بغض النظر عن تطبيقه عملياً في الواقع الإسلامي أو عدمه .
  وقد يناسب ذلك ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث له مع أُبيّ بن كعب ، وأنّه قال له : (( إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض ، فإنّه لمكتوب عن يمين عرش الله : مصباح الهدى ، وسفينة النجاة ... )) (1) .
  فإنّ الأئمّة (صلوات الله عليهم) وإن كانوا كلّهم هداة لدين الله تعالى وسفن نجاة الأُمّة ، إلاّ إنّ تخصيص الإمام الحسين (عليه السّلام) بذلك يناسب تميّزه في هداية الناس ، ونجاتهم من هلكة التيه والحيرة والضلال .
  كما ورد عن الإمام الحسين نفسه (صلوات الله عليه) أنّه ذكر في كلام له طويل دواعي خروجه وتعرّضه للقتل ، وقال في آخره : (( ... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ )) (2) .
  وربما تشير إلى ذلك العقيلة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (عليهما السّلام) فيما تقدّم من قولها في أواخر خطبتها ـ في التعقيب على الأبيات التي أنشدها يزيد متشفياً ، وهو ينكت ثنايا الإمام الحسين (عليه السّلام) بمخصرته : فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تُميت وحينا ، ولا تُدرك أمدنا ... (3) .
  وذلك يكشف عن أنّ دين الإسلام الخاتم للأديان قد تعرّض بسبب انحراف السلطة لخطر التحريف والتشويه ، بحيث تضيع معالمه ، ولا يتيسّر الوصول والتعرّف عليه لمَنْ يريد ذلك ، كما حصل في الأديان السابقة ، وأنّ

---------------------------
(1) بحار الأنوار 36 / 205 ، واللفظ له ، عيون أخبار الرضا 2 / 62 ، كمال الدين وتمام النعمة / 265 ، وغيرها من المصادر .
(2) اللهوف في قتلى الطفوف / 42 .
(3) راجع ملحق رقم 4 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 142 _

  الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) قد واجه ذلك الخطر ، ودفعه بنهضته المقدّسة ، وما استتبعها من تضحيات جسام .

أهمية بقاء معالم الدين ووضوح حجّته

  ومن الظاهر أنّ ذلك من أهمّ المقاصد الإلهية ، فإنّ الله (عزّ وجلّ) لا بدّ أن يوضح الدين الحق ، ويتم الحجّة عليه ، ليتيسّر لطالب الحق الوصول إليه ، والتمسّك به ، و ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (1) .
  وقد قال الله (عزّ وجلّ) : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ) (2) ، وقال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول ) (3) ، وقال سبحانه : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (4) ... إلى غير ذلك .

تميّز الإسلام بما أوجب إيضاح معالمه وبقاء حجّته

  وحقيقة الأمر : إنّ ذلك لم يستند لنهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وحدها ، بل هو نتيجة أمرين امتاز بهما دين الإسلام العظيم :
  الأوّل : بقاء القرآن المجيد في متناول المسلمين جميعاً ، واتّفاقهم عليه ، وحفظ الله (عزّ وجلّ) له من الضياع على عامّة الناس ، ومن التحريف كما حصل في الكتب السماوية الأخرى .
  الثاني : جهود جميع الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، فإنّهم لمّا أُقصوا عن مراتبهم التي رتّبهم الله تعالى فيها ، نتيجة انحراف مسار السلطة في

---------------------------
(1) سورة الأنفال / 42 .
(2) سورة التوبة / 115 .
(3) سورة الإسراء / 15 .
(4) سورة النساء / 165 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 143 _

  الإسلام ، تعرّض دين الإسلام القويم لخطر التحريف والتشويه والضياع ، كما تعرّضت لذلك جميع الأديان ، فكان مقتضى ائتمان الله تعالى لهم (عليهم السّلام) على الدين ، وجعلهم رعاة له أن يتحمّلوا مسؤوليتهم في درء الخطر المذكور .
  فجدّوا وجهدوا في إيضاح الدين الحق ، وإقامة الحجّة عليه بحيث لا يضيع على طالبه ، رغم المعوّقات الكثيرة ، والجهود المضادّة من قبل السلطات المتعاقبة وأتباعها .
  وقد تظافرت جهودهم (عليهم السّلام) في خطوات متناسقة حقّقت هذا الهدف العظيم على النحو الأكمل ، على ما سوف يظهر في محاولتنا هذه إن شاء الله تعالى .
  غاية الأمر أنّ لنهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي انتهت بفاجعة الطفّ ـ بأبعادها المتقدّمة ـ أعظم الأثر في ذلك ، على ما سيتضح بعون الله (عزّ وجلّ) .

ما يتوقّف عليه بقاء معالم الدين الحق ووضوح حجّته

  هذا وقيام الحجّة على الدين الحق ووضوح معالمه مع ما مُني به الإسلام ـ كسائر الأديان ـ من الخلاف بين الأُمّة وتفرّقها ، وشدّة الخصومة والصراع بينها يتوقف :
  أوّلاً : على وجود مرجعية في الدين سليمة في نفسها متّفق عليها بين جميع الأطراف تنهض بإثبات الحق ، والاستدلال عليه .
  وثانياً : على وجود فرقة ظاهرة تدعو إلى الحق ، وتنبّه الغافل ، لوضوح أنّه مع الغفلة المطلقة لا يكفي وجود الدليل في قيام الحجّة ورفع العذر في حق الجاهل والمخطئ .
  والظاهر إنّ لنهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أعظم الأثر في

