ، بحيث يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي ، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه ، ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام (2).
  كما أن وجوب الباقي في الجملة ربما قيل (3) بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) (4) وقوله : ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) (5) وقوله : ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ) (6) ودلالة الاول مبنية على كون كلمة ( من ) تبعيضية ، لا بيانية ، ولا بمعنى الباء ، وظهورها في التبعيض وإن كان مما لا يكاد يخفى ، إلا أن كونه بحسب الاجزاء غير واضح ، لاحتمال أن يكون بلحاظ الافراد ، ولو سلم فلا محيص عن أنه ـ هاهنا ـ بهذا اللحاظ يراد ، حديث ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به ، فقد روي أنه خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (7) ، فقال : ( إن الله كتب

(1) راجع فرائد الاصول / 294 .
(2) سيأتي في مبحث الاستصحاب / 425 .
(3) راجع فرائد الاصول / 294 .
(4) عوالي اللآلي 4 / 58 ، مع اختلاف يسير .
(5) عوالي اللآلي 4 / 58 ، باختلاف يسير .
(6) عوالي اللآلي 4 / 58 ، باختلاف يسير .
(7) راجع مجمع البيان 2 : 250 ، في ذيل الآية 101 من سورة المائدة والتفسير الكبير للفخر الرازي 12 : 106 وأنوار التنزيل للبيضاوي 1 : 294 ، وفي الاخير فقام سراقة بن مالك .

كفاية الأصول ـ 371 ـ
  عليكم الحج ، فقام عكاشة (1) ـ ويروى سراقة بن مالك (2) ـ فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك ، وما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم ، لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ، وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ).
  ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً ، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها ، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها ، هذا .
  مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما ، لعدم اختصاصه بالواجب ، ولا مجال لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم ، إلا أن يكون المراد عدم سقوطه بماله من الحكم وجوبا كان أو ندبا ، بسبب سقوطه عن المعسور ، بأن يكون قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه ، حيث إن الظاهر من مثله هو ذلك ، كما أن الظاهر من مثل ( لا ضرر ولا ضرار ) (3) هو نفي ماله من تكليف أو وضع ، لا أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة

(1) عكاشة بن محصن بن حرثان ، شهد بدرا مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم لم يزل عنده يشهد المشاهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى قتل في قتال أهل الردة ، كان عمره عند وفاة النبي ( ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) أربعا وأربعين سنة. ( تهذيب الاسماء 1 : 338. رقم 418 )
(2) سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي ، كنيته أبو سفيان ، له صحبة ، كان يسكن قديد ، مات بعد عثمان ، روى عنه سعيد بن المسيب وأبو رشدين وعبد الرحمن بن مالك ، ( الجرح والتعديل 4 : 308 رقم 1342 ).
(3) الكافي 5 / 293 ، كتاب المعيشة باب الضرار ، الحديث 6.
  و : الكافي 5 / 280 ، كتاب المعيشة باب الشفعة ، الحديث 4.
  و : التهذيب 7 / 164 ، باب الشفعة ، الحديث 4.

كفاية الأصول ـ 372 ـ
  على جريان القاعدة في المستحبات على وجه ، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر ، فافهم .
  وأما الثالث ، فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الافرادي ، لا دلالة له إلا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به ـ واجبا كان أو مستحبا ـ عند تعذر بعض أجزائه ، لظهور الموصول فيما يعمهما ، وليس ظهور ( لا يترك ) في الوجوب ـ لو سلم ـ موجبا لتخصيصه بالواجب ، لو لم يكن ظهوره في الاعم قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي ، وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا ، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام .
  ثم إنه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا ، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا ، لصدقه حقيقة عليه مع تعذره عرفا ، كصدقه عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة ، وإن كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا ، ولاجل ذلك ربما لا يكون الباقي ـ الفاقد لمعظم الاجزاء أو لركنها ـ موردا لها فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا ، وإن كان غير مباين للواجد عقلا .
  نعم ربما يلحق به شرعا مالا يعد بميسور عرفا بتخطئة للعرف ، وإن عدم العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد ، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد ، أو بمعظمه في غير الحال ، وإلا عد أنه ميسوره ، كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك ـ أي للتخطئة ـ وأنه لا يقوم بشيء من ذلك .
  وبالجملة : ما لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الاطلاق ، ويستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون الامور به قائما بتمامه ، أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحب ، وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الاول ، وتشريكا في الحكم ، من دون الاندراج في

كفاية الأصول ـ 373 ـ
  الموضوع في الثاني ، فافهم ، تذنيب : لا يخفى أنه إذا دار الامر بين جزئية شيء أو شرطيته ، وبين مانعيته أو قاطعيته ، لكان من قبيل المتباينين ، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين ، لامكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين ، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى ، كما هو أوضح من أن يخفى .

كفاية الأصول ـ 374 ـ
  أما الاحتياط : فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ، بل يحسن على كل حال ، إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام ، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقا ولو كان موجبا للتكرار فيها ، وتوهم (1) كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى ـ وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة ـ فاسد ، لوضوح أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي ، مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال ، وإن كان لاغيا في كيفية امتثاله ، فافهم .
  بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف لئلا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته ، من المفسدة وفوت المصلحة ، وأما البراءة العقلية : فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف ، لما مرت (2) الاشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما .
  وأما البراءة النقلية : فقضية إطلاق أدلتها وإن كان هو عدم اعتبار

(1) المتوهم هو الشيخ ( قده ) راجع فرائد الاصول ، ص 299.
(2) في الاستدلال على البراءة بالدليل القطعي ، ص 343.

كفاية الأصول ـ 375 ـ
  الفحص في جريانها ، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية ، إلا أنه استدل (1) على اعتباره بالاجماع وبالعقل ، فإنه لا مجال لها بدونه ، حيث يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به.
  ولا يخفى أن الاجماع هاهنا غير حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل ، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل ـ لولا الكل ـ هو ما ذكر من حكم العقل ، وأن الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز ، إما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ، ولو لعدم الالتفات إليها .
  فالاولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات (2) والاخبار (3) على وجوب التفقة والتعلم ، والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم ، بقوله تعالى كما في الخبر (4) : ( هلا تعلمت ) فيقيد بها أخبار البراءة ، لقوة ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الاخبار على ما إذا علم إجمالا ، فافهم .
  ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة ، فلا تغفل .
  ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من

(1) راجع فرائد الاصول / 300 و 301 .
(2) التوبة : 122 والنحل : 43 .
(3) الفقيه 6 / 277 ، الباب 176 ذيل الحديث 10 ـ الكافي 1 / كتاب 2 / احاديث الباب 1 .
(4) الامالي للشيخ / 9 ـ الصافي / 555 .