وربما يشكل بأنه يقتضي التقييد في باب المستحبات ، مع أن بناء المشهور على حمل الامر بالمقيد فيها على تأكد الاستحباب ، اللهم إلا أن يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الافراد بحسب مراتب (1) المحبوبية ، فتأمل .
  أو أنه كان بملاحظة التسامح في أدلة المستحبات ، وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيد ، وحمله على تأكد استحبابه ، من التسامح (2) فيها .
  ثم إن الظاهر أنه لا يتفاوت فيما ذكرنا بين المثبتين والمنفيين بعد فرض كونهما متنافيين ، كما لا يتفاوتان في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد التكليف ، من وحدة السبب وغيره (3) ، من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه النظر ، فليتدبر .
  تنبيه : لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين ، بين كونهما في بيان الحكم التكليفي ، وفي بيان الحكم الوضعي ، فإذا ورد مثلا : إن البيع سبب ، وإن البيع الكذائي سبب ، وعلم أن مراده إما البيع على إطلاقه ، أو البيع الخاص ، فلابد من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الاطلاق فيه ، كما هو ليس ببعيد ، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيد ـ بخلاف العكس ـ بالغاء القيد ، وحمله على أنه غالبي ، أو على وجه آخر ، فإنه على خلاف المتعارف.

(1) في ( أ و ب ) : المراتب ، والصواب ما أثبتناه.
(2) ولا يخفى أنه لو كان حمل المطلق على المقيد جمعا عرفيا ، كان قضيته عدم الاستحباب إلا للمقيد ، وحينئذ إن كان بلوغ الثواب صادقا على المطلق كان استحبابه تسامحيا ، وإلا فلا استحباب له أصلا ، كما لا وجه ـ بناء على هذا الحمل وصدق البلوغ ـ يؤكد الاستحباب في المقيد ، فافهم ( منه قدس سره ).
(3) تعريض بصاحب المعالم والمحقق القمي ، حيث اعتبرا وحدة السبب في عنوان البحث ، معالم الدين / 155 ، القوانين 1 / 322.

كفاية الأصول ـ 252 ـ
  تبصرة لا تخلو من تذكرة ، وهي : إن قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات ، فإنها تارة يكون حملها على العموم البدلي ، وأخرى على العموم الاستيعابي ، وثالثة على نوع خاص مما ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام ، واختلاف الآثار والاحكام ، كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام.
  فالحكمة في إطلاق صيغة الامر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي ، فإن إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان ، ولا معنى لارادة الشياع فيه ، فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان ، كما أنها قد تقتضي العموم الاستيعابي ، كما في ( أحل الله البيع ) إذ إرادة البيع مهملا أو مجملا ، ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان ، وإرادة العموم البدلي لا يناسب المقام ، ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف ، أي بيع كان ، مع أنها تحتاج إلى نصب دلالة عليها ، لا يكاد يفهم بدونها من الاطلاق ، ولا يصح قياسه على ما إذا أخذ في متعلق الامر ، فإن العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن إرادته ، وإرادة غير العموم البدلي ، وإن كانت ممكنة ، إلا أنها منافية للحكمة ، وكون المطلق بصدد البيان.
  فصل في المجمل والمبين
  والظاهر أن المراد من المبين في موارد إطلاقه ، الكلام الذي له ظاهر ، ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى ، والمجمل بخلافه ، فما ليس له ظهور مجمل وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه ، كما أن ماله الظهور مبين وإن علم بالقرينة الخارجية أنه ما أريد ظهوره وأنه مؤول ، ولكل منهما في الآيات والروايات ، وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى ، إلا أن لهما أفراد مشتبهة وقعت محل البحث والكلام للاعلام ، في أنها من أفراد أيهما ؟ كآية

