5 ـ إحياء الأرض الموات
  المراد بالموات : الأرض المتروكة التي لا ينتفع بها انتفاعاً معتدّاً به ، ولو بسبب انقطاع الماء عنها ، أو استيلاء المياه أو الأحجار أو الرمال عليها. وكالأرض التي ينبت فيها الحشيش فتكون مرعى للدواب والأنعام ، وأما الغابات التي تكثر فيها الأشجار فليست من الموات بل هي من الأراضي العامرة بالذات .
  والموات على نوعين :
  1 ـ الموات بالأصل ، وهو ما لم تعرض عليه الحياة من قبل ، وما هو في حكمه كأكثر البراري والمفاوز والبوادي وسفوح الجبال .
  2 ـ الموات بالعارض : وهو ما عرض عليه الخراب والمَوَتان بعد الحياة والعمران .
  والموات بالأصل ملك للإمام ( عليه السلام ) لأنه من الأنفال ، ولكن يجوز إحياؤه لكل أحد ، فلو أحياه كان أحقّ به من غيره .

فقه الحضارة 127
  هذا إذا لم يطرأ عنوان ثانوي يقتضي المنع من إحيائه ، كأن يكون حريماً لملك الغير ، أو كون إحيائه خلاف المصلحة العامة ، والذي يجري فيه حكم الأنفال ويجوز إحياؤه من الأراضي الموات بالعارض قسمان :
  1 ـ ما باد أهله ، أو هاجروا عنه ، وعدّ بسبب تقادم السنين ومرور الأزمنة مالاً بلا مالك كالأراضي المندرسة المتروكة ، والقرى الداثرة ، والبلاد الخربة ، والقنوات الطامسة ، والتي كانت للأمم الماضية الذين لم يبق منهم أحد .
  2 ـ ما كان عامراً حين الفتح ، ولكن طرأ عليه الخراب بعد ذلك ، وهذه الأراضي كما يجوز إحياؤها ، وإعمار خرابها ، كذلك يجوز حيازة موادها وأجزائها الباقية من الأخشاب والأحجار والآجر ، وما شاكل ذلك ، ويملكها الحائز إذا أخذها بقصد التملك .
  ومن أحيا أرضاً مواتاً تبعها حريمها بعد الإحياء ، وحريم كل شيء مقدار ما يتوقف عليه الانتفاع به (1) .
  وهذا الإحياء هو الأصلاح الزراعي بعينه ، فقد أبيح للناس إحياء الأرض ، وفي هذا الضوء تجري القاعدة : الأرض لمن أحياها ، بل ويضاف إليها حريمها في كل الصور والأحوال ، ليكون بها التصرف حراً طليقاً ، وتكون السيطرة عليها متمكنة ، والطريف أن لا يكون هذا الحريم مطلقاً ملكاً لمالك ماله

(1) ظ : السيستاني ( منهاج الصالحين 2 ) 252 ـ 254 .

فقه الحضارة 128
  الحريم ، سواء أكان حريم قناة أو بئر أو قرية أو بستان أو دار أو نهر أو غيره ذلك ، وإنما لا يجوز لغيره مزاحمته فيه ، باعتبار أنه من متعلقات حقه (1) .
فإذا عرف هذا ، وبغية توضيح الأمر ، نحدد فيما يأتي مساحة حريم كلّ ما له علاقة بالبحث أصلاً ومتفرعاً في ضوء رأي سماحة السيد مدّ ظله الوارف .
  1 ـ حريم الدار ، عبارة عن مسلك الدخول إليها والخروج منها في الجهة التي يفتح إيها باب الدار ، ومطرح ترابها ، ورمادها ، وثلوجها ، ومصبّ مائها ، وما شاكل ذلك.
  2 ـ حريم حائط البستان ونحوه ، مقدار طرح ترابه ، والآلات ، والطين والجص إذا احتاج إلى الترميم والبناء .
  3 ـ حريم النهر ، مقدار طرح ترابه وطينه إذا احتاج إلى الإصلاح والتنقية والمجاز على حافتيه للمواظبة عليه .
  4 ـ حريم البئر ؛ موضع وقوف النازح إذا كان الإستقاء منها باليد ، موضع البهيمة والدولاب والمضخة ، والموضع الذي يجتمع فيه الماء للزرع أو نحوه ، ومصبّه ، ومطرح ما يخرج منها من الطين عند الحاجة ونحو ذلك .
  5 ـ حريم القرية ؛ ما تحتاج إليه في حفظ مصلحها ومصالح أهلها من مجمع ترابها وكناستها ، ومطرح سمادها ورمادها ، ومجمع أهاليها لمصالحهم ، ومسيل مائها ، والطرق

