نعم لا بأس بالاشكال فيه في نفسه ، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير ، تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق. غاية الامر تلك المحاذير ـ التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب ـ كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الاصابة ، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس ، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة ، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل ، وقد عرفت أنه بمكان من الفساد .
  واستلزام إمكان المنع عنه ، لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا ، وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل ، إلا أنه إنما يكون بالاضافة إلى تلك الامارة ، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية ، وإلا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل ، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه ، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع (1) .
  وقياس حكم العقل (2) بكون الظن مناطا للاطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح ، لا يكاد يخفى على أحد فساده ، لوضوح أنه مع الفارق ، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز ، وفيه على نحو التعليق .
  ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس ، مع جريانه في الامر بطريق غير مفيد للظن ، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا ، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك ، وليس إلا لاجل أن حكمه به معلق على عدم النصب ، ومعه لا حكم له ، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن ، فتدبر جيدا .

(1) سيأتي تحقيقه في الفصل الآتي.
(2) ذكره الشيخ ( قده ) في فرائد الاصول / 156.

كفاية الأصول ـ 327 ـ
  وقد انقدح بذلك أنه لا وقع للجواب عن الاشكال : تارة (1) بأن المنع عن القياس لاجل كونه غالب المخالفة ، وأخرى (2) بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الاصابة ، وذلك لبداهة أنه إنما يشكل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه ، بملاحظة حكم العقل بحجية الظن ، ولا يكاد يجدي صحته كذلك في ذب الاشكال في صحته بهذا اللحاظ ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة.
  وأما ما قيل في جوابه (3) ، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد ، أو منع حصول الظن منه بعد انكشاف حاله ، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه ، ففي غاية الفساد ، فإنه مضافا إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد ـ لدعوى الاجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته ، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه في بعض الاحيان ـ لا يكاد يكون في دفع الاشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد ، غاية الامر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين ، لكنه غير فرض الاشكال ، فتدبر جيدا.
  فصل إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص ، فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد : إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه ، فضلا عما إذا ظن ، كما أشرنا إليه في الفصل السابق ، فلابد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فإن كفى ، وإلا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه وإن احتمل ، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد ، وإن انسد باب هذا الاحتمال معها ، كما لا يخفى ، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال

(1) هذا سابع الوجوه التي ذكرها الشيخ ( قده ) في الجواب عن الاشكال ، فرائد الاصول / 161.
(2) هو الوجه السادس الذي أفاده الشيخ ( قده ) واستشكل عليه ، فرائد الاصول / 160.
(3) راجع الوجهين الاولين من الوجوه السبعة التي ذكره الشيخ ( قده ) فرائد الاصول / 157.

كفاية الأصول ـ 328 ـ
  حسب الفرض ومنه قد انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الاصول أو في الفروع أو فيهما ، فافهم .
  فصل لا فرق في نتيجة دليل الانسداد ، بين الظن بالحكم من أمارة عليه ، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية ، كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه ، وهو واضح ، ولا يخفى أن اعتبار ما يورثه لا محيص عنه فيما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم ، فقول أهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد ، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.
  نعم لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية ، إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص ، أو ذاك المخصوص ، ومثله الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي ، كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا ، لا آخر.
  فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد ، ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجالي ، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية.
  تنبيه : لا بيعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور ، مهما أمكن في الرواية ، وعدم الاقتصار على (1) الظن الحاصل منها بلا سد بابه فيه بالحجة من علم أو علمي ، وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه عقلا ، فتأمل جيدا.
  فصل إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية الظن فيها ، لا

(1) في ( أ ) : بالظن .

كفاية الأصول ـ 329 ـ
  حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها ، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها ، لا في إتيانها ، بل لابد من علم أو علمي بإتيانها ، كما لا يخفى.
  نعم ربما يجري نظير مقدمت الانسداد في الاحكام في بعض الموضوعات الخارجية ، من انسداد باب العلم به غالبا ، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفة (1) الواقع بإجراء الاصول فيه مهما أمكن ، وعدم وجوب الاحتياط شرعا أو عدم إمكانه عقلا ، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلا ، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضا ، فافهم .
  خاتمة : يذكر فيها أمران استطرادا :
  الاول : هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع العملية ، المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح ، يتبع في الاصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له ، أو لا ؟
  الظاهر لا ، فإن الامر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به ، إلا أن باب الاعتقاد إجمالا ـ بما هو واقعه والانقياد له وتحمله ـ غير منسد ، بخلاف العمل بالجوارح ، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط ، والمفروض عدم وجوبه شرعا ، أو عدم جوازه عقلا ، ولا أقرب من العمل على وفق الظن .
  وبالجملة : لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الاعمال الجوانحية على الظن فيها ، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها ، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع ، ولا ينقاد إلا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العمليات ، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد .
  نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها ، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة

(1) في ( ب ) : بمخالفته.

