في ضوء فتاوى
سماحة آية الله العظمى
السيد علي الحسيني السيستاني
( دام ظله الوارف )



المقدمة
  في تراثنا الحضاري صفحات مشرقة تواكب مسيرة التطور الإنساني ، وتنطلق مع التقدم البشري في مجالاته كافةً .
وكان لفتح باب الاجتهاد عند الإمامية أثره الفاعل في تحرير قضايا الإنسان المعاصر من ربقة الجمود والتقوقع الفكري ، فسيّر بين يديه جملة ما يحتاج إليه من التشريع الذي يلبيّ حاجاته الآنية والمستقبلية ، وقد سجل بذلك سبقاً علميّا متحضراً ، وأحرز نصراً أكاديمياً متطوراً .
  وكان للنداءات الملحّة التي أطلقها جيل من المثقفين ، وطائفة من الطبقة المتنورة الواعية ، وهي تدعو إلى إغناء المكتبة العربية بجمهرة من ( الفقه الحضاري ) وإثراء الحياة المعاصرة بكوكبة من ( فقه الحضارة ) ما اتسعت له هذه الصفحات من الإثراء والإغناء استجابةً لتلك الدعوات الخيّرة التي انطلقت بداعي الغيرة على الدين باعتباره نظاماً وهدايةً وتشريعاً يتحقق من مجموعها سعادة البشر ، لا سيما والشباب يتعايشون في ظل المتغيرات الحديثة روحاً ومضموناً ، ولابد لهم من شعاع هادٍ يلتمسون في

فقه الحضارة 6
  ضوئه معالم الحق والسداد بعيدةً عن المناخ المتطرف ، وقريبة من الروح الموضوعي ، وهم ما بين مغترب عن موطنه ، أو مهاجر عن بلده ، أو متطلع إلى مفاهيم دينه وهو يخوض غمار الحياة في أوروبا والبلدان الأجنبية .
  لكل ما تقدم يسرني أن أتقدم لشبابنا المتحفز الرائد ( فقه الحضارة ) في ضوء فتاوى سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوريف .
  وكانت طبيعة هذا الموضوع أن انتظم في ستة فصول مختارة : الفصل الاول : وكان بعنوان : الطب الحديث وظواهر الاكتشاف المختبري ، وقد اشتمل على تسعة مباحث هي :
  1 ـ أحكام التشريح في منظور عصري .
  2 ـ الترقيع بالأعضاء والواقع الطبي .
  3 ـ التلقيح الصناعي والتخصيب .
  4 ـ أطفال الأنابيب وعملية الاستنساخ .
  5 ـ تحديد النسل وموانع الحمل.
  6 ـ مرض الإيدز أو فقدان المناعة المكتسبة .
  7 ـ أخطار التدخين ... ونوادر علمائنا الأعلام .
  8 ـ وباء المخدّرات وأضرار الخمور .
  9 ـ فتاوى فقهية ذات أبعاد طبيّة .
  وكان الفصل الثاني بعنوان : الاقتصاد الوطني والشؤون

فقه الحضارة 7
  المالية ، وقد اشتمل على خمسة بحوث رئيسية ، كان مبحثها الأول ، وهو بعنوان أعمال المصارف والبنوك ثرياً بخمسة عشر موضوعاً :
  1 ـ الاقتراض ـ الإيداع .
  2 ـ الاعتمادات .
  3 ـ خزن البضائع .
  4 ـ بيع البضائع عند تخلّف أصحابها عن تسلّمها .
  5 ـ الكفالة عند البنوك .
  6 ـ بيع السهام .
  7 ـ بيع السندات .
  8 ـ الحوالات الداخلية والخارجية .
  9 ـ جوائز البنك .
  10 ـ بيع العملات الأجنبية وشراؤها .
  11 ـ السحب على المكشوف .
  12 ـ خصم الكمبيالات .
  13 ـ العمل لدى البنوك .
  14 ـ فتاوى مصرفية .
  ثانياً : أوراق اليانصيب .
  ثالثاً : عقد التأمين .

