وبغي الخارجين عليه ، ووجوب قتالهم ، كما ذكرنا بعض ما يتعلّق بذلك في أواخر الكلام في المقام الأوّل (1) .
  كما لا يتهيأ أنصار أكثر من أنصاره ولا أفضل ، حيث بايعه عن قناعة تامّة الكثرة الكاثرة من المسلمين ، وفيهم العدد الكثير من المهاجرين والأنصار وذوي السابقة والأثر الحميد في الإسلام ، ومن أهل النجدة في العرب ، وذوي المقام الاجتماعي والنفوذ فيهم ، والذين لهم الأثر الكبير في فتوح الإسلام ، وقد قدّموا من أجل دعمه (عليه السّلام) ونجاح مشروعه أعظم التضحيات .
  وأيضاً لا يتوقّع ـ بمقتضى الوضع الطبيعي ـ أن يأتي زمان أفضل من زمانه (عليه السّلام) ، لقربه من عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والتعرّف على تعاليمه ، ووجود الكثرة الكاثرة من صحابته .
  وقد أكّدت الأحداث المتلاحقة ذلك حيث لم يسجّل تاريخ الإسلام نجاح حركة إصلاحية حقيقية ـ تلتزم المبادئ في أهدافه ، وفي وسائل نجاحها في صراعاته ، محافظة على نقائها واستقامتها ـ وبقاءها مدّة أطول من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) .
  ويعلم أهل المعرفة أنّ انهيار مشروعه (صلوات الله عليه) عسكرياً إنّما تسبّب عن التزامه بالمبادئ وحرفية التشريع ، واستغلال خصومه ذلك ومحاولتهم الخروج عنه ، والالتفاف عليه في وسائل صراعهم معه ، وفي تثبيت سلطانهم بعده ، لوجود الأرضية الصالحة لتقبّل ذلك من عامّة الناس ، لعدم استحكام الدين والمبادئ في نفوسهم ، وثقل الأمانة والاستقامة عليهم .
  ولا يتوقّع صلاح المجتمع الإسلامي بعد أن دخله الفساد ، بل كلّما زادت ألفتهم له زاد استحكامه فيهم ، وتعذّر تطهيرهم منه .

---------------------------
(1) راجع / 265 وما بعده .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 341 _

  نعم ، يمكن أن يغلب الباطل بباطل مثله في المكر ، وانتهاك الحرمات ، والخروج عن المبادئ والقيم والالتفاف عليه كما حصل ، والدنيا دول .
  ونتيجة لذلك كان توجّه هؤلاء النفر إلى المحافظة على الموجودين من ذوي الدين والصلاح بتجنّب الاحتكاك بالحاكم ، لأنّ ذلك غاية الميسور .
  وربما يكون ذلك هو المنظور لكثير ممّن أشار على الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بترك الخروج على يزيد ، ومنهم عبد الله بن جعفر كما يظهر من كتابه للإمام الحسين (عليه السّلام) الذي تقدّم التعرّض له في المطلب الأوّل (1) .
  بل كلّما زاد الاحتكاك بالحاكم ، وتحقّق منه التجاوز عن الحدّ في الردّ زاد جرأة على انتهاك الحرمات ، وأبعد في التجاوز عليه ، وتعوّد الناس على ذلك وألفوه ، وخفّ استنكارهم له .
  فكيف إذا كان المنتهك حرمته هو الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) الذي هو أعظم الناس حرمة ، والرجل الأوّل في المسلمين ؟! كما يشير إلى ذلك ما تقدّم منه (صلوات الله عليه) في المعركة ، ومن عبد الله بن مطيع في حديثه معه (عليه السّلام) (2) وغير ذلك .
  وربما تُدعم وجهة نظر هؤلاء بأمرين :
  الأوّل : الحذر من شقّ كلمة المسلمين وتفريق جماعتهم ، وإلقاح الفتنة بينهم الذي قد يتشبّث به الكثير جهلاً ، أو نفاقاً وممالأة للظالم .
  الثاني : طلب العافية جبناً ، أو لعدم الشعور بالمسؤولية .

---------------------------
(1) تقدّم في / 63 .
(2) راجع / 63 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 342 _

موقف أهل البيت (عليهم السّلام) إزاء المشكلة

  لكنّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) على بصيرة تامّة من أنّ تعديل مسار السلطة في الإسلام بعد انحرافها من اليوم الأوّل أمر متعذّر في الأمد المنظور ، ويأتي توضيح ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ في المقام الثاني من الفصل الثاني في العبر التي تستخلص من فاجعة الطفّ .
  وقد سبق أنّ أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) كان على علم بما يؤول إليه أمر بيعته من الفشل العسكري ، وأنّ ما ظهر لنا من ثمرات قبوله بالخلافة هو إظهار الحقيقة ، وإيضاح معالم الدين ، وتشييد دعوة الحقّ ، وإيجاد جماعة صالحة تقتنع بتلك الدعوة وتحمّلها وتدعو لها ، وترفض دعوة الباطل وتشجب شرعيتها وشرعية السلطة التي تتبنّاه ، وتنكر عليها الجرائم والمنكرات التي تقوم بها ، وتحاول فضحها ، وقد حقّق ذلك بنجاح .

بيعة يزيد تعرض جهود أمير المؤمنين (عليه السّلام) للخطر

  غير أنّ جهوده (صلوات الله عليه) أصبحت مهدّدة بالخطر ، نتيجة خطوات معاوية المتلاحقة ، وآخرها البيعة لابنه يزيد في دولة قوية قد أرسى قواعده ، وأحكم بنيانه ، وأُمّة متخاذلة أنساها دينها ومثلها ، وأحيى دعوة الجاهلية فيها ، وسلبها شخصيتها وكرامتها ، وأذلّها بالترغيب والترهيب ، وشوّه مفاهيمها وتعاليمها بالإعلام الكاذب والتثقيف المنحرف .
  ومن الظاهر أنّ البيعة ليزيد كانت تدهوراً سريعاً في معيار اختيار الخليفة ، وابتداعاً لأمر لم يعهده المسلمون من قبل ، ولم يألفوه بعد ولا تقبّلوه .
  أوّلاً : بلحاظ واقع يزيد التافه ، وسلوكه الشخصي المشين ، وظهور استهتاره بالدين والقيم ، ومقارفته للموبقات ، وانغماسه في الشهوات .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 343 _

  وثانياً : بلحاظ ابتناء اختياره على وراثة الخلافة وانحصارها بآل معاوية ، وتجاهل أكابر المسلمين من بقايا الصحابة وأبنائهم ، ولاسيما بعد ما عاناه الإسلام والمسلمون من حكم معاوية نفسه ، وتجربته المرّة التي مرّت بهم .
  فإذا لم يستغل ذلك في الإنكار والدعوة للتغيير ، وبقيت الأمور على ما هي عليه ، وبايع أكابر المسلمين ـ وعلى رأسهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ـ يزيد ، تأكّدت شرعية تلك الدولة القوية التي ينتظر منها القضاء على الدين وعلى جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في كبح جماح الانحراف .

