رابعاً ( إخلاء المحلاّت التجارية )
  من المعاملات الشائعة بين التجار والكسبة إخلاء المحلات التجارية ، وهو ما يسمى بـ ( السرقفلية ) في العراق ، ويراد بها تنازل المسأجر عمّا تحت تصرّفه بإيجار المحلّ الذي يشغله لآخر إزاء مقدار من المال يتفق عليه الطرفان .
  وتطلق أيضاً على تنازل المالك للمستأجر عن حقّه في أخراجه من المحلّ أو زيادة بدل الإيجار بعد نهاية مدّة الإجارة إزاء مقدار من المال يتّفقان بشأنه .
  مسألة 1 : استئجار الأعيان المستأجرة كمحلات الكسب والتجارة لا يُحدث حقّاً للمستأجر فيها بحيث يمكنه إلزام المؤجّر عدم إخراجه منها وتجديد إيجارها منه بمقدار بدل إيجارها السابق بعد نهاية الإجارة .
  وكذا طول إقامة المستأجر في المحل ، ووجاهته في مكسبه الموجبة لتعزيز الموقع التجاري للمحلّ ، لا يوجب شيء من ذلك حقّاً له في البقاء ، بل إذا تمّت مدّة الإجارة يجب عليه تخلية المحلّ وتسليمه إلى صاحبه .

فقه الحضارة 102
  وإذا استغلّ المسأجر القانون الحكومي الذي يقضي بمنع المالك عن إجبار المستأجر على التخلية أو عن الزيادة في بدل الإيجار ، فامتنع عن دفع الزيادة أو التخلية فعمله هذا محرّم ، ويكون تصرّفه في المحل بدون رضا المالك غصباً ، وكذا ما يأخذه من المال إزاء تخليته حراماً .
  مسألة 2 : إذا آجر المالك محلّه من شخص سنة بمائة دينار مثلاً ، وقبض إضافة على ذلك مبلغ خمسمائة دينار مثلاً إزاء اشتراطه على نفسه في ضمن العقد أن يجدّد الإيجار لهذا المستأجر ، أو لمن يتنازل له المستأجر سنوياً بدون زيادة ، وإذا أراد المستأجر الثاني التنازل عن المحلّ لثالث أن يعامله نفس معاملة المستأجر ، فحينئذ يجوز للمستأجر أن يأخذ إزاء تنازله عن حقّه مبلغاً يساوي ما دفعه إلى المالك نقداً أو أكثر أو أقلّ حسب ما يتفقان عليه .
  مسألة 3 : إذا آجر المالك محلّه من شخص مدّة معلومة وشرط على نفسه ـ إزاء مبلغ من المال أو بدونه ـ في ضمن العقد أن يجدّد إيجاره له سنوياً بعد نهاية المدّة بالصورة التي وقع عليها في السنة الأُولى أو على النحو المتعارف في كلّ سنة ، فاتّفق أنّ شخصاً دفع مبلغاً للمستأجر إزاء تنازله عن المحلّ وتخليته فقط ـ حيث لا يكون له إلاّ حقّ البقاء وللمالك الحرّية في إيجار المحلّ بعد خروجه كيف ما شاء ـ فعندئذٍ يجوز للمستأجر أخذ المبلغ المتّفق عليه ، وتكون السرقفليّة بإزاء التخلية فحسب ، لا بإزاء انتقال حقّ التصرّف منه إلى وافعها .
  مسألة 4 : يجب على المالك الوفاء بما اشترطه على نفسه