فقه الحضارة 8
  رابعاً : إخلاء المحلاّت التجارية .
  خامساً : فتاوى حضارية بأموال الأوروبيين .
  وكان الفصل الثالث بعنوان : تخطيط المدن واستصلاح الأراضي ، وقد اشتمل على خمسة مباحث مهمة :
  1 ـ الشوارع العامة في مظاهرها المتعددة .
  2 ـ الطرق المشتركة ، في الإعمار والاستثمار .
  3 ـ الشوارع المفتوحة من قبل الدولة .
  4 ـ المياه والأنهار والآبار والعيون .
  5 ـ إحياء الأرض الموات .
  وكان الفصل الرابع بعنوان : السفر إلى أوروبا والخطوط الجوية والقبلة في نيويورك ، وقد انتظم في أربعة مباحث متأصلة :
  1 ـ السفر إلى البلدان الأوروبية والأجنبية .
  2 ـ حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري .
  3 ـ القبلة في نيويورك .
  4 ـ متفرقات في أحكام السفر .
  وكان الفصل الخامس بعنوان : شؤون الأطعمة واللحوم والأغذية والمعلّبات في الدول الأجنبية ، وقد انتظم في أربعة بحوث رئيسية :
  1 ـ التذكية واللحوم وطعام غير المسلمين .

فقه الحضارة 9
  2 ـ ريادة المطاعم المشبوهة والعمل فيها .
  3 ـ المعلّبات والمنتجات في الدول الأوروبية .
  4 ـ فتاوى حضارية في الإغذية والأشربة .
  وكان الفصل السادس بعنوان : مظاهر الحياة العامة والعلاقات المحرّمة والجائزة ، وقد اشتمل على خمسة مباحث غنية بمسائل الابتلاء لدى الشباب والنساء في مناخ اوروبا :
  1 ـ علاقة المسلم بسواه من غير المسلمين .
  2 ـ الاختلاط المزدوج في المدارس والمسابح والحفلات .
  3 ـ الإحساس الجنسي ودرجات التلذذ الشهوي .
  4 ـ ما لا يجوز للمرأة وما يجوز .
  5 ـ مشاهد المجون والرقص والموسيقى والغناء والقمار .
  وكانت مصادر هذا البحث تعتمد مؤلفات السيد دام ظله : منهاج الصالحين بأجزائه الثلاثة ، والمسائل المنتخبة ، وفقه المغتربين ، والمستحدثات من المسائل الشرعية ، يضاف إليها آراء سماحة السيد التي تلقاها المؤلف ، وجملة من الفتاوى الخطية المصورة في حوزة المؤلف .
  ولا أدعي لهذا الكتاب الشمول والكمال ، فالشمولية قد لا تستطاع ، والكمال لله وحده ، ولكنه إسهامٌ في تأصيل الفكر الحضاري للفقه الإمامي ، واستجابة لدعوات الطبقة المثقفة في الاستزادة من المعارف الإنسانية والتشريعية بوقت واحد .

فقه الحضارة 10
  أرجو من الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يكون لنا ذخراً يوم الدين ، يوم يقوم الناس لرب العالمين .
  النجف الأشرف
  الدكتور محمد حسين علي الصغير

فقه الحضارة 11
الفصل الأول
( الطبُّ الحديث وظواهر الاكتشاف المختبري )

  1 ـ أحكام التشريح في منظور عصري
  2 ـ الترقيع بالأعضاء والواقع الطبيّ
  3 ـ التلقيح الصناعي والتخصيب
  4 ـ أطفال الأنابيب وعملية الاستنساخ
  5 ـ تحديد النسل وموانع الحمل
  6 ـ مرض الإيدز أو فقدان المناعة المكتسبة
  7 ـ أخطار التدخين .. ونوادر علمائنا الأعلام
  8 ـ وباء المخدّرات وأضرار الخمور
  9 ـ فتاوى فقهية ذات أبعاد طبّية

