فللسيوطي أكثر من كتاب ألّفه في الاحاديث المتواترة وأدرج فيها حديث الغدير ، والزبيدي صاحب تاج العروس له كتاب خاص بالاحاديث المتواترة وفيه حديث الغدير ، والكتّاني له كتاب في الاحاديث المتواترة وحديث الغدير موجود فيه ، والشيخ علي المتقي الهندي صاحب كنز العمّال له كتاب خاص بالاحاديث المتواترة وفيه حديث الغدير ، والشيخ علي القاري الهروي له أيضاً كتاب في الاحاديث المتواترة وحديث الغدير موجود فيه ، فالكتب المختصة بالاحاديث المتواترة مشتملة على حديث الغدير .
وجدنا تنصيص عدّة كبيرة من أعلام الحفّاظ والمحدّثين على تواتر هذا الحديث : كالذهبي مثلاً يقول هذا الحديث متواتر أتيقّن أنّ رسول الله قاله. والقائل من ؟ الذهبي ، والذهبي متشدّد ومتعصّب .
، وهذا حافظ كبير من حفّاظهم ، فهذه نقاط ، وكلّ نقطة ، وكلّ واحدة من هذه الاُمور تحتاج إلى بحث مستقل ، ونحن ليس عندنا ذلك المجال الكافي للتفصيل في هذه الامور .
رواة حديث الغدير :
ولا بأس الان بأنْ نذكر أسامي أشهر مشاهير رواة حديث الغدير في القرون المختلفة ، فأشهر مشاهيرهم في القرون المختلفة هم :
( 1 ) محمّد بن إسحاق ، صاحب السيرة .
( 2 ) معمر بن راشد .
( 3 ) محمّد بن إدريس الشافعي ، إمام الشافعية .
( 4 ) عبد الرزاق بن همّام الصنعاني ، شيخ البخاري .
( 5 ) سعيد بن منصور ، صاحب المسند .
( 6 ) أحمد بن حنبل ، إمام الحنابلة ، صاحب المسند .
( 7 ) ابن ماجة القزويني، صاحب أحد الصحاح الستة.
( 8 ) الترمذي ، صاحب الصحيح .
( 9 ) أبو بكر البزّار ، صاحب المسند .
( 10 ) النسائي ، صاحب الصحيح .
( 11 ) أبو يعلى الموصلي ، صاحب المسند .
( 12 ) محمّد بن جرير الطبري ، صاحب التفسير والتاريخ المشهورين المعروفين .
( 13 ) أبو حاتم ابن حبّان ، صاحب الصحيح .
( 14 ) أبو القاسم الطبراني ، صاحب المعاجم الثلاثة .
( 15 ) الحافظ أبو الحسن الدارقطني ، الذي كان إمام وقته في بغداد ، ويلقّبونه بأمير المؤمنين في الحديث .
( 16 ) الحاكم النيسابوري ، صاحب المستدرك .
( 17 ) ابن عبد البر ، صاحب الاستيعاب .
( 18 ) الخطيب البغدادي ، صاحب تاريخ بغداد .
( 19 ) أبو نعيم الاصفهاني ، صاحب حلية الاولياء ودلائل النبوة وغيرهما من الكتب .
( 20 ) أبو بكر البيهقي ، صاحب السنن الكبرى .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 11 _
( 21 ) البغوي ، صاحب مصابيح السنّة .
( 22 ) جار الله الزمخشري ، صاحب الكشّاف في التفسير .
( 23 ) ابن عساكر الدمشقي ، صاحب تاريخ دمشق .
( 24 ) الفخر الرازي ، صاحب التفسير المعروف .
( 25 ) الضياء المقدسي ، صاحب المختارة .
( 26 ) ابن الاثير الجزري ، صاحب أُسد الغابة .
( 27 ) أبو بكر الهيثمي ، الحافظ الكبير ، صاحب مجمع الزوائد .
( 28 ) الحافظ المزّي ، صاحب كتاب تهذيب الكمال ، وهو حافظ كبير من حفّاظهم .
( 29 ) الحافظ الذهبي ، صاحب تلخيص المستدرك وغيره من الكتب .