عدم تبلور مفهوم التقيّة

  وخصوصاً أنّ مفهوم التقيّة لم يتبلور بعد عند عامّة المسلمين ، ولا يدركون أنّ الاستجابة للبيعة والسكوت عن إنكار المنكر ، نتيجة القسر والضغوط القاهرة لا يضفي شرعية على الوضع القائم .
  ولاسيما بعد تصدّي مثل حجر بن عدي الكندي وجماعته وغيرهم من وجوه الشيعة وأعيان المسلمين للإنكار ، ودفعهم الثمن الغالي في سبيله ، وعدم أخذهم بالتقيّة في السكوت عن الباطل (1) .
  والإمام الحسين (صلوات الله عليه) أعرف منهم بالوظيفة الشرعية ، وأحرى برعاية الدين ، وأقوى منهم ـ بنظر عامّة الناس ـ بما يملكه من مركز ديني واجتماعي رفيع . فبيعته (عليه السّلام) ليزيد تضفي الشرعية على السلطة بنظر جمهور

---------------------------
(1) لعلّ إصرار هؤلاء على موقفهم ، وعدم أخذهم بالتقيّة ؛ لعدم تركّز المفاهيم الحقة التي كانوا يتبنّوه ، فأخذهم بالتقيّة يوجب ضياع الحقّ على الناس ، وهو أشدّ محذوراً من تضحيتهم بأنفسهم ، نظير موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في وقته ، ولاسيما مع قرب أن تكون مواقفهم هذه قد كانت بعهد معهود من أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) ، كما يستفاد ذلك في الجملة من كثير من النصوص ، وللكلام مقام آخر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 344 _

  المسلمين ، ولا تحمل على التقيّة .
  ويناسب ما ذكرنا ـ من عدم تبلور مفهوم التقيّة ـ أنّ بسر بن أرطاة لمّا أغار على المدينة المنوّرة في أواخر عهد أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأخذ أهلها بالبيعة لمعاوية ، قال لبني سلمة : والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله .
  فانطلق جابر إلى أُمّ سلمة زوج النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال لها : ماذا ترين ؟ إنّ هذه بيعة ضلالة ، وقد خشيت أن أُقتل .
  قالت : أرى أن تُبايع ؛ فإنّي قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايع ... فأتاه جابر فبايعه (1) .
  وكذا ما ذكره المؤرّخون من البيعة التي طلبها مسلم بن عقبة من أهل المدينة بعد واقعة الحرّة .
  قال اليعقوبي : ثمّ أخذ الناس على أن يبايعوا على أنّهم عبيد يزيد بن معاوية ، فكان الرجل من قريش يؤتى به فيُقال : بايع على أنّك عبد قن ليزيد ، فيقول : لا ، فيُضرب عنقه ، فأتاه علي بن الحسين (عليه السّلام) فقال : (( علامَ يريد يزيد أن أبايعك ؟ )) .
  قال : على أنّك أخ وابن عم .
  فقال : (( وإن أردت أن أبايعك على إنّي عبد قن فعلت )) .
  فقال : ما أُجشمك هذا .
  فلمّا أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين (عليه السّلام) قالوا : هذا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بايعه على ما يريد ، فبايعوه على ما أراد (2) .
  وقد منع (صلوات الله عليه) بذلك عملية القتل والإبادة الجماعية التي تعرّضت لها الأُمّة المنكوبة ، ونبّه لتشريع الله (عزّ وجلّ) التقيّة من أجل الحفاظ

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ 3 / 383 أحداث سنة أربعين من الهجرة ، ذكر سرية بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز واليمن ، تاريخ الطبري 4 / 106 في أحداث سنة أربعين من الهجرة ، الاستيعاب 1 / 162 في ترجمة بسر بن أرطأة ، البداية والنهاية 7 / 356 أحداث سنة أربعين من الهجرة ، شرح نهج البلاغة 2 / 10 ، ونحوه في كتاب الثقات 2 / 300 ، وتاريخ دمشق 10 / 152 ـ 153 بسر بن أبي أرطأة ، وتهذيب الكمال 4 / 65 في ترجمة بسر بن أرطأة ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 250 ـ 251 مقتل الحسين بن علي .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 345 _

  على المسلمين المضطهدين ، وذلك بعد أن اتّضحت معالم الحقّ ، وفقدت السلطة شرعيتها بسبب فاجعة الطفّ ومضاعفاتها ، لم يخرج على سلطة الأمويين إلاّ الخوارج الذين سقط اعتبارهم ويزيد في تعقد الأمور أنّه لم يعرف عن أحد قبل الإمام الحسين (عليه السّلام) الخروج على الحكم الأموي ـ مع شدّة مخالفته للدين ، وطول مدّته ـ إلاّ الخوارج الذين قد سقط اعتبارهم عند المسلمين .
  أوّلاً : لظهور بطلان أُسس دعوتهم ، خصوصاً بعد قتال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لهم ، وفتكه بهم في بدء ظهورهم ، مع ما تظافر عنه (عليه السّلام) وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) من قبله من الطعن فيهم ، والحكم بهلاكهم .
  وثانياً : لتطرّفهم وانتهاكهم للحرمات بنحو أوجب مقت عامّة المسلمين لهم ، وقد استغلت السلطة ذلك كلّه ضدّهم ، وضدّ كلّ مَنْ يخرج عليه حتى الإمام الحسين (صلوات الله عليه) حيث حاولت في عنفوان اصطدامها به أن تجعله ومَنْ معه خوارج مهدوري الدم شرعاً ، كما تقدّمت بعض شواهد ذلك عند الكلام على تركيز السلطة على وجوب الطاعة ولزوم الجماعة .
  ومن الطريف في ذلك ما ورد من أنّ هاني بن عروة لمّا ذهب إلى ابن زياد زائراً ، وطلب منه ابن زياد أن يدفع إليه مسلم بن عقيل (عليه السّلام) ، وامتنع من ذلك معتذراً بأنّه ضيفه وجاره ، طلب ابن زياد أن يدنوه منه ، فلمّا أدنوه استعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته ، وسالت الدماء على ثيابه حتى كُسر القضيب ، فلمّا ضاق الأمر بهاني ضرب يده إلى قائم سيف شرطي ليدافع عن نفسه فجاذبه الشرطي ومنعه ، فقال ابن زياد لهاني : أحروري سائر اليوم ؟! أحللت بنفسك قد

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 346 _

  حلّ لنا قتلك (1) .
  فكأنّ المفروض على هاني أن يستسلم لابن زياد ويتركه يفعل به ما يشاء ، ولا يدافع عن نفسه وإلاّ كان حرورياً خارجياً يهدر دمه ويحلّ قتله !
  والحاصل : أنّه لا أثر لخروج الخوارج على السلطة في سلب شرعيته ، والحدّ من غلوائه بعد إقرار أكابر المسلمين له ، ودخولهم في طاعته .

