وضوح بطلان تعدد الوضع ، حسب وقوعه محكوما عليه أو به ، كما لا يخفى .
ومن مطاوي ما ذكرنا ـ ها هنا وفي المقدمات ـ ظهر حال سائر الاقوال ، وما ذكر لها من الاستدلال ، ولا يسع المجال لتفصيلها ، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات .
بقي أمور :
الاول : إن مفهوم المشتق ـ على ما حققه المحقق الشريف (1) في بعض حواشيه (2) ـ : بسيط منتزع عن الذات ـ باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به ـ غير مركب. وقد أفاد في وجه ذلك : أن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا ، وإلا لكان العرض العام داخلا في الفصل ، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء ، انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة ، فإن الشيء الذي له الضحك هو الانسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري. هذا ملخص ما أفاده الشريف ، على ما لخصه بعض الاعاظم (3) .
وقد أورد عليه في الفصول (4) ، بأنه يمكن أن يختار الشق الاول ، ويدفع الاشكال بأن كون الناطق ـ مثلا ـ فصلا ، مبني على عرف المنطقيين ،
(1) المير سيد علي بن محمد بن علي الحسيني الاسترابادي ، ولد المحقق الشريف سنة 740 ه بجرجان وكان متكلما بارعا ، باهرا في الحكمة والعربية ، روى عن جماعة منهم العلامة قطب الدين الرازي ، واخذ منه العلامة المذكور ، له شرح المطالع وشرح على مواقف القاضي عضد الايجي في علم أصول الكلام ، عده القاضي نور الله من حكماء الشيعة وعلمائها. وتوفي في شيراز سنة 816 ه. ( الكنى والالقاب 2 / 358 ).
(2) في حاشيته على شرح المطالع عند قول الشارح : الا أن معناه شيء له المشتق منه ... الخ ، شرح المطالع / 11.
(3) الفصول / 61 ، التنبيهات.
(4) الفصول / 61 ، التنبيهات.
كفاية الأصول ـ 52 ـ
حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات ، وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك.
وفيه : إنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا ، بل بماله من المعنى ، كما لا يخفى .
والتحقيق أن يقال إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه ، وإنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه ، بل لا يكاد يعلم ، كما حقق في محله ، ولذا ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا متساوي النسبة إليه ، كالحساس والمتحرك بالارادة في الحيوان ، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق ، فإنه وإن كان عرضا عام ، لا فصلا مقوما للانسان ، إلا أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به كان من أظهر خواصه .
وبالجملة لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق ، إلا دخول العرض في الخاصة التي هي من العرضي ، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي ، فتدبر جيدا .
ثم قال : إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا ، ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا ، بل مقيدا بالوصف ، وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة ، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا ، انتهى.
ويمكن أن يقال : إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب ، فإن المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد خارجا ، وإن كان التقييد داخلا بما هو معنى حرفي ، فالقضية لا محالة تكون ضرورية ، ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان وان كان المقيد به بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا ، فقضية ( الانسان ناطق ) تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية ( الانسان إنسان ) وهي
كفاية الأصول ـ 53 ـ
ضرورية ، والاخرى قضية ( الانسان له النطق ) وهي ممكنة ، وذلك لان الاوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم تكون أوصافا ، فعقد الحمل ينحل إلى القضية ، كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ ، وقضية ممكنة عند الفارابي (1) ، فتأمل .
لكنه ( قدس سره ) تنظر فيما أفاده بقوله : وفيه نظر لان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ، إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة وإلا صدق السلب بالضرورة ، مثلا : لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد [ الكاتب ] (2) بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة ، انتهى.
ولا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة ، بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية ، ضرورة صدق الايجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة ، كما لا يكاد يضر بها صدق السلب كذلك ، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا ، لضرورة السلب بهذا الشرط ، وذلك لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا ، إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة بأي جهة منها ، ومع أية منها في نفسها صادقة ، لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك ، وإلا كانت الجهة منحصرة بالضرورة ، ضرورة صيرورة الايجاب أو السلب ـ بلحاظ الثبوت وعدمه ـ واقعا ضروريا ، ويكون من باب الضرورة
(1) أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الحكيم المشهور ، صاحب التصانيف في الفلسفة والمنطق والموسيقى وغيرها من العلوم ، أقام ببغداد برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران ثم رجع إلى بغداد ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان ، ويحكى أن الآلة المسماة ( القانون ) من وضعه ، وكان منفردا بنفسه لا يجالس الناس ، أكثر تصانيفه فصول وتعاليق ، توفي عام 339 بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة وصلى عليه سيف الدولة ودفن بظاهر دمشق ، ( وفيات الاعيان 5 / 153 رقم 701 ).