كفاية الأصول ـ 253 ـ
  السرقة (1) ، ومثل ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) (2) و ( أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ) (3) مما أضيف التحليل إلى الاعيان ومثل ( لا صلاة إلا بطهور ) (4).
  ولا يذهب عليك أن إثبات الاجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان ، لما عرفت من أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور ، ويكون قالبا لمعنى ، وهو مما يظهر بمراجعة الوجدان ، فتأمل .
  ثم لا يخفى أنهما وصفان إضافيان ، ربما يكون مجملا عند واحد ، لعدم معرفته بالوضع ، أو لتصادم ظهوره بما حف به لديه ، ومبينا لدى الآخر ، لمعرفته وعدم التصادم بنظره ، فلا يهمنا التعرض لموارد الخلاف والكلام والنقض والابرام في المقام ، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

(1) المائدة : 38.
(2) النساء : 23.
(3) المائدة : 1.
(4) الفقية : 1 / 35 الباب 14 في من ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه.

كفاية الأصول ـ 255 ـ
المقصد السادس
الامارات


كفاية الأصول ـ 257 ـ
  وقبل الخوض في ذلك ، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الاحكام ، وإن كان خارجا من مسائل الفن ، وكان أشبه بمسائل الكلام ، لشدة مناسبته مع المقام .
  فاعلم : أن البالغ الذي وضع عليه القلم ، إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري ، متعلق به أو بمقلديه ، فإما أن يحصل له القطع به ، أولا ، وعلى الثاني ، لابد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد ـ على تقدير الحكومة ـ وإلا فالرجوع إلى الاصول العقلية : من البراءة والاشتغال والتخيير ، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى .
  وإنما عممنا متعلق القطع ، لعدم اختصاصه أحكامه بما إذا كان متعلقا بالاحكام الواقعية ، وخصصنا بالفعلي ، لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به ـ على ما ستطلع عليه ـ ولذلك عدلنا عما في رسالة (1) شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من تثليث الاقسام.
  وإن أبيت إلا عن ذلك ، فالاولى أن يقال : إن المكلف إما أن يحصل له

(1) فرائد الاصول / 2.

كفاية الأصول ـ 258 ـ
  القطع أولا ، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ، لئلا تتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام ، ومرجعه على الاخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ، ومن يقوم عنده الطريق ، على تفصيل يأتي في محله ـ إن شاء الله تعالى ـ حسبما يقتضي دليلها .
  وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه ، يستدعي رسم أمور :
  الامر الاول : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ، ولزوم الحركة على طبقه جزما ، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته ، وعذرا فيما أخطأ قصورا ، وتأثيره في ذلك لازم ، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان .
  ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل ، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ، بل عرضا بتبع جعله بسيطا .
  وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا ، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا ، وحقيقة في صورة الاصابة ، كما لا يخفى.
  ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا ، وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز ، واستحقاق العقوبة على المخالفة ، وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة ، وذلك لان الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته عن عمد بعصيان ، بل كان مما سكت الله عنه ، كما في الخبر (1) ، فلاحظ وتدبر .
  نعم ، في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين ، على ما يأتي (2) تفصيله إن شاء الله تعالى ، مع ما هو

(1) الفقيه 4 / 53 ، باب نوادر الحدود ، الحديث 15.
(2) في بداية مبحث الامارات ص 277.

كفاية الأصول ـ 259 ـ
  التحقيق في دفعه ، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري ، فانتظر.
  الامر الثاني : قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة في صورة الاصابة ، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته ، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته ، أو لا يوجب شيئا ؟
  الحق أنه يوجبه ، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ، وذمه على تجريه ، وهتكه لحرمة مولاه (1) وخروجه عن رسوم عبوديته ، وكونه بصدد الطغيان ، وعزمه على العصيان ، وصحة مثوبته ، ومدحه على قيامه (2) بما هو قضية عبوديته ، من العزم على موافقته والبناء على إطاعته ، وإن قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة ، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سريرته أو حسنها ، وإن كان مستحقا للوم (3) أو المدح بما يستتبعانه ، كسائر الصفات والاخلاق الذميمة أو الحسنة.
  وبالجملة : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما ، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما ، إذا صار بصدد الجري على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم ، وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك ، وحسنها معه ، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الاطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان .
  ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى [ به ] أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن

(1) في الاصل : وهتك حرمته لمولاه ، والصحيح ما أثبتناه.
(2) في الاصل : إقامته ، والصحيح ما أثبتناه.
(3) في هامش ( ب ) من نسخة أخرى : للذم .

