أقول :
وكذلك غيرهما :
كالعلامة المحقق الشيخ أحمد البنّا في كتابه : ( الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني 1|186 ) وفي
كتابه : ( بلوغ الأماني . المطبوع في ذيل الفتح الرباني 4|26 ) حيث أخرجه ثم قال : « وهو في صحيح
مسلم وغيره » .
والاستاذ العلامة توفيق أبو علم . . . في كتابة ( أهل البيت 77 ـ 80 ) وذكر : « أحاديث الثقلين من الأحاديث
التي رواها أجلاء علماء أهل السنة ، وأكابر محدثيهم ، في صحاحهم ، بأسانيدهم المتعددة ، واتفق على روايتها الفريقان . . .
» وسنذكر مجمل كلامه في ( فقه الحديث ) .
والعلامة المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي ، في تعاليقه على كتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني : ( المطالب العالية
بزوائد المسانيد الثمانية 4|64 ).
والعلاّمة المحقق الكبير الشيخ محمود أبو ريّة حيث قال : « وقد جاء هذا الحديث بروايات مختلفة ـ والمعنى واحد ـ في كثير
من كتب أهل السنة . وإذا أردت الوقوف على هذه الرّوايات فارجع إلى كتاب ( المراجعات ) التي جرت بين العلاّمة
شرف الدين الموسوي رحمه الله ، وبين الاستاذ الكبير الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر سابقاً ، في الصّفحات من ( 20 )
وما بعدها من الطبعة الرابعة » (1).
---------------------------
(1) أضواء على السنّة المحمدية : 404 .
حديـــث الثقلـــين _ 109_
« الدكتور » وكتاب « المراجعات » :
لكنّ « الدكتور » له غيظ شديد من كتاب « المراجعات » ! ! ومنزعج من سعيه جادّاً للدخول إلى كلّ بيت على
حدّ تعبيره ! !
يقول :
« وفي عصرنا أيضاً نجد كتاباً يسعى جادّاً للدخول إلى كلّ بيت ، رأيت طبعته العشرين في عام 1402 هـ ، ويوزّع على
سبيل الهديّة في الغالب الأعم ، واسم الكتاب ( المراجعات ) . ذكر مؤلّفه شرف الدين الموسوي هذا الحديث بالمتن الذي
بيّنا ضعف أسانيده وقال بأنه حديث متواتر .
ثم نسب للشيخ سليم البشري ـ رحمه الله ـ شيخ الأزهر والمالكية : أنه تلقى هذا
القول بالقبول ، وأنّه طلب المزيد . ثم ذكر صاحب المراجعات بعد ذلك روايات أشد ضعفاً ، ونسب للشّيخ البشري أيضاً أنه
أعجب بها ، ورآها حججاً ملزمة . . . » .
أقول : أولاً : إن ( السّيد شرف الدين العاملي ) من كبار علماء الطائفة الشّيعية ، لكنّك ترى « الدكتور » حيث يذكره يقول
: « مؤلّفه شرف الدين الموسوي » في حين يذكر الشيخ البشري باحترام مترحّماً عليه ، ويذكر الشيخ الالباني بـ «
العلاّمة المحقّق الشيخ ناصر الدين الالباني ـ حفظه الله ـ » و « الشّيخ الجليل » مرةً بعد أخرى . . .
فانْ كان يجهل بمنزلة السيّد شرف الدين وجب عليه أن يسأل ! لكنّ نسبه « الدكتور » إلى الجهل حمل على الصحّة ،
فالسيّد شرف الدين أعرف وأشهر وأجل . . . يقول الاستاذ عمر رضا كحّالة : « عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي : عالم ، فقيه ، مجتهد ، ولد بالمشهد الكاظمي مستهل جمادى الآخرة ، وأخذ عن طائفةٍ من علماء العراق ، وقدم لبنان ،
ورحل إلى الحجاز ومصر ودمشق وإيران ، وعاد إلى لبنان فكان مرجع الطائفة الشيعيّة ، وأسس الكلية الجعفرية بصور ، وتوفي
ببيروت في 8 جمادى الآخرة ( سنة 1377 ) ونقل جثمانه الى العراق فدفن بالنجف .
حديـــث الثقلـــين _ 110_
من آثاره : المراجعات . وهي أسئلة وجّهها سليم البشري إلى المترجم فأجاب عليها ، أبو هريرة ، الشيعة والمنار ،
إلى المجمع العلمي العربي بدمشق .
والفصول المهمة في تأليف الأمة » (1). وثانياً : إنْ كتاب ( المراجعات ) من أجلّ الكتب المؤلفة في مسألة الامامة في العصور المتأخّرة ، أهداه مؤلّفه « إلى
أولي الألباب من كلّ علامة محقق ، وبّحاثه مدقق ، لا بس الحياة العلميّة فمحّص حقائقها . ومن كلّ حافظ محدّث جهبذ حجّة في
السنن والآثار .
وكل فيلسوف متضلّع في علم الكلام .
وكلّ شابٍ حي مثقّف حرّ قد تحلّل من القيود وتملّص من الأغلال
ممن نؤملهم للحياة الجديدة الحرة » .
إنّه كتاب يحتوي على أسئلة الشيخ البشري ، يسوضحة فيها من آراء الامامية وعقائدهم ، وعلى أجوبة السيد شرف الدين عن
تلك الأسئلة بالاستناد إلى كتب أهل السنّة في الحديث والرجال والتاريخ وغيرها . . .
لقد أصبح كتاب ( المراجعات ) منذ انتشاره من أهم المصادر والمراجع المعتمدة في البحوث العلميّة ، وعاد كثير من الناس
ببركة أساليبه الرصينة وبراهينه المتينة إلى الرشد والصواب والطريق الحقّ والصّراط المستقيم . ثالثاً : إنّ ( الشيخ سليم البشري ) لمّا كان عالماً منصفاً يريد الاصلاح بين المسلمين مضطر إلى الاذعان بصحة حديث الثقلين وغيره ، وكذلك يكون كلّ فردٍ طالب للحق ، داع ٍ الى الخير . . .
فلو لم يتلقّ ( الشيخ ) ما قاله ( السيّد ) بالاستناد إلى الكتب المعتمدة لدى ( الشيخ ) وطائفته . . . لتُعُّجب منه . . . كما تعجّب كبار الحفّاظ كالسخاوي والسمهودي وابن حجر المكي وغيرهم من إيراد ابن الجوزي الحدّيث في ( العلل المتناهية ) ! رابعاً : إنّ ( حديث الثقلين ) أوّل الأحاديث المطروحة في هذه ( المراجعات ) وهو لم يخرجه إلا عن : أحمد ، وابن أبي شيبة ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم ، وأبي يعلى ، وابن سعد ، والطبراني ، والسيوطي ، وابن حجر المكي ، والمتّقي
الهندي . . .
تنبيه :
قد تعرض « الدكتور » في هامش هذا الموضع من كتابه لثلاثةٍ أحاديث أوردها صاحب ( المراجعات ) عن كتب القوم
، رواها أئمتهم كالحافظ المطيّن ، والباوردي ، وابن جرير الطبري ، وابن شاهين ، وابن مندة ، وأبي نعيم ، والحاكم ، والطبراني ،
والسيوطي ، والمتقي الهندي . . . وغيرهم . . . فنقل « الدكتور » عن الشيخ الألباني أنّ هذه الأحاديث الثلاثة
موضوعة . . .