موقف الشيعة من الأوّلين يحول دون تفاعل الجمهور معهم

  كما أنّه لم يحمل لواء الإنكار على الأمويين وعلى تحريفهم للدين ـ بعد الخوارج ـ إلاّ الشيعة ، وهم وإن كانوا قد فرضوا احترامهم بأشخاصهم على المسلمين ، لما عرفوا به من التقوى والعلم وصدق اللهجة حتى أخذ الجمهور بروايات محدّثيهم في الصدر الأوّل مع علمهم بتشيّعهم ومخالفتهم لهم (2) ، وروي عن سفيان الثوري قوله : هل أدركت خيار الناس إلاّ الشيعة ؟ (3) .
  وفي صحيح زيد الشحّام عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) في وصيته لشيعته : (( أوصيكم بتقوى الله (عزّ وجلّ) ، والورع في دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ... فوالله لحدّثني أبي (عليه السّلام) أنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السّلام) فيكون زينها آداهم للأمانة ، وأقضاهم للحقوق ،

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 4 / 273 ـ 274 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) ... واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 29 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين بن علي (عليه السّلام) ... البداية والنهاية 8 / 166 أحداث سنة ستين من الهجرة ، قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة ومقتله ، نهاية الأرب في فنون الأدب 20 / 247 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة وقدومه إليها وخبره مع هانئ بن عروة ، وغيرها من المصادر .
(2) راجع كتاب المراجعات / 104 ـ 194 المراجعة 16 .
(3) مقاتل الطالبيين / 195 من خرج مع محمد بن عبد الله من أهل العلم .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 347 _

  وأصدقهم للحديث ، إليه وصاياهم وودائعهم ، تسأل العشيرة عنه فتقول : مَنْ مثل فلان ؟! أنّه لآدانا للأمانة ، وأصدقنا للحديث )) (1) ... إلى غير ذلك .
  إلاّ أنّ من المعلوم أنّ الشيعة قد تعرّضوا لشتى صروف التنكيل المشار إليها آنفاً فلا يسهل إيصال إنكارهم للجمهور وتعميم دعوتهم .
  مع إنّهم يصطدمون مبدئياً بشرعية خلافة الأوّلين ، ويتبنّون نقد مواقفهم ومواقف مَنْ كان على خطّهم مع ما لبعض أولئك من مكانة في نفوس جمهور المسلمين قد تبلغ حدّ التقديس .
  وذلك يكون حاجزاً دون السماع من الشيعة والتفاعل بحديثهم ، خصوصاً إذا بايع إمامهم الحسين (صلوات الله عليه) وغيره من ذوي المكانة في المجتمع الإسلامي .

التفاف السلطة على الخاصة لإضعاف تأثيرهم على الجمهور

  كما إنّ الخاصة من ذوي الدين والمقام الرفيع في المسلمين إذا انسجموا مع الحاكم الظالم خَفَتَ بريقهم ، وسقطت هالة الاحترام والتقديس لهم ، فيضعف تأثيرهم تدريجاً في إصلاح المجتمع الإسلامي ، وتنبيهه من غفلته .
  ولاسيما إنّ الحاكم ـ من أجل تثبيت شرعية حكمه ـ يحاول جرّهم ، للانصهار به ، وجعلهم واجهة له يتجمّل بهم ، أو يجعلهم آلة لقضاء مآربه .
  فإنّ امتنعوا حجّم دورهم ، أو قضى عليهم ، وإن تجاوبوا معه لوّثهم بجرائمه حتى ينتهي تأثيرهم تدريجاً في إصلاح المجتمع ، وينفرّد هو في الساحة .

---------------------------
(1) الكافي 2 / 636 باب ما يجب من المعاشرة ح 5 ، وسائل الشيعة 8 / 398 ـ 399 باب 1 من أبواب أحكام العشرة ح 2 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 348 _

شرعية السلطة تيسّر لها التدرّج في تحريف الدين

  وإذا مضت مدّة معتدٍ بها ، وتحقّق للسلطة ما تريد ، تعامل الناس معها على أنّها الأمر الواقع الممثّل للدين ، وحينئذ يتيسّر لها التلاعب به وفق أهدافها وأهوائها ، وانطمست معالم الدين الحقّ ، وكان الدين عندهم دين السلطة ، أو المؤسسة التي تنسّق معه .
  وحتى لو فرض تبدّل السلطة نتيجة العوامل الخارجية ، فإنّ السلطات المتعاقبة تبقى هي المرجع في الدين ـ جرياً على سنن الماضين ـ بعد أن انطمست معالمه ، وضاعت الضوابط فيه ، وهكذا يبقى الدين أداة بيد السلطة تستغلّه لصالحه ، كما حصل ذلك في الأديان السابقة .
  وببيان آخر : إنّ تعديل مسار السلطة وإن كان متعذّراً ، إلاّ إنّ السكوت عن سلطة الباطل في ذلك المنعطف التاريخي له ، والتعامل معها على أساس الاكتفاء بالميسور من التخفيف في الجريمة والمخالفة للدين والتحريف فيه ، يفسح لها المجال للتدرّج في تحقيق أهدافها في تحريف الدين ، وتحويره بنحو يكون أداة لتركيز نفوذها وتثبيت شرعيتها ، وإكمال مشروعها .
  وذلك يكون بأمرين :
  الأوّل : التدرّج في المخالفات والتحريف بنحو لا يستفزّ الجمهور ، وكلّما ألف الجمهور مرتبة من الانحراف انتقلت للمرتبة الأعلى ، وهكذا حتى يألف الجمهور تحكّم السلطة في الدين وتحويرها له .
  ويدعمها في ذلك :
  أوّلاً : أنّه سبق التحكّم في الدين من الأوّلين الذين يُكِنّ لهم الجمهور الاحترام الذي قد يصل حدّ التقديس ، وقد تقدّم بعض مفردات ذلك .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 349 _

  وثانياً : أنّه يتيسّر لها اختلاق النصوص التي تتضمّن مرجعية السلطة في الدين ، بالاستعانة بعلماء السوء والمحدّثين الذين ينسّقون معه ، كما حدث نظيره في الأديان السابقة .
  الثاني : التدرّج في إضعاف المعارضة مادياً بالتنكيل بها ، ومعنوياً بجرّها للانصهار بالسلطة إلى أن تنتهي فاعليتها وقدرتها على تحريك الجمهور ، وتثقيفهم على خلاف ثقافة السلطة .
  ونتيجة لذلك يُستغفل الجمهور ، ويألف مرجعية الدولة في الدين ، وأخذه منه ، وتأخذ الدولة حريتها فيما تريد ، وتتمّ لها أهدافها .
  وهناك محذوران آخران يترتبان على ذلك لا يقلان أهمّية عنه :

تبعية الدين للسلطة تخفف وقعه في نفوسهم

  الأوّل : إنّ الناس إذا ألفت الدين الذي تأخذه من الدولة ، وتعارفت عليه ، ونسي الدين الحقّ ، خفّ وقع الدين في نفوسهم ، وضعفت حيويته وفاعليته ، وبقي طقوساً وشعارات فارغة ، وهو ما سعى إليه معاوية من تحكيم الترهيب والترغيب ، وإثارة النعرات الجاهلية ، وعزل المبادئ والمثل على ما سبق .
  بل يتلوّث الدين على الأمد البعيد بجرائم السلطة ، وتتشوّه صورته تبعاً له ، فتتنكّر الناس له لشعورهم بأنّه جاء ليدعم الدولة ، ويكون آلة بيدها تنفّذ عن طريقه مشاريعها الظالمة وأهدافها العدوانية ، وحينئذ تبدأ الناس بالتحلل منه والخروج عنه تدريجاً ، كما حصل في الأديان السابقة .
  ومن المعلوم أنّ من أهم أسباب الموقف السلبي ـ الذي اتخذه الغرب الرأسمالي والشيوعية الشرقية في العصور القريبة ـ من الدين هو ردّ الفعل لاستغلال السلطة للدين في العصور المظلمة ، وتنسيقها مع مؤسساته لخدمة

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 350 _

  أهدافها ، واستعبادها للشعوب .