فقه الحضارة 103
  في ضمن عقد الإجارة ، فيجب عليه في مفروض المسألة (2) أن يؤجر المحلّ للمستأجر أو لمن يتنازل له عنه بدون زيادة في بدل الإيجار ، كما يجب عليه في مفروض المسألة (3) أن يجدّد الإيجار للمستأجر ما دام يرغب في البقاء في المحلّ بمقدار بدل الإيجار السابق أو بما هو بدل إيجاره المتعارف حسبما هو مقرّر في الشرط .
  وإذا تخلّف المالك عن الوفاء بشرطه وامتنع عن تجديد الإيجار فللمشروط له إجباره على ذلك ولو بالتوسّل بالحاكم الشرعي أو غيره ، ولكن إذا لم يتيسّر إجباره ـ لأيّ سبب كان ـ فلا يجوز له التصرّف في المحلّ من دون رضا المالك .
  مسألة 5 : إذا جعل الشرط في عقد الإجارة في مفروض المسألتين ( 2 ـ 3 ) على نحو شرط النتيجة ـ لا على نحو شرط الفعل ، أي اشتراط تجديد الإجارة كما فرضناه ـ بأن اشترط المستأجر على المؤجر أن يكون له أو لمن يعيّنه مباشرة أو بواسطة حقّ إشغال المحل والاستفادة منه إزاء مبلغ معّين سنوياً ، أو بالقيمة المتعارفة في كلّ سنة ، فحينئذٍ يكون للمستأجر ـ أو لمن يعيّنه ـ حقّ إشغال المحل والاستفادة منه ولو من دون رضا المالك ، ولا يحقّ للمالك إلاّ أن يطالب بالمبلغ الذي اتفقا عليه إزاء الحق المذكور .

فقه الحضارة 104
خامساً ( فتاوى حضارية بأموال الأوروبيين )
  1 ـ يحرم على المسلم خيانة من يأتمنه على مال أو عمل ، حتى لو كان كافراً ، ويجب على المسلم المحافظة على الأمانة وأدائها كاملة ، فمن يعمل في محل مبيعات أو محاسب ، لا يجوز له أن يخون صاحب العمل ويأخذ شيئاً مما تحت يده .
  2 ـ لا تجوز السرقة من أموال المسلمين الخاصّة والعامة ولا يجوز إتلافها ما دام ذلك يسيء إلى سمعة الإسلام والمسلمين بشكل عام .
  3 ـ لا تجوز السرقة من أموال غير المسلمين الخاصة والعامة ولا يجوز إتلافها ، حتى وإن كانت تلك السرقة وذلك الإتلاف لا يسيء إلى سمعة الإسلام والمسلمين فرضاً ، ولكنها عدّت غدراً ونقضاً للأمان الضمني المعطى لهم حين طلب رخصة الدخول إلى بلادهم ، أو طلب رخصة الإقامة فيها ، وذلك لحرمة الغدر ونقض الأمان بالنسبة إلى كل أحد مهما كان دينه وجنسه ومعتقده .
  4 ـ لا يجوز سرقة أموال غير المسلمين حين دخولهم للبلدان الإسلامية .

فقه الحضارة 105
  5 ـ لا يجوز للمسلم أن يأخذ الرواتب والمساعدات بطرق غير قانونية ، كتزويد المسؤولين بمعلومات غير صحيحة ، أو ما شاكل ذلك .
  6 ـ لو حاول المسلم أن يسحب من الماكنة شيئاً من ماله ، فخرج له أكثر مما طلب ، فلا يجوز له أخذ الزيادة دون علم البنك غير الإسلامي بذلك .
  7 ـ لو اشترى مسلم بضاعة من شركة أجنبية في بلد غير إسلامي ، فأعطاه البائع خطأ أكثر مما طلب ، فلا يحق له أخذ الزيادة ، ولو أخذها لزمه الإرجاع .
  8 ـ موظف مسلم يعمل بشركة غير مسلمة ، وهو يستطيع أن يأخذ من حاجات الشركة شيئاً دون علم الشركة ، فلا يجوز له ذلك .
  9 ـ لا يجوز وقف عداد الكهرباء ، أو الماء ، أو الغاز أو التلاعب به في الدول غير الإسلامية .
  10 ـ لا يجوز غش شركات التأمين في الدول غير الإسلامية حتى وإن اطمأن بأن عمله لا يضرُّ بسمعة الإسلام والمسلمين .
  11 ـ لا يجوز للمسلم أن يعطي معلومات غير صحيحة للدوائر الحكومية في أوروبا للحصول على مزايا وتسهيلات مالية أو معنوية ، وبالطريقة القانونية لديهم ، لأنه من الكذب (1)

(1) ظ : فقه المغتربين |167 وما بعدها .

