الحكيم الا ائتمر به، وما من زجر في القرآن العظيم الا انزجر به، وما من حكمة الا اخذبها، كان القرآن نصب عينيه، يقتفي أثره ، ويتبع سوره، وهذه الآية مما جاء في سياق آدابه واخلاقه، فانظر الى ما قبلها من الآيات الينات تجد الحكمة، وفصل الخطاب، فان ما قبلها بلا فصل : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .
  هذه هي الغاية في الأخلاق طبع الله عليها عبده، وخاتم رسوله، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يمثلها في هديه منذ قال في مبدأ أمره (ودم جبهته يسيل على وجهه ولحيته) أللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون الى ان نادى مناديه يوم الفتح وكان في منتهى عمره من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
  أرهف الله عزائمه: وشحذ هممه للأخذ بهذه التعاليم وحمله على هذه الاخلاق بكل اسلوب يأخذ اليها بالأعناق، ألا تراه جل وعلا كيف لم يكتف ببعثه عليها حتى شوقه اليها، وبلغ الغاية في تحطيضه عليها ، فقال وهو أصدق القائلين: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ثم لم يقف على هذا الحد في ارهاف عزيمته حتى حذره مما طبع البشر عليه من فورة تكون في النفس، ونزغة ـ أي نخسه ـ تكون في القلب عند هجوم الاذى، الممض من العدو الملح ، وسمى تلك النخسة البشرية نزغاً من الشيطان على سبيل المجاز تنفيراً منها وتنزيهاً عنها فقال: ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) أي وإما ينخسنك من الغضب الذي طبع عليه البشر نخس يشبه نزغ الشيطان في تضييق الصدر وتوهين عرى الصبر (فاستعذ بالله) ونظير هذه الآية قوله عز من قائل ـ في سورة الأعراف ـ : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) فان الله عز وجل اراد صيانة حبيبه عن مقابلة الجاهلين الذين قامت عليهم

أبو هريرة _ 102 _

  الحجة فجحدوها وتمادوا بالكفر عناداً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فأمره بالاعراض عنهم، ولمزيد عنايته في تهذيبه وتفضيله على البشر حذره بما طبع البشر عليه من التأثر القلبي، والتزفر النفسي عند هجوم الجاهلين بسفههم وبذاءتهم ، وسمى ذلك التأثر الطبيعي نزغاً من الشيطان على سبيل التجوز تنزيها لنبيه عنه، وتنفيراً له منه إذا كان صلى الله عليه وآله لا ينفر من شيء نفوره من الشيطان ومما يشبه عمله فقال عز من قائل: (واما ينزغنك من الشيطان نزغ) يوهن صبرك عن احتمال سفه الجاهلين ويدعوك الى إظهار الغضب منهم (فاستعذ بالله).
  فاين هذا المعنى عما جاء في حديث أبي هريرة من شذّ الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقطع عليه صلاته؟ الأمر الذي لا يجوز بحكم العقل والنقل.
  (فان قلت): ما تقول في الآية 52 من سورة الحج: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ) الآية.
  (قلنا): ان من المعلوم بحكم الضرورة من دين الاسلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الرسل والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم أن يتمنوا ما لا يرضي الله به وحاشاهم ان يتمنوا من الأمور كلها إلا ما كان لله فيه رضاً ولعباده صلاح.
  وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتمنى لأهل الأرض كافة ولكل واحد منهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ولاسيما الأقرب اليه منهم فالأقرب والشيطان كان يلقي في هذه الأمنية (1) بغروره وحيله ما يشوهها في نظر من كان كأبي لهب وأبي جهل ممن استحوذ عليهم بفتنته فصدهم عما تمناه الرسول لهم من خير الدنيا والآخرة حتى أغراهم بقتاله واستئصاله.

---------------------------
(1) الامنية ما يتمنى والجمع أمان وأماني.

أبو هريرة _ 103 _

  وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمنى لمن دخل في الاسلام كافة ولكل واحد منهم أن يخلصوا الله تعالى ولكتابه ولرسول ولسائر عباده اخلاصاً تستوي فيه ظواهرهم وبواطنهم وعلانياتهم وسرائرهم لكن الشيطان كان يلقي في هذه الأمنية المبرورة من تسويله وتضليله ما يقتضي تشويس كثير من الناس ويوجب نفاقهم.
  وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتمنى لكل فرد من أمته ان ينهج منهاجه القويم، وصراطه المستقيم، لا يحيد قيد شعرة فما دونها عن سنته المقدسة وكانت قصاري أمانيه أن تتفق الأمة على هديه وتكون باجمعها نصب أمره ونهيه فلا يختلف منها اثنان لكن الشيطان ألقي في هذه الأمنية المشكورة من وسوسته في صدور كثير من الناس ما خدعهم عن السنن فتفرقت بهم السبل وكانوا طرائق قددا. هكذا كان الغرور الرجيم يرصد ما يتمناه الرسول من خير عام أوخاص فيلقي فيه من التشويه في نظر المغترين بزخارفه ما يصرفهم عنه.
  والمنخدعون بأباطيل الشيطان وأضاليله كثيرون، قد أعدلهم خيله ورجله، ونصب لهم حبائله وأشراكه، ووقف لهم على ساق يريهم الحق بغروره باطلاً، والباطل بزخارفه حقاً، لايألو جهداً في تشويه ما يتمناه الرسول لهم، ولا يدخر وسعاً في صدهم عنه بكل حيلة.
  وهذا ما أقض مضجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشفاقاً على الناس من هذا الوسواس الخناس، وفرقاً من أضاليله وأباطيله أن تظهر على الحق المبين فكان صلى الله عليه وآله وسلم بسبب ذلك مستوجباً للتعزية من الله عز وجل فعزاه وخفض عليه بهذه الآية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا (1) إِذَا تَمَنَّى ) مثل ما تمنيت من الخير خاصاً أو عاماً (القى الشيطان في أمنيته) ما القاه في

---------------------------
(1) من، الاولى لابتداء الغاية، ومن، الثانية زائدة لتأكيد النفي وهذه الآية دالة بظاهرها على التغاير بين الرسول والنبي، والتحقيق في هذا موكول الى مظانه.

