تراجمه في كتب القوم :
1 ـ كونه من الخوارج . قال أبو العباس المبرّد في بحثٍ له حول الخوارج : « وكان عدّة من الفقهاء يُنسبون إليهم ، منهم عكرمة مولى ابن عباس ، وكان يقال ذلك في مالك بن أنس . ويروي الزبيريّون : ان مالك بن أنس كان يذكر عثمان وعلياً وطلحة والزبير فيقول : والله ما اقتتلوا إلاّ على الثريد الأعفر »(1).
ويشهد بذلك تركه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في ( الموطأ ) حتى أنّ هارون الرّشيد الذي حمل الناس على أخذ ( الموطأ ) تعجّب من ذلك (2). مع أنّه قد كذّب أناساً ثم أخرج عن بعضهم فيه ، مثل هشام بن عروة (3).
2 ـ كونه مدلّساً . ذكروا ذلك عنه في غير موضع . وقال الخطيب البغدادي في أخبار بعض المدلّسين : « يقال : إن ما رواه مالك بن أنس عن ثور بن زيد عن ابن عباس ، كان يرويه عن عكرمة عن ابن عباس ، وكان مالك يكره الرواية عن عكرمة ، فأسقط اسمه من الحديث وأرسله . وهذا لا يجوز ، وانْ كان مالك يرى الاحتجاج بالمراسيل ، لأنه قد علم أنّ الحديث عمّن ليس بحجة عنده » (4).
3 ـ إجتماعه بالأمراء وسكوته عن منكراتهم . قال عبدالله بن أحمد : « سمعت أبي يقول : كان ابن أبي ذئب ومالك يحضران عند الأمراء ، فيتكلّم ابن أبي ذئب ، يأمرهم وينهاهم ومالك ساكت . قال أبي : ابن أبي ذئب خير من مالك وأفضل » (5).
4 ـ كان يتغنّى بالآلات. حتّى ذكر ذلك أبو الفرج الاصبهاني في كتابه (6).
---------------------------
(1) الكامل 1|159 .
(2) تنوير الحوالك 1|7 .
(3) مقدمة فتح الباري 2|169 .
(4) الكفاية في علم الرواية : 365 .
(5) العلل ومعرفة الرجال 1|179 .
(6) الأغاني 2|75 . وانظر نهاية الارب 4|229 .
حديـــث الثقلـــين _ 53_
5 ـ تكلّم الأئمة فيه . ولهذه الأمور وغيرها تكلّم فيه الأئمة في زمانه . قال الخطيب : « عابه جماعة من أهل العلم في زمانه » (1). ثم ذكر : ابن أبي ذئب ، وعبد العزيز بن الماجشون ، وابن أبي حازم ، ومحمد بن اسحاق (2). وقال ابن عبد البر : « تكلّم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلامٍ فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره » (3). وتكلّم فيه ابراهيم بن سعد ـ وكان يدعو عليه ـ وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم ، وابن أبي يحيى (4). وثانياً :
لقد جاء في سيرة محمد بن اسحاق التي جمعها ابن هشام خطبة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حجة الوداع ، وممّا جاء في الخطبة قوله : « وقد تركت فيكم ما إنْ اعتصمتم به فلن تضلّوا أبداً أمراً بيّناً : كتاب الله وسنة نبيّه » (5).
أقول :
خطبة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع ، في سيرة ابن اسحاق التي جمعها ابن هشام ليس لها سند حتى ننظر فيه ، وإنما جاء في الكتاب المذكور : « خطبة الرسول في حجة الوداع : قال ابن اسحاق : ثم مضى رسول الله ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ على حجّه ... وخطب الناس خطبته التي بيّن فيها ما بيّن ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيّها الناس ! إسمعوا قولي ... » هذا أولاً . وثانياً : إن محمد بن اسحاق من رواة حديث الثقلين مع التصريح بصحّته
---------------------------
(1) تاريخ بغداد 10|223 .
(2) تاريخ بغداد 10|224 .
(3) جامع بيان العلم 2|157 .
(4) جامع بيان العلم 2|158 .
(5) سيرة ابن هشام 4|603 .
حديـــث الثقلـــين _ 54_
قال ابن منظور في ( لسان العرب ) ما نصّه : « وقال الأزهري ـ رحمه الله ـ وفي حديث زيد بن ثابت قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ : إني تارك فيكم ثقلين خلفي ، كتاب الله وعترتي ، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض .
وقال : قال محمد بن اسحاق : هذا حديث صحيح ، ورفعه عن زيد بن أرقم وأبي سعيد الخدري ، وفي بعضها : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فجعل العترة أهل البيت » (1).
ثالثاً : ابن اسحاق أيضاً مقدوح عند جماعةٍ من أعلام القوم ، فقد رمي بالتدليس ، وبالقدر ، وبالتشيع ، وقال غير واحدٍ منهم مثل : سليمان التيمي ، ويحيى القطّان ، ووهب بن خالد ، ومالك بن أنس ، وغيرهم : « كذّاب » .
وإنْ شئت التفصيل فراجع ما ذكره الحافظ ابن سيد الناس المتوفى 734 في مقدّمة سيرته ( عيون الأثر ) . ثالثاً :
جاء في ( فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ) رواية عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه خطب في حجة الوداع فقال : « تركت فيكم شيئين لن تضلّوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض »(2).
وقد أورد « الدكتور » هذا الحديث من دون أن يشير الى مصدره ـ وهو المستدرك ـ وينظر في سنده !
وهذا سند الحديث : « أخبرنا أبو بكر ابن اسحاق الفقيه ، أنبأ محمد بن عيسى بن السكن الواسطي ، ثنا داود بن عمرو الضبي ، ثنا صالح بن موسى الطلحي .
---------------------------
(1) لسان العرب 4|538 .
(2) فيض القدير 3|240 . حديـــث الثقلـــين _ 55_
عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة ... »(1).
وفيه : صالح بن موسى الطلحي الكوفي . قال ابن حجر العسقلاني :
قال ابن معين : ليس بشيء .
وقال أيضاً : صالح واسحاق ابنا موسى : ليسا بشيء ولا يكتب حديثهما .
وقال هاشم بن مرثد عن ابن معين : ليس بثقة .
وقال الجوزجاني : ضعيف الحديث على حسنه .
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : ضعيف الحديث جدّاً كثير المناكير عن الثقات ؛
قلت : يكتب حديثه ؟ قال : ليس يعجبني حديثه .
وقال البخاري : منكر الحديث عن سهيل بن أبي صالح .
وقال النسائي : لا يكتب حديثه ، ضعيف .
وقال في موضع آخر : متروك الحديث .
وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد وهو عندي ممّن لا يتعمّد الكذب ، وليس يشبه عليه ، ويخطئ ، وأكثر ما يرويه عن جدّه من الفضائل ما لا يتابعه عليه أحد .
وقال الترمذي : تكلّم فيه بعض أهل العلم .
وقال عبدالله بن أحمد : سألت أبي عنه فقال : ما أدري ، كأنه لم يرضه .
وقال العقيلي : لا يتابع على شيء من حديثه .
