المسجدية ترتبت عليها جميع أحكامه ، وأمّا إذا خرج عنه ـ كما إذا جعلها الظالم دكّاناً أو محلاً أو داراً ـ فلا تترتب عليها تلك الأحكام ، ويجوز الانتفاع منها بجميع الانتفاعات المحللة الشرعية إلاّ ما يعدّ منها تثبيتاً للغصب ، فإنه غير جائز .
4 ـ الأنقاض الباقية من المساجد بعد هدمها ـ كأحجارها وأخشابها ، وآلاتها : كفرشها ، ووسائل إنارتها وتبريديها وتدفئتها ـ إذا كانت وقفاً عليها وجب صرفها في مسجد آخر ، فإن لم يمكن ذلك جعلت في المصالح العامة ، وإن لم يمكن الانتفاع بها إلا ببيعها باعها المتولي أو من بحكمه وصرف ثمنها على مسجد آخر .
وأمّا إذا كانت أنقاض المسجد ملكاً له ، كما لو كانت قد اشتريت من منافع العين الموقوفة على المسجد ، فلا يجب صرف تلك الأنقاض بأنفسها على مسجد آخر ، بل يجوز للمتولي أو من بحكمه أن يبيعها إذا رأى المصلحة في ذلك ، فيصرف ثمنها على مسجد آخر .
وما ذكرناه من التفصيل يجري أيضاً في أنقاض المدارس والحسينيات ونحوهما من الأوقاف العامة الواقعة في الطرقات .
5 ـ مقابر المسلمين الواقعة في الطرق : إن كانت من الأملاك الشخصية أو من الأوقاف العامة ، فقد ظهر حكمها ممّا سبق ، هذا إذا لم يكن العبور والمرور عليها هتكاً لموتى المسلمين ، وإلاّ فلا يجوز .
وأمّا إذا لم تكن ملكاً ولا وقفاً فلا بأس بالتصرف فيها ما
فقه الحضارة
120
لم يكن هتكاً. ومن ذلك يظهر حال الأراضي الباقية منها ، فإنها على الغرض الأول لا يجوز التصرف فيها وشراؤها إلا بإذن مالكها .
وعلى الغرض الثاني لا يجوز ذلك إلا بإذن المتولي ومن بحكمه ، فيصرف ثمنها في مقابر أخرى للمسلمين مع مراعاة الأقرب فالأقرب على الأحوط .
وعلى الغرض الثالث ، يجوز ذلك من دون حاجة إلى إذن أحد ، ما لم يستلزم التصرّف في ملك الغير كآثار القبور المهدّمة
(1) .
|
(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 1 )462 وما بعدها .
|
فقه الحضارة
121
4 ـ المياه والأنهار والآبار والعيون
وهي الأصل في استصلاح الأراضي ، واستنزال البركات ، ففيها تزدهر البلاد وتعمر الديار ، وفيها حياة الناس والحيوان والمزارع ، وعليها يقوم سلّم الحضارة فيبلغ ذروته في الإعمار والاستثمار والخيرات ، وعليها مدار الحياة البشرية في بلوغ النعم وسدّ متطلبات العيش الرغيد ، فلا حياة بلا ماء ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) وهو أحد المباحات لكل أحد ، وفي ضوء مصادره وتملكه وإباحته ومسلتزماته وتبعاته تنطلق عدة مسائل تحدد الأحكام الشرعية المناطة به .
1 ـ مياه الشطوط والأنهار الكبار كدجلة والفرات وما شاكلهما ، وهكذا الصغار التي جرت بنفسها من العيون أو السيول ، أو ذوبان الثلوج ، وكذا العيون المتفجرة من الجبال أو في أراضي الموات ونحوها ، كلها من الأنفال ـ أي أنها مملوكة للإمام ( عليه السلام ) ـ ولكن من حاز منها شيئاً بآنية أو حوض أو غيرهما ، وقصد تملكه ملكه من غير فرق في ذلك بين المسلم والكافر .
فقه الحضارة
122
2 ـ كل ماء من مطر أو غيره لو أجتمع بنفسه في مكان بلا يد خارجية عليه ، فهو من المباحات الأصلية ، فمنحازه بإناء أو غيره وقصد تملكه ملكه من دون فرق بين المسلم والكافر في ذلك .
3 ـ مياه الآبار والعيون والقنوات التي جرت بالحفر لا بنفسها ملك الحافر ، فلا يجوز لأحد التصرف فيها بدون إذن مالكها .
4 ـ إذا شقّ نهراً من بعض الأنهار الكبار سواء أكان بشقه في أرض مملوكة له ، أو بشقه في الموات بقصد إحيائه نهراً ، ملك ما يدخل فيه من الماء إذا قصد تملكه .
5 ـ إذا كان النهر لأشخاص متعددين ، ملك كل منهم مقدار حصته من النهر ، فإن كانت حصة كل منهم من النهر بالسوية اشتركوا في الماء بالسوية ، وإن كانت بالتفاوت ملكوا الماء بتلك النسبة ، ولا تتبع نسبة استحقاق الماء نسبة استحقاق الأراضي التي تُسقى منه .