فقه الحضارة 106
الفصل الثالث ( تخطيط المدن واستصلاح الأراضي )
  1 ـ الشوارع العامة في مظاهرها المتعددة
  2 ـ الطرق المشتركة في الإعمار والأستثمار
  3 ـ الشوارع المفتوحة من قِبل الدولة
  4 ـ المياه والأنهار والآبار والعيون
  5 ـ إحياء الأرض الموات

فقه الحضارة 109
1 ـ الشوارع العامة في مظاهرها المتعددة
  يتحقق لغة واصطلاحاً اسم الشارع العام ، إذا توافرت المواصفات السكانية والعمرانية والتخطيطية فيه كالآتي :
  1 ـ كثرة الاستطراق والتردد ومرور القوافل في الأرض المَوَات .
  2 ـ جعل الإنسان ملكه شارعاً وتسبيله تسبيلاً دائمياً لسلوك عامة الناس ، فإنه يصير طريقاً .
  وليس للمسبّل الرجوع بعد ذلك .
  3 ـ قيام شخص أو جهة بتخطيط طريق في الأرض الموات وتعبيده وجعله طريقاً لسلوك عامة الناس .
  4 ـ إحياء جماعة أرضاً مواتاً وتركهم طريقاً نافذاً بين الدور والمساكن (1) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )269 .

فقه الحضارة 110
  والشارع قد يتسع عرضاً وقد يتضيق ، ولكل منهما أحكامه الخاصة كما سيأتي ، وقد يكون مسبّلاً وقد يكون أحياءً ولكل منهما أحكامه الخاصة به كما سترى ، وقد تستمر به المارّة في الاستطراق وقد تنقطع ، وكل له أحكامه ، وقد فصل سماحة السيد دام ظله الشريف القول في كل ذلك ، وكشف المجهول في ارتياد مظان البحث الموضوعي ، والمسائل الآتية فتوائياً تضع الشيء في نصابه :
  1 ـ لو كان الشارع العام واقعاً بين الأملاك فلا حدّ له ، كما إذا كانت قطعة أرض موات بين الأملاك عرضها ثلاثة أذرع أو أقلّ أو أكثر ، واستطرقها الناس حتى أصبحت جادة ، فلا يجب على المالكين توسيعها ، وإن تضيقت على المارة .
  وكذا الحال فيما لو سبّل شخصٌ في وسط ملكه ، أو من طرف ملكه المجاور لملك غيره مقداراً لعبور الناس .
  2 ـ إذا كان الشارع العام محدوداً بالموات من أحد طرفيه أو كليهما ، وكان عرضه أقلّ من خمسة أذرع ، لم يجز إحياء الأراضي المتصلة به بحيث يبقى ضيّقاً على حاله بل لا بد من مراعاة أن لا يقلّ الفاصل المشتمل عليه عن خمسة أذرع ، والأفضل أن لا يقلّ عن سبعة أذرع ، فلو أقدم أحدُ على إحياء حريمه متجاوزاً على الحد المذكور لزم هدم المقدار الزائد .
  هذا إذا لم يلزم ولي المسلمين حسب ما يراه من المصلحة أن يكون الفاصل أزيد من خمسة أذرع ، وإلاّ وجب أتّباع أمره ، ولا يجوز التجاوز على الحد الذي يعيّنه .

فقه الحضارة 111
  3 ـ إذا انقطعت المارّة عن الطريق ولم يرج عودهم إليه جاز لكل أحد إحياؤه ، سواء أكان ذلك لعدم وجودهم ، أو لمنع قاهر أياهم ، أو لهجرهم إياه واستطراقهم غيره ، أو لغيرها من الأسباب، هذا إذا لم يكن مسبّلاً ، وإلاّ ففي جواز إحيائه من دون مراجعة ولي الأمر إشكال .
  4 ـ إذا زاد عرض الطريق عن خمسة أذرع ، فإن كان مسبّلاً لم يجز لأحد اقتطاع ما زاد عليها وإخراجه عن كونه طريقاً ، وأمّا أذا كان غير مسبّل فإن كان الزائد مورداً لاستفادة المستطرقين ـ ولو في بعض الأحيان والحالات ـ لم يجز ذلك أيضاً ، وإلاّ في جوازه إشكالٌ ، والأحوط العدم (1) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )269 ـ 270.