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 144 _

  كلا هذين الأمرين الدخيلين في قيام الحجّة على الحق ووضوحه ، كما يتّضح ممّا يأتي من الحديث عمّا جناه دين الإسلام العظيم من ثمرات هذه النهضة المباركة والملحمة الإلهية المقدّسة .
  إذا عرفت هذا فالكلام :
  تارة : فيما كسبه الإسلام بكيانه العام .
  وأُخرى : فيما كسبه الإسلام الحق المتمثّل بخط أهل البيت (صلوات الله عليهم) الذين جعلهم الله تعالى ورسوله مع الكتاب المجيد مرجعاً للأُمّة يعصمها من الضلال ، وهو مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية (رفع الله تعالى شأنهم) ، فهنا مطلبان :

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 145 _

المطلب الأوّل : فيما كسبه الإسلام بكيانه العام

  تمهيد :
  شرع الله (عزّ وجلّ) الأديان جميعاً ، لتؤدّي دورها في إصلاح البشرية ، وتقويم مسيرتها في الفترة الزمنية التي يشرع فيها الدين .
  يجب بقاء الدين الحق واضح المعالم ظاهر الحجّة وحيث كان المشرع للدين هو الله (عزّ وجلّ) الحكيم الأكمل ، ذو العلم المطلق ، المحيط بكلّ شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، فمن الطبيعي أن يكون الدين الذي يشرعه في فترة زمنية معينة ، ويفرض على عباده الالتزام به في تلك الفترة ، واجداً تشريعياً لمقوّمات بقائه ، واضح المعالم ، مسموع الدعوة ، ظاهر الحجّة ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (1) ، بحيث يكون الخروج عنه خروجاً بعد البيان والحجّة ، كما قال (عزّ من قائل) : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ) (2) ، لئلاّ يقولوا : ( رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ) (3) .

---------------------------
(1) سورة الأنفال / 42 .
(2) سورة التوبة / 115 .
(3) سورة طه / 134 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 146 _

  لا بدّ من رعاية المعصوم للدين وذلك لا يكون إلاّ بأن يكون الأمين على الدين ، والمرجع للأُمّة فيه في فترة تشريعه معصوماً لا يزيغ عن الدين ، ولا يخطأ فيه ، نبيّاً كان أو وصيّاً لنبي .
  وعلى ذلك جرت الأديان السماوية فيما روي عن النبي والأئمّة من آله (صلوات الله عليهم أجمعين) مستفيضاً ، بل متواتراً .
  وروى الجمهور كثيراً من مفردات ذلك في الأديان السابقة (1) ، بل ورد في بعض روايات الجمهور أنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إلى آدم (عليه السّلام) : (( إنّي قد استكملت نبوّتك وأيّامك ، فانظر الاسم الأكبر ، وميزان علم النبوّة فادفعه إلى ابنك شيث ؛ فإنّي لم أكن لأترك الأرض إلاّ وفيها عالم يدلّ على طاعتي ، وينهى عن معصيتي )) (2) .
  وهو عين ما يبتني عليه مذهب الإمامية الاثني عشرية ـ رفع الله تعالى

---------------------------
(1) مجمع الزوائد 9 / 113 كتاب المناقب ، باب مناقب علي بن أبي طالب (ع) ، باب فيما أوصى به (ع) ، فضائل الصحابة ـ لابن حنبل 2 / 615 ومن فضائل علي (ع) من حديث أبي بكر بن مالك عن شيوخه غير عبد الله ، تاريخ دمشق 23 / 271 في ترجمة شيث ، ويُقال شيث بن آدم واسمه هبة الله ، و 50 / 9 في ترجمة كالب بن يوقنا بن بارص ، و61 / 175 في ترجمة موسى بن عمران بن يصهر ، و 62 / 241 في ترجمة نوح بن لمك بن متوشلخ ، تهذيب الأسماء 1 / 236 ، مسائل الإمام أحمد 1 / 12 ذكر ترتيب كبار الأنبياء ، العظمة 5 / 1602 ، 1604 ، المعجم الكبير 6 / 221 في ما رواه أبو سعيد عن سلمان (رضي الله عنه) ، تفسير القرطبي 6 / 140 ، و15 / 115 ، تفسير البغوي 2 / 30 ـ 31 ، تفسير الطبري 2 / 808 ، الدرّ المنثور 1 / 314 ، الطبقات الكبرى 1 / 37 ـ 38 ، 40 ذكر من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الأنبياء ، تاريخ الطبري 1 / 102 ـ 103 ذكر ولادة حواء شيث ، وص 107 ، 110 ـ 111 ذكر وفاة آدم (عليه السّلام) ، وص 322 ، 324 ذكر أمر بني إسرائيل والقوم الذين كانوا بأمرهم ، و 2 / 31 ـ 32 ذكر نسب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده ، الكامل في التاريخ 1 / 47 ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم (عليه السّلام) في الدنيا ، ذكر ولادة شيث ، وغيرها من المصادر .
(2) العظمة 5 / 1602 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 147 _

  شأنهم ـ من أنّ الأرض لا تخلو من إمام وحجّة ، تبعاً لما استفاض ـ بل تواتر ـ عن النبي والأئمّة من آله (صلوات الله عليهم أجمعين) (1) : (( ما اختلفت أُمّة بعد نبيّها إلاّ غلب أهل باطلها أهل حقّها )) .
  إلاّ إنّ الأديان جميعاً قد ابتُليت بالاختلاف بعد أنبيائها ، ومن الطبيعي ـ إذا لم تتدخّل العناية الإلهية بوجه خاص ـ أن يكون الظاهر في آخر الأمر هو الباطل ، وتكون الغلبة والسلطة له :
  أوّلاً : لأنّ مبدئية صاحب الحقّ المعصوم تجعله يحمل الناس على مرّ الحقّ ، ولا يُهادن فيه ، وذلك يصعب على أكثر الناس ، كما قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) : (( الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون )) (2) ، وحينئذٍ يخذلونه ويتفرّقون عنه ، بل كثيراً ما يتحزّبون ضدّه .
  وثانياً : لأنّ مبدئية المعصوم تمنعه من سلوك الطرق الملتوية وغير المشروعة ، والمنافية للمبادئ الإنسانية السامية في صراعه مع الباطل . وهي

