محال منه عقلا ، في قبال دعوى استحالته للزومه ، وليس (1) الامكان بهذا المعنى ، بل مطلقا أصلا متبعا (2) عند العقلاء ، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع ، لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه ، ومنع حجيتها ـ لو سلم ثبوتها ـ لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها ، والظن به لو كان فالكلام الآن في إمكان التعبد بها وامتناعه ، فما ظنك به ؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه ، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا ، أو على الحكيم تعالى ، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الامكان ، وبدونه لا فائدة في إثباته ، كما هو واضح .
  وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ من كون الامكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا ، والامكان في كلام الشيخ الرئيس (4) : ( كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ، ما لم يذدك عنه واضح البرهان ) ، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والايقان ، ومن الواضح أن لا موطن له إلا الوجدان ، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان .
  وكيف كان ، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال ، أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور :
  أحدها : إجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب ، أو ضدين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ ، أو التصويب وأن لا يكون هناك غير مؤديات الامارات أحكام.

(1) هذا تعريض بالشيخ ( ره ) حيث اعترض على المشهور بما لفظه : ( وفي هذا التقرير نظر ... ) ، فرائد الاصول / 24 ، في إمكان التعبد بالظن .
(2) في ( أ ) : بأصل متبع .
(3) فرائد الاصول / 24 ، في إمكان التعبد بالظن .
(4) راجع الاشارات والتنبيهات : 3 / 418 ، النمط العاشر في أسرار الآيات ، نصيحة .

كفاية الأصول ـ 277 ـ
  ثانيها : طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.
  ثالثها : تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام ، وكونه محكوما بسائر الاحكام.
  والجواب : إن ما ادعي لزومه ، إما غير لازم ، أو غير باطل ، وذلك لان التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحته الاعتذار به إذا أخطأ ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا مع عدم إصابته ، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة ، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين ، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الكراهة والارادة ، كما لا يخفى .
  وأما تفويت مصلحة الواقع ، أو الالقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا ، إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء.
  نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للاحكام التكليفية ، أو بأنه لا معنى لجعلها إلا جعل تلك الاحكام ، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم ، إلا أنهما ليسا بمثلين أو ضدين ، لان احدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لانشائه الموجب للتنجز ، أو لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما ، حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل ، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الاعلى ، إلا أنه إذا أوحى بالحكم الناشئ (1) من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي ، أو ألهم به الولي ، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما (2) ، الارادة أو الكراهة الموجبة للانشاء بعثا أو زجرا ، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، بل إنما كانت في نفس

(1) في ( ب ) : الشاني.
(2) أثبتناها من ( أ ).

كفاية الأصول ـ 278 ـ
  إنشاء الامر به طريقيا. والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، موجبة لارادته أو كراهته ، الموجبة لانشائه بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية ، وإن لم يكن في المبدأ الاعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ كما أشرنا ـ فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة وكراهة ، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا وزجرا ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الانشاءين فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتفقا ، ولا إرادة ولا كراهة أصلا إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي ، فافهم .
  نعم يشكل الامر في بعض الاصول العملية ، كأصالة الاباحة الشرعية ، فإن الاذن في الاقدام والاقتحام ينافي المنع فعلا ، كما فيما صادف الحرام ، وإن كان الاذن فيه لاجل مصلحة فيه ، لا لاجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في المأذون فيه ، فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام بعدم انقداح الارادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا ، كما في المبدأ الاعلى ، لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي ، بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه ، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها ، وكونه فعليا إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية ، فيما إذا لم ينقدح فيها الاذن لاجل مصلحة فيه .
  فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الاصول والامارات فعليا ، كي يشكل تارة بعدم لزوم الاتيان حينئذ بما قامت الامارة على وجوبه ، ضرورة عدم لزوم امتثال الاحكام الانشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر ، ولزوم الاتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان .
  لا يقال : لا مجال لهذا الاشكال ، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الامارة إليها إنشائية ، لانها بذلك تصير فعلية ، تبلغ تلك المرتبة.
  فإنه يقال : لا يكاد يحرز بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبدا ، إلا حكم إنشائي تعبدا ، لا حكم إنشائي أدت إليه الامارة ، أما