وقال ابن حبان : كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات حتى يشهد المستمع لها أنّها معمولة أو مقلوبة ، لا يجوز الاحتجاج به .
وقال أبو نعيم : متروك ، يروي المناكير » (2).
كلامه في مقدمة البحث
وإذْ عرفت في الفصول السابقة موجز الكلام حول تواتر حديث الثقلين فضلاً عن صحته ، بعد أنْ وقفت على طائفةٍ من ألفاظه المعتبرة المشتملة على الأمر بالتمسّك بالكتاب والعترة ، والتأكيد على أنّ الأمة لن تضلّ ما دامت متمسّكةً بهما ومنقادةً لهما وآخذةً عنهما ، والتأكيد على أنهما لن يفترقا حتى يردا الحوض . . .
اذا عرفت ذلك . . . فلننظر فيما ذكره الدكتور السّالوس في بحثه حول هذا الحديث الشريف وفقهه . . .
وقد جعل الدكتور بحثه في فصلين : « الفصل الأول : الروايات من كتب السُنّة » وهذا الفصل يبدأ من الصفحة رقم ـ 9 ـ الى الصفحة ـ 33 ـ . ثم « الفصل الثاني : فقه الحديث » من الصفحة ( 34 ) إلى الصفحة ( 40 ) .
وقد ذكر قبل الفصل الأول :
« الحديث ومنهج الدراسة » جاء فيه :
« يطلق الثقلان على الجن والإنس ، قال تعالى في سورة الرحمن ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) .
غير أنّ هذا المعنى ليس المراد هنا ، وإنّما المراد : القرآن الكريم وعترة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله (1). وسلّم ) والثقلان مثنّى ثقل ـ بفتحتين ـ أي : الشيء النفيس الخطير .
والمقصود بحديث الثقلين : ما يروى عن الرسول ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) أنه ترك بعده كتاب الله المجيد وأهل بيته الأطهار .
قال الإمام النووي : قال العلماء : سمّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما . وقيل : لثقل العمل بهما والحديث اختلفت أسانيده وتنوّعت متونه » .
---------------------------
(1) نضيف في كلّ موردٍ من موادر الصّلوة والتسليم [ وآله ] عطفاً على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنّ النبي هو أمرنا بذلك في الأحاديث المتفق عليها ، لكن بعض من ينتسب إلى السنّة ويجعل نفسه من أهلها يلتزم بمخالفة هذه السنّة الثابتة عنه لدى الفريقين !
حديـــث الثقلـــين _ 57_
أقول :
سنتكلّم عن المراد بالثقلين ، وعن معنى هذه الكلمة ، في الباب الثاني حيث نبحث عن « فقه الحديث » .
وليس المقصود بحديث الثقلين « ما يروى عن الرّسول » !! وإنما هو حديث مقطوع بصدوره عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، رواه عنه من أصحابه من عرفت ، ورواه عنهم التابعون ، ثم رواه الأئمة والحفّاظ في مختلف القرون ، كما عرفت أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد كرّر هذا الكلام مرّةً بعد أخرى ، لا سيّما في أواخر حياته الكريمة ، وفي زمنٍ قصير ، إذْ لم يكن بين موقفه في يوم عرفة وبين وفاته ثلاثة اشهر . . . وسيأتي مزيد بيان لهذا في « فقه الحديث » .
وأمّا قوله : « والحديث اختلفت أسانيده وتنوّعت متونه » فاعتراف بالحقيقة ، فأسانيده كثيرة جداً ، ومتونه المتنوّعة يجمعها الوصيّة بالكتاب والعترة ووجوب اتّباعهما وامتثال أوامرهما ونواهيهما . . . كما ستعرف ذلك .
قال :
« وصدر في القاهرة مؤخَّراً كتاب عنوانه حديث الثقلين ، ذكر مؤلف الكتاب أنه ينقل الأخبار الصحيحة الموقوفة المنسوبة إلى أصحابها ورواتها ونشرت الكتاب جهة علميّة أيّدت قول المؤلّف نظرت في الكتاب فوجدته . . . » .
أقول :
هذا الكتاب الصادر في القاهرة بالعنوان المذكور ، إنما ألّف في سنة
حديـــث الثقلـــين _ 58_
( 1370 ) ونشر في القاهرة في سنة ( 1374 ) أي قبل أن ينشر ( الدكتور ) كتابه بأكثر من ( 30 ) سنة ، فهل يعبّر عن هذا الزّمان بـ « مؤخَّراً » ؟ ! .
ثم لماذا لم يذكر « الجهة العلميّة » التي نشرت الكتاب وأيّدته ؟
وإذا كان « الدكتور » يحاول كتم اسم « الجهة العلميّة » التي أيّدت قول مؤلف كتاب ( حديث الثقلين ) المطبوع الموجود بين أيدي الناس ، فما ظنّك به في المسائل العلميّة ، والقضايا الدقيقة ؟ .
نعم ، هذا الكتاب ألّفة العلاّمة الشيخ قوام الدين الوشنوي ، ونشرته وأيّدته ( دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ) في القاهرة ، والعلماء الأعلام أصحاب مجلّة ( رسالة الإسلام ) . . .
يقول الدكتور :
« رأيت أنْ أتتبع روايات هذا الحديث الشريف في كتب السنّة قدر الاستطاعة ، وأجمع كلّ الروايات » .
لكنّه لم يتطرّق إلاّ لرواياته في ( صحيح مسلم ) و ( مسند أحمد ) و ( صحيح الترمذي ) و ( المستدرك على الصحيحين ) مع وجوده في عشرات الكتب غيرها . . . وهذا ليس ببعيد ممّن يكتم إسم « الجهة العلمية » التي اعترفت بالحق !! أللهم إلاّ أنْ يكون لقصر باعه الذي عبّر عنه بـ « قدر الاستطاعة » !! .
كلامه في الفصل الأوّل : الروايات من كتب السنّة
وقبل الورود في البحث نشير إلى أنّ عنوان الفصل الأول من كتابه وهو « الروايات من كتب السنّة » يوهم أنْ ليس لحديث الثقلين ذكر الاّ في الكتب التي ذكرها ، وهذا مخالف للواقع كما نبهّنا عليه من قبل . فإنْ أراد من كلمة « من » في
حديـــث الثقلـــين _ 59_
العنوان أنّ ما ذكر بعض روايات كتب السنة لا كلّها ، فقد اعترفت بالحقيقة ، وأنّه لم يتتّبع روايات هذا الحديث في كتب السنّة . . . !!
ثم إنّه ذكر :
« أولاً ـ الموطأ ، لا نجد في موطأ الإمام مالك ذكراً للثقلين . . .
ثانياً : ذكر الكتاب والسنّة في غير الموطّأ . . . » .
لكنه يعلم جيّداً : أنّ الكلاٍم ليس في وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالكتاب والسنّة . . . ولذا يقول ـ بعد ذكر ما اراد ذكره ـ « ولسنا في حاجةٍ إلى أن نطيل الوقوف هنا ، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسّك والإعتصام بالقرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة » .
فما الغرض من ذكر هذه الأحاديث مع هذا الإعتراف ؟.
