مجعول بالعرض ، ويتبع جعل وجوب ذي المقدمة ، وهو كاف في جريان الاصل.
  ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة ، لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة ، لا ينافي الملازمة بين الواقعيين ، وإنما ينافي الملازمة بين الفعليين ، نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية ، لما صح التمسك بالاصل ، كما لا يخفى .
  إذا عرفت ما ذكرنا ، فقد تصدى غير واحد من الافاضل (1) لاقامة البرهان على الملازمة ، وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل ، والاولى إحالة ذلك إلى الوجدان ، حيث أنه أقوى شاهد على أن الانسان إذا أراد شيئا له مقدمات ، أراد تلك المقدمات ، لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله ، ويقول مولويا ( أدخل السوق واشتر اللحم ) مثلا ، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب ( أدخل ) مثل المنشأ بخطاب ( إشتر ) في كونه بعثا مولويا ، وأنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ، ترشحت منها له إرادة أخرى بدخو السوق ، بعد الالتفات إليه وأنه يكون مقدمة له ، كما لا يخفى .
  ويؤيد الوجدان ، بل يكون من أوضح البرهان ، وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات ، لوضوح أنه لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري ، إلا إذا كان فيها مناطه ، وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصح تعلقه به أيضا ، لتحقق ملاكه ومناطه ، والتفصيل بين السبب وغيره والشرط الشرعي وغيره سيأتي بطلانه ، وأنه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة ومقدمة .
  ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالاصل لغيره ـ مما ذكره الافاضل (2)

(1) انظر مطارح الانظار / 83 ، في أدلة القائلين بوجوب المقدمة.
(2) المصدر السابق / 83 ـ 84 ، الفصول / 84 ، هداية المسترشدين / 205 ، نهاية الاصول / 88 ، في المبحث الاول من الفصل الخامس في أحكام الوجوب.

كفاية الأصول ـ 127 ـ
  من الاستدلالات ـ وهو ما ذكره أبو الحسن [ الحسين ] (1) البصري (2) ، وهو أنه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها ، وحينئذ ، فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلا خرج الواجب المطلق عن وجوبه .
  وفيه : ـ بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى ، لا الاباحة الشرعية ، وإلا كانت الملازمة واضحة البطلان ، وإرادة الترك عما أضيف إليه الظرف ، لا نفس الجواز ، وإلا فمجرد الجواز بدون الترك ، لا يكاد يتوهم [ معه ] (3) صدق القضية الشرطية الثانية ـ ما لا يخفى ، فان الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين ، ولا يلزم أحد المحذورين ، فإنه وإن لم يبق له وجوب معه ، إلا أنه كان ذلك بالعصيان ، لكونه متمكنا من الاطاعة والاتيان ، وقد اختار تركه بترك مقدمته بسوء اختياره ، مع حكم العقل بلزوم إتيانها ، إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.
  نعم لو كان المراد من الجواز الترك شرعا وعقلا ، يلزم أحد المحذورين ، إلا أن الملازمة على هذا في الشرطية الاولى ممنوعة ، بداهة أنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا ، لامكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا ، وإن كان واجبا عقلا إرشادا ، وهذا واضح.
  وأما التفصيل بين السبب وغيره ، فقد استدل (4) على وجوب السبب ،

(1) ما أثبتناه هو الصواب ، راجع المعتمد في أصول الفقه 1 / 94 ، لابي الحسين البصري.
(2) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق الاشعري من نسل أبي موسى الاشعري ولد في البصرة سنة 260 ه‍ ، تلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ، ثم رجع وجاهر بخلافهم ، وأسس مذهب الاشاعرة ، بلغت مصنفاته ثلاثمأة كتاب ، توفي ببغداد سنة 326 ه‍ ( اعلام الزركلي 4 / 263 ).
(3) زيادة تقتضيها العبارة.
(4) بدائع الافكار / 353 ، القول الثالث في وجوب المقدمة.