قد ينتهي التحريف بتحول الدين إلى أساطير وخرافات

  الثاني : إنّ التحريف كثيراً ما ينتهي بالدين إلى أساطير وخرافات وتناقضات تتنافى مع الفطرة ، ولا يتقبّلها العقل السليم ، فإمّا أن يرفضه أهل المعرفة جملة وتفصيلاً ، أو يكتفوا في اعتناقه بمحض الانتساب تأثراً بالبيئة ، أو مع التبني تعصّباً وتثبيتاً لهويتهم التي توارثوها عن آبائهم من دون أن يأخذ موقعه المناسب من نفوسهم .
  ويتّضح ذلك بالنظرة الفاحصة للتراث الذي ينسب للأديان السماوية السابقة على الإسلام ، وتتبنّاه حتى الآن المؤسسات الدينية الناطقة باسمه .
  وهكذا الحال في كثير من التراث الإسلامي المشوّه الذي كان لانحراف السلطة الأثر في إقحامه في تراث الإسلام الرفيع .
  وقد استغلّه أعداء الإسلام ـ من المستشرقين وأمثالهم ـ للنيل من الإسلام والتهريج عليه ، وهم يجهلون أو يتجاهلون براءة الإسلام منه ، وأنّه دخيل فيه مكذوب عليه .
  بل من القريب أن تكون كثير من الأديان الباطلة الوثنية وغيرها ترجع في أصولها إلى أديان سماوية حقّة قد مسختها يد التحريف والتشويه حتى أخرجتها عن حقيقتها ، وإن بقيت تحمل بعض ملامحه ، أو شيئاً من تعاليمه .
  ويتّضح ذلك في العرب قبل الإسلام حيث بقيت فيهم كثير من ملامح دين إبراهيم (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسّلام) كالحج والعمرة ، والختان وغسل الجنابة والميت ، وكثير من محرّمات النكاح ، وتعظيم البيت الحرام ، واحترام إبراهيم نفسه ، وغير ذلك .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 351 _

ضرورة إحراج السلطة بموقف يلجئها لمغامرة سابقة لأوانها

  وعلى ضوء ذلك لا علاج لمأساة الإسلام والمسلمين في تلك المرحلة الحساسة إلاّ بإحراج السلطة بموقف يستثيرها ، ويفقدها توازنها ، لتتخذ خطوة سابقة لأوانها ، وتقوم بجريمة نكراء تستفز جمهور المسلمين ، وتذكّرهم بدينهم ومبادئهم السامية ، وتثير غضبهم ، وتفصلهم عن السلطة فتخسر ثقتهم بها .
  وبذلك تفقد السلطة فاعليتها في التثقيف ، وقدرتها على التحريف ، ويكون تعامل الجمهور معها تعامل الضعيف مع القوي ، والمقهور مع القاهر ، لا تعامل الرعية مع الراعي ، والأتباع مع القائد .

سنوح الفرصة لاتخاذ الموقف المذكور بعد معاوية

  ومن الظاهر أنّ الفرصة قد سنحت بعد معاوية لاتخاذ الموقف المذكور للأسباب التالية :
  الأوّل : التحوّل في مسار السلطة ، وفي معيار اختيار الخليفة ، وفي شخص الخليفة بالنحو غير المألوف للمسلمين ، ولا المقبول عندهم في وقته .
  حيث يصلح ذلك مبرّراً لإعلان عدم الشرعية ، والامتناع من البيعة ، ثمّ التذكير بجرائم الأمويين عموماً ، والإنكار عليهم وفضحهم .
  الثاني : طيش يزيد ، واعتماده القوة والعنف في مواجهة الأزمات ومعالجة المشاكل من دون تدبّر في العواقب وحساب لها ، على خلاف ما كان عليه الأمر في عهد معاوية .
  الثالث : وجود جماعة كبيرة مندفعة مبدئياً وعاطفياً نحو التغيير ، مقتنعة بإمكانه ، واثقة بالقيادة المعصومة ، وتدعوها للعمل على ذلك ، وتَعِدُها النصرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 352 _

  حيث تتحقّق بتلك الجماعة آلية العمل ، واتخاذ الموقف المذكور .
  الرابع : أنّ فاجعة الطفّ ـ بأبعادها الدينية والعاطفية والإلهية التي تقدّم تفصيل الكلام فيها ـ كانت هي الجريمة الأحرى باستفزاز جمهور المسلمين واستثارة غضبهم ، وفصلهم عن السلطة وسلب ثقتهم بها .
  كما إنّها الأحرى بأن تبقى عاراً على الأمويين ومَنْ يتبنّى خطّهم ، ويتحمّلوا معرّتها ما بقيت الدنيا ، كما صرّح بذلك الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في كتابه المتقدّم لابن زياد الذي قال فيه : أمّا بعد ، فإنّ الحسين بن علي قد توجّه إلى العراق ، وهو ابن فاطمة ، وفاطمة بنت رسول الله ، فاحذر يابن زياد أن تأتي إليه بسوء ، فتهيج على نفسك وقومك في هذه الدنيا ما لا يسدّه شيء ، ولا تنساه الخاصّة والعامّة أبداً ما دامت الدنيا (1) .
  وربما يفسّر ذلك ما تقدّم في حوار الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع أخيه محمد بن الحنفية حينما سأله عن وجه تعجيله بالخروج ، فقال (عليه السّلام) : (( أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعدما فارقتك ، فقال : يا حسين اخرج ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً )) .
  فقال محمد : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟
  فقال : (( قد قال لي : إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا )) (2) .
  وعلى كلّ حال فيتم بذلك الشوط الذي بدأه أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) ، وصالح من أجله الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ـ على ما يأتي في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى ـ وصارع من أجل استمراره خواص الشيعة ، وتحمّلوا في سبيله صنوف الأذى والتنكيل .

---------------------------
(1) تقدّمت مصادره في / 132 .
(2) تقدّمت مصادره في / 41 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 353 _

اقتحام السلطة له (عليه السّلام) يزيدها جرأة على انتهاك الحرمات

  نعم ، اقتحام السلطة للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وانتهاكها لحرمته يزيد في جرأتها على الحرمات ، ويهون عليها كلّ جريمة ، كما توقّعه هو (عليه السّلام) وغيره على ما سبق ، وقد حصل فعلاً .
  إلاّ إنّ ذلك إنّما يكون مضرّاً بالدين إذا حافظت السلطة على شرعيته ، كما هو المتوقّع لو بايع الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، وكسبت السلطة الشرعية عند جمهور المسلمين ، وصفت لها الأمور .
  حيث تسعى لتحقيق أهدافها ، بانتهاك الحرمات والتخلّص من المعارضة بصورة تدريجية متّزنة ، يستغفل بها الجمهور ، ولا تفقدها الشرعية بنظرهم ، وبذلك تنطمس معالم الدين الحقّ ، وتخنق دعوته ، ولا يُسمع صوته .