كفاية الأصول ـ 260 ـ
  أو القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهته (1) أصلا ، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا ، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى ، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له ، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ، ولو اعتقد العبد بأنه عدوه ، وكذا قتل عدوه ، مع القطع بأنه إبنه ، لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا ، هذا .
  مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به ، بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا ، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي ، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا ؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية.
  إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار ؟
  قلت : العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.
  إن قلت : إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختيارية ، وإلا لتسلسل .
  قلت : ـ مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلا أن بعض مباديه غالبا يكون وجوده بالاختيار ، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه

(1) في هامش ( ب ) من نسخة أخرى : بجهة.

كفاية الأصول ـ 261 ـ
  من تبعة العقوبة واللوم والمذمة ـ يمكن أن يقال : إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجريه عليه ، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما أنه يوجب البعد عنه ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، وإن لم يكن باختياره (1) إلا أنه بسوء سريرته وخبث باطنه ، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانه (2) ، وإذا انتهى الامر إليه يرتفع الاشكال وينقطع السؤال ب‍ ( لم ) فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات ، وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان ؟ والمطيع والمؤمن الاطاعة والايمان ؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا ؟ والانسان لم يكون ناطقا ؟
  وبالجملة : تفاوت أفراد الانسان في القرب منه تعالى (3) والبعد عنه ، سبب لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاتها ، والنار ودركاتها ، [ وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها ] ، وتفاوتها في ذلك بالاخرة يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلل.
  إن قلت : على هذا ، فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والانذار .
  قلت : ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته ، لتكمل به نفسه ، ويخلص مع ربه أنسه ( مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ) (4) ، قال الله تبارك وتعالى :

(1) كيف لا ، وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية ، فإنها هي المخالفة العمدية ، وهي لا تكون بالاختيار ، ضرورة أن العمد إليها ليس باختياري ، وإنما تكون نفس المخالفة اختيارية ، وهي غير موجبة للاستحقاق ، وإنما الموجبة له هي العمدية منها ، كما لا يخفى على أولى النهى ( منه قدس سره ).
(2) المطبوع في ( ب ) إمكانا ، ولكن صححه المصنف ( قده ) بما في المتن.
(3) في ( ب ) : جل شأنه وعظمت كبرياؤه.
(4) الاعراف : 43.

كفاية الأصول ـ 262 ـ
  ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) (1) وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) (2) كيلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له حجة بالغة .
  ولا يخفى أن في الآيات (3) والروايات (4) ، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة ، ومعه لا حاجة إلى ما استدل (5) على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله : إنه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره ، مع بطلانه وفساده ، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق العاصي دونه ، إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه ، وهو مخالفته عن عمد واختيار ، وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا ، ولو بلا اختيار ، بل عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار ، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام ، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر ، مع أنه لم يكن بالخمر ، فيحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.
  ثم لا يذهب عليك : إنه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة ، وهو هتك واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم ، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة ، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما ، كما لا يخفى ، ولا منشأ لتوهمه ، إلا بداهة أنه ليس في

(1) الذاريات : 55.
(2) الاسراء : 36 ، والبقرة : 225 و 284 ، والاحزاب : 5.
(3) الكافي 2 / 69 باب النية من كتاب الايمان والكفر ، وللمزيد راجع وسائل الشيعة 1 / 35 ، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 10 .
(4) استدل به المحقق السبزواري ، ذخيرة المعاد / 209 ـ 210.
(5) راجع الفصول / 87 ، التنبيه الرابع من مقدمة الواجب.

