( الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ) (1) .
  كما أن الله تعالى شهد أيضاً بنزاهة وقداسة يوسف وقال : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ) (2) لا ( لنصرفه عن السوء ) .
  أما في مسألة مريم عليهم السلام نرى أنها أما بمستوى يوسف الصديق الذي ذكره الله بعنوان عبد مخلص ( مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) أو هي أعلى منه .
  بيان الموضوع هو انه حين جاء الكلام عن عفاف مريم عليهم السلام لم يكن الكلام عن ( همت به وهم بها لولا ان رءا برهان ربه ) ، بل الكلام عن : (} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ) (3) .
  لذا قال الله تعالى : ( حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) (4) .
  في الآية الآنفة لم يقل تعالى : انها لو لم تر دليلاً إلهياً لكانت رغبت ولكانت نوت ، بل قال : ( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ) ، كلمة ( إِن كُنتَ تَقِيًّا ) هذه هي بعنوان أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، أي اتّق ، وكأن الله تعالى يقول لنا ، لا تقوموا بهذا العمل ( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (5) وهذا التعبير جاء كثيراً في القرآن ، أي اعملوا وفق الإيمان ، أو قوله في آية أخرى :

**************************************************************
(1) سورة يوسف ، الآية : 51 .
(2) سورة يوسف ، الآية : 24 .
(3) سورة مريم ، الآية : 18 .
(4) سورة مريم ، الآية : 17 .
(5) سورة آل عمران ، الآية : 175 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 127 ـ

  ( فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (1) ( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (2) .
  هذا النوع من التعابير المراد به الإرشاد ، أي إذا كنتم مؤمنين اعملوا وفق إيمانكم ، هنا قالت مريم لهذا الملك المتمثل ان لا يقدم على ذلك العمل إذا كان تقياً ، اليس هذا التعبير ألطف من تعبير يوسف ؟ قال الله تعالى في شأن يوسف : إنه لو لم ير برهان ربّه لهمّ ، ولكن لم يهم لأن رأى برهان الرب ، ولكن بشأن مريم ليس فقط انها لم تهم ، بل نهت الملك المتمثل عن هذا الهم أيضاً .
  لنر الآن من كان مربي مريم عليهم السلام ؟ كانت امرأة ، مريم لم تترب على يد رجل ، لم تترب على يد أبيها ، بل تربت على يد أمها ، كثير من الناس صالحون ، لكنهم لا يستطيعون ان يكونوا آباء لبنات مثل مريم ، أو أمهات لبنات مثل مريم ، هناك شروط كثيرة لازمة حتى يستطيع الإنسان الوصول إلى درجة بحيث يهدي ابنه إلى الله ، والله يتقبل ذلك الابن ، أم مريم اعاذت مريم بالله ، والله تعالى اعطاها اللجوء وتقبلها في كنفه .

أثر استعاذة أم مريم
  عندما ولدت مريم ، قالت أمها : ( وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ ) (3) .
  فقال الله تعالى : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) (4) .

**************************************************************
(1) سورة هود ، الآية : 14 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 91 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 36 .
(4) سورة آل عمران ، الآية : 37 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 128 ـ

  ثم قال : ( وأنبتها نباتاً حسناً ) (1) .
  هناك أفراد كثيرون يتقبل الله سعيهم فقط ولي أنفسهم ، ولذا فان الله تعالى لا يقول في شأن جميع الافراد بأنه تقبلهم وأعاذهم بل يقول : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (2) .
  ان قبول العمل هو غير قبول ذات العامل ، فأعمال كثير من الناس مقبولة ، ولكن هل ان جواهر ذواتهم مقبولة أيضاً أم لا ؟ ان الله تعالى قال بشأن مريم : ( فنقبلها ) ولم يقل ( تقل عملها ) بناء على هذا فان أم مريم أعادتها بالله ، فاعطى الله العوذ ، كانت تلك الاستعاذة بالله في جوار المحراب حيث تستجاب وتقول ابنتها : (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ) ، حين تراجع الكتب الأدبية يلاحظ ان الذين كانت لديهم معرفة بالمعارف القرآنية يفسرون كلام أم مريم كما قالته ، ولكن الذين لم يصلوا إلى تلك المعارف الرفيعة ، يفسرون كلام أم مريم هذا بتلك التقاليد الجاهلية .

التشبية في بيان أم مريم ( عليها السلام )
  يبين القرآن الكريم قضيّة ولادة مريم عليهم السلام بهذا الشكل : ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) (3) .

**************************************************************
(1) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 27 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 36 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 129 ـ

  محل البحث هناك حيث قال : ( وليس الذكر كالأنثى ) ، لو دققتم في الكتب الأدبية ترون ان الادباء في تفسير هذه الجملة قمسين : فهناك من يعتبر هذا التشبيه ، تشبيها معكوساً ويقولون : لأ المذكر أفضل من المؤنث والرجل أرقى من المرأة ، فلو قال شخص : ( ليس الذكر كالأنثى ) ، فهنا التشبيه تشبيه معكوس ، وفي الحقيقة يعني ليست الأنثى كالذكر .
  وهناك بعض يعتقدون بان التشبيه في الآية جارٍ على الأصل لا معكوس ، بهذا البيان وهو أن الولد لا يستطيع أبداً أداء دور هذه البنت ، ولا يستطيع أي رجل ان يصبح والداً لعيسى ، ولا يستطيع الرجل أبداً أداء عمل هذه المرأة ، وبناء على هذا فالتشبيه تشبيه مستقيم لا معكوس .