أبو هريرة _ 104 _

  أمنيتك من التشويه بالتمويه على كثير من الناس فصدهم عنها بغروره وفتنته فان الرسل والأنبياء كانوا باجمعهم يتمنون لأهل الأرض عامة أن يكونوا على هدى من ربهم، كانوا بأسرهم يتمنون لمن آمنوا بهم أن يخلصوا لله اخلاصاً حقيقياً لا تشوبه شائبة؛ وكانت قصارى امانيهم أن تتفق اممهم على هديهم فلا يختلف في ذلك منهم اثنان، لكن الشيطان كان يلقي في هذه الأماني الشريفة من وسوسته مايخدعهم عنها فلم تتحقق أمانيهم إلا قليلا حتى افترقت امة موسى احدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة عيسى اثنين وسبعين فرقة، وهكذا امم الأنبياء كافة لم تتحقق فيهم أماني رسلهم بسبب مايلقيه الشيطان فيها من التشوية بالتموية، فلا يكبرن عليك(يامحمد) ما منيت به في أمانيك المقدسة حيث لم تتحقق في كثير من الأوقات بسبب ما يلقيه الشيطان فيها من التشويه الموجب لصرف كثير من الناس عنها ولك أسوة حسنة في هذا بجميع من كان قبلك من الرسل والأنبياء فانك وإياهم هذا الأمر شرع سواء، سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ولاتجد لسنتنا نجويل.
  وحيث كان صلى الله عليه وآله وسلم مشفقاً من أباطيل الشيطان أن تظهر على الحق أمنه عز وجل من هذه الناحية إذ قال: ( فينسخ الله) أي فيزيل الله ( ما يلقي الشيطان ) في أمانيك وأماني الرسل والانبياء من تشويهها بتمويهه الذي لا يثبت امام الحق الساطع والبرهان القاطع أبداً ثم بشره بظهور الحق الذي جاء به عن ربه ، وجاءت به الرسل والأنبياء من قبله وبقائه محكما فقال قوله الحق ووعده الصدق ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ) اين يتقنها كما قال مقام آخر ( وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ).
  و أولوا الالباب يعلمون أن ليس المراد من النسخ والإحكام هنا معناهما المصطح عليه في عرف المفسرين، وإنما المراد من النسخ والإحكام في هذه الآية معناهما اللغوي، فالنسخ بمعنى الازالة والاحكام بمعنى الإتقان

أبو هريرة _ 105 _

  وهذه الآية في نسخها وإحكامها ليست إلا كقوله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء و أماما ينفع الناس فيمكث في الأرض يضرب الله الامثال) .
  ثم لمزيد عنايته عز وعلا بنبيه الفته الى ما يوجب له مزيد الطمأنينة بفوز الأنبياء وخزى الشيطان فقال (والله عليم حكيم) وسع كل شئ علماً وحكمة يعلم اخلاص الرسل والأنبياء في أمانيهم فيعمدهم بروح القدس من عنده ويبوئهم مبوأ صدق من كرامته ويعلم عداوة الشيطان لله ولرسوله ولعباده بما يلقيه من التشويه في أماني الرسل والأنبياء فيخزيه بخبث سريرته و لؤم علانيته على ما تقتضيه الحكمة من كرامة من يستحق الكرامة وخزي من يستحق الخزي فان الحكمة وضع الأمور مواضعها.
  وقد شاءت حكمته تعالى ان يميز الخبيث من الطيب من عبادة فابتلاهم بالغرور الرجيم يلقي التشويه في أماني الرسل والأنبياء: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة) أي اختياراً وتمحيصاً: ( للذين في قلوبهم مرض) من النفاق: (والقاسية قلوبهم) لا تلين لذكر الله وما نزل من الحق إذ ران عليها ما سول الشيطان لهم من الكفر فحجبها عن نور الايمان والهدى: (وان الظالمين) من المنافقين والكفار: (لفي شقاق بعيد) أي في عداوة لله ولرسوله لا أجل لها قد اعمت عن الحق ابصارهم واصمت اسماعهم ورانت على قلوبهم، ونعقوا بسببها مع كل ناعق من الشيطان: (وليعلم الذين اوتوا العلم) بوحدانية الله وحكمته وبعثة الرسل والانبياء: (أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) غير آبهين بالشيطان ولا بشئ من تهويله وتضليله.
  وبا لجملة: فان الله سبحانه شاءت حكمته ان يميز الخبيث من الطيب فامتحن الناس بما قلناه فازاداد الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم مرضاً وقسوة وازداد المؤمنين ايماناً ويقيناً، فقوله عز وجل: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة) إلى أن قال: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) جاري مجرى قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ

أبو هريرة _ 106 _

  الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (1) وقوله تعالى: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (2) وقوله عز اسمه: ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) (3).
  : ( ولا عزو فان الله عز وجل ان يمتحن عباده من صنوف المحن وانواع الفتن له الحجة في الثواب والعقاب كما هو مبرهن عليه في محله من كتب الاصحاب فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) (4): ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (5).
  ولنرجع إلى اصل الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ، فانه لايراد بها ان الشيطان يلقي في نفس الرسول او النبي شيئاً (والعياذ با لله) ليشكل الامر فنحتاج الى تخريج الآية على خلاف ظاهرها وإنما المراد ما نصت الآية عليه من ان الشيطان يلقى في الامنية نفسها أي يلقى فيما يتمناه الرسول او النبي ـ من الخير والسعادة ـ شيئاً من التشويه في نظر رعاع الشيطان والناعقين معه ليصدهم بسبب ذلك عما تمناه الرسول لهم ويحول بين الامنية وتحققها في الخارج فتكون الآية الحكيمة على حد قول القائل: وكل ما يتمنى المرء يدركه. هذا هو المراد من الآية قطعاً وهو المتبادر منها الى الأذهان وان لم يذكره ـ فيما اعلمه ـ احد من المفسرين أو غيرهم، والعجب من غفلتهم عنه على وضوحه وكونه هو اللائق بالذكر الحكيم والنبي العظيم، وسائر الرسل والانبياء

---------------------------
(1) في اول سورة العنكبوت.
الآية 179 من سورة آل عمران.
الآية 141 من سورة آل عمران.
الآية 149 من سورة الانعام.
الآية 42 من سورة الانفال.

أبو هريرة _ 107 _

  عليهم السلام فلا يجوز حمل الآية ماسواه أبداً (1) ، أما حديث الغرانقة فانه من مختلفات الزنادقة كما أو ضحناه على سبيل التفصيل في رسالة افردناها لهذا الحديث ولكل ما كان حوله متناً وسنداً اسميناها خرافة الزنادقة أو سخافة الغرانقة (2) والله المسؤول ان يوفقنا لنشرها فانها في بابها مما لا نظيرله، والحمد لله على هدايته وعظيم عنايته.
  ولنرجع إلى ماكنا فيه من حديث أبي هريرة إذ قال: صلى رسول الله صلاة فقال: ان الشيطان عرض لي فشذَّ على يقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعته ولقد هممت أن أوثقه الى سارية حتى تصبحوا فتنظروا اليه فذكرت قول سليمان: (رب لي ملكاً لاينبغي من بعدي الحديث.
  فليسمح لي الشيخان وغيرهما ممن يعتبرون حديث أبي هريرة لأسألهم هل للشيطان جسم يشد وثاقه ويربط بالسارية حتى يصبح وتراه الناس باعينها أسيراً مكبلا؟ ما أظن ان احداً يقول بأن الشيطان ذو جسم كثيف يقع عليه ذلك.
  ولعل الذي جرأ أبا هريرة على هذا الحديث قصور مداركه عن معاني الذكر الحكيم والفرقان العظيم، فظن آياته تثبت وقوع مثل ذلك إذ قال الله عز وجل فيما اقتص من خبر سليمان: ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ).