(1) ظ : السيستاني ( منهاج الصالحين 2 ) 259 .

فقه الحضارة 129
  المسلوكة منها وإليها ، ومدفن موتاهم ، ومرعى ماشيتهم ، ومحتطبهم ، وما شاكل ذلك .
  كل ذلك بمقدار حاجة أهل القرية بحيث لو زاحم مزاحم لوقعوا في ضيق وحرج ، وهي تختلف باختلاف سعة القرية وضيقها ، وكثرة أهلِها وقلتهم ، وكثرة مواشيها ودوابها وقلتها ، وهكذا ، وليس لها ضابط غير ذلك ، وليس لأحد أن يزاحم أهاليها في هذه المواضع .
  7 ـ حريم المزرعة ؛ ما يتوقف عليه الانتفاع منها ، ويكون من مرافقها كمسالك الدخول إليها والخروج منها ، ومحل بيادرها ، وحظائرها ، ومجتمع سمادها ، ومرعى مواشيها ، ونحو ذلك (1) .
  وههنا مسألتان مهمتان :
  1 ـ لا بد في صدق إحياء الموات من العمل فيها إلى حد يصدق عليه أحد العناوين العامرة كالدار والبستان والمزرعة والحظيرة والبئر والقناة والنهر وما شاكل ذلك ، ولذلك يختلف ما اعتبر في الإحياء باختلاف العمارة ، فما اعتبر في إحياء البستان والمزرعة ونحوهما غير ما هو معتبر في إحياء الدار وما شاكلها ، وعليه فحصول الأولوية تابعٍ لصدق أحد هذه العناوين ونحوها ، ويدور مداره وجوداً وعدماً ، وعند الشك في حصولها يحكم بعدمها (2) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )256 ـ 257 .
(2) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )265 .

فقه الحضارة 130
  2 ـ الأراضي المنسوبة إلى طوائف العرب والعجم وغيرهم لمجاورتها لبيوتهم ومساكنهم من دون أحقيتهم بها بالإحياء ؛ باقيةٌ على إباحتها الأصلية ، فلا يجوز منع غيرهم من الانتفاع بها ، ولا يجوز لهم أخذ الأجرة ممن ينتفع بها ، وإذا قسّموها فيما بينهم لرفع التشاجر والنزاع لا تكون القسمة صحيحة فيجوز لكل من المتقاسمين التصرف فيما يختص بالآخر بحسب القسمة .
  نعم إذا كانوا يحتاجون إليها لرعي الحيوان أو نحو ذلك كانت من حريم أملاكهم ، ولا يجوز لغيرهم مزاحمتهم وتعطيل حوائجهم (1) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )257 .

فقه الحضارة 132
الفصل الرابع
السفر إلى أوروبا والخطوط الجوية والقبلة في نيويورك

  1 ـ السفر إلى البلدان الأوروبية والأجنبية
  2 ـ حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري
  3 ـ القبلة في نيويورك
  4 ـ متفرقات في أحكام السفر