---------------------------
(1) تذكرة الحفاظ 1 / 12 في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، حلية الأولياء 1 / 80 في ترجمة علي بن أبي طالب ، تذكرة الحفّاظ 24 / 221 في ترجمة كميل بن زياد بن نهيك ، كنز العمّال 10 / 263 ـ 264 ح 29391 ، تاريخ دمشق 14 / 18 في ترجمة الحسين بن أحمد بن سلمة ، و 50 / 254 في ترجمة كميل بن زياد بن نهيك ، المناقب للخوارزمي / 366 الفصل الرابع والعشرون في بيان شيء من جوامع كلمه وبوالغ حكمه ، ينابيع المودّة 1 / 89 ، جواهر المطالب 1 / 303 ، وغيرها من المصادر .
وأمّا المصادر الشيعية : فقد رويت في نهج البلاغة 4 / 37 ـ 38 ، والمحاسن 1 / 38 ، وبصائر الدرجات / 57 ، والإمامة والتبصرة / 26 ، والكافي 1 / 178 ـ 179 ، والخصال ـ للصدوق / 479 ، وكمال الدين وتمام النعمة / 222 ، 319 ، 409 ، 445 ، 511 ، وكفاية الأثر / 164 ، 296 ، وبحار الأنوار 23 / 1 ـ 65 ، وغيرها من المصادر .
(2) تقدّمت مصادره في / 36 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 148 _

  نقطة ضعف مادية فيه ، كثيراً ما يستغلّها الطرف المبطل في الصراع ، ويقوى بسببها ، فيغلب المحق ويظهر عليه .
  وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السّلام) في قوله : (( قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ، ودونه مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها مَنْ لا حريجة له في الدين )) (1) .
  ولعلّه لذا ورد أنّه ما اختلفت أُمّة بعد نبيّها إلاّ غلب أهل باطلها أهل حقّها (2) .

استغلال السلطة المنحرفة الدعوة ومبادئها لصالحها

  ونتيجة لذلك يستولي أهل الباطل ، ويتّخذون الدين ذريعة لخدمة مصالحهم وسلطانهم ، ولتبرير نزواتهم ، وإشباع شهواتهم ، ولو بتحريفه عن حقيقته والخروج عن حدوده ، لأنّ لهم القوّة والسطوة ، وبيدهم التثقيف والدعاية والإعلام .
  ومن ثمّ كان منشأ التحريف في الدين غالباً هو تحكّم غير المعصوم فيه من سلطان مبطل ، أو مؤسسة منسّقة مع السلطان المذكور ، بل ذلك هو منشأ التحريف في جميع الدعوات والأنظمة التي تتبنّاه

---------------------------
(1) نهج البلاغة 1 / 92 ، واللفظ له ، ربيع الأبرار 4 / 342 باب الوفاء وحسن العهد ورعاية الذمم ، التذكرة الحمدونية 3 / 1 الباب السابع في الوفاء والمحافظة والأمانة والغدر والملل والخيانة .
(2) مجمع الزوائد 1 / 157 كتاب العلم ، باب في الاختلاف ، واللفظ له ، المعجم الأوسط 7 / 370 ، فيض القدير 5 / 415 ، حلية الأولياء 4 / 313 ، تذكرة الحفاظ 1 / 87 في ترجمة الشعبي ، سير أعلام النبلاء 4 / 311 في ترجمة الشعبي ، تاريخ الإسلام 7 / 131 في ترجمة عامر بن شرحبيل الشعبي ، ذكر من اسمه شعبة / 68 ، كنز العمال 1 / 183 ح 929 ، الجامع الصغير ـ للسيوطي 2 / 481 ح 7799 ، وقعة صفين / 224 ، ينابيع المودّة 2 / 80 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 149 _

  الجهات المتنفّذة والقوى الحاكمة ، حيث تتّخذ منها أداة لتقوية نفوذها ، وتركيز حكمها وسلطانها ، ولو على حساب الأسس التي تقوم تلك الدعوات والأنظمة والتعاليم التي تتبناها .
  كما يتضح ذلك بأدنى نظرة في واقع الأنظمة والدعوات التي تبنّتها الدول والحكومات عبر التاريخ الطويل وحتى عصرنا الحاضر ، حيث لا نجد دعوة حقّ أو باطل قامت على أساسها دولة في ظلّ غير المعصوم بقيت محافظة على أصالتها ونقائها ، وعلى تعاليمها ومفاهيمها التي أُسست عليها .
  لكنّ الله (عزّ وجلّ) قد أخذ على نفسه أن يتمّ الحجّة على الحقّ كما سبق ، بل هو اللازم عليه بمقتضى عدله وحكمته ، أوّلاً : لقبح العقاب بلا بيان ، وثانياً : لعدم تحقّق حكمة جعل الدين وإلزام الناس به إلاّ بوصوله وقيام الحجّة عليه .

