وحسبك منها عهده يوم عرفة من حجة الوداع وقد أهاب بأهل الموقف يدلهم على مفزعهم في أداء رسالته وهو اذ ذاك على ناقته يناديهم باعلى صوته فأشخص أبصارهم وأسماعهم وافئدتهم اليه فاذا به يقول: علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني الا أنا أو علي
.
ياله عهداً ما أخفه على اللسان وما أثقله في الميزان جعل لعلي من صلاحية الأداء عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عين الصلاحية الثابتة للنبي في الأداء عن نفسه فأشركه في أمره وأئتمنه على سره كما كان هارون من موسى الا ان علياً لم يكن بنبي وانما هو وزير ووصي يطبع على غرار نبيه ويبين عنه للناس ما اختلفوا فيه.
وتلك ذروة ما جعل الله تعالى ورسوله لغير علي أن يتبوأها أبداً: ( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ) ولقد رفع رسول الله علياً الى مستوى هو أعلى من مستوى الأمة اذ مزج لحمه بلحمه ودمه بدمه وسمعه وبصره وفؤاده وروحه بسمعه وبصره وفؤاده وروحه فقال: علي مني وأنا من علي ثم لم يكتف حتى قال: ولا يؤدي عني الا انا أو على فجمع فأوعى فاستقصى ولا غرو فان الله تعالى يقول وهو أصدق القائلين: ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ ) .
فأين اولو النظر يمعنون في هذا العهد ليعلموا أنه ـ على اختصاره ـ لا يقل وزناً عن نصوص يوم الغدير فان الأداء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المختص به وبعلي المنفي في هذا الحديث عمن سواهما انما هو الأداء التشريعي الكاشف عن حكم الله في الواقع ونفس الأمر المعصوم عن الخطأ عصمة القرآن عنه فيكون بمجرده حجة قاطعة يجب على الاُمة التعبد به كما يجب عليهم التعبد بأ حكام القرآن العظيم والذكر الحكيم.
يدلك على أن هذا هو المراد اجماع الأمة على اباحة الأداء عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ على غير هذا الوجه ـ لكل عالم بقوله سماعا منه أو استنباطاً صحيحاً من سنته فان الصحابة كانوا يؤدون عنه ما سمعوه من اقواله وما رأوه من أفعاله وكان المجتهدون بعدهم يؤدون عنه ما أستنبطوه من الأدلة الشرعية فلو لم يحمل الحديث على ما قلناه لم يبق له معنى يصح حمله عليه.
ويؤيد هذا قول رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) : علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان
(1) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله علياً اللهم أدر الحق حيث دار
(2) إلى كثير من أمثال هذه النصوص التي ترمي إلى عصمته، ( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ).
( المبحث الرابع ): فيما كان من أعداء علي من المكربه، والبغي عليه وما كان من دجاجيلهم في صرف خصائصه عنه، وما تزلف به أبو هريرة اليهم من تحريف هذا الحديث.
إن اعداء علي من المنافقين، وحسدة فضله ومنافسيه من الناكثين والقاسطين، والمارقين ولا سيما أهل الحول والطول منهم كمعاوية وأعوانه
---------------------------
(1) أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين في: 3/124 من مستدركه واورده الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته.
(2) أخرجه الحاكم في الصفحة على شرط مسلم.
أبو هريرة
_ 129 _
فسخروا دجاجيلهم في تشويهها ومسخها ومعارضتها بما استطاعوا أو ان الدجاجيل تزلفوا اليهم بذلك ولا ذنب لعلي. ولا عذرلهم إلا ما اختصه الله تعالى من فضله اذ بلغ بسوابقه ـ في أيمانه وجهاده ـ منزلة عند الله ورسوله تقاصرت لم يطيقوا الخصائص العليا التي كانت لعلي ، فلم يصبروا عن تحويرها وتحريفها عنها الأقران ونال ( بعلمه وعمله مخلصاً لله ولرسوله وللامة ) رتبة تراجعت عنها الأكفاء وأدرك ( بذاته وصفاته وسماته ونسبه وصهره وأهله ونسله ) غاية تطاولت اليها أعناق الأماني وشأواً تقطعت دونه المطامع ،فدبّت بذلك له عقارب الحسد في قلوب المنافقين
(1).