كفاية الأصول ـ 128 ـ
  بأن التكليف لا يكاد يتعلق إلا بالمقدور ، والمقدور لا يكون إلا هو السبب ، وإنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا ، ولا يكون من أفعال المكلف وحركاته أو سكناته ، فلابد من صرف الامر المتوجه إليه عنه إلى سببه.
  ولا يخفى ما فيه ، من أنه ليس بدليل على التفصيل ، بل على أن الامر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب ، مع وضوح فساده ، ضرورة أن المسبب مقدور المكلف ، وهو متمكن عنه بواسطة السبب ، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة ، كانت بلا واسطة أو معها ، كما لا يخفى.
  وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ، فقد استدل (1) على الوجوب في الاول بأنه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا ، حيث أنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة .
  وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي ـ أنه لا يكاد يتعلق الامر الغيري إلا بما هو مقدمة الواجب ، فلو كانت مقدميته متوقفة على تعلقه بها لدار ، والشرطية وإن كانت منتزعة عن التكليف ، إلا أنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط ، لا عن الغيري ، فافهم.
  تتمة : لا شبهة في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب ، فتكون مستحبة ـ لو قيل بالملازمة ـ وأما مقدمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة ، إذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا ، كما كان متمكنا قبله ، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه ، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما ، نعم ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب ، لا محالة يكون مطلوب الترك ، ويترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة ، فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى

(1) المصدر المتقدم / 354 ، القول الرابع في وجوب المقدمة.

كفاية الأصول ـ 129 ـ
  معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته ، لا يقال : كيف ؟ ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها يوجد ، ضرورة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد .
  فإنه يقال : نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام ، لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية ، بل من المقدمات الغير الاختيارية ، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار ، والا لتسلسل ، فلا تغفل ، وتأمل.
  فصل الامر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده ، أو لا ؟
  فيه أقوال ، وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور :
  الاول : الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية ، أو الجزئية ، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين ، وطلب ترك الآخر ، أو المقدمية على ما سيظهر ، كما أن المراد بالضد هاهنا ، هو مطلق المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا.
  الثاني : إن الجهة المبحوثة عنها في المسألة ، وإن كانت أنه هل يكون للامر اقتضاء بنحو من الانحاء المذكورة ، إلا أنه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص ، إنما ذهبوا إليه لاجل توهم مقدمية ترك الضد ، كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال ، في المقدمية وعدمها ، فنقول وعلى الله الاتكال :
  إن توهم توقف الشيء على ترك ضده ، ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين ، وقضيتها الممانعة بينهما ، ومن الواضحات أن عدم

كفاية الأصول ـ 130 ـ
  المانع من المقدمات، وهو توهم فاسد ، وذلك لان المعاندة والمنافرة بين الشيئين ، لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق ، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر ، كما لا يخفى .
  فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادين ، كيف ؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده ، توقف الشيء على عدم مانعه ، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشيء توقف عدم الشيء على مانعه ، بداهية ثبوت المانعية في الطرفين ، وكون المطاردة من الجانبين ، وهو دور (1) واضح .
  وما قيل (2) في التفصي عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلي ، بخلاف التوقف من طرف العدم ، فإنه بتوقف على فرض ثبوت المقتضي له ، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده ، ولعله كان محالا ، لاجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الارادة الازلية به ، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة ، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي ، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع ، كي يلزم الدور .
  إن قلت : هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد ، وأما إذا كان كل منهما متعلقا لارادة شخص ، فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شيء ، وأراد الآخر سكونه ، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا ، فالعدم ـ لا محالة ـ يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع .

(1) راجع هداية المسترشدين / 230 عند قوله : ثانيها.
(2) المتفصي هو المحقق الخوانساري ( قدس سره ) على ما في مطارح الانظار / 109.

كفاية الأصول ـ 131 ـ
  قلت : هاهنا أيضا مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته ، وهي مما لابد منه في وجود المراد ، ولا يكاد يكون بمجرد الارادة بدونها لا إلى وجود الضد ، لكونه مسبوقا بعدم قدرته ـ كما لا يخفى ـ غير سديد ، فإنه وإن كان قد ارتفع به الدور ، إلا أنه غائلة لزوم توقف الشيء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها ، لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لان يكون موقوفا عليه [ الشيء ] (1) موقوفا عليه ، ضرورة أنه لو كان في مرتبة يصلح لان يستند إليه ، لما كاد يصح أن يستند فعلا إليه .
  والمنع عن صلوحه لذلك بدعوى : أن قضية كون العدم مستندا إلى وجود الضد ، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي ، وإن كانت صادقة ، إلا أن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك ، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها ، مساوق (2) لمنع مانعية الضد ، وهو يوجب رفع التوقف رأسا من البين ، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر ، إلا توهم مانعية الضد ـ كما أشرنا إليه ـ وصلوحه لها .
  إن قلت : التمانع بين الضدين كالنار على المنار ، بل كالشمس في رابعة النهار ، وكذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه ، مما لا يقبل الانكار ، فليس ما ذكر إلا شبهة في مقابل البديهة.

