ضغط خارجي يدفعها لذلك وهذا يُعتبر نتيجة طبيعية بالنسبة إلى الإمام زين العابدين عليه السلام وأمثاله من الأولياء المحبين لله تعالى المخلصين في محبته وعبادته لأن سبحانه وعد بالمجازاة بالإحسان على فعل الإحسان حيث قال تعالى :
( هَلْ جَزآءُ الإحْسَانُ إلاّ الإحسان )
(1) .
كما وعد بالخير معجلاً لفعل الخير بقوله سبحانه :
( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ )
(2) .
ووعد أيضاً بالنصر والتأييد من نصره أي نصر دينه بتعلم أحكامه وتطبيق نظامه والدفاع عنه فكرياً وعسكرياً إذا تعرض للخطر من قِبَل الأعداء وذلك بصريح قوله تعالى :
( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِتْ أَقْدَامَكُمْ )
(3) .
ومن المعلوم أن الله سبحانه أوفى الواعدين وأصدق القائلين ، وحيث أن الإمام جاء زائراً بيت الله تعالى بكل حب وصدق وإخلاص فلا بد أن يمهد له سبيل الوصول إلى غرضه الأخروي السامي ليظهر الفرق بين المؤمن المخلص لله سبحانه وغيره ، وذلك بتأييد الأول وخذلان الثاني تطبيقاً لقوله تعالى :
( أَفَمَن كَانَ مُؤمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ )
(4) .
وحيث أن ما حصل للإمام عليه السلام من الجماهير لم يكن عادياً بل
|
(1) سورة الرحمن ، الآية : 60 .
(2) سورة الزلزلة ، الآية : 7 .
(3) سورة محمّد ، الآية : 7 .
(4) سورة السجدة ، الآية : 18 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام
136
هو فوق العادة ـ يصح أن نعتبره كرامة سماوية كرَّم الله بها الإمام عليه السلام بهذا النحو من العناية والتكريم ـ ويأتي ارتجال الفرزدق قصيدته العصماء التي هي من عيون الشعر العربي ـ ليكون كرامةً أخرى كرّم الله بها الإمام عليه السلام وأبرز فضله وفضل آبائه وأجداده وأبنائه حيث قال في حقه وحقهم ما هو الثابت لهم واقعاً يتحدى ونصاً يتحدث عن كون مودتهم فرضاً وبغضهم كفراً وذلك بقوله :
مـن مـعشر حبهم فرض iiوبغضهم كـفر وقـربهم مَـنجىً iiومُـعتَصَمُ إن عـد أهـل الـتقى كانوا iiأئمتهم أو قيل مَن خير أهل الأرض قيل هم |
2 ـ ومنها درس في التضحية والجهاد المقدس بالكلمة الجريئة والموقف الأبي الذي وقفه ذلك الشاعر البطل في سبيل نصر المبدأ ودعم الفضيلة وإظهار الحقيقة ليكون محققاً بذلك أفضل الجهاد الذي عناه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم بقوله :
أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر .
والذي رفع هذا الجهاد بمقياس القيم هو تجرده من العوامل المادية والدوافع الدنيوية . وتجلى ذلك بوضوح عندما اعتذر وأبى قبول الهدية التي قدمها له الإمام عليه السلام مكافأة له على موقفه المشرف ، ويأبى الكرمُ الإيماني الهاشمي إلا أن يقابل إرجاع الهدية بالرفض معللاً ذلك بقوله عليه السلام ما مضمونه :
إنا أهلَ البيت لا نرضى بإرجاع ما قدمناه هدية ثم أعادها إليه ـ أي إلى الفرزدق .
3 ـ ومنها درس في التوعية والتنبيه على واقعية العزة الإيمانية التي نبه الله عليها في أكثر من مورد وبأكثر من آية .
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام
137
منها قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلَرسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ )
(1) .
وقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقاكُم)
(2) .
وقول الرسول الأعظم المشهور : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، متحدٌ مع الآية المذكورة .
وورد في وصية الإمام الحسن عليه السلام إلى جنادة ما يشير إلى ذلك وهي قوله عليه السلام : وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته .
والحقيقة الموضوعية التي كشفت عنها هذه النصوص الكريمة بعدما أثبتها الواقع وشهد بواقعيتها الوجدان السليم والذوق المستقيم هي أن الميزان في رفعة الشأن وسمو المنزلة هو التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل ـ لا السلطة المادية الدنيوية القائمة على أساس الظلم والجور ولا كثرة الأعوان والجنود المتعاونين مع صاحب هذه السلطة ـ على الإثم والعدوان ـ ولا كثرة الأموال وإقبال الدنيا بزينتها الفانية وفتنتها الساحرة فإن ذلك كله وهم وخيال لا قيمة له ولا اعتبار به بمقياس الحقيقة لأنها كلها تفنى وتزول كما يزول صاحبها معها أو قبلها ولا يبقى له منها إلا تبعتها ومسؤوليتها الخطيرة غداً :
( يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ )
(3) .