فقه الحضارة 13
1 ـ أحكام التشريح في منظور عصري
  التشريح عملية يفرضها الواقع الطبي كشفاً عن الجرائم حيناً ، وتعليماً لطلاب الدراسات الطبية حيناً آخر ، وتوصلاً إلى حقائق الأشياء المجهولة بعض الأحايين ، وهو بعد مادة تدريسية على منتسبي كلية الطب اجتيازها بنجاح .
  والمشكلة المعاصرة التي يعاني منها الطب في البلدان الإسلامية والعربية هي حرمة الإنسان حياً وميتاً عند المسلمين في ضوء تعليمات الدين الحنيف ، فالمسلمون لا يسلمون موتاهم للتشريح لهذا الملحظ من وجه ، وللعاطفة المتأصلة في النفوس من الشفقة والعطف بهذا الميت أو ذاك لقربه منهم ، ولحبهم له ، ولحرمته عندهم ، فكيف يسلمونه استسلاماً ، وهم يستطيعون الحفاظ عليه من كل غائلة وهو واجبهم الشرعي الذي لا محيص عنه .
  والطب العدلي ، والغرض العلمي يتطلبان معاً توفير الجثث للتشريح ، وقد اضطرت جملة من المؤسسات الطبية إلى استيراد

فقه الحضارة 14
  الجثث من الخارج ، أو شرائها من الذين يبيعون جثثهم في حياتهم ، وذلك لتحقيق الجانب العلمي والتعليمي والعدلي الذي توفره نتائج التشريح في هذه المستويات بخاصة .
  ولمّا كانت ضرورة التشريح قائمة بذاتها ، ولا خلاص منها ، ولا مناص عنها ، فقد استفرغ الفقه الحضاري جهده التشريعي ، وأعطى الحلول الكفيلة بتقليص حجم المشكلة إلى أدنى مستوى ممكن ، فلا يجوز تشريح بدن الميّت المسلم ، ويجوز تشريح بدن الميّت الكافر ما عدا محقون الدم ، ومع هذا فيجوز تشريح بدن الميت الكافر محقون الدم في حالتين هما : إذنه في حال الحياة بذلك ، أو إذن وليّه بعد وفاته ، وعند الضرورة القصوى يجوز تشريح بدن المسلم في حالة توقف حياة أحد المسلمين عليه ضمن تدرج سيأتي فيما بعد ، وإليك في هذا الضوء معالجة سماحة السيد السيستاني دام ظله الوارف للموضوع من خلال ما توافر لدينا من فتاواه الشرعية :
  1 ـ لا يجوز تشريح بدن الميّت المسلم ، فلو فعل ذلك لزمته الديّة على تفصيل مذكور في كتاب الديّات .
  2 ـ يجوز تشريح بدن الميّت الكافر بأقسامه إذا لم يكن محقون الدم في حال حياته ، وإلا ـ كما لو كان ذميّاً ـ فالأحوط لزوماً الاجتناب عن تشريح بدنه ، نعم إذا كان ذلك جائزاً في شريعته ـ مطلقاً أو مع إذنه في حال الحياة ، أو إذن وليّه بعد الوفاة ـ فلا يبعد جوازه حينئذٍ ، وأما المشكوك كونه محقون الدم في حال الحياة ، فيجوز تشريح بدنه إذا لم تكن أمارة على كونه كذلك .

فقه الحضارة 15
  3 ـ لو توقف حفظ حياة مسلم على التشريح ، ولم يكن تشريح الكافر غير محقون الدم ، أو مشكوك الحال ، جاز تشريح غيره من الكفار ، وإن لم يكن ذلك أيضاً ، جاز تشريح المسلم ، ولا يجوز تشريح المسلم لغرض التعلم ونحوه ما لم تتوقف عليه حياة (1) .
  بالإضافة إلى ما تقدم فقد تطلب بعض الدوائر في بعض الحالات تشريح جثة المتوفى لمعرفة سبب الوفاة ، فمتى يجوز السماح لها بذلك ؟ ومتى لا يجوز .
  وقد أفتى سماحة السيد دام ظله بقوله :
لا يجوز لولي الميّت المسلم أن يسمح بتشريح جسد الميّت للغرض المذكور ونحوه ، ويلزمه الممانعة منه مع (2) .