غلبة الباطل لا توجب ضياع الدين الحقّ وخفاء حجّته

  وحينئذ لا بدّ من كون غلبة الباطل وتسلّطه بنحو لا يمنع من قيام الحجّة على بطلان دعوته ، وصحّة دعوة الحقّ ، بحيث تنبّه الغافل لذلك ، وتقطع عذر الجاهل .
  كما لا بدّ أن تبقى الدعوة المحقّة التي يرعاها المرجع المعصوم شاخصة ناطقة ، بحيث لو طلبها مَنْ شاء من أهل ذلك الدين وغيرهم ، ونظر في حجّتها بموضوعية تامّة ، بعيداً عن التعصّب والعناد ، لوصل إليها .
  ونتيجة لذلك لا بدّ من كون الخلاف للحقّ ، والخروج عنه ليس لقصور في بيانه وخفاء فيه ، بل عن تقصير من الخارج بعد البيّنة ، وقيام الحجّة الكافية على الحقّ .
  كما قال الله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 150 _

  وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) (1) .
  وقال سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) (2) .
  وقال (عزّ وجلّ) : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (3) .
  وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ) (4) .
  وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( قد تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك )) (5) ... إلى غير ذلك .
  لا ملزم بوضوح معالم الدين بعد نسخه
  نعم ، إنّما يلزم على الله (عزّ وجلّ) إبقاء الحجّة ووضوح معالم الحقّ في الدين الذي يقع الاختلاف فيه مادام ذلك الدين مشروعاً نافذاً على الناس ، بحيث

---------------------------
(1) سورة البقرة / 213 .
(2) سورة آل عمران / 19 .
(3) سورة آل عمران / 105 .
(4) سورة طه / 134 .
(5) مسند أحمد 4 / 126 حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ، واللفظ له ، تفسير القرطبي 7 / 138 ـ 139 ، سنن ابن ماجة 1 / 16 باب اتّباع الخلفاء الراشدين المهديين ، المستدرك على الصحيحين 1 / 96 كتاب العلم ، السنة ـ لابن أبي عاصم 1 / 19 ، 26 ـ 27 ، المعجم الكبير 18 / 247 في ما رواه عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية ، وص 257 في ما رواه حبير بن نفير عن العرباض ، مسند الشاميين 3 / 173 ، الترغيب والترهيب ـ للمنذري 1 / 47 ، مصباح الزجاجة 1 / 5 كتاب اتّباع السُنّة ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 151 _

  يجب عليهم التديّن به ، والعمل بأحكامه .
  أمّا إذا انتهى أمده ، ونُسخ بدين جديد ـ يجب على الناس التدين به ، والعمل بأحكامه ـ فلا ملزم ببقاء الحجّة الواضحة على دعوة الحقّ في الدين المنسوخ ، ولا محذور في ضياع معالمه .
  بل لا أثر عملي لظهور دعوة الحقّ في الدين المنسوخ ووضوح حجّته بعد عدم وجوب اعتناقه ، والتدين به ، ولا محذور في انفراد دعوة الباطل من ذلك الدين في الساحة ، إذ يكفي في تحقّق حكمة جعل الدين ، ودفع محذور العقاب بلا بيان ، سماع دعوة الدين الجديد الناسخ ـ الذي يجب التديّن به واتّباعه ـ ووضوح معالمه ، وقيام الحجّة عليه ، كما هو ظاهر .

كون الإسلام خاتم الأديان يستلزم بقاء معالمه ووضوح حجّتهه

  وبذلك يظهر اختلاف دين الإسلام العظيم عن بقيّة الأديان ، إذ حيث كان هو الدين الخاتم الذي ليس بعده دين ، والذي يجب على الناس اعتناقه والتديّن به مادام الإنسان يعمر الأرض ، فلا بدّ من بقاء دعوة الحقّ فيه مسموعة الصوت ، ظاهرة الحجّة ما بقيت الدنيا .
  وهو ما حصل بتسديد الله (عزّ وجلّ) ورعايته ، وبجهود وتضحيات أهل البيت (صلوات الله عليهم) الذين ائتمنهم تعالى على دينه ، وجعلهم ـ مع كتابه المجيد ـ مرجعاً للأُمّة فيه ، وما استتبع ذلك من جهود وتضحيات شيعتهم ومواليهم الذين آمنوا بقيادتهم ، وتفاعلوا معهم دينياً وعاطفياً .
  وكان لنهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، وتضحياته الجسيمة أعظم الأثر في ذلك ، كما نرجو إيضاحه في حديثنا هذا بعون من الله تعالى وتوفيقه وتسديده .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 152 _

  هذا وسوف يتّضح إن شاء الله تعالى أنّ الخطر الذي تصدى الإمام الحسين (عليه السّلام) لدفعه لم ينشأ من استيلاء الأمويين على الحكم ، أو استيلاء يزيد عليه خاصة ، غاية الأمر أن يكون الخطر قد تفاقم بذلك ، أو أنّ الفرصة قد سنحت للتصدّي لذلك الخطر ، ولم تسنح قبل ذلك .
  وكيف كان فالحديث :
  أوّلاً : في اتّجاه مسيرة الإسلام بعد الانحراف عن خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، واستيلاء غيرهم على السلطة ، وما من شأنه أن يترتّب على الانحراف المذكور لو لم يكبح جماحه .
  وثانياً : في جهود أهل البيت (صلوات الله عليهم) في كبح جماح الانحراف من أجل خدمة دعوة الإسلام بكيانه العام .
  فالكلام في مبحثين :

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 153 _

المبحث الأوّل : فيما من شأنه أن يترتّب على انحراف مسار السلطة في الإسلام لو لم يكبح جماحها