(2) أثبتناها من ( ب )
كفاية الأصول ـ 54 ـ
بشرط المحمول.
وبالجملة : الدعوى هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة ، فيما ليست مادته واقعا في نفسه وبلا شرط غير الامكان .
وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده ( رحمه الله ) بإبطال الوجه الاول ، كما زعمه ( قدس سره ) ، فإن لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما ، إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما ، لا مطلقا ، ولو مع التقيد إلا بشرط تقيد المصاديق به أيضا ، وقد عرفت حال الشرط ، فافهم .
ثم إنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل ، ضرورة أن مصداق الشيء الذي له النطق هو الانسان ، كان أليق بالشرطية الاولى ، بل كان أولى (1) لفساده مطلقا ، ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي ، ضرورة بطلان أخذ الشيء في لازمه وخاصته ، فتأمل جيدا .
ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة ، بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل زيد الكاتب ، ولزومه من التركب ، وأخذ الشيء مصداقا أو مفهوما في مفهومه .
إرشاد :
لا يخفى أن معنى البساطة ـ بحسب المفهوم ـ وحدته إدراكا وتصورا ، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شيء واحد لا شيئان ، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين ، كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية ، مع وضوح بساطة مفهومهما .
وبالجملة : لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية ـ بالتعمل العقلي ـ وحدة المعنى
(1) في ( ب ) : الاولى.
كفاية الأصول ـ 55 ـ
وبساطة المفهوم كما لا يخفى ، وإلى ذلك يرجع الاجمال والتفصيل الفارقان (1) بين المحدود والحد ، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا ، فالعقل بالتعمل يحلل النوع ، ويفصله إلى جنس وفصل ، بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا ، وشيئا فاردا تصورا ، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق .
الثاني : الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما ، أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ، ولا يعصي عن الجري عليه ، لما هما عليه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك ، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره ، لا هو هو ، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية ، وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما ، من أن المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط لا ، أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل ، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه ، وصاحب الفصول (2) ( رحمه الله ) ـ حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين ، بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد ـ أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك ، لاجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات ، وإن اعتبرا لا بشرط ، وغفل عن أن المراد ما ذكرنا ، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل ، وبين المادة والصورة ، فراجع.
الثالث : ملاك الحمل ـ كما أشرنا إليه ـ هو الهوهوية والاتحاد من وجه ،
(1) في ( أ و ب ) : الفارقين.
(2) الفصول / 62 ، التنبيه الثاني من تنبيهات المشتق، هو الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم الطهراني الحائري ، ولد في ( إيوان كيف ) ، أخذ مقدمات العلوم في طهران ، ثم اكتسب من شقيقه الحجة الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب ( هداية المسترشدين ) في اصفهان ، ثم هاجر إلى العراق فسكن كربلاء ، كان مرجعا عاما في التدريس والتقليد ، وقد تخرج من معهده جمع من كبار العلماء ، أجاب داعي ربه سنة 1254 ه وله آثار أشهرها ( الفصول الغروية ) في الاصول ( طبقات اعلام الشيعة الكرام البررة 1 / 390 رقم 795 ).
كفاية الأصول ـ 56 ـ
والمغايرة من وجه آخر ، كما يكون بين المشتقات والذوات ، ولا يعتبر معه (1) ملاحظة التركيب بين المتغايرين ، واعتبار كون مجموعهما ـ بما هو كذلك ـ واحدا ، بل يكون لحاظ ذلك مخلا ، لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية.
ومن الواضح أن ملاك الحمل لحاظ نحو اتحاد بين الموضوع والمحمول ، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات ، بل لا يلحظ في طرفها إلا نفس معانيها ، كما هو الحال في طرف المحمولات ، ولا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد ، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار.
فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام. وفي كلامه موارد للنظر ، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.
الرابع : لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما ، وإن اتحدا عينا وخارجا ، فصدق الصفات ـ مثل : العالم ، والقادر ، والرحيم ، والكريم ، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال ـ عليه تعالى ، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته ، يكون على الحقيقة ، فإن المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا ، إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما .
ومنه قد انقدح ما في الفصول ، من الالتزام بالنقل (2) أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى ، بناء على الحق من العينية ، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق ، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما ، ولا اتفاق على اعتبار غيرها ، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره ، كمالا يخفى ، وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات.
(1) اشارة إلى ما افاده صاحب الفصول ، الفصول ، 62 التنبيه الثاني.
(2) الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.
كفاية الأصول ـ 57 ـ
الخامس : إنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة ـ كما عرفت ـ بين المبدأ وما يجري عليه المشتق ، في اعتبار قيام المبدأ به ، في صدقه على نحو الحقيقة.
وقد استدل من قال (1) بعدم الاعتبار ، بصدق الضارب والمؤلم ، مع قيام الضرب والالم بالمضروب والمؤلم ـ بالفتح ـ .
والتحقيق : إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الالباب ، في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها ، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص ، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة ، واختلاف الهيئات أخرى ، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه ، أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا ، كما في صفاته تعالى ، على ما أشرنا إليه آنفا ، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه ، كما في الاضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها ، ولا يكون بحذائها في الخارج شيء ، وتكون من الخارج المحمول ، لا المحمول بالضميمة ، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما ، وقائما به عينا ، لكنه بنحو من القيام ، لا بأن يكون هناك اثنينية ، وكان ما بحذائه غير الذات ، بل بنحو الاتحاد والعينية ، وكان ما بحذائه عين الذات ، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الامور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة ، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ، ولو بتأمل وتعمل من العقل ، والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم ، لا في تطبيقها على مصاديقها .
وبالجملة : يكون مثل العالم ، والعادل ، وغيرهما ـ من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره ـ جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد ، وكيفية التلبس بالمبدأ ، حيث أنه بنحو العينية فيه تعالى ، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره ، فلا وجه لما التزم به في
(1) الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.
كفاية الأصول ـ 58 ـ
الفصول (1) ، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى ، كما لا يخفى ، كيف ؟ ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها ، ففي مثل ما إذا قلنا : إنه تعالى عالم ، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام ، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى ، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإما أن لا نعني شيئا ، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة ، وكونها بلا معنى ، كما لا يخفى .
والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره ، وهو كما ترى ، وبالتأمل فيما ذكرنا ، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة بين الطرفين ، فتأمل.
السادس : الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة ، التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض ، كما في الماء الجاري ، بل يكفي التلبس به ولو مجازا ، ومع هذه الواسطة ، كما في الميزاب الجاري ، فاسناد الجريان إلى الميزاب ، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز ، إلا أنه في الاسناد ، لا في الكلمة ، فالمشتق في مثل المثال ، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي ، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي ، ولا منافاة بينهما أصلا ، كما لا يخفى .
ولكن ظاهر الفصول (2) بل صريحه ، اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة ، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة ، وهذا ـ هاهنا ـ محل الكلام بين الاعلام ، والحمد لله ، وهو خير ختام .
(1) الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.
(2) الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.
وفيه فصول :
الاول : فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات ، وهي عديدة :
الاولى : إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة ، منها الطلب ، كما يقال ، أمره بكذا .
ومنها الشأن ، كما يقال : شغله أمر كذا .
ومنها الفعل ، كما في قوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) (1).
ومنها الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ) (2).
ومنها الشيء ، كما تقول : رأيت اليوم أمرا عجيبا.
ومنها الحادثة
ومنها الغرض ، كما تقول : جاء زيد لامر كذا .
ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ، ضرورة أن الامر في ( جاء زيد لامر ) ما إستعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دل على الغرض ، نعم يكون مدخوله مصداقه ، فافهم ، وهكذا الحال في قوله
(1) هود : 97.
(2) هود : 66 ، 82.