كفاية الأصول ـ 263 ـ
  معصية واحدة إلا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الان عن وحدة السبب.
  الامر الثالث : إنه قد عرفت (1) أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب ، يوجب عقلا استحقاق المدح والثواب ، أو الذم والعقاب ، من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب ، وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه ، لا يماثله ولا يضاده ، كما إذا ورد مثلا في الخطاب أنه ( إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بكذا ) تارة بنحو يكون تمام الموضوع ، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا ولو أخطأ موجبا لذلك ، وأخرى بنحو يكون جزؤه وقيده ، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له ، وفي كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه ، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به ، وذلك لان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الاضافة ـ ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره ـ صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة ، بإلغاء جهة كشفه ، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها ، كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاك عنه ، فتكون أقسامه أربعة ، مضافا إلى ما هو طريق محض عقلا غير مأخوذ في الموضوع شرعا .
  ثم لا ريب في قيام الطرق والامارات المعتبرة ـ بدليل حجيتها واعتبارها ـ مقام هذا القسم ، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الاقسام ، بل لابد من دليل آخر على التنزيل ، فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار ، لا له بما هو صفة وموضوع ، ضرورة أنه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات .
  ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو

(1) في الامر الاول صفحة 258.

كفاية الأصول ـ 264 ـ
  الكشف ، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا ، كسائر مالها (1) دخل في الموضوعات أيضا ، فلا يقوم مقامه شيء بمجرد حجيته ، وقيام (2) دليل على اعتباره ، ما لم يقم دليل على تنزيله ، ودخله في الموضوع كدخله .
  وتوهم (3) كفاية دليل الاعتبار الدال على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع ، من جهة كونه موضوعا ومن جهة كونه طريقا فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا ، فاسد جدا ، فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال ، لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين ، حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزل والمنزل عليه ، ولحاظهما في أحدهما آلي ، وفي الآخر استقلالي ، بداهة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما ، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما .
  نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما ، يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين ، والمفروض أنه ليس ، فلا يكون دليلا على التنزيل إلا بذاك اللحاظ الآلي ، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه ، وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه بناء على استحقاق المتجري ، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي ، فيكون مثله في دخله في الموضوع ، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.
  لا يقال : على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين ، ما لم يكن هناك قرينة في البين .
  فإنه يقال : لا إشكال في كونه دليلا على حجيته ، فإن ظهوره في أنه بحسب اللحاظ الآلي مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه ، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام

(1) في حقائق الاصول : ماله ، الحقائق 2 : 24.
(2) في ( ب ) : أو قيام دليل ... الخ.
(3) تعريض بما ذكره الشيخ الانصاري ( قده ) فرائد الاصول / 4.

كفاية الأصول ـ 265 ـ
  للاعلام ، ولا يخفى أنه لو لا ذلك ، لامكن أن يقوم الطريق بدليل واحد ـ دال على إلغاء احتمال خلافه ـ مقام القطع بتمام أقسامه ، ولو فيما (1) أخذ في الموضوع على نحو الصفتية ، كان تمامه أو قيده وبه قوامه .
  فتلخص مما ذكرنا : إن الامارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلا مقام ما ليس بمأخوذ (2) في الموضوع أصلا.
  وأما الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها ـ أيضا ـ غير الاستصحاب ، لوضوح أن المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والاحكام ، من تنجز التكليف وغيره ـ كما مرت (3) إليه الاشارة ـ وهي ليست إلا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا .
  لا يقال : إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو كان .
  فإنه يقال : أما الاحتياط العقلي ، فليس إلا لاجل حكم العقل بتنجز التكليف ، وصحة العقوبة على مخالفته ، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم.
  وأما النقلي ، فإلزام الشارع به ، وإن كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة على المخالفة كالقطع ، إلا أنه لا نقول به في الشبهة البدوية ، ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الاجمالي ، فافهم .
  ثم لا يخفى إن دليل الاستصحاب أيضا لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ

(1) الظاهر أنه رد على الشيخ حيث فصل بين القطع الموضوعي الطريقي وبين القطع الموضوعي الصفتي ، من جهة قيام الامارة مقامه وعدم قيامها مقامه ، فرائد الاصول / 3.
(2) في ( ب ) : مأخوذا.
(3) في ص 264 عند قوله : ( فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه ... ).