كفاية الأصول ـ 279 ـ
  حقيقة فواضح ، وأما تعبدا فلان قصارى ما هو قضية حجية الامارة كون مؤداها (1) هو الواقع تعبدا ، لا الواقع الذي أدت إليه الامارة ، فافهم .
  أللهم إلا أن يقال : إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ الذي صار مؤدى لها ـ هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء ، لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن للاحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلا ، وإلا لم تكن لتلك الدلالة مجال ، كما لا يخفى .
  وأخرى بأنه كيف يكون التوفيق بذلك ؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والاصول العملية المتكلفة لاحكام فعلية ، ضرورة أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين ، كذلك لا يمكن احتماله.
  فلا يصح التوفيق بين الحكمين ، بالتزام كون الحكم الواقعي ـ الذي يكون مورد الطرق ـ إنشائيا غير فعلي ، كما لا يصح بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين ، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين ، وذلك لا يكاد يجدي ، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلا أنه يكون في مرتبته أيضا.
  وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة ، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق ، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.
  ثالثها : إن الاصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبد به واقعا ، عدم حجيته جزما ، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا ، فإنها لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا ، ولا يكاد يكون الاتصاف بها ، إلا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا ، ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته ، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون

(1) في ( أ ) : مؤداه .

كفاية الأصول ـ 280 ـ
  مخالفته تجريا ، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا ، وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه ، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان .
  وأما صحة الالتزام (1) بما أدى إليه من الاحكام ، وصحة نسبته إليه تعالى ، فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلا ـ على تقرير الحكومة في حال الانسداد ـ لا توجب صحتهما ، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به لما كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها ، ومعه لما كان يضر عدم صحتهما أصلا ، كما أشرنا إليه آنفا.
  فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد ، وعدم جواز إسناده (2) إليه تعالى غير مرتبط بالمقام ، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم ، كما أتعب به شيخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ نفسه الزكية ، بما أطنب من النقض والابرام ، فراجعه بما علقناه (4) عليه ، وتأمل.
  وقد انقدح ـ بما ذكرنا ـ أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الاصل ، فتدبر جيدا .
  إذا عرفت ذلك ، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الاصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول .

(1) هذا تعرض بالشيخ ، فرائد الاصول / 30 في المقام الثاني.
(2) في ( ب ) : الاستناد.
(3) راجع فرائد الاصول / 30.
(4) حاشية فرائد الاصول / 44 ، عند قوله : ولا يخفى أن التعبد ... الخ.

كفاية الأصول ـ 281 ـ
  فصل لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة ، لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات ، مع القطع بعدم الردع عنها ، لوضوح عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الافادة لمرامه من كلامه ، كما هو واضح .
  والظاهر (1) أن سيرتهم على اتباعها ، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا ، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا ، ضرورة أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها ، بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف .
  كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه ، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى ، من تكليف يعمه أو يخصه ، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به صحة الشهادة بالاقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه ، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه .
  ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والائمة الطاهرين ، وإن ذهب بعض الاصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب .

(1) إشارة إلى التفصيلين أشار إليهما الشيخ في رسائله ، فرائد الاصول / 44 .

كفاية الأصول ـ 282 ـ
  إما بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما (1) ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة (2) عن الفتوى به .
  أو بدعوى (3) أنه لاجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية ، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الانظار الغير الراسخين العالمين بتأويله ، كيف ؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الاوائل إلا الاوحدي من الافاضل ، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شئ .
  أو بدعوى (4) شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله .
  أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا ، إلا أنه صار منه عرضا ، للعلم الاجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره ، كما هو الظاهر.
  أو بدعوى شمول الاخبار الناهية (5) عن تفسير القرآن بالرأي ، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.
  ولا يخفى أن النزاع يختلف صغرويا وكبرويا بحسب الوجوه ، فبحسب غير الوجه الاخير والثالث يكون صغرويا ، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي ، ويكون

(1) وسائل الشيعة 18 : 29 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 527 ، الكافي 8 : 311 ، الحديث 485 .
(2) هو قتادة بن دعامة بن عزيز أبو الخطاب السدوسي البصري ، مفسر حافط ضرير أكمه ، قال أحمد بن حنبل : قتادة أحفظ أهل البصرة ، كان مع علمه بالحديث رأسا في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب ، وكان يرى القدر وقد يدلس في الحديث ، مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه‍ ، وهو ابن ست وخمسين سنة ، ( تذكرة الحفاظ 1 : 122 الرقم 107 ) .
(3) حكي عن الاخباريين ، راجع فرائد الاصول / 34.
(4) حكاه الشيخ ( قدس سره ) عن السيد الصدر ، فرائد الاصول / 38 ، شرح الوافية.
(5) تفسير العياشي : 1 / 17 ـ 18 ، عيون أخبار الرضا : 1 / 59 ، الباب 11 ، الحديث 4 ، أمالي الصدوق : 155 / الحديث 3 ، التوحيد : 905 ، الحديث 5.