كفاية الأصول ـ 330 ـ
  أنبيائه ، فإنهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وكذا معرفة الامام ( عليه السلام ) على وجه صحيح (1) ، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ، ولاحتمال الضرر في تركه ، ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر ، إلا ما وجب شرعا معرفته ، كمعرفة الامام ( عليه السلام ) على وجه آخر غير صحيح ، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، لا من العقل ولا من النقل ، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة (2).
  ولا دلالة لمثل قوله تعالى ( وما خلقت الجن والانس ) (3) الآية ، ولا لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ) (4) ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من ( ليعبدون ) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه أصلا ، ومثل آية النفر (5) ، إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته ، كما لا يخفى ، وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه ، لا بصدد بيان ما يجب العلم به .
  ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا ، حيث أنه ليس بمعرفة قطعا ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة (6) المطلب مع قلة الاستعداد ، كما هو المشاهد في

(1) وهو كون الامامة كالنبوة منصبا إلهيا يحتاج إلى تعيينه ـ تعالى ـ ونصبه ، لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين ، وهو الوجه الآخر ( منه قدس سره الشريف ) .
(2) هذا تعريض بما أفاده الشيخ ( قده ) انتصارا للعلامة ، فرائد الاصول / 170 .
(3) الذاريات : 56 .
(4) وقريب منه : الكافي 3 / 264 ، والتهذيب 2 / 236 .
(5) التوبة : 122 .
(6) في ( ب ) : الغموضية.

كفاية الأصول ـ 331 ـ
  كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ، ولو لاجل حب طريقة الآباء والاجداد واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلي للخلف ، وقلما عنه تخلف (1).
  والمراد من المجاهدة في قوله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) (2) هو المجاهدة مع النفس ، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وهي التي كانت أكبر من الجهاد ، لا النظر والاجتهاد ، وإلا لادى إلى الهداية ، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة ، إلا إذا كانت هناك منه ـ تعالى ـ عناية ، فإنه غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق ، لا بصدد الحق ، فيكون مقصرا مع اجتهاده ، ومؤاخذا إذا أخطأ على قطعه واعتقاده .
  ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم ، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن ، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه ، بل بعدم جوازه ، لما أشرنا إليه (3) من أن الامور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها ، فلا إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم ، بخلاف الفروع العملية ، كما لا يخفى .
  وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه ، فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا ، بل الادلة الدالة على النهي عن اتباع الظن ، دليل على عدم جوازه أيضا .
  وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا ، أن القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة ، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها ، لعدم وضوح الامر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن تقصير ، كما لا يخفى ، فيكون (4) معذورا عقلا.

(1) في ( ب ) : يتخلف.
(2) العنكبوت / 69.
(3) أشار إليه في الامر الاول من خاتمة دليل الانسداد / 329.
(4) ولا ينافي ذلك عدم استحقاقه درجة ، بل استحقاقه دركة لنقصانه بسبب فقدانه للايمان به تعالى أو

كفاية الأصول ـ 332 ـ
  ولا يصغى إلى ما ربما قيل : بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه إنما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم يكن يعانده ، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله.
  هذا بعض الكلام مما يناسب المقام ، وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والاسلام ، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة.
  الثاني : الظن الذي لم يقم على حجيته دليل ، هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة ، أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجة ، أو يرجح به أحد المتعارضين ، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لاحدهما ، أو كان للآخر منهما ، أم لا ؟
  ومجمل القول في ذلك : إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته ، هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية ، أو المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية ، كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجية ، فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه ، ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به ، فراجع أدلة اعتبارها.
  وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لاختصاص دليل الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد ، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر ، إلا فيما أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لولا عروض انتفائه ، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره ، وكذا عدم وهن دلالته مع ظهوره ، إلا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده ، أو وجود قرينة مانعة