كفاية الأصول ـ 266 ـ
  في الموضوع مطلقا ، وإن مثل ( لا تنقض اليقين ) لا بد من أن يكون مسوقا إما بلحاظ المتيقن ، أو بلحاظ نفس اليقين.
  وما ذكرنا في الحاشية (1) ـ في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع ، وأن دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة الواقع ، وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما ، وتنزيل القطع بالواقع تنزيلا وتعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة ـ لا يخلو من تكلف بل تعسف ، فإنه لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع أو قيده ، بما هو كذلك بلحاظ أثره ، إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان ، أو تنزيله في عرضه ، فلا يكاد يكون دليل الامارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع ، ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر ، فيما لم يكن محرزا حقيقة ، وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة ، كما في ما نحن فيه ـ على ما عرفت (2) ـ لم يكن دليل الامارة دليلا عليه أصلا ، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة ، ولا دلالة له كذلك إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى ، فإن الملازمة (3) إنما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي ، وتنزيل المؤدى منزلة الواقع كما لا يخفى ، فتأمل جيدا ، فإنه لا يخلو عن دقة.
  ثم لا يذهب عليك أن (4) هذا لو تم لعم ، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذا على نحو الكشف.
  الامر الرابع : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا

(1) حاشية المصنف على الفرائد / 8 في كيفية تنزيل الامارة مقام القطع .
(2) في عدم إمكان الجمع بين اللحاظين / 264 .
(3) في بعض النسخ المطبوعة زيادة هنا حذفها المصنف من نسختي ( أ ) و ( ب ).
(4) في ( أ ) و ( ب ) : إنه.

كفاية الأصول ـ 267 ـ
  الحكم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ، ولاضده للزوم اجتماع الضدين ، نعم يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده.
  وأما الظن بالحكم ، فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون ، إلا أنه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، كان جعل حكم آخر في مورده ـ مثل الحكم المظنون أو ضده ـ بمكان من الامكان.
  إن قلت : إن كان الحكم المتعلق به الظن فعليا أيضا ، بأن يكون الظن متعلقا بالحكم الفعلي ، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله ضده ، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين ، وإنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر ، كما في القطع ، طابق النعل بالنعل .
  قلت : يمكن أن يكون الحكم فعليا ، بمعنى أنه لو تعلق به القطع ـ على ما هو عليه من الحال ـ لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة ، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف ، برفع جهله لو أمكن ، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن ، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة ، وإلى ضده أخرى ، ولا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضده ، كما لا يخفى ، فافهم .
  إن قلت : كيف يمكن ذلك ؟ وهل هو إلا أنه يكون مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين ؟
  قلت : لا بأس بإجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى ـ أي لو قطع به من باب الاتفاق لتنجز ـ مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الاصل أو الامارة ، أو دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص ، على ما سيأتي (1) من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي .

(1) في بحث الامارات / 278 ، عند قوله : لان أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه ... إلخ.

كفاية الأصول ـ 268 ـ
  الامر الخامس : هل تنجز التكليف بالقطع ـ كما يقتضي موافقته عملا ـ يقتضي موافقته إلتزاما ، والتسليم له اعتقادا وانقيادا ؟ كما هو اللازم في الاصول الدينية والامور الاعتقادية ، بحيث كان له امتثالان وطاعتان ، إحداهما بحسب القلب والجنان ، والاخرى بحسب العمل بالاركان ، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا ، أو لا يقتضي ؟ فلا يستحق العقوبة عليه ، بل إنما يستحقها على المخالفة العملية.
  الحق هو الثاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة والعصيان بذلك ، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لامر سيده إلا المثوبة دون العقوبة ، ولو لم يكن متسلما وملتزما به ومعتقدا ومنقادا له ، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده ، لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا ، كما لا يخفى.
  ثم لا يذهب عليك ، إنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية ، لو كان المكلف متمكنا منها لوجب ، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا ، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما ، كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته ، للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا ، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت ، وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة.
  وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه ، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة ، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا ، فإن محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة ، مع ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا ، لا الالتزام به أو بضده تخييرا.
  ومن هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاصول

كفاية الأصول ـ 269 ـ
  الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جارية ، مع قطع النظر عنه ، كما لا يدفع (1) بها محذور عدم الالتزام به (2) ، إلا أن يقال : إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام في الاطراف ، ومعه لا محذور فيه ، بل ولا في الالتزام بحكم آخر.
  إلا أن الشأن حينئذ في جواز جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي ، مع عدم ترتب أثر علمي عليها ، مع أنها أحكام عملية كسائر الاحكام الفرعية ، مضافا إلى عدم شمول أدلتها لاطرافه ، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها ، كما ادعاه (3) شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، وإن كان محل تأمل ونظر ، فتدبر جيدا .
  الامر السادس : لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا ، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف ، ومن سبب ينبغي حصوله منه ، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه ، كما هو الحال غالبا في القطاع ، ضرورة أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله ، وصحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك ، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه ، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ، ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله .
  نعم (4) ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ، والمتبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كل مورد ، فربما يدل على اختصاصه بقسم في

(1) إشارة إلى ما في فرائد الاصول / 19 ، عند قوله : وأما المخالفة الغير العملية ... الخ.
(2) هنا زيادة في بعض النسخ المطبوعة حذفها المصنف من نسختي ( أ ) و ( ب ).
(3) فرائد الاصول / 429 ، عند قوله : بل لان العلم الاجمالي هنا بانتقاض ... الخ.
(4) قد نبه الشيخ في فرائد الاصول / 3 ، على هذا الاستدراك.

كفاية الأصول ـ 270 ـ
  مورد ، وعدم اختصاصه به في آخر ، على اختلاف الادلة واختلاف المقامات ، بحسب مناسبات الاحكام والموضوعات ، وغيرها من الامارات.
  وبالجملة القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع ، ولا من حيث المورد ، ولا من حيث السبب ، لا عقلا ـ وهو واضح ـ ولا شرعا ، لما عرفت (1) من أنه لا تناله يد الجعل نفيا ولا إثباتا ، وإن نسب إلى بعض الاخباريين أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية ، إلا أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ، بل تشهد بكذبها ، وأنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه ، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي (2) عن السيد الصدر (3) في باب الملازمة ، فراجع .
  وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية ، لانها لا تفيد إلا الظن ، كما هو صريح الشيخ المحدث الامين الاسترآبادي ـ رحمه الله ـ حيث قال ـ في جملة ما استدل به في فوائده (4) على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين ( عليهم السلام ).
  الرابع : إن كل مسلك غير ذلك المسلك ـ يعني التمسك بكلامهم ( عليهم الصلاة والسلام ) ـ إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا

(1) تقدم في الامر الاول : 258.
(2) راجع ما حكاه الشيخ عن السيد الصدر : فرائد الاصول : 11 ، وكلام السيد الصدر في شرح الوافية.
(3) السيد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القمي ، أخذ من أفاضل علماء إصفهان ، كالمدقق الشيرواني والاقا جمال الدين الخونساري والشيخ جعفر القاضي ، ثم إرتحل إلى قم ، فأخذ في التدريس إلى أن اشتعلت نائرة فتنة الافغان ، فانتقل منها إلى موطن أخيه الفاضل بهمدان ثم منها إلى النجف الاشرف ، فاشتغل فيها على المولى الشريف أبي الحسن العاملي والشيخ أحمد الجزائري ، تلمذ عليه الاستاذ الاكبر المحقق البهبهاني ، له كتاب ( شرح الوافية ) توفي في عشر الستين بعد المئة والالف وهو ابن خمس وستين سنة ( الكنى والالقاب 2 / 375 ).
(4) الفوائد المدنية : 129.