كفاية الأصول ـ 283 ـ
  المنع عن الظاهر ، إما لانه من المتشابه قطعا أو احتمالا ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.
  وكل هذه الدعاوي فاسدة :
  أما الاولى ، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته ، بداهة أن فيه ما لا يختص به ، كما لا يخفى. وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما هو لاجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله ، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه ، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به ، كيف ؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات (1) الارجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته (2).
  وأما الثانية ، فلان احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للاحكام وحجيتها ، كما هو محل الكلام.
  وأما الثالثة ، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه ، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس بمتشابه ومجمل .
  وأما الرابعة ، فلان العلم إجمالا بطروء إرادة خلاف الظاهر ، إنما يوجب الاجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال .
  مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به ، غير بعيدة ، فتأمل جيدا .

(1) مثل رواية الثقلين ، راجع الخصال : 1 / 65 ، الحديث 98 ، معاني الاخبار / 90 ، التهذيب : 1 / 363 ، الحديث 27 من باب صفة الوضوء ، الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1.
(2) في ( ب ) : الآيات.

كفاية الأصول ـ 284 ـ
  وأما الخامسة ، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير ، فإنه كشف القناع ولا قناع للظاهر ، ولو سلم ، فليس من التفسير بالرأي ، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به ، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، لرجحانه بنظره ، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك الاعتبار ، من دون السؤال عن الاوصياء ، وفي بعض الاخبار (1) ( إنما هلك الناس في المتشابه ، لانهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم ) ، هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره ، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها وبين مادل على جواز التمسك بالقرآن ، مثل خبر الثقلين (2) ، وما دل على التمسك به ، والعمل بما فيه (3) ، وعرض الاخبار المتعارضة عليه (4) ، ورد الشروط المخالفة له (5) ، وغير ذلك (6) ، مما لا محيص عن إرادة الارجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه ، ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط ، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ، ليست إلا ظاهرة في معانيها ، ليس فيها ما كان نصا ، كما لا يخفى.
  ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو : إما بإسقاط ، أو

(1) وسائل الشيعة 18 / 148 ، الباب 13 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 62.
(2) الخصال : 1 / 65 الحديث 98 ، ومعاني الاخبار / 90 ، الحديث 1.
(3) نهج البلاغة : باب الخطب ، الخطبة 176 .
(4) الوسائل 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 12 ، 15 ، 29.
(5) الوسائل 12 ، الباب 6 من أبواب الخيار ، الحديث : 1.
(6) التهذيب : 1 / 363 ، الحديث 27 من باب صفة الوضوء. الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث : 1. الوسائل : 1 / 327 الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث :

كفاية الأصول ـ 285 ـ
  تصحيف (1) ، وإن كانت غير بعيدة ، كما يشهد به بعض الاخبار (2) ويساعده الاعتبار ، إلا أنه لا يمنع عن حجية ظواهره ، لعدم العلم بوقوع خلل (3) فيها بذلك أصلا ، ولو سلم ، فلا علم بوقوعه في آيات الاحكام ، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها ، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات ، والعلم الاجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة ، وإلا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم .
  نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به ، لاخل بحجيته ، لعدم انعقاد ظهور له حينئذ ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله .
  ثم إن التحقيق أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل ( يطهرن ) بالتشديد والتخفيف ، يوجب الاخلال بجواز التمسك والاستدلال ، لعدم إحراز ما هو القرآن ، ولم يثبت تواتر القراءات ، ولا جواز الاستدلال بها ، وإن نسب (4) إلى المشهور تواترها ، لكنه مما لا أصل له ، وإنما الثابث جواز القراءة بها ، ولا ملازمة بينهما ، كما لا يخفى .
  ولو فرض جواز الاستدلال بها ، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الاصل في تعارض الامارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى ، بناء على اعتبارها من باب الطريقية ، والتخيير بينها بناء على السببية ، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الامارات ، فلابد من الرجوع حينئذ إلى الاصل أو العموم ، حسب اختلاف المقامات.

(1) في ( ب ) : بتصحيف .
(2) الاتقان : 1 / 101 ، 121 ، مسند أحمد : 1 / 47 ، صحيح مسلم : 4 / 167 .
(3) في ( ب ) : الخلل.
(4) نسبة الشيخ ( قده ) راجع فرائد الاصول / 40 .