كفاية الأصول ـ 62 ـ
تعالى ( فلما جاء أمرنا ) (1) يكون مصداقا للتعجب ، لا مستعملا في مفهومه ، وكذا في الحادثة والشأن.
وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول (2) ، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاولين.
ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، هذا بحسب العرف واللغة.
وأما بحسب الاصطلاح ، فقد نقل (3) الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص ، ومجاز في غيره ، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق ، فإن معناه ـ حينئذ ـ لا يكون معنى حدثيا ، مع أن الاشتقاقات منه ـ ظاهرا ـ تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم ، لا بالمعنى الاخر ، فتدبر .
ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه ، نعم القول المخصوص ـ أي صيغة الامر ـ إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الامر ، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص .
وكيف كان ، فالامر سهل لو ثبت النقل ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة ، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة ، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز .
وما ذكر في الترجيح ، عند تعارض هذه الاحوال ، لو سلم ، ولم يعارض بمثله ، فلا دليل على الترجيح به ، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الاصل في مقام العمل ، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه ، ولو إحتمل أنه كان للانسباق من الاطلاق ، فليحمل عليه ، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه
(1) هود : 66 ، 82.
(2) الفصول / 62 ، القول في الامر.
(3) الفصول / 62 ـ 63 ، القول في الامر.
كفاية الأصول ـ 63 ـ
بالخصوص ، أو فيما يعمه ، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الاول.
الجهة الثانية : الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر ، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا ، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية ، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه.
وأما إحتمال اعتبار أحدهما فضعيف ، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه بمثل : إنك لم تأمره ، إنما هو على استعلائه ، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه ، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه ، وكيف كان ، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل ، ولو كان مستعليا كفاية.
الجهة الثالثة : لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب ، لانسباقه عنه عند إطلاقه ، ويؤيد قوله تعال ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) (1) وقوله صلى الله عليه وآله (2) : ( لو لا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) : ـ لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله ؟ ـ : ( لا ، بل إنما أنا شافع ) إلى غير ذلك ، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبيخه على مجرد مخالفته ، كما في قوله تعالى ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) (4).
وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب ، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه ، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو
كفاية الأصول ـ 64 ـ
الحقيقة ، كما لا يخفى ، وأما ما أفيد (1) من أن الاستعمال فيهما ثابت ، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز ، فهو غير مفيد ، لما مرت الاشارة إليه في الجهة الاولى ، وفي تعارض الاحوال (2) ، فراجع.
والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فهو فعل المأمور به ، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى ، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي ، وإلا لا يفيد المدعى .
الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر ، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيا ، سواء أنشئ بصيغة إفعل ، أو بمادة الطلب ، أو بمادة الامر ، أو بغيرها.
ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الانشائي ، كما أن الامر في لفظ الارادة على عكس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الارادة الحقيقية (3) واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة ، من المغايرة بين الطلب والارادة ، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة ، من اتحادهما.
فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام ، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما تكن عن المحذور خالية ، والاعادة بلا فائدة ولا إفادة ، كان المناسب هو التعرض ها هنا أيضا.
فاعلم ، أن الحق كما عليه أهله ـ وفاقا للمعتزلة وخلافا للاشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والارادة ، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء
(1) أفاده العلامة ( ره ) نهاية الاصول / 64 مخطوطة .
(2) في الامر الثامن من المقدمة ص 20.
(3) في ( ب ) : الحقيقة.
كفاية الأصول ـ 65 ـ
حدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائية ، وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا أن الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متحد مع الارادة الحقيقية (1) التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الامسـ ، فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والامر به حقيقة كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فإن الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها ، يكون هو الطلب غيرها ، سوى ما هو مقدمة تحققها ، عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لاجلها .
وبالجملة : لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والارادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب ، فلا محيص (2) عن إتحاد الارادة والطلب ، وأن يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك ، مسمى بالطلب والارادة كما يعب به تارة وبها أخرى ، كما لا يخفى. وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية ، والجمل الخبرية ، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس ، من الترجي والتمني والعلم إلى غيرذلك ، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس ، وقد دل اللفظ عليها ، كما قيل : إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقد انقدح بما حققناه ، ما في استدلال الاشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم الارادة ، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل ، فإنه كما لا إرادة
(1) في ( ب ) : الحقيقة.