( 30 ) الحافظ الخطيب التبريزي ، صاحب مشكاة المصابيح .
( 31 ) نظام الدين النيسابوري ، صاحب التفسير المعروف .
( 32 ) ابن كثير الدمشقي ، صاحب التاريخ والتفسير .
( 33 ) الحافظ ابن حجر العسقلاني ، يلقّبونه بشيخ الاسلام ، وهو إنصافاً عالم من علمائهم ، يعتمد عليه في النقل وينظر إلى كلماته ككلمات عالم ، أنا بنظري إنّ ابن حجر العسقلاني عالم محترم ، هذا صاحب فتح الباري في شرح البخاري وغيره من الكتب .
( 34 ) العيني الحنفي ، صاحب عمدة القاري في شرح صحيح البخاري .
( 35 ) الحافظ جلال الدين السيوطي ، صاحب المؤلفات الكثيرة المعروفة .
( 36 ) ابن حجر المكّي ، صاحب الصواعق المحرقة في الردّ على الشيعة .
( 37 ) الشيخ علي المتقي الهندي ، صاحب كنز العمّال .
( 38 ) الشيخ نور الدين الحلبي ، صاحب السيرة الحلبية .
( 39 ) شاه ولي الله الدهلوي ، صاحب المؤلفات الكثيرة ، هذا يسمّونه بعلاّمة الهند ، ويعتمدون على مؤلّفاته وينقلون عنها .
( 40 ) شهاب الدين الخفاجي ، رجل محقق محدّث أديب ، له شرح على الشفاء للقاضي عياض وله تعليقة على تفسير البيضاوي أيضاً وهما كتابان معتبران .
( 41 ) الزبيدي ، صاحب تاج العروس .
( 42 ) أحمد زيني دحلان ، صاحب السيرة الدحلانيّة المعروفة .
( 43 ) الشيخ محمّد عبده المصري ، صاحب التفسير وشرح نهج البلاغة والاثار الاُخرى .
هؤلاء أشهر مشاهير رواة حديث الغدير في القرون المختلفة .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 12 _
دواعي عدم نقل الحديث :
وهنا فصلٌ لابدّ من التعرّض له بإيجاز ، وذلك أنّه لو يراجع الباحث الحر المنصف أسانيد حديث الغدير وألفاظه ، ومتون هذا الحديث ، لوجد في متون الحديث قرائن كثيرة تدلّ على أنّ الدواعي إلى عدم نقله أو الموانع عن نقله كثيرة ، فمثلاً : يقول الراوي : رأيت ابن أبي أوفى وهو في دهليز له بعد ما ذهب بصره ، فسألته عن حديث ، فقال : إنّكم يا أهل الكوفة فيكم ما فيكم ، قلت : أصلحك الله إنّي لست منهم ، ليس عليك منّي عار ، فلمّا اطمأنّ بي قال : أيّ حديث تريد ؟ قال : قلت: حديث علي في غدير خم
(1) ، هذا من الصحابة .
ويقول الراوي : أتيت زيد بن أرقم فقلت له : إنّ خَتَناً لي [ أي صهراً ] حدّثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم ، فأنا أُحبّ أنْ أسمعه منك ، فقال : إنّكم معاشر أهل العراق فيكم ما فيكم ، فقلت له : ليس عليك منّي بأس ، فقال : نعم ، عندما اطمأنّ قال : نعم كنّا بالجحفة . . . إلى آخر الحديث ، قال : فقلت له : هل قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ؟ قال : إنّما أُخبرك بما سمعت ، هذا الحديث في المسند
(2) .
قارنوا هذا الحديث الوارد في المسند عن زيد بن أرقم ، مع الحديث الذي قرأناه في أوّل البحث عن زيد بن أرقم ، إنّه لم يرو هنا هذه القطعة في ذيل الحديث ، لكنْ هناك قال : نزلنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بواد يقال له غدير خم . . . إلى آخره ، قال : « فمن كنت مولاه ، فإنّ عليّاً مولاه ، اللهمّ عاد من عاداه ووال من والاه» ، وهذا أيضاً في المسند
(3) .