(1) السيد السيستاني ( منهاج الصالحين 1 ) 457 ـ 458 + المستحدثات من المسائل الشرعية 73 ـ 74 طبعة لندن .
(2) فتوى خطية مصورة في حوزة المؤلف + فقه المغتربين 242 وما بعدها .

فقه الحضارة 16
2 ـ الترقيع بالأعضاء والواقع الطبِّي
  الترقيع بالأعضاء بنقلها من إنسان إلى إنسان حياً أو ميتاً ظاهرة متطورة من ظواهر الطب الحديث ، وقد أحرزت الجراحة المتخصصة نصراً هائلاً في زراعة الكلى والقلب والعيون وحتى الأطراف ، وبذلك تمت عمليات الإنقاذ للإنسان من أخطار مرضيّة كانت تعتبر مستحيلة إلى عهد قريب ، وبذلك يكون الطب قد تقدم خطوة جريئة في ميدان الجراحة المبرمجة والنموذجية ، وهذه الظاهرة إحدى أطاريح الطب التي فرضتها الحضارة المعاصرة ضمن واقع طبيّ له أبعاده المستقبلية في قادم الأيام ، وكان لزاماً على الفقه الإمامي وهو يخوض معركته العلمية في ظل التحضر المتنامي أن يطرح على الساحة الطبية ، أحكام هذه الظاهرة الفريدة .
  وكان لسماحة السيد مد ظله العالي الميدان الرحب في هذا الانبثاق الجديد ، فقد أعطى الحلول المناسبة ضمن الفتاوى الآتية :

فقه الحضارة 17
  1 ـ لا يجوز قطع عضو من أعضاء الميّت المسلم كعينه أو نحوها لإلحاقه ببدن الحي ، فلو قطع فعلى القاطع الدية .
  وهل يجوز الإلحاق بعد القطع أو يجب دفن الجزء المبان ؟ لا يبعد الثاني ، نعم ، لا يجب قطعه بعد الإلحاق وحلول الحياة فيه .
  2 ـ إذا توقف حفظ حياة المسلم على قطع عضو من أعضاء الميّت المسلم لإلحاقه ببدنه جاز القطع ، ولكن تثبت الدية على القاطع على الأحوط ، وإذا أُلحق ببدن الحي ترتبت عليه بعد الإلحاق أحكام بدن الحيّ ، نظراً لأنه أصبح جزءاً منه .
  3 ـ هل يجوز قطع جزء من الميت المسلم لإلحاقه ببدن الحي إذا كانت عضوه متوقفة عليه ؟ .
 الظاهر عدم الجواز .
  4 ـ إذا أوصى بقطع بعض أعضائه بعد وفاته ليلحق ببدن الحيّ من غير أن تتوقف حياة الحي على ذلك ، ففي نفاذ وصيته وجواز القطع حينئذٍ إشكال ، ولكن الأظهر عدم وجوب الدية على القاطع .
  5 ـ هل يجوز قطع جزء من إنسان حيّ للترقيع إذا رضي به ؟ في هذا الشأن تفصيل :
 إذا كان قطعه يلحق ضرراً بليغاً به ـ كما في قطع العين واليد والرجل وما شاكلها ـ لم يجز ، وإلا جاز ـ كما في قطع قطعة جلد أو لحم أو جز من النخاع ونحوه ـ .