دور النساء تثبيت الأديان الإلهية
  أما قسم قوة الدفع ، فهو قسم مبسوط سنبين خلاصته في هذا البحث ، لقد عرض القرآن الكريم رجالاً بصفتهم في مسألة الغضب ومكافحة الظلم ، أما ما طرح في مسألة مكافحة الظلم الفرعوني فهو كفاح النساء .
  يذكر القرآن الكريم ثلاث نساء كأمثلة وهن اللواتي حفظن موسى من القتل ، وقمن بتربيته ، وكانت كل مسألة تربية موسى الكليم بعهدة أولئك النساء الثلاث ، أم موسى ، أخت موسى ، وامرأة فرعون ، فقد قامت تلك النساء الثلاث بمكافحة الوضع السياسي في ذلك الوقت ، حتى كبر هذا الرجل ، قال تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) (1) .
  عندما ألقت أم موسى ابنها في البحر بأمر الله ، قالت لأخت موسى بأن

**************************************************************
(1) سورة القصص ، الآية : 7 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 130 ـ

  تتابع هذا الصندوق ( وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) (1) .
  من ناحية أخرى قالت امرأة فرعون : ( لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ) (2) .
  من ناحية أخرى هيأت هذه النساء الثلاث الأرضية لنضج وتربية موسى ، حتى طوى بساط فوعون .
  واضح جيداً ان الذهاب وراء الصندوق حتى فصر فرعون لم يكن عملاً مهلاً ، كما أن أمّا إذا أمرت ابنتها بأن تتابع هذا الصندوق وتكون على اطلاع على نهاية مسيره ، وإذا كانت نهاية مسيره هي قصر فرعون تذهب وتعرض عليهم الرضاعة وتقول : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) (3) .
  لا يعتبر هذا أيضاً أمراً سهلاً في ذلك اليوم الذي كانوا يلاحقون كل امرأة مرضعة حتى يفهموا ان طفلها الرضيع ولد أم بنت ، لأن المرأة التي مع طفلاً هي التي تكون مرضعاً ، ان اقتراح التعريف بامرأة مرضعة غير ليس أمرأً عادياً في مثل ذلك الوضع ودخول في ساحة الخطر ومواجهة موت والإعدام ، علاوة على هذا فان أموته أم موسى كانت سرية أيضاً كانوا على أي حال يسألون عن الرضيع وجنسه ، لأنهم كانوا في حال متابعة مستمرة حتى يقضوا على كل رضيع ولد ، كما قال تعالى : ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ) (4) .

**************************************************************
(1) سورة القصص ، الآية : 11 .
(2) سورة القصص ، الآية : 9 .
(3) سورة القصص ، الآية : 12 .
(4) سورة القصص ، الآية : 4 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 131 ـ

  فلم يكن امراً عادياً ، هذا الذي تولته أخت موسى ولم يكن عملاً صغيراً ذلك الذي أمرت به أم موسى ، كما ان اقتراح امرأة فوعون لم يكن اقتراحاً سهلاً ، والشخص الذي كان يعيش مع أكبر سفاح في ذلك العصر ، يقول في ذلك المقطع الحساس : ( لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ) ، هذا الاقتراح يبين شهامة وشجاعة هذا المرأة .

خلاصة البحث
  اتضح مما تقدم ان النساء كانت تتولى أفضل عمل من أجل حفظ الأديان ، وذلك في قسم الغضب والشهوة ( العفاف ) ، وفي قسم العلم أيضاً كانت النساء في حد الرجال جزء من الكلمات الإلهية التي انقذت آدم ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) .
  بناء على هذا تصبح النتيجة أنه لا يوجد قسم يكون فيه الرجال مقدمين ، ولا يكون للنساء فيه سهم ، ولكن يجب أن تدرك المرأة موقعها أولاً ، وثانياً أن يعطي الآخرون حرمة لهذا الموقع ، وثالثاً يهيئون إمكانات ، ثم يبدأ التقويم ، حيث يظهر في ميدان الامتحان إلى أي حد يمكن ان تنجح المرأة وإلى أي حد يمكن للرجل التقدم .

النساء الأسوة في القرآن (2) :
  الأنبياء قدوة الإنسان : القسم الآخر من البحث يقع في هذا الإطار ، هذا الذي عرفه الله تعالى رسوله بعنوان رحمة تشمل العالم ، وقال : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1) ، ( وما أرسلناك إلا كافة

**************************************************************
(1) سورة الأنبياء ، الآية : 107 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 132 ـ

  لِلنَّاسِ ) (1) ، ( لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (2) .
  وهناك آيات كثيرة أخرى تفهم شمولية دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للعالم ( هذه المقدمة ) .
  مقدمة أخرى في قوله تعالى في سورة الأحزاب : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (3) .
  عندما نجعل المقدمة الثانية إلى جانب المقدمة الأولى نرى ان كلمة ( لكم ) ليست خطاباً للرجال ، هي خطاب للناس ، وكما بين سابقاً فان طريقة القرآن هي طريقة الحوار ، وفي المحاورة حين يقال الناس فليس مقصود الرجال في مقابل النساء ، بل المقصود هو جماهير الناس ، وطبق مقدمة الأولى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نذيراً للعالمين ، رحمة للعالمين ، قدوة للناس ، عند ذلك ليس صحيحاً أن نقول في المقدمة الثانية : إن الرسول هو قدوة للرجال ، بل هو قدوة للناس ، كما أن الله تعالى قال عن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) : ( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) (4) .
  كلمة ( أَبِيكُمْ ) هذه هي خطاب للناس لا للرجال ، وقال تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) (5) .
  أي تأسوا أيها الناس بإبراهيم والذين مع إبراهيم عليهم السلام وليس أنتم أيها