إنْ وجوب التمسّك والإعتصام بالقرآن والسنّة لا خلاف فيه بين المسلمين ، كما لا خلاف بينهم في أنّ ما دَّل على هذا المعنى لا يعارض ما يدل على وجوب التمسّك والاعتصام بالقرآن والعترة ، بل إنّ كلاً منهما مفسّر للآخر ومؤيّد له . . . فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمر بالتمسّك بالقرآن والسنّة ، لكنْ لا بالسنّة التي يأتي بها أبو هريرة وأمثاله من الكذّابين عليه في حياته وبعد وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل بالسنّة التي ينقلها العترة الطاهرة وأتباعهم الذين لا خلاف بين المسلمين في وجوب قبول ما رووه عنه . . .
لكنّا نعترض على « الدكتور » بأنّ الاحاديث التي أوردها لا أساس لها من الصحّة ، فحديث ( الموطأ ) لا سند له ، وكذا ما جاء في ( سيرة ابن هشام ) ، وما نقله عن ( فيض القدير ) عن أبي هريرة ضعيف جدّاً ، وهو عن ( مستدرك الحاكم ) الذي سيطعن « الدكتور » فيه وفي مولفة نقلاً عن ( لسان الميزان ) ! ! ولعلّه لذا نسب الحديث هنا إلى ( فيض القدير ) دون ( المستدرك ) ! !
حديـــث الثقلـــين _ 60_
هذا ، وقد تكلَّمنا على كلّ هذا في أحد الفصول الماضية تحت عنوان ( حديث الثقلين والمحاولات السقيمة ) .
البخاري وحديث الثقلين :
يقول « الدكتور » : « ثالثاً : الصحيحان : لم يرد في صحيح البخاري ذكر لحديث الثقلين ، إلاّ ما أشرنا إليه من قبل من أن الإمام البخاري جعل من كتب صحيحه : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة » .
لكنْ ما المقصود من هذا الكلام ؟ فسواء جعل البخاري ذلك من كتب كتابه أو لم يجعل ، فالاعتصام بالكتاب والسنة لا خلاف فيه بين المسلمين . . . ولكنْ إذا كان إعراض البخاري عن حديث التمسّك بالكتاب والعترة موهناً له فقد أعرض عن حديث الثقلين الوارد في الموطّأ !
لكن حديث الموطأ لا سند له ، وإعراض البخاري أو غيره عن حديث لا يوهنه إذا كان له طريق صحيح ، وقد نصَّ غير غير واحدٍ من الأئمة على أنّه ليس كلّ ما ليس في الصحيحين بمردود ، وهذه عبارة الإمام النووي ـ كما وصفه « الدكتور » لدى النقل عنه ـ في الدفاع عن الصحيحين : « فإنّهما لم يلتزما استيعاب الصحيح ، بل صحَّ عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه ، وإنما قصدا جمع جملٍ من الصحيح ، كما يقصد المصنّف في الفقه جمع جملةٍ من مسائله » (1).
وقال ابن القيّم في حديث أبي الصهباء الذي انفرد به مسلم : « وما ضرَّ ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئاً ، ثم هل تقبلون أنتم أو أحد مثل هذا في كلّ حديثٍ ينفرد به مسلم عن البخاري ؟ وهل قال البخاري قط : إن كلّ حديثٍ لم ادخله في كتابي فهو باطل أو ليس بحجةٍ او ضعيف ؟ وكم قد احتجّ البخاري بأحاديث خارج الصحيح وليس لها ذكر في صحيحه ؟ وكم صحّح من حديثٍ خارج عن صحيحه ؟ »(2).
---------------------------
(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1|37 .
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 4|60 .
حديـــث الثقلـــين _ 61_
بل أنّهم طعنوا في كثيرٍ من الأحاديث التي أخرجها وحكم بصحتّها ، كما تقدَّم في المقدمة .
على أنّه لو أخرج البخاري حديث التمسّك بالكتاب والعترة في كتابه المعروف بالصحيح لكان من الممكن أن يقدح « الدكتور » في سنده !! كما فعل بالنسبة إلى سند رواية مسلم له في كتابه الذي قدَّمه غير واحدٍ من أكابر القوم على كتاب البخاري !
ثم إنَّ البخاري وانْ لم يخرج هذا الحديث الشريف في كتابه المعروف بالصحيح فقد أشار إليه في تاريخه الكبير حيث عنون « حذيفة » فقال :
« حذيفة بن اسيد أبو سريحة الغفاري ، قال سعيد بن سليمان : حدثنا زيد ابن الحسن الكوفي قال : حدثنا معروف بن خربوذ قال : حدثنا أبو الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إنكم واردون عليّ الحوض .
نزل الكوفة » (1).
رواية مسلم بن الحجاج النيسابوري :
ثم يقول « الدكتور » :
اما الإمام مسلم فقد ذكر أربع روايات لهذا الحديث الشريف ، نثبتها هنا كما جاءت في صحيحه ، وكلّها عن زيد بن أرقم ، في باب فضائل علي بن أبي طالب .
---------------------------
(1) التاريخ الكبير 3|96 .
حديـــث الثقلـــين _ 62_
كتاب فضائل الصّحابة ، رضي الله عنهم
والرّوايات هي :
1 ـ حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلّد جميعاً عن ابن علّية . قال زهير : حدثنا اسماعيل بن ابراهيم ، حدثني أبو حيّان ، حدثني يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلّما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه . لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سنّي ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت اُعي من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
فما حدّثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه . ثم قال : قام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خمّاً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثم قال : أما بعد ، ألا أيّها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أنْ يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به . فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه . ثم قال : وأهل بيتي . أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي . فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكنْ أهل بيته من حرم الصّدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . قال : كلّ هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم .
2 ـ وحدثنا محمد بن بكّار بن الريّان ، حدثنا حسّان ( يعني ابن ابراهيم ) عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم ، عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
وساق الحديث بنحوه ، بمعنى حديث زهير .
3 ـ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل ، وحدثنا إسحاق ابن ابراهيم أخبرنا جرير ، كلاهما عن أبي حيان ، بهذا الإسناد ، نحو حديث اسماعيل .
وزاد في حديث جرير : كتاب الله فيه الهدى والنور ، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ، ومن أخطأه ضل .
حديـــث الثقلـــين _ 62_
4 ـ حدثنا محمد بن بكار الريّان ، حدثنا حسان ( يعني ابن ابراهيم ) عن سعيد ( وهو ابن مسروق ) عن يزيد بن حيّان ، عن زيد بن أرقم قال : دخلنا عليه فقلنا له : لقد رأيت خيراً ، لقد صاحبت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وصلّيت خلفه . وساق الحديث بنحو حديث أبي حيّان ، غير أنه قال : ألا وإني تارك فيكم ثقلين ، أحدهما : كتاب الله عزّوجلّ ، وهو حبل الله ، من اتبعه كان على هدى ومن تركه كان على ضلالة .
وفيه : فقلنا : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثم يطلّقها ، فترجع إلى أبيها وقومها . أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده » .
أقول :
ذكر نصوص روايات مسلم ، ولم يتكلّم هنا بشيءٍ حول أسانيدها .