  من الطبيعي أن يجري الله (عزّ وجلّ) في دين الإسلام القويم تشريعاً على سنن الأديان السابقة ، فلا يتركه بعد ارتحال النبي (صلّى الله عليه وآله) للرفيق الأعلى عرضة للاختلاف والاجتهادات المتضاربة ، بل يوكله للمعصومين الذين يؤمن عليهم الخطأ والاختلاف .
  بل هو أولى من الأديان السابقة بذلك بعد أن كان هو الدين الخاتم الذي لا ينتظر أن يشرّع بعده دين ونبوّة تصحّح الأخطاء والخلافات التي تحصل بين معتنقيه ، كما تصدّى هو لتصحيح الأخطاء والخلافات التي حصلت بين معتنقي الأديان السابقة عليه .
  قال الله (عزّ وجلّ) : ( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (1) .
  وقال تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

---------------------------
(1) سورة النحل / 63 ـ 64 .
(2) سورة النمل / 76 ـ 77 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 154 _

  وقال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (1) ... إلى غير ذلك .
  وقد كان المعصومون الذين أوكل الله تعالى دينه العظيم إليهم ، وجعلهم مرجعاً للأُمّة فيه ، هم الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السّلام) ، أوّلهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وآخرهم إمام العصر والزمان الحجّة بن الحسن المهدي المنتظر (صلوات الله عليهم أجمعين) .
  ولسنا الآن بصدد إثبات ذلك ، بل هو موكول لعلم الكلام ، وكتب العقائد الكثيرة ، ومنها كتابنا (أصول العقيدة) .
  ولأهمية أمر الإمامة في الدين فقد أكّد الكتاب المجيد والسُنّة النبويّة الشريفة على أمور :

وجوب معرفة الإمام والإذعان بإمامته

  الأوّل : وجوب معرفة الإمام والبيعة له ، فقد استفاض عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية )) (2) ، أو : (( مَنْ مات بغير إمام مات ميتة جاهلية )) (3) ، أو : (( مَنْ مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة

---------------------------
(1) سورة المائدة / 15 .
(2) كمال الدين وتمام النعمة / 409 ، كفاية الأثر / 296 ، إعلام الورى بأعلام الهدى 2 / 253 ، ينابيع المودّة 3 / 372 ، الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2 / 457 ، وغيرها من المصادر .
(3) مسند أحمد 4 / 96 حديث معاوية بن أبي سفيان ، حلية الأولياء 3 / 224 في ترجمة زيد بن أسلم ، المعجم الكبير 19 / 388 في ما رواه شريح بن عبيد عن معاوية ، مسند الشاميين 2 / 437 ما انتهى إلينا من مسند ضمضم بن زرعة ، ما رواه ضمضم عن شريح بن عبيد ، مجمع الزوائد 5 / 218 كتاب الخلافة ، باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمّة والنهي عن قتالهم ، مسند أبي داود الطيالسي / 259 ما رواه أبو سلمة عن ابن عمر ، كنز العمّال 1 / 103 ح 464 ، و 6 / 65 ح 14863 ، علل الدارقطني 7 / 63 من حديث الصحابة عن معاوية ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 155 _

  جاهلية )) (1) ، أو نحو ذلك .

وجوب طاعة الإمام وموالاته والنصيحة له

  الثاني : وجوب الطاعة لأولياء أمور المسلمين وأئمّتهم ، وموالاتهم والنصيحة لهم ، قال الله (عزّ وجلّ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (2) .
  وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) في خطبته في مسجد الخيف : (( ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم ... )) (3) ... إلى غير ذلك ممّا يفوق حدّ الإحصاء .

لزوم جماعة المسلمين والمؤمنين وحرمة التفرّق

  الثالث : لزوم جماعة الأئمّة التي هي جماعة المؤمنين ، واتّباع سبيلهم ،

---------------------------
(1) صحيح مسلم 6 / 22 كتاب الإمارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن ، السنن الكبرى 8 / 156 كتاب قتال أهل البغي ، جماع أبواب الرعاة ، باب الترغيب في لزوم الجماعة والتشديد على من نزع يده من الطاعة ، مجمع الزوائد 5 / 218 كتاب الخلافة ، باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمّة والنهي عن قتالهم ، السُنّة ـ لابن أبي عاصم / 489 ح 1057 ، وص 500 ح 1081 ، المعجم الكبير 19 / 334 في ما رواه ذكوان أبو صالح السمان عن معاوية ، فتح الباري 13 / 5 ، كنز العمّال 6 / 52 ح 14810 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) سورة النساء / 59 .
(3) الكافي 1 / 403 ، واللفظ له ، سنن الترمذي 5 / 34 كتاب العلم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، باب ما جاء في الحثّ على تبليغ السماع ، سنن ابن ماجة 1 / 84 باب من بلغ علم ، المستدرك على الصحيحين 1 / 87 كتاب العلم ، مسند أحمد 4 / 82 في حديث جبير بن مطعم ، صحيح ابن حبان 1 / 270 كتاب العلم ، باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها ، ذكر رحمة الله (جلّ وعلا) من بلغ الأُمّة حديثاً صحيحاً عنه ، مجمع الزوائد 1 / 137 ـ 139 كتاب العلم ، باب في سماع الحديث وتبليغه ، الأحاديث المختارة 6 / 308 في ما رواه عقبة بن وساج عن أنس ، سنن الدارمي 1 / 75 باب الاقتداء بالعلماء ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 156 _

  والنهي عن الاختلاف والتفرّق ، قال الله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (1) .
  وقال (عزّ وجلّ) : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (2) .
  وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (3) .
  وكذا ما سبق من خطبة النبي (صلّى الله عليه وآله) في مسجد الخيف ، وقوله (صلّى الله عليه وآله) : (( لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) (4) .
  وعنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( أنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهنّ : بالجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ؛ فإنّه مَنْ خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، إلى أن يرجع ... )) (5) ... إلى غير ذلك .

