سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي وهذا (سواء كان حقاً أم باطلا) اعتراف منعه صريح بانه كان يسند الى النبي صلى الله عليه واله وسلم ما لا يسمعه منه كما ترى.
( فان قلت ): أي مانع للعدل ان يسند الى النبي الحديث يسمعه من غيره مرفوعاً اليه ( صلى الله عليه واله وسلم ).
( قلنا ): لا مانع من ذلك غير ان الحديث في هذا الفرض لا يكون حجة ولا يوصف بالصحة (وان رواه العدل) وانما يكون مرسلا حتى تعزف الواسطة وتحرز عدالتها ، وبعبارة أخرى عدالة الراوي شرط في صحة حديثه، فلا بد من احرازها ولايمكن ذلك في الواسطة المجهولة.
ومجمل القول في هذا الفصل أن في حديث أبي هريرة مراسيل كثيرة لا يمكن الاحتجاج بها، وقد اشتبهت بمسانيده، اذ لم يفرق بينهما في شئ وهذا ما أوجب سقوط الجميع عملا بالقاعدة المقررة في الشبهات المحصورة.
13 ـ
دعواة الحضور في وقائع لم يحضرها
وقد اضطرنا هذا الرجل الى الريب فيه بدعواه الحضور في وقائع لم يحضرها قطعاً.
وحسبك منها قوله: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم امرأة عثمان وبيدها مشط، فقالت: خرج رسول الله من عندي آنفارٌ جلت شعره فقال لي: كيف تجدين أبا عبدالله؟ ـ يعني عثمان ـ قلت بخير قال: اكرميه فانه من اشبه أصحابي بي خلقاً، أخرجه الحاكم
(1) ثم قال: حديث صحيح
---------------------------
(1) في احوال رقية: 4/48 من المستدرك.
أبو هريرة
_ 178 _
الاسناد واهي المتن فان رقية ماتت سنة ثلاث من الهجرة عند فتح بدر وأبو هريرة انما اسلم بعد فتح خيبر ، ( قلت ): واورده الذهبي في تلخيص المستدرك ثم قال: صحيح منكر المتن فان رقية ماتت وقت بدر وأبو هريرة اسلم وقت خيبر.
وقال في سهو النبي: صلى بنا النبي صلى الله عليه واله وسلم الظهر أو العصر فسلم في ركعتين فقال له ذو اليدين: انقصت الصلاة أم نسيت؟ الحديث ، وذو اليدين هذا استشهد ببدر قبل ان يسلم أبو هريرة بزمان كما بينا في الفصل: 11 من هذا الاملاء
(1).
وكم كان يتبجح فيقول: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهباً ولا فضة انما غنمنا البقر والابل والمتاع والحوائط الحديث
(2).
مع أنه لم يحضر الفتح إجماعاً وقولا واحداً، وإنما جاء بعد الفتح ولذا ارتبك شارحوا الصحيحين عند انتهائهم الى قوله: افتتحنا خيبر، فحملوا كلمته هذه على التجوز وان المراد جنسه من المسلمين
(3).
وكم كان يحدث فيقول: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خيبر فقال لرجل معه ممن يدعي الاسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل اشد القتال حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس ان يرتاب فوجد الرجل ألم
---------------------------
(1) فراجع منه الحديث 13.
(2) أخرجه البخاري في باب غزوة خيبر: 3/37 من صحيحه.
(3) راجع: ص 145 من المجلد الثامن من شرحي البخاري المطبوعين معافي اثنى عشر مجلداً وهما ارشاد الساري للقسطلاني وتحفة الباري للانصارى تجد التأويل المذكور مع التصريح بأن أبا هريرة لم يحضر فتح خيبر، وكذلك فعل السندي فيما علقه على هذا الحديث من تعليقته المطبوعة في هامش الصحيح.