(1) أثبتناها من ( ب ).
(2) مع أن حديث عدم اقتضاء صدق الشرطية لصدق طرفيها ، وإن كان صحيحا ، إلا أن الشرطية ـ هاهنا ـ غير صحيحة ، فإن وجود المقتضي لضد ، لا يستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضده ، ولا يكون الاستناد مترتبا على وجوده ، ضرورة أن المقتضي لا يكاد يقتضي وجود ما يمنع عما يقتضيه أصلا كما لا يخفى ، فليكن المقتضي لاستناد عدم الضد إلى وجود ضده فعلا عند ثبوت مقتضي وجوده ، هي الخصوصية التي فيه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضيه ، كما هو الحال في كل مانع ، وليست في الضد تلك الخصوصية ، كيف ؟ وقد عرفت أنه لا يكاد يكون مانعا إلا على وجه دائر ، نعم إنما المانع عن الضد هو العلة التامة لضده ، لاقتضائها ما يعانده وينافيه ، فيكون عدمه كوجود ضده مستندا إليها ، فافهم ( منه قدس سره ).

كفاية الأصول ـ 132 ـ
  قلت : التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، إلا أنه لا يقتضي إلا امتناع الاجتماع ، وعدم وجود أحدهما إلا مع عدم الاخر ، الذي هو بديل وجوده المعاند له ، فيكون في مرتبته لا مقدما عليه ولو طبعا ، والمانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود هو ماكان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده .
  نعم العلة التامة لاحد الضدين ، ربما تكون مانعا عن الآخر ، ومزاحما لمقتضيه في تأثيره ، مثلا تكون شدة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبة له ، تمنع عن أن يؤثر ما في الاخ الغريق من المحبة والشفقة ، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فينقذ به الولد دونه ، فتأمل جيدا .
  ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم ، في أن عدمه الملائم للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك ، لابد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه ، بل عرفت ما يقتضي عدم سبقه .
  فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الاعلام (1) ، حيث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود ، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه ، فإنه دقيق وبذلك حقيق .
  فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمية.
  وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود ، في الحكم ، فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر ، لا أن يكون محكوما بحكمه .
  وعدم خلو الواقعة عن الحكم ، فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي ، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا ، بل على ما هو عليه ، لولا

(1) هو المحقق الخونساري ، راجع مطارح الانظار / 109.

كفاية الأصول ـ 133 ـ
  الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي ، من الحكم الواقعي.
  الامر الثالث : إنه قيل (1) بدلالة الامر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام ، بمعنى الترك ، حيث أنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل والمنع عن الترك ، والتحقيق أنه لا يكون الوجوب إلا طلبا بسيطا ، ومرتبة وحيدة أكيدة من الطلب ، لا مركبا من طلبين ، نعم في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ، ربما يقال : الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك ، ويتخيل منه أنه يذكر له حدا ، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه ، بمعنى أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة ، وكان يبغضه البتة.
  ومن هنا انقدح أنه لا وجه لدعوى العينية ، ضرورة أن اللزوم يقتضي الاثنينية ، لا الاتحاد والعينية.
  نعم لا بأس بها ، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد ، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه ، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز ويكون زجرا وردعا عنه ، فافهم.
  الامر الرابع : تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة ، وهي النهي عن الضد بناء على الاقتضاء ، بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد ، يتنج فساده إذا كان عبادة.
  وعن البهائي ( رحمه الله ) (2) أنه أنكر الثمرة ، بدعوى أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد ، بل يكفي عدم الامر به ، لاحتياج العبادة إلى الامر.

(1) القائل هو صاحب المعالم ، المعالم / 63.
(2) زبدة الاصول / 82 ، مخطوط.