فأحمد يروي الحديثين بفاصل أوراق معدودة ، في أحدهما لا يذكر زيد بن أرقم هذه القطعة الاخيرة من الحديث لهذا الشخص ، لكنْ هناك للشخص الاخر يروي هذه الجملة أيضاً ، وسأقرأ لكم حديثاً آخر عن المعجم الكبير للطبراني ، سترون أنّ زيد بن أرقم يروي هذه القطعة أيضاً لذلك الراوي الاخر .
---------------------------
(1) مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي : 16 .
(2) مسند أحمد 4 / 368 .
(3) مسند أحمد 4 / 372 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 13 _
يقول الراوي أيضاً : قلت لسعد بن أبي وقّاص ـ الذي هو من رواة حديث الغدير ، ومن كبار الصحابة ، وأحد العشرة المبشرة كما يقولون ـ : إنّي أُريد أنْ أسألك عن شيء ، وإنّي أتّقيك ـ يظهر التقيّة موجودة بينهم حتّى من أنفسهم هم ـ قال : سل عمّا بدا لك فإنّما أنا عمّك ، قال : قلت مقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيكم يوم غدير خم ، فجعل سعد يحدّثه بالحديث
(1) ، لكنّ الراوي عندما يريد أن يسأله يقول : اُريد أن أسألك عن شيء وإنّي أتّقيك .
أُنظر إلى الظروف المحيطة بقضيّة حديث الغدير ، وكيف كانوا يريدون التوصّل إلى هذا الحديث بهذه الاساليب ، يقول الراوي عندما وقف شخص على حلقة فيها زيد بن أرقم قال : أفي القوم زيد ؟ قالوا : نعم هذا زيد ، فقال : أُنشدك بالله الذي لا إله إلاّ هو يا زيد ، أسمعت رسول الله يقول لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه ؟ قال : نعم ، فانصرف الرجل ، وكأنّه عندما يريد أن يسأل زيداً لابدّ وأنْ يحلّفه حتّى يحكي له الواقع كما سمع من رسول الله ، هذا الحديث في المعجم الكبير للطبراني ، فإلى هنا انتهينا ممّا يتعلّق بسند حديث الغدير ومتن حديث الغدير .
---------------------------
(1) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب : 620 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 14 _
إثبات التواتر اللفظي لحديث الغدير :
ورأينا أنّ هذا الحديث حديث متواتر ، بل لقد تجاوز حدّ التواتر بأضعاف مضاعفة ، والتواتر كما تعلمون على أقسام : تارة التواتر لفظي ، وتارة التواتر إجمالي ، وتارة التواتر معنوي ، وبقرينة ذكر القوم هذا الحديث في كتبهم المتعلّقة بالاحاديث المتواترة يظهر أنّ هذا الحديث بهذا اللفظ متواتر ، وهذا شيء مهم ، لانّهم في كتب الحديث وعلم دراية الحديث ـ إذا راجعتم ـ يقولون بأنّ التواتر اللفظي قليل جدّاً ، حتّى أنّهم يحصرون التواتر اللفظي بحديث إنّما الاعمال بالنيّات فقط ، وربّما أضافوا إلى هذا الحديث حديثاً آخر ، هكذا يدّعون ، ويقولون بأنّ الاحاديث الواصلة إلينا من رسول الله هي وإن كانت متواترة إلاّ أنّها متواترة معنى أو إجمالاً ، هذا في أكثر الاحاديث الواصلة إلينا التي يمكننا أن ننسبها إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقطع واليقين .