فقه الحضارة 18
 وهل يجوز أخذ المال إزاء ذلك ؟
 الظاهر جوازه .
  6 ـ يجوز قطع عضو من بدن ميّت كافر غير محقون الدم ، أو مشكوك الحال لترقيع بدن المسلم ، وتترتب عليه بعده أحكام بدنه ، لأنه صار جزءاً له ، كما أنه لا بأس بالترقيع بعضو من أعضاء بدن نجس العين من الحيوان ـ كالكلب ونحوه ـ وتترتب عليه أحكام بدنه ، وتجوز الصلاة فيه باعتبار طهارته بصيرورته جزءاً من بدن الحيّ بحلول الحياة فيه (1) .
  7 ـ هل التبرع بالعضو الحي لحي كما في الكلية ، ومن الميت للحي بالوصية ، سواء من المسلم للكافر ، أم العكس جائز ؟ وهل تختلف الأعضاء في هذا المسألة عن بعضها البعض ؟
 أما تبرع الحي ببعض أجزاء جسمه لإلحاقه ببدن غيره فلا بأس به ، إذا لم يكن يلحق به ضرراً بليغاً ، كما في التبرع بالكلية لمن لديه كلية أخرى سليمة ، وأما قطع عضو من الميت بوصية منه لإلحاقه ببدن الحي فلا بأس به إذا لم يكن الميت مسلماً أو من بحكمه أو كان مما يتوقف عليه إنقاذ حياة مسلم ، وأما في غير هاتين الصورتين ، ففي نفوذ الوصية وجواز القطع إشكال، ولكن لا تثبت الديّة على المباشر للقطع مع الوصية على كل تقدير (2) .

(1) السيد السيستاني ( منهاج الصالحين 1 ) 458 ـ 459 + المستحدثات من المسائل الشرعية 74 وما بعدها .
(2) فقه المغتربين | 243 .

فقه الحضارة 19
3 ـ التلقيح الصناعي والتخصيب
  تطورت وسائل الإخصاب والإنجاب في معطيات الطب الحديث وهي تواجه عنت العقم ، وعدم استقرار الرحم ، والإنزال المبكر ، وعدم تلاقح الحويمن ببيضة المرأة ، وردود الفعل المعاكس ، وسوى هذا ، مما حدا بكبار الأطباء في العالم إلى إيجاد البديل المناسب ، فكان البديل هو التلقيح الصناعي من وجه ، والعمل على إنجاح مشروع أطفال الأنابيب من وجه آخر .
  وسواء أحقق الطب مشروعه ، أم لم يكتب له النجاح فيه ، إلا أن متغيرات الزمن ، وقطع المسافات الهائلة في شتى الأبعاد بحكمة ورويّة ، قد تضافرا لإسماع الصوت الحديث في التلقيح وطلب الأبناء مما جعل الفقه الإسلامي أمام توجهاته الإفتائية وجهاً لوجه ، وقد نهد سماحة السيد دام ظله الوريف لهذا العبء ، ملخصاً أبرز معالمه وفق منظور الشريعة الغراء في البرنامج الآتي :
  1 ـ ( لا يجوز تلقيح المرأة بماء غير الزوج ، سواءً أكانت

فقه الحضارة 20
  ذات زوج ام لا ، رضي الزوج والزوجة بذلك أم لا ، أكان التلقيح بواسطة الزوج أم غيره .
  2 ـ لو تمّ تلقيح المرأة بماء غير الزوج فحملت منه ثم ولدت ، فإن حدث ذلك اشتباهاً ـ كما لو أريد تلقيحها بماء زوجها فاشتبه بغيره ـ فلا إشكال في لحوقه بصاحب الماء ، فإنه نظير الوطء بشبهة .
  وأما إن حدث ذلك مع العلم والعمد ، فلا يبعد لحوقه به أيضاً ، وثبوت جميع أحكام النسب بينهما حتى الإرث ، لأن المستثنى من الإرث هو الولد عن زناً ، وهذا ليس كذلك وإن كان العمل الموجب لانعقاد نطفته محرّماً .
  وهكذا الحال في لحوقه بأمّهِ فإنه يلحق بها حتى في الصورة الثانية على الأقرب ، ولا فرق بينه وبين سائر أولادها أصلاً .
  ومن قبيل هذه الصورة ما لو ألقت المرأة نطفة زوجها في فرج امرأة أخرى بالمساحقة أو نحوها ، فحملت المرأة ثم ولدت ، فإنه يلحق بصاحب النطفة وبالتي حملته ، وإن كان العلم المذكور محرماً .
  3 ـ لو أخذت بويضة المرأة وماء الرجل ، فلُقّحت به ووضعت في رحم صناعية ، وتمّت تربيتها لغرض التوليد حتى أصبحت ولداً ، فالظاهر أنه ملحق بصاحب الماء وصاحبة البويضة ، ويثبت بينه وبينهما جميع أحكام النسب حتى الأرث.
  نعم : لا يرث الولد ممن مات منهما قبل التلقيح.