استهتار السلطة بعد سقوط شرعيتها لا يضرّ بالدين

  أمّا إذا فقدت السلطة شرعيتها وانفصلت عن الدين بنظر الجمهور ، نتيجة قيامها بمثل هذه الجريمة النكراء ، فتكون للتضحية ثمرتها المهمّة لصالح الدين ، بل تكون فتحاً عظيماً تهون دونه هذه النتائج والسلبيات .
  بل كلّما زاد الحاكم إمعاناً في الجريمة تأكّد عند الناس بعده عن الشرعية ، وكلّما شعر هو بأنّ الناس لا تقتنع بشرعيته زاد استخفافاً بالدين وتجاهراً بمخالفته ، لشعوره بعدم الفائدة من مجاملة الناس وستر أمره عليهم .
  وذلك مكسب عظيم جدّاً للإسلام في تلك الظروف التي كان يمرّ بها ، حيث يؤكّد عدم شرعية السلطة التي تحاول أن تقنع الناس بأنّها هي الممثّل له .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 354 _

أثر الفاجعة في حدّة الخلاف بين الشيعة وخصومهم

  كما إنّ فاجعة الطفّ قد أوجبت حدّة الخلاف بين شيعة أهل البيت وخصومهم وتعمّقها ولو على الأمد البعيد ؛ نتيجة تركيز السلطات المتعاقبة المخالفة لخطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) على احترام الأوّلين وموالاتهم والتديّن بشرعية خلافتهما ، وشرعية نظام الخلافة الذي بدأ العمل عليه منهما ، واهتزاز ذلك بسبب الفاجعة ، على ما يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .

دفع محاذير الاختلاف

  لكن سبق منّا أن ذكرنا أنّه بعد أن تعذّر اتفاق المسلمين على الحقّ ، نتيجة الانحراف الذي حصل ، فاختلافهم في الحقّ خير من اتفاقهم على الباطل ، ثمّ ضياع الحقّ عليهم وعلى غيرهم بحيث لا يمكن الوصول إليه ، ولاسيما إذا كان الاختلاف مشفوعاً بظهور معالم الدين الحقّ وسماع دعوته ، وقوّة الحجّة عليه كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى .

مواقف الأنبياء والأوصياء وجميع المصلحين

  وعلى هذا جرى جميع الأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم) وكلّ المصلحين ، خصوصاً الأُمميين الذين تعمّ دعوتهم العالم أجمع ، ولا تختص بمدينة خاصة أو قبيلة خاصة أو شعب خاص .
  فإنّهم بدعوتهم وتحرّكهم قد خالفوا المحيط الذي عاشوا فيه ، وشقّوا كلمة أهله ، ولم يتيسّر لهم غالباً أو دائماً توحيد كلمة المعنيين بدعوتهم وحركتهم ، وكسب اتفاقهم لصالحهم .
  وأنجحهم من استطاع أن يوحّد جماعة صالحة تتمسّك بخطّه وتعاليمه

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 355 _

  وتدعوا إليها في مقابل دعوة الباطل التي كان يفترض لها أن تنفرّد في الساحة لولا نهضته وظهور دعوته .
  ولا مبرّر لهم في ذلك إلاّ تنبيه الغافل ، وإيضاح معالم الحقّ الذي يدعون له ، وإقامة الحجّة عليه ، ليتيسّر لطالب الحقّ الوصول إليه ، كما قال الله (عزّ وجلّ) : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُور ) (1) ، وقال سبحانه : ( ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (2) .

المقارنة بين دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله) وفاجعة الطفّ

  وما الفرق بين دعوة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وحركته التي تسببت عن اختلاف الناس عامّة في الدين الحقّ ، ونهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي عمّقت الخلاف بين المسلمين في تعيين الإسلام الحقّ ، وكان لها أعظم الأثر في إيضاح معالمه ؟!
  وإذا كان النبي (صلّى الله عليه وآله) قد نجح في قيام أُمّة تعتنق الإسلام ، وتستظل برايته ، فإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد كان له أعظم الأثر في نشاط الفرقة المحقّة التي تلتزم بالإسلام الحقّ المتمثل بخطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، والتي تهتدي بهداهم ، وتستضيء بنورهم ، وفي قوّة هذه الفرقة وتماسكها كما يأتي توضيحه في المطلب الثاني إن شاء الله تعالى .

لا بدّ من حصول الخلاف بين المسلمين بسبب الانحراف

  على أنّه بعد أن لم يتفق المسلمون على التمسّك بأهل البيت (صلوات الله عليهم) ، ليعتصموا بهم من الخلاف والضلال ، وانحراف مسار السلطة ،

---------------------------
(1) سورة الدهر / 3 .
(2) سورة الأنفال / 42 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 356 _

  فالإسلام ـ كسائر الأديان ـ معرض للخلاف والانشقاق ، تبعاً لاختلاف الاجتهادات والآراء والمصالح والمطامع التي لا تقف عن حدّ .
  ولأَن يكون الخلاف بين حق واضح المعالم ، ظاهر الحجّة ، وباطل مفضوح ، يعتمد على السلطة والقوّة ـ كالذي حصل نتيجة جهود أهل البيت (عليهم السّلام) وشيعتهم وفي قمّتها نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي ختمت بفاجعة الطفّ ـ خير من أن تضيع معالم الحقّ ، ثمّ يكون الصراع بين القوى المختلفة من أجل تثبيت مواقعها ، وتحقيق أهدافها من دون هدى من الله (عزّ وجلّ) ، ولا بصيرة في دينها ، ومن دون مكسب للدين .
  بل يأتي إن شاء الله تعالى أنّ لفاجعة الطفّ أعظم الأثر في بقاء معالم الدين حيث اتفق المسلمون بكيانهم العام على مشتركات كثيرة تحفظ للدين صورته ووحدته ، ويكون الخارج عنها معزولاً عن الكيان الإسلامي العام بحيث قد يصل حدّ التكفير والخروج عن الدين ، ولولا ذلك لانتشر الأمر ، واتّسعت شقّة الخلاف من دون حدود ولا ضوابط .

محذور إضعاف الدولة العربية والإسلامية

  ومثل ذلك ما قد يُقال من أنّ فاجعة الطفّ ـ بتداعياتها التي يأتي التعرّض لها ـ قد أضعفت الدولة العربية ، أو الدولة الإسلامية ، بسبب اهتزاز الكيان العربي والإسلامي ، وظهور الانقسامات والشروخ فيها .
  ولعلّ ذلك هو الذي يحمل كثيراً من الباحثين على التململ من نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أو نقدها أو التهجّم عليها .
  فإنّه يندفع بوجهين :

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 357 _

الدولة بتركيبتها معرّضة للضعف والانهيار

  الأوّل : إنّ مثل هذه الدولة المبنية على الاستغلال والظلم والجبروت والقهر ، وعلى عدم الانضباط في نظام الحكم ، معرّضة للصراع والضعف والانهيار ، كما انهارت الدول بمرور الزمن مهما كانت قوّتها .
  ولأن يكون الصراع داخل الدولة بين الحقّ والباطل ، وتمتاز إحدى الفئتين عن الأخرى ، خير من ضياع الحقّ وموته بمرور الزمن ، ثمّ يكون الصراع بعد ذلك بين فئات الباطل المختلفة من أجل الاستيلاء على السلطة من دون هدف ديني أو إنساني نبيل .

لا أهمية للدولة العربية في منظور الإسلام

  الثاني : إنّ كون الدولة عربية لا أهمية لها في منظور الدين الإسلامي العظيم ، بل لا يخرج ذلك عن منظور جاهلي حاربه الإسلام ، وشدّد في الإنكار عليه ونبذه .
  وهو عدوان في حقيقته على الإسلام الذي قام عليه كيان الدولة ، وسرقة منه ؛ فإنّ كون العرب هم الحاكمين في تلك الفترة باسم الإسلام شيء ، وكون الدولة عربية شيء آخر .
  فهو نظير ما يُنسب لبعض الأمويين من قوله عن سواد العراق : إنّما هذا السواد بستان لأُغيلمة من قريش (1) وما يُنسب للتعاليم اليهودية المحرّفة

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 5 / 32 في ترجمة سعيد بن العاص ، واللفظ له ، تاريخ دمشق 21 / 114 ـ 115 في ترجمة سعيد بن العاص ، تاريخ الإسلام 3 / 431 أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، مقتل عثمان ، ونحوه في تاريخ الطبري 3 / 365 أحداث سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة ، ذكر تسيير عثمان من سير من أهل الكوفة إلى الشام ، والكامل في التاريخ 3 / 139 أحداث سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة ، ذكر تسيير عثمان من سير من أهل الكوفة إلى الشام ، وتاريخ ابن خلدون 2 ق 2 / 140 ، وشرح نهج البلاغة 3 / 21 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 358 _

  من أنّ الدين اليهودي مخصّص لصالح بني إسرائيل ، ويقرّ امتيازاتهم على بقية الشعوب .