ثم قال :
« رابعاً : مسند الامام أحمد وروايته عن زيد بن أرقم : ذكر الامام أحمد في مسنده سبع روايات لحديث الثقلين ، احداها عن زيد بن أرقم ، وهي تتفّق مع ما رواه الامام مسلم . . . » .
فذكر رواية أحمد المتفقة مع ما رواه مسلم . . .
وبالنسبة الى أسانيد هذه الروايات قال : « رأينا فيما سبق ما رواه الامامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وهذا لا خلاف حول صحّته » لكنّه ـ مع ذلك ـ
حديـــث الثقلـــين _ 63_
ينسب إلى ابن الجوزي القول بأنّ الحديث من الأحاديث الموضوعة ، ثمّ يتفضّل فيقول : « وإنْ كانت الروايات في جملتها كما يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع » (1).
أقول : صارت زحمة (2). ! !
وسيتبّين لك حقيقة الأمر . . . فانتظر . . .
رواية أحمد بن حنبل :
ثم قال : « خامساً : باقي روايات الثقلين في المسند وغيره :
بالبحث في كتب السنّة نجد روايتين في سنن الترمذي تتّفقان مع روايات مسند الامام أحمد الستة ، التي أشرنا إليها من قبل ، وتذكر هنا الروايات الثمانية ، ثم نتحدّث عنها . روايات المسند هي :
1 ـ حدثنا عبدالله ، حدثني أبي ، حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ـ يعني اسماعيل بن أبي إسحاق الملائي ـ عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » 3|14 .
2 ـ حدثنا عبدالله ، حدثني أبي ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد ـ يعني ابن طلحة ـ عن الأعمش ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله عزّوجلّ ، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي .
---------------------------
(1) أنظر : 24 .
(2) مثل عراقي ، يضربُ لمن يدلي بشيءٍ من الحق ـ لا كلّه ـ ويجعل نفسه متفضّلاً !!
حديـــث الثقلـــين _ 64_
وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروني بم تخلفوني فيهما ؟ » 3|17 .
3 ـ حدثنا عبدالله ، حدثني أبي ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبد الملك ـ يعني ابن أبي سليمان ـ عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : إني قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله عزّوجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » 3|26 .
4 ـ حدثنا عبدالله ، حدثني أبي ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني قد تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لنْ تضلّوا بعدي : الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لنْ يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » 3|59 .
5 ـ حدثنا عبدالله ، حدثني أبي ، ثنا الأسود بن عامر ، ثنا شريك ، عن الركين ، عن القاسم بن حسّان ، عن زيد بن ثابت ، قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ـ أو ما بين السماء الى الأرض ـ وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » 5|181 ـ 182 .
6 ـ حدثنا عبدالله ، حدثني أبي ، ثنا أبو أحمد الزبيري ، ثنا شريك عن الركين ، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله وأهل بيتي . وانهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض جميعاً » 5|189 ـ 190 .
والترمذي أخرج روايتين ، هما :
حديـــث الثقلـــين _ 65_
1 ـ حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن ـ هو الأنماطي ـ عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبدالله قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء ـ يخطب ، فسمعته يقول : يا أيها الناس ، قد تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . ( حسن غريب ) .
2 ـ حدثنا علي بن المنذر كوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، قال : حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنهما ـ قالا : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ( حسن غريب ) » .
أقول : هنا مؤاخذات :
أوّلاً : روايات المسند أكثر ممّا ذكر :
لقد نصّ « الدكتور » على أنه : « ذكر الامام أحمد في مسنده سبع روايات لحديث الثقلين ، إحداها عن زيد بن أرقم » .
لكنّ الموجود في المسند أكثر . . . فمن رواياته الرواية الآتية وهي عن زيد بن أرقم ، وهذا نصّها :
« حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، ثنا أسود بن عامر ، ثنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن علي بن ربيعة ، قال : لقيت زيد بن أرقم ، وهو داخل على المختار أو خارج من عنده ـ فقلت له : أسمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
حديـــث الثقلـــين _ 66_
قول : إني تارك فيكم الثقلين ؟ قال : نعم » (1).
وأخرجه أحمد في كتابه الآخر ( فضائل الصحابة ) ط | جامعة أُم القُرى ، ونصّ محققه على صحّته .
لكنّ : « الدكتور » أسقطه من الحساب ! ! لماذا ؟ إنّ هذه الرواية من أقوى روايات حديث الثقلين سنداً ودلالةً ، فلا مناص من كتمه ! !
وكما كتم ذكر رواية علي بن ربيعة هذه عن زيد ، وهي في مسند أحمد ، كذلك كتم ذكر رواية يحيى بن جعدة عنه ، وهي في مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين ، عند الحاكم والذهبي ، كما سترى . . .
وثانياً : عدم ذكر صحيح الترمذي بالاستقلال :
ثم لماذا لم يذكر صحيح الترمذي ولم يعنونه بالاستقلال :
إنّ الغرض من ذلك هو التمهيد للطّعن في أسانيده !!
لقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر ـ في مقدّمة شرحه وتحقيقه لكتاب الترمذي ـ ترجمةً وافيةً له وتعريفاً بكتابه ، نقلاً عن كبار العلماء السّابقين ، حتى ذكر عن بعضهم التصريح بأنّ كتاب الترمذي أنفع من كتابي البخاري ومسلم ، وعن آخر أنه قال بعد ذكر الموطأ وكتابي البخاري ومسلم : ليس فيهم مثل كتاب أبي عيسى . . .
فإنْ شئت الوقوف على ذلك فارجع إليه .
وثالثاً : التحريف في كلام الترمذي :
وكما لم ينوّه بشأن كتاب الترمذي كذلك عمد إلى تحريفه ، للغرض المذكور . . . ولأجل أن يتبيّن واقع الأمر ننقل نصّ ما ذكره الترمذي :
« حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن ، هو الأنماطي ـ
---------------------------
(1) مسند أحمد 4|371 .
حديـــث الثقلـــين _ 67_
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال : رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي .
قال : وفي الباب عن : أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد .
قال : وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .
قال : وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحدٍ من أهل العلم » (1).
« حدثنا علي بن المنذر ، كوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، قال : حدثنا الأعمش ، عن عطية عن أبي سعيد ، والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنهما ـ قالا :
قال رسول الله ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : إني تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض . فانظروا كيف تخلفوني فيهما .
وقال : هذا حديث حسن غريب » (2).
النّظر في مناقشة الروايات المذكورة :
يقول « الدكتور » بعد ايراد الرّوايات الثّمانية عن مسند أحمد والترمذي :
---------------------------
(1) صحيح الترمذي 5|621 .
(2) صحيح الترمذي 5|622 .
حديـــث الثقلـــين _ 68_
« هذه هي بقيّة روايات حديث الثقلين ، وبالنظر فيها نجد ما يأتي :
1 ـ عن أبي سعيد الخدري خمس روايات ، الأربع الأولى من المسند والثانية من سنن الترمذي ، وهذه الروايات كلّها يرويها : عطية عن أبي سعيد .