كفاية الأصول ـ 286 ـ
  فصل قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام : فإن أحرز بالقطع وأن المفهوم منه جزما ـ بحسب متفاهم أهل العرف ـ هو ذا فلا كلام .
  وإلا فإن كان لاجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الاصل عدمها ، لكن الظاهر أنه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء ، لا أنه يبنى عليه بعد البناء على عدمها ، كما لا يخفى ، فافهم .
  وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو ، وإن لم يكن بخال عن الاشكال ـ بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد ـ إلا أن الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل ، وإن كان لاجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا ، فالاصل يقتضي عدم حجية الظن فيه ، فإنه ظن في أنه ظاهر ، ولا دليل إلا على حجية الظواهر.
  نعم نسب (1) إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الاوضاع ، واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك ، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ، ولو مع المخاصمة واللجاج ، وعن بعض (2) دعوى الاجماع على ذلك .
  وفيه : أن الاتفاق ـ لو سلم اتفاقه ـ فغير مفيد ، مع أن المتيقن منه هو الرجوع إليه مع إجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة .
  والاجماع المحصل غير حاصل ، والمنقول منه غير مقبول ، خصوصا في مثل

(1) نسبه الشيخ ( قده ) راجع فرائد الاصول / 45 ، في القسم الثاني من الظنون المستعملة لتشخيص الاوضاع.
(2) كالسيد المرتضى على ما نسب إليه ، الذريعة 1 / 13.

كفاية الأصول ـ 287 ـ
  المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل ، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها .
  والمتيقن من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق (1) والاطمئنان ، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالاوضاع ، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك ، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال ، بداهة أن همه ضبط موارده ، لا تعيين أن أيا منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازا ، وإلا لوضعوا لذلك علامة ، وليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه ، للانتقاض بالمشترك .
  وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى ، لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالبا ، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه ، وإن كان المعنى معلوما في الجملة لا يوجب اعتبار قوله ، ما دام انفتاح باب العلم بالاحكام ، كما لا يخفى ، ومع الانسداد كان قوله معتبرا إذا أفاد الظن ، من باب حجية مطلق الظن ، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.
  نعم لو كان هناك دليل على اعتباره ، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجبا له على نحو الحكمة لا العلة.
  لا يقال : على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.
  فإنه يقال : مع هذا لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها ، فإنه ربما يوجب القطع بالمعنى ، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى ـ بعد الظفر به وبغيره في اللغة ـ وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز ، كما اتفق كثيرا ، وهو يكفي في الفتوى.

(1) في ( ب ) : موجبا للوثوق .

كفاية الأصول ـ 288 ـ
  فصل الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص ، من جهة أنه من أفراده ، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص ، فلابد في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له ، بعمومها أو إطلاقها.
  وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور :
  الاول : إن وجه اعتبار الاجماع ، هو القطع برأي الامام ( عليه السلام ) ، ومستند القطع به لحاكيه ـ على ما يظهر من كلماتهم ـ هو علمه بدخوله ( عليه السلام ) في المجمعين شخصا ، ولم يعرف عينا ، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه ( عليه السلام ) عقلا من باب اللطف ، أو عادة أو اتفاقا من جهة حدس رأيه ، وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلا ولا عادة ، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الاجماع ، حيث إنهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية ولا الملازمة العادية غالبا وعدم العلم بدخول جنابه ( عليه السلام ) في المجمعين عادة ، يحكون الاجماع كثيرا ، كما أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب ، أنه استند في دعوى الاجماع إلى العلم بدخوله ( عليه السلام ) وممن اعتذر عنه بانقراض عصره ، أنه استند إلى قاعدة اللطف ، هذا مضافا إلى تصريحاتهم بذلك ، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.

كفاية الأصول ـ 289 ـ
  وربما يتفق لبعض الاوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيته ( عليه السلام ) وأخذه الفتوى من جنابه ، وإنما لم ينقل عنه ، بل يحكي الاجماع لبعض دواعي الاخفاء.
  الامر الثاني : إنه لا يخفى اختلاف نقل الاجماع ، فتارة ينقل رأيه ( عليه السلام ) في ضمن نقله حدسا كما هو الغالب ، أو حسا وهو نادر جدا ، وأخرى لا ينقل إلا ما هو السبب عند ناقله ، عقلا أو عادة أو اتفاقا ، واختلاف ألفاظ النقل أيضا صراحة وظهورا وإجمالا في ذلك ، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب.
  الامر الثالث : إنه لا إشكال في حجية الاجماع المنقول بأدلة حجية الخبر ، إذا كان نقله متضمنا لنقل السبب والمسبب عن حس ، لو لم نقل بأن نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدا ، وكذا إذا لم يكن متضمنا له ، بل كان ممحضا لنقل السبب عن حس ، إلا أنه كان سببا بنظر المنقول إليه أيضا عقلا أو عادة أو اتفاقا ، فيعامل حينئذ مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره.
  وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس ، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه دون المنقول إليه ففيه إشكال ، أظهره عدم نهوض تلك الادلة على حجيته ، إذ المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك ، كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك (1) ، على تقدير دلالتهما ، خصوصا فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة ، هذا فيما انكشف الحال.
  وأما فيما اشتبه ، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار ، فإن عمدة أدلة حجية الاخبار هو بناء العقلاء ، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس ، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس ، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقف والتفتيش ، عن أنه عن حدس أو حس ، بل العمل على (2) طبقه والجري على

(1) في ( ب ) : قدم ( على تقدير دلالتهما ) على ( ذلك ).
(2) في ( أ ) : على العمل طبقه .