لو شكر العرب النعمة

  نعم ، لو أنّ العرب شكروا نعمة الله (عزّ وجلّ) ولم يخرجوا بالسلطة عن موضعها الذي وضعها الله تعالى فيه ، ووفوا بعهد الله سبحانه الذي أخذه عليهم ، لأبقى الله (جلّ شأنه) عزّهم فيهم ، ولحملوا دعوة الله (عزّ وجلّ) للأمم ، وانتشر الإسلام بحقّه وحقيقته ، وعدله واستقامته ، وخيره وبركته ، بعيداً عن الانحراف والاستغلال والمحسوبيات .
  ولعمّت لغة العرب الدنيا ، لا لأنّها لغة العرب ، لتتحسّس منها الشعوب الأخرى ، بل لأنّها لغة الدين العظيم والقرآن المجيد والسُنّة الشريفة ، بما في ذلك الأدعية والزيارات الكثيرة .
  وبذلك تُهمل الفوارق تدريجاً ، وتموت العصبيات ، ويكون للعرب شرف ذلك كلّه ، ويكسبون احترام العالم ومودّته .
  لكنّهم أخطأوا حظّهم ، وضيّعوا نصيبهم ، و ( بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) (1) وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولله أمر هو بالغه .

إظهار دعوة الإسلام الحقّ أهم من قوّة دولته

  أمّا كون الدولة إسلامية فهو من الأهمية بمكان ، خصوصاً في تلك الظروف ، حيث تكون سبباً في حفظ كيان الإسلام ، وإيصال دعوته الشريفة

---------------------------
(1) سورة إبراهيم / 28 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 359 _

  للعالم ، كما حصل فعلاً ، ولذا تقدّم أنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ترك الصراع مع القوم لاسترجاع حقّه حفاظاً على كيان الإسلام العام .
  إلاّ إنّ من أهم الثمرات المطلوبة من بقاء الكيان الإسلامي العام هو تحقيق الأرضية الصالحة لإيصال الإسلام الحقّ للمسلمين ، بل للعالم عامّة وتعرّفهم به ، فلا معنى للتفريط بهذه الثمرة حذراً من ضعفٍ مؤقت في قوّة الدولة الإسلامية التي هي في مقام تحريف الدين وتضييع معالمه .
  بل يتعين إيقاف الدولة عند حدّها ، والسعي لسلب شرعيتها ، لتعجز عن تحريف الدين وتضييع معالمه ، ثمّ تترك لتقوّي كيانها باسم الإسلام من دون أن تقوى على التدخّل في الدين ، لحفظ معالمه ، واتضاح ضوابطه مع ظهور دعوة الدين الحقّ وقوّته ، وسماع صوتها في ضمن الكيان الإسلامي العام .
  وهو ما حصل بجهود أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وفي قمّتها نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي انتهت بفاجعة الطفّ المدوّية الخالدة .
  والحاصل : إنّه قد كان لفاجعة الطفّ التي ختمت بها نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ـ الذي هو المسؤول الأوّل في المسلمين ـ في هذا المفصل التاريخي من مسار السلطة ، والوضع الحرج الذي يمرّ به الإسلام ، ضرورة ملحة من أجل التنفير من السلطة المنحرفة ، وسلب الشرعية عنها ، لدفع غائلتها عن الإسلام ، ومن أجل إيضاح معالم الدين والتذكير بضوابطه .

حقّقت فاجعة الطفّ هدفها على الوجه الأكمل

  وقد حقّقت هدفها على أكمل وجه ، حيث صارت الفاجعة ـ بأبعادها المتقدّمة ـ صرخة مدوّية هزّت ضمير الأُمّة ، ونبّهتها من غفلتها ، وأشعرتها بالخيبة والخسران ، لخذلان الحقّ ودعم الباطل ، وبالهوّة السحيقة بين الواقع

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 360 _

  الذي تعيشه ، والواقع الديني الذي أراد الله (عزّ وجلّ) منها أن تكون عليه .
  ولاسيما مع قرب العهد النبوي الشريف وعهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، حيث يتجسّد الإسلام الحقّ على الأرض ، ولا يزال المسلمون يتذكّرونه ويتحدّثون عنه .
  وبذلك تزعزعت الأسس التي قام عليها كيان الظالمين ، وابتنت عليها شرعية حكمهم ، وسعة صلاحياتهم ، وتأثيرهم في تثقيف الأُمّة وتوجيهها .
  وقد سبق أنّ السلطة بعد انحراف مسارها في الإسلام ـ باستيلاء غير المعصوم المنصوص عليه على الحكم ـ قد حاولت في الصدر الأوّل تمرير مشروع تدويل الإسلام الذي يُراد به تبعية الدين الإسلامي للدولة والسلطة بحيث يؤخذ منها ، وتكون هي المرجع فيه ، ويتيسّر لها التحكّم فيه لصالحها ، وتبعاً لأهوائها .
  وإذا كان أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) في فترة حكمه القصيرة قد وقف في وجه المشروع المذكور ، وأصحر بمقاومته وعدم شرعيته ، واستمرّ خواص شيعته في صراع مرير ضدّه ، فإنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قد اغتنم الفرصة للإجهاز على المشروع المذكور ، والقضاء عليه تماماً بفاجعة الطفّ الدامية ، حيث قامت السلطة بأفظع جريمة في تاريخ الإسلام ، لا يزال صداها مدوياً حتى اليوم ، وبذلك تمّ الفتح على يديه (صلوات الله عليه) .
  هذا وقد سبق منّا (1) في المقصد الأوّل التعرّض في تتمّة الكلام في أبعاد الفاجعة وعمقها إلى ردود الفعل السريعة للفاجعة ، وتأثيرها على موقف السلطة نفسها بعد شعورها بالخطأ والخيبة .

---------------------------
(1) راجع / 93 وما بعده .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 361

تداعيات فاجعة الطفّ في المراحل اللاحقة

  ويحسن منّا هنا التعرّض لتداعيات الفاجعة في المراحل اللاحقة ، وتأثيرها على موقف جمهور المسلمين وخاصتهم من السلطة ، من أجل أن يتضح كيف سارت الأمور في اتجاه الفتح العظيم ، وتحقيق أهداف تلك الملحمة الإلهية المباركة ، فنقول بعد الاتكال على الله (عزّ وجلّ) وطلب التسديد منه :

ثورة أهل المدينة وعبد الله بن الزبير

  من المعلوم أنّ من نتائج فاجعة الطفّ وتداعياتها السريعة الثورات المتلاحقة ، والخروج على حكم يزيد من أهل المدينة المنوّرة الذي انتهى بواقعة الحرّة الفظيعة ، ومن عبد الله بن الزبير الذي أدّى لانتهاك الأمويين حرمة الحرم ، ورميهم مكة المكرّمة بالمنجنيق حتى أُصيبت الكعبة المعظمة واحترقت (1) .