فقه الحضارة 133
1 ـ السفر إلى البلدان الأوروبية والأجنبية
  تقتضي حياة الإنسان الاقتصادية أو السياسية أو المَرضية أن يهجر بلده الإسلامي هجرة موقتة أو دائمة ، وهذا مما لا مانع فيه بشروطه وأحكامه كما سيأتي ، بل قد يستحسن إذا كان الهدف منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة شرائع الدين ، ولكنه قد يحرم إذا استلزم التعرب بعد الهجرة ، ونقص الدين ، والاستهتار بشريعة سيد المرسلين ، نعم إذا حكمت الضرورة على المسلم أن يهاجر إلى البلاد غير الإسلامية مع علمه بأن تلك الهجرة تستوجب نقصاناً في دينه ، كما لو سافر لإنقاذ نفسه من الموت المحتّم أو غير ذلك من الأمور المهمة ، جاز له السفر حينئذٍ بالقدر الذي يرفع الضرورة دون ما يزيد عليها (1) .
  ولكن لا مانع أن يقيم في البلدان الأوروبية والاجنبية وهو ملتزم بدينه ، غير مخلًّ بواجباته الشرعية ، وغير معرض نفسه وأهله وأبناءه لمخاطر الانحراف عن الجادة السليمة، أما إذا لم يأمن مع بقاءه بتلك

(1) فتوى خطية مصورة لسماحة السيد في حوزة المؤلف .

فقه الحضارة 134
  البلدان على دينه ولم يأمن أن يؤدي إلى تقصير شرعي في أداء واجباته ، أو يؤدي إلى عدم حفاظ أبنائه وعائلته على المستلزمات الشرعية ، فيجب عليه العودة إلى بلاده حيث لا يحتمل تفريطه بالدين (1) .
  ومن هنا فقد أفتى سماحة السيد دام ظله ، وقال :
  يحرم السفر إلى البلدان غير الإسلامية أينما كانت في شرق الأرض وغربها ، إذا استوجب ذلك السفر نقصاناً في دين المسلم ، سواء أكان الغرض من ذلك السفر : السياحة أم التجارة أم الدراسة أم الإقامة الموقتة أم السكنى الدائمة ، أم غير ذلك من الأسباب (2) .
  هذا المناخ المتقلب في ظروفه ودواعيه ومشكلاته أولاه سماحة السيد دام ظله العالي أولويات اهتماماته العلمية من أجل إيضاح الأمر بين يدي السالكين ، وليكون كل عند موقعه المناسب معرفة بأحكامه الشرعية ، ومتدبراً لأمره فلا ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس ، ولا يتجاوز حدود ما سمحت به الشريعة الغراء ، ليكون على سلامة من دينه ، وبصيرة من أمره ، وقد أجاب سماحة السيد دام ظله الوريف على عدة مسائل في هذا الشأن ، نختار أعلقها بالموضوع صلة :
  1 ـ ما معنى التعرب بعد الهجرة الذي هو من الذنوب الكبيرة ؟

(1) مضمون فتاوى خطية لسماحة السيد في حوزة المؤلف .
(2) فقه المغتربين \ 54 .

فقه الحضارة 135
  قيل إنه ينطبق في هذا الزمان على الإقامة في البلاد التي ينقص فيها الدين ؛ والمقصود هو أن ينتقل المكلّف من بلد يتمكن فيه من تعلم ما يلزمه من المعارف الدينية والأحكام الشرعية ، ويستطيع فيه أداء ما وجب عليه في الشريعة المقدسة ، وترك ما حُرّمَ عليه فيها إلى بلد لا يستطيع فيه على ذلك كلاً أو بعضاً .
  2 ـ يشعر الساكن في أوروبا وأمريكا وأضرابهما بغربته عن أجوائه الدينية التي نشأ عليها وتربى فيها ، فلا صوت للقرآن يسمع ، ولا صوت الأذان يعلو ، ولا الزيارة للمشاهد المقدسة وأجوائها الروحية موجودة ، فهل يعدّ تركه لأجوائه الإسلامية في بلده وما يصاحبها من أعمال خيرية ، ثم معيشته هنا بعيداً عنها ، نقصاناً في الدين ؟
  ليس ذلك نقصاناً يحرم بسبب السكن في تلك البلدان نعم الابتعاد عن الأجواء الدينية ربما يؤدي بمرور الزمن إلى ضعف الجانب الإيماني في الشخص إلى الحد الذي يستصغر معه ترك بعض الواجبات ، أو ارتكاب بعض المحرمات .
  فإذا كان المكلّف يخاف أن ينقص دينه بالحد المذكور جرّاء الإقامة في تلك البلدان ، لم يجز له الإقامة فيها .
  3 ـ ربما لا يقع الساكن في أوروبا وأمريكا وأضرابهما بمحرمات لا يقع بها لو بقي في بلده الإسلامي ، فمظاهر الحياة العادية بما فيها من إثارة ، تجرّ المكلّف إلى الحرام عادةً ، حتى لو لم يكن راغباً بذلك .
  فهل يعدّ هذا نقصاناً في الدين يوجب حرمة السكن تبعاً ؟