كفاية الأصول ـ 271 ـ
  سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها ) وقال في جملتها أيضا ـ بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة ـ ما هذا لفظه (1) :
  ( وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسكنا بغيره لم يعصم عنه ، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا ، ألا ترى أن الامامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ ، وذلك الامر محل ، لانه قبيح ، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى ) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه.
  وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ في الرسالة (2).
  وقال في فهرست فصولها (3) أيضا :
  ( الاول : في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه ، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله ، أو بحكم ورد عنهم عليهم السلام ) ، انتهى.
  وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه ، هو العقلي الغير المفيد للقطع ، وإنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع.
  وكيف كان ، فلزوم اتباع القطع مطلقا ، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته ، وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا ، مما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن

(1) المصدر السابق : 130 ، مع اختلاف يسير .
(2) فرائد الاصول / 9 مبحث القطع.
(3) الفوائد المدنية / 90 ، باختلاف غير قادح في العبارة.

كفاية الأصول ـ 272 ـ
  فاضل ، فلابد فيما يوهم (1) خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي (2) لاجل منع بعض مقدماته الموجبة له ، ولو إجمالا ، فتدبر جيدا.
  الامر السابع : إنه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علة تامة لتنجزه ، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتا أو نفيا ، فهل القطع الاجمالي كذلك ؟
  فيه إشكال ، ربما يقال : إن التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف ، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، جاز الاذن من الشارع بمخالفته احتمالا بل قطعا ، وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالا [ إلا ] (3) محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة ، بل الشبهة البدوية (4) ، ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والاذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلا ، فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في القطع به في الاطراف المحصورة أيضا ، كما لا يخفى ، [ وقد أشرنا إليه سابقا ، ويأتي (5) إن شاء الله مفصلا ] (6).
  نعم كان العلم الاجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء ، لا في العلية التامة (7) ، فيوجب تنجز التكليف أيضا لو لم يمنع عنه مانع عقلا ، كما كان في أطراف كثيرة غير

(1) المحاسن / 286 ، الحديث 430 ـ الكافي : 2 / 16 ، الحديث 5. الوسائل : 18 / الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 37.
(2) في هامش ( ب ) عن نسخة أخرى : العقلي.
(3) أثبتناه من ( ب ).
(4) كان هنا اشكال آخر ضرب عليه المصنف في نسختي ( أ ) و ( ب ).
(5) تقدم في الامر الرابع / 267 ، عند قوله : قلت : لا بأس باجتماع ... الخ ، ويأتي في أوائل البحث عن حجية الامارات.
(6) شطب المصنف على هذه العبارة في ( ب ).
(7) لكنه لا يخفى أن التفصي عن المناقضة ـ على ما يأتي ـ لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي ما لم يصر فعليا والحكم الظاهري الفعلي ، كان الحكم الواقعي في موارد الاصول والامارات المؤدية

كفاية الأصول ـ 273 ـ
  محصورة ، أو شرعا كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها ، كما هو ظاهر ( كل شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعينه ) (1).
  وبالجملة : قضية صحة المؤاخذة على مخالفته ، مع القطع به بين أطراف محصورة وعدم صحتها مع عدم حصرها ، أو مع الاذن في الاقتحام فيها ، هو كون القطع الاجمالي مقتضيا للتنجز لا علة تامة.
  وأما احتمال (2) أنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية ، وبنحو العلية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية ، فضعيف جدا. ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجبا لجواز الاذن في الاقتحام ، بل لو صح الاذن في المخالفة الاحتمالية صح في القطعية أيضا ، فافهم .
  ولا يخفى أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك ، كما أن المناسب في باب البراءة والاشتغال ـ بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية ـ هو البحث عن ثبوت المانع شرعا أو عقلا وعدم ثبوته ، كما لا مجال بعد