كفاية الأصول ـ 134 ـ
  وفيه : إنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى ، كي يصح أن يتقرب به منه ، كما لا يخفى ، والضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك ، فإن المزاحمة على هذا لا يوجب إلا ارتفاع الامر المتعلق به فعلا ، مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة ، كما هو مذهب العدلية ، أو غيرها أي شيء كان ، كما هو مذهب الاشاعرة ، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث ، بناء على الاقتضاء.
  ثم إنه تصدى جماعة من الافاضل (1) ، لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب على العصيان ، وعدم إطاعة الامر بالشيء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على معصيته (2) بنحو الشرط المتقدم ، أو المقارن ، بدعوى أنه لا مانع عقلا عن تعلق الامر بالضدين كذلك ، أي بأن يكون الامر بالاهم مطلقا ، والامر بغيره معلقا على عصيان ذاك الامر ، أو البناء والعزم عليه ، بل هو واقع كثيرا عرفا.
  قلت : ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد ، آت في طلبهما كذلك ، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما ، إلا أنه كان في مرتبة الامر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الامر بالاهم في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص ، أو العزم عليها مع فعلية الامر بغيره أيضا ، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا.
  لا يقال : نعم لكنه بسوء اختيار المكلف حيق يعصي فيما بعد بالاختيار ، فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالاهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع ، إذا كان بسوء الاختيار.
  فإنه يقال : استحالة طلب الضدين ، ليس إلا لاجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته ، لا تختص بحال دون

(1) منهم صاحب كشف الغطاء ، كشف الغطاء / 27 ، البحث الثامن عشر.
(2) في ( ب ) معصية ، وفي بعض النسخ المطبوعة ( المعصية ).

كفاية الأصول ـ 135 ـ
  حال ، وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد ، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب ، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال .
  إن قلت : فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك ، فإن الطلب في كل منهما في الاول يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فإن الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم ، فإنه يكون على تقدير عدم الاتيان بالاهم ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه ، وعدم عصيان أمره .
  قلت : ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير الاهم ؟ وهل يكون طرده له إلا من جهة فعليته ، ومضادة متعلقه للاهم ؟ والمفروض فعليته ، ومضادة متعلقه له. وعدم إرادة غير الاهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه ، على تقدير عدم الاتيان به وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير ، مع ما هما عليه من المطاردة ، من جهة المضادة بين المتعلقين ، مع أنه يكفي الطرد من طرف الامر بالاهم ، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد ، كما كان في غير هذا الحال ، فلا يكون له معه أصلا بمجال .
  إن قلت : فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات ؟ قلت : لا يخلو : إما أن يكون الامر بغير الاهم ، بعد التجاوز عن الامر به وطلبه حقيقة.
  وإما أن يكون الامر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة ، وأن الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالاهم ، لا أنه أمر مولوي فعلي كالامر به ، فافهم وتامل جيدا .
  ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب ، بما هو لازمه من الاستحقاق في

كفاية الأصول ـ 136 ـ
  صورة مخالفة الامرين لعقوبتين ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا كان سيدنا الاستاذ ( قدس سره ) (1) لا يلتزم به ـ على ما هو ببالي ـ وكنا نورد به على الترتب ، وكان بصدد تصحيحه .
  فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة ، مع مضادتها لما هو أهم منها ، إلا ملاك الامر.
  نعم فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة بالاهم ببعض الوقت ، لا في تمامه ، يمكن أن يقال : إنه حيث كان الامر بها على حاله ، وإن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من أفرادها من تحتها ، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الامر ، فإنه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلا أنه لما كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها ، كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام الامتثال ، والاتيان به بداعي ذاك الامر ، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا .
  ودعوى أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالاهم ، وإن كان من أفراد الطبيعة ، لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها ، فاسدة ، فإنه إنما يوجب ذلك ، إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة ، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها ، إلا أنه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما تعمه عقلا ، وعلى كل حال ، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الامر بها ، بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا .

(1) هو آية الله مجدد المذهب الحاج ميرزا محمد حسن بن السيد ميرزا محمود الحسيني الشيرازي ولد في 15 ج 1230 1 ، حضر درس المحقق السيد حسن المدرس والمحقق الكلباسي قصد العراق عام 1259 ، حضر الاندية العلمية ، اختص في التلمذة والحضور بأبحاث المحقق الانصاري ، عين مرجعا بعده ، حج سنة 1288 ، وهاجر إلى سامراء شعبان سنة 1291 ثم تبعه تلاميذه ، أخذ منه كثير من فحول العلماء ، منهم : آقا رضا الهمداني والشيخ فضل الله النوري والآخوند الخراساني ، توفي ليلة الاربعاء 24 شعبان 1312 ه‍. ( الكنى والالقاب 3 / 184 )