وبذلك ندرك أن تلك المظاهر الجوفاء مصداق للزبد الذي تحدث الله عنه بصريح قوله تعالى :
|
(1) سورة المنافقون ، الآية : 8 .
(2) سورة الحجرات ، الآية : 13 .
(3) سورة الشعراء ، الآية : 88 و 89 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام
138
( فَأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ )
(1) .
وتأتي الحوادث التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة وتزيدها وضوحاً وجلاء فيعتبر بها المعتبرون ويستفيد منها المتفكرون .
فهارون العباسي أقبلت عليه الدنيا وخدعته بزينتها الخادعة وفتنتها الساحرة حتى كان يخاطب السحابة قائلاً :
( أينما أمطرتِ فإن خراجك سيأتي إلى ) معبراً بذلك عن سعة سلطانه وقوة نفوذه .
وفي المقابل كان الإمام موسى الكاظم عليه السلام غارقاً في ظلمات السجون بحيث لا يستطيع تمييز الليل عن النهار ولم يصدر منه ما يقتضي ذلك سوى رفضه لأن يسير في ركاب الحاكم الظالم ساكتاً عن ظلمه وداعماً لسلطانه .
وقد بعث هذا الإمام العظيم لذلك الحاكم الجائر رسالة يقول له فيها :
إنه لن ينقضيَ عني يوم من البلاء إلا انقضى معه عنك يوم من الرخاء حتى نمضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء هناك يخسر المبطلون . وفي المقابل :
( قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِم خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون )
(2) .
|
(1) سورة الرعد ، الآية : 17 .
(2) سورة المؤمنون ، الآيات : 1 و2 و3 و4 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام
139
وقال سبحانه مشيراً إلى العاقبة الحسنة التي ينتهي إليها المتقون بتقواهم :
( تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَسَاداً والعَاقِبةُ لِلّمُتَّقِينَ )
(1) .
وأشار إلى مصير المؤمنين العاملين بإيمانهم الصادق بالتقوى والعمل الصالح بقوله سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَريَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِديِنَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ )
(2) .
كما أشار إلى مصير الكافرين بقوله تعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدينَ فِيهَا أُوْلئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ )
(3) .
وقد أشار إلى هاتين العاقبتين المتقابلتين أحد الشعراء المبدعين بقوله :
هـيا بنا لرُبى الزوراء iiنسألها عـن ثلتين هما موتى iiوأحياء فـقد مشت وبنو العباس سامرةٌ بـألف ليلةَ حيث العيش iiسراء دار الرقيق وقصر الخلد طافحة بـما يـلذ فـأنغام iiوصـهباء تـجبك أن ديـار الظلم iiخاوية وأن لـلمتقين الـخلدَ ما iiشاؤا |
|
(1) سورة القصص ، الآية : 83 .
(2) سورة البينة ، الآيتان : 7 و8 .
(3) سورة البينة ، الآية : 6 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام
140
ومِل إلى الكرخ وارمُق قُبة سمَقَت تـجاذبتها الـثريا فـهي شـماء وحـي فـيها إمـاماً مـن iiأنامله سـحابة الـفضل والإنعام iiوطفاء |
وهذه المقطوعة الشعرية الرائعة وإن جعلت المقابلة بين الإمام موسى الكاظم عليه السلام وحاكم عصره والمتعاونين معه على الإثم والعدوان إلا أن مضمونها ومحتواها ينسحب بشكل عام ليشمل كل فرد أو جماعة سائرة في خط السماء بالإيمان الصادق والتقوى والعمل الصالح كما يشمل الطرف المقابل لهذه الفئة الهادية المهتدية إلى درب العبادة والكمال ( وبضدها تتميز الأشياء ) .
ولذلك ينطلق المضمون المذكور في رحاب التاريخ ليصل إلى عصر الإمام الهادي عليه السلام ومعاصره المتوكل العباسي والقصة التالية تُظهر لنا تحقق المقابلة بين خط الهدى والاستقامة في العقيدة والسلوك والخط المقابل المنحرف عن هذا الخط القويم والصراط المستقيم وحاصل القصة المشار إليها :
أن المتوكل أحضر الإمام الهادي عليه السلام إلى قصر حكمه وهو جالس على مائدة الخمر وطلب من الإمام أن يشاركه في شربه فقال له الإمام عليه السلام أعفني يا أمير فوالله ما خالط لحمي ودمي قط فاعفني منه فقال المتوكل إذن أنشدني الشعر فقال له إني لقليل الرواية فألحّ عليه المتوكل وقال له لابد من أن تنشدني شعراً فأنشده الأبيات التالية لينبهه من غفلته وهي كما يلي :
باتوا على قُلل الأجبال تحرسُهم غـلبُ الرجالِ فلم تنفعهم iiالقُلَلُ واستنزلوا بعد عز من iiمعاقلهم وأسكنوا حفراً يا بئس ما iiنزلوا ناداهم صارخ من بعدما iiقُبروا أيـن الأسرةُ والتيجانُ iiوالحُلَلُ |