ونقول :
أولاً : ما الدليل على تقدّم قول الألباني على قول مثل الحاكم حيث ينصّ على صحّة حديثٍ على شرط الشيخين ؟ . وثانياً : إنّ تكذيب هذه الأحاديث وأمثالها إنّما هو طعن في رواة القوم وعلمائهم وكتبهم ، لأنّ هؤلاء الرواة والمحدثين إنْ كانوا يعتقدون بصحّة هذه الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي أحاديث متفق عليها بين المسلمين ، وإنْ كانوا يعتقدون بكذبها واختلاقها عليه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
حديـــث الثقلـــين _ 112_
لزم أن يكونوا أيضاً كاذبين لأنّ ناقل الكذب كاذب ، وإنْ كانوا يروونها جاهلين بأحوالها ، ثم جاء الشّيخ الألباني فكان أعلم منهم فيما رووه ، فهذا ما لا أظنّ الألباني يقوله ، ولا « الدكتور » يصدّقه ! ! . وثالثاً : إن غرض الشيعي من نقل هذه الأحاديث هو إلزام رواتها بها ، وكذا إلزام من يمجّد بأولئك الرواة ويثني على كتبهم بالألقاب الضخمة ! ! . ورابعاً : الاعتراض على السيد شرف الدين بأنّه « حكى تصحيح الحاكم للحديث دون أن يتبعه بيان علّته ، أو على الأقل دون أن ينقل كلام الذهبي في نقده »
مردود بوجوه : الأول : إن الغرض هو الاحتجاج بكتب أهل السنّة ورواياتهم ! والثاني : إنّ الحديث لو كان له علة لبيّنها الحاكم نفسه ، كما بيّن في غير موضع . والثالث : كيف يطلب نقل كلام الذهبي في نقده مَن لم ينقل تصحيح الذهبي حديث الثقلين ـ تبعاً للحاكم ؟ ! .
خلاصة البحث :
إنّه قد ذكرت بعض ألفاظ حديث التمسّك بالكتاب والعترة ، وأنَّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كرّر هذا الكلام في مواطن عديدة
، ثم ذكرت جملةً من مصادره ( الصّحاح ) وأسماء جماعةٍ من الأعلام المصرّحين بصحته وثبوته عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
ثم أشرت إلى أنّه حديث متواتر ، وذكرت أسامي رواته من الأصحاب ثم التابعين ثم الأئمة والحفّاظ عبر القرون . . .
حديـــث الثقلـــين _ 113_
أمّا « الدكتور » فقد اقتصر على بعض روايات الحديث ، وأخرجه تخريجاً يُوهم القرّاء أنْ ليس لهذا الحديث وجود في غير
الكتب التي نقل عنها ، وحتى هذه الكتب لم يذكر الا بعض ما روي فيها . . . فزعم أنّ أحمد لم يخرج في ( المسند )
لهذا الحديث إلا سبع روايات ، وقد عرفت أنّها أكثر ، والثامن منها سنده معتبر تام بلا كلام . . . وعن المستدرك لم يذكر
سوى روايتين ، وقد أخرج فيه أربع روايات ، صحّحها على شرط الشيخين ، ووافقه الحافظ الذهبي في ثلاثة منها بصراحةٍ ، فلم
يشر « الدكتور » إلى موافقته ، لكنّه حيث ذكر الذهبي في الرّابعة جرح السّعدي الجوزجاني النّاصبي الشهير في أحد رواتها
أشار « الدكتور » الى هذا الجرح واعتمده تبعاً لِمَن لا يجوز متابعته ، ولا يتابعه إلا من كان على شاكلته !
ومع ذلك كلّه . . . تبيّن أنّ مناقشاته في أسانيد الرّوايات التي أوردها مردودة كلّها ، وقد اعتمدنا في الجواب عمّا تفوّة به على
كتاب ( تهذيب التهذيب ) ، وهو الكتاب الذي طالما أرجع إليه في بحثه . . . إلا أنّه كان ـ لدى النقل عنه ـ لا ينقل إلا ما
يتوّهم دلالته على مدّعاه ويسقط ما عداه .
فروايات هذا الحديث الشريف كلها معتبرة سنداً ، سواء التي في ( صحيح مسلم ) وغيره من الصحاح ، والتي في (
مسند أحمد ) وغيره من المسانيد ، والتي في ( صحيح الترمذي ) وغيره من السنن .
وأمّا روايات الحاكم في المستدرك ، فما اتفق منها هو والذهبي على صحته على شرط الشيخين ، يكون بحكم الحديث المخرّج في
( الصحيحين ) كما نصَّ عليه أئمة القوم . . .
بن الجوزي . . . ولم يعبأ بقوله أحد ، بل تعجّبوا منه وحذّروا من الاغترار به ، بل تجد في كلماتهم حول الرّجل التصريح بأنّه
لا يؤخذ بكلامه حول الأحاديث ولا يعتمد عليه . . . وإليك بعض الشواهد على ذلك :
قال الذهبي بترجمة أبان بن يزيد العطّار : « وقد أورده العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في الضعفاء ولم يذكر فيه أقوال من
وثقه ، وهذا من عيوب كتابه ، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق » (1).
وبترجمة ابن الجوزي نفسه من ( تذكرة الحفاظ ) عن الموقاني : « وكان كثير الغلط فيما يصنّفه ، فإنه كان يفرغ من
الكتاب ولا يعتبره » فأضاف الذهبي : « قلت: له وهم كثير في تواليفه ، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحوّل الى
مصنف آخر ، ومن أن جلّ علمه من كتبٍ وصحف ما مارس فيه أرباب العلم كما ينبغي »(2).
وقال ابن حجر بترجمة ثمامة بن الأشرس البصري بعد قصة : « دلّت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليلٍ لا ينتقد
ما يحدّث به » (3).
وقال السّيوطي : « قال الذهبي في التاريخ الكبير : لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة ، بل باعتبار
كثرة اطلاعه وجمعه » (4).
وقال السّيوطي في تعقيباته : « واعلم أنّه جرت عادة الحفاظ كالحاكم وابن حبّان والعقيلي وغيرهم أنهم يحكمون على حديثٍ
بالبطلان من حيثيّة سندٍ مخصوص ، لكون راويه اختلق ذلك السند لذلك المتن ، ويكون ذلك المتن معروفاً من وجهٍ آخر ،
ويذكرون ذلك في ترجمة ذلك الراوي يجرحونه به ، فيغترّ ابن الجوزي بذلك ويحكم على المتن بالوضع مطلقاً ، ويورده في كتاب
الموضوعات ،
---------------------------
(1) ميزان الاعتدال 1|16 .
(2) تذكرة الحفاظ 4|1347 .
(3) لسان الميزان 2|83 .
(4) طبقات الحفّاظ : 480 .
حديـــث الثقلـــين _ 115_
وليس هذا بلائق ، وقد عاب عليه الناس ذلك ، آخرهم الحافظ ابن حجر » .
وقال السيوطي بشرح النووي : « وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو مجلّدين ، أعني أبا الفرج ابن الجوزي ، فذكر في
كتابه كثيراً ممّا لا دليل على وضعه بل هو ضعيف » وأضاف السيوطي : « بل وفيه الحسن بل والصحيح ، وأغرب من
ذلك أن فيها حديثاً من صحيح مسلم كما سأبيّنه . قال الذهبي : ربما ذكر ابن الجوزي في الموضوعات أحاديث حسناً
قويّةً . . . » (1).
هذا ، وقد ذكروا بترجمته أنّه قد أودع السّجن مدةً من الزّمن بفتوى علماء عصره لبعض ما ارتكبه . . . (2).
فكان حال ابن الجوزي في نظر علماء القوم وفقهائهم حال ابن تيميّة الحرّاني الذي حكم عليه بالسّجن ـ بعد أنْ لم يفد معه البحث ،
ولم تؤثّر فيه الموعظة والنصحيحة ـ فبقي مسجوناً الى أن مات في السّجن . . . (3).
---------------------------
(1) تدريب الراوي 1|235 .
(2) مرآة الجنان ـ حوادث 595 .
(3) راجع ترجمة ابن تيمّية في المصادر الرجالّية والتّاريخيّة ، من ذلك : الدرر الكامنة للحافظ ابن حجر 1|147 ، البدر
الطّالع للحافظ الشوكاني 2|260 .
وقال ابن حجر المكي صاحب الصواعق في فتوىً له : « ابن تيمية عبد خذله الله
وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه ، وبذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الامام
المجتهد المتفق على على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي ، وولده التاج ، والشيخ الإمام العزّ ابن
جماعة ، وأهل عصرهم ، وغيرهم من الشافعيّة والمالكية والحنفيّة .