6 ـ الماء الجاري في النهر المشترك حكمه حكم سائر الأموال المشتركة فلا يجوز لكل واحد من الشركاء التصرف فيه بدون إذن الباقين، وعليه فإن أباح كل منهم لسائر شركائه أن يقضي حاجته منه في كل وقت وزمان ، وبأي مقدار شاء جاز له ذلك .
7 ـ إذا وقع بين الشركاء تعاسر وتشاجر ، فإن تراضوا بالتناوب والمهاباة بالأيام أو الساعات فهو ، وإلاّ فلا محيص من
فقه الحضارة
123
تقسيمه بينهم بالأجزاء ، بأن توضع في فم النهر حديدة مثلاً ذات ثقوب متعددة متساوية ، ويجعل لكل منهم من الثقوب بمقدار حصته ، ويوصل كل منهم ما يجري في الثقبة المختصة به إلى ساقيته ، فإن كانت حصة أحدهم سدساً ، والآخر ثلثاً والثالث نصفاً ، فلصاحب السدس ثقب واحد ، ولصاحب الثالث ثقيان ، ولصاحب النصف ثلاثة ثقوب ، فلامجموع ستة .
8 ـ القسمة بحسب الأجزاء لازمة ليس لأحدهم الرجوع عنها بعد وقوعها ، والظاهر أنها قسمة إجبار ، فإذا طلبها أحد الشركاء أجبر الممتنع منهم عليها.
وأما القسمة بالمهاباة والتناوب فهي ليست بلازمة ، فيجوز لكل منهم الرجوع عنها حتى فيما إذا استوفى تمام نوبته ، ولم يستوف ألآخر نوبته ، وإن ضمن المستوفي حينئذٍ مقدار ما استوفاه بالمثل .
9 ـ إذا اجتمعت أملاك على ماء عينٍ ، أو وادٍ ، أو نهر ، أو نحو ذلك من المشتركات كان للجميع حقّ السقي منه ، وليس لأحد منهم إحداث سدّ فوقها ليقبض الماء كله أو ينقصه عن مقدار احتياج الباقين .
وعندئذٍ فإن كفى الماء للجميع من دون مراجعة فهو ، وإلاّ قدّم الأسبق فالأسبق في الأحياء إن كان عُلم السابق ، وإلا قدّم الأعلى فالأعلى والأقرب فالأقرب إلى فوهة العين أو أصل النهر ، وكذا الحال في الأنهار المملوكة المنشقة من الشطوط ، فإن كفى الماء للجميع وإلا قدّم الأسبق فالأسبق ـ أي : من كان
فقه الحضارة
124
شق نهره أسبق من شق نهر الآخر ـ إن كان هناك سابق ولاحق وعُلِم ، وإلا فيقبض الأعلى بمقدار ما يحتاج إليه ثم ما يليه وهكذا .
10 ـ تنقية النهر المشترك وإصلاحه ونحوهما على الجميع بنسبة ملكهم إذا كانوا مقدمين على ذلك باختيارهم ، وإما إذا لم يقدم على ذلك إلا البعض لم يجبر الممتنع ،كما أنه لا يجوز التصرف فيه لغيره إلا بإذنه ، وإذا أذن لهم بالتصرف فليس لهم مطالبته بحصته من المؤنة إلا إذا كان إقدامهم بطلبه وتعهده ببذل حصته .
11 ـ إذا كان النهر مشتركاً بين القاصر وغيره ، وكان إقدام غير القاصر متوقفاً على مشاركة القاصر ، إمّا لعدم اقتداره بدونه أو لغير ذلك ، وجب على ولي القاصر ـ مراعاة لمصلحته ـ إشراكه في التنقية والتعمير ونحوهما ، وبذل المؤنة من مال القاصر بمقدار حصته .
12 ـ ليس لصاحب النهر تحويل مجراه إلا بإذن صاحب الرحى المنصوبة عليه بإذنه ، وكذا غير الرحى أيضاً من الأشجار المغروسة على حافتيه وغيرها .
13 ـ ليس لأحد أن يحمي المرعى ويمنع غيره عن رعي مواشيه إلاّ أن يكون المرعى ملكاً له ، فيجوز له أن يحميه حينئذٍ ، نعم لولي المسلمين أن يحمي المراعي العامة ، ويمنع من الرعي فيها حسب ما تقتضيه المصلحة
(1) .
|
(1) السيستاني ( منهاج الصالحين 2 ) 273 ـ 275 .
|
فقه الحضارة
124
إن هذا الاستيعاب الشامل لمسائل المياه والأنهار والآبار والعيون وما استلحق بها من التنقية والإصلاح والإعمار وحماية المراعي لهو بحق تسخيرٌ للموارد البشرية في استثمارها على الوجه الأكمل الذي أراده الله لعباده من أجل إعمار الأرض واستصلاحها بما فيه خير المجتمع الإنساني ، لينهض بحضارته إلى القمة في الحضارات .