**************************************************************
(1) سورة سبأ ، الآية : 28 .
(2) سورة الفرقان ، الآية : 1 .
(3) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .
(4) سورة الحج ، الآية : 78 .
(5) سورة الممتحنة ، الآية : 4 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 133 ـ

  الرجال . لأن ضمير جمع المذكر السالم هذا على أساس ثقافة الحوار هو خطاب للمجتمع ، وليس للرجال .
  وقد دعانا الله إلى التأسي بإبراهيم الخليل في آيتين من سورة الممتحنة ، أحداهما هذه الآية ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) والأخرى قوله تعالى : ( لقد كان لكن فيهم اسوة حسنة ) (1) .
  هذه الأمثلة تبين ان الانبياء هم أسوة للناس لا للرجال .

الأسوة في نظر القرآن
  إذا أصبح الإنسان صالحاً فهو أسوة لسائر الناس . إذا كان رجلاً فهو أسوة للناس لا للرجال فقط ، وإذا كانت امرأة فهي أيضاً أسوة للناس لا للنساء ، والقرآن الكريم يوضح هذه المسألة بصورة صريحة ، ويذكر أربع نساء بعنوان نساء نموذجيات ( اثنتان منهن نموذج حسن واثنتان نموذج سيىء ) .
  المرأة سواء أكانت سيئة أو صالحة ليست مثالاً للنساء ، فحسب ، هي امرأة نموذجية ، وهناك فرق بين كون المرأة الصالحة الجيدة نموذجاً للنساء ، وبين كونها امرأة نموذجية ؟ ان الرجل إذا أصبح جيداً لا يكون نموذجاً للرجال ، بل هو رجل نموذجي .
  القرآن الكريم يقول : إن الرجل الجيد هو نموذج للناس وليس نموذجاً للرجال والمرأة الجيدة ليست هي نموذجاً للنساء ، بل هي امرأة نموذجية ، والمرأة السيئة ليست نموذجاً للنساء السيئات ، بل نموذج للناس السيئين .

**************************************************************
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 6 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 134 ـ

  يذكر القرآن الكريم أربعة نماذج من النساء ـ نموذجان للسيئين ونموذجان للمؤمنين في سورة التحريم ، وفي جميع هذه الحالات الأربع ليس هناك كلام عن المرأة والرجل ، لا يقول ان أولئك النساء السيئات هن مثال للنساء السيئات ، بل يقول : إنهن نموذج للناس السيئين ، وفي الحالتين الأخريين حين يذكر النساء الفاضلات ، لا يقول : إن النساء الفاضلات هن نموذج للنساء الفاضلات بل يقول : إنهن نموذج للناس الفاضلين .

امرأة لوط وامرأة نوح
  يبين القرآن الكريم نموذجاً للناس السيئين بنقل قصة امرأتين سيئتين ويقول : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (1) .
  هنا لا يقول الله تعالى ( ضرب الله مثلاً للآتي كفرن ) ولا يقول ( ضرب الله مثلاً للنساء الكافرات ) لا يقول ان الله ذكر نموذجاً للنساء السيئات ـ بل يقول ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا ) لا ( للنساء ) ولا ( للآتي كفرن ) بناء على هذا يتضح إن ( للذين كفروا ) هذه لا تعني الرجال الكافرين بل تعني الناس الفاسقين والمجرمين ، والمرأة السيئة هي نموذج للناس السيئين لا نموذج للنساء السيئات ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ) المقصود هنا من الخيانة هي الخيانة الرسالية والعقائدية والثقافية ، ولذا قال لنا الله تعالى :

**************************************************************
(1) سورة التحريم ، الآية : 10 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 135 ـ

  ( لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ) (1) .
  الخيانة للنبي ، تعني سوء التعامل مع دينه ، الخيانة لله ، أي سوء السلوك تجاه الايمان هذه هي الخيانة الله والبني ، وعندما قال هنا : إن امرأة لوط وامرأة نوح خانتا هذين النبيين وأحدهما من الأنبياء إولي العزم والآخر حافظ الشريعة إبراهيم عليه السلام أي لم تؤمنا برسالتهما ، وهاتان نموذج للناس الكافرين .
  بناء على هذا يتضح انه إذا كان الكلام عن ( الَّذِينَ ) و ( آمَنُواْ ) وأمثال ذلك ، فان المقصود حسب لغة الحوار ، هم الناس ، وليس الرجال ، وإذا أصبحت امرأة سيئة فهي نموذج لناس سيئين ، وليس نموذجاً لنساء سيئات وفي هذه الآية ( وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) رغم ان ( ادْخُلَا ) كم هي تثنية مذكر فهي تثنية مؤنث أيضاً ، فالمقصود بذكر ( الدَّاخِلِينَ ) بصورة جمع مذكر سالم ، هو الناس الجهنميين وليس الرجال الجهنميين ، هذان نموذجان للنساء السيئات .