---------------------------
(1) نشرنا هذا التفسير في المجلد الحادي والثلاثين من مجلة العرفان: 113 وما بعدها.
(2) كنا اولا تصدينا في هذا المقام لحديث الغرانيق فلم نبق مما يتعلق به شيئاً إلا فصلناه تفصيلا حتى افضت بنا التفاصيل الى الخروج عن موضوع الكتاب لذلك آنرت ان اسلخ منه مايتعلق بسخافة الغرانقة فأخرجته كتابا غزير المادة جم الفوائد دائي القطوف.

أبو هريرة _ 108 _

  فظن الرجل انهم كانوا كسائر المقرنين بالاصفاد من البشر ولم يدر أنهم كانوا مقرنين في عالمهم الشيطان با صفاد تتفق مع طبائعهم الشيطانية تمنعهم عما يحاولونه من العيث من حيث لا يراهم من الآدميين أحد أبداً.
  ذكر أبو هريرة في هذا الحديث: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أطلق سراح الشيطان كراهة أن يكون له ملك سليمان، ولولا ذلك لأوثقة إلى سارية حتى يصبحوا فينظروا اليه ، وقد اشتبه أبو هريرة فان الله عز سلطانه وهب لسليمان ملكاً سخر له الريح غدوها ورواحها شهر، وأسال له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه ومن يزغ منهم عن أمره يذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كا لجواب وقدور راسيات فوهب له بهذا ملكاً لم يهبه لرسول الله في ظاهر الحال فلو أوثق صلى الله عليه وآله وسلم شيطان أبي هريرة لا يكون بمجرد ذلك مساوياً في الملك لسليمان إذ تبقى الميزة لملك سليمان بتسخير الريح وإسالة عين القطر وعمل الجن والشياطين من كل بناء وغواص، فالتعليل الذي ذكره أبو هريرة عليل وحديثه من الأباطيل وحاشا رسول الله ان يحير الحواس، ويدهش مشاعر الناس وهو صلى الله عليه وآله وسلم الذي نص على اختصاص العقل با لخطاب وحاكم اليه الخطأ والصواب فجعل صحة الدليل آية الحق وأمرنا أن لا نسير إلا على ضوئه: ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .
  16 ـ نوم النبي عن صلاة الصبح!!
  أخرج الشيخان بالاسناد إلى أبي هريرة واللفظ لمسلم (1) قال: عرسنا مع نبي الله فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليأخذ كل رجل

---------------------------
(1) في باب قضاء الصلاة الفائتة: 1/254.

أبو هريرة _ 109 _

  منكم برأس راحلته فان هذا منزل حضره الشيطان، قال أبو هريرة: ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم اقيمت فصلى صلاة الغداة.
  وهذا حديث يبرأ منه هدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل يقول : ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) الى أن قال وهو اصدق القائلين: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ ) ويقول مخاطباً له في مقام آخر: ( أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *(1) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) أي ومن الليل فصل بالقرآن زيادة لك على الفرائض الخمس التي اوجبتها الآية الاولى، وبينت أوقاتها وذلك ان الفرائض الخمس واجبة على جميع المكلفين، اما صلاة الليل فانما كانت فريضة عليه صلى الله عليه وآله وسلم خاسة لم تكتب على غيره، وقال مخاطباً له في مقام ثالث: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) أي يراك إذ تقوم لعبادته في الليل حين لا يطلع عليك أحد ويرى تصرفك في المصلين بالقيام والقعود والركوع والسجود والذكر والقراءة والدعاء والابتهال اذا صليت في جماعة، وقال مخاطباً له في مقام رابع: ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبح وادبارالسجود ) .
  وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الليل كله ويعلق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم (2).

---------------------------
(1) أن الله سبحانه جعل هذه الآية من دلوك الشمس الذي هو الزوال إلى غسق الليل وقتا للصلوات الاربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء فالظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى المغرب، إلا ان الظهر قبل العصر، والمغرب والعشاء اشتركا في الوقت من المغرب الى الغسق، الا ان المغرب قبل العشاء، وأفرد الله صلاة الفجر بالذكر في قوله: وقرآن الفجر، ففي الأية بيان وجوب الصلوات الخمس وبيان اوقاتها على ما هو المعروف من مذهبنا الامامي.
(2) كذا في تفسير آية طة من مجمع البيان نقلا عن قتادة.

أبو هريرة _ 110 _

  فيظل قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً حتى اسمغدت ـ أي تورمت قدماه (1) ـ فقال له جبرائيل عن الله عز وجل: ابق على نفسك فان لها عليك حقاً وأوحى اليه: طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكره لمن يخشى، والشقاء هو الاستمرار فيما يشق على النفس نقيض السعادة، والمعنى ما انزلنا عليك القرآن لتستمر فيما يشق عليك فتهلك نفسك بالعبادة وتحملها المشقة الفادحة.
  وانما انزلنا عليك القرآن تذكرة لمن يخشى، فرفقاً بنفسك ، وقد عقد البخاري في صحيحه باباً لتهجده في الليل وباباً لطول سجوده في صلاة الليل ، وباباً لطول قيامه فيها وباباً لقيامه حتى تورمت ساقاه وتفطرت قدماه ، هذا دأبه في قيام الليل؛ فما ظنك به اقامة في الفرائض الخمس وهي أحد الأركان التي بنى الاسلام عليها أيجوز أن ينام عنها؟ معاذ الله وحاشا لله وهو الذي أهاب بأهل الأرض يتلو عليهم عن ربهم جل وعلا: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) ونادى في الناس: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إلى أن قال في وصفهم: (والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) وصاح في بني آدم: ( فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ) وأذن فاسمع العالم: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) .
  والقرآن الحكيم مشحون بمثل هذه الآيات البينات التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحوط الناس بحكمتها وموعظتها الحسنة، وكم وخز الساهين عن عبارة ربهم بقوله: ( ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ) وفضح المنافقين بما أوحى الله اليه من صفاتهم بقوله تعالى: ( وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ

---------------------------
(1) تجد الرواية في تورم قدميه في تفسير آية طه من الكشاف وعقد البخاري بابا لقيام النبي حتى تفطر قدماه وتورم ساقاه: في1/135 من صحيحه.