موت يزيد بن معاوية

  وبعد ذلك عجّل الله تعالى على يزيد وأهلكه ، وقد مقته الناس وأبغضوه حتى إنّ ابن زياد لمّا نعاه إلى أهل البصرة نال منه وثلبه (2) ، وما ذلك إلاّ لإرضائهم ،

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ 4 / 124 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، ذكر مسير مسلم لحصار ابن الزبير وموته ، تاريخ الطبري 4 / 383 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، البداية والنهاية 8 / 247 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، السيرة الحلبية 1 / 290 ، تاريخ دمشق 14 / 385 في ترجمة حصين بن نمير ، تاريخ الإسلام 5 / 34 حوادث سنة أربع وستين من الهجرة ، تاريخ اليعقوبي 2 / 266 أيام مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير ، الوافي بالوفيات 13 / 57 في ترجمة حصين السكوني ، تهذيب التهذيب 5 / 188 في ترجمة عبد الله بن الزبير بن العوام ، فتح الباري 3 / 354 ، و8 / 245 ، إمتاع الأسماع 12 / 272 ، تعجيل المنفعة / 453 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) الكامل في التاريخ 4 / 131 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، ذكر حال ابن زياد بعد موت يزيد ، تاريخ الطبري 4 / 389 أحداث سنة خمس وستين من الهجرة ، ذكر الخبر عمّا كان من أمر عبيد الله بن زياد وأمر أهل البصرة معه بها بعد موت يزيد ، تاريخ دمشق 10 / 95 في ترجمة أيوب بن حمران ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 362 _

  طمعاً في ودّهم وكسبهم لصالحه .

إعلان معاوية بن يزيد عن جرائم جدّه وأبيه

  وكان يزيد قد عهد بالخلافة من بعده لابنه معاوية ، فأعلن معاوية عن جرائم جدّه وأبيه بنحو يوحي بعدم شرعية خلافتهم ، ثمّ رفض تحمّل مسؤولية الخلافة ، وتعيين ولّي العهد له .
  فقد خطب الناس ، وقال في جملة ما قال : ألا وإنّ جدّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر مَنْ كان أولى به منه في القرابة برسول الله ، وأحق في الإسلام ، سابق المسلمين ، وأوّل المؤمنين ، وابن عمّ رسول ربّ العالمين ، وأبا بقيّة خاتم المرسلين ، فركب منكم ما تعلمون ، وركبتم منه ما لا تنكرون حتى أتت منيّته ، وصار رهناً بعمله .
  ثمّ قلّد أبي وكان غير خليق للخير ، فركب هواه ، واستحسن خطأه ، وعظم رجاؤه ، فأخلفه الأمل ، وقصر عنه الأجل ، فقلّت منعته ، وانقطعت مدّته ، وصار في حفرته ، رهناً بذنبه ، وأسيراً بجرمه .
  ثمّ بكى وقال : إنّ أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه ، وقبح منقلبه ، وقد قتل عترة رسول الله ، وأباح الحرمة ، وحرق الكعبة .
  وما أنا بالمتقلّد أموركم ، ولا المتحمّل تبعاتكم ، فشأنكم أمركم ، فوالله ، لئن كانت الدنيا مغنماً لقد نلنا منها حظّاً ، وإن تكن شرّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها .
  فقال له مروان بن الحكم : سنّها فينا عمرية .
  قال : ما كنت أتقلدكم حيّاً

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 363 _

  وميتاً ، ومتى صار يزيد بن معاوية مثل عمر ؟! ومَنْ لي برجل مثل رجال عمر ؟!
  هذا ما رواه اليعقوبي (1) ، وذكر قريباً منه باختصار المقدسي (2) أمّا ما رواه الدميري (3) وابن الدمشقي (4) والعصامي (5) فهو أظهر في تعظيم أمير المؤمنين وأهل البيت (صلوات الله عليهم) وبيان حقّهم ، بل فيه تلويح أو تصريح بظلمهم (عليهم السّلام) حتى من قِبَل الأوّلين .
  وقال البلاذري : وحدّثني هشام بن عمّار عن الوليد بن مسلم قال : دخل مروان بن الحكم على معاوية بن يزيد فقال له : لقد أعطيت من نفسك ما يُعطي الذليل المهين ، ثمّ رفع صوته فقال : مَنْ أراد أن ينظر في خالفة آل حرب فلينظر إلى هذا .
  فقال له معاوية : يابن الزرقاء ! اخرج عنّي ، لا قَبِل الله لك عذراً يوم تلقاه (6) .
  ولم يطل عهده ، بل بقي عشرين يوماً (7) أو أربعين يوماً (8)

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 254 أيام معاوية بن يزيد بن معاوية ، واللفظ له ، وقريب منه في النجوم الزاهرة 1 / 65 ولاية سعيد بن يزيد على مصر ، وينابيع المودة 3 / 37 .
(2) البدء والتاريخ 6 / 16 ـ 17 ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية .
(3) حياة الحيوان / 112 في مادة : أوز في خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .
(4) جواهر المطالب 2 / 261 ـ 262 الباب الثاني والسبعون في ذكر الوافدات على معاوية بعد قتل علي (عليه السّلام) وما خاطبوه به وما أسمعوه ، خطبة معاوية بن يزيد بن معاوية .
(5) سمط النجوم العوالي 3 / 102 ، وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه .
(6) أنساب الأشراف 5 / 381 في ترجمة معاوية بن يزيد .
(7) أنساب الأشراف 5 / 379 في ترجمة معاوية بن يزيد ، تاريخ دمشق 59 / 300 في ترجمة معاوية بن يزيد بن معاوية ، البدء والتاريخ 6 / 17 ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية .
(8) صحيح ابن حبان 15 / 39 كتاب التاريخ ، باب إخباره (صلّى الله عليه وآله) عمّا يكون في أُمته من الفتن والحوادث ، بيان سني الخلافة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، الطبقات الكبرى 4 / 169 في ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب ، و 5 / 39 في ترجمة مروان بن الحكم ، الاستيعاب 3 / 1389 في ترجمة مروان بن الحكم ، أنساب الأشراف 5 / 379 في ترجمة معاوية بن يزيد ، تاريخ دمشق 57 / 259 في ترجمة مروان بن الحكم ، و 59 / 297 في ترجمة معاوية بن يزيد بن معاوية ، حياة الحيوان / 112 في مادة : أوز في خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، تاريخ خليفة بن خياط / 196 ، البدء والتاريخ 6 / 17 ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية ، شرح نهج البلاغة 6 / 152 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 364 _

  أو ثلاثة أشهر (1) أو أربعة (2) ، وقيل : إنّه مات مطعوناً (3) ، وقيل : مات مسموماً (4) ولعلّه الأشهر .