برسوله ، أو لعدم معرفة أوليائه ، ضرورة أن نقصان الانسان لذلك يوجب بعده عن ساحة جلاله تعالى ، وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات ، وعليه فلا إشكال فيما هو ظاهر بعض الروايات والآيات ، من خلود الكافر مطلقا ولو كان قاصرا ، فقصوره إنما ينفعه في دفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات ، لا فيما يستتبعه نقصان ذاته ودنو نفسه وخساسته ، فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك فلا مجال للسؤال عنه ، ب‍ ( لم ذلك ؟ ) فافهم ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 333 ـ
  عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لولا تلك القرينة ، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره ، أو ظن بعدم إرادة ظهوره .
  وأما الترجيح بالظن ، فهو فرع دليل على الترجيح به ، بعد سقوط الامارتين بالتعارض من البين ، وعدم حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه ، وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته ، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به. وإن ادعى شيخنا (1) العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ استفادته من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة ، على ما في (2) تفصيله في التعادل والترجيح (3).
  ومقدمات الانسداد في الاحكام إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة ، لا الترجيح به ما لم يوجب ظن بأحدهما ، ومقدماته في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجية الظن في تعيين المرجح ، لا أنه مرجح إلا إذا ظن أنه ـ أيضا ـ مرجح ، فتأمل جيدا ، هذا فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل .
  وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس ، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح ، فيما لا يكون لغيره أيضا ، وكذا فيما يكون به أحدهما ، لوضوح أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجة ـ بعد المنع عنه ـ لا يوجب خروجه عن تحت دليل حجيته (4) ، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية ، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين ، وذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع رأسا ، وعدم جواز استعماله في الشرعيات قطعا ، ودخله في واحد منها نحو استعمال له فيها ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا .

(1) فرائد الاصول / 187 ، حيث قال الثالث : ما يظهر من بعض الاخبار ... إلخ.
(2) في ( ب ) : على ما يأتي تفصيله.
(3) في ( أ ) : التراجيح.
(4) في ( ب ) : الحجية.

كفاية الأصول ـ 335 ـ
المقصد السابع
الاصول العملية


كفاية الأصول ـ 337 ـ
  وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل ، مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل ، والمهم منها أربعة ، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية (1) ، وإن كان مما ينتهي إليه فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته ، إلا أن البحث عنها ليس بمهم ، حيث إنها ثابتة بلا كلام ، من دون حاجة إلى نقض وإبرام ، بخلاف الاربعة ، وهي : البراءة والاحتياط ، والتخيير والاستصحاب : فإنها محل الخلاف بين الاصحاب ، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان ، هذا مع جريانها في كل الابواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها ، فافهم .

(1) لا يقال : إن قاعدة الطهارة مطلقا ، تكون قاعدة في الشبهة الموضوعية ، فإن الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع.
  فإنه يقال : أولا : نمنع ذلك ، بل إنهما من الاحكام الوضعية الشرعية ، ولذا اختلفتا في الشرائع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما ، كما لا يخفى .
  وثانيا : إنهما لو كانتا كذلك ، فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما كانت حكمية ، فإنه لا مرجع لرفعها إلا الشارع ، وما كانت كذلك ليست إلا حكمية ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 338 ـ
  فصل لو شك في وجوب (1) شيء أو حرمته ، ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا ترك الاول وفعل الثاني ، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته ، كان عدم نهوض الحجة لاجل فقدان النص أو إجماله ، واحتماله الكراهة أو الاستحباب ، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح ، بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين .
  وأما بناء على التخيير ـ كما هو المشهور ـ فلا مجال لاصالة البراءة وغيرها ، لمكان وجود الحجة المعتبرة ، وهو أحد النصين فيها ، كما لا يخفى ، وقد استدل على ذلك بالادلة الاربعة :

(1) لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل ، وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة ، وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة ، إنما هو لاجل عدم الحاجة إلى ذلك ، بعد الاتحاد فيما هو الملاك ، وما هو العمدة من الدليل على المهم ، واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول ، لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة.
وأما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الاصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير ، كما أنه داخل فيما لا حجة فيه ـ بناء على سقوط النصين عن الحجية ـ وأما الشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل الاصولية ، بل فقهية ، فلا وجه لبيان حكمها في الاصول إلا استطرادا فلا تغفل ، ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 339 ـ
  أما الكتاب : فبآيات أظهرها قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (1) .
  وفيه : إن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده ، مع استحقاقهم لذلك ، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية ، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا ، مع وضوح منعه ، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه ، فافهم .
  وأما السنة : فبروايات (2) منها : حديث الرفع (3) ، حيث عد ( ما لا يعلمون ) من التسعة المرفوعة فيه ، فالالزام المجهول مما لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتا واقعا ، فلا مؤاخذة عليه قطعا .
  لا يقال : ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية ، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا ، فلا دلالة له على ارتفاعها (4).
  فإنه يقال : إنها وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا ، إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه ، من إيجاب الاحتياط شرعا ، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته .
  لا يقال : لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف

(1) الاسراء : 15.
(2) في ( ب ) : فروايات.
(3) الكافي / 2 كتاب الايمان والكفر ، باب ما رفع عن الامة ، الحديث 2 ، الفقيه 1 / 36 ، الباب 14 ، الحديث 4 ، والخصال 2 / 417 ، باب التسعة.
(4) مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام ، والتحقيق في الجواب أن يقال ـ مضافا إلى ما قلناه ـ أن الاستحقاق وإن كان أثرا عقليا ، إلا أن عدم الاستحقاق عقلا ، مترتب على عدم التكليف شرعا ولو ظاهرا ، تأمل تعرف ، ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 340 ـ
  المجهول ، بل على مخالفة (1) نفسه ، كما هو قضية إيجاب غيره ، فإنه يقال : هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا ، وإلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ، كما هو الحال في غيره من الايجاب والتحريم الطريقيين ، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به ، ويقال لم أقدمت مع إيجابه ؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، كما يخرج بهما .
  وقد انقدح بذلك ، أن رفع التكليف المجهول كان منة على الامة ، حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته (2) من إيجاب الاحتياط ، فرفعه ، فافهم .
  ثم لا يخفى (3) عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في ( ما لا يعلمون ) ، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا ، وإن كان في غيره لابد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه ، فإنه ليس ما اضطروا وما استكرهوا ... إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة ، نعم لو كان المراد من الموصول في ( ما لا يعلمون ) ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه ، لكان أحد الامرين مما لا بد منه أيضا .
  ثم لا وجه (4) لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها ، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الاثر الظاهر في كل منها ، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها ، كما أن ما يكون بلحاظه الاسناد إليها مجازا ، هو هذا ، كما لا يخفى. فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في

(1) في ( ب ) : مخالفته.
(2) في ( ب ) : قضية.
(3) خلافا لما أفاده الشيخ ، فرائد الاصول / 195.
(4) المصدر السابق.

كفاية الأصول ـ 341 ـ
  رفعه منة على الامة ، كما استشهد الامام ( عليه السلام ) بمثل (1) هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق .
  ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره ، مما أخذ بعنوانه الثانوي ، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الاولي ، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع ، والموضوع للاثر مستدع لوضعه ، فكيف يكون موجبا لرفعه ؟
  لا يقال كيف ؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان ، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها .
  فإنه يقال : بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها ، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما ، لئلا يفوت على المكلف ، كما لا يخفى .
  ومنها : حديث الحجب (2) ، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع ، إلا أنه ربما يشكل (3) بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف ، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه ، لعدم أمر رسله بتبليغه ، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى .
  ومنها : قوله ( عليه السلام ) (4) ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه ) الحديث ، حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا ، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته ، وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، يتم المطلوب .

(1) المحاسن 2 / 339 ، الحديث 124.
(2) التوحيد للصدوق ( ره ) 413 ، باب التعريف والبيان والحجة ، الحديث 9 ، والوسائل 18 / 12 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 28.
(3) أورده الشيخ ( ره ) على الاستدلال بهذا الحديث ، فرائد الاصول / 199.
(4) قريب من هذا المضمون روايات ، الوسائل : 12 / 59 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديثان 1 و 4 والوسائل : 17 / 90 ، باب 61 من الاطعمة المباحة ، الاحاديث ، 1 و 2 و 7.

كفاية الأصول ـ 342 ـ
  مع إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته ، فهو حلال ، تأمل.
  ومنها : قوله ( عليه السلام ) (1) ( الناس في سعة ما لا يعلمون ) فهم في سعة ما لم يعلم ، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته ، ومن الواضح أنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ، فيعارض به ما دل على وجوبه ، كما لا يخفى .
  لا يقال : قد علم به وجوب الاحتياط.
  فإنه يقال : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد ، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله ؟ نعم لو كان الاحتياط واجب نفسيا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه ، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا ، لاجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا ، فافهم.
  ومنها : قوله ( عليه السلام ) (2) ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) ودلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه ، بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد ، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.
  لا يقال : نعم ، ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم.
  فإنه يقال : وإن تم الاستدلال به بضميمتها ، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه ، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا ، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا.
  لا يقال : نعم ، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالاباحة في مجهول الحرمة ، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

(1) الوسائل : 2 / 1073 ، باب 5 من أبواب النجاسات ، الحديث 11 بتفاوت يسير في العبارة.
(2) الوسائل : 18 / 127 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 60.