ولم يقصر اعتراضه على متأخّري الصوفية ، بل اعترض
على مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ .
والحاصل : أنْ لا يقام لكلامه وزن ، بل يرمى في كلّ وعر وحزن ، ويعتقد فيه أنه ضال مضل غال ، عامله الله بعدله ،
وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله . آمين » الفتاوى الحديثيّة : 86 .
حديث الثقلين وصية الرسول
فقه الحديث في صحيح مسلم
لا اختلاف في فقه الحديث بين روايات
مسلم وروايات غيره
تنبيهات
مع الدكتور السالوس في فقه حديث الثقلين
كلمة الختام
وهلّم لننظر في فقه حديث الثقلين . . .
وفي هذا الباب أيضاً . . . نرجع إلى كبار علماء القوم المحقّقين ، أصحاب الكتب المعتمدة المرجوع إليها في فهم السّنة
النبويّة الكريمة ، والأحاديث الواردة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . . .
فلنرجع إلى :
المنهاج في شرح صحيح مسلم ، للنووي .
ونفع قوت المغتدي في شرح الترمذي ، للشّاذلي .
والمرقاة في شرح المشكاة ، للقاري .
ونسيم الرياض في شرح الشفاء ، للخفاجي .
وفيض القدير في شرح الجامع الصغير ، للمناوي .
وشرح المواهب اللدنية ، للزرقاني .
وأمثال هذه الكتب من الشروح وكتب اللغة وغيرها . . .
حديـــث الثقلـــين _ 117_
حديث الثقلين وصيّة الرسول :
وقبل الورود في البحث نشير إلى أنّ تكرار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حديث الثقلين ، وفي الأيام الأخيرة من عمره
الشريف ، فيه دلالة على أنّه وصيّة منه لأمّته، وهذا ما جاء في كلام غير واحدٍ من علماء القوم ، بل ذكر بعضهم الحديث بلفظ
الوصيّة... فقد قال في لسان العرب : « وفي حديث النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أوصيكم بكتاب الله
وعترتي » .
وقال ابن حجر المكي : « وقد جاءت الوصية الصّريحة بهم في عدّة أحاديث ، منها حديث : إني تارك فيكم ما إنْ تمسكتم
به لن تضلّوا بعدي الثقلين
أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولنْ يتفرقا حتر يردا عليَّ الحوض
، فانظروا كيف تخلفوني فيهما .
قال الترمذي : حسن غريب ، وأخرجه آخرون ، ولم يصب ابن الجوزي في إيراده
في العلل المتناهية ، كيف ! وفي صحيح مسلم وغيره . . . »(1).
وقال الحافظ السخاوي في ( استجلاب ارتقاء الغرف ) (2).
: « قد جاءت الوصية الصريحة بأهل البيت في
غيرها من الاحاديث ، فعن سليمان بن مهران الأعمش . . . » الى آخر عبارته وقد تقدمت .
وقال الحافظ السمهودي في ( جواهر العقدين )(3).
: « الذكر الرابع : في حثّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الأمة على التمسّك بعده بكتاب ربهم ، وأهل بيت نبيّهم ، وأن يخلفوه فيهما بخير ، وسؤاله من يرد عليه الحوض عنهما ،
وسؤال ربه عزّوجل الأمة كيف خلفوا نبيّهم فيهما ، ووصيّته بأهل بيته ، وأنّ الله تعالى أوصاه بهم . . . » .
إذا عرفت هذا فلننظر في ألفاظ الحديث على ضوء كلمات علماء القوم :
---------------------------
(1)الصواعق المحرقة : 90 .
(2) كتاب لا يزال مخطوطاً وعندنا منه نسخة مصورة .
(3) كتاب لا يزال مخطوطاً وعندنا منه نسخة مصوّرة .
حديـــث الثقلـــين _ 118_
فقه الحديث في صحيح مسلم :
* قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) « إني تارك فيكم الثقلين » .
وفي رواية الحافظ الدارقطني بدل « تارك » لفظ « مخلّف » . . .
هكذا في رواية مسلم وكثيرين .
و « الثقلان » مثنى « ثقل » بفتحتين ، كما في ( القاموس ) وغيره ، قال في القاموس : « والثقل ـ محركة ـ
: متاع المسافر وحشمه ، وكلّ شيء نفيس مصون ،
ومنه الحديث : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » (1).
أو مثنى « ثِقل » بكسر الثاء وسكون القاف ، كما قال جماعة آخرون من أهل الحديث واللغة ، قال في لسان العرب : «
التهذيب (2). : وروي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال في آخر عمره : إني تارك فيكم الثقلين
كتاب الله وعترتي . فجعلهما كتاب الله عزّوجل وعترته . وقد تقدم ذكر العترة . وقال ثعلب (3). : سمّيا ثقلين
لأن الأخذ بهما ثقيل والعمل بهما ثقيل . قال : وأصل الثقل أن العرب تقول لكلّ شيء نفيس خطير مصون : ثقل .
فسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما . . . » (4).
وقال الحافظ الزرندي المدني : « سمّاهما ثقلين ، لأنّ الأخذ بهما والعمل بهما والمحافظة على رعايتهما ثقيل . . . »
(5).
وقال ابن الأثير : « فيه (6). : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي . سمّاهما ثقلين لأنّ الأخذ بهما والعمل
بهما ثقيل . ويقال لكلّ شيء خطير نفيس : ثقل . فسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما »(7).
وقال النووي : « قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : وأنا تارك فيكم ثقلين . فذكر كتاب الله وأهل بيته .
قال العلماء : سمّيا ثقلين لعضمهما وكبير شأنهما . وقيل : لثقل العمل بهما » (8).
---------------------------
(1) القاموس المحيط : ثقل .
(2) تهذيب اللغة للامام أبي منصور الأزهري المتوفى سنة : 370 .
(3) أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب المتوفى سنة 291 .
(4) لسان العرب : ثقل .
(5) نظم درر السمطين 231 ـ 232 .
(6) أي : في الحديث .
(7) النهاية في غريب الحديث « ثقل » .
(8) المنهاج في شرح صحيح مسلم 15|180 .
حديـــث الثقلـــين _ 119_
« أوّلهما » :
فقد ترك النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) شيئين سمّاهما ـ فيما أخرجه مسلم ـ بـ « ثقلين » أحدهما : كتاب الله . . .
فما هو الثاني ؟ إنه ليس إلاّ « أهل بيته » فلذا قال النووي بشرح صحيح مسلم : « فذكر كتاب الله وأهل بيته »
. . . وهو أيّ معنىً أراد من تسمية « الكتاب » بـ « الثقل » فنفس المعنى هو المراد من تسميته « العترة أهل
« البيت » ب « الثقل » ، ولا ريب في أنّه إنّما ترك « الكتاب » في الأمة لكي تتمسّك به وتعمل به وتتبّعه وتطبّق ما جاء
به ، فكذلك الأمر بالنسبة الى « العترة أهل البيت » .
إذن ، « فالكتاب والعترة » هما الخليفتان من بعده ، اللذان يملآن الفراغ الحاصل من فَقده .
ومن هنا فقد جاء الحديث في غير واحدٍ من الروايات بلفظ « إني تارك فيكم خليفتين » ومن الذين أخرجوه كذلك :
أحمد بن حنبل ، عن زيد بن ثابت . وقد تقدم .
وابن أبي عاصم الشيباني المتوفي سنة 287(1). في ( كتاب السنّة )(2). عن زيد بن ثابت ، وفيه تسمية « الكتاب والعترة » بـ « الثقلين » و « الخليفتين » معاً ، وهذا مما يؤكّد ما قلناه ، واعلم أنه قد أخرج حديث الثقلين .
عن عليّ ، وعبد الله بن عمر ، وزيد ابن أرقم ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عباس . . . بعشرة أسانيد (3).