فقه الحضارة 112
2 ـ الطرق المشتركة في الإعمار والاستثمار
  يشترك المسلمون في الإفادة من الطرق العامة النافذة اشتراكاً فعلياً في الإعمار والاستثمار شريطة أن لا يضر بالمستطرقين سلوكاً واستطراقاً وعائدية ، والطريق بعامة على قسمين : نافذ وغير نافذ ، وقد أولى الشرع الشريف عناية فائقة بالقسمين .
  أولاً : الطريق النافذ ، وهو الشارع العام ، والناس فيه شرع سواء ، ولا يجوز التصرف لأحد في أرضه ببناء حائط ، أو حفر بئر ، أو شق نهر ، أو نصب دكة ، أو غرس أشجار ونحو ذلك ، وإن لم يكن مضرّاً بالمستطرقين ، نعم لا بأس بما يعدّ من مكملاته ومحسناته ، ومنها : أن يشق فيه المجاري لتجتمع فيها مياه الأمطار ونحوها ، ومنها أن يجعل فيه حاويات الأزبال والنفايات ، ومنها غرس الأشجار ، ونصب المضلات وأعمدة الإنارة في الأماكن المناسبة منه كما هو المتعارف بالنسبة إلى جملة من الشوارع والطرق في العصر الحاضر ، فإن هذا كله مما لا بأس به إذا لم يكن مضراً بالمستطرقين .

فقه الحضارة 113
  وههنا مسائل محكمة في الموضوع :
  1 ـ يجوز الاستفادة من فضاء الطرق النافذة والشوارع العامة بإحداث جناح أو نحوه إذا لم يكن مضراً بالمستطرقين بوجه ، وليس لأحد منع القائم بذلك حتى صاحب الدار المقابلة ، وإن استوعب الجناح عرض الطريق بحيث كان مانعاً عن إحداث جناح في مقابله ما لم يضع منه شيئاً على جداره ، نعم إذا استلزم الإشراف على دار الجار ففي جوازه إشكال ، وإن قيل بجواز مثله في تعلية البناء في ملكه ، فلا يترك الاحتياط .
  2 ـ لو أحدث جناحاً على الشارع العام ثم انهدم أو هُدم ، فإن كان من قصده تجديده ثانياً ، فالظاهر أنه لا يجوز للطرف الآخر إشغال ذلك القضاء ، وإن لم يكن من قصده تجديده جاز له ذلك .
  3 ـ لو أحدث شخص جناحاً على الطريق العام فلا إشكال في أنه يجوز للطرف المقابل إحداث جناح آخر في طرفه سواء أكان أعلى من الجناح الأول أو أدنى منه ، أو موازياً له ، بشرط أن لا يكون مانعاً بوجه من استفادة الأول من جناحه كما هو الحال في الشوارع الوسيعة جداً .
  وأمّا إذا كان مانعاً منها ولو بلحاظ إشغال الفضاء الذي يحتاج إليه صاحب الجناح الأول بحسب العادة ، ففي جواز إحداثه من دون إذنه إشكال بل منع .
  4 ـ كما يجوز إحداث الأجنحة على الشوارع العامة يجوز فتح الأبواب المستجدة فيها سواء أكانت له باب أخرى أم لا ،

فقه الحضارة 114
  وكذا فتح الشبابيك والروازن عليها ، ونصب الميزاب فيها ، وكذا بناء ساباط عليها إذا لم يكن معتمداً على حائط غيره مع عدم إذنه ، ولم يكن مضرّاً بالمارة ولو من جهة الظلام ، وإذا فرض أنه كما يضرهم من جهة ينفعهم من جهة كالوقاية من الحرّ والبرد ، فلا بدّ من مراجعة ولي الأمر ليوازن بين الجهتين ، ويراعي ما هو الأصلح ، وكذا يجوز نقب سرداب تحت الجادة مع إحكام أساسه وبنيانه وسقفه بحيث يؤمن من الثقب والخسف والانهدام (1)
.   ثانياً : الطريق غير النافذ ، وهو الذي لا يسلك منه إلى طريق آخر ، أو أرض مباحة ، لكونه محاطاً بالدور من جوانبه الثلاثة ، وهو المسمى بالسكة المرفوعة ( الدريبة ) هذا الطريق عائد إلى مستطرقيه ، وهم أرباب الدور المفتوحة أبوابها إليه ، دون كل من كان حائط داره إليه ، وهو مشترك بينهم في حق الاستطراق بمقدار ما يشتركون في استطراقه ، فيكون أوله مشتركاً بين جميعهم ، ويقل عدد الشركاء كلما قرب إلى آخره ، وربما ينحصر ذو الحق في واحد ، وهو فيما إذا اختص آخر الدريبة بفتح باب واحد إليه.   هذا إذا لم يعلم كون الدريبة عائدة لبعضهم بالخصوص ، أو عائدة للجميع على وجه التساوي أو التفاضل وإلا ترتبت أحكامه، وههنا مسائل في المقام :
  1 ـ لا يجوز لمن له باب في الدريبة فتح باب آخر فيها أُدخِل من الباب الأول، سواء مع سدّ الباب الأول أم بدونه ، إلا