انتقام الأمويين من مؤدّب معاوية بن يزيد

  وسواء انتقم منه الأمويون بالسّم ، أم لم ينتقموا ، فإنّهم قد انتقموا من مؤدّبه عمر بن نعيم العنسي المعروف بالمقصوص (5) فدفنوه حياً (6) .
  وقال الدميري : ثمّ إنّ بني أمية قالوا لمؤدّبه عمر المقصوص : أنت علّمته

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 5 / 39 في ترجمة مروان بن الحكم ، أنساب الأشراف 5 / 379 في ترجمة معاوية بن يزيد ، تاريخ دمشق 57 / 259 في ترجمة مروان بن الحكم ، البدء والتاريخ 6 / 17 ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية ، سير أعلام النبلاء 4 / 139 في ترجمة معاوية بن يزيد ، الكامل في التاريخ 4 / 130 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) تاريخ دمشق 59 / 305 في ترجمة معاوية بن يزيد بن معاوية ، البداية والنهاية 8 / 260 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية ، تاريخ اليعقوبي 2 / 254 في أيام معاوية بن يزيد بن معاوية .
(3) البداية والنهاية 8 / 261 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية .
(4) تاريخ الطبري 4 / 409 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، مبايعة أهل الشام لمروان بن الحكم ، البداية والنهاية 8 / 261 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية ، الكامل في التاريخ 4 / 130 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية ، سمط النجوم العوالي 3 / 101 وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه ، الفخري في الآداب السلطانية 1 / 43 في ترجمة معاوية بن يزيد ، نهاية الأرب في فنون الأدب 20 / 313 أحداث سنة ثلاثة وستين من الهجرة ، ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية .
(5) جواهر المطالب 2 / 262 .
(6) البدء التاريخ 6 / 17 ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية ، تاريخ مختصر الدول / 111 الدولة التاسعة : معاوية بن يزيد ، سمط النجوم العوالي 3 / 102 وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه ، تاريخ الخميس 2 / 301 خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 365 _

  هذا ولقّنته إيّاه ، وصددته عن الخلافة ، وزيّنت له حبّ علي وأولاده ، وحملته على ما وسمنا به من الظلم ، وحسنت له الباع حتى نطق بما نطق ، وقال ما قال .
  فقال : والله ما فعلته ، ولكنّه مجبول ومطبوع على حبّ علي .
  فلم يقبلوا منه ذلك ، وأخذوه ودفنوه حيّاً حتى مات (1) .
  وذكره مختصراً ابن الدمشقي ، لكنّه قال : فقال : لا والله ، وإنّه لمطبوع عليه ، والله ما حلف قطّ إلاّ بمحمد وآل محمد ، وما رأيته أفرد محمداً منذ عرفته (2) .

انهيار دولة آل أبي سفيان

  وكيف كان فالذي لا ريب فيه أنّه لم يعهد لأحد من بعده بالخلافة .
  وبذلك انهارت دولة آل معاوية أو آل أبي سفيان ، تلك الدولة العظمى التي جهد معاوية بدهائه ومكره ، وجرائمه وموبقاته وقوّة سلطانه في إرساء قواعدها وإحكام بنيانها ، وبنى عليها آمالاً طويلة عريضة ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (3) .

اختلاف الأمويين وتعدد الاتجاهات في العالم الإسلامي

  وقد استتبع ذلك اختلاف الأمويين فيما بينهم ، وتعددت الاتجاهات في المسلمين ، كما قال المساور بن هند بن قيس : وتشعّبوا شعب ، فكلّ قبيلة فيها

---------------------------
(1) حياة الحيوان / 112 في مادة : أوز في خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، واللفظ له ، سمط النجوم العوالي 3 / 102 وفاة يزيد وبيعة معاوية ابنه وملكه .
(2) جواهر المطالب 2 / 261 ـ 262 الباب الثاني والسبعون في ذكر الوافدات على معاوية بعد قتل علي (عليه السّلام) وما خاطبوه به وما أسمعوه ، خطبة معاوية بن يزيد بن معاوية .
(3) سورة النور / 39 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 366 _

  أمير المؤمنين (1) .
  حيث ظهر التوّابون ، ثمّ المختار ، ونشط ابن الزبير والخوارج ، ورفع غير واحد رأسه في المناطق الإسلامية المختلفة ، وقد أُريق بسبب ذلك أنهار من الدماء ، وانتُهكت كثير من الحرمات ، وعمّ الهرج والمرج .

تنبؤ الصديقة فاطمة (عليها السّلام) بما آلت إليه الأمور

  وكأنّه إلى ذلك وأمثاله ممّا حصل للمسلمين في مفاصل تاريخية كثيرة تنظر الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) في قولها المتقدّم في ختام خطبتها الصغيرة ، تعقيباً على انحراف مسار السلطة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( أما لعمري ، لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً ، وزعافاً مبيداً ، هنالك ( يَخسَرُ المُبطِلُونَ ) ، ويعرف البطالون غبّ ما أسس الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً ، وأطمئنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم ، وسطوة معتد غاشم ، وبهرج شامل ، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ... )) (2) .

أهمية الفترة الانتقالية التي استمرت عشر سنين

  ولم يستقر الأمر لعبد الملك بن مروان نسبياً إلاّ بعد قتل عبد الله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين ، في السنة الثالثة عشرة لفاجعة الطفّ ومقتل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) .
  وقد كان لهذه الفترة الانتقالية ـ التي استمرت عشر سنين تقريباً ـ أهمية كبرى من جهتين :

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 263 أيام مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير .
(2) راجع ملحق رقم (2) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 367 _

وضوح عزل الدين في الصراع على السلطة وفي كيانها

  الجهة الأولى : وضوح تجرّد السلطة عن الدين والمبادئ في صراعها مع الآخرين ، وفي سلوكها مع الرعية ، وقد تجلّى ذلك على أتمّ وجه فيمَنْ كانت له الغلبة أخيراً ، وهم آل مروان بن الحكم بن العاص الذين هم من أبعد الناس عن واقع الإسلام ، وأسوئهم أثراً فيه .
  وقد صدق فيهم قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دغلاً )) (1) .
  وقد أمعنوا في الاستهتار بالدين ، والخروج على المبادئ الشريفة ، وانتهاك الحرمات العظام في سبيل الاستيلاء على السلطة والاستئثار بالحكم .
  كما أكّدوا واقع الأمويين الأسود بسوء سلطانهم وجبروتهم وطغيانهم ، واستهتارهم وانتهاكهم للحرمات ومقارفتهم للموبقات واستغراقهم في الشهوات .
  وقد أثار ذلك التوجّس والحذر والنقد لكلّ سلطة تُفرض ، بل البغض والتنفّر منها نوعاً حتى سقطت حرمة السلطة ، وفقدت قدسيتها عند جمهور المسلمين .
  فالخليفة عندهم لا يمثّل الحقيقة الدينية المقدّسة وإن حاول أن يدّعي لنفسه ذلك ، ويطلق عليها ألقاب الاحترام والتقديس ، كخليفة الله ، وسلطانه في الأرض ، وخليفة رسوله ، وأمير المؤمنين ... إلى غير ذلك .

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 4 / 480 كتاب الفتن والملاحم ، واللفظ له ، مسند أبي يعلى 11 / 402 ح 6523 ، مجمع الزوائد 5 / 241 كتاب الخلافة ، باب في أئمّة الظلم والجور وأئمّة الضلالة ، المعجم الصغير 2 / 135 ، سير أعلام النبلاء 3 / 478 في ترجمة مروان بن الحكم ، تاريخ الإسلام 5 / 233 في ترجمة مروان بن الحكم ، تاريخ دمشق 57 / 253 في ترجمة مروان بن الحكم بن أبي العاص ، إمتاع الأسماع 12 / 276 ، كنز العمال 11 / 117 ح 30846 ، وص 165 ح 31057 ، وغيرها من المصادر .