وأبو القاسم الطّبراني ، وعنه الحافظ أبو بكر الهيثمي قال : « عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني تركت فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض .
رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله ثقات »(4).
---------------------------
(1) قال الذهبي في العبر 2|79 : « كان إماماً ، فقهياً ، ظاهرياً ، صالحاً ، ورعاً ، كبير القدر ، صاحب مناقب » .
(2) نشر وتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني الذي ذكره « الدكتور » بكلّ احترام وأثنى عليه .
(3) انظر كتاب السنة : 628 ـ 631 .
(4) مجمع الزوائد 9|163 .
حديـــث الثقلـــين _ 120_
وجلال الدين السّيوطي عن أحمد والطبراني وصحّحه .
قال شارحه المنّاوي : « إني تارك فيكم بعد وفاتي خليفتين . زاد في رواية : أحدهما أكبر من الآخر .
وفي روايةٍ بدل خليفتين : ثقلين سمّاهما به لعظم شأنهما .
كتاب الله القرآن ، حبل أي هو حبل ممدود ما بين السماء والأرض .
قيل : أراد به عهده ، وقيل : السبب الموصل الى رضاه . وعترتي . بمثنّاة فوقية . أهل بيتي . تفصيل بعد إجمال
بدلاً أو بياناً ، وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً . . . »(1).
فالخليفتان من بعده صلى الله عليه وآله وسلم هما : القرآن وأصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً . . .
« أُذكّركم الله في أهل بيتي » :
ولمّا كان القرآن كلام الله ، وكان أصحاب الكساء معصومين مطهّرين بنصّ الكتاب ـ وهم المراد من « عترتي اهل بيتي » ـ
كان من الواجب الأخذ بهما واتّباعهما ، والايتمار بأوامرهما والانتهاء بنواهيهما ، والتمسّك بها في جميع الأمور الدينية والدنيويّة
. . . ولهذا جاء لفظ « الأخذ » والأمر به في رواية غير واحدٍ :
كالترمذي في صحيحه .
وابن أبي شيبة في مصنفه .
---------------------------
(1) فيض القدير 3|14 .
حديـــث الثقلـــين _ 121_
وأحمد في مسنده .
وابن سعد في طبقاته .
والطبراني في معجمه الكبير .
وقد تقدمت رواياتهم . . .
قال القاري : « والمراد بالأخذ بهم التمسّك بمحبتهّم ، ومحافظة حرمتهم ، والعمل بروايتهم ، والاعتماد على مقالتهم »
(1).
وقال شهاب الدين الخفاجي : « أي : تمسّكتم وعملتم واتبعّتموه »(2).
فاذن : « الأخذ » هو « الاتّباع » .
وقد جاء الحديث بلفظ « الاتّباع » عند غير واحد :
كالحاكم في مستدركه ، وقد تقدم لفظه .
وكابن حجر المكي في صواعقه ، في معنى قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) .
وكما حثّ على اتّباع كتاب الله عزّوجل ورغّب في التمسّك به ، كذلك حثَّ على اتّباع العترة أصحاب الكساء والتمسّك بهم
فقال ثلاثاً : « أذكّركم الله في أهل بيتي » قال الزرقاني المالكي بشرح هذه الجملة :
« قال الحكيم الترمذيّ : حضٌّ على التمسّك بهم ، لأنّ الأمر لهم معاينة ، فهم أبعد عن المحنة »(3).
وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي : « لقد كرّر هذه الكلمة للمبالغة والتوكيد ، وهي إشارة إلى وجوب أخذ السنّة منهم ، كما أنّ
الأولى إشارة الى الأخذ بما في الكتاب .
---------------------------
(1) المرقاة في شرح المشكاة 5|600 .
(2) نسيم الرياض ـ شرح شفاء القاضي عياض 3|410 .
(3) شرح الواهب اللدنية 7|5 .
حديـــث الثقلـــين _ 122_
فعلى جميع الذين آمنوا أنْ يكونوا مطيعين لأهل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) » (1).
حاصل معنى الحديث :
ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا أحسّ بدنّو أجله ، أوصى أمّته بأهم الأمور لديه ، وهما الكتاب والعترة ، وجعلهما الخليفة
من بعده ، وحثّ على التمسّك بهما واتّباعهما ، وحذّر من تركهما والتخلّف عنهما ، خوفاً عليها من الضلالة والهلاك . . .
قال ابن حجر المكّي : « تنبيه : سمّى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) القرآن وعترته ـ وهي بالمثنّاة
الفوقية : الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين ، لأنّ الثقل كلّ شيء نفيس خطير مصون ، وهذان كذلك ، إذ كل منهما معدن
للعلوم اللدنّية والأسرار والحكم العلية والأسرار الشرعية ، ولذا حثّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على الاقتداء والتمسّك
بهم والتعلّم منهم » (2).
الاختلاف بين روايات مسلم وروايات أحمد والترمذي :
وإذا كان الكتاب والعترة بتلك المثابة التي أفادتها روايات صحيح مسلم ـ كما شرح كبار علماء الحديث ـ فلا يبقى أيّ فرقٍ
واختلاف بين مفاد حديث الثقلين في ( صحيح مسلم ) ومفاده في ( مسند أحمد ) و ( الترمذي ) و ( الطبراني ) و ( الحاكم ) و ( الذّهبي ) وغيرهم . . .
غير أنّ في روايات هؤلاء زيادة توضيحيّة ليست موجودةً في روايات مسلم . . .
---------------------------
(1) أشعة اللمعات في شرح المشكاة 4|677 .
(2) الصواعق المحرقة : 90 .
حديـــث الثقلـــين _ 123_
وإنْ شئت فقارن بين لفظ مسلم ففيه : « ألا أيّها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم
ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا كتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال :
وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي » .
وبين لفظ أحمد : « إني أوشك أن أدعى فأجيب ، واني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله عزّوجل ،وعترتي ، كتاب الله
حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي . وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ،
فانظروني بم تخلفوني فيهما » .
وبين لفظ الترمذي : « إني تارك فيكم ما انْ تمسّكتم به لن تضلّوا أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء
إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » .
فهل من فرق ؟
أمّا « لن تضلّوا بعدي » ، فبيان لنتيجة التمسّك بالثقلين ، وهذا أمر حتمي يفهمه كلّ أحدٍ ، فإنّ من تمسّك بالقرآن والعترة لن يضل ، ومن ترك اتّباعهما ضل . . . وأمّا « انّهما لنْ يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » .
فبيان لما يستلزمه كونهما معاً جنباً إلى جنبٍ في جميع الأزمنة ، اذ لو أمكن مفارقة العترة الكتابَ في يومٍ من الأيام لما سمّاهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بـ « الثقلين » .
ذكر العلماء الروايات المذكورة في سياق واحد :
وممّا يؤكد ما ذكرناه من عدم الاختلاف بين هذه الروايات في المدلول والمفاد : ذكر غير واحدٍ من أعلام الحفاظ إياها في
سياقٍ واحدٍ وتحت عنوانٍ واحدٍ . . . ونحن نكتفي بكلامٍ واحدٍ منهم :
قال الحافظ محبّ الدين الطبري (1). في كتابه ( دخائر العقبى في مناقب ذوي االقربى ) ما هذا نصّه :
« باب في فضل أهل البيت ، والحثّ على التمسّك بهم وبكتاب الله عزّوجل ، والخلف فيهما بخير :
عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني تارك فيكم الثقلين ما إنْ
تمستكم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله عزّوجل ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل
بيتي ولن يفترقا حتر يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما . أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب .
وعنه قال : قام فينا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنما انا
بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي عزّوجل فأجيبه ، وإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فتمسّكوا بكتاب الله عزّوجل وخذوا به .
---------------------------
(1) من كبار حفّاظ القوم وشيخ الحرم المكي في عصره ، توجد ترجمته في : تذكرة الحفاظ 4|1474 ، النجوم الزاهرة
8|74 ، البداية والنهاية 13|30 ، طبقات الشافعية للسبكي 5|8 ، الوافي بالوفيات 7|135 ، طبقات الحفاظ : 510
وغيرها من معاجم التراجم . توفي سنة 694 .