إلاّ أنّ حديث الغدير بهذا اللفظ متواتر ، وهذا شيء له أهميّته ، ولابدّ من الدقّة في هذه النقطة فإنّها أمر مهم ، فانتهينا إذن ، من لفظ الحديث ومتنه ، وانتهينا من سنده ، وأنّه متواتر قطعاً ، وقد نصّ الشيخ عبد العزيز الدهلوي صاحب كتاب التحفة الاثنا عشرية ، هذا الكتاب الذي طبع مختصره بالعربية بقلم الالوسي البغدادي ، ونشره بعض أعداء الدين مع تعاليق شحنها بالسباب والشتائم وبالشحناء والبغضاء لاهل البيت ولشيعتهم ، يقول المولوي عبد العزيز الدهلوي في كتابه التحفة الاثنا عشرية : إنّ الحديث إذا وصل حدّ التواتر وأصبح قطعي الصدور عن رسول الله، كان بمنزلة آية قرآنيّة ، فكما أنّ القرآن الكريم مقطوع الصدور من الله سبحانه وتعالى ، ولا ريب في أنّ هذا القرآن مقطوع الصدور من الله سبحانه وتعالى ، ولا ريب في هذا القرآن وفي ألفاظه ووصول القرآن الكريم إلينا بالتواتر القطعي ، فكلّ حديث يروى عن رسول الله ويصل إلينا بأسانيد تفيد القطع واليقين يكون هذا الحديث بحكم الاية القرآنيّة وبمثابة القرآن الكريم ، إذن أصبح قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » بمثابة آية في القرآن الكريم من حيث أنّه مقطوع الصدور .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 15 _
دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
حينئذ ، لابدّ من بيان وجه الاستدلال بهذا الحديث المتواتر قطعاً على إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وجه الاستدلال بهذا الحديث يتلخّص في أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أنْ أخذ منهم الاقرار وأشهدهم على أنّه أولى بهم من أنفسهم ، مشيراً إلى قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )
(1) ، مقتضى هذه الاية المباركة كون النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كلّ مالهم الولاية عليه ، فأخذ منهم الاقرار على هذا المعنى ، ثمّ فرّع على ذلك بقوله : « فمن كنت وليّه » ويوجد في بعض الالفاظ « فمن كنت أميره » « فعليّ مولاه » « فعليّ وليّه » « فعليّ أميره » إلى آخره ، فأثبت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ما ثبت له من الاولويّة بالناس من الناس ، أي من أنفسهم ، ثمّ إنّهم جميعاً بايعوه على هذا وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، وهنّأوه ، ونظمت فيه الاشعار .
ومحور الاستدلال بحديث الغدير كلمة « مولى » ، ومجيء هذه الكلمة بمعنى « الاولى » ، وذلك موجود في القرآن الكريم في سورة الحديد ، موجود في الاحاديث النبوية المعتبرة حتّى في الصحيحين ، موجود في الاشعار العربية والاستعمالات الفصيحة ، وحينئذ ، يتمّ الاستدلال على ضوء الكتاب والسنّة والاستعمالات العربية الصحيحة الفصيحة ، وإذا كان أمير المؤمنين بمقتضى هذا الحديث أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فكلّ من عدا رسول الله ، كلّ من كان مؤمناً عدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كان مؤمناً حقيقة أو ادّعي له الايمان ، فعليّ أولى به من نفسه ، بما فيهم كبار الصحابة ومشايخ القوم و . . . إلى آخره ، هذا وجه الاستدلال ، لكن في مقام الاستدلال لابدّ وأنْ ننتظر ، ولننظر ماذا يقولون في مقابل هذا الاستدلال ، وتلك هي الجهة الثانية .
فتلخص إلى هنا : إنّ حديث الغدير له جذور في القرآن الكريم ، جذور في السنّة النبويّة المعتبرة القطعيّة المتفق عليها بين الفريقين ، وجذور أيضاً في الاخبار والاثار ، وما أكثر المناشدات والاحتجاجات بحديث الغدير ، من أمير المؤمنين أوّلاً، ومن الزهراء البتول بضعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن الائمّة الاطهار ، ومن كبار الصحابة ، والعلماء ، وأيضاً في الاشعار الكثيرة ، من كبار شعراء الصحابة أنفسهم وحتّى القرون المتأخّرة ، فلحديث الغدير هكذا جذور .