كفاية الأصول ـ 290 ـ
  وفقه بدون ذلك ، نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك ، فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس ، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة هذا.
  لكن الاجماعات المنقولة في ألسنة الاصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلا ، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستندا إلى الحس ، فلابد في الاجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها ، ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل ، فيؤخذ بذاك المقدار ويعامل معه كأنه المحصل ، فإن كان بمقدار تمام السبب ، وإلا فلا يجدي ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الاقوال أو سائر الامارات ما به (1) تم ، فافهم .
  فتلخص بما ذكرنا : أن الاجماع المنقول بخبر الواحد ، من جهة حكايته رأي الامام ( عليه السلام ) بالتضمن أو الالتزام ، كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه ( عليه السلام ) وما نقله من الاقوال ، بنحو الجملة والاجمال ، وتعمه أدلة اعتباره ، وينقسم بأقسامه ، ويشاركه في أحكامه ، وإلا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.
  وأما من جهة نقل السبب ، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الاقوال التي نقلت إليه على الاجمال بألفاظ نقل الاجماع ، مثل ما إذا نقلت على التفصيل ، فلو ضم إليه مما حصله أو نقل له (2) ـ من أقوال السائرين أو سائر الامارات ـ مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الاجماع بمقدار السبب التام ، كان المجموع كالمحصل ، ويكون حاله كما إذا كان كله منقولا ، ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه ، أو ما له دخل فيه وبه قوامه ، كما يشهد به حجيته بلا ريب في تعيين حال السائل ، وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها ، وغير ذلك مما له دخل في تعيين

(1) في ( ب ) : بانه.
(2) في ( أ ) : إليه ، وصححه المصنف.

كفاية الأصول ـ 291 ـ
  مرامه ( عليه السلام ) من كلامه .
  وينبغي التنبيه على أمور :
  الاول : إنه قد مر أن مبنى دعوى الاجماع غالبا ، هو اعتقاد الملازمة عقلا ، لقاعدة اللطف ، وهي باطلة ، أو اتفاقا بحدس رأيه ( عليه السلام ) من فتوى جماعة ، وهي غالبا غير مسلمة ، وأما كون المبنى العلم بدخول الامام بشخصه في الجماعة ، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى ، فقليل جدا في الاجماعات المتداولة في السنة الاصحاب ، كما لا يخفى ، بل لا يكاد يتفق العلم بدخوله ( عليه السلام ) على نحو الاجمال في الجماعة في زمان الغيبة ، وإن احتمل تشرف بعض الاوحدي بخدمته ومعرفته أحيانا ، فلا يكاد يجدي نقل الاجماع إلا من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه ، بما اكتنف به من حال أو مقال ، ويعامل معه معاملة المحصل .
  الثاني : إنه لا يخفى أن الاجماعات المنقولة ، إذا تعرض إثنان منها أو أكثر ، فلا يكون التعرض إلا بحسب المسبب ، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين ، لاحتمال صدق الكل ، لكن نقل الفتاوى على الاجمال بلفظ الاجماع حينئذ ، لا يصلح لان يكون سببا ، ولا جزء سبب ، لثبوت الخلاف فيها ، إلا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه ( عليه السلام ) لو اطلع عليها ، ولو مع اطلاعه على الخلاف ، وهو وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلا ببعيد ، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملا بعيد ، فافهم .
  الثالث : إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الاجماع حال نقل التواتر ، وأنه من حيث المسبب لا بد في اعبتاره من كون الاخبار به إخبارا على الاجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به ، ومن حيث السبب يثبت به كل مقدار كان اخباره بالتواتر دالا عليه ، كما إذا أخبر به على التفصيل ، فربما لا يكون إلا دون حد

كفاية الأصول ـ 292 ـ
  التواتر ، فلا بد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الاخبار ، يبلغ المجموع ذاك الحد.
  نعم ، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة ـ ولو عند المخبر ـ لوجب ترتيبه عليه ، ولو لم يدل على ما بحد التواتر من المقدار.
  فصل مما قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى ، ولا يساعده دليل .
  وتوهم (1) دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى ، لكون الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده الخبر ، فيه مالا يخفى ، ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظن ، غايته تنقيح ذلك بالظن ، وهو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار ، ولا اعتبار به ، مع أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة .
  وأضعف منه ، توهم دلالة المشهورة (2) والمقبولة (3) عليه ، لوضوح أن المراد بالموصول في قوله في الاولى : ( خذ بما اشتهر بين أصحابك ) وفي الثانية : ( ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ) هو الرواية ، لا ما يعم الفتوى ، كما هو أوضح من أن يخفى .
  نعم بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء ، لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته ، بل على حجية (4) كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان ، لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.