امرأة فرعون ، نمودج الناس المؤمنين
  يذكر القرآن الكريم نموذجين جيدين من النساء أيضاً بصفتهن أسوة ، وقد قال الله تعالى بشأن النساء الفاضلات اللواتي عدهن نموذجاً للناس المؤمنين : ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) (2) .
  إن تعبير القرآن في هذه الآية ليس من امرأة فرعون هي نموذج للنساء

**************************************************************
(1) سورة الأنفال ، الآية : 27 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 11 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 136 ـ

  الصالحات بل أن المراة الصالحة هي نموذج للمجتمع الإسلامي ، والمجتمع الرفيع يتأسى بهذه المرأة ، لا ان النساء فقط يجب ان يأخذن منها درساً ، بل المجتمع الإسلامي يجب أن يأخذ منها الدرس ، إن الله تعالى لم يقل في هذه الآية : ( وضرب الله مثلاً لللآتي آمن امرأة فرعون ) بل قال : ( وضرب الله للذين آمنوا امرأة فرعون ) هذه المرأة كانت تعيش في بيت كان صاحبة يقول : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (1) ويقول : ( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) (2) ، إن جملة ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ ) تشير إلى الحصر مثل ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) وهذا الحصر ادعاه فرعون ، الله تعالى يقول : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (3) .
  الأعلى هو مفهوم يرافقه الحصر ، لهذا لا يمكن وجود اثنين بعنوان الأعلى ، ولكن فرعون كان يدعي الانحصار والأعلى ، كان يدعي الربوبية والتوحيد ، الربوبي أيضاً ، وكان يقول : انني الإله الوحيد في مثل هذا البيت نشأت امرأة هي نموذج الناس المتدينين ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ) .
  ثم يذكر القرآن فضائل لهذ المرأة ويرى أهمها في بعد الدعاء حيث أخذت في هذا الدعاء ست نكات عظيمة ، أصبحت هذه المرأة نموذجاً للنساء الصالحات بسبب انها قالت في الدعاء : ( إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) .
  هل ان امرأة فرعون تريد الجنة أم الله ؟ لقد طلبت الجنة عند الله ؟

**************************************************************
(1) سورة النازعات ، الآية : 24 .
(2) سورة القصص ، الآية : 38 .
(3) سورة الأعلى ، الآية : 1 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 137 ـ

  الآخرون يطلبون الجنة ، ويطلبون من الله في أدعيتهم ( جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) (1) ، لكن المرأة أرادت الله أولاً ثم طلبت عند الله بيتاً ، لم تقل : ( رب ابن لن بيتاً في الجنة ) ، ولم تقل : ( ربّ ابن لي بيتاً عندك في الجنة ) بل قالت : ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) ذكرت أولاً عند الله ثم تكلمت عن الجنة ، أي إذا كان الكلام عن ( الجار ثم الدار ) (2) ، فإن هذه المرأة طبقت هذا المعنى في مسألة المقامات الإنسانية وطلبت الله أولاً ثم جنة عند الله ، طلبت أولاً لقاء الله واللذة المعنوية ، ثم اللذة الظاهرية ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) .
  قد يكون هناك من يقول : ( ربّ ابن لي بيتاً في الجنة ) ثم يقول أخيراً ( عندك ) ، أي يقول ( الدار اثم الجار ) ، لكنها كانت هكذا تفكر ( الجار ثم الدار ) الله ثم الجنة ) ، ولذا قالت ( رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) ، طبعاً هناك فرق كبير بين الجنة التي تكون عند الله عند الله والجنة التي تجري من تحتها الأنهار .

تولي وتبري امرأة فرعون
  إن هذين الطلبين ، أحدهما لقاء الله والآخر الجنة ، أي أحدهما ( جنة اللقاء ) والآخر ( جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) ، في هذه الأدعية الستة ، أو هذا الدعاء الذي فيه سنة مطالب ، يعودان إلى التولي ، والطلبات الأربع الأخرى تعود إلى التبري .
  1 ـ ( وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ )
  2 ـ ( وعمله )
  3 ـ ( وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
  4 ـ وأعمالهم وهي محذوفة .
  عندما قالت ( وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ) لم يكن طلبها ان ينجيها الله

**************************************************************
(1) سورة الفرقان ، الآية : 10 .
(2) بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 25 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 138 ـ

  من عذاب فرعون ، يمكن ان يقول شخص إلهي نجني من الظالم ، ولكنه حين يصل إلى السلطة يمارس الظلم ، أما هذه المرأة فلم تطلب من الله نجاتها من فرعون فقط ، بل طلبت الخلاص من عمله وهو الشرك ، لم تطلب النجاة من ظلمه فقط ، بل طلبت الخلاص من الظلم ، طلبت النجاة من أن تكون مظلومة أو ظالمة ، طلبت النجاة من الوقوع في شركه ومن التفكير في ادعاء الربوبية ( ربّ نجني من فرعون وعمله ) ثم قالت : ( ونجني من القوم الظالمين ) قد يتخلص الشخص من فرعون ولكنه يقع في فخ آل عمران أو سائر الظالمين ، لذا عرضت الطلب الخامس ( ونجني من القوم الظالمين ) وحذفت ( أعمالهم ) بقرينة ( نجني من فرعون وعمله ) وحذف ( ما يعلم جائز .
  بناء على هذا فهذه المرأة التي تفهم بهذه الدرجة العالية وفي طلباتها يوجد تبري وتولي وتسأل من الله مسائل اجتماعية وفردية ، هل أن هذه المرأة النموذجية هي نموذج للنساء ؟ أم انها نموذج للمجتمع ؟ قال الله تعالى : ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا ) ، ولم يقل : ( ضرب الله مثلاً للنساء ) أو ( اللاتي آمنّ ) ، لهذا يتضح انه ليس لدينا نموذج للنساء ، لدينا امرأة نموذجية ، ولكنها ليست نموذجاً للنساء ، المرأة النموذجية هي نموذج للناس .