---------------------------
(1) سورة الاحزاب : 6 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 16 _
ولو أردنا أن ندخل في هذا الباب لطال بنا المجلس ، لانّ المناشدات وحدها تحتاج إلى أكثر من مجلس في نظري ، واحتجاج الصدّيقة الطاهرة ( سلام الله عليها ) بحديث الغدير وهي بضعة رسول الله، وكونها بضعة رسول الله ليس بالشيء الهيّن ، قول رسول الله: « فاطمة بضعة منّي » هذا الحديث موجود في الصحاح ، ولاجل هذا الحديث نصّ غير واحد من أعلام القوم على أفضليّة الزهراء حتّى من الشيخين ، تعلمون أنّهم يؤخّرون عليّاً عن عثمان ، وعثمان متأخّر عن الشيخين ، ويجعلون الفضيلة والافضليّة بترتيب الخلافة ، هذا هو المشهور بينهم ، لكنّ الزهراء ( سلام الله عليها ) يفضّلها بعضهم على الشيخين ، بمقتضى حديث « فاطمة بضعة منّي » وعندما نصل إلى بحث الصدّيقة الطاهرة ( سلام الله عليها ) سأطرح لكم تلك الكلمات ، لانّها مهمّة للغاية ، فهي الاُخرى أيضاً احتجّت بحديث الغدير .
وهذا كلّه بغضّ النظر عن شواهد حديث الغدير ، فلحديث الغدير شواهد كثيرة في السنّة القطعيّة ، منها حديث الولاية الذي سنبحث عنه في ليلة وقد جعلناه موضوعاً مستقلاً ، سنبحث عنه سنداً ودلالة إن شاء الله تعالى ، فهذا هو الحديث .
الجهة الثانية :
الجهود التي بذلت في سبيل إبطال هذا الحديث وفي الجهة الثانية : تعلمون بأنّ علماء القوم يحاولون تبرير الواقع التاريخي ، يحاولون توجيه ما وقع ، يقول الله سبحانه وتعالى : ( وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً ) لكن القوم يحاولون أنّ يبرّروا ما فعلوا ، فكانوا مصاديق لهذه الاية المباركة، فلننظر ماذا يقولون تجاه حديث الغدير : مسألة أن علياً ( عليه السلام ) لم يكن في حجة الوداع ولعلّكم تتعجّبون أو تضحكون ممّن يقول ـ قبل كلّ شيء ـ : بأنّ عليّاً لم يكن في حجة الوداع ، كان عليّ في اليمن في ذلك الوقت ، فكلّ حديث ورد فيه أنّه أخذ بيد عليّ وجعل يعرّفه إلى الناس ويقول : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، هذه الاحاديث كلّها كاذبة ، لانّ عليّاً كان باليمن ، تستغربون لو قلت لكم أنّ القائل بهذا القول هو الفخر الرازي .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 17 _
لكن من حسن الحظ أنّ مثل ابن حجر المكّي صاحب الصواعق
(1) يردّ هذا الكلام ، وكذا شرّاح الحديث الذين نرجع إليهم دائماً في فهم الاحاديث ، وهذا ديدني في بحوثي ، أرجعُ إلى مثل المنّاوي صاحب فيض القدير الشارح للجامع الصغير ، أرجعُ إلى الشيخ علي القاري الشارح للشفاء للقاضي عياض ، وصاحب المرقاة في شرح المشكاة ، وهكذا أرجعُ إلى الشروح كشرح المواهب اللدنيّة وصاحبه الزرقاني المالكي ، أرجعُ إلى هؤلاء لانّهم شرّاح الحديث ، وأهل فهم الحديث ، وكلماتهم حجّة في شرح الحديث وبيان معاني الاحاديث النبويّة ، أرجع إليهم إحتجاجاً بكلماتهم وإلزاماً للقوم بأقوال علمائهم .
يقول علي القاري في المرقاة في شرح المشكاة
(2) بأنّ هذا القول باطل ، لثبوت أنّ عليّاً رجع من اليمن ، وكان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حجّة الوداع ، وفي الصحاح أيضاً حديث بقضيّة الخروج من الاحرام ، كلّهم يروون هذا الحديث ، أصحاب الصحاح الستّة وغيرهم ، وفيه : إنّ عليّاً كان مع رسول الله في حجّة الوداع ، فقول الفخر الرازي بأنّ عليّاً كان في اليمن في ذلك الوقت ، يدلّ من جهة أُخرى على صحّة هذا الحديث ، وتماميّة دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين .
مسألة عدم التسليم بصحة حديث الغدير :
ثمّ هناك محاولة أُخرى لردّ حديث الغدير ، يقول بعضهم : لا نسلّم صحّة هذا الحديث ، ومن هؤلاء الفخر الرازي أيضاً ، وقد ذكرنا عدّة من أعلام القوم الذين ينصّون على تواتر حديث الغدير ، ويذكرون حديث الغدير في كتبهم المختصة بالاحاديث المتواترة .
---------------------------
(1) الصواعق المحرقة : 25 .
(2) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 574 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 18 _
مسألة عدم تواتر حديث الغدير :
هناك مطلب ثالث، يقوله ابن حزم الاندلسي وبعض أتباعه ، وترون الشيخ سليم البشري المالكي يقوله في مراجعته للسيّد شرف الدين ، يقول : بأنّكم معاشر الاماميّة تذهبون إلى أنّ الامامة من أُصول الدين ، ولا ريب أنّ أُصول الدين لا تثبت إلاّ بالاخبار المتواترة أو الادلّة القطعيّة ، وحديث الغدير لا نوافق على تواتره ، فإذن ، لا تثبت بحديث الغدير إمامة علي ، ويتلخص هذا الاشكال في إنكار تواتر حديث الغدير ، الاشكال السابق كان إنكار صحّة حديث الغدير ، فيسلّم هؤلاء بصحّة حديث الغدير ، إلاّ أنّهم يناقشون في تواتره ، فإذا لم يتم تواتر حديث الغدير لم يتم الاستدلال به على إمامة علي ، لانّ الحديث الظنّي وإنْ كان صحيحاً ، وإن كان معتبراً ، لا يثبت لنا أصلاً من أُصول الدين ، إذْ لابدّ في أُصول الدين من القطع واليقين ، والحديث الظنّي لا يفيد القطع ، إذن ، لا يثبت به أمر قطعي .
وهذا الاشكال إشكال أساسي إن تمّ نفي تواتر حديث الغدير ، لكنّنا نلزمهم بمثل تصريح الذهبي ، وابن كثير ، وابن الجزري ، والسيوطي ، والكتّاني ، والزبيدي ، والمتقي الهندي ، والشيخ علي القاري ، وغيرهم ، بتواتر حديث الغدير ، أمّا ابن حزم فقد ذكروا في ترجمته إنّه كان من النواصب ، وأيضاً : يذكرون بترجمته إنّ لسان ابن حزم وسيف الحجّاج شقيقان ، والاشقى منه من يتّبعه فيما يقول ويستند إلى كلماته وإلى أباطيله ، وليس المجال الان يسع لاكثر من هذا ، وإلاّ لذكرت لكم بعض أباطيل هذا الرجل ، لذكرت لكم كلامه المقتضي للحكم بكفر هذا الشخص .
إذن ، هذا الاشكال أيضاً يندفع باعتراف كبار أئمّة القوم بتواتر حديث الغدير ، مسألة مجيء « المولى » بمعنى « الاُولى » عمدة الاشكال : مسألة المولى ومجيء هذه الكلمة بمعنى « الاولى » ، يقول الشيخ عبد العزيز الدهلوي صاحب كتاب التحفة الاثنا عشرية : بأنّ لفظة مولى لا تجيء بمعنى الاولى بإجماع أهل اللغة ، فهو ينفي مجي المولى بمعنى الاولى، ويدّعي إجماع أهل اللغة على هذا النفي .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 19 _
نقول في الجواب :
أوّلاً: قد لا نستدلّ بالحديث المشتمل على لفظ المولى ، ونستدلّ بالاحاديث الاُخرى التي جاءت بلفظ « الولي » و « الامير » ونحو ذلك من الالفاظ .
وثانياً : نقول بأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً ، فالالفاظ الاُخرى رافعة للابهام المدّعى وجوده في هذا اللفظ ، ولا تبقى حينئذ مشكلة .