أبو هريرة _ 111 _

  إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) وندّد برجل نام عن صلاة الليل حتى أصبح فقال صلى الله عليه وآله وسلم (1): بال الشيطان في أذنه.
  يالها كناية عن سوء حال من يستمر في عادته على النوم عن صلاة الليل وما أبلغها من رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ، كلمة تقّض مضاجع المؤمنين وتقلقهم فلا ينامون بعدها عن نافلة الليل لو انصفوا أنفسهم وقد علم البر و الفاجر وشهد المسلم والكافر بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان أول المبادرين إلى العمل بتعالميه وأعظم المتعبدين بها المستقيمين المستمرين عليها وأنه كان يهذب أمته بافعاله، ويحملهم بها على البخوع لتعاليمه أكثر مما يهذبهم بأقواله وما كان وهو سيد الحكماء ليندد بمن نام عن صلاة الليل هذا النتنديد ثم ينام هو بمنظر من أصحابه عن صلاة الصبح سبحانك هذه هذا بهتان عظيم.
  وقد ورى أبو هريرة نفسه (2) ان رسول الله‎‎‎صلى الله عليه وآله وسلم قال: يعقد الشيطان على قافية رأس احدكم إذا هو نام ثلاث عقد فان استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فان توضأ انحلت عقدة فان صلى انحلت عقدة فاصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلاناً.
  وهذا الحديث فيه من الكناية البليغة ما في الحديث السابق وهما يمثلان نصح النبي ‎صلى الله عليه وآله وسلم لأمته في تحذيرها من الشيطان وتنشيطها إلى عبادة الرحمن ولئن صدق فيه ابو هريرة في هذا الحديث فقد كذب في نوم النبي صلاة الصبح

---------------------------
(1) فيما أخرجه البخاري في باب اذا نام ولم يصل بال الشيطان في اذنه من كتاب الصلاة: 1/136 من صحيحه.
(2) فيما اخرجه البخاري في باب عقد الشيطان على قافية الرأس اذا لم يصل بالليل: 1/136 من صحيحه، والعجب من البخاري يثبت في صحيحه هذا الحديث عن أبي هريرة ويثبت عنه ايضا نوم النبي عن الفريضة فاعتبروا يا اولي الألباب، وأخرجه أحمد عن أبي هريرة في:2/153 من مسنده.

أبو هريرة _ 112 _

  وروى أبو هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (1): ليس صلاة اثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً لقد هممت ان آمر المؤذن فيقيم ثم آمر رجلا يؤم الناس ثم آخذ شعلا من نار فاحرق على من لا يخرج الى الصلاة بعد أهـ.
  اتراه صلى الله عليه وآله وسلم يحض الناس على الصلاة هذا الحض، ويهتم بصلاة الفجر هذا الاهتمام، ويهدد بالتحريق على من لا يخرج اليها ثم ينام عنها، حاشا لله ومعاذ الله أن يكون كذلك.
  ورحم الله عبد الله بن رواحة الصحابي الشهيد إذ يقول (2):
وفـينا رسـول الله يـتلو iiكـتابه        اذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانـا  الـهدى بعد العمى iiفقلوبنا        بـه مـوقنات ان مـا قـال واقع
يـبيت يـجافي جـنبه عن فراشه        إذا  اسـتثقلت بالعابدين iiالمضاجع
  نرجع الى الحديث وما بقى من قرائن بطلانه وهي امور:
  (أحدها): أنهم ذكروا في خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا ينام قلبه اذا نامت عيناه، وصحاحهم صريحة بذلك (3).
  وهذا من أعلام النبوة؛ وآيات الاسلام، فلا يمكن والحال هذه ان تفوته صلاة الصبح بنومه عنها، إذ لو نامت عيناه فقلبه في مأمن من الغفلة. ولا سيما عن ربه، لا تأخذه عن واجباته سنة ولا نوم، وقد صلى مرة صلاة الليل فنام قبل ان يوتر فقالت له احدى زوجاته يارسول الله تنام قبل ان توثر ؟

---------------------------
(1) فيما أخرجه البخاري من حديث ابي هريرة في: 1/ 73 من صحيحه في باب فضل صلاة العشاء من كتاب الصلاة.
(2) فيما اخرجه البخاري في حديث ابي هريرة: 1/138 من صحيحه.
(3) وقد افرد البخاري في صحيحه لهذه الخصيصة باباً على حده فراجع: 2/179.

أبو هريرة _ 113 _

  فقال لها (1) تنام عيني ولا ينام قلبي، أراد صلى الله عليه وآله وسلم أنه في مأمن من فوات الوتر بسبب ولوعه فيها، ويقضة قلبه تجاهها فهو هاجع في عينه، يقظان في قلبه ، منتبه الى وتره ، واذا كانت هذه حاله في نومه قبل صلاة الوتر فما ظنك به اذا نام قبل صلاة الصبح.
  (ثانيها) ان أبا هريرة صرح كما في صحيح مسلم (2) بأن هذه الواقعة قد اتفقت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قافل من غزوة خيبر فكيف يدعي أبو هريرة حضورة فيها ؟ واين كان أبو هريرة عن غزوة خيبر ؟ وانما اسلم بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليها باتفاق اهل العلم، واجماع أهل الأخبار (3).
  (ثالثها) ان أبا هريرة يقول في هذا الحديث: ليأخذ كل رجل منكم برأس راحلته فان هذا منزل حضره الشيطان قال: ففعلنا.
  وقد علمت مما اسلفناه ان الشيطان لا يدنو من النبي ابداً، وعلم الناس
كافة
---------------------------
(1) كما في باب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه: 2/179 من صحيح البخاري، وأخرجه أحمد في: 2/251 من حديث أبي هريرة من مسنده.
(2) راجع: 1/254 في باب قضاء الصلاة.
(3) نعم كان أبو هريرة في اواخر حياته يقول: قدمت المدينة في نفر من قومي لنسلم وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرافطة الغفاري فصلينا خلفه صلاة الصبح فلما فرغنا من صلاتنا زودنا شيئاً حتى قدمنا على رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد افتتح خيبر فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم وهذا الحديث مما انفرد به أبو هريرة فلم يثبت عن غيره، ولكن الجمهور اخذوا به اعتمادا على ابي هريرة كما هي طريقتهم فأرسلوا حضوره خيبر ارسال المسلمات ولا دليل في الحقيقة لهم على ذلك والحق ما هو المأثور عن ائمة اهل البيت عليهم السلام من ان قدومه الى المدينة واسلامه انما كانا وقت رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر.