مقام مريم ( عليها السلام ) الخاص بالقرآن
  النموذج الرابع الذي جاء في القرآن الكريم هو مريم عليه السلام ، وهذا النموذج ذكر في سورة التحريم كالنماذج الثلاثة الآنفة ، بعد أن قال تعالى : ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ) ، قال في الآية اللاحقة تكريماً لمقام مريم ( عليه السلام ) الخاص :

جمال المرأة وجلالها   ـ 139 ـ

  ( مريم أبنة عمران ) (1) ، أي ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم ابنة عمران ) ، مريم التي ( أحصنت ) مريم التي ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) ، مريم التي ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) ، ولأن مقام مريم كان أرفع من مقام امرأة فرعون ، لذا لم يذكرهما دفعة واحدة ، بل ذكرهما في آيتين منفصلتين ، على خلاف تينك الكافرتين اللتين ذكرتا في آية واحدة ، ( ومريم ابنة عمران ) التي وصلت من أثر الاحصان والصيانة والعفة ومن أثر تلقي تلك الروح الغيبية إلى ان ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
  يفهم جيداً من هذه النماذج الأربعة في سورة التحريم أنه لا الرجل النموذجي هو نموذج للرجال ، ولا المرأة النموذجية نموذج للنساء ، يمكن ان يكون الفلاح النموذجي ، نموذجاً للفلاحين ، والصناعي النموذجي ، نموذجاً للصناعيين ، والخطاط النموذجي نموذجاً للخطاطين ، ولكن الإنسان النموذجي ، هو نموذج لجميع الناس ، ولا يختص بالمرأة أو الرجل .
  ويجب طبعاً عند تقييم مقام وكمالات مريم عليها السلام عدم نسيان دور أمها ، رغم أن مريم عليها السلام تربت على يد زكريا ، لكن هذا الأمر كان في المرحلة النهائية ، وليس في المرحلة الابتدائية ، كانت أمها أهلاً لأن تلد أم نبي ، وكان لديها ذلك الخضوع الذي جعلها تهدي ابنتها إلى معبد الله ، وان قبول الله تعالى هذه الجوهرة كان من أجل أنه يعلم أنه إذا أعطاها فيضاً ستكون أمينة في حفظ الفيض ، ورغم ان مريم عليهم السلام تقبلها ربها وهي في

**************************************************************
(1) سورة التحريم ، الآية : 12 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 12 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 140 ـ

  سن الطفولة : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) (1) .
  ولكن الله تعالى كان يعلم ان هذه المرأة لو حصلت على كمال ستكون أمينة على حفظ الكمال .
  لقد اعطى الله تعالى فضيلة لعدد كثير من الرجال ، وكان يعلم أنهم ليسوا أهلاً لذلك ، وأنهم سوف يفتضحون في النهاية ، وكان إعطاء الفضيلة لهم من باب ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) (2) واتمام حجة ، لذا أعطاهم فضيلة ولم يعطهم منصباً ومامورية ، لأن الشخص الذي في عمله كشف خلاف ، لو حصل على مأمورية ومنصب يوجه ضربة لأسس الدين الإسلامي اعطى تعالى لبلعم بن باعورا فضيلة ولم يعطه منصباً ، أعطى للسامري فضيلة ولم يعطه منصباً ، لم يكن السامري إنساناً صغيراً ، لقد رأى بعينه الباطنية أثر الملائكة وقال : ( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) (3) .
  ولكن بدلاً من أن يأخذ فيضاً من ذلك الأثر ، ويواصل طريق موسى وهارون عليهما السلام ويتتلمذ عندهما جاء ونشر عبادة العجل ، وكان بلعم بن باعورا شخصاً قال بشأنه الله تعالى :
  ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ) (4) .
  تلك نماذج قرآنية تقوم على ان الله يعلم لمن يعطي منصباً ، ولكنه

**************************************************************
(1) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 164 .
(3) سورة طه ، آية : 96 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 175 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 141 ـ

  يعطي فضيلة حتى يتضح أن البعض يبدل عمداً الفضيلة إلى رذيلة ، ولأن الله تعالى مطلع على بواطن وظواهر الجميع لا يعطي أبداً منصباً رسمياً للذين لهم لاحقة سوء .
  ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (1) ، الله تعالى يعلم لمن يعطي مأمورية ، الله تعالى ليس كالبشر العاديين يعطي لشخص إبلاغاً ، ثم يحصل كشف خلاف ويقول إني لا أبصر ما في الباطن ، إن الله تعالى يقبل الذين يعلم أنهم ثابتون وملتزمون بحسن اختيارهم ، وكانت مريم من هذه النماذج ، بناء على هذا رغم انها لم تقم بعمل في أول ولادتها ، ولكن كان معلوماً أن الله إذا اعطاها فضيلة ، تلتزم وتثبت على حفظها ، لذا تولت رعايتها في بداية ولادتها ، أمّا مثل امرأة عمران ، فبعد أن أرادت الوفاء بنذرها ، أودعتها في المعبد ، ومن ذلك الحين وما بعده : ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) (2) .
  أي جعل الله سبحان وتعالى زكريا كفيلاً لها ، و ( كفّل ) في هذه الجملة أخذت مفعولين ( المكفّل ) هو الله ، والله تعالى كفل مريم تحت رعاية زكريا ( وكفلها زكريا ) لا ( تكفلها زكريا ) ، لم يتكفل زكريا إلا بالوحي الإلهي ، لم تكن القرعة وقعت باسم زكريا بصورة تلقائية ، لذا قال تعالى : إنهم اقترعوا وكانوا الكثير يحبون تربية هذه الطفلة .
  ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (3) .