كفاية الأصول ـ 137 ـ
  هذا على القول بكون الاوامر متعلقة بالطبائع.
  وأما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك ، وإن كان جريانه عليه أخفى ، كما لا يخفى ، فتأمل.
  ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب وصحته ، لابد من الالتزام بوقوعه ، من دون انتطار دليل آخر عليه ، وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتنع الاجتماع في عرض واحد ، لا كذلك ، فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة : ولم يكن في الملاك كفاية ، كانت العبادة مع ترك الاهم صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال ، كما إذا لم تكن هناك مضادة.
  فصل لا يجوز أمر الآمر ، مع علمه بانتفاء شرطه ، خلافا لما نسب (1) إلى أكثر مخالفينا (2) ، ضرورة أنه لا يكاد يكون الشيء مع عدم علته ، كما هو المفروض ها هنا ، فإن الشرط من أجزائها ، وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى ، وكون الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام.
  نعم لو كان المراد من لفظ الامر ، الامر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاخر ، بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاء مع علمه بانتفاء شرطه ، بمرتبة فعلية.
  وبعبارة أخرى : كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية لعدم شرطه ، لكان جائزا ، وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات

(1) كما في معالم الاصول / 85 ، وقوانين الاصول / 125.
(2) راجع شرح مختصر الاصول للعضدي / 107 ، وتيسير التحرير 2 / 240.

كفاية الأصول ـ 138 ـ
  غنى وكفاية ، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان ، وقد عرفت سابقا (1) أن داعي إنشاء الطلب ، لا ينحصر بالبعث و التحريك جدا حقيقة ، بل قد يكون صوريا امتحانا ، وربما يكون غير ذلك.
  ومنع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا ، وإن كان في محله ، إلا أن إطلاق الامر عليه ، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا ، مما لا بأس به أصلا ، كما لا يخفى .
  وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقض والابرام ، وربما يقع به التصالح بين الجانبين ويرتفع النزاع من البين ، فتأمل جدا.
  فصل الحق أن الاوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد ، ولا يخفى أن المراد أن متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد ، كما أن متعلقه في النواهي هو محض الترك ، ومتعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيدة بقيود ، تكون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات ، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا ، لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا ، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام ، بل في المحصورة ، على ما حقق في غير المقام.
  وفي مراجعة الوجدان للانسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية ، وعوارضها العينية ، وإن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب ، وإن كان ذاك الوجود

(1) في المقصد الاول ، الفصل الثاني ، المبحث الاول صفحة / 69.

كفاية الأصول ـ 139 ـ
  لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية ، فانقدح بذلك أن المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد ، انها بوجودها السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود ، متعلقة للطلب ، لا أنها بما هي هي كانت متعلقة له ، كما ربما يتوهم ، فإنها كذلك ليست إلا هي ، نعم هي كذلك تكون متعلقة للامر ، فإنه طلب الوجود ، فافهم.
  دفع وهم : لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب ، إنما يكون بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد ، وجعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة ، وإفاضته ، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل ، كما توهم ، ولا جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة ، وقد جعل وجودها غاية لطلبها.
  وقد عرفت أن الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي ، لا يعقل أن يتعلق بها طلب لتوجد أو تترك ، وأنه لابد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها ، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه ، كي يكون ويصدر منه ، هذا بناء على أصالة الوجود.
  وأما بناء على أصالة الماهية ، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا ، بل بما هي بنفسها في الخارج ، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والاعيان الثابتات ، لا بوجودها كما كان الامر بالعكس على أصالة الوجود.
  وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود ، فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر منه ويكون ما لم يكن ، فافهم وتأمل جيدا.
  فصل إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ ، على بقاء الجواز

كفاية الأصول ـ 140 ـ
  بالمعنى الاعم ، ولا بالمعنى الاخص ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الاحكام ، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الاحكام الاربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن ، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعيين واحد منها ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلابد للتعيين من دليل آخر ، ولا مجال لاستصحاب الجواز ، إلا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا في محله (1) ، أنه لا يجري الاستصحاب فيه ، ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع ، بحيث عد عرفا ـ لو كان ـ أنه باق ، لا أنه أمر حادث غيره .
  ومن المعلوم أن كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا وعرفا ، من المباينات والمتضادات ، غير الوجوب والاستحباب ، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلا أنهما متباينان عرفا ، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا الباب .
  فصل إذا تعلق الامر بأحد (2) الشيئين أو الاشياء ، ففي وجوب كل واحد على التخيير ، بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل ، أو وجوب الواحد بعينه ، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعين عند الله ، أقوال .
  والتحقيق أن يقال : إنه إن كان الامر بأحد الشيئين ، بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما ، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام

(1) في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب / 406.
(2) في ( ب ) باحدى.