فقه الحضارة 136
  نعم ، إلا إذا كانت من الصغائر التي تقع أحياناً ومن غير إصرار .
  4 ـ لو ازدادت حالات الوقوع في الحرام عما كانت عليه سابقاً من مبلّغ إسلامي حريص على دينه ، وذلك لخصوصيات البيئة والمجتمع ، كانتشار حالات التبرج وأمثالها. فهل يحرم عليه البقاء في بلدان كهذه ، فيتحتم عليه ترك التبليغ والعودة لوطنه ؟ * إذا كان يبتلى ببعض الصغائر اتفاقاً ، لم يحرم عليه البقاء فيها ، إذا كان واثقاً من عدم انجراره إلى ما هو أعظم من ذلك .
  5 ـ لو خاف المهاجر من نقصان دين أولاده ، فهل يحرم عليه البقاء في بلدانٍ كهذه ؟
  نعم كما في الحال بالنسبة إلى نفسه .
  6 ـ لو استطاع المكلّف أن يدعو غير المسلمين للإسلام ، أو أن يزيد في تثبيت دين المسلمين في البلدان غير الإسلامية من دون خوف من النقصان في دينه ، فهل يجب عليه التبليغ ؟
  نعم يجب كفايةً عليه ، وعلى سائر من يستطيع ذلك .
  7 ـ هل يجوز البقاء في دول غير إسلامية على ما فيها من منكرات تعرض للإنسان في الشارع أو المدرسة أو التلفزيون أو ما شاكل ذلك ، مع إمكانه الانتقال إلى دول إسلامية ، ولكن الانتقال يسبب له مشاكل في الإقامة وخسارة مادية ، وضيقاً في الأمور الدنيوية ، ونقصاً في الرفاهية ، وإذا كان لا يجوز له البقاء ، فهل

فقه الحضارة 137
  يجوزه له كونه مهتماً بأمور التبليغ بين المسلمين هنا ، مذكراً لهم ببعض واجباتهم ، ومنبهاً إلى ما يجب عليهم تركه من محرمات ؟
  لا تحرم الإقامة في تلك البلاد إذا لم تكن عائقاً عن قيامه بالتزاماته الشرعية بالنسبة إلى نفسه وعائلته فعلاً ومستقبلاً ، وإلاّ فلا تجوز وإن كان قائماً ببعض الأمور التبليغية ، والله العالم (1) .

(1) فقه المغتربين \ 57 ـ 61 .

فقه الحضارة 138
2 ـ حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري
  تطورت حركة السفر بين الأقطار والأقاليم ، فانتقلت من الوسائل البدائية إلى السيارات والقاطرات والطائرات ، واستقر التنقل في المسافات البعيدة بل وحتى القريبة على الخطوط الجوية بمختلف وسائلها العاديّة المحركات والنفاثة التصميم ، وما يدرينا فلعل هذا النوع من التنقل الذي أصبح اعتيادياً ، أن يتطور في قفزة أخرى إلى ما هو أكثر سرعة قد لا تحد بحدود ، وكان هذا التقدم الحضاري في المواصلات قد فرض كيانه في استحصال طائفة من الأحكام المتعلقة به ، فكان الفقه الحضاري مواكباً لهذا الازدهار الحضاري ، وقد حدب سماحة السيد دام ظله الشريف أن يتعقب ما يجري على الساحة التكنولوجية والصناعية متابعاً تطورها وتسابقها في مجال التأهيل الصناعي واقعاً وافتراضاً باحتمال تطوره أكثر فأكثر ، وكان هذا الالتفات يشكل انعطافاً فقهياً جديداً يحقق آمال المعنيين في الشؤون الدينية طلباً لأحكامهم الشرعية في ضوء هذه المستجدات المعاصرة ، لأنها تفرض بطبيعتها مرونة جديدة تسايرها فيها