**************************************************************
(1) سورة الأنعام ، الآية : 124 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 144 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 142 ـ

  واقترعوا وخرجت القرعة باسم زكريا ، بمشيئة الله ، ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (1) .
  ويقول الله تعالى بأنه نظم الخطة بنحو يكون فيه هو المكفل ويكون زكريا متكفلاً ، ومريم تحت الكفالة ، وهذا في مرحلة البقاء حيث تربيتها ورشدها ، وإلا ففي بداية ولادتها وتكونها وظهورها وهجرتها من الرحم إلى الحضن ، كانت في ظل تربية تلك الامرأة .

تقييم مقام مريم ( عليها السلام بنظر المفسرين )
  يذكر القرآن الكريم نماذج كثيرة ، وأحد تلك النماذج هو مؤشر تربية ورشد وحياة وعبادة وعفاف مريم ( عليها السلام ) ، إن ما يبينه القرآن الكريم بشأن مريم ( عليها السلام ) هو انه : ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2) .
  كما أن الملائكة ، تكلمت مع مريم وسمعت كلام مريم أيضاً ، بل أن مريم رأت الملائكة ، بل إنها أيضاً جعلت على مرأى منهم ، وهذه تعابير رفيعة للقرآن بشأن مريم ( عليها السلام ) وأن ملائكة كثيرة تكلمت معها وسمعت كلامها ، وهذا القول الذي كان بصورة شفهية تبدل إلى شهود ، وفي موضع آخر ، وفي مقام تبيين مقام مريم الرفيع قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (3) .

**************************************************************
(1) سورة آل عمران ، الآية : 144 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(3) سورة آل عمران ، الآيتين : 42 ـ 43 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 143 ـ

كما بشرتها بالمسيح ( عليه السلام )
  ( إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ) (1) .
  وفي تبيين حياة مريم ( عليها السلام اعتبرت مجموعة من ( أهل الاعتزال ) كالزمخشري ـ في الكشاف ـ الذين سلكوا طريق التفريط ، أن مشاهدة الملائكة ، وسماع كلام الملائكة هو أما بعنوان ( كرامة لزكريا ) أو عدوه ( إرهاص عيسى ) ، وظنوا ان تلك المرأة لا تستطيع الوصول إلى هذا المقام ، وتتمتع بالكرامة ، وتسمع كلام الملائكة وتتلقى بشارة الاصطفاء من الملائكة وتتلقى منها البشارة بكونها أصبحت أما لنبي ، لذا قالوا : إن كل هذه الفضائل التي حظيت بها مريم هي إما بعنوان معجزة لزكريا أو بعنوان إرهاص عيسى ، كما تقع مجموعة أمور خارقة للعادة قبل القيامة يعبر عنها بعنوان ( أشراط الساعة ) ، كذلك قبل ظهور أو ميلاد نبي تقع مجموعة أمور خارقة للعادة وهي علامة ظهور نبي ، وعبروا عن هذه الأمور الخارقة للعادة في الكتب الكلامية بعنوان ( إرهاص ) .
  أما أهل الافراط كالقرطبي وهو من المفسرين المعروفين من أهل السنة ، وغيره ممن يشاطره الفكر فيعتقدون أن مريم كان لديها منصب النبوة ، لذا نزلت عليها ملائكة كثيرة ، وأخبرتها عن الوحي ، وأعلنت لها مسألة صفوتها وطهارتها عن طريق الإلهام وبشرتها بانها أصبحت أما لنبي وغير ذلك ، ولأن مريم تلقت وحي الملائكة ونزلت عليها الملائكة ووصل كلامها من رتبة المشافهة إلى المشاهدة فهي نبي ، لأن كل شخص نزلت عليه الملائكة وجاءت بالوحي ورآى الملائكة هو نبي .

**************************************************************
(1) سورة آل عمران ، الآية : 45 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 144 ـ

  أما الإمامية الذين يسيرون في طريق القسط والعدل فيهم يعتقدون ان جميع هذه المقامات والكرامات تتعلق بمريم عليها السلام أي هي وصف لحال الموصوف لا متعلق الموصوف ـ ويجب عدم وصفها لحساب إعجاز زكريا ، ومن ناحية أخرى فإن مريم عليها السلام لم تصل إلى مقام الرسالة والنبوة التشريعية ، وهاتان المسألتان يبينهما مفسروا الإمامية بالاستناد إلى الظواهر القرآنية .
  المسألة الأولى : أن جميع هذه الكرامات تتعلق بمريم عليها السلام ، بدليل ظواهر القرآن ان الملائكة تكلمت ولكن ليس فقط بعنوان هاتف غيب وملاك باطن ، بل أصبحت مشهودة لها ، كما أن هذه الخطابات والنداءات تجلت أحياناً بصورة تمثل أيضاً ، كما جاء في القرآن الكريم : ( فتمثل لها بشراً سوياً * إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ) (1) .
  فقال الملك : ( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) (2) .
  ظاهر هذه الآيات هو أن مريم عليهم السلام تلقت لوحدها هذه المقامات ومقام مريم أدّى لأن يطلب زكريا من الله ذرية : ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ) (3) .
  علاوة على أن التوصية بالقنوت ودوام العبادة والخضوع المستمر ، والسجود والركوع هو دليل على مقام مريم ، كما أن الأوصاف التي ذكرها