أبو هريرة
_ 179 _
الجراحة فأهوى بيده الى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه الحديث
(1) ، (قلت): هذا محل النظر من وجهين: احدهما دعواه انه شهد الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقد عرفت انه لم يشهدها، ولذلك ارتبك شارحوا هذا الحديث فقالوا: اما قول أبي هريرة شهدنا مع رسول الله خيبر فمحمول على المجاز والمراد جنسه من المسلمين لأن الثابت انه جاء بعد أن فتحت خيبر انتهى بلفظ الشارح القسطلاني
(2).
ثانيهما: ان الرجل الذي قتل نفسه انما هو قزمان بن الحرث حليف ظفر المنافق، كان يقاتل على الاحساب ، وقضيته التي ذكرها أبو هريرة في حديثه هذا معروفة
(3) وقد قتل بأحد قبل اسلام أبي هريرة بدهر لكن أبا هريرة قد راب في أمره فخلط الحابل بالنابل.
---------------------------
(1) اخرجه البخاري في باب غزوة خيبر: 3/34 من صحيحه وفي باب ان الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر من كتاب الجهاد والسير: 2/120 من الصحيح.
(2) في باب ان الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر: 6/322 من ارشاد الساري.
(3) وقد ذكرها الواقدي وابن اسحاق وغيرهما وترجمة ابن حجر في الاصابة وكثير من أصحاب المعاجم والتراجم، وقزمان هذا هو الذي كان في احد لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه حتى قيل لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم يومئذ ما أجزأ عنا أحدكما أجزأ فلان، فقال النبي: اما انه من أهل النار، فجرح جرحا شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الارض وذبا به بين ثديه ثم نحامل عليه فقتل نفسه الحديث، أخرجه البخاري بالاسناد الى سهل بن سعد في باب: لا يقول فلان شهيد، من كتاب الجهاد والسير: 2/101 من صحيحه.
أبو هريرة
_ 180 _
وقد قال: رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم عليه رداء؛ الحديث ـ
(1) ،
(قلت): استشهد هؤلاء السبعون باجمعهم يوم بئر معونة فحزن النبي صلى الله عليه واله وسلم عليهم وقنت شهراً يدعو في الصلاة على قاتليهم وكانت هذه الوقعة في صفر سنة أربع من الهجرة قبل اسلام أبي هريرة وقبل قدومه من اليمن فكيف يدعي رؤيتهم؟! وقال القسطلاني
(2): ان السبعين الذين رآهم أبو هريرة غير اولئك السبعين والله تعالى أعلم.
وبالجملة: علمنا من تعقب أبي هريرة واستقراء حديثه انه كان كثيراً ما يحدث عن النبي صلى الله عليه واله وسلم بما لم يسمعه منه. وكثيراً ما يحدث عن الوقائع التي لم يحضرها، وربما اجعى حضورها وربما سمع شيئاً من كعب الأخبار أو غيره فراقه فحدث به عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كما فعل في حديث (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً في عرض سبعة اذرع)
(3) وهذا ما يضطر المؤمن الى اتقاء حديث هذا الرجل.
والعجب من أصحاب الصحاج يشحنون به مسانيدهم لا يلتفتون إلى لوازمه الباطلة ولا يأبهون بما يكتنفه من دلائل الوضع والاختلاف، ومن تتبع حديث الصحيحين عجب من بساطة الشيخين، واليك مثلا يلمسك هذه الحقيقة.
أخرج مسلم في باب فضائل أبي سفيان من طريق عكرمة بن عمار العجلي اليمامي: ان المسلمين كانوا لا ينظرون الى ابي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي
---------------------------
(1) اخرجه البخاري في: 2/60 منصحيحه وقد أوردناه في أحوال أبي هريرة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الاملاء.
(2) في شرخ هذا الحديث: 2/220 من ارشاد الساري.
(3) وقد فصلنا القول فيما يتعلق بهذا الحديث إذ أوردناه اول الفصل: 11 من هذا الاملاء.