(1) راجع تعليقة المصنف على كتاب فرائد الاصول / 57.
(2) عوالي اللآلي 4 / 133 ، الحديث 229.
(3) التهذيب 6 / 301 ، الحديث 52 ، والفقيه 3 / 5 ، الحديث : 2 ، باختلاف يسير في الرواية.
(4) في ( ب ) : حجيته.

كفاية الأصول ـ 293 ـ
  فصل المشهور بين الاصحاب حجية خبر الواحد في الجملة بالخصوص.
  ولا يخفى أن هذه المسألة من أهم المسائل الاصولية ، وقد عرفت في أول الكتاب (1) أن الملاك في الاصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ، ولو لم يكن البحث فيها عن الادلة الاربعة ، وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الاصول هي الادلة ، وعليه لا يكاد يفيد في ذلك ـ أي كون هذه المسألة أصولية ـ تجشم دعوى (2) أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل ، ضرورة أن البحث في المسألة ليس عن دليلية الادلة ، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها ، كما لا يكاد يفيد عليه تجشم دعوى (3) أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة ـ وهي قول الحجة أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد ، أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة ؟ فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الاخبار بها ليس من عوارضها ، بل من عوارض مشكوكها ، كما لا يخفى ، مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجية الخبر ، والمبحوث عنه في المسائل إنما هو الملاك في أنها من المباحث أو من غيره ، لا ما هو لازمه ، كما هو واضح .

(1) راجع ص 9.
(2) انظر دعوى صاحب الفصول ، الفصول / 12.
(3) راجع فرائد الاصول / 67 ، في الخبر الواحد.

كفاية الأصول ـ 294 ـ
  وكيف كان ، فالمحكي عن السيد (1) والقاضي (2) وابن زهرة (3) والطبرسي (4) وابن إدريس (5) عدم حجية الخبر ، واستدل (6) لهم بالآيات الناهية (7) عن اتباع غير العلم ، والروايات (8) الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم ( عليهم

(1) الذريعة 2 : 528 ، في التعبد بخبر الواحد ورسالة للسيد في إبطال العمل بالخبر الواحد ، المطبوعة في رسائل السيد المرتضى 3 : 309 وأجوبته عن مسائل التبانيات المطبوعة في ضمن رسائله 1 : 21 ، الفصل الثاني ، علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين المشهور بالسيد المرتضى ، تولد سنة 355 ، حاز من الفضائل ما تفرد به ، له تصانيف مشهورة منها ( الشافي ) في الامامة و ( الذخيرة ) و ( الذريعة ) وغيرها ، خلف بعد وفاته ثمانين الف مجلد من مقرواته ومصنفاته ، توفي لخمس بقين من شهر ربيع الاول سنة 436 ه‍ ، ( الكنى والالقاب 2 / 483 ) .
(2) الشيخ عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج ، وجه الاصحاب وفقيههم ، لقب بالقاضي لكونه قاضيا في طرابلس ، قرأ على السيد والشيخ فترة ويروي عنهما وعن الكراجكي وأبي الصلاح الحلبي ، له ( المهذب ) و ( الموجز ) و ( الكامل ) و ( الجواهر ) ، توفي في 9 شعبان سنة 481 ( الكنى والالقاب 1 / 224 ).
(3) الغنية : 475 ، ( المطبوعة في الجوامع الفقهية ) ، أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي العالم الفاضل الفقيه ، يروي عن والده وغيره ، له ( غنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع ) و ( قبس الانوار في نصرة العترة الاطهار ) توفي سنة 585 في سن اربع وسبعين ، قبره بحلب بسفح جبل جوشن عند مشهد السقط ، ( الكنى والالقاب 1 / 299 ).
(4) كذا يظهر من تفسيره آية النبأ ، مجمع البيان 5 : 133 ، أمين الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي مفسر فقيه صاحب كتاب مجمع البيان وجوامع الجامع ، كان معاصرا لصاحب الكشاف ، يروي عنه جماعة من أفاضل العلماء ، منهم ولده الحسن بن الفضل وابن شهر آشوب والقطب الراوندي ، انتقل من المشهد الرضوي إلى سبزوار سنة 523 وانتقل منها إلى دار الخلود سنة 548 وحمل نعشه إلى المشهد المقدس وقبره معروف ( رياض العلماء 4 / 340 ).
(5) السرائر : 5 .
(6) المعتمد 2 : 124.
(7) الاسراء : 36 ، النجم : 28.
(8) مستدرك الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 10 .