---------------------------
(1) سورة آل عمران / 103 .
(2) سورة آل عمران / 105 .
(3) سورة الأنعام / 159 .
(4) صحيح البخاري 1 / 38 كتاب العلم ، باب الإنصات للعلماء ، و 2 / 191 ـ 192 كتاب الحجّ ، باب الخطبة أيام منى ، و 5 / 126 كتاب المغازي ، باب حجّة الوداع ، و 7 / 112 كتاب الأدب ، باب ما جاء في قول الرجل ويلك ، و 8 / 16 كتاب الحدود ، باب الحدود كفّارة ، وص 36 كتاب الديات ، وص 91 كتاب الفتن ، باب قول النبي (صلّى الله عليه وآله) لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، صحيح مسلم 1 / 58 كتاب الإيمان ، باب لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، و5 / 108 كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال ، وغيرهما من المصادر الكثيرة جدّاً .
(5) مسند أحمد 4 / 202 حديث الحارث الأشعري عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ، واللفظ له ، و 5 / 344 حديث أبي مالك الأشعري ، سنن الترمذي 4 / 226 أبواب الأمثال عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، باب ما جاء مثل الصلاة والصيام والصدقة ، المستدرك على الصحيحين 1 / 117 كتاب العلم ، الحديث الرابع فيما يدلّ على أن إجماع العلماء حجّة ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 8 / 157 كتاب قتال أهل البغي ، باب الترغيب في لزوم الجماعة والتشديد على من نزع يده من الطاعة ، صحيح ابن خزيمة 3 / 196 كتاب الصيام ، باب ذكر تمثيل الصائم في طيب ريحه بطيب ريح المسك إذ هو أطيب الطيب ، مجمع الزوائد 5 / 217 كتاب الخلافة ، باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمّة والنهي عن قتالهم ، المصّنف ـ لعبد الرزاق 3 / 157 كتاب الصلاة ، باب تزيين المساجد والممر في المسجد ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 7 / 227 كتاب الإيمان والرؤية ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 157 _

  وقد أجمع الجمهور على حرمة الخروج على الإمام العادل ـ فضلاً عن المعصوم ـ وأنّ الخارج عليه باغٍ يجب على المسلمين قتاله حتى يفيء للطاعة .
  قال الله (عزّ وجلّ) : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ ) (1) .

أهمية هذه الأمور في نظم أمر الدين والمسلمين

  وبالتأكيد على هذه الأمور يُقطع الطريق تشريعياً على مَنْ يحاول زرع الأشواك في طريق الإمام المعصوم وإتعابه ، وعلى مَنْ يتوهّم أو يختلق المبرّرات لمخالفة أمره ، فضلاً عن الخروج عليه والانحياز عن جماعته .
  وهو أمر ضروري في مسيرة دولة الحقّ ، لأنّ الدولة لا تقوم إلاّ بالطاعة المطلقة ، إذ كثيراً ما يخفى على الرعية وجه الحكمة في موقف الإمام المعصوم من الأحداث ، نظير ما حدث للمسلمين مع النبي (صلّى الله عليه وآله) في صلح الحديبية وغيره .
  فإذا فتح باب الاجتهاد والخلاف على الإمام عاقه ذلك عن أداء وظيفته ، وتيسّر للمنحرفين والنفعيين اختلاق المبرّرات لمخالفته والخروج عليه ، كما هو ظاهر ، وقد حاولنا توضيح ذلك عند الاستدلال على وجوب عصمة الإمام من كتابنا (أصول العقيدة) .

طاعة الإمام المعصوم مأمونة العاقبة على الدين والمسلمين

  كما إنّ الطاعة المذكورة مأمونة العاقبة على الدين والمسلمين بعد فرض

---------------------------
(1) سورة الحجرات / 9 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 158 _

  عصمة الإمام ، وكونه مسدّداً من قبل الله (عزّ وجلّ) .
  كما قالت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) في بيان حال الأُمّة لو وليها أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) : (( وتالله ، لو مالوا عن المحجّة اللائحة ، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة ، لردّهم إليها وحملهم عليها ، ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم حشاشه ، ولا يكِلّ سائره ، ولا يمُلّ راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً روياً تطفح ضفتاه ، ولا يترنق جانباه ، ولأصدرهم بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً )) (1) .

طاعة الإمام ولزوم جماعته مدعاة للطفّ الإلهي

  بل الطاعة المذكورة مدعاة للطفّ الإلهي والفيض الربّاني على الأُمّة بعد أن اجتمعت على طاعة الله (عزّ وجلّ) ، وانضمّت تحت راية عدله التي رفعها له ، كما قال الله (عزّ وجلّ) : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) (2) .
  وقال سبحانه تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) (3) .
  وقال سلمان الفارسي : لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم (4) .
  وقال أبو ذر : أما لو قدّمتم مَنْ قدّم الله ، وأخّرتم من أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم ، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن

---------------------------
(1) راجع ملحق رقم 2 .
(2) سورة الأعراف / 96 .
(3) سورة المائدة / 65 ـ 66 .
(4) أنساب الأشراف 2 / 274 أمر السقيفة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 159 _

  تحت أقدامكم (1) .