وعطيّة هو : عطية بن سعد بن جنادة العوفي ، والإمام أحمد نفسه ـ صاحب المسند ـ تحدّث عن عطيّة وعن روايته عن أبي سعيد فقال : بأنّه ضعيف الحديث ، وأن الثوري وهشيماً كانا يضعّفان حديثه ، وقال : بلغني أنّ عطيّة كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير وكان يكنّيه بأبي سعيد فيقول : قال أبو سعيد ، فيوهم أنه الخدري . وقال ابن حبان : سمع عطيّة من أبي سعيد الخدري أحاديث ، فلما مات جعل يجالس الكلبي ، فإذا قال الكلبي : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كذا ، فيحفظه ، وكنّاه أبا سعيد وروى عنه ، فإذا قيل له : من حدّثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد ، فيتوهّمون أنه يريد أبا سعيد الخدري ، وإنما أراد الكلبي . قال : لا يحل كتب حديثه الاّ على التعجب . وقال البخاري في حديثٍ رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير . وقال أيضاً : كان هشيم يتكلّم فيه . ولقد ضعّفه النسائي أيضاً في الضعفاء ، وكذلك أبو حاتم . ومع هذا كلّه : وثقه ابن سعد فقال : كان ثقة إنْ شاء الله وله أحاديث صالحة ، ومن الناس من لا يحتج به ، وسئل يحيى بن معين : كيف حديث عطية ؟ قال : صالح (1).
وما ذكره ابن سعد وابن معين لا يثبت أمام ما ذكر من قبل » .
ترجمة عطيّة العوفي :
أقول :
الطّعن في « عطيّة العوفي » عجيب جدّاً ، لأنّه إنْ كان المطلوب كون الرّجل مجمعاً على وثاقته حتى تقبل روايته ، فلا اجماع على عطيّة ، بل لا اجماع حتى على البخاري وأمثاله كما ذكرنا في المقدّمة . . . إذنْ ، لا بدَّ من التحقيق والنّظر الدقيق ، لنعرف من روى عن عطية واعتمد عليه ، ولنفهم السبب في طعن من طعن فيه . . .
---------------------------
(1) أنظر : ترجمته في : تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال .
حديـــث الثقلـــين _ 69_
لقد أمر « الدكتور » بالرجوع إلى ( تهذيب التهذيب ) و ( ميزان الاعتدال ) ، وعندما نرجع إلى الأول منهما وهو أجمع الكتب الرجاليّة للأقوال (1).
نجد : 1 ـ عطيّة من التابعين :
انه يروي عن : أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وابن عمر ، وزيد بن أرقم .
وقد رويتم في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال : « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم » (2).
وفي ( معرفة علوم الحديث ) : « النوع الرابع عشر من هذا العلم معرفة التابعين ، وهذا نوع يشتمل على علومٍ كثيرة ، فإنهم على طبقاتٍ في الترتيب ، ومهما غفل الإنسان عن هذا العلم لم يفرّق بين الصحابة والتابعين ، ثم لم يفرّق أيضاً بين التابعين وأتباع التابعين . قال الله عزّوجل : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان ( رضي الله عنهم ) ورضوا عنه وأعدّ لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) . وقد ذكرهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) . . . فخير الناس قرناً بعد الصحابة من شافه أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وحفظ عنهم الدين والسنن ، وهم قد شهدوا والوحي والتنزيل . . . » (3). 2 ـ عطيّة من رجال البخاري في الأدب المفرد :
والبخاري وانْ لم يخرج عن عطيّة في كتابه المعروف بالصحيح ، أخرج عنه في كتابه الآخر ( الأدب المفرد ) . . . وهذا الكتاب وانْ لم يلتزم فيه بالصحّة لكنْ من البعيد أن يخرج فيه عمّن يراه من الكذّابين ! !
---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 7|200 .
(2) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم . جامع الاصول 9|404 .
(3) معرفة علوم الحديث : 41 .
حديـــث الثقلـــين _ 70_
3 ـ عطيّة من رجال أبي داود :
وأبو داود السجستاني أخرج عنه في كتابه الذي جعلوه من الصّحاح الستة ، وقال الامام الحافظ إبراهيم الحربي لمّا صنف أبو داود كتابه : « ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد » نقله قاضي القضاة ابن خلّكان (1).
وفي المرقاة في شرح المشكاة : « قال الخطابي شارحه : لم يصنّف في علم الدين مثله ، وهو أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من الصحيحين . وقال أبو داود : ما ذكرت فيه حديثاً أجمع الناس على تركه . وقال ابن الأعرابي : من عنده القرآن وكتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم ألبتة. وقال الناجي : كتاب الله أصل الاسلام وكتاب أبي داود عيد الاسلام ، ومن ثمَّ صرّح حجة الاسلام الغزالي باكتفاء المجتهد به في الأحاديث ، وتبعه أئمة الشافعيّة على ذلك » (2).
فهذا طرف من كلمات القوم في وصف كتاب أبي داود الذي أخرج فيه عن عطية العوفي . 4 ـ عطيّة من رجال الترمذي :
والترمذي أيضاً أخرج عن عطيّة في كتابه المعدود من الصحاح الستّة عندهم ، والذي حكوا عنه أنه قال : « صنّفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به ، وعرضته على علماء العراق فرضوا به ، وعرضته على علماء خراسان فرفضوا به ، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلّم » (3).
---------------------------
(1) وفيات الأعيان 2|138 .
(2) المرقاة في شرح المشكاة 1|22 .
(3) اُنظر مقدّمة الشيخ أحمد محمد شاكر لصحيح الترمذي .
حديـــث الثقلـــين _ 71_
5 ـ عطيّة من رجال ابن ماجة :
وابن ماجة القزويني أيضاً أخرج عن عطية في كتابه الذي نصَّ ابن خلكان على كونه أحد الصحاح الستة (1). وقد نقل عن ابن ماجة قوله : « عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه وقال : أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع أو أكثرها . ثم قال : لعلّه لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً ممّا في إسناده ضعف » (2). 6 ـ عطيّة من رجال أحمد في المسند :
وأحمد بن حنبل أخرج عنه فأكثر ، ومن ذلك روايات حديث الثقلين ، ولا بدَّ من البحث هنا في جهاتٍ :
الأولى : في رأي أحمد في مسنده وأنه هل شرط الصحيح أولا ؟
والثانية : في رأي العلماء في مسند أحمد .
والثالثة : في رأي أحمد في عطية .
أما رأيه في عطية فسنتكلّم عليه عندما نتعرض لطعن من طعن فيه .
رأي أحمد في المسند :
أمّا رأي أحمد بن حنبل في مسنده فقد ذكر الحافظ السيوطي عن بعض
---------------------------
(1) وفيات الأعيان 3|407 .
(2) تذكرة الحفاظ 2|189 .
حديـــث الثقلـــين _ 72_
العلماء :
أن أحمد شرط في مسنده الصحيح (1). وذكر قاضي القضاة السبكي بترجمة أحمد من ( طبقاته ) عن عبدالله بن أحمد قال : « قلت لأبي : لم كرهت وضع الكتب وقد عملت المسند ؟ فقال : عملت هذا الكتاب إماماً إذا اختلف الناس في سنّةٍ عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رجع إليه » .