(2) في النسختين فلا محيص إلا ، والظاهر ( إلا ) هنا مقحمة في السياق.
كفاية الأصول ـ 66 ـ
حقيقة في الصورتين ، لا طلب كذلك فيهما ، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الانشائي الايقاعي ، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة ، ولم يكن بينا ولا مبينا في الاستدلال مغايرته مع الارادة الانشائية.
وبالجملة : الذي يتكفله الدليل ، ليس إلا الانفكاك بين الارادة الحقيقية ، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما ، وهو مما لا محيص عن الالتزام به ، كما عرفت ، ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا ، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والانشائي ، كما لا يخفي.
ثم إنه يمكن ـ مما حققناه ـ أن يقع الصلح بين الطرفين ، ولم يكن نزاع في البين ، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا ، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الانشائي من الطلب ، كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه ، وا لحقيقي من الارادة ، كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها ، فيرجع النزاع لفظيا ، فافهم.
دفع ووهم (1) : لا يخفى أنه ليس غرض الاصحاب والمعتزلة ، من نفي غير الصفات المشهورة ، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي ، كما يقول به الاشاعرة ، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام.
إن قلت : فماذا يكون مدلولا عليه عند الاصحاب والمعتزلة ؟
قلت : أما الجمل الخبرية ، فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها ، أو نفيها في نفس الامر من ذهن أو خارج ، كالانسان نوع أو كاتب .
وأما الصيغ الانشائية ، فهي ـ على ما حققناه في بعض فوائدنا (2) ـ موجدة
(1) المتوهم هو القوشجي ، راجع شرح تجريد العقائد للقوشجي / 246 ، عند البحث عن المسموعات.
(2) تعليقة المصنف على الفرائد ، كتاب الفرائد / 285.
كفاية الأصول ـ 67 ـ
لمعانيها في نفس الامر ، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود ، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار ، كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات .
نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني ـ بالدلالة الالتزامية ـ على ثبوت هذه الصفات حقيقة ، إما لاجل وضعها لايقاعها ، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تكن هناك قرينة ، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها ، لاجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس ، وضعا أو إطلاقا .
إشكال ودفع : أما الاشكال ، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والارادة ، في تكليف الكفار بالايمان ، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالاركان ، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي ، إن لم يكن هناك إرادة ، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي ، وإعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي ، وإن كان هناك إرادة ، فكيف تتخلف عن المراد ؟ ولا تكاد تتخلف ، إذا أراد الله شيئا يقول له : كن فيكون .
وأما الدفع ، فهو إن إستحاله التخلف إنما تكون في الارادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الارادة التشريعية ، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف ، وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الارادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا فلابد من الاطاعة والايمان ، وإذا تخالفتا ، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان .
إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان ، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا .
كفاية الأصول ـ 68 ـ
قلت : إنما يخرج بذلك عن الاختيار ، لو لم يكن تعلق الارادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار ، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
إن قلت : إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار ، كيف ؟ وقد سبقهما الارادة الازلية والمشية الالهية ، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار ؟
قلت : العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن ( السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه ) (1) و ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) (2) ، كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع سؤال : إنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا ؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنما أوجدهما الله تعالى ( قلم اينجا رسيد سر بشكست ) (3) ، قد إنتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام ، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام.
وهم ودفع : لعلك تقول : إذا كانت الارادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل ، لزم ـ بناء على أن تكون عين الطلب ـ كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الالهية هو العلم ، وهو بمكان من البطلان.
(1) ورد بهذا المضمون في توحيد الصدوق / 356 الباب 58 الحديث 3.
(2) الروضة من الكافي 8 / 177 ، الحديث 197 ، مسند أحمد بن حنبل 2 / 539 وفيه تقديم الفضة على الذهب ، وقريب منه في هذا المصدر صفحة 257 ، 260 ، 391 ، 438 ، 485 ، 498 ، 525 والبخاري 4 / 216.
(3) يريد المؤلف ( ره ) : وهنا يقف القلم ، لان الكلام انتهى إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام ، وما بين القوسين ، تعبير فارسي ترجمته : لما وصل القلم إلى هنا انكسر رأسه.