كفاية الأصول ـ 295 ـ
  السلام ) ، أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان (1) ، أو لم يكن موافقا للقرآن إليهم (2) ، أو على بطلان ما لا يصدقه كتاب الله (3) ، أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف (4) ، أو على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة (5) ، إلى غير ذلك (6)، والاجماع المحكي (7) عن السيد في مواضع من كلامه ، بل حكي (8) عنه أنه جعله بمنزلة القياس ، في كون تركه معروفا من مذهب الشيعة.
  والجواب : أما عن الآيات ، فبأن الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقاتها هو اتباع غير العلم في الاصول الاعتقادية ، لا ما يعم الفروع الشرعية ، ولو سلم عمومها لها ، فهي مخصصة بالادلة الآتية على اعتبار الاخبار.
  وأما عن الروايات ، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد ، فإنها أخبار آحاد.
  لا يقال : إنها وإن لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ، إلا أنها متواترة إجمالا ، للعلم الاجمالي بصدور بعضها لا محالة .
  فإنه يقال : إنها وإن كانت كذلك ، إلا أنها لا تفيد إلا فيما توافقت عليه ، وهو غير مفيد في إثبات السلب كليا ، كما هو محل الكلام ومورد النقض والابرام ، وإنما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة ، والالتزام به ليس بضائر ، بل

(1) وسائل الشيعة 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 18.
(2) مستدرك الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.
(3) المحاسن 1 : 221.
(4) وسائل الشيعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 12.
(5) وسائل الشيعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 11.
(6) راجع وسائل الشيعة 18 : 75 : أحاديث باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(7) أجوبة المسائل التبانيات 1 : 24 ، الفصل الثاني.
(8) رسائل السيد المرتضى 3 : 309 ، رسالة إبطال العمل بالخبر الواحد.

كفاية الأصول ـ 296 ـ
  لا محيص عنه في مقام المعارضة ، وأما عن الاجماع ، فبأن المحصل منه غير حاصل ، والمنقول منه للاستدلال به غير قابل ، خصوصا في المسألة ، كما يظهر وجهه للمتأمل ، مع أنه معارض بمثله ، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه .
  وقد استدل للمشهور بالادلة الاربعة :
  فصل في الآيات التي استدل بها :
  فمنها : آية النبأ ، قال الله تبارك وتعالى : ( إن جاء كم فاسق بنبأ فتبينوا ) (1) ، ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه (2) : أظهرها أنه من جهة مفهوم الشرط ، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق (3) ، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.
  ولا يخفى أنه على هذا التقرير لا يرد : أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع ، فافهم.
  نعم لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق به ، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع ، مع أنه يمكن أن يقال : إن القفضية ولو كانت مسوقة لذلك ، إلا أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق ، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، فتدبر .
  ولكنه يشكل (4) بأنه ليس لها هاهنا ملهوم ، ولو سلم أن أمثالها ظاهرة في

(1) الحجرات : 6.
(2) ذكر الوجوه في حاشية الفرائد / 60.
(3) في منتهى الدراية 4 / 441 : فاسقا.
(4) وللمزيد راجع فرائد الاصول / 72 ، وعدة الاصول / 1 / 44 ، ومعارج الاصول / 145.

كفاية الأصول ـ 297 ـ
  المفهوم ، لان التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق ، يكون قرينة على أنه ليس لها مفهوم .
  ولا يخفى أن الاشكال إنما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم ، مع أن دعوى أنها بمعنى السفاهة وفعل مالا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة .
  ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل ، ربما أشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الامام ( عليه السلام ) بواسطة أو وسائط ، فإنه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الاثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب ، فيما كان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر ، لانه وإن كان أثرا شرعيا لهما ، إلا أنه بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.
  نعم لو أُنشئ هذا الحكم ثانيا ، فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضا ، حيث إنه صار أثرا بجعل آخر ، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع ، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلا جعل واحد ، فتدبر .
  ويمكن ذب الاشكال (1) ، بأنه إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية ، والحكم فيها بلحاظ طبيعة الاثر ، بل بلحاظ أفراده ، وإلا فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده ، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع ، هذا مضافا إلى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الاثر ـ أي وجوب التصديق ـ بعد تحققه بهذا الخطاب ، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظا (2) لاجل المحذور ، وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار ، في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع ، صار أثره الشرعي وجوب التصديق ، وهو خبر العدل ، ولو بنفس الحكم في الآية به ، فافهم .