قال السبكي : « قال أبو موسى المديني : لم يخرج إلاّ عمّن ثبت عنده صدقه وديانته ، دون من طعن في أمانته . ثم ذكر باسناده إلى عبد الله ابن الامام أحمد ـ رحمه الله ـ قال : سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان ، قال : لم أخرج عنه في المسند شيئاً ، لمّا حدّث بحديث المواقيت تركته » .
وأورد السبكي ما ذكره المديني بإسناده إلى حنبل بن اسحاق قال : « جمعنا عمّي ـ يعني الامام أحمد ـ لي ولصالح ولعبدالله ، وقرأ علينا المسند ، وما سمعه معنا ـ يعني تماماً ـ غيرنا ، وقال لنا : إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فارجعوا إليه ، فإنْ كان فيه والاّ ليس بحجة » .
قال السبكي : « قال أبو موسى : ومن الدّليل على أنّ ما أودعه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ مسنده قد احتاط فيه إسنادا ومتناً ، ولم يورد فيه إلاّ ما صحَّ عنده : ما أخبرنا به أبو علي الحداد . قال : أنا أبو نعيم وأنا ابن الحصين وأنا ابن المذهب قال : أنا القطيعي ، ثنا عبدالله قال : حدثني أبي ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، عن أبي التياح قال : سمعت أبا زرعة يحدث عن أبي هريرة عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال : يهلك أمتي هذا الحي من قريش . قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : لو أنّ الناس اعتزلوهم . قال عبدالله : قال أبي في مرضه الذي مات فيه : إضرب على هذا الحديث ، فإنه خلاف الأحاديث عن النبي . يعني قوله : اسمعوا وأطيعوا .
---------------------------
(1) تدريب الراوي 1|171 ـ 172 .
حديـــث الثقلـــين _ 73_
وهذا مع ثقة رجال إسناده حين شذّ لفظه مع الأحاديث المشاهير أمر بالضرب عليه . فكان دليلاً على ما قلناه » (1).
وقال شاه ولي الله الدهلوي بعد ذكر طبقةٍ من الكتب : « وكاد مسند أحمد يكون من جملة هذه الطبقة ، فإنّ الإمام أحمد جعله أصلاً يعرف به الصحيح والسقيم . قال : ما ليس فيه فلا تقبلوه » (2).
آراء العلماء في المسند :
وقال جماعة من أعلام الحفّاظ بصحّة أحاديث المسند كلّها ، ومنهم :
الحافظ أبو موسى المديني .
وقاضي القضاة السبكي .
والحافظ أبو العلاء الهمداني .
والحافظ عبد المغيث بن زهير الحربي ، وله في ذلك مصنَّف .
والحافظ ابن الجوزي عدّ المسند من دواوين الإسلام ، وذكره قبل الصحيحين . وهذه عبارته في مقدمة كتابه الموضوعات :
« فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام كالموطّأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي ونحوها ، فانظر فيه . فإنْ كان له نظير في الصحاح والحسان فرتّب أمره ، وإنْ ارتبت فيه فرأيته يباين الأصول فتأمل رجال اسناده ، واعتبر أحوالهم من كتابنا المسمّى بالضعفاء والمتروكين ، فإنك تعرف وجه القدح فيه » (3).
وقاضي القضاة السبكي ، في كتابه الذي ألفه في زيارة قبر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
---------------------------
(1) طبقات الشافعية الكبرى 2|31 ـ 33 .
(2) حجة الله البالغة : 134 .
(3) الموضوعات 1|99 .
حديـــث الثقلـــين _ 74_
وتعرّض فيه للردّ على ابن تيمية ، قال في البحث حول حديث : « من زار قبري وجبت له شفاعتي » بعد ذكر أنه في مسند أحمد : « وأحمد ـ رحمه الله ـ لم يكن يروي إلاّ عن ثقة ، وقد صرّح الخصم ـ يعني ابن تيمية ـ بذلك ، في الكتاب الذي صنّفه في الرّد على البكري ، بعد عشر كراريس منه ، قال : إنّ القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان ، منهم من لم يرو إلاّ عن ثقة عنده كمالك . . . وأحمد بن حنبل . . .
وقد كفانا الخصم مؤنة تبيين أن أحمد لا يروي الاّ عن ثقة .
وحينئذٍ لا يبقى له مطعن فيه » (1).
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي : « قال شيخ الإسلام ـ يعني ابن حجر العسقلاني ـ في كتابه : تعجيل المنفعة في رجال الأربعة : ليس في المسند حديث لا أصل له إلاّ ثلاثة أحاديث أو أربعة ، منها حديث عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفاً ، قال : والاعتذار عنه أنه ممّا أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهواً ، أو ضرب وكتب من تحت الضرب » .
قال السيوطي : « وقال في كتابه : تجريد زوائد مسند البزاز : إذا كان الحديث في مسند أحمد لم نعزه إلى غيره من المسانيد » .
قال : « وقال الهيثمي في زوائد المسند : مسند أحمد أصح صحيحاً من غيره » .
قال : « وقال ابن كثير : لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته ... » .
قال : « وقال الحسيني في كتابه : التذكرة في رجال العشرة : عدة أحاديث المسند أربعون ألفاً بالمكرر » (2).
---------------------------
(1) شفاء الاسقام في زيارة خير الأنام 10 ـ 11 .
(2) تدريب الراوي 1|139 .
حديـــث الثقلـــين _ 75_
وقال الدكتور أحمد عمر هاشم ـ استاذ الحديث بجامعة الأزهر ـ في تعليقه على كتاب تدريب الراوي في هذا الموضع : « وللشيخ ابن تيميّة في ذلك كلام حسن ، فقد ذكر في التّوسل والوسيلة : انه إنْ كان المراد بالموضوع ما في سنده كذّاب ، فليس في المسند من ذلك شيء ، وإنْ كان المراد ما لم يقله النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لغلط راويه وسوء حفظه ، ففي المسند والسنن من ذلك كثير » . 7 ـ توثيق عطيّة من قبل الأئمة :
هذا ، وبالاضافة إلى كلّ ما تقدّم ... نجد في ترجمة عطيّة :
وثّقه ابن سعد وقال : له أحاديث صالحة .
وقال الدوري عن ابن معين : صالح .
ووثّقه الحافظ سبط ابن الجوزي (1).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : يعدّ في التشيع ، روى عنه جلّة النّاس .
وأبو حاتم وابن عدي ـ وإنْ ضعّفاه ـ قالا : يكتب حديثه .
8 ـ طعن بعضهم في عطيّة بسبب تشيّعه :
ثم إنْ المستفاد من كلمات القوم بترجمة عطية : ان السّبب العمدة في تضعيفه هو تشيّعه ، فعندما نراجع تهذيب التهذيب نجد :
ان الجوزجاني لم يضعّفه وإنما قال : « مائل » . وعن ابن عدي : « قد روى عن جماعةٍ من الثقات ، ولعطية عن أبي سعيد أحاديث عدة وعن غير أبي سعيد ، وهو مع ضعفه يكتب حديثه ، وكان يعدّ مع شيعة أهل الكوفة »
---------------------------
(1) تذكرة خواص الأمة : 42 .