كفاية الأصول ـ 69 ـ
لكنك غفلت عن أن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح ، إنما يكون خارجا لا مفهوما ، وقد عرفت (1) أن المنشأ ليس إلا المفهوم ، لا الطلب الخارجي ، ولا غرو أصلا في اتحاد الارادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : ( وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ) (2) .
فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث :
الاول : إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها ، وقد عد منها : الترجي ، والتمني ، والتهديد ، والانذار ، والاهانة ، والاحتقار ، والتعجيز ، والتسخير ، إلى غير ذلك ، وهذا كما ترى ، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم يستعمل إلا في إنشاء الطلب ، إلا أن الداعي إلى ذلك ، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، يكون أخرى أحد هذه الامور ، كما لا يخفى .
قصارى ما يمكن أن يدعى ، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب ، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداع آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة ، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا ، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره ، فلا تغفل .
إيقاظ : لا يخفى أن ما ذكروه في صيغة الامر ، جار في سائر الصيغ الانشائية ، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام
(1) مر في صفحة 66 من هذا الكتاب عند قوله : وأما الصيغ الانشائية ... الخ.
(2) نهج البلاغة / 39 الخطبة الاولى.
كفاية الأصول ـ 70 ـ
بصيغها ، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة ، يكون الداعي غيرها أخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها ، واستعمالها في غيرها ، إذا وقعت في كلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى ، مما لازمه العجز أو الجهل ، وأنه لا وجه له ، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي ، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة ، كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا ، لا لاظهار ثبوتها حقيقة ، بل لامر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك ، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا.
المبحث الثاني : في أن الصيغة حقيقة في الوجوب ، أو في الندب ، أو فيهما ، أو في المشترك بينهما ، وجوه بل أقوال.
لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة ، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال ، وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه (1) ، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه ، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهورا فيه ، ليرجح أو يتوقف ، على الخلاف في المجاز المشهور ، كيف ؟ وقد كثر إستعمال العام في الخاص ، حتى قيل : ( ما من عام إلا وقد خص ) ولم ينثلم به ظهوره في العموم ، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.
المبحث الثالث : هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث ـ مثل : يغتسل ، ويتوضأ ، ويعيد ـ ظاهرة في الوجوب أو لا ؟ لتعدد
(1) هذا تعريض بصاحب المعالم ( قدس سره ) ، معالم الدين / 48 ، فصل في الاوامر : فائدة .
كفاية الأصول ـ 71 ـ
المجازات فيها ، وليس الوجوب بأقواها ، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار ، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها .
الظاهر الاول ، بل تكون أظهر من الصيغة ، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه ، إلا أنه ليس بداعي الاعلام ، بل بداعي البعث بنحو آكد ، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه ، إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة ، كما هو الحال في الصيغ الانشائية ، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواعي أخر ، كما مر (1).
لا يقال : كيف ؟ ويلزم الكذب كثيرا ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.
فإنه يقال : إنما يلزم الكذب ، إذا أتي بها بداعي الاخبار والاعلام ، لا لداعي البعث ، كيف ؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل ( زيد كثير الرماد ) أو ( مهزول الفصيل ) لا يكون كذبا ، إذا قيل كناية عن جوده ، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا ، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد ، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ ، فإنه مقال بمقتضى الحال ، هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان ، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه ، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان ، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره ، فافهم .
(1) في المبحث الاول من هذا الفصل ، عند قوله ( قدس سره ) : إيقاظ / 69.
كفاية الأصول ـ 72 ـ
المبحث الرابع : إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ، هذ لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون ؟ قيل بظهورها فيه ، إما لغبة الاستعمال فيه ، أو لغلبة وجوده أو أكمليته .
والكل كما ترى ، ضرورة أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده ، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر ، وأما الاكملية فغير موجبة للظهور ، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة أنس اللفظ بالمعنى ، بحيث يصير وجها له ، ومجرد الاكملية لا يوجبه ، كما لا يخفى ، نعم فيما كان الامر بصدد البيان ، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب ، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان ، كاف في بيانه ، فافهم .