أبو هريرة _ 114 _

  ان أبا هريرة كان في تلك الاوقات لا يملك شبع بطنه فمن أين له الراحلة ليأخذ برأسها كما زعم إذ قال: ففعلنا ؟.
  (رابعها) أنه قال في هذا الحديث: ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم صلى صلاة الغداة، أما صلاة الغداة فانها قضاء عما فات لكن السجدتين لم نعرف لهما وجهاً ولا محلا من الاعراب: والفاضل النووي طفر عنهما في شرحه.
  (خامسها) ان من عادة الجيش وقواده ان يكون لهم حرس يقوم عليهم اذا ناموا، ولا سيما اذا كان فيها الملك أو نحوه وكان له من الأعداء الالداء الموتورين من لا تؤمن معرتهم؛ وكان في جيشه من المنافقين من يتربص به الدوائر، ويقلب له الأمور، ويعضون الانامل من الغيظ وقد مردوا على النقاق، فرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يخالف عادة القواد والأمراء في المحافظة على نفسه وعلى جيشه، ولا ينام بأصحابه في تلك الفلاة المحاطة يذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب من اعدائه الذين وترهم وسفك دماءهم الا والحرس قائم بوظيفته من مراقبة العدو الخارجي والمنافق الداخلي، وحاشا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يغفل عن هذه المهمة وهو سيد الحكماء قبل ان يكون سيد الأنبياء فهل نام الحرس ايضاً كما نام المؤذنون؟ كلا! بل انذر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكثرة الكذابة عليه.
  (سادسها) ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يومئذ في جيش مؤلف من الف وستمائة رجل فيهم مائتا فارس، فالعادة أن تأبى يناموا باجمعهم فلا ينتبه احد منهم اصلا، وعلى فرض عدم انتباههم من انفسهم فلا بد بحكم العادة المألوفة ان ينتبهوا بصهيل مائنى فرس وضربها الأرض بحوافرها في طلب علفها عند حضور وقته من الصبح فما هذا السبات العميق الشامل لجميع من كان ثمة من انسان وحيوان؟ ولعل هذا من خوارق أبي هريرة

أبو هريرة _ 115 _

  17 ـ بقرة وذئب يتكلمان بلسان عربي مبين :
  أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح ثم اقبل على الناس؛ فقال بينا رجل يسوق بقرة أذ ركبها فضربها فقالت انا لم نخلق لهذا انما خلقنا للحرث! فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم: قال صلى الله عليه وآله وسلم فاني أؤمن بهذا انا وأبو بكر وعمر! وماهما ثم وبينا رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلبها حتى استنقذها منه، فقال له الذئب: استنقذتها مني! فمن لها يوم السبع ؟! يوم لا راعي لها غيري! فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم: قال صلى الله عليه وآله وسلم فاني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر: وماهما ثم أ هـ (1).
  ان أبا هريرة نزوع إلى الغرائب تواق الى العجائب قد استخفته إلى خوارق العادات نزية من الشوق والهيام (2) فتراه طروباً الى التحدث بما هو فوق النواميس الطبيعية، كفرار الحجر بثياب موسى، وكضرب موسى ملك الموت حتى فقأ عينه، ونزول جراد الذهب على أيوب، وأمثال ذلك من المستحيلات عادة.
  وها هو الآن يحدث بأن بقرة وذئباً يتكلمان بلسان عربي مبين فيفصحان عن عقل وعلم وحكمة، الأمر الذي لم يقع أصلا ، ولا هو واقع قطعاً، ولن

---------------------------
(1) أي وماهما بحاضرين هناك وهذا الحديث تجده في: 2/171 من صحيح البخاري وأورده ايضاً في: ص190 من الجزء نفسه في فضل أبي بكر، وأخرجه ـ مسلم من عدة طرق عن أبي هريرة في: ص316 والتي بعدها من الجزء، الثاني من صحيحه في فضائل أبي بكر، وأخرجه أحمد في اول: 2/246 من مسنده من حديث ابى هريرة.
(2) النزية من الشوق والهيام ما فاجأ الانسان منهما.

أبو هريرة _ 116 _

  يقع ابداً، وسنة الله في خلقه نحيل وقوعه إلا في مقام التحدي والتعجيز حيث يكون آية للنبوة، وبرهاناً على الاتصال بالله عز سلطانه، ومقام الرجل حيث ساق بقرته الى الحقل فركبها في الطريق لم يكن مقام تحدي واعجاز لتصدر فيه الآيات وخوارق العادات. وكذلك مقام راعي الغنم حين عدا الذئب عليه فلا سبيل إلى القول بامكان صحة هذا الحديث عقلا فان المعجزات وخوارق العادات لا تقع عبثاً باجماع العقلاء.
  وما أغنى أبا بكر وعمر عن هذه الفضيلة، وليتهما سمعا أبا هريرة يحدث بها ولو فعل على عهدهما لأعذر الى الله تعالى فيه، ولكنه تذرع بهما إلى اشباع شهوة الإغراب والتخريف في نفسه، ومشى ظلهما إلى ذلك، وهو يعلم ان مكذّبه يمنى بسخط الرأي العام، ويرمي بالخروج على الخليفتين.
  18 ـ تأمير ابي بكر على الحج سنة تسع ونداء أبي هريرة ببراءة سنئذ : أخرج الشيخان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: ان أبا هريرة أخبره ان ابا بكر الصديق بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل حجة الوداع بسنة يوم النحر في رهط يؤذنون في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (1).
  وأخرج البخاري عن حميد عن أبي هريرة أيضاً قال: بعثني ابو بكر الصديق في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ان لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (قال): ثم اردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي

---------------------------
(1) هذا لفظ الحديث في: 1/192 من صحيح البخاري في باب لا يطوف بالبيت عريان من كتاب الحج، واخرجه مسلم في: 1/517 من صحيحه في باب لا يحج بالبيت مشرك ولايطوف بالبيت عريان.

أبو هريرة _ 117 _

تنبيه   فأمره ان يؤذن ببراءة فأذن معنا علي في اهل منى يوم النحر الحديث (1) ، لا عجب من سياسة الشام إذا فرضت هذا الباطل على أبي هريرة وحيمد ولا عجب منهما إذا تطوعا لها فتواطآ عليه.
  فان ابا هريرة إنما أتى الشام متجراً بما يروج فيها من سلعته والدنيا يومئذ متسقة مستوسقة لسلطان بني امية والدعايات ضد الوصي وآل النبي أربح تجارات الدجالين في ذلك العهد.
  وحميد كان ممن صنعوا على عين معاوية لحمل امثال هذا الحديث وللرثاء بالعبادة والتقشف ، وللولوع بالسماع من اعداء علي (2) وكان في بني امية كألدّهم خصومة واشدهم لهجة، وقد وشجت به عروقهم وولدته العبشميات من امهاتهم ، فان امه ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بن ذكوان بن امية بن عبد شمس فهي اخت الوليد بن عقبة لأبيه وأمه، وام امه ام عثمان بن عفان (3) واسمها اروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ( شنشنة نعرفها ) على ان اباه عبد الرحمن كان منحرفاً عن علي وقد آثر يوم الشورى عثمان لصهره (4) مع هن وهن، فلا غروان تواطأ أبو هريرة وحميد على هذا الباطل في تلك الظروف فأذاعته الدعايات الجبارة حتى استطار.