وسادت في منافسيه آكله الاكباد
(2) فكشفوا لمناصبته وجوههم وقعدوا له في كل مرصد مرهفين للمكر به كل حيلة ناصبين للبغي عليه كل احبولة ( والحاسد مغتاظ على من لا ذنب له )
(3).
تطوروا في كيده اطواراً مختلفة، نزعوا أيديهم من يده، قطعوا رحمه سلبوه سلطان ابن امه
(4) هجروا السبب الذي أمروا بمودته، نقلوا البناء عن رص اساسه فبنوه في غير موضعه
(5) تصغيراً منهم لعظيم منزلته واجماعاً على
---------------------------
(1) ان لبطل الاسلام بكل ما للبطولة من معان شريفة محمد بن أمير المؤمنين المعروف بابن الحنفية كلاما في هذا المعنى يفرغ به الحقيقة لا ريب فيها قدع به ابن الزبير أيام إمارته في الحجاز فبخعه ما اولى أهل البحث بالوقوف عليه: ص350 من المجلد الأول من شرح النهج الحميدي.
(2) تورية لطيفة.
(3) هذا مثل معروف.
(4) قال عليه السلام في كتاب كتبه إلى اخيه عقيل: فخرت قريشا عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أمي.
(5) هذا مقتبس من الخطبة: 146 من: ص48 والتي بعدها من الجزء الثاني من نهج البلاغة.
أبو هريرة
_ 130 _
منازعته أمراً هوله
(1) ، ثم كان من الناكثين والقاسطين والمارقين ما ملأ الاجواء، وطبق الأرض والسماء وما اكتفوا حتى:ـ لعنوا أمير المومنين * كمثل اعلان الاقامة وليتهم لم يتناولوا السنن المقدسة بتمزيق ما جاء منها تفصيله حيث حكموا ـ بغير دليل ـ على صيححها بالوضع، وعلى صريحها بالتأويل، وعلى رواتها بالرفض، وعلى اثباتها بالتضعيف، فشوهوا كثيراً من خصائصها الحسي؛ ومسخوا كيراً من أمثالها العليا ، وحرفوا كثيراً منها عن مواضعه وصرفوا الكثير منها إلى غير اهله كما فصلناه في كتابنا ( تحفة المحدثين ) وكما يمثله أبو هريرة في حديثه هذا إذ يقول بعثني أبو بكر اذ يقول: بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره عليها رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل حجة الوداع بسنة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ان لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف رسول الله بعلي بن أبي طالب فأذّن معنا يوم النحر الحديث.
كأن لم يكن لعلي بن أبي طالب في ذلك الموسم سوى انه اذن في معية أبى هريرة، ولا عجب من أبى هريرة في هذه الجرأة فانه كان يفتئت الأحاديث فيقتها ويرتجلها
(2) مزخرفة مزوقة على ريق لم يبلعه ونفس لم يقطعه فيخرجها لرعاع الناس بالوشي الذي يحبه السواد الاعظم من العامة وتقتضيه السياسة الغاشمة وتوجبه دعايتها الكاذبة ، ألا تراه كيف حرف الحديث عن موضعه، وصرف الفضل فيه عن أهله متقرباً فيما حرف الى اولياء الأمور، ومتحبباً فيما صحف إلى سواد الجمهور
---------------------------
(1) هذا مقتبس من الخطبة: 167 من النهج أيضاً.
(2) يفتئتها بمعنى ييتدعها، ويقتها بمعنى يزورها ويحسنها، ويرتجلها بمعنى يختلقها لساعته.
أبو هريرة
_ 131 _
اختلق لهم ما يروقهم من تأمير أبى بكر الصديق ، وما أدرك ما فعل ؟؟ انه اخرس بذلك ألسنة الثقات الاثبات عن معارضته. وألجم أفواههم ان تنبس في بيان الحقيقة ببنت شفة خوفاً من تألب العامة ورعاع الناس. واشفاقاً من نكال أولي الامر ووبالهم يومئذ؟ وما أدراك ما يومئذ ؟!.
اراد أبو هريرة بحديثه هذا أن يجتاح المقام المحمود الذي رفع الله ورسوله يومئذ سمكه مقام أمير المؤمنين في ذلك الموسم إذ كان يرمي الى امرين.