كفاية الأصول ـ 343 ـ
  فإنه يقال : حيث أنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ، ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان ، وإباحته (1) في آخر ، واشتبها من حيث التقدم والتأخر .
  لا يقال : هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.
  فإنه يقال : وإن لم يكن بينها الفصل ، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالاباحة في بعضها الدليل ، لا الاصل ، فافهم .
  وأما الاجماع : فقد نقل (2) على البراءة ، إلا أنه موهون ، ولو قيل باعتبار الاجماع المنقولة في الجملة ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل ، ومن واضح النقل عليه دليل ، بعيد جدا .
  وأما العقل : فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه ، فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان بشهادة الوجدان .
  ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك ، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته ، فلا يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، كي يتوهم أنها تكون بيانا ، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل .
  وأما ضرر غير العقوبة ، فهو وإن كان محتملا ، إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا ، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا ، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا

(1) في ( ب ) : إباحة.
(2) راجع الوجه الثاني من وجوه التقرير الثاني للاجماع على حجية البراءة في كلام الشيخ ( قده ) فرائد الاصول / 202.

كفاية الأصول ـ 344 ـ
  يلازم احتمال المضرة ، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام ، وقد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح وقبح ماكان ذات المفاسد ، ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر ، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا .
  إن قلت : نعم ، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته ، كما استدل به شيخ الطائفة (1) ( قدس سره ) ، على أن الاشياء على الحظر أو الوقف .
  قلت : استقلاله بذلك ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والاديان ، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته ، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته ، كيف ؟ وقد أذن الشارع بالاقدام عليه ، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح ، فتأمل .
  واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة ، بالادلة الثلاثة :
  أما الكتاب : فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم (2) ، وعن الالقاء في التهلكة (3) ، والآمرة بالتقوى (4) .
  والجواب : إن القول بالاباحة شرعا وبالامن من العقوبة عقلا ، ليس قولا بغير علم ، لما دل على الاباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ، ولا فيه مخالفة التقوى ، كما لا يخفى .

(1) عدة الاصول 2 / 117 ولكن المتراءى منه غير هذا.
(2) الاعراف : 33 ، الاسراء : 36 ، النور : 15.
(3) البقرة : 195.
(4) البقرة : 102 ، التغابن : 16.

كفاية الأصول ـ 345 ـ
  وأما الاخبار : فبما (1) دل على وجوب التوقف عند الشبهة ، معللا في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة ، من الاخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقة أو إلتزاما ، وبما (2) دل على وجوب الاحتياط من الاخبار الواردة بألسنة مختلفة.
  والجواب : إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية ، مع دلالة النقل على [ الاباحة ] (3) وحكم العقل بالبراءة كما عرفت.
  وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم ، وإن كان واردا على حكم العقل ، فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.
  ولا يصغى إلى ما قيل (4) : من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح ، وإن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا ، وهو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة ، كما هو الحال في أوامر الطرق والامارات والاصول العملية .
  إلا أنها تعارض بما هو أخص أو (5) وأظهر ، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص ، بل هو في الدلالة على الحلية نص ، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط ، مع أن هناك قرائن دالة على أنه للارشاد ، فيختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه.

(1) الوسائل : 18 / 75 الباب 9 من أبواب صفات القاضي / الحديث 1 ـ الوسائل 14 / 193 ، الباب 157 من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2.
الوسائل : 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي / أحاديث : 3 ، 4 ، 10 ، 31 ، 35.
(2) الوسائل : 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي / أحاديث : 1 ، 37 ، 41 ، 54.
(3) أثبتناها من ( ب ).
(4) القائل هو الشيخ الاعظم ، فرائد الاصول / 208.
(5) في ( أ ) : و.