---------------------------
(1) اخرجه البخاري بهذا اللفظ في: 3/90 من صحيحه في تفسيره سورة براءة.
(2) سمع معاوية، وحديثه عنه في صحيح البخاري وسمع النعمان ابن بشير وحديثه عنه في صحيح مسلم وله عن المغيرة بن شعبة وابن الزبير ومروان وغيرهم من أمثالهم.
(3) فعثمان اخو امه لأمها اورى فقط، وام اروى هذه البيضاء وتكنى ام حكيم وهي بنت عبد المطلب بن هاشم وبهذا كان يقال لعثمان انه ابن اخت الهاشميين.
(4) كان عبد الرحمن بن عوف زوج ام كلثوم بنت عقبة وهي اخت عثمان لأمه واخت الوليد لأبيه وامه كما بيناه في الاصل.

أبو هريرة _ 118 _

  ومما نحتج به على بطلانه ان ابا هريرة ( قبل ان يتصل باسباب بني امية ) كان يقول (1): كنت في البعث الذين بعثهم رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع علي ببراءة فقال له ولده المحرر: فيم كنتم تنادون ؟ قال: كنا نقول: لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهده فأجله الى اربعة اشهر (2) فناديت حتى صحل صوتي أ هـ.
  هذا حديثه الثابت منه من طريق الثقات الاثبات لم يذكر فيه ابا بكر بالمرة، وإنما نص فيه على ان البعث الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك السنة إلى مكة ـ وهم الحجاج ـ إنما بعثهم مع علي ـ وفي ركابه ـ وهذه هي الامرة التي اسندها ابو هريرة في ذلك الحديث الى أبي بكر.
  واذا كان مبعوثاً مع علي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يزعم في هذا الحديث، فما معنى قوله في ذلك الحديث: بعثني ابو بكر الصديق في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر ؟! وما الوجه في قوله: ثم أردف النبي بعلى فأذن معنا ؟ وهل هذا إلا تهافت (3)؟! يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا ان يتم نوره.

---------------------------
(1) فيما اخرجه الحاكم وصححه في تفسير سورة براءة من مستدركه: 2/131، واورده الذهبي في التلخيص مصرحا بصحته أيضاً، واخرجه الامام احمد من حديث أبي هريرة: 2/299 من مسنده ولفظه عنده: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى اهل مكة ببراءة.
(2) انكر العلماء قوله فأجله الى أربعة اشهر لأن الذي كان في خطبة امير المؤمنين يومئذ ومن كان له عهد من المشركين فأجله إلى امده بالغا ما بلغ ومن ليس له امد فأجله الى اربعة اشهر والظاهر ان ابا هريرة لم يكن ممن حضر الموسم ليعبى الأذان بكنهه وحقيقته ولا عجب فانه كثيراً ما يدعى الحضور في وقائع لم يحضرها فينقلها على غير وجهها كما ستسمعه في الفصل 13 من الأصل.
(3) التهافت بين الحديثين واضح من حيث تعيين الامير ومن حيث تعيين الباعت لأبي هريرة وغيره من المؤذنين ومن حيث مكان بعثهم هل كان من المدينة ـ ام من مكة؟ ومن حيث زمان البعث هل كان يوم النحر او قبله؟ كما لا يخفى على من تدبر الحديثين.

أبو هريرة _ 119 _

  واني بعون الله تعالى ممحص لك الحقيقة في هذه العجالة مجلوة في مباحث:
  (المبحث الأول): في بيان الواقع من هذه المهمة على سبيل الاختصار ، ومجمل القول هنا انه لما نزلت (براءة) على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بها أبا بكر ليتلوها يوم الحج الأكبر على رؤوس الاشهاد إذاناً ببراءة الله ورسوله من المشركين، ونبذاً لعهودهم، ومنعاً لهم عن مكة، واعلاناً لتحريم الجنة عليهم، وان لا يطوف بالبيت عريان.
   فلما سار غير بعيد أوحى الله إلى نبيه أن لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك فاستدعى علياً وأمره بلحاق أبي بكر وأخذ براءة منه والمضي بها الى مكة لاداء المهمة عن الله ورسول وعهد اليه بالولاية العامة على الموسم (1) وأمره بأن يخبر أبا بكر بين أن يسير مع ركابه او يرجع الى المدينة، فركب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العضباء ولحق أبا بكر فقال له فيم جئت يا أبا الحسن ؟ قال أمرني رسول الله ان آخذ منك الآيات فانبذ عهد المشركين (2) ولك الخيار

---------------------------
(1) قال الامام الطبرسي عند ذكر القصة: 3/3 من مجمع البيان طبع صيدا: وروى أصحابنا ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاه (يعني علياً) على الموسم، وانه حين اخذ براءة من أبي بكر رجع أبو بكر ـ أي إلى المدينة ـ.
(2) فان قلت: كيف يدفع النبي براءة لأبي بكر لينبذ بها عهد المشركين أيام الموسم ثم يعزله قبل وقت الموسم؟ أليس هذا من النسخ قبل حضور وقت العمل؟ وهو محال على الله ورسوله ، قلنا: كلا‍! بل تبين لنا من امره اياه بالذهاب وارجاعه اياه من الطريق قبل حضور الموسم، انه انما كان في الواقع ونفس الأمر مكلفاً بالمسير نحو مكة ليرجعه من الطريق ويرسل علياً مكانه، فيظهر بذلك من تفضيل علي عليه السلام ما لا يظهر بارسال علي من اول الأمر، الا ترى ان الله عز وجل كان في ظاهر الحال قد امر خليله ابراهيم يذبح ولده عليهما السلام ثم لما هم بذلك وتله للجبين اوحى الله اليه: ان قد صدقت الرؤيا يا ابراهيم، فظهر انه لم يكن في الواقع ونفس الأمر مأموراً بذبح ولده، وانه انما كان مأموراً بمقدمات الذبح، ليظهر من فضله وفضل ولده الذبيح ما كان يجهله الناس ولم يكن هذا من النسخ في شئ ،وللغاية التي ذكرناها بعث رسول الله يوم خيبر ابا بكر اولا فرجع فبعث عمر فرجع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اما والله لأعطين الراية غداً رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فأعطاها علياً فكان الفتح على يديه، وظهر من فضله ما لا يظهر لو بعثه من اول الامر، ولهذه القضايا نظائر يعرفها المتتبعون.