حديـــث الثقلـــين _ 125_
ـ وحثّ فيه ورغّب فيه ثم قال ـ وأهل بيتي . أذّكركم الله في أهل بيتي ـ ثلاث مرات ـ .
فقيل لزيد : من أهل بيته ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ فقال : بلى إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم عليه الصّدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس .
قال : أكلّ هؤلاء حرم عليهم الصدقة ؟ قال : نعم . أخرجه مسلم .
وعند احمد معناه من حديث أبي سعيد ولفظه :
انه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : إني أوشك أنْ أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي . وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا فيما تحلفوني فيهما .
وعن عبد العزيز بسنده الى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) قال : أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة ، وأعضانها في الدنيا ، فمن تمسّك بنا اتخذ إلى ربّه سبيلاً . أخرجه أبو سعد في شرف النبوة » (1).
تنبيهات
1 ـ حديث التمسّك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير :
إنّه قد تبيّن مما ذكرنا أنّ الذي قاله رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في خطبته ـ يوم خطب بماءٍ يدعى خماً بين مكّة والمدينة ـ هو حديث التمسّك بالكتاب والعترة . . . وقد نصَّ على هذا غير واحدٍ من الحفّاظ أيضاً ، ولنكتفِ بكلام الحافظ ابن كثير الدمشقي حيث قال :
« قد ثبت في الصحيح أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال في خطبته بغدير خم : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » (1).
2 ـ حديث التمسّك بالثقلين وحديث من كنت مولاه :
إنّه جاء في بعض ألفاظ خطبة الغدير حديث التمسّك بالكتاب والعترة وحديث « من كنت مولاه فعلي مولاه » معاً ... ومن الرواة :
محمد بن جرير الطبري .
وابن أبي عاصم .
والمحاملي .
رواه عنهم علي المتقي الهندي ، ونصَّ على أن المحاملي (2).
صححه ، وقد تقدّم نصّه .
---------------------------
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6|199 .
(2) أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل الضبّي البغدادي ـ المتوفى سنة 330 ـ تجد ترجمته في : تاريخ بغداد 8|19 ، الكامل في التاريخ 8|139 ، العبر 2|222 ، تذكرة الحفاظ 3|824 ، طبقات الحفاظ : 343 وغيرها
حديـــث الثقلـــين _ 127_
ورواه الحاكم النيسابوري بثلاثة طرقٍ عن أبي عوانة عن الاعمش عن حبيب ابن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم . . . » ثم قال : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله » .
وقد وافقه الحافظ الذهبي على تصحيحه على شرطهما في ( تلخيصه ) .
فكان هذا الحديث عن زيد بن أرقم شارحاً لما أخرجه مسلم عنه من خبر خطبته صلّى الله عليه وآله وسلّم بغديرخم . . .
وقد تقدّم نص الحديث في الكتاب .
ورواه النسائي في سننه ، وعنه الحافظ ابن كثير ثم قال : « قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : وهذا حديث صحيح » وهذا نصّه بتمامه :
« وقد روى النسائي في سننه عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال : لمّا رجع رسول من حجة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحاتٍ فقممن ثم قال : كأني قد دعيت فأجبت ، إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ثم قال : الله مولاي وانا ولي كلّ مؤمن ، ثم أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فهذا وليّه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . فقلت لزيد : سمعته من رسول الله ؟ فقال : ما كان في الدوحات أحد الاّ رآه بعينيه وسمعه بأذنيه .
تفرّد به النسائي من هذا الوجه .
حديـــث الثقلـــين _ 128_
قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : وهذا حديث صحيح » (1).
3 ـ علي المصداق الأول للعترة في الحديث :
ومن ذلك يفهم المراد من قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « وعترتي أهل بيتي » وهذا ما نصَّ عليه علماء القوم أيضاً :
قال ابن حجر المكي : « وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة الى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة . . .
ثم أحق من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ لما قدّمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته . ولذلك خصّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بما مرّ يوم غدير خم » (2).
4 ـ دلالة الحديث على وجود المستأهل من العترة إلى يوم القيامة :
ومنه يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من العترة الطاّهرة في كلّ زمانٍ الى يوم القيامة . . . وهذا أيضاً ممّا نصَّ عليه غير واحد :
قال ابن حجر المكي : « وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع مستأهل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما سيأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : في كلّ خلف من أمتي عدول من أهل بيتي » (3).
وقال الحافظ الشريف السمهودي في تنبيهات حديث الثقلين :
« ثالثها : إن ذلك يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمانٍ وجدوا فيه إلى قيام الساعة »
---------------------------
(1) تاريخ ابن كثير = البداية والنهاية 5|206 .
(2) الصواعق المحرقة : 90 .
(3) الصواعق المحرقة : 90 .
حديـــث الثقلـــين _ 129_
حتى يتوجّه الحث المذكور إلى التمسّك به ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ـ ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أماناً لأهل الأرض فاذا ذهبوا ذهب أهل الأرض »(1).
وكذا قال المنّاوي بشرح الجامع الصغير 3|15 .
والزرقاني المالكي بشرح المواهب اللدنية 7|8 .
ونقلا كلام الشريف السمهودي الحافظ المذكور . . .
5 ـ دلالة الحديث على إمامة الأئمة من العترة :
واذ قد عرفت « فقه حديث الثقلين » على ضوء كلمات علماء أهل السنّة المحققين ، بعد الوقوف على كثيرٍ من أسانيده وألفاظه . . . تتمكّن بكلّ سهولةٍ أن تعرف الذين جعلهم الله ورسوله قائمين مقام الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من بعده ، في إدارة شئون المسلمين وتدبير أمورهم ، وتعليمهم الكتاب والحكمة ، وتزكيتهم وإرشادهم . . . الى غير ذلك من وظائف النبوّة . . .
وإنّ القيام بذلك لا يليق الاّ لمن كان طاهراً مطهّراً من جميع أنواع الرّجس ، وقد عرفت أنّ المراد من « عترتي أهل بيتي » هم : « أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً » .
وإلاّ لمن كان أعلم الناس بالكتاب وأعرفهم بحقائق الدين . . . ولا ريب في أن « أهل بيته » كذلك ، ومن هنا فقد ورد التصريح بذلك في بعض ألفاظ حديث الثقلين ، كاللفظ المتقدّم نقله عن الحافظ الطّبراني في ( المعجم الكبير ) المشتمل على قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم » (2).
---------------------------
(1) جواهر العقدين . مخطوط . وعندنا منه نسخة مصوّرة .
(2) أنظر الحديث في الكتاب .
حديـــث الثقلـــين _ 130_
وقال الشريف الحافظ السمهودي : « الذين وقع الحثّ على التمسّك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة هم العلماء بكتاب الله عزّوجل ، إذ لا يحث ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على التمسّك بغيرهم ، وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق حتى يردا الحوض ، ولهذا قال : لا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم » (1).
وقال الشيخ القاري في شرح المشكاة : « وأقول : الأظهر هو أنّ أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله ، فالمراد بهم أهل العلم منهم ، المطلّعون على سيرته ، الواقفون على طريقته ، العارفون بحكمه وحكمته ، وبهذا يصلح أن يكونوا عدلاً لكتاب الله سبحانه ، كما قال : ( ويعلّمهم الكتاب والحكمة ) (2).
ولقد نصَّ نظام الدين النيسابوري في ( تفسيره ) على ضوء حديث الثقلين على كون « عترته » صلّى الله عليه وآله وسلّم « ورثته ، يقومون مقامه » وهذه عبارته بتفسير قوله تعالى : ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ) قال :
« وكيف تكفرون ، استفهام بطريق الإنكار والتعجّب . والمعنى : من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) غضّةً في كلّ واقعة ، وبين أظهركم رسول الله يبيّن لكم كلّ شبهة ويزيح عنكم كلّ علّة . . .
أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر .
وأمّا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فإنه وانْ كان مضى إلى رحمة الله في الظاهر ، ولكنّ نور سرّه باقٍ بين المؤمنين ، فكأنه باق ، على أنّ عترته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً ، ولهذا قال : إني تارك فيكم الثقلين . . . » (3).
مع الدكتور السالوس
في
فقه حديث الثقلين
---------------------------
(1) جواهر العقدين ـ مخطوط .
(2) المرقاة في شرح المشكاة 5|600 .
(3) غرائب القرآن ورغائب الفرقان 1|347 .
حديـــث الثقلـــين _ 131_
كلامه في « الفصل الثاني : فقه الحديث »
و « الدكتور » لم يذكر في ( فقه الحديث ) إلاّ أنّ ما صحّ عن زيد بن أرقم يدلّ على وجوب رعاية حقوق أهل البيت الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) .
( قال ) : وتعرّضت للحديث عن المراد بأهل البيت .
أقول :
ليس الصحيح بمنحصرٍ فيما روي عن زيد بن أرقم . . . وليس ما صحّ عن زيد بن أرقم بمنحصر بما جاء في « صحيح مسلم » ، فقد صحّ عنه هذا الحديث بألفاظٍ أخرى ، وهي ـ مضافاً الى صحتها ـ موضّحة للمراد من اللفظ المخرج في صحيح مسلم ، على أنّ الذي في صحيح مسلم بوحده كاف في الدلالة على المقصود .
وقد بيّنا كلّ ذلك . . .
قال : « ويبقى هنا فقه الحديث الذي بيّنت ضعف طرقه ، والضعيف ليس بحجّة ، ولكن ما دمنا وجدنا من صحّحه فلنبحث في فقهه لو فرضنا صحته » .
أقول : قد بيّنا صحّة ما ادّعى ضعفه ، على أن ثمة طرقاً صحيحة لم يتعرض لها عمداً أو جهلاً . . . وليس الأمر كما ذكر من « وجدنا من صحّحه » بل الواقع : لم نجد ولا يوجد من ضعّفه إلاّ ابن الجوزي الذي ردّ عليه الكلّ . . . على أنّ في اعترافه بإنه « وجدنا من صحّحه » كفاية .
حديـــث الثقلـــين _ 132_
قال : « قال العلاّمة المنّاوي في فيض القدير 3|14 : إنْ ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه . . .
ثم قال 3|15 : لن يفترقا ، أي الكتاب والعترة ، أي يستمران متلازمين حتى يردا على الحوض . . . »
أقول : فأورد عبارات عن العلاّمة المناوي في كتابه المذكور وفيها بعض كلمات الشريف السمهودي . . . ومنه يعلم قبوله لما يقول . . . وقد أوردنا نحن عنه وعن غيره العبارات الوافية الشافية في فقه حديث الثقلين ومدلوله ومفاده . . .
وهو ـ وانْ اقتصر على هذا الكلام من المنّاوي فلم ينقل عنه الكلمات الأخرى ، كما لم ينقل كلمات الشرّاح غيره ـ قد عجز عن الجواب عمّا ذكر ، فالتجأ الى كلامٍ لابن تيميّة ، فذكر بعده بلا فاصل : « وقال ابن تيمية بعد أنْ بيّن أنّ الحديث ضعيف لا يصح : وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلّهم لا يجتمعون على ضلالةٍ .
قالوا : ونحن نقول بذلك ، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره » .
وقال أيضاً : « إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والاجماع ، والعترة بعض الأمة ، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة اجماع العترة » .
أقول : هذا كلام « الدكتور » وهذا « فقهه » ! وأي ّ علاقةٍ لهذا بفقه حديث الثقلين ؟
حديـــث الثقلـــين _ _
ثم ذكر « الدكتور » أموراً هي في الحقيقة اعتراف بالحق !
قال :
1ـ يجب ألاّ يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت ، فكثير من الفرق التي رزئ بها الاسلام والمسلمون ادّعت أنها هي التابعة لأهل البيت .
2 ـ أهل البيت الأطهار لايجتمعون على ظلالة ، تلك حقيقة واقعة ، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الاسلام لم يجتمعوا على شيء يخالف اجماع باقي الأمة ، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية .
3 ـ إذا نظرنا الى أهل البيت كأفرادٍ يتأسى بهم ، فمن يتأسى به منهم ونتمسّك بسيرته ، لابدّ أن يكون متمسّكاً بالكتاب والسنة ، فإنْ خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت . وكلّ إنسان يؤخذ بقوله ويرد الاّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
ولذلك فعند الخلاف نطبّق قول الله تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (1).
4 ـ لو كان ما ذكره الشريف من الفقه بلازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن ، فالأيام أثبتت بطلانه ، وإلاّ فمن الذي نؤمر باتباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال ؟
أيإحدى الفرق التي تنتسب لآل البيت ؟ أم بجميع الفرق ، وكل فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره ؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق ؟
فكيف اذن نؤمر بالتمسّك بمن لا نعرف ؟ .
5 ـ فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسّك بهم ، فالعطف على الصغير ورعاية اليتيم والآخذ بيد الجاهل ، غير الأخذ من العالم العابد
---------------------------
(1) سورة النساء | الآية 59 .
حديـــث الثقلـــين _ 134_
العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
أقول : هذا غاية « فقه » الدكتور . . .
ونحن نقول :
1 ـ هذا الحديث أحد الأدلّة على « المراد بأهل البيت » وقد ذكرنا كيفية دلالته على ضوء كلمات شرّاحه من العلماء والحفّاظ الاعلام : كالمنّاوي ، والقاري ، والخفاجي ، والسمهودي ، والسخاوي ، والمحدّث الدّهلوي ، والزّرقاني المالكي . . . وغيرهم .
2 ـ وأهل البيت لا يجتمعون على ضلالة ، وحتى الواحد منهم ـ الذين قرنهم بالكتاب ـ لا يخالف الكتاب فضلاً عن أن يجتمعوا على مخالفته ، فهم أقران الكتاب ، ومن خالفهم كان على ضلالة ، وكلّ إجماع لم يدخلوا فيه فهو ضلالة . . .
أمّا إجماعهم فحجّة ، وهم لا يجتمعون على ضلالة كما اعترف « الدكتور » ولا شك في أنّهم أجمعوا على ما أفاده حديث الثقلين من أنَّ علياً هو خليفة الرّسول والإمام من بعده بلا فصل . . .
3 ـ وهم كما أفاد حديث الثقلين ـ وغيره من الاحاديث الصحيحة ـ افراد يتأسّى بهم ويتمسّك ، والرّسول لا يأمر بالتمسّك بمن خالف الكتاب والسنة ولو مرّةً واحدة . . .
4 ـ وهم كما أفاد الحديث لا يفارقون الكتاب في زمنٍ من الأزمنة ، ففي كلّ عصرٍ يوجد الكتاب ويوجد من يكون أهلاً للتمسّك به منهم . . . وهذا العصر أيضاً كسائر العصور ، وعلى كلّ مسلمٍ يريد العمل بما قاله الله ورسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يعرف من يريد التمسّك به ، وقد قال رسول الله ـ في الحديث المتفق عليه بين المسلمين ـ : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية » (1).
---------------------------
(1) هو بهذا اللفظ في عدّةٍ من المصادر ، منها : شرح المقاصد 5|239 وله ألفاظ أخرى في المسند 4|96 ، سنن البيهقي 8|156 وغيرهما .
حديـــث الثقلـــين _ 135_
5 ـ وقد دلّ هذا الحديث على التمسّك بالعترة كوجوب التمسّك بالكتاب بلا فرق . . .
ومن المناسب أن نورد هنا كلام العلاّمة الاستاذ توفيق أبي علم في ( فقه الحديث ) فإنّه قال بعد الحديث :
« وقد يكون هذا صريحاً في خروج النساء من أهل البيت ، واختصاصه بعشيرته وعصبته ، وهو رأينا الذي انتهينا إليه في ختام هذا البحث . والله أعلم .