انحراف مسار السلطة في الإسلام

  لكن أمر الإسلام عملياً بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يجرِ على ما أراده الله (عزّ وجلّ) ورسوله (صلّى الله عليه وآله) ، بل تعثّرت الأُمّة في طريقها ، وانحرفت عن خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وخرجت بالسلطة عنهم ، وعن الالتزام بالنصّ على الإمام المعصوم ، بل من دون نظام بديل حتى لو لم يكن إلهي .
  وصار المعيار في الإمامة البيعة ولو بالقسر والقهر ـ مهما كانت منزلة المبايَع نسباً ، وأثراً في الإسلام ، وسلوكاً في نفسه ومع الناس ـ اعترافاً بالأمر الواقع ورضوخاً له .

إنكار أمير المؤمنين والزهراء (عليهما السّلام) لِما حصل

  وقد وقف أمير المؤمنين الإمام علي (صلوات الله عليه) وخاصة أصحابه ممّن ثبت معه موقف المنكر لذلك ؛ إقامة للحجّة .
  كما استثمرت الصديقة سيّدة النساء فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) حصانتها نسبياً فدعمت موقفهم ، وأصحرت بالشكوى والإنكار لِما حصل في خطبتيها الجليلتين (2) ، وأحاديثها ومواقفها الصلبة في بقيّة عمرها القصير ، وأيّامها القليلة ، وأصرّت على ذلك حتى قضت نحبها في تفاصيل كثيرة لا يسع المقام استقصاءها .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 171 في أيام عثمان .
(2) راجع ملحق رقم 1 و 2 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 160 _

اضطرار أمير المؤمنين (عليه السّلام) للمسالمة

  ثمّ اضطر أمير المؤمنين (عليه السّلام) وخاصة أصحابه للسكوت والمسالمة بعد أن ظهر إصرار المستولين على السلطة وعنفهم ، حفاظاً منه (صلوات الله عليه) على كيان الإسلام العام من الانهيار ، وإبقاءً منه (عليه السّلام) على حياته وحياة البقيّة الصالحة ، لتؤدّي دورها في التعريف بالدين الصحيح ، والدعوة له عندما يتيسّر لهم ذلك على ما ذكرناه في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة) .

أثر الفتوح في تركز الإسلام واحترام رموز السلطة

  ولم تمضِ مدّة طويلة حتى توجّه المسلمون للحروب خارج الجزيرة العربية ، وكانت نتيجتها الفتوح الكبرى ، وما استتبعها من الغنائم العظيمة التي لم يكونوا يحلمون بها ، ثمّ الشعور بالعزّة والرفعة ، فتركز الإسلام وحسن في نفوسهم ، وفرض احترامه على العالم ، واتّسعت رقعته ، وتوطّدت أركانه في الأرض ، ودخلت فيه الشعوب المختلفة .
  ومن الطبيعي ـ بعد ذلك ـ أن لا يُعرف من الإسلام ولا يُحترم إلاّ الإسلام الذي تحقّق به الفتح الذي ابتنت الخلافة والحكم فيه على الخروج على النظام الإلهي ، واعتماد القوّة ، فصار له ولرموزه المكانة العُليا في النفوس .
  وأكّد ذلك الخطوات التي خطتها السلطة في سبيل فرض احترامه ، وتثبيت شرعيته ، بل تقديسه ، ممّا يأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى .

غياب الإسلام الحقّ ورموزه عن ذاكرة المسلمين

  وصار الإسلام الحقّ غريباً على جمهور المسلمين ، وجُهل مقام رموزه وحملته ، بالرغم ممّا لهم من مقام ديني رفيع نوّه عنه النبي (صلّى الله عليه وآله) بصورة مكثفة ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 161 _

  وأنّ لهم أعظم الأثر في الإسلام .
  وحتى في تلك الحروب ـ التي كانت نتيجتها الفتوح الكبرى ـ دعماً وتوجيهاً ومشاركة ، اهتماماً منهم بكيان الإسلام العام من أجل أن تصل دعوته إلى العالم ، وتتعرّف عليه الأُمم المختلفة ، ويأخذ موقعه من نفوسها ، وإن استغلّت السلطة الرسمية القائمة ذلك كلّه لصالحها ، وتثبيت موقعها ، وفرض احترامها .

دعم أمير المؤمنين (عليه السّلام) السلطة اهتماماً بكيان الإسلام

  فمثلاً يظهر من بعض الروايات أنّ شعور جمهور الصحابة بعدم شرعية الانحراف الذي حصل جعلهم يتوقّفون عن الحرب في ظلّ السلطة الجديدة في حروب الردّة في الجزيرة العربية ، فضلاً عن غزو الكفّار فيها وفي خارجها ، وقد أوجب ذلك توقّف النشاط العسكري الإسلامي ، وتعرّض الإسلام للخطر .
  فاضطر أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) لدعم السلطة ، من أجل إضفاء الشرعية على القتال تحت ظلّها .
  فقد روى المدائني عن عبد الله بن جعفر بن عون قال : لمّا ارتدّت العرب مشى عثمان إلى علي ، فقال : يابن عم ، إنّه لا يخرج أحد إليّ .
  فقال : [إلى قتال ، صح] هذا العدو ، وأنت لم تُبايع ؟ فلم يزل به حتى مشى إلى أبي بكر ، فقام أبو بكر إليه واعتنقه ، وبكى كلّ واحد إلى صاحبه ، فبايعه ، فسرّ المسلمون ، وجدّ الناس في القتال ، وقطعت البعوث (1) .
  وقال (صلوات الله عليه) في كتابه إلى أهل مصر : (( فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يُبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت

---------------------------
(1) أنساب الأشراف 2 / 270 أمر السقيفة ، الشافي في الإمامة 3 / 241 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 162 _

  عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (صلّى الله عليه وآله) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم ... فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه )) (1) .
  وقال اليعقوبي : وأراد أبو بكر أن يغزو الروم ، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقدّموا وأخّروا .
  فاستشار علي بن أبي طالب فأشار أن يفعل ، فقال : (( إن فعلت ظفرت )) .
  فقال : بشرت بخير (2) .
  وكان (صلوات الله عليه) يسعفهم بتوجيهاته وصائب رأيه .
  فمثلاً لمّا استشاره عمر في الخروج لحرب الروم أشار عليه بترك الخروج (3) ، وكذا لمّا استشاره في الخروج لحرب الفرس (4) ، كما أوضح له آلية الحرب ، وكيفية تجنيد المسلمين لها (5) .
  وما أكثر ما جنّبهم المآزق حتى تكرّر عن عمر أنّه كان يتعوّذ من معضلة ليس لها أبو الحسن (6) .