فقه الحضارة 21
  4 ـ لو نقلت بويضة المرأة الملقحة بماء الرجل إلى رحم أمرأة أخرى ، فنشأ وتولد ، فهل هو ملحق بالأولى أو الثانية ؟ ففيه وجهان ، لا يخلو أولهما عن وجه ، وإن كان الأحتياط لا يترك .
  5 ـ يجوز تلقيح الزوجة بنطفة زوجها ، نعم ، لا يجوز أن يكون المباشر غير الزوج إذا كان ذلك موجباً للنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ، أو مسّ ما لا يجوز مسّه ، وحكم الولد منه حكم سائر أولادها بلا فرق أصلاً ) (1) .
  6 ـ رجل لقح بويضة امرأة خارج رحمها بمنيّه ثم وضعت البويضة المخصّبة داخل رحم زوجته فولدت ولداً فهل عملية التلقيح هذه محرمة ؟
  الجواب : لا بأس بها في حد ذاتها مع الغض عن المقارنات .
  7 ـ إذا كان ترك تلقيح المرأة بماء زوجها يعرض حياتها الزوجية للأنفكاك مما يوقعها في الحرج فهل يجوز لها الكشف أمام الطبيب ليقوم بالعملية ؟
  الجواب : إذا كان الحرج بحيث لم تجر العادة بتحمله فهو رافع للتكليف ويجوز معه ذلك ، وإذا جاز لها ذلك جاز للطبيب أو الطبيبة النظر بقدر الضرورة .
  8 ـ هل يجوز أن تلقح بويضة الزوجة بخليّة حيّة مأخوذة من خصية الزوج ثم تعاد البويضة الملقحة إلى الرحم ؟
  الجواب : لا بأس بالعملية المذكورة ولكن في عدّ صاحب

(1) ظ السيد السيستاني ( منهاج الصالحين ) 459 ـ 460 .

فقه الحضارة 22
 الخلية أباً للمولود شوب إشكال ، وإن كان هو الأرجح .
  وفيما يتعلق بتخصيب بيضة المرأة بحُويمِن الرجل في أنابيب الاختبار فهناك صورتان :
  الأولى : أن تنقل بويضة المرأة ، ونطفة الرجل ، ويتم تلاقحهما خارج الجسم الإنساني ، وبعد التخصيب ينقلان داخل الجسم مرة أخرى .
  وقد وجه إلى سماحة السيد دام ظله الشريف السؤال الآتي :
  9 ـ هل تجوز زراعة الأنابيب ، أي أن تنقل بويضة الزوجة ونطفة الرجل ، وتلقح البويضة خارج الجسم ، ثم تنقل إلى داخل الجسم بعد ذلك ؟ وقد أفتى سماحته بقوله : يجوز ذلك في حد ذاته (1) .
الصورة الثانية : إن عملية التلقيح هذه خارج الرحم ، قد ينجم عنها تعدد الأجنّة ، فلو أعيدت إلى رحم المرأة ثانية ، وتحقق التعدد ، فهذا يعني أن حياتها مهددة بالخطر ، وفي مثل هذه الحال لا بدّ من اختيار واحدة منها وطرح البقية حفاضاً على حياة الأم ، إذ لا يجب زرع الأجنة في رحم المرأة ، وإنما هو أمر جائز .
  وقد توجه إلى سماحة السيد دام ظله الوريف السؤال الآتي :

(1) الفتوى في فقه المغتربين 244| وهي مخطوطة في حوزة المؤلف بختم سماحته .