**************************************************************
(1) سورة مريم ، الآيتين : 17 ـ 18 .
(2) سورة مريم ، الآية : 19 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 38 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 145 ـ

  الله تعالى لهذه المرأة ، دليل على أن شخصية مريم أدت إلى أن ترى الملائكة وتتكلم معها وتسمع كلامها ، أو عندما ذكر الله تعالى مريم بأنها : ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (1) .
  أو في قوله تعالى : ( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) (2) .
  أي أن عيسى له أم كانت تصدق كلام الغيب ، لم تكن صادقة فقط ، بل إنها عدت من الصديقين ، وأن كونها صديقة وتأييد الله لصحة هذا الموضوع دليل على أن جميع هذه الفضائل لمريم ( عليها السلام ) .
  أما ان يعتقد الزمخشري ومن يشاطره الرأي بأن هذه الكرامات كانت بسبب زكريا أو أنها كانت إرهاصات نبوة المسيح عليه السلام فذلك ليس لأن المرأة لا تستطيع الوصول إلى هذا المقام ، بل على أساس تفكير المعتزلة غير صحيح .
  من أنه ليس المرأة فقط بل لا يستطيع أي رجل أيضاً ، الوصول إلى مقام الكرامة ، والأنبياء فقط يمكن ان تحصل لهم معجزة ، ولا يستطيع غير الأنبياء ان يتمتع بكرامة ، سواء كان رجلاً أو امرأة ، وهذا الكلام قد أبطل في محله ؛ لأن الكرامة غير المعجزة ، المعجزة تختص بالأنبياء ، ولكن الكرامة ثابتة لجميع أولياء الله .
  مع هذا التوضيح وهو أن خرق العادة إذ اقترن بادعاء النبوة ، وامتزج بالتحدي ، فيسمى هذا معجزة وإلا فهو كرامة .

**************************************************************
(1) سورة التحريم ، الآية : 12 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 75 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 146 ـ

  أما ما تصوره الافراطيون مثل القرطبي ـ في الجامع ـ وغيره ممن يحمل هذا الفكر فكان على أساس قياس منطقي ، لكن لم يتكرر الحد الوسط في ذلك القياس أو لم تنظم الكبرى مع كليتها ، ولأن القياس لم يكن تتوفر فيه شروط الانتاج المنطقي ، فقد أصيبوا بالمغالطة من هذه الناحية .
  وبيان المغالطة هو أن القرطبي قال في تفسيره : إن الوحي نزل على مريم ( عليها السلام ) ، ونزلت الملائكة وتكلمت معها ، ولم يكن هذا الحوار في حدود المشافهة فقط بل وصل إلى حد المشاهدة ، وكل شخص ينزل عليه الوحي ويسمع كلام الملائكة ويصل من الكلام الشفهي إلى الشهودي هو نبي ، فمريم عليها السلام نبيّ .
  المقدمة الأولى لهذا القياس وهي صغرى صحيحة ، أي أن مريم عليها السلام لم تتكلم مع الملائكة بصورة شفهية فقط بل رأت الملائكة شهوداً وتمثلت لها ، أما المقدمة الثانية أي كبرى القياس التي تقول : إن كل شخص رأى الملائكة وتلقى الوحي هو نبي ، فانها لست كلية .

أقسام الوحي ودفع مغالطة
  الوحي نوعان :
  1 ـ وحي ( انبائي )
  2 ـ وحي ( تشريعي ) . والنبي هو الشخص الذي لا يرى فقط الملائكة في مسائل الرؤية الكونية والمعارف وأمثال ذلك و يسمع كلامهم و ... بل يتلقى عطاء الوحي في المسائل التشريعية أيضاً ، يتلقى الشريعة من الملائكة ويتولى مسؤولية قيادة المجتمع ويتعلم الأحكام المولوية ويبلغها إلى الناس ، وليس كل شخص يتلقى الوحي يكون نبياً ، ورغم أن النبي هو الشخص الذي ينزل عليه الوحي ، ولكن ليس كل من نزل عليه الوحي يكون نبياً ، لأن الوحي أنبائي أحياناً ، وأحياناً تشريعي فتكون النبوة نبوة أنبائية أحياناً ، ونبوة تشريعية أحياناً .

جمال المرأة وجلالها   ـ 147 ـ
div>
  مسألة النبوة التشريعية التي يبينها الله في القرآن الكريم بصورة رسالة ـ لأنها أمر تنفيذي ، ويرافقها حشر مع الناس ، ويتولى قيادة الحرب والسلم وتولي المسائل المالية وتوزيع الأموال وتنظيم أمر المجتمع ـ هذا النوع من النوبة يجعله الله تعالى للرجال ، قال تعالى في سورة يوسف وسورة النحل : ( ما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (1) .
  فالرسالة ، أي قيادة المجتمع ، أي مسألة التشريع والنبوة التشريعية ، وبيان الحلال والحرام ، والواجب والمستحب ، والمكروه والمباح وأمثال ذلك ، هي نبوة ورسالة خاصة وضعت بعهدة الرجال لأنها مقام تنفيذي ، ولكن النبوة الأنبائية بمعنى أن يطلع شخص عن طريق الوحي على ما يجري في العالم ، وما هو مستقبل العالم ؟ ويرى مستقبل نفسه ، ويطلع على مستقبل الآخرين أيضاً ، وهذا النوع من النبوة يعود إلى الولاية وليس إلى النبوة التشريعية والرسالة التنفيذية ، ورغم أن هذا النوع من النبوة هو سند لكل رسالة ونبوة تشريعية ، ولكنه لا يختص بالرجال ، بل إن النساء يستطعن أيضاً الوصول إلى هذا المقام .
  فإذا كان مراد القرطبي وأصحابه في الفكر إثبات نبوة أنبائية لمريم عليه السلام فان جميع العرفاء ، الحكماء والمفسرين يقبلون هذا ، وإذا كان مقصوده النبوة التشريعية ، وان مريم عليها السلام كان لديها رسالة وكانت تتلقى الوحي التشريعي ، فذلك مرفوض ، ولا يمكن استنباطه من الآيات ، ولا تشعر به الروايات بل على خلاف ذلك أقيم ويقام الدليل على أن الأعمال التنفيذية هي للرجل وليس للمرأة ، لذا يرفض مفسروا الإمامية تفكير