فقه الحضارة 139
  الأحكام مسايرة الظل للشاخص ، وهي تؤثر في ديناميكية الحكم الشرعي في ضوء ظروفه الجديدة ، لا سيما في الأركان التي يقوم عليها الدين في أصوله الأولى كالصلاة والصيام وجزئيات أحكامهما التي يعنى بها المسلمون تعبداً وتكليفاً ، فكان لا بد للشرع الشريف أن يعطي رأيه في ذلك لأنه محل ابتلاء العاملين بمسائل الدين ، ولقد استقصى سماحة السيد دام ظله الوارف احتمالات هذا التطور ، وقلّب الأمر على وجوهه كافة ، فخرج بطائفة يعتد بها من المسائل والأحكام التي قد تعرض للمسلم المعاصر ، فوضع في نصابها ، وترجمها بأبوابها ، فكان منها :
  1 ـ لو سافر الصائم في شهر رمضان جواً بعد الغروب ـ ولم يفطر في بلده ـ إلى جهة الغرب ، فوصل إلى مكان لم تغرب الشمس فيه بعد ، فهل يجب عليه الإمساك إلى الغروب ؟
  الظاهر عدم الوجوب وإن كان ذلك أحوط .
  2 ـ لو صلى المكلّف صلاة الصبح في بلده ، ثم سافر إلى جهة الغرب فوصل إلى بلد لم يطلع فيه الفجر بعد ، ثم طلع ، أو صلى صلاة الظهر في بلده ، ثم سافر جواً فوصل إلى بلد لم تزل الشمس فيه بعد ، ثم زالت ، أو صلى صلاة المغرب فيه ، ثم سافر فوصل إلى بلد لم تغرب الشمس فيه ، ثم غربت. فهل تجب عليه إعادة الصلاة في جميع هذه الفروض ؟
  وجهان : الأحوط الوجوب ، والأظهر عدمه .
  3 ـ لو خرج وقت الصلاة في بلده ـ كأن طلعت الشمس أو غربت ولم يصل الصبح أو الظهرين ـ ثم سافر جواً فوصل إلى بلد

فقه الحضارة 140
  لم تطلع الشمس فيه ، أو لم تغرب بعد ، فهل عليه الصلاة أداءً أو قضاءً أو بقصد ما في الذمة ؟
  فيه وجوه ، والأحوط هو الاتيان بها بقصد ما في الذمة ، أي الأعم من الأداء والقضاء .
  4 ـ إذا سافر جواً بالطائرة وأراد الصلاة فيها ، فإن تمكّن من الإتيان بها إلى القبلة واجداً لشرطَي الاستقبال والاستقرار ولغيرهما من الشرائط صحّت ، وإلا لم تصح ـ على الأحوط ـ إذا كان في سعة الوقت ، بحيث يتمكن من الإتيان بها واجدة للشرائط بعد النزول من الطائرة .
  وأمّا إذا ضاق الوقت ، وجب عليه الإتيان بها فيها ، وعندئذٍ إن علم بكون القبلة في جهة خاصة صلى إليها ، ولا تصح صلاته لو أخلّ بالاستقبال إلاّ مع الضرورة ، وحينئذٍ ينحرف إلى القبلة كلّما انحرفت الطائرة ، ويسكت عن القراءة والذكر في حال الانحراف ، وإن لم يتمكن من استقبال عين القبلة فعليه مراعاة أن تكون بين اليمين واليسار ، وإن لم يعلم بالجهة التي توجد فيها القبلة بذل جهده في معرفتها ، ويعمل على ما يحصل له من الظّن ، ومع تعذره يكتفي بالصلاة إلى أي جهة يحتمل وجود القبلة فيها ، وإن كان الأحوط الإتيان بها إلى أربع جهات .
  هذا فيما إذا تمكن من الاستقبال ، وإن لم يتمكن منه إلاّ في تكبيرة الإحرام اقتصر عليه ، وإن لم يتمكن منه أصلاً سقط .
  والأقوى جواز ركوب الطائرة ونحوها اختياراً قبل دخول