حديـــث الثقلـــين _ 76_
والبزار لم يضعّفه وإنما ذكر تشيعه ونصَّ على أنه مع ذلك فقد روي عنه جلّة الناس ، والساجي قال : « ليس بحجة » ولم يذكر لقوله دليلاً إلاّ : « كان يقدّم علياً على الكل » .
وقال ابن حجر : « قال ابن سعد : خرج عطية مع ابن الاشعث ، فكتب الحجاج الى محمد بن القاسم أنْ يعرضه على سبّ علي ، فإنْ لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته ، فاستدعاه فأبى أنْ يسب ، فأمضى حكم الحجاج فيه ، ثم خرج إلى خراسان ، فلم يزل بها حتى ولي عمر بن هبيرة العراق ، فقدمها فلم يزل بها إلى أنْ توفي سنة 11 » . 9 ـ النّظر في الطّاعن وكلامه :
لقد ضُرب الرّجل أربعمائة سوطاً وحلقت لحيته . . . بأمرٍ من الحجّاج . . . ثم جاء من لسانه وسوط الحجاج شقيقان فقال عنه : « مائل » أو ضعّفه ، أو اتّهمه . . . وما ذلك كلّه إلاّ لأنّه أبى أنْ يسبَّ عليّاً . . . !! .
لقد عرفت في المقدمة أنّ التشيع لا يضّر بالوثاقة ، كما نصّ عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في ( شرح البخاري ) ، وبنى عليه في غير موضع ، منها في ترجمة خالد بن مخلّد حيث قال : « أمّا التشيّع فقد قدمّنا أنّه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضرّه ، لا سيّما ولم يكن داعيةً إلى رأيه » (1).
والجوزجاني الذي قال عن عطية « مائل » : كان ناصبيّاً منحرفاً عن علي عليه السلام ، وكان يطلق هذه الكلمة على الرواة الشيّعة . . . فاستمع الى ابن حجر يقول :
« خ د ت : إسماعيل بن أبان الورّاق الكوفي ، أحد شيوخ البخاري ولم يكثر عنه ، وثّقه النسائي ، ومطين ، وابن معين ، والحاكم أبو أحمد ، وجعفر الصائغ ، والدارقطني ، وقال في رواية الحاكم عنه : أثنى عليه أحمد وليس بقوي .
وقال الجوزجاني : كان مائلاً عن الحق ولم يكن يكذب في الحديث : يعني : ماعليه الكوفيون من التشيع .
قلت : الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي ، فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان . والصواب موالاتها جمعياً ، ولا ينبغي أنْ يسمع قول مبتدع في مبتدع » (2).
---------------------------
(1) مقدمة فتح الباري : 398 .
(2) مقدمة فتح الباري : 387 .
حديـــث الثقلـــين _ 77_
أقول : فلا يسمع قول الجوزجاني في عطيّة وأمثاله إلاّ ناصبي منحرف عن علي !! وأيضاً : قد عرفت ـ في المقدمة ـ تنبيه الحافظ ابن حجر على عدم الإعتداد بالطعن بسبب الاختلاف في العقائد قائلاً : « واعلم أنه وقع من جماعةٍ الطعن في جماعةٍ بسبب اختلافهم في العقائد ، فينبغي التنّبه لذلك وعدم الاعتداد به إلاّ بحق » (1).
وقد ذكرنا أنّ الحافظ ابن أبي حاتم الرازي أورد إمامهم الأكبر البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل ) ، وأورده الحافظ الذهبي في كتاب ( المغني في الضعفاء ) لطعن جماعةٍ من الأئمة في البخاري بسبب اختلافه معهم في مسألة اللّفظ ، وهي من أهم المسائل في العقائد . . . حتى تضجّر العّلامة السبكي والعلاّمة المنّاوي من فعل الحافظ الذهبي هذا !! .
وممّا يؤكّد ماذكرنا من كون الرجل من رجال الصحاح ، وأنّ تضعيف بعضهم إيّاه إنما هو لأجل الاختلاف في العقائد ، وأنه لا يعتّد به : حذف الحافظ ابن حجر اسم عطية العوفي من ميزان الاعتدال ، وعدم ذكره في ( لسان الميزان ) ، مشيراً إلى أنّه لا ينبغي الاصغاء إلى تكلّم الجوزجاني ومن كان على شاكلته . . . في مثل عطيّة التابعي الثقة المعتمد عليه في الكتب المعوّل عليها عندهم . . . 10 ـ رأي أحمد في عطيّة :
بقي أنْ نعرف رأي أحمد في عطيّة الذي أكثر عنه في المسند :
جاء في تهذيب التهذيب عن أحمد أنه قال : « هو ضعيف الحديث . ثم قال بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيسأله عن التفسير ، وكان يكنّيه بأبي سعيد فيقول : قال أبو سعيد .
قال أحمد : وحدثنا أبو أحمد الزبيري : سمعت الكلبي يقول : كنّاني عطية أبو سعيد » .
---------------------------
(1) مقدمة فتح الباري : 382 .
حديـــث الثقلـــين _ 78_
أقول :
هنا نقاط نضعها على الحروف ، أرجو أن يتأمّلها المحقّقون المنصفون ، بعد الالتفات الى ماذكرناه حول ـ رأي أحمد في المسند ـ وبعد البناء على ثبوت هذا النقل عن أحمد الذي أكثر من الرواية عن عطيّة عن أبي سعيد :
1 ـ إنّ السبب في قوله : « ضعيف الحديث » هو ماذكره قائلاً : « بلغني » ثم نظرنا فإذا في الجملة اللاحقة يذكر السند الذي بلغه الخبر به وهو : « أبو أحمد الزبيري سمعت الكلبي يقول . . . » .
2 ـ هذا الكلبي هو : محمد بن السائب المفسّر المشهور ، ووفاته سنة
(146) (1). وقد عرفت أن عطيّة مات سنة (111) (2). وهذا ما يجعلنا نتردّد في أصل الخبر ففي أيّ وقت حضر عطيّة التفسير عند الكلبي ؟ وأيّ مقدارٍ سمع منه ؟
3 ـ قال ابن حجر : « قال ابن حبّان ـ بعد أنْ حكى قصته مع الكلبي بلفظ مستغربٍ فقال : سمع من أبي سعيد أحاديث ، فلمّا مات جعل يجالس الكلبي يحضر بصفته ، فإذا قال الكلبي قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كذا فيحفظه ، وكنّاه أبا سعيد ، ويروي عنه ، فاذا قيل له : من حدّثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد ، فيتوهّمون أنه يريد أبا سعيد الخدري ، وانما أراد الكلبي ـ قال : لايحلّ كتب حديثه إلاّ على التعّجب » .
يفيد هذا النقل :
( أ ) أنّ السبب في تضعيف ابن حبّان أيضاً هو هذه القصّة . . .
( ب ) أنّ القصة ـ إنْ كان لها أصل ـ قد زاد القوم عليها أشياء من عندهم .