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )269 ـ 270 .

فقه الحضارة 115
  مع الاستئذان في ذلك ممن له حق الاستطراق في المكان الثاني من أرباب الدور .
  2 ـ لا يجوز لمن كان حائط داره إلى الدريبة إحداث جناح ، أو بناء ساباط ، أو نصب ميزاب ، أو ثقب سرداب ، أو غير ذلك من التصرفات فيها إلا بإذن أربابها ، كما لا يجوز له فتح باب إليها للاستطراق إلا بإذنهم ، نعم له فتح ثقبة وشباك إليها ، وأما فتح باب لا للاستطراق بل لمجرد التهوية أو الاستضاءة فلا يخلو عن إشكال .
  3 ـ يجوز لكل من أصحاب الدريبة استطراقها والجلوس فيها من غير مزاحمة المستطرقين ، وكذا التردد منها إلى داره بنفسه وعائلته وضيوفه وكل ما يتعلق بشؤونه من دون إذن باقي الشركاء وإن كان فيهم القصّر ، ومن دون رعاية المساواة معهم (1) .
  وأما الانتفاع العام فمظنته الشوارع العامة ، إذ يجوز لكل أحد الجلوس فيها أو النوم أو الصلاة أو البيع أو الشراء أو نحو ذلك ما لم يكن مزاحماً للمستطرقين ، وليس لأحد منعه عن ذلك وإزعاجه .
  وههنا ثلاث مسائل :
  1 ـ إذا جلس أحد في موضع من الطريق ثم قام عنه ، فإن كان جلوسه جلوس استراحة ونحوها جاز لغيره أن يشغل موضع جلوسه ، وإن كان لحرفة ونحوها فإن كان قيامه بعد استيفاء

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )267

فقه الحضارة 116
  غرضه ، أو أنه لا ينوي العود كان الحال كذلك وليس للأول منعه ، وإن كان قيامه قبل استيفاء غرضه وكان ناوياً للعود فعندئذٍ إن بقي منه فيه متاع أو رحل أو بساط لم يجز لغيره إزاحته وإشغال ذلك الموضع ، وإلا ففي جوازه إشكال ، والاحتياط لا يترك فيما إذا كان في يوم واحد ، وأما إذا كان في يوم آخر فالظاهر إنه لا إشكال في جوازه .
  2 ـ كما لا يجوز مزاحمة الجالس في موضع جلوسه ، كذلك لا يجوز مزاحمته فيما حوله قدر ما يحتاج إليه لوضع متاعه ووقوف المتعاملين فيه ، بل ليس لغيره أن يقعد حيث يمنع من رؤية متاعه أو وصول المتعاملين إليه .
  3 ـ يجوز للجالس للمعاملة أو نحوها أن يظل على موضع جلوسه بما لا يضر المارة بثوب أو بارية أو نحوهما ، وليس له بناء دكة ونحوها فيه (1) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 )268 وما بعدها .