فقه الحضارة 141
  الوقت وإن علم أنه يضطر إلى أداء الصلاة فيها فاقداً لشرطي الاستقبال والاستقرار .
  5 ـ لو ركب طائرة كانت سرعتها سرعة حركة الأرض ، وكانت متجهة من الشرق إلى الغرب ، ودارت حول الأرض مدة من الزمن ، فالأحوط الإتيان بالصوات الخمس بنية القربة المطلقة في كل أربع وعشرين ساعة ، وأما الصيام فيجب عليه قضاؤه .
  وأما إذا كانت سرعتها ضعف سرعة الأرض فعندئذٍ ـ بطبيعة الحال ـ تتم الدورة في كل اثنتي عشر ساعة ، وفي هذه الحالة هل يجب عليه الإتيان بصلاة الصبح عند كل فجر ، وبالظهرين عند كل زوال ، وبالعشائين عند كل غروب ؟
  فيه وجهان : الأحوط الوجوب .
  ولو دارت حول الأرض بسرعة فائقة حيث تتم كل دورة في ثلاث ساعات مثلاً أو أقل ، فالظاهر عدم وجوب الصلاة عليه عند كل فجرٍ وزوالٍ وغيروب ، والأحوط حينئذٍ الإتيان بها في كل أربع وعشرين ساعة بنية القربة المطلقة ، مراعياً وقوع صلاة الصبح بين طلوعين ، والظهرين بين زوال وغروب بعدها ، والعشائين بين غروب ونصف ليل بعد ذلك.
  ومن هنا يظهر حال ما إذا كانت حركة الطائرة من الغرب إلى الشرق ، وكانت سرعتها مساوية لسرعة حركة الأرض ، فإن الأظهر حينئذ الإتيان بالصلوات في أوقاتها .
  وكذا الحال فيما إذا كانت سرعتها أقل من سرعة الأرض ، وأما إذا كانت سرعتها أكثر من سرعة الأرض بكثير ، بحيث تتم

فقه الحضارة 142
  الدورة في ثلاث ساعات مثلاً أو أقلّ ، فيظهر حكمه مما تقدم .
  6 ـ من كانت وظيفته الصيام في السفر ، وطلع عليه الفجر في بلده ، ثم سافر جواً ناوياً للصوم ، ووصل إلى بلد آخر لم يطلع في الفجر بعد ، فهل يجوز له الأكل والشرب ونحوهما ؟ الظاهر جوازه .
  7 ـ من سافر في شهر رمضان من بلده بعد الزوال ووصل إلى بلد لم تزل فيه الشمس بعد ، فهل يجب عليه الإمساك وإتمام الصوم ؟ الأحوط ذلك .
  8 ـ من كان وضيفته الصيام في السفر ، إذا سافر من بلده الذي رؤي فيه هلال رمضان إلى بلد لم يُرَ فيه الهلال بعد ، لاختلافهما في الأفق ، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم .
  ولو عيّد في بل رؤي فيه هلال شوال ، ثم سافر إلى بلد لم يُرَ فيه الهلال ، لاختلاف أفقهما ، فالأحوط له الإمساك بقية ذلك اليوم وقضاؤه .
  9 ـ إذا فُرِضَ كون المكلّف في مكان نهاره ستة أشهر ، وليله ستة أشهر مثلاً ، فالأحوط له في الصلاة ملاحظة أقرب الأماكن التي لها ليل ونهار كل أربع وعشرين ساعة ، فيصلي الخمس على حسب أوقاتها بنية القربة المطلقة ، وأما في الصوم فيجب عليه الانتقال إلى بلد يتمكن فيه من الصيام إمّا في شهر رمضان او من بعده ، وإن لم يتمكن من ذلك فعليه الفدية بدل الصوم.
  وأما إذا كان في بلد له في كل أربع وعشرين ساعة ليل