كفاية الأصول ـ 141 ـ
  الغرض ، ولذا يسقط به الامر ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ، وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ، ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول .
  وعليه : فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي ، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين .
  وإن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض ، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه ، كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب ، يستكشف عنه تبعاته ، من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على تركهما ، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو (1) أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما ، كما هو واضح ، إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الامر بأحدهما بالملاك الاول ، من أن الواجب هو الواحد الجامع بينهما ، ولا أحدهما معينا ، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض [ ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما ، بداهة عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض ، وعدم جواز الايجاب كذلك مع عدم إمكانه ] (2) فتدبر .
  بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الاقل والاكثر ، أولا ؟

(1) فإنه وإن كان مما يصح أن يتعلق به بعض الصفات الحقيقية ذات الاضافة كالعلم ، فضلا عن الصفات الاعتبارية المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما ، مما كان من خارج المحمول الذي ليس بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه ، إلا أنه لا يكاد يصح البعث حقيقة إليه ، والتحريك نحوه ، كما لا يكاد يتحقق الداعي لارادته ، والعزم عليه ، ما لم يكن مائلا إلى إرادة الجامع ، والتحرك نحوه ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).
(2) أثبتناها من ( ب ).

كفاية الأصول ـ 142 ـ
  ربما يقال ، بأنه محال ، فإن الاقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة ، ولو كان في ضمن الاكثر ، لحصول الغرض به ، وكان الزائد عليه من أجزاء الاكثر زائدا على الواجب ، لكنه ليس كذلك ، فإنه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الاكثر ، هو الاكثر لا الاقل الذي في ضمنه ، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله ، وإن كان الاقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا ، فلا محيص عن التخيير بينهما ، إذ تخصيص الاقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص ، فإن الاكثر بحده يكون مثله على الفرض ، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد ، لا على القصير في ضمنه ، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه ؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان .
  إن قلت : هبه في مثل ما إذا كان للاكثر وجود واحد ، لم يكن للاقل في ضمنه وجود على حدة ، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين ، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود ، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث ، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه ، فإن الاقل قد وجد بحده ، وبه يحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة يكون الزائة عليه مما لا دخل له في حصوله ، فيكون زائدا على الواجب ، لا من أجزائه.
  قلت : لا يكاد يختلف الحال بذاك ، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الاقل في ضمن الاكثر ، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ، ومعه كان مترتبا على الاكثر بالتمام .
  وبالجملة إذا كان كل واحد من الاقل والاكثر بحده مما يترتب عليه الغرض ، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد ، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان ، على ما عرفت .

كفاية الأصول ـ 143 ـ
  نعم لو كان الغرض مترتبا على الاقل ، من دون دخل للزائد ، لما كان الاكثر مثل الاقل وعدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره ، مستحبا كان أو غيره ، حسب اختلاف الموارد ، فتدبر جيدا .
  فصل في الوجوب (1) الكفائي :
  والتحقيق أنه سنخ من الوجوب ، وله تعلق بكل واحد ، بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا ، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم ، وذلك لانه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد ، حصل بفعل واحد ، صادر عن الكل أو البعض .
  كما أن الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة ، واستحقاقهم للمثوبة ، وسقوط الغرض بفعل الكل ، كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد .
  فصل لا يخفى أنه وإن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب ، إلا أنه تارة مما له دخل فيه شرعا فيكون موقتا ، وأخرى لا دخل له فيه أصلا فهو غير موقت ، والموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيق ، وإما أن يكون أوسع منه فموسع .
  ولا يذهب عليك أن الموسع كلي ، كما كان له أفراد دفعية ، كان له أفراد تدريجية ، يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقليا .
  ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا ، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها ، كما لا يخفى .

(1) في ( ب ) : في الوجوب الواجب الكفائي.