فقه الحضارة 117
3 ـ الشوارع المفتوحة من قبل الدولة
  بغية تخطيط المدن تخطيطاً عمرانياً ، ونتيجة للكثافة السكانية ، وحلاً لظاهرة تزاحم المواصلات ، فقد تلجأ الدول إلى فتح الشوارع العامة فتستملك الدور والعقارات ، وتعوّض عادة المالكين ، وقد يشمل هذا الفتح المساجد والمعابد ضمن مساحات تلك الأراضي المستملكة ، ويترتب على ذلك حكم هذه الأرض ، فهل ترتب عليها آثار المسجدية أو آثار الوقفية ، وكيف ؟ وما هو شأن أنقاضها في الأحكام ، فهل تصرف بأعيانها على عمارة مسجد آخر ، وهل يجوز بيعها من قبل المتولي إذا رأى المصلحة في ذلك ، وإلى ماذا تكون عائدية ثمنها ، فهل تصرف على مسجد آخر ، أم تعود للأوقاف العامة ، وما هو شأن المقابر الموجودة في تلك الطرق ، وما هو شأن المدارس والحسينيات الواقعة في الشوارع أو المتبقي شيء منها في أرصفتها المستحدثة ، وأخيراً ما هو حكم الاستطراق والمرور ، وأحكام الفضلات المتصلة بالأرصفة ، وغير هذا ما تجيب عليه المسائل الآتية المعبرة عن الحكم الشرعي عند سماحة السيد دام ظله .

فقه الحضارة 118
  1 ـ يجوز استطراق الشوارع والأرصفة المستحدثة الواقعة على الدور والأملاك الشخصية للناس التي تستملكها الدولة وتجعلها طرقاً ، نعم من علم أن موضعاً خاصاً منها قد قامت الدولة باستملاكه قهراً على صاحبه من دون إرضائه بتعويض أو ما بحكمه ، جرى عليه حكم الأرض المغصوبة ، فلا يجوز له التصرّف فيه حتى بمثل الاستطراق إلا مع استرضاء صاحبه أو وليّه ـ من الأب أو الجدّ أو القيّم المنصوب من قبل أحدهما ـ فإن لم يعلم صاحبه جرى عليه حكم المجهول مالكه ، فيراجع بشأنه الحاكم الشرعي ، ومنه يظهر حكم الفضلات الباقية منها ، فإنه لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن أصحابها.
  2 ـ يجوز العبور والمرور من أراضي المساجد الواقعة في الطرق ، وكذا يجوز الجلوس فيها ونحوه من التصرفات ، وهكذا الحال في أراضي الحسينيات والمقابر وما يشبههما من الأوقاف العامة .
  وأما أراضي المدارس وما شاكلها ففي جواز التصرّف فيها بمثل ذلك لغير الموقوف عليهم إشكال .
  3 ـ المساجد الواقعة في الشوارع والأرصفة المستحدثة لا تخرج عرصتها عن الوقفية ، ولكن لا تترتب عليها الأحكام المترتبة على عنوان المسجد الدائرة مداره وجوداً وعدماً ، كحرمة تنجيسه ، ووجوب إزالة النجاسة عنه ، وعدم جواز مكث الجنب والحائض والنفساء فيه ، وما شاكل ذلك .
  وأمّا الفضلات الباقية منها ، فإن لم تخرج عن عنوان

فقه الحضارة 119
  المسجدية ترتبت عليها جميع أحكامه ، وأمّا إذا خرج عنه ـ كما إذا جعلها الظالم دكّاناً أو محلاً أو داراً ـ فلا تترتب عليها تلك الأحكام ، ويجوز الانتفاع منها بجميع الانتفاعات المحللة الشرعية إلاّ ما يعدّ منها تثبيتاً للغصب ، فإنه غير جائز .
  4 ـ الأنقاض الباقية من المساجد بعد هدمها ـ كأحجارها وأخشابها ، وآلاتها : كفرشها ، ووسائل إنارتها وتبريديها وتدفئتها ـ إذا كانت وقفاً عليها وجب صرفها في مسجد آخر ، فإن لم يمكن ذلك جعلت في المصالح العامة ، وإن لم يمكن الانتفاع بها إلا ببيعها باعها المتولي أو من بحكمه وصرف ثمنها على مسجد آخر .
  وأمّا إذا كانت أنقاض المسجد ملكاً له ، كما لو كانت قد اشتريت من منافع العين الموقوفة على المسجد ، فلا يجب صرف تلك الأنقاض بأنفسها على مسجد آخر ، بل يجوز للمتولي أو من بحكمه أن يبيعها إذا رأى المصلحة في ذلك ، فيصرف ثمنها على مسجد آخر .
وما ذكرناه من التفصيل يجري أيضاً في أنقاض المدارس والحسينيات ونحوهما من الأوقاف العامة الواقعة في الطرقات .
  5 ـ مقابر المسلمين الواقعة في الطرق : إن كانت من الأملاك الشخصية أو من الأوقاف العامة ، فقد ظهر حكمها ممّا سبق ، هذا إذا لم يكن العبور والمرور عليها هتكاً لموتى المسلمين ، وإلاّ فلا يجوز .
  وأمّا إذا لم تكن ملكاً ولا وقفاً فلا بأس بالتصرف فيها ما