فقه الحضارة 143
  ونهار ـ وإن كان نهاره ثلاثاً وعشرين ساعة ، وليله ساعة أو العكس ـ فحكم الصلاة يدور مدار الأوقات الخاصة فيه .
  وأمّا صوم شهر رمضان فيجب عليه أداؤه مع التمكن منه ، ويسقط مع عدم التمكن ، فإن تمكن من قضائه وجب ، وإلاّ فعليه الفدية بدله (1) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 1 ) 464 ـ 467 .

فقه الحضارة 144
3 ـ القبلة في نيويورك
  ما زالت القبلة في الولايات المتحدة وفي نيويورك بخاصة مثار جدل واختلاف نظر عند الفقهاء ، فبعضهم يرجح فيها الاتجاه إلى المشرق المتمايل إلى الجنوب بحجة أن مكة المكرمة تقع تحت خط عرض ( 22 ) ونيويورك تقع فوق خط عرض ( 40 ) ولازم هذا التدقيق أن اتجاه الكعبة في نيويورك بالنسبة للمتجه إليها متمايلاً إلى الجنوب دون الشمال ، بينما الذي يختاره سماحة السيد دام ظله الشريف الاتجاه نحو الشمال الشرقي باعتبار أن الخطوط المتوازية بالنسبة لبدن المصلي تكون في خط مقوس نظراً لتقوس ظهر الأرض فتصل إلى الكعبة ولو احتمالاً ، وهو في هذا الضوء يعطي التفصيل الآتي تغطية لأبعاد الموضوع من وجهاته كافة .
  يرى سماحة السيد أعز الله مجده الوريف : أنّ استقبال القبلة في الأماكن البعيدة التي يجول بينها وبين الكعبة المعظمة تقوس الأرض إنما يتحقق بأن تتجه الخطوط المتوازية المبدوءة من مقاديم بدن المصلي والمقوسة بتقوّس سطح الأرض إلى الجهة

فقه الحضارة 145
  التي تقع فيها الكعبة المعظمة بحيث تنتهي إليها ولو احتمالاً ، ويتضح جلياً اتجاه هذه الخطوط إذا ربطنا بين موقف المصلي والكعبة المعظمة على الخارطة الكروية بخيط ، مراعين استقامته وعدم انحرافه يميناً أو شمالاً ، وحسب اختبارنا يكون اتجاه هذا الخيط في مثل نيويورك من مناطق أمريكا الشمالية نحو الشرق المتمايل إلى الشمال بالمقدار الذي يشير إليه الخط المذكور .
  وأمّا ما يقال من أن مكة المكرمة تقع تحت خط عرض ( 22 ) ونيويورك تقع فوق خط العرض ( 40 ) ولازمه أن يكون الواقف في نيويورك إلى جهة الكعبة المشرفة متمايلاً إلى الجنوب دون الشمال .
  فالجواب عنه أن هذا إنما يصح بالنظر إلى الخارطة المسطحة دون الكروية ، بل إن تغيّر اتجاه الخيط المذكور في الخارطة الكروية إنما نشأ من اختلاف أجزائه الواقعة بين النقطتين إذا لوحظت بالقياس إلى قطبي الشمال والجنوب .
  والشاهد عليه أنا لو أغمضنا النظر إلى الجهات الأربع الثابتة للكرة ولم نأخذها بعين الاعتبار ، وأدرنا الخارطة الكروية وجعلنا مكة المكرمة واقعة في قمتها بمنزلة قطب الشمال ، لاحظنا أن اتجاه الخيط المذكور هو نفس الاتجاه السابق الذكر من دون تغيّر ، وأن الواقف في نيويورك إذا أراد التوجه نحو الكعبة المعظمة يلزمه الوقوف باتجاه هذه الخط لا منحرفاً عنه إلى جانب اليمين .
  والحاصل أن الأرجح في النظر بناءً على ما تقدم في كيفية