وحديث الثقلين من أوثق الأحاديث النبوية وأكثرها ذيوعاً ، وقد اهتم العلماء به اهتماماً بالغاً ، لأنه يحمل جانباً مهمّاً من جوانب العقيدة الإسلامية ، كما أنه من أظهر الأدلة التي تستند إليها الشيعة في حصر الإمامة في أهل البيت ، وفي عصمتهم من الأخطاء والأهواء . لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قرنهم بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه .
فلا يفترق أحدهما عن الآخر ، ومن الطبيعي أن صدور أيّة مخالفة لأحكام الدين تعتبر افتراقاً عن الكتاب العزيز ، وقد صرّح النبي بعدم افتراقهما حتى يردا على الحوض ، فدلالته على العصمة ظاهرة جليّة .
وقد كرّر النبي هذا الحديث في مواقف كثيرة ، لأنه يهدف إلى صيانة الأمة ، والمحافظة على استفامتها وعدم انحرافها في المجالات العقائدية وغيرها ، إنْ تمسّكت بأهل البيت ولم تتقدم عليهم ولم تتأخّر عنهم .
ولو كان الخطأ يقع منهم لما صحّ الأمر بالتمسّك بهم ، الذي هو عبارة عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجة .
حديـــث الثقلـــين _ 136_
وفي أن المتمسّك بهم ، الذي هو عبارة عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجة . وفي أن المتمسّك بهم لا يضل كما لا يضل المتمسّك بالقرآن .
ولو وقع منهم الذنب أو الخطأ لكان المتمسّك بهم يضل ، وان في اتباعهم الهدى والنور كما في القرآن ، ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتباعهم الضلال ، وفي أنهم حبل ممدود من السماء إلى الأرض كالقرآن ، وهو كناية عن أنهم واسطة بين الله تعالى وبين خلقه ، وأن أقوالهم عن الله تعالى ، ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك وفي أنّهم لن يفارقوا القرآن ولن يفارقهم مدّة عمر الدنيا ، ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم ، وفي عدم جواز مفارقتهم بتقدم عليهم بجعل نفسه إماماً لهم أو تقصيراً عنهم وائتمام بغيرهم ، كما لايجوز التقدم على القرآن بالافتاء بغير ما فيه ، أو التقصير عنه باتّباع أقوال مخالفيه ، وفي عدم جواز تعليمهم وردّ أقوالهم ، ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجب تعليمهم ولم ينه عن ردّ قولهم .
وقد دلّت هذه الأحاديث أيضاً على أنّ منهم من هذه صفته في كلّ عصر وزمان ، بدليل قوله ( صلّى الله عليه آله وسلّم ) : وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، وإنّ اللطيف الخبير أخبره بذلك .
وورود الحوض كناية عن انقضاء عمى الدنيا ، فلو خلا زمان من أحدهما لم يصدق أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض .
ويتخذ أنصار أن أهل البيت هم الائمة الاثنا عشر وأمّهم الزهراء هذا الحديث ، ليرجحوا رأيهم قائلين إنه لا يمكن أنْ يراد بأهل البيت جميع بني هاشم ، بل هو عن العام المخصوص بمن ثبت اختصاصهم بالفضل والعلم والزهد والعفة والنزاهة من أئمة أهل البيت الطاهرين ، وهم الأئمة الاثنا عشر ، وأمّهم الزهراء البتول .
حديـــث الثقلـــين _ 137_
ويدلّلون على ذلك بالاجماع على عدم عصمة من عداهم (1).
خلاصة البحث :
وخلاصة البحث أنّا لا نقول في (فقه الحديث ) إلاّ بما قاله علماء القوم أنفسهم في شروحهم ، وقد قرأت كلماتهم ، وتلك كتبهم موجودة متوفّرة . . .
إنّ هذا الحديث يدل دلالة صريحة على امامة ( العترة أهل البيت ) وخلافتهم بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأن على الأمة أن تتمسّك بهم وتتعلّم منهم وترجع اليهم ولا تتقدّم عليهم . . .
أمّا ما وقع بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . . . فذاك أمر أخر . . . وعلى علماء الأمّة أن يذكروا الدليل عليه والمبرّر له . . . لتكون الأمة على بصيرةً من أمرها ، وليكون عذراً لها عند ما يردون على الرسول « الحوض » فيسألهم : « كيف خلفتموني فيهما » !!
كلامه في ختام القول :
يقول « الدكتور » :
« وفي ختام القول عن فقه الحديث أذكر هنا ما ذهب اليه بعض المسلمين من أن الحديث يدل على إمامة أفرادٍ معيّنين من أهل البيت ، تجب طاعتهم والأخذ عنهم ، وأنّ أول هؤلاء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وأنّه هو وصي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
وهذا القول جد خطير ، فإنه يؤدي إلى اتّهام الصحابة الكرام ، خير أمّة أخرجت للناس ، بأنّهم خالفوا وصيّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وإلى عدم شرعية خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وإلى هدم أركان رئيسة في الاسلام .
---------------------------
(1) أهل البيت : 77 ـ 80 .
حديـــث الثقلـــين _ 138_
غير أننا هنا لا نحب أن نخوض في هذا الموضوع ، فالبحث لا يتّسع لمثله ، وإنما نقول في فقه هذا الحديث بأنّ ما ذهب إليه هؤلاء القوم مردود مرفوض ، لأن الحديث ليس بصحيح ولا صريح ، ومعارض بالصحيح والصريح .
ومن الأحاديث الصريحة الصحيحة ما يأتي » .
ثم ذكر أحاديث عن البخاري ومسلم ومسند أحمد .
أقول :
أولاً : « بعض المسلمين » يعتقدون بإمامة أفراد معينّين من أهل البيت عليهم السلام ، أولهم : علي بن أبي طالب ، وآخرهم : المهدي ، و« حديث الثقلين » أحد أدلّتهم على ماذهبوا إليه وقالوا به . . . وثانياً : القول بأنّ الحديث يدّل على إمامة هؤلاء الأفراد ووجوب إطاعتهم والاخذ عنهم . . . لايختص بـ « بعض المسلمين » ، بل كلّ من يتأمل في ( فقه الحديث ) قائل بهذا القول . . . وثالثاً : « حديث الثقلين » هو وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمّته ، وقد نصَّ على هذا المعنى غير واحدٍ من كبار العلماء ، وعلى الأمّة جمعاء العمل بهذه الوصيّة بلا ريب وإنّهم مسئولون عنها . رابعاً : هذا القول يؤدّي إلى اتهام الصّحابة . . . هذا صحيح . . . ولكنّ « الدكتور » قال : « وكلّ إنسان يؤخذ من قوله ويرد الاّ رسول الله . . . » . خامساً : هذا القول يؤدي إلى عدم شرعيّة خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة . . . هذا صحيح . . . ولكن هل يرى « الدكتور » كونهم من ( أهل البيت ) الذين أمر النبي في حقّهم في هذا الحديث ونحوه بما أمر حتى تكون خلافتهم شرعيّة ؟ .
حديـــث الثقلـــين _ 139_
إذا كان عدم شرعيّة خلافة الثلاثة هو المدلول الواضح لهذا الحديث وغيره من الأحاديث المعتبرة فما ذنب أصحاب هذا القول ؟ .
النظر فيما زعم معارضته لحديث الثقلين : سادساً : الأحاديث التي ذكرها عن البخاري ومسلم وأحمد وزعم كونها صريحة وصحيحة ، لا تصلح للمعارضة لما يأتي :
1 ـ إن « بعض المسلمين » الذين يقولون بإمامة الأفراد المعيّنين لا يرون هذه الأحاديث صحيحةً وصريحة ، فلا يكونون ملزمين بقبولها حتى تتم المعارضة .
2 ـ إنّ الحديث المتفق عليه بين المسلمين جميعهم لا يعارض بما ورد عن بعضهم ، حتى لو كان صحيحاً وصريحاً .