أبو هريرة
_ 181 _
( صلى الله عليه واله وسلم ) : يانبي الله ثلاث اعطنيهن، قال: نعم؛ قال: عندي احسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان ازوجكها. قال: نعم، قال ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وتأمرني ان اقاتل الكفار كما كنت اقاتل المسلمين، قال: نعم ، الحديث
(1) ، اقتصر عليه مسلم في باب فضائل أبي سفيان إذ لم يجد والحمد لله سواه وهو باطل بالاجماع ، لأن أبا سفيان انما دخل في عداد المسلمين يوم فتح مكة اجماعاً وقولا واحداً، وقبل الفتح كان عدو لله ولرسوله ومحارباً لهما.
اما بنته أم حبيبة واسمها رملة فقد اسلمت قبل الهجرة وحسن اسلامها فكانت ممن هاجر الى الحبشة هرباً من أبيها وقومها، وقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبوها ممعن في الكفر مسترسل في محاربته للنبي فلما بلغه ان النبي قد تزوجها قال: ذلك الفحل لا يقدع انفه ، وقدم بعد ذلك على المدينة يريد أن يزيد في الهدنة فدخل على بنته أم حبيبة فلما اراد الجلوس على فراشها طوته دونه فقال لها: رغبت به عني فقالت: نعم هذا فراش رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك، نص على هذا كله اعلام الامة واثباتها وهو مما لا ريب فيه، ومن راجع كتب السير والاخبار ووقف على احوال أم حبيبة في كتب المعاجم والتراجم على التفضيل.
---------------------------
1) تقف عليه في: 2/361 من صحيحه وهو من الاباطيل التي وضعها عكرمة اليمامي، وقد جرم بذلك ابن حزم كما نقله عنه النووي حيث اتى على هذا الحديث في شرح صحيح مسلم فراجع، وقال الذهبي في آخر ترجمة عكرمة بن عمار من ميزان الاعتدال ما هذا نصه: وفي صحيح مسلم قد ساق له اصلا منكراً عن سماك الحنفي عن ابن عباس في الثلاثة التي طلبها أبو سفيان وثلاثة احاديث اُخر بالاسناد أ هـ ، (قلت): ومن منكرات عكرمة هذا ما رواه عن أياس عن ابيه سلمة ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: ابو بكر خير الناس الحديث، رواه ابن عدي في كتابه الكامل وهو كما قال الذهبي في أول ميزانه اكمل الكتب واجلها في معرفة الضعفاء
أبو هريرة
_ 182 _
وحسبك ما اورده النووي عند بلوغه الى هذا الحديث في شرحه لصحيح مسلم
(1) والحمد لله على الهداية للصواب، والشكر له إذ جعلنا من أولي الألباب ( وصلى الله على محمد وآله وسلم ).
14 ـ
انكار السلف عليه
أنكر الناس على أبي هريرة واستفظعوا حديثه على عهده إذ أفرط في الاكثار وانفرد باسلوب خاص يوجب الشك فيه فلهذا وذاك كاشفه الناس وانكروا عليه من حيث كمية حديثه ومن حيث كيفيته.
يدلك على هذا قوله متألماً متظلماً: يقولون ان أبا هريرة يكثر الحديث والله الموعد ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل حديثه؟ فيصرح بأن كمية حديثه وكيفيته كانتا كلتاهما مدار الانكار وقد تهددهم بالله وبالدار الآخرة على ذلك إذ قال: والله الموعد متفجعاً متوجعاً منهم حتى زعم انه لولا تكليفه الشرعي ما حدثهم بشئ ابداً لسوء ظنهم به فقال في آخر الحديث: والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئاً ابداً،: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) الحديث
(2) وهو كما ترى صحيح صريح بما قلناه.
---------------------------
(1) شرح النووي مطبوع في هامش شرحي صحيح البخاري وهما ارشاد الساري وتحفة الباري، وما احلناك هنا عليه من شرح النووي موجود في آخر: ص360 وما بعدها من المجلد الحادي عشر فراجعه لتكون على بصيرة واعجب من ابن الصلاح وهذيانه.
(2) اخرجه البخاري في اول المزارعة وآخر البيوع من صحيحه واخرجه مسلم في الصحيح ايضاً وسنذكره في الفصل الآتي فنتوسع فيما نعلقه عليه مما يقتضيه المقام ان شاء الله تعالى فراجع.
أبو هريرة
_ 183 _