فقه الحضارة 146
  الاستقبال هو ما ذكرناه بل الظاهر أنه هو الأرجح أيضاً بناءً على لزوم رعاية الخط الوهمي المارّ في عمق الأرض مستقيماً بين موقف المصلي والكعبة المعظمة ، فإن هذا الخط بما أنه لا يمكن التوجه نحوه حال الصلاة فيتعين الاتجاه نحو الخط المقوس الموازي له والمار على سطح الأرض، والخط الموازي المذكور هو نفس الخط الذي مرّ ذكره والذي يكون اتجاهه في نيويورك نحو الشمال الشرقي هذا ، ومع ذلك تكون صلاة من يتجه إلى الشرق المتمايل إلى الجنوب عملاً بالحجة الشرعية القائمة عنده على ذلك ، والله أعلم (1) .

(1) المستحدثات من المسائل الشرعية \ 9 ـ 11 .

فقه الحضارة 147
4 ـ متفرقات في أحكام السفر
  تعرض للإنسان حالات يحتاج معها إلى الدليل الكاشف بين يديه لامتثال أمره تعالى ، وفي السفر في الوسائل الحديثة والخطوط الجوية قد يواجه بعض الإشكالات ، منها ما يأتي :
  1 ـ كيف نُصلّي صلاتنا الواجبة في الطائرة والقبلة مجهولة والطمأنينة مفقودة ؟   أما القبلة فيمكن تحديد جهتها بالسؤال من القبطان أو المضيفين ، فإنّ أجوبتهم تورث ـ في الغالب ـ الاطمئنان أو الظن فيلزم العمل وفقه ، وأما الاستقرار فتسقط شرطيته مع عدم إمكان التحفظ عليه ، ولكن لا بد من رعاية سائر الشروط حسب المستطاع ، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها في كل الأحوال .
  2 ـ كيف نصلي صلاتنا في القطارات والسيارات ؟ وهل يجب أن نسجد على شيء ، أو لا يجب ذلك ويكفي الانحناء .
  يجب أداء الصلاة فيها وفق صلاة المختار إن أمكن ، فتلزم رعاية الاستقبال في جميع حالات الصلاة إن تيسرت ، وإلا

فقه الحضارة 148
  ففي حال تكبيرة الإحرام مع التمكن منه ، وإلا تسقط شرطية الاستقبال ، كما أنه مع التمكن من الإتيان بالركوع والسجود الاختياريين يتعين الإتيان بهما ـ كما لو تيسرت الصلاة في ممر القطار أو الباص ـ وأمّا مع عدم التمكن منهما ، فإن تيسر الانحناء بمقدار صدق اسميهما لزم وتعين ، ويراعى في السجود وضع الجبهة على المسجد ولو برفعة ، ومع عدم تيسر الانحناء بالمقدار المذكور يكفي الإيماء بدلاً عنهما (1) .
  3 ـ لو سافر مسافرٌ من بلده بعد أذان الظهر مباشرة من دون أن يصلي ، ووصل لمقصده بعد الغروب ، فهل يأثم ؟ وهل يجب عليه قضاء صلاة الظهر ؟
  نعم هو آثم بتركه الفريضة في الوقت ، وعليه قضاؤها (2) .

(1) فقه المغتربين \ 96 ـ 97 . (2) المرجع نفسه \ 93 .

فقه الحضارة 150
الفصل الخامس
شؤون الأطعمة واللحوم والأغذية والمعلبات في الدول الأجنبية

  1 ـ التذكية واللحوم وطعام غير المسلمين
  2 ـ ريادة المطاعم المشبوهة والعمل فيه
  3 ـ المعلّبات والمنتجات في الدول الأوروبية
  4 ـ فتاوى حضارية في الإغذية والأشربة