3 ـ إنّ الأحاديث التي ذكرها « الدكتور » هي في الأغلب عن : عائشة وحفصة وعبدالله بن عمر . . . وقول هؤلاء ـ لاسيّما في مثل هذا المقام ـ غير مسموع .
4 ـ إن كتابي البخاري ومسلم ـ وانْ سمّيا بالصحيحين ـ يشتملان على أحاديث باطلة كما لا يخفى على من راجع شروحهما ، وقد تقدمت الإشارة الى بعض تلك الاحاديث ، بل « الدكتور » نفسه لا يستبعد أن يكون حديث الثقلين المخرج في ( صحيح مسلم ) موضوعاً ! ! ، فكيف يستدل بأحاديث الكتابين ، والحال هذه ؟.
5 ـ إنّ ( مسند أحمد ) قد أصرّ « الدكتور » على عدم التزام أحمد بصحّة ما فيه ، بل قد وافق على ما نقله عن ابن حجر عن أحمد أنّه يتساهل في الفضائل ! ! . . . فكيف يستدل بروايات أحمد ولا سيّما في الفضائل ؟
حديـــث الثقلـــين _ 140_
6 ـ إنّ بعض الأحاديث التي احتجّ بها من موضوعات بعض النّواصب ، وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض المحققين من أهل السنة من المتقدّمين والمعاصرين ، كالدكتور أحمد محمد صبحي ، الذي نقل « الدكتور » كلامه وتحامل عليه ! ! .
7 ـ ولأجل أنْ نبرهن على سقوط الأحاديث التي أوردها ، وعلى عدم إنصاف « الدكتور » في بحثه ، ننظر في أسانيد عدّةٍ منها ، ونشير إلى مواضع الضّعف فيها باختصار .
والذي يهمّنا منها :
أ ـ ما دلّ أنّ علياً عليه السلام لم يعيّن أحداً لخلافته ، وهو روايتان نقلهما عن أحمد فقال : « وروى أحمد بسندٍ صحيح عن الامام علي رضي الله عنه أنه قال : لتخضبنَّ هذه من هذا . . .
وفي روايةٍ بسندٍ آخر أنّ الإمام قال : والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتخضبنّ هذه من هذه . . . ».
نقلهما عن أحمد واضاف : « وبالحاشية بيان الشيخ شاكر لصحّة الاسناد » .
أقول : لم يذكر سندي الحديثين ، ونصّ على صحة الأول ، وأشار الى تصحيح الشيخ شاكر ، ولم يوضّح هل الشيخ يصحّح كلا الحديثين أو الأول فقط ؟ ولم يصرّح برأيه هو في سند الثاني منهما ؟ ولا ندري هل تحقّق هو بنسفه صحّة ما صحّح أو قلَّد الشّيخ ؟
لكنه تكلَّم في الكتاب مع الشيخ شاكر الذي صحح سند حديث الثقلين وكأنّه أعلم منه وأفهم ! ( أنظر ص 22 ـ 23 ) كما تكلّم مع الشيخ الآخر ـ وهو الألباني ـ الذي صحّح حديث الثقلين وكأنّه أعلم منه وأفهم ! ( انظر ص 25 ـ 26 ) .
حديـــث الثقلـــين _ 141_
إذنْ ، لا يقصد « الدكتور » هنا من ذكر تصحيح الشيخ شاكر جعل المطلب على عهد ذاك الشّيخ ، فلماذا ذكر هذا ؟
لعلّ السبب في ذلك علمه بأن كلا الحديثين عن « عبدالله بن سبع » وهذا الرّجل لم يرو في الكتب الستّة عنه ولا رواية واحدة !! وأنّ في طريق كلا الخبرين هو « الأعمش » وهذا الرجل من رواة حديث الثقلين ، وقد طعن فيه « الدكتور» من قبل ! !
ب ـ ما دلَّ على أنّ الله سبحانه أبى والمؤمنون إلاّ أبا بكر .
قال « الدكتور » : « أخرج أحمد في مسنده هذا الحديث بسندٍ صحيح كسند مسلم ، وبسندين آخرين » .
أقول : وهنا لم يذكر شيئاً عن الشيخ شاكر ، وسكت عن تصحيح السندين الآخرين بصراحة ! !
وعندما نراجع مسند أحمد نرى السند الأول ( ج6 ص7 ) :
« ثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي ، عن ابن أبي ملكية ، عن عائشة » .
والسند الثاني ( ج6 ص106 ) :
« ثنا مؤمل قال : ثنا نافع يعني ابن عمر ، ثنا ابن أبي مليكة ، عن عائشة ».
والسند الثالث ( ج6|144 ) :
« ثنا يزيد أنا ابراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة » .
فهذه أسانيد هذا الحديث الذي جعل فضيلةً لأبي بكر ودليلاً على إمامته ، لكنّها تنتهي كلّها إلى عائشة ، فهي تروي هذا في حقّ أبيها ! ! وهي صاحبة المواقف المشهورة من علي أمير المؤمنين ! .
حديـــث الثقلـــين _ 142_
ثم انظر إلى من يرويه عنها !
فالراوي عنها في السّندين الأول والثاني هو : « ابن أبي ملكية التيّمي » من عشيرة أبي بكر وهو من مناوئي علي ، وكان قاضي عبدالله بن الزبير في مكّة وموّذنه .
والراوي عنها في السند الثالث هو « عروة بن الزبير » وهو من أشهر المنحرفين عن علي ، ومن أكبر مشيّدي سلطان بني أميّة . . .
والراوي عن « ابن أبي ملكية » في الأول هو « عبد الرحمن بن أبي بكر » وهو ابن أخيه . . . قال ابن معين : وقال النسائي : ليس بثقة ، قال أحمد : منكر الحديث ، وكذا نقل العقيلي عن البخاري ، وقال ابن سعد : له أحاديث ضعيفة ، وقال ابن عدي : لا يتابع في حديثه وقال ابن خراش : ضعيف الحديث ليس بشيء ، وقال البزار : ليّن الحديث ، وقال ابن حبان : ينفر عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات (1).
والرّاوي عنه في الثاني بواسطة نافع هو « مؤمّل بن اسماعيل » وهو مولى آل الخطّاب ! قال البخاري : منكر الحديث . وقال جماعة : كان كثير الغلط ، ونصَّ غير واحدٍ على أنه يجب على أهل العلم أنْ يقفوا عن حديثه ، فإنه يروي المناكير عن ثقات شيوخه ، وهذا أشدّ ، فلو كانت هذه المناكير عن الضّعفاء لكنّا نجعل له عذراً (2).
والراوي عن « عروة » في الثالث هو « الزهري » وهو من أشهر المبغضين لعلي والمشيدين لحكومة بني أميّة . . . كما لا يخفى على من راجع أحواله .
كلمة الختام
هذا تمام الكلام على ما ذكره « الدكتور » تحت عنوان ( فقه الحديث ) .
وختاماً أطرح سؤالاً أرجو من القراء الكرام أنْ يطالبوا « الدكتور » بالجواب عنه ، وهو :
إنه لو لم يكن هذا الحديث دالاً على وجوب إطاعة أفرادٍ معيّنين من أهل البيت ، الأمر الذي اعترف به كبار علماء قومك كما رأيت ، فلماذا أتعبت نفسك ـ وساعدك غيرك ـ في ردّه ، مع تحريف لكلام هذا وذاك ! وكتمٍ لحديث وإنكارٍ لآخر ، وجرحٍ لمنْ لا يجوز جرحه من الرّجال ، وتقليدٍ لمنْ لا يجوز تقليده ؟ ! .
و أسأل الله أنْ يوفّقنا جميعاً لأن نعرف الحق ونكون من أهله ونعمل من أجله ، وأنْ يعيذها من شر الشّيطان وأنْ نكون من خيله ورجله ، وأن يجعلنا فيمن يراقبه في كتابته وفعله وقوله ، فيبيّض وجهه اذا نشرت صحيفة عمله ، بجاه سيّدنا وحبيبنا محمد وآله .