كفاية الأصول ـ 144 ـ
  ووقوع الموسع فضلا عن إمكانه ، مما لا ريب فيه ، ولا شبهة تعتريه ، ولا اعتناء ببعض التسويلات كما يظهر من المطولات .
  ثم إنه لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج الوقت ، بعد فوته في الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الامر به .
  نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل ، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله .
  وبالجملة : التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب ، بحيث كان أصل الفعل ، ولو في خارج الوقت مطلوبا في الجملة ، وإن لم يكن بتمام المطلوب ، إلا أنه لابد في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت ، فتدبر جيدا .
  فصل الامر بالامر بشيء ، أمر به لو كان الغرض حصوله ، ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلا تبليغ (1) أمره به ، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالامر أو النهي ، وأما لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشيء ، من دون تعلق غرضه به ، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا ، بل بعد تعلق أمره به ، فلا يكون أمرا بذاك الشيء ، كما لا يخفى .
  وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الامر بالامر ، على كونه أمرا به ، ولا بد في الدلالة

(1) في ( ب ) : بتبليغ .

كفاية الأصول ـ 145 ـ
  عليه من قرينة عليه.
  فصل إذا ورد أمر بشيء بعد الامر به قبل امتثاله ، فهل يوجب تكرار ذاك الشيء ، أو تأكيد الامر الاول ، والبعث الحاصل به ؟ قضية إطلاق المادة هو التأكيد ، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين ، من دون أن يجيء تقييد لها في البين ، ولو كان بمثل ( مرة اخرى ) كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الاخر ، كما لا يخفى ، والمنساق من إطلاق الهيئة ، وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده ، إلا أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها ، فيما كانت مسبوقة بمثلها ، ولم يذكر هناك سبب ، أو ذكر سبب واحد .

كفاية الأصول ـ 147 ـ
المقصد الثاني
النواهي

كفاية الأصول ـ 149 ـ
  فصل الظاهر أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب ، مثل الامر بمادته وصيغته ، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود ، وفي الآخر العدم ، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا ، نعم يختص النهي بخلاف ، وهو : إن متعلق الطلب فيه ، هل هو الكف ، أو مجرد الترك وأن لا يفعل ؟ والظاهر هو الثاني .
  وتوهم أن الترك ومجرد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار ، فلا يصح أن يتعلق به البعث والطلب ، فاسد ، فإن الترك أيضا يكون مقدورا ، وإلا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالارادة والاختيار ، وكون العدم الازلي لا بالاختيار ، لا يوجب أن يكون بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلا للتكليف .
  ثم إنه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار ، كما لا دلالة لصيغة الامر وإن كان قضيتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة متعلقهما ، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلق بها الامر مرة والنهي أخرى ، ضرورة أن وجودها يكون بوجود فرد واحد ، وعدمها لا يكاد يكون إلا بعدم الجميع ، كما لا يخفى .
  ومن ذلك يظهر أن الدوام والاستمرار ، إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال ، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة ، إلا بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية .

كفاية الأصول ـ 150 ـ
  وبالجملة قضية النهي ، ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له ، كانت مقيدة أو مطلقة ، وقضية تركها عقلا ، إنما هو ترك جميع أفرادها .
  ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف ، أو عدم إرادته ، بل لابد في تعيين ذلك من دلالة ، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات ، فتدبر جيدا .
  فصل اختلفوا في جواز اجتماع الامر والنهي في واحد ، وامتناعه ، على أقوال : (1) ثالثها (2) : جوازه عقلا وامتناعه عرفا ، وقبل الخوض في المقصود يقدم أمور :
  الاول : المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ، ومندرجا تحت عنوانين ، بأحدهما كان موردا للامر ، وبالآخر للنهي ، وإن كان كليا مقولا على كثيرين ، كالصلاة في المغصوب ، وإنما ذكر لاخراج ما إذا تعدد متعلق الامر والنهي ولم يجتمعا وجودا ، ولو جمعهما واحد مفهوما ، كالسجود لله تعالى ، والسجود للصنم مثلا ، لا لاخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة والسكون الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية .
  الثاني : الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة (3) ، هو أن الجهة المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل ، هي أن تعدد الوجه والعنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق الامر والنهي ، بحيث يرتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد ، أو لا يوجبه ، بل يكون حاله حاله ، فالنزاع في سراية كل

(1) راجع مطارح الانظار / 129 ، في اجتماع الامر والنهي .
(2) مجمع الفائدة والبرهان للاردبيلي 2 : 110.
(3) في ( ب ) العبادات.