أبو هريرة _ 120 _

  في الذهاب معى أو الرجوع اليه، قال بل ارجع اليه، فمضى علي بمن معه من حجاج المدينة وما حولها الى مكة، ورجع أبو بكر الى المدينة فقال يا رسول الله أهلتنى لأمر طالت الأعناق إلي فيه فلما توجهت له رددتني عنه مالى؟ أنزل في قرآن ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا ولكن الأمين جبرئيل عليه السلام هبط الي عن الله عز وجل بأنه: لا يؤدي عنك الا أنت أو رجل منك وعلى منى ولا يؤدي عني إلا علي أ هـ، والأخبار في هذا المعنى متواترة من طريق العترة الطاهرة (1).
  ( المبحث الثاني ): في يسير مما جاء من طريق الجمهور مؤيداً لما ذكرناه وحسبك نص أبي بكر الصحيح الصريح حجة بالغة ، قال: ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعثى ببراءة لأهل مكة لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله الى مدته والله برئ من المشركين ورسول ) ( قال ) فسرت بها ثلاثاً ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي: الحق أبي بكر فرده على وبلغها انت ( قال ) ففعل علي ذلك ورجعت الى المدينة فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكيت اليه وقلت يا رسول الله

---------------------------
(1) فراجع منها ما أخرجه الثقة الثبت الحجة علي بن ابراهيم في تفسير سورة التوبة من تفسيره الشهير، وما ارسله شيخنا المفيد ارسال المسلمات في ارشاده.

أبو هريرة _ 121 _

  حدث في شيء ؟ قال ماحدث فيك الا خير ولكني امرت أن لا يبلغها الا انا أو رجل منى، هذا حديث أبي بكر بلفظه (1) فهل ترى بكاءه واشفاقه يجتمعان مع تأميره؟ كلا!! وانما يكونان بتنحيته.
  ومثله حديث علي إذ قال (2): لما نزلت عشر آيات من سورة براءة دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: ادرك أبا بكر فحيثما لحقته خذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم فلحقته فأخذت الكتاب منه فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله نزل في شيء ؟ قال: لا ولكن جبرائيل جاءني فقال لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك أ هـ.
  وحدث عليه السلام في مقام فقال (3): ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث ببراءة الى أهل مكة مع أبي بكر ثم أتبعه بي فقال لي: خذ الكتاب منه فامض به الى أهل مكة قال: فلحقت أبا بكر فأخذت الكتاب منه فانصرف الى المدينة وهو كئيب فقال: يا رسول الله أنزل في شيء ؟ قال: لا إلا اني أمرت ان ابلغه أنا او رجل من أهل بيتي.
  ونحوه حديث ابن عباس وقد احتج يوماً على خصوم أمير المؤمنين عليه السلام فأفاض في خصائصه وموجبات تفضيله على الأمة بعد نبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال: من حديث طويل (4): ثم بعث رسول الله أبا بكر بسورة التوبة فبعث علياً خلفه

---------------------------
(1) اخرجه الامام احمد في: 1/2 من مسنده من طريق وكيع عن اسرائيل عن أبى اسحاق.
(2) فيما اخرجه الامام احمد في: 1/151 من مسنده.
(3) فيما اخرجه النسائي في: 20 من خصائصه العلوية، والامام احمد من حديث علي من مسنده. ورواه غير واحد من اثبات الخاصة والعامة.
(4) اخرجه الحاكم في: 3/32 من المستدرك في فضائل علي وصحيحه. واعترف الذهبي بصحته اذ اورده في تلخيص المستدرك، وأخرجه النسائي في: ص6 من الخصائص العلوية ، والامام أحمد أخرجه من حديث ابن عباس في: 1/331 من مسنده.

أبو هريرة _ 122 _

  فأخذها منه وقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يذهب بها الا رجل هو مني وأنا منه الحديث ، فبخع لابن عباس بهذا حسدة علي ولو كان أبو بكر أميراً في ذلك الموسم مانخعوا ولا ارعووا ولكن رأوا الحجة قاطعة فاستكانوا لها.
  وكم لحبر الامة وذي حجتها البالغة ومقولها الصارم وابن عم نبيها ـ عبد الله ابن العباس ـ من امثال هذا.
  قال مرة: اني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة إذ قال لي: يا ابن عباس ما أرى صاحبك الا مظلوماً قال: فقلت في نفسي والله لا يسبقني بها، فقلت له يا أمير المؤمنين: فاردد اليه ظلامته، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة وقف فلحقته ، قال: يا ابن عباس ما أظنهم منعهم عنه الا أنهم استصغروه، فقلت: والله ما استصغروه الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك فأعرض عني واسرع ، الحديث، (1).

---------------------------
(1) رواه الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ابن العوام في تاريخه (الموفقيات) الذي ألفه للموفق بالله ابن المتوكل الخليفة العباسي وان من سر الله الذي لا يخفى ونوره الذي لا يطفأ أن يروى الزبير بن بكار مثل هذه الرواية في كتابه الذي الفه لابن المتوكل فان ابن بكار ممن عرف بالعداوة لعلي وأهل البيت وهو الذي استحلفه رجل من الطالبيين بين القبر والمنبر الشريفين فحلف كاذبا فرماه الله بالبرص وكان ينال من العلويين ومن جدهم علي ، فأجمعوا على قتله فهرب منهم الى عمه مصعب بن عبد الله بن مصعب فسأله ان يكلم المعتصم في تأمينه فلم يجد عنده ما اراد إذ لم يكن عمه على رأيه في مكاشفة العلويين ذكر ذلك ابن الأثير في سيرة المعتصم من تاريخه الكامل، اما أبوه بكار فقد كان من المكاشفين للرضا في النصب والعداوة فدعاً عليه الرضا فسقط من قصره فاندق عنقه، وأما جده عبد الله بن مصعب فهو الذي افتى هارون الرشيد بقتل يحيى بن عبد الله بن الحسن، فقال: اقتله يا أمير المؤمنين وفي عنقي دمه، فقال الرشيد: ان عنده صكا مني أعطيته فيه الأمان، فقال عبد الله ين مصعب: لا أمان له يا أمير المؤمنين وعمد الى يحيى فانتزع الصك منه قهراً ومزقه بيده عداوة ورثوها عن جدهم، ورئها عدو عن عدو عن عدو من عبد الله بن الزبير حتى انتهت الى الزبير بن بكار، وبها نال الحظوة عند المتوكل فاختاره لتأديب ولده الموفق، وامر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت من الثياب وعشرة بغال يحمل عليها رحلة الى سامراء فأدب ولده الموفق والف له الموفقيات وهو من الكتب الممتازة الممتعة ننقل عنه كثيراً في املائنا هذا وفي غيره.