فقه الحضارة 120
  لم يكن هتكاً. ومن ذلك يظهر حال الأراضي الباقية منها ، فإنها على الغرض الأول لا يجوز التصرف فيها وشراؤها إلا بإذن مالكها .
  وعلى الغرض الثاني لا يجوز ذلك إلا بإذن المتولي ومن بحكمه ، فيصرف ثمنها في مقابر أخرى للمسلمين مع مراعاة الأقرب فالأقرب على الأحوط .
  وعلى الغرض الثالث ، يجوز ذلك من دون حاجة إلى إذن أحد ، ما لم يستلزم التصرّف في ملك الغير كآثار القبور المهدّمة (1) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 1 )462 وما بعدها .

فقه الحضارة 121
4 ـ المياه والأنهار والآبار والعيون
  وهي الأصل في استصلاح الأراضي ، واستنزال البركات ، ففيها تزدهر البلاد وتعمر الديار ، وفيها حياة الناس والحيوان والمزارع ، وعليها يقوم سلّم الحضارة فيبلغ ذروته في الإعمار والاستثمار والخيرات ، وعليها مدار الحياة البشرية في بلوغ النعم وسدّ متطلبات العيش الرغيد ، فلا حياة بلا ماء ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) وهو أحد المباحات لكل أحد ، وفي ضوء مصادره وتملكه وإباحته ومسلتزماته وتبعاته تنطلق عدة مسائل تحدد الأحكام الشرعية المناطة به .
  1 ـ مياه الشطوط والأنهار الكبار كدجلة والفرات وما شاكلهما ، وهكذا الصغار التي جرت بنفسها من العيون أو السيول ، أو ذوبان الثلوج ، وكذا العيون المتفجرة من الجبال أو في أراضي الموات ونحوها ، كلها من الأنفال ـ أي أنها مملوكة للإمام ( عليه السلام ) ـ ولكن من حاز منها شيئاً بآنية أو حوض أو غيرهما ، وقصد تملكه ملكه من غير فرق في ذلك بين المسلم والكافر .

فقه الحضارة 122
  2 ـ كل ماء من مطر أو غيره لو أجتمع بنفسه في مكان بلا يد خارجية عليه ، فهو من المباحات الأصلية ، فمنحازه بإناء أو غيره وقصد تملكه ملكه من دون فرق بين المسلم والكافر في ذلك .
  3 ـ مياه الآبار والعيون والقنوات التي جرت بالحفر لا بنفسها ملك الحافر ، فلا يجوز لأحد التصرف فيها بدون إذن مالكها .
  4 ـ إذا شقّ نهراً من بعض الأنهار الكبار سواء أكان بشقه في أرض مملوكة له ، أو بشقه في الموات بقصد إحيائه نهراً ، ملك ما يدخل فيه من الماء إذا قصد تملكه .
  5 ـ إذا كان النهر لأشخاص متعددين ، ملك كل منهم مقدار حصته من النهر ، فإن كانت حصة كل منهم من النهر بالسوية اشتركوا في الماء بالسوية ، وإن كانت بالتفاوت ملكوا الماء بتلك النسبة ، ولا تتبع نسبة استحقاق الماء نسبة استحقاق الأراضي التي تُسقى منه .
  6 ـ الماء الجاري في النهر المشترك حكمه حكم سائر الأموال المشتركة فلا يجوز لكل واحد من الشركاء التصرف فيه بدون إذن الباقين، وعليه فإن أباح كل منهم لسائر شركائه أن يقضي حاجته منه في كل وقت وزمان ، وبأي مقدار شاء جاز له ذلك .
  7 ـ إذا وقع بين الشركاء تعاسر وتشاجر ، فإن تراضوا بالتناوب والمهاباة بالأيام أو الساعات فهو ، وإلاّ فلا محيص من