( ج ) أنّ هذا اللفظ مستغرب بحيث التجأ ابن حجر إلى الطعن فيه .
واعلم أنّ « الدكتور » أورد اللفظ المذكور عن ابن حبان بواسطة ابن حجر وأسقط كلمته « بلفظٍ مستغرب » ! ! .
---------------------------
(1) أنظر : العبر وغيره حوادث 146 .
(2) وهو قول ابن سعد ومطيّن والذهبي . قال الذهبي في تاريخ الإسلام : « وقال خليفة : مات سنة 127 . وهذا القول غلط » .
حديـــث الثقلـــين _ 79_
4 ـ إنّ الكلبي المذكور رجل قد أجمعوا على تركه ، متهم عندهم بالكذب والرفض ، قال ابن سعد : « قالوا : ليس بذاك ، فيه روايته ضعيف جداً » (1).
وقال الذهبي في وفيات سنة ( 146 ) : « فيها : محمد بن السائب أبو نضر الكلبي الكوفي ، صاحب التفسير والأخبار والأنساب ، أجمعوا على تركه ، وقد اتهم بالكذب والرفض . قال ابن عدي : ليس لأحدٍ أطول من تفسيره »(2).
وفي طبقات المفسرين : « محمد بن السائب بن بشر الكلبي ، أبو النضر الكوفي النسابة المفسر ، روى عن : الشعبي وجماعة . وعنه : إبنه ، وأبو معاوية ، ويزيد ، ويعلى بن عبيد ، وخلف . متهم بالكذب ، ورمي بالرفض . قال البخاري : تركه القطاّن وابن مهدي . قال مطيّن : مات سنة (146) .
أخرج له : أبو داود في المراسيل ، والترمذي وابن ماجة في التفسير .
وله تفسير مشهور ، وتفسير الآي الذي نزل في أقوامٍ بأعيانهم ، وناسخ القرآن ومنسوخه » (3).
فأقول : إذا كان هذا الرجل مجمعاً على تركه ومتّهماً بالكذب والرفض، فكيف روى عنه الجماعة وحتى بعض أصحاب الصحاح ؟
الواقع : إنهم كانوا يعتمدون عليه في التفسير ، فقد ذكر ابن حجر عن ابن عدي : « حدّث عنه ثقات من الناس ورضوه في التفسير » ولذا روى عنه الترمذي وابن ماجة في التفسير كما عرفت ، ولم يكونوا يعتمدون عليه في الحديث ، كما عرفت من عبارة ابن سعد حيث قال : « في روايته ضعيف جداً » ، بل إنّ مثل عطيّة الذي لازم جماعةً من كبار الصحابة وروى عنهم في غنىً عن الرواية عن الكلبي .
لكنّهم حيث كانوا يأخذون منه التفسير كانوا يحاولون التستّر على ذلك ... لأنّه كان يفسّر الآي ويذكر الأقوام الذين نزلت فيهم بأعيانهم ـ ولعلّه لذا رمي بالكذب والرفض ـ وكذلك كان عطيّة ، فإنّه كان يكنّيه لئلاّ يعرف الرجل فتلاحقه السّلطات ، لا لغرض التدليس والتلبيس ... ويشهد بذلك كلام قاضي القضاة ابن خلكان بترجمة الكلبي : « روى عنه سفيان الثوري ومحمد بن اسحاق .
وكانا قولان : حدثنا أبو النصر ، حتى لا يعرف »(1). فلو كان مايفعله عطيّة مضراً بوثاقته لتوجّه ذلك بالنسبة الى سفيان وابن اسحاق ...
بل لتوجّه الطعن في البخاري وكتابه المشهور بالصحيح ، فإنّ كان يروي عن « محمد بن يحيى الذهلي » ـ الذي طرد البخاري من نيسابور ، وكتب إلى الري ضده ، فترك أئمة القوم في الري الحضور عنده والسّماع منه ـ فقد جاء بترجمة الذهلي : أن البخاري يروي عنه ويدلّسه كثيراً ، لا يقول : (محمد بن يحيى ) بل يقول : ( محمد ) فقط ، أو (محمد بن خالد ) أو ( محمد بن عبدالله ) ينسبه إلى الجد ويعمّي اسمه ، لمكان الواقع بينهما »(2).
فهذا واقع الحال في رواية عطيّة عن الكلبي ان ثبت أصل القضية .
ويؤكّد ما ذكرناه توثيق ابن سعد وابن معين وغيرهما عطيّة ، وروايتهم عنه ، فلو كان صنيع عطية مضراً بو ثاقته لما وثّقوه ولا رووا عنه .
ولا سيّما أحمد وأرباب الصّحاح . . . ويحيى بن معين الذي روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وسائر الأئمة ، وقد وصفوه بإمام الجرح والتعديل وجعلوه المرجوع اليه في معرفة الصحيح والسقيم ، وربّما قدّموا رأيه على رأي البخاري في الرجال . . .
الكلمة الأخيرة :
وأخيراً . . . لو كان أحمد يرى ضعف حديث عطيّة فلماذا روى عنه بكثرة في المسند الذي عرفت رأيه فيه ؟
لقد تنبّه « الدكتور » إلى هذا الاعتراض فانبرى للجواب عنه ، وهذه عبارته :
---------------------------
(1) وفيات الأعيان 3|436.
(2) سير أعلام النبلاء 12|275.
حديـــث الثقلـــين _ 81_
« وقد يقال هنا : إذا كان الامام أحمد يرى ضعف حديث عطيّة فلماذا روى عنه ؟ والجواب : ان الإمام أحمد إنما روى في مسنده ما اشتهر ، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم . ويدل على ذلك انّ ابنه عبد الله قال : قلت لأبي : ما تقول في حديث ربعي بن خراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد ؟ قلت : نعم . قال : الاحاديث بخلافه . قلت : فقد ذكرته في المسند ؟ قال : قصدت في المسند المشهور ، فلو أردت أن اقصد ما صحّ عندي لم أرو من هذا المسند إلاّ الشيء بعد الشي اليسير . وقد طعن الامام أحمد في أحاديث كثيرة في المسند ، وردَّ كثيراً ممّا روي ، ولم يقل به ، ولم يجعله مذهباً له .
وعندما عدّ ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرجها الإمام أحمد في مسنده ، وثار عليه من ثار ، ألّف ابن حجر العسقلاني كتابه ( القول المسددّ في الذبّ عن المسند ) .
فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي ، ثم أجاب عنها ، وممّا قال : الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شيء من أحاديث الاحكام في الحلال والحرام . والتساهل في ايرادها مع ترك البيان بحالها شائع .
وقد ثبت عن الامام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : اذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، واذا روينا في الفضائل ونحوه تساهلنا . وهكذا حال هذه الاحاديث .
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسّك بالعترة » .
نقول :
هذه عبارة « الدكتور » كما هي بلا زيادةٍ ولا نقصان ، وعليك بمراجعة « المسند تحقيق شاكر ـ طلائع الكتاب 1|57 » و « ص 11 من القول المسدّد » هل ترى من اختلافٍ بين ما فيهما وما نقله عنهما ؟ !