---------------------------
(1) نهج البلاغة 3 / 119 .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 133 في أيام أبي بكر ، وقريب منه في الفتوح ـ لابن أعثم 1 / 82 ذكر كيفية الاستيلاء على بلاد الشام في خلافة الصديق .
(3) نهج البلاغة 2 / 18 .
(4) نفس المصدر 2 / 29 .
(5) نهج البلاغة 2 / 29 ، تاريخ الطبري 3 / 211 ـ 212 أحداث سنة إحدى وعشرين من الهجرة ، ذكر الخبر عن وقعة المسلمين والفرس بنهاوند ، الكامل في التاريخ 3 / 8 أحداث سنة إحدى وعشرين من الهجرة ، ذكر وقعة نهاوند ، وغيرها من المصادر .
(6) الاستيعاب 3 / 1103 في ترجمة علي بن أبي طالب ، أسد الغابة 4 / 23 في ترجمة علي بن أبي طالب ، الطبقات الكبرى 2 / 339 في ترجمة علي بن أبي طالب (ع) ، الإصابة 4 / 467 في ترجمة علي بن أبي طالب (ع) فتح الباري 13 / 286 ، تهذيب التهذيب 7 / 296 في ترجمة علي بن أبي طالب ، الفصول المهمّة 1 / 199 ـ 200 الفصل الأوّل في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، فصل في ذكر شيء من علومه (عليه السّلام) ، كنز العمّال 10 / 300 ح 29509 ، شرح نهج البلاغة 1 / 18 ، نظم درر السمطين / 132 ، فيض القدير 4 / 470 ح 5594 ، المناقب ـ للخوارزمي / 96 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 163 _

  وقال : لولا علي لهلك عمر (1) ... إلى غير ذلك ممّا هو كثير جدّاً ، ويسهل على الباحث الاطّلاع عليه (2) .
  كما إنّه قد اشترك جماعة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) وخواصه في تلك الحروب ، كسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود الكندي ، وحذيفة بن اليمان وعبادة بن الصامت وغيرهم (رضي الله عنهم) ، وكان لهم الرأي الصائب والتدبير الحسن والأثر المحمود .
  إلاّ أنّ ذلك إنّما يعرفه الخاصّة دون عامّة الناس ، ومَنْ عرفه من العامّة نسبه للسلطة ، واعتبرهم واجهة له كغيرهم ممّن تعاون معها وسار في ركابها ، من دون أن يعرف لهذه الجماعة الصالحة مقامها الرفيع في الإسلام ، وجهادها من أجله في عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتضحيتها وجهودها في الحفاظ على كيانه ونشره في الأرض بعد ذلك ، ولا يحترمها نتيجة ذلك في نفسها .

---------------------------
(1) الاستيعاب 3 / 1103 في ترجمة علي بن أبي طالب ، فيض القدير 4 / 470 ح 5594 ، مسند زيد بن علي / 335 كتاب الحدود ، باب حدّ الزاني ، تأويل مختلف الحديث / 152 ، تفسير السمعاني 5 / 154 ، الوافي بالوفيات 21 / 179 ، الفصول المهمّة 1 / 199 الفصل الأوّل في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، فصل في ذكر شيء من علومه (عليه السّلام) ، المناقب ـ للخوارزمي / 81 ، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول / 77 ، ينابيع المودّة 1 / 216 و 2 / 172 و 3 / 147 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) غاية الأمر أنّه (صلوات الله عليه) كان يقتصر على ما فيه مصلحة الإسلام وتأييده ، دون ما كان فيه تأييد لهم بأشخاصهم أو بمراكزهم من دون أن يخدم الإسلام بكيانه العام ، إلاّ أن يضطر لذلك ، ولذا امتنع من الخروج مع عمر عندما ذهب إلى الشام حتى شكاه عمر لابن عباس ، شرح نهج البلاغة 12 / 78 .
ولمّا سُئل عمر عن وجه عدم توليته لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وجماعة من الصحابة قال : أمّا علي فأنبه من ذلك ... شرح نهج البلاغة 9 / 29 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 164 _

  كما يناسب ذلك ما يأتي من جندب بن عبد الله الأزدي عن موقف أهل الكوفة في أعقاب الشورى من حديثه في بيان مقام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وفضله (1) .
  وكذلك قول معاوية بن أبي سفيان لعمّار بن ياسر لمّا بدأ الإنكار من المسلمين على عثمان في مجلس يضم جمعاً من الصحابة : يا عمّار ، إنّ بالشام مئة ألف فارس كلّ يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم لا يعرفون علياً وقرابته ، ولا عمّاراً ولا سابقته (2) .

تقييم أمير المؤمنين (عليه السّلام) للأوضاع

  وقد أوضح أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ذلك في حديث له ، قال فيه : (( إنّ العرب كرهت أمر محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفّرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حيّاً على صرف الأمر عن