أبو هريرة _ 123 _

  فلله أبوه كيف استظهر على الخليفة بهذه الحجة البالغة فأخذه من بين يديه ومن خلفه ومن جميع نواحيه حتى لم يبق في وسعه أن يثبت فأعرض واسرع ولو ان صاحبه كان هو الأمير في ذلك الموسم ـ كما يزعم أبو هريرة ـ ما لاذ الى الاسراع بل كانت له الحجة على ابن عباس وعمر كان مع أبى بكر إذ توجه ببراءة وإذ رجع من الطريق فهو من اعرف الناس بحقائق تلك الأحوال.
  وسئل الحسن البصري عن علي عليه السلام فقال: ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع: ائنمابه على براءة، وما قاله له رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزوة تبوك فلو كان يفوته شئ غير النبوة لاستثناه، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثقلان كتاب الله وعترتي وأنه لم يؤمر عليه أمير قط ، وقد أمرت الأمراء على غيره، هذا كلامه بعين لفظه (1).
  وأنت تعلم اخلاصه لأبي بكر وحرصه على بيان فضله فلو كان أبو بكر هو الأمير على الحج عام براءة دون علي ماكتم امارته، ولا بخسه حقه، ولا شهد لعلي بأنه لم يؤمر عليه احد قط، ولا عرض بأبى بكر إذ يقول وقد أمرت الامراء على غيره، ومن تدبر كلامه هذا علم أنه يقدر الائتمان على براءة حق قدره، وانه يراه خصيصة مقصورة على علي ليس لها كفؤ سواه.

---------------------------
(1) فراجعه في: 1/369 من شرح النهج الحميدي نقلا عن الواقدي.

أبو هريرة _ 124 _

  وكان الصحابة اذا أشادوا بذكر علي في المدينة الطيبة على عهد الخليفتين يحدثون بهذه الخصيصة من مناقبه فلا يناقشهم فيها احد ، هذا سعد يقول (1): بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر ببراءة حتى اذا كان ببعض الطريق ارسل علياً فاخذها منه ثم سار بها فوجد أبو بكر في نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يؤدي عني إلا انا أو رجل مني أ هـ.
  وهذا أنس يقول (2): بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم براءة مع أبى بكر ثم دعاه فقال لا ينبغي ان يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا علياً فاعطاه إياها.
  وهذا عبد الله بن عمر يساله جميع بن عمير الليثي عن علي فينتهره ابن عمر ثم يقول له (3): الا احدثك عن علي هذا بيت رسول الله في المسجد وهذا بيت علي ان رسول الله بعث أبا بكر وعمر (4) ببراءة الى أهل مكة فانطلقا فاذا هما براكب فقالا من هذا ؟ قال: أنا علي يا أبا بكر هات الكتاب الذي معك قال مالي؟ قال والله ما علمت إلا خيراً فأخذ علي الكتاب فذهب به ورجع أبو بكر وعمر الى المدينة فقالا: مالنا يا رسول الله ؟ قال: مالكما إلا خير ولكن قيل لي انه لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك ، والسنن المأثور في هذا متضافرة وكلها صريح برجوع أبى بكر إلى

---------------------------
(1) فيما أخرجه النسائي في: ص20 من الخصائص العلوية عند ذكر يوجيه براءة مع علي. ورواه الامام أحمد مسنده.
(2) فيما أخرجه النسائي: ص20 من الخصائص العلوية والامام احمد من حديث انس: 3/216 من مسنده.
(3) فيما اخرجه الحاكم في: 3/51 من المستدرك.
(4) انما كان عمر يومئذ تابعا لابى بكر وكان ممن خرج معه من الصحابة وكانوا ثلاثمائة فيهم عبد الرحمن بن عوف، وكان عمر اخصهم بأبى بكر ولذا رجع معه الى المدينة دونهم، وقد انضووا ـ بعد رجوع ابى بكر ـ الى لواء على وسار بهم الى مكة مهيمنا عليهم وشهد الجميع رجوع ابى بكر إلى المدينة وفي نفسه من ذلك شئ

أبو هريرة _ 125 _

  المدينة كئيباً مشفقاً من نزول الوحي فيه وهذا ما لا يجتمع مع تأميره في ذلك الموسم ابداً، لكن الدعاية ضد الوصي كانت في منتهى القوة فكان لها اثرها في فجر الاسلام.
  (المبحث الثالث): فيما ترتب من الآثار الشريفة على نبذ عهد المشركين وما كان لأمير المؤمنين بسبب قيامه بهذه المهمة من علو المقام عند العرب كافة وما بوأه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من المجد والعلاء باختيارهما إياه لهذه المهمة ولا سيما بعد أرجاع أبى بكر عنها، الى خصائص أُخر تتصل بذلك وتوجب كونه أفضل الأمة واولاها برسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) حياً وميتاً.
  كان بنبذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد المشركين ومنعه أياهم عن الحج وعن مكة واعلانه تحريم الجنة عليهم واذانه بالبراءة منهم كمال الدين وصلاح امر المسلمين وقوة الحق وأهله ووهن الباطل وأهله.
  أدرك المسلمون به منتهى العزة ونالوا به غاية المجد فهدأت فورة الشرك وذلت نواصى المشركين فكان الدين كله لله عز سلطانه.
  وقد شاء الله سبحانه أن يجري كله على يد عبده ووصي نبيه علي بن أبي طالب تنويهاً باسمه، وتنبيهاً الى فضله، واعلاه لذكره، واعلاناً لعظيم قدره، وتمهيداً للعهد بالخلافة اليه، ومقدمةً للنص في العام المقبل عليه (1) فنشر صلى الله عليه وآله وسلم ذكره ( بارساله إياه لأداء هذه المهمة عنه) انتشار الصبح واطار صيته في العرب استطارة البرق؛ وذلك ان نبذ العهد كان مختصاً عندهم بالزعيم الذي عقده ولا يتجاوزه إلا الى من كان يمثله في زعامته ويخلفه في مكانته؛ ويأمن وهنه، ولا يخشى سقطته، ولا يرتاب في احكامه ولا يعتريه شك في نقضه وابرامه.

---------------------------
(1) اذ كان نبذ العهد سنة تسع وكان النص عليه سنة عشرو النبي صلى الله عليه وآله وسلم قافل من حجة الوداع.