(1 و 2) الصحيح ما أثبتناه وما في النسخ المطبوعة خطأ ظاهر .

كفاية الأصول ـ 298 ـ
  ولا يخفى أنه لا مجال بعد اندفاع الاشكال بذلك للاشكال في خصوص الوسائط من الاخبار ، كخبر الصفار المحكي بخبر المفيد مثلا ، بأنه لا يكاد يكون خبرا تعبدا إلا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد ، فكيف يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبدا مثلا حكما له أيضا ، وذلك لانه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به ، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات ، لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية ، أو لشمول الحكم فيها له مناطا ، وإن لم يشمله لفظا ، أو لعدم القول بالفصل ، فتأمل جيدا.
  ومنها : آية النفر ، قال الله تبارك وتعالى : ( فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) (1) الآية ، وربما يستدل بها من وجوه :
  أحدها : إن كلمة ( لعل ) وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي ، وهو الترجي الايقاعي الانشائي ، إلا أن الداعي إليه حيث يستحيل في حقه تعالى أن يكون هو الترجي الحقيقي ، كان هو محبوبية التحذر عند الانذار ، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا ، لعدم الفصل ، وعقلا لوجوبه مع وجود ما يقتضيه ، وعدم حسنه ، بل عدم إمكانه بدونه.
  ثانيها : إنه لما وجب الانذار لكونه غاية للنفر الواجب ، كما هو قضية كلمة ( لولا ) التحضيضية ، وجب التحذر ، وإلا لغى وجوبه.
  ثالثها : إنه جعل غاية للانذار الواجب ، وغاية الواجب واجب.
  ويشكل الوجه الاول ، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته ، من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، حسن ، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف ، ولم يثبت ها هنا عدم الفصل ، غايته عدم

(1) التوبة : 122.

كفاية الأصول ـ 299 ـ
  القول بالفصل ، والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الانذار ب‍ [ إيجاب ] (1) التحذر تعبدا ، لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الاطلاق ، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر ، لا لبيان غايتية التحذر ، ولعل وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بكونه مشروطا به ، فإن النفر إنما يكون لاجل التفقه وتعلم معالم الدين ، ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله ) ، كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين ، على الوجهين في تفسير الآية ، لكي يحذروا إذا أنذروا بها ، وقضيته إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الانذار بها ، كما لا يخفى .
  ثم إنه أشكل أيضا ، بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر ، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الاخبار بما تحمله ، لا التخويف والانذار ، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.
  قلت : لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الاول في نقل ما تحملوا من النبي ( صلى الله عليه وعلى أهل بيته الكرام ) أو الامام ( عليه السلام ) من الاحكام إلى الانام ، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام. ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الابلاغ والانذار والتحذير بالبلاغ ، فكذا من الرواة ، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف ، كان نقله حجة بدونه أيضا ، لعدم الفصل بينهما جزما ، فافهم.
  ومنها : آية الكتمان ، ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا ) (2) الآية ، وتقريب الاستدلال بها : إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب (3) القبول عقلا

(1) اثبتناها من ( ب ).
(2) البقرة : 159.
(3) أثبتناها من ( أ ).

كفاية الأصول ـ 300 ـ
  للزوم لغويته بدونه ، ولا يخفى أنه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال (1) للايراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر ، من دعوى الاهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم ، فإنها تنافيهما ، كما لا يخفى ، لكنها ممنوعة ، فإن اللغوية غير لازمة ، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبدا ، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لاجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبينه ، لئلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له علهيم الحجة البالغة.
  ومنها : آية السؤال عن أهل الذكر ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (2) ، وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.
  وفيه : إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم ، لا للتعبد بالجواب ، وقد أورد (3) عليها : بأنه لو سلم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر ، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي ، فإنه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر والعلم ، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية.
  وفيه : إن كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الامام ( عليه السلام ) كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما ، ويصدق على السؤال عنهم أنه السؤال عن [ أهل ] (4) الذكر والعلم ، ولو كان السائل من أضرابهم ، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية ، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقا ، لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق بالسؤال ، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل

(1) دفع لما أورده الشيخ ـ من الاشكالين الاولين في آية النفر ـ على الاستدلال بهذه الآية ، فرائد الاصول / 81.
(2) النحل : 43 ، الانبياء : 7.
(3) هذا هو الايراد الثالث للشيخ على الاستدلال بالآية ، فرائد الاصول / 82.
(4) أثبتناها من ( ب ).