الجواب الثالث : الاية الكريمة الموجودة في سورة الحديد في القرآن الكريم ، والاحاديث الصحيحة الموجودة حتّى في الصحيحين ، الدالة على مجيء كلمة المولى بمعنى الاولى، لكنّ الورود في بحث مجيء المولى بمعنى الاولى على ضوء القرآن والحديث والاشعار العربية وغير ذلك يتطلّب وقتاً ، ونحن لا يسعنا أن ندخل في ذلك البحث ، غاية ما هناك نكتفي الان بذكر أسامي عدّة من كبار علماء اللغة والتفسير والادب ـ وهم من أهل السنّة ـ يصرّحون وينصّون على مجيء مولى بمعنى الاولى، فمنهم :
( 1 ) أبو زيد الانصاري، اللغوي المعروف .
( 2 ) أبو عبيدة البصري معمر بن المثنى .
( 3 ) أبو الحسن الاخفش .
( 4 ) أبو العباس ثعلب .
( 5 ) أبو العباس المبرّد .
( 6 ) أبو إسحاق الزجّاج .
( 7 ) أبو بكر ابن الانباري .
( 8 ) أبو النصر الجوهري ، صاحب كتاب صحاح اللغة .
( 9 ) جار الله الزمخشري ، صاحب الكشّاف .
( 10 ) الحسين البغوي ، صاحب التفسير وصاحب مصابيح السنّة .
( 11 ) أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي .
( 12 ) البيضاوي ، صاحب التفسير المعروف .
( 13 ) النسفي ، صاحب التفسير المعروف .
( 14 ) أبو السعود العمادي ، صاحب التفسير المعروف .
وأيضاً ، ممّن ينصّ على مجيء المولى بمعنى الاولى من العلماء الاخرين الذين سجّلت أسماءهم هنا :
( 15 ) شهاب الدين الخفاجي، الذي ذكرته لكم .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 20 _
وأيضاً بعض المحشّين والمعلّقين من كبار العلماء والمدرّسين في تعاليقهم على تفسير البيضاوي ، ويكفي هذا المقدار للجواب عن هذه الشبهة ، إذن ، يتلخص الجواب عن هذه الشبهة بالقرآن الكريم ، فنفس كلمة المولى موجودة فيه وقد فسّرت بالاولى ، في سورة الحديد قوله تعالى : ( هِيَ مَوْلاَكُمْ ) أي النار ( وَبِئْسَ الْمَصِيْرُ )
(1) يفسّرون الكلمة بـ : هي أولى بكم وبئس المصير ، والاحاديث أيضاً كثيرة ، والاشعار العربيّة الفصيحة موجودة ، وكلمات اللغويين أيضاً موجودة .
فارجعوا : إلى كتاب عبقات الانوار ، ونفحات الازهار في خلاصة عبقات الانوار ـ في قسم حديث الغدير ـ وارجعوا إلى كتاب الغدير للشيخ الاميني ( رحمة الله عليه ) ، التفاصيل موجودة هناك ، ولا أعتقد أنّ من العسير عليكم الحصول على تلك المطالب .
مسألة دلالة حديث الغدير على إمامة علي (عليه السلام) بعد عثمان :
وإذ رأوا أنْ لا جدوى في هذه المزاعم وفي هذه المناقشات ، رأوا أنْ لا فائدة في إنكار وجود علي في يوم الغدير ، رأوا أنْ لا فائدة في إنكار تواتر حديث الغدير ، رأوا أنْ لا فائدة في إنكار مجيء المولى بمعنى الاولى، إذن ، يضطرّون لانْ يسلّموا بدلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين وكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم كالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لكنّهم لا يريدون أن يعترفوا ، فقالوا : سلّمنا بأنّ الحديث يدلّ على الامامة ، لكنْ ، لتكنْ الامامة لعلي بعد عثمان كما هو الحال الواقع ، فالحديث يدلّ على الامامة ، لكنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أراد إمامته بعد عثمان ! ! فهم يسلّمون بدلالة حديث الغدير على الامامة ، لكن يحملون الامامة على المرتبة الرابعة ، بأنْ يكون علي بعد عثمان ، والشيخان أفضل من عثمان عندهم ، وعثمان أفضل من علي أو لا ؟ فعندهم خلاف ، وبعضهم يفضّل عليّاً على عثمان .