فقه الحضارة 23
  10 ـ في عملية التلقيح داخل الأنابيب قد تتكون عدة أجنّة في آنٍ واحد ، مما يصبح زرعها كلها في رحم الأم مسألة خطرة على حياة الأم ، أو مُمِيتَة .
  فهل يحق لنا انتقاء جنين واحد وإتلاف الأجنة الباقية ؟ وقد أجاب سماحته دام عزه العتيد بقوله :
  البويضة المُخصّبة بالحويمن في أنبوبة الاختبار لا يجب زرعها في الرحم ، ففي مفروض السؤال يجوز انتقال واحدة منها وإتلاف البقية (1) .
  ولسماحة السيد زاد الله في شرفه آراء أخرى لم نعرض لها في الموضوع ، لأن البحث قائم على أساس النموذج والتمثيل ، لا على نحو الاستقصاء والاستيعاب .

(1) الإجابة في فقه المغتربين 245| وهي مخطوطة في حوزة المؤلف بختم سماحته .

فقه الحضارة 24
4 ـ أطفال الأنابيب وعملية الاستنساخ
  ما اكتفى علماء الطب الحديث بالتلقيح الصناعي ، وبعملية تخصيب بويضة المرأة بحويمن الرجل في أنابيب الاختبار ، حتى توصلوا إلى ابتكارين جديدين مذهلين حقاً
  الأول : طفل الأنابيب بفرز بويضة المرأة خارج الرحم ، وفرز حويمن الرجل ، وتخصيبهما بأنبوب خاص بهما ، ومن ثم تجري عمليات التوجيه والسيطرة والمراقبة في أنبوب أكبر حتى تتكامل الخلقة .
  ولقد تمكن صديقنا الخبير الاستراتيجي بأطفال الأنابيب الأستاذ الدكتور منذر البرزنجي ، وهو أستاذ في كلية الطب بجامعة الكوفة من استيعاب خطوات هذا الإنجاز فتوصل بنجاح باهر إلى ولادة أول طفل للأنابيب عام 1988م ، وبقي هذا الطفل لمدة تقارب السنتين ثم توفى ، هذا ما حدثني به البرزنجي شخصياً ، ولقد نشرت الصحف والدوريات الطبية أنباء هذا الحدث على يد طبيب عراقي ، وفي جامعة الكوفة ، وهذا مما يضاف إلى أمجاد

فقه الحضارة 25
 الكوفة عاصمة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) .
  وعملية أطفال الأنابيب خطوة طبية عملاقة ، فإن سلمت من المقدمات المحرمة فالذي أعرفه من رأي سماحة السيد مشافهة : أنه جائز في حد ذاته ؛ وفيه تفصيل خاص به بالنسبة للإرث والنسب ليس هذا موضع عرضه .
  الثاني : عملية الاستنساخ والتي أسميها ( الاستنسال ) فهي جائزة شرعاً ، ولا مانع على الإطلاق من إجرائها عند سماحة السيد مدّ ظله ، ولدى مذاكرتنا مع سماحته في الموضوع في رمضان عام 1418 هـ أبدى سماحته بعض التحفظات المهمة على نتائج الاستنسال مستقبلياً مما هو مجهول الحال عند علماء الأطباء ، فربما تصاب البشرية بكوارث إنسانية غير متوقعة نتيجة لوجود هذا الإنسان ـ إن ذلك على المستوى التطبيقي ـ لأن المشروع برمته ما زال قيد البحث الجاد بالنسبة للإنسان ، وإن حقق نجاحاً باهراً بالنسبة للحيوان ، فقد استنسلت النعجة ( دولي ) على يد أحد العلماء الاستراليّين مما يعني إمكانية إجراء هذا الاستنسال على الإنسان ، والذي يتخوفه سماحة السيد أن هذا الإنسان قد يكون خارق القدرات بحيث يحدث شرخاً في حياة الإنسانية ، وقد يكون ـ مستقبلياً إذا تكاثر ـ متخلف الإدراك فتُمنى الجماعة البشرية بعاهات جديدة والمجتمع في غنى عن ذاك ، وقد لا يكون هذا أو ذاك ، ولكن العُقد النفسية قد تصاحب وليد الاستنساخ بشكل لا معقول مما يؤثر على مسيرته في الحياة تصرفاً وميولاً ونزعات ، وإذا حدث مثل هذا فإننا نكون قد عمدنا إلى خلق جيل جديد يميل بطبيعة تكوينه إلى التدهور والانحلال .