(أحدها ) ان المهمة التي جاء بها علي انما كان امرها بيد أبى بكر الصديق بسبب امارته على الحج وولايته العامة تلك السنة على الموسم وان أبا بكر لم يكتف بعلي في اداء المهمة حتى بعث أبا هريرة في رهط من امثاله الا قوياء الاشداء!! اهتماماً بأدائها.
(ثانيهما) أنه لم يكن لعلي في تلك المهمة اكثر مما كان لابى هريرة وسائر الرهط الذين بعثهم أبو بكر لانهم قاموا بأدائها كما قام علي معهم بذلك.
وحسبك في تزييف هذا ان الله تعالى لم ير أبا بكر نفسه أهلا لاداء هذه المهمة فارجعه عنها واوكلها الى احد كفئيها اللذين لا ثالث لهما اذ لم يكن لها ثمة سوى النبي والوصي كما سمعت النص عليه اذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لابد ان اذهب بها أنا أو تذهب بها أنت قال علي فان كان ولابد فسأذهب بها أنا.
قد روت الامة احاديث صحيحه صريحة في ذلك لا تزال تدوي فتملأ الخافقين ،
على ان أبا هريرة كان قبل ان يتسخر لدعاية بني أمية يحدث عن هذه المهمة فلا يؤمر أبا بكر ولا يأتى على ذكره، وكان يضيف نفسه وسائر البعث الى علي، فيزعم انه انما كان في البعث الذي كان في ركابه عليه السلام؛ وقد مر عليك حديثه في هذا فراجع.
أبو هريرة
_ 132 _
والنفس لاتطمئن شهد الله بكلا حديثيه ولا بكونه ممن نادى يوم النحر ولا بكونه ممن حضر الموسم، ولا بشئ مما يرويه مطلقاً والله على ما أقول وكيل.
( المبحث الخامس ): في الاشارة الى ما جنته الدعاية السياسية على الآثار النبوية وما اختلفته دجاجيلها تزلفا اليها وما زوقوه ليشتروا به ثمناً قليلا وما افتأتوه من الاسانيد تثبيتاً لحديث حيمد عن أبى هريرة.
كان وضع الحديث على عهد معاوية حرفة منمقة يتجربها كل متزلف الى تلك الدولة وعمالها ، وكان لأولئك المتزلفين المتجرين لباقة في تزويق تجاربهم وترويجها لا يشعرنها (على عهدهم) الا أولو البصائر النافذة، والاحلام الراسخة ـ وقليل ما هم ـ وكان من ورائهم من يرفع ذكرهم من الخاصة ويروج حديثهم من حفظة السنن المسأجرين، وحملة العلم المتزلفين ومن المرائين بالعبادة والتقشف كحميد بن عبد الرحمان ومحمد بن كعب القرظي وأمثالهما، ومن زعماء القبائل في الحواضر ، وشيوخ العشائر في البوادي، وكان هؤلاء كلهم اذا سمعوا ما يحدث به اولئك الدجالون روجوه عند العامة، واذاعوه في رعاع الناس ( من مسلمي الفتوحات بعد النبي ) وخطبوا به على المنابر؛ واتخذوه حجة، واعتدوه أصلا من الأصول المتبعة، وكان الثقات الاثبات من سدنة الآثار النبوية لا يسعهم في ذلك العهد الا السكوت عن معارضة اولئك المتزلفين المؤيدين برعاية اولي الأمر وعناية أهل الحول والطول، فكان المساكين اذا سئلوا عما يحدث به اولئك الدجالون يخافون ـ من مبادهة العامة بغيرها عندهم ـ ان تقع فتنة عمياء بكماء صماء، ولاسيما اذا كان الحديث موضوعاً في فضل الصديق والفاروق، فكانوا يضطرون في الجواب الى اللواذ بالمعاريض من القول خوفاً من تألب اولئك المتزلفين ومروجيهم من الخاصة، وتألب من ينعق معهم من العامة ورعاع الناس، فضاعت بذلك حقائق ، وحفظت أباطيل وكان هذا الباطل ـ أعني حديث حميد عن أبى هريرة ـ أوفرها حظاً من كل
أبو هريرة
_ 133 _