كفاية الأصول ـ 346 ـ
  ويؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا ، مع أنه آب عن التخصيص قطعا ، كيف لا يكون قوله : ( قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ) للارشاد ؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة ، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة ؟
  لا يقال : نعم ، ولكنه يستكشف منه (1) على نحو الان إيجاب الاحتياط من قبل ، ليصح به العقوبة على المخالفة.
  فإنه يقال : إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة ، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، فتأمل جيدا .
  وأما العقل : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ، مما لم يكن هناك حجة على حكمه ، تفريغا للذمة بعد اشتغالها ، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الاصحاب.
  والجواب : إن العقل وإن استقل بذلك ، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، وقد انحل هاهنا ، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا ، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد ، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والاصول العملية.

(1) في ( ب ) : عنه.

كفاية الأصول ـ 347 ـ
  إن قلت : نعم ، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالتكاليف (1).
  قلت : إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا ، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا ، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.
  إن قلت : إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا ، وأما بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه ، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا ، كما لا يخفى .
  قلت : قضية الاعتبار شرعا ـ على اختلاف ألسنة أدلته ـ وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث ، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الاطراف يكون عقلا بحكم الانحلال ، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الاطراف ، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الاناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه ، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر ، ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية ، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث ، وهو كونها مؤديات الامارات الشرعية.
  هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال ، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال ، كما لا يخفى .
  وربما استدل بما قيل (2) : من استقلال العقل بالحظر في الافعال الغير الضرورية قبل الشرع ، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله ، لا به ولا بالاباحة ،

(1) في ( أ ) : بالواجبات.
(2) قرر الشيخ ( قده ) هذا الوجه العقلي بقوله : ( الوجه الثاني ) ، فرائد الاصول / 214.

كفاية الأصول ـ 348 ـ
  ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته ، فإن ما دل على الاباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.
  وفيه أولا : إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال ، وإلا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الافعال على الاباحة.
  وثانيا : إنه ثبت الاباحة شرعا ، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط ، للمعارضة لما دل عليها.
  وثالثا : أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة ، للقول بالاحتياط في هذه المسألة ، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وما قيل (1) ـ من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة ـ ممنوع ، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا ، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر ، والمفسدة فيما فيه المنفعة ، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا ، مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا ، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره ، مع القطع به فضلا عن احتماله.
  بقي أمور مهمة لا بأس بالاشارة إليها :
  الاول : إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقا ولو كان موافقا لها ، فإنه معه لا مجال لها أصلا ، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (2) فلا تجري ـ مثلا ـ أصالة الاباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في

(1) القائل هو شيخ الطائفة ، عدة الاصول / 117.
(2) يأتي تحقيق الورود في خاتمة الاستصحاب ـ حقائق ـ 2 / 256.

كفاية الأصول ـ 349 ـ
  قبوله التذكية ، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية ، فأصالة عدم التذكية تدرجه (1) فيما لم يذك وهو حرام إجماعا ، كما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا ، ضرورة كفاية كونه مثله حكما ، وذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الاوداج [ الاربعة ] (2) مع سائر شرائطها ، عن خصوصية في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية ، ومع الشك في تلك الخصوصية فالاصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها ، كما لا يخفى.
  نعم لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية ، فأصالة الاباحة فيه محكمة ، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلا أصالة الاباحة ، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام.
  هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية ، كما إذا شك ـ مثلا ـ في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها ، أم لا ؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة ، ومعها لا مجال لاصالة عدم تحققها ، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها ، فالاصل أنه كذلك بعده .
  ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان ، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لاجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا ، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه ، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا .
  الثاني : إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو (3) التحريمية في العبادات وغيرها ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما

(1) في ( أ ) : تدرجها.
(2) أثبتناها من ( ب ).
(3) في ( أ ) : و.

كفاية الأصول ـ 350 ـ
  إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي ، وربما يشكل (1) في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب ، من جهة أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا .
  وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال ، ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به شرعا ، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه ، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته ؟
  وانقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الامر به من جهة ترتب الثواب عليه ، ضرورة أنه فرع إمكانه ، فكيف يكون من مبادئ جريانه ؟
  هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به بنحو اللم ، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الان ، بل يكون حاله في ذلك حال الاطاعة ، بإنه نحو من الانقياد والطاعة.
  وما قيل (2) في دفعه : من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة.
  فيه : مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها ، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة ، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا ، والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط ، والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه.
  نعم ، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة ، لما

(1) ذكر الشيخ هذا الاشكال في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة من جهة عدم النص ، فرائد الاصول / 228.
(2) ذكره الشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة ، فرائد الاصول / 229.