فقه الحضارة 123
  تقسيمه بينهم بالأجزاء ، بأن توضع في فم النهر حديدة مثلاً ذات ثقوب متعددة متساوية ، ويجعل لكل منهم من الثقوب بمقدار حصته ، ويوصل كل منهم ما يجري في الثقبة المختصة به إلى ساقيته ، فإن كانت حصة أحدهم سدساً ، والآخر ثلثاً والثالث نصفاً ، فلصاحب السدس ثقب واحد ، ولصاحب الثالث ثقيان ، ولصاحب النصف ثلاثة ثقوب ، فلامجموع ستة .
  8 ـ القسمة بحسب الأجزاء لازمة ليس لأحدهم الرجوع عنها بعد وقوعها ، والظاهر أنها قسمة إجبار ، فإذا طلبها أحد الشركاء أجبر الممتنع منهم عليها. وأما القسمة بالمهاباة والتناوب فهي ليست بلازمة ، فيجوز لكل منهم الرجوع عنها حتى فيما إذا استوفى تمام نوبته ، ولم يستوف ألآخر نوبته ، وإن ضمن المستوفي حينئذٍ مقدار ما استوفاه بالمثل .
  9 ـ إذا اجتمعت أملاك على ماء عينٍ ، أو وادٍ ، أو نهر ، أو نحو ذلك من المشتركات كان للجميع حقّ السقي منه ، وليس لأحد منهم إحداث سدّ فوقها ليقبض الماء كله أو ينقصه عن مقدار احتياج الباقين .
  وعندئذٍ فإن كفى الماء للجميع من دون مراجعة فهو ، وإلاّ قدّم الأسبق فالأسبق في الأحياء إن كان عُلم السابق ، وإلا قدّم الأعلى فالأعلى والأقرب فالأقرب إلى فوهة العين أو أصل النهر ، وكذا الحال في الأنهار المملوكة المنشقة من الشطوط ، فإن كفى الماء للجميع وإلا قدّم الأسبق فالأسبق ـ أي : من كان

فقه الحضارة 124
  شق نهره أسبق من شق نهر الآخر ـ إن كان هناك سابق ولاحق وعُلِم ، وإلا فيقبض الأعلى بمقدار ما يحتاج إليه ثم ما يليه وهكذا .
  10 ـ تنقية النهر المشترك وإصلاحه ونحوهما على الجميع بنسبة ملكهم إذا كانوا مقدمين على ذلك باختيارهم ، وإما إذا لم يقدم على ذلك إلا البعض لم يجبر الممتنع ،كما أنه لا يجوز التصرف فيه لغيره إلا بإذنه ، وإذا أذن لهم بالتصرف فليس لهم مطالبته بحصته من المؤنة إلا إذا كان إقدامهم بطلبه وتعهده ببذل حصته .
  11 ـ إذا كان النهر مشتركاً بين القاصر وغيره ، وكان إقدام غير القاصر متوقفاً على مشاركة القاصر ، إمّا لعدم اقتداره بدونه أو لغير ذلك ، وجب على ولي القاصر ـ مراعاة لمصلحته ـ إشراكه في التنقية والتعمير ونحوهما ، وبذل المؤنة من مال القاصر بمقدار حصته .
  12 ـ ليس لصاحب النهر تحويل مجراه إلا بإذن صاحب الرحى المنصوبة عليه بإذنه ، وكذا غير الرحى أيضاً من الأشجار المغروسة على حافتيه وغيرها .
  13 ـ ليس لأحد أن يحمي المرعى ويمنع غيره عن رعي مواشيه إلاّ أن يكون المرعى ملكاً له ، فيجوز له أن يحميه حينئذٍ ، نعم لولي المسلمين أن يحمي المراعي العامة ، ويمنع من الرعي فيها حسب ما تقتضيه المصلحة (1) .

(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 ) 273 ـ 275 .

فقه الحضارة 124
  إن هذا الاستيعاب الشامل لمسائل المياه والأنهار والآبار والعيون وما استلحق بها من التنقية والإصلاح والإعمار وحماية المراعي لهو بحق تسخيرٌ للموارد البشرية في استثمارها على الوجه الأكمل الذي أراده الله لعباده من أجل إعمار الأرض واستصلاحها بما فيه خير المجتمع الإنساني ، لينهض بحضارته إلى القمة في الحضارات .