المبحث الخامس : إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا ، فيجزي إتيانه مطلقا ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا ؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الاصل .
لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات :
إحداها : الوجوب التوصلي ، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ، ويسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي ، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لابد ـ في سقوطه وحصول غرضه ـ من الاتيان به متقربا به منه تعالى .
ثانيها : إن التقرب المعتبر في التعبدي ، إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره ، كان مما يعتبر في الطاعة عقلا ، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا ، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشيء في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا ، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للامر ، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها .
كفاية الأصول ـ 73 ـ
وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر ، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي ، ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة ، والتمكن من إتيانها كذلك ، بعد تعلق الامر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر ، واضح الفساد ، ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ، إلا أنه لا سكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها ، لعدم الامر بها ، فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الامر ، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به ، لا إلى غيره .
إن قلت : نعم ، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالامر بها مقيدة .
قلت : كلا ، لان ذات المقيد لا يكون مأمورا بها ، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا ، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي ، كما ربما يأتي في باب المقدمة .
إن قلت : نعم ، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا ، وأما إذا أخذ شطرا ، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد ، يكون متعلقا للوجوب ، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالاسر ، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل ، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب ، ضرورة صحة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه .
قلت : مع امتناع اعتباره كذلك ، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري ، فإن الفعل وإن كان بالارادة اختياريا ، إلا أن إرادته ـ حيث لا تكون بإرادة أخرى ، وإلا لتسلسلت ـ ليست باختيارية ، كما لا يخفى ، إنما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب عن قصد الامتثال ، بداعي امتثال أمره .
كفاية الأصول ـ 74 ـ
إن قلت : نعم (1) ، لكن هذا كله إذا كان إعتباره في المأمور به بأمر واحد ، وأما إذا كان بأمرين : تعلق أحدهما بذات الفعل ، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره ، فلا محذور أصلا ، كما لا يخفى ، فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده ، بلا منعة .
قلت : ـ مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد ، كغيرها من الواجبات والمستحبات ، غاية الامر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات والعقوبات ، بخلاف ما عداها ، فيدور فيه خصوص المثوبات ، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة ـ أن الامر الاول إن كان يسقط بمجرد موافقته ، ولو لم يقصد به الامتثال ، كما هو قضية الامر الثاني ، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الاول بدون قصد امتثاله ، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة ، وإن لم يكد يسقط بذلك ، فلا يكاد يكون له وجه ، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره ، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلا لما كان موجبا لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الامر ، لاستقلال العقل ، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه ، فيسقط أمره.
هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.
وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه ، أو كونه ذا مصلحة [ أو له تعالى ] (2) ، فاعتباره في متعلق الامر وإن كان بمكان من الامكان ، إلا أنه غير معتبر فيه قطعا ، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال ، الذي عرفت
(1) إشارة إلى ما أفاده صاحب التقريرات في مطارح الانظار / 60 ، السطر الاخير ، في التعبدي والتوصلي .
(2) سقطت من ( أ ).
كفاية الأصول ـ 75 ـ
عدم إمكان أخذه فيه بديهة ، تأمل فيما ذكرناه في المقام ، تعرف حقيقة المرام ، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الاعلام.
ثالثتها : إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه ، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ـ ولو كان مسوقا في مقام البيان ـ على عدم اعتباره ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا يكاد يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه .
فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الآمر ، من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها ، نعم إذا كان الامر في مقام بصددبيان تمام ماله دخل في حصول غرضه ، وإن لم يكن له دخل في متعلق أمره ، ومعه سكت في المقام ، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله ، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه ، وإلا لكان سكوته نقصا له وخلاف الحكمة ، فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام ، من الرجوع إلى ما يقتضيه الاصل ويستقل به العقل.
فاعلم : أنه لا مجال ـ ها هنا ـ إلا لاصالة الاشتغال ، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، وذلك لان الشك ها هنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب ـ مع الشك وعدم إحراز الخروج ـ عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان ، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة ، وهكذا الحال في كل ما شك دخله في الطاعة ، والخروج به عن العهدة ، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز.
نعم : يمكن أن يقال : إن كل ما ربما يحتمل بدوا دخله في الامتثال ،