إلى خلافه لا محالة غير فعلي ، فحينئذ فلا يجوز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الاذن في مخالفته ، بل يستقل مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالا بلزوم موافقته وإطاعته ، نعم لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليته شرعا أو عقلا ، كما إذا كان مخلا بالنظام ، فلا تنجز حينئذ ، لكنه لاجل عروض الخلل في المعلوم لا لقصور العلم عن ذلك ، كان الامر كذلك فيما إذا أذن الشارع في الاقتحام ، فإنه أيضا موجب للخلل في المعلوم ، لا المنع عن تأثير العلم شرعا ، وقد انقدح بذلك أنه لا مانع عن تأثيره شرعا أيضا ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).
(1) باختلاف يسير في العبارة : الكافي 5 / 313 باب النوادر من كتاب المعيشة ، الحديث 39 ، التهذيب 7 / 226 ، الباب 21 من الزيادات ، الحديث 8 ، الفقيه 3 / 216 ، الباب 96 الصيد والذبايح الحديث 92 .
(2) هذه إشارة إلى التفصيل في حجية العلم الاجمالي كما يستفاد من كلمات الشيخ الانصاري في مبحث العلم الاجمالي / 21 ، عند قوله : ( وأما المخالفة العملية فإن كانت ... ) ، ومبحث الاشتغال / 242 ، عند قوله : ( نعم لو أذن الشارع ... ).

كفاية الأصول ـ 274 ـ
  البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك أصلا ، كما لا يخفى ، هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به ، وأما سقوطه به بأن يوافقه إجمالا ، فلا إشكال فيه في التوصليات. وأما [ في ] (1) العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار ، كما إذا تردد أمر عبادة بين الاقل والاكثر ، لعدم الاخلال بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها ، مما لا يمكن أن يؤخذ فيها ، فإنه نشأ من قبل الامر بها ، كقصد الاطاعة والوجه والتمييز فيما إذا أتى بالاكثر ، ولا يكون إخلال حينئذ إلا بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها ، واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية.
  وأما فيما احتاج إلى التكرار ، فربما يشكل (2) من جهة الاخلال بالوجه تارة ، وبالتمييز أخرى ، وكونه لعبا وعبثا ثالثة.
  وأنت خبير بعدم الاخلال بالوجه بوجه في الاتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه ، غاية الامر أنه لا تعيين له ولا تمييز فالاخلال إنما يكون به ، واحتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف ، لعدم عين منه ولا أثر في الاخبار ، مع أنه مما يغفل عنه غالبا ، وفي مثله لا بد من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض ، وإلا لاخل بالغرض ، كما نبهنا عليه سابقا (3).
  وأما كون التكرار لعبا وعبثا ، فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي ، إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى ، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها ، كما لا يخفى ، هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال.
  وأما إذا لم يتمكن الا من الظن به كذلك ، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره ، إلا فيما إذا لم يتمكن منه ، وأما لو قام على اعتباره

(1) من هامش ( ب ) عن نسخة أخرى.
(2) راجع كلام الشيخ قدس فرائد الاصول / 299 ، في الخاتمة في شرائط الاصول.
(3) في مبحث التعبدي والتوصلي ، 76.

كفاية الأصول ـ 275 ـ
  مطلقا ، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني ، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الاجمالي في قبال الظني ، بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد ، بناء على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، وأما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه العسر المخل بالنظام ، أو لانه ليس من وجوه الطاعة والعبادة ، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار ، كما توهم ، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن كذلك .
  وعليه : فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد ، وإن احتاط فيها ، كما لا يخفى.
  هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام ، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال .
  فيقع المقام فيما هو المهم من عقد هذا المقصد ، وهو بيان ما قيل باعتباره من الامارات ، أو صح أن يقال ، وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور :
  أحدها : إنه لا ريب في أن الامارة الغير العلمية ، ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية ، بل مطلقا ، وأن ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا ، بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة ، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتا بلا خلاف ، ولا سقوطا وإن كان ربما يظهر فيه من بعض المحققين (1) الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ ، ولعله لاجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، فتأمل .
  ثانيها : في بيان إمكان التعبد بالامارة الغير العلمية شرعا ، وعدم لزوم

(1) لعله المحقق الخوانساري ( ره ) كما قد يستظهر من بعض كلماته في مسألة ما لو تعدد الوضوء ولم يعلم محل المتروك ( الخلل ) ، راجع مشارق الشموس / 147.