ولكن عندي ـ وأعتقد بيني وبين ربّي بحسب أحاديثهم ـ إنّ عثمان أفضل من الشيخين ، هذا ما أعتقده بحسب أحاديثهم ، وهذه دعوى لابدّ من إثباتها في وقت وفي فرصة تسنح لطرح مثل هذا البحث ، وله أثره ، لانّه في النتيجة ، إذا كان عليّ أفضل من عثمان ـ كما هو قول عدّة كبيرة من أعلامهم ـ فيكون عليّ أفضل من الكلّ بالقطع واليقين .
---------------------------
(1) سورة الحديد : 15 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 21 _
وعلى كلّ حال ، فيحملون إمامة عليّ التي يدلّ عليها حديث الغدير على الامامة بعد عثمان ، لكن هذا الحمل :
أوّلاً:
يحتاج إلى أدلّة تفيد حقّية ما يذهبون إليه في الامامة والخلافة بعد رسول الله ، فإنْ أقاموا الدليل على صحة إمامة المشايخ الثلاثة كان حديث الغدير دالاًّ على إمامة عليّ بعدهم ، ولكن لو كان هناك حديث معتبر على معتقدهم لما كان بيننا نزاع ، لو كان هناك حديث يفيد القطع واليقين ويكون متّفقاً عليه بين الطرفين ، لما كان بيننا نزاع ، إذن ، هذه الدعوى أول الكلام ، وهي مصادرة بالمطلوب .
وثانياً :
مفاد حديث الغدير إنّ عليّاً أولى بهؤلاء من أنفسهم .
وثالثاً :
ماذا يفعلون بالاحاديث الصحيحة الواردة في تهنئة المشايخ لعلي يوم غدير خم ومبايعتهم له بالامامة والخلافة ، وقد أصبحت كلمة عمر « بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » من أشهر الكلمات في العالم ، كما أنّ كلمته « لولا علي لهلك عمر » يعرفها العالم والجاهل ، يعرفها العالي والداني ، حتّى الصبيان أيضاً ربّما يحفظون هذه الكلمة عن عمر في حقّ عليّ ، وكيف يحمل حديث الغدير على إفادة الامامة بعد عثمان مع تلك البيعة ؟ وهل بايعوا على أن يكون بعد ثالثهم ؟ وهذا الوجه أيضاً لا يفيد وهم ملتفتون إلى هذا .
مسألة دلالة حديث الغدير على الامامة الباطنية :
وهل من وجه آخر ؟ قال بعضهم : نعم ، إنّ حديث الغدير يدلّ على إمامة عليّ ، لكنّ الامامة تنقسم إلى قسمين ، هناك إمامة باطنيّة هي الامامة في عرف المتصوّفة ، فعليّ إمام المسلمين بعد رسول الله بلا فصل لكن هو إمامٌ في المعنى ، إمام في القضايا المعنوية ، إمام في الاُمور الباطنيّة ، والمشايخ الثلاثة هم أئمّة المسلمين في الظاهر ، ولهم الحكومة ولهم الامر والنهي ، ولهم القول المسموع واليد المبسوطة والكلمة النافذة .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 22 _
يقولون هذا ، وكأنّه قد فوّض إليهم أمر الامامة والخلافة وتقسيم الامامة ، بأن يضعوها بذلك المعنى لعلي وولده ، وبالمعنى الآخر للمشايخ الثلاثة ، ثمّ لمعاوية ثمّ ليزيد ثمّ للمتوكّل ثمّ وثمّ إلى يومنا هذا ! ! كأنّ الامامة أمر يرجع إلى هؤلاء وما تهواه أنفسهم ، بأن يقولوا لعليّ : أنت إمام بمعنى كذا ، وأنت يا فلان إمام بالمعنى الآخر ، وهذا أشبه بالمضحكة ، وإنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عجزهم عن الوجه الصحيح المعقول ، والقول المقبول .
( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) أي ليسوا بمؤمنين ، أي لا يكونوا مؤمنين ( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً )
(1) ، ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )
(2) ( وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ )
3) .
الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين .
---------------------------
(1) سورة النساء : 65 .
(2) سورة البقرة : 201 .
(3) سورة الاعراف : 43 .