**************************************************************
(1) سورة النحل ، الآية : 43 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 148 ـ
  المعتزلة كالزمخشري وكذلك يرفضون تطرف أشخاص كالقرطبي .

مريم الصديقة
  ذكر القرآن الكريم مريم بصفة صديقة وهي مبالغة في التصديق ، بمعنى أنها ليست مصدقة فقط ، ليست فقط صادق وصديق بل هي صديقة .
  الصديقون هم جماعة ترافق الأنبياء والصالحين والشهداء وهم معاً في قافلة ، هؤلاء هم سادة القافلة السائرة في طريق الله ، الأشخاص العاديون سواء النساء أو الرجال يسألون من الله في صلاتهم وأدعيتهم وعباداتهم أن ( أهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ) وقد حدد الله ، المنعم عليهم في سورة النساء فقال : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) (1) .
  الشخص الذي يكون مطيعاً لله ورسوله يلتحق بمسافري القافلة التي أهلها عبارة عن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ثم يقول : ( وحسن أولئك رفيقاً ) .
  هؤلاء رفاق جيدون لأنه : ( سل عن الرفيق قبل الطريق ) (2) .
  فإذا سقط الإنسان امسكوه ، وإذا سار في طريق الإفراط والتفريط قوموه ، وإذا شعر بالتعب أعانوه ، وإذا شعر بالعجز منحوه قوة ، لذا قال ( وحسن أولئك رفيقاً ) .
  وهذا لا يختص بالنساء بان يقلن : إلهي أرنا طريق مريم ، بل أن جميع المصلين يدعون أن يدلهم الله على طريق الصديقين ، ومريم هي جزء من

**************************************************************
(1) سورة النساء ، الآية : 69 .
(2) نهج البلاغة ، الرسالة 31 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 149 ـ
  الصديقين أيضاً ، إن الرجال عندما يدعون في جميع الصلوات بأن يهديهم الله صراط الأنبياء والصديقين ، فان مرادهم ليس الصديقين بمعزلٍ عن مريم بل الصديقين الذين منهم مريم ايضاً .
  إن سر أن مريم عليها السلام صديقة ليس بسبب أنها صدقت الأخبار العادية ، وأنها تصدق ما يصدقه الآخرون ، بل أنها صدقت بشيء لم يصدقه الآخرون ، وأيدت صحة شيء كان الآخرون يعدونه مستبعداً على أساس هذا الأستبعاد اتهموها ، في حين أن مريم لم تطلب آية وعلامة لقبول هذا الأمر غير العادي .

شبهة تفوق مريم عليها السلام على زكريا ( عليه السلام )
شبهة تفوق مريم عليها السلام على زكريا ( عليه السلام )   إن المتطرفين الذين أفتوا بنبوة مريم أرادوا القول : أن مريم أرقى من زكريا ، لأن زكريا عندما سأل الله سبحانه : ( رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ) .
  أو ما جاء في سورة مريم من أن زكريا قال : ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) (1) .
  فقد طلب من الله ذرية صالحة ( ذرية أي ابن ، سواء كان هذا الابن بلا فصل أو مع الفصل ، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد ، وسواء كان مذكراً أو مؤنثاً ، كل هذه يقال لها ذرية ) ، كما جاء في محل آخر من القرآن أنه قال : ( عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا

**************************************************************
(1) سورة مريم ، الآية : 4 .

جمال المرأة وجلالها   ـ 150 ـ
  رضياً ) (1) .
  عند ذلك نادته الملائكة : ( فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا ) (2) .
  ويحيى هذا : ( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (3) .
  وعندما بشرت الملائكة زكريا كبير السن بأنه أصبح أباً ، سأل زكريا من الله : ( رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً ) (4) .
  طلب من الله أن يجعل له آية وعلامة حتى يفهم هل هذه البشارة هي حق أم لا ، أو يفهم متى تتحقق هذه البشارة ، ولكن مريم ( عليها السلام ) عندما سمعت البشارة من الملائكة أطمانت وصدقت لأنها كانت صديقة ، ولم تطلب من الله تعالى علامة بناء على هذا نستنتج أن مقام مريم أعلى من زكريا .
  علة طلب آية من قبل زكريا : هذا الاعتقاد غير صائب ؛ لأنه يجب عدم إنزال نبي من مقامه العظيم لتكريم مقام شخص غيره ـ مريم ( ةعليها السلام ) .

**************************************************************
(1) سورة مريم ، الآيتين : 5 ـ 6 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 39 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 39 .
(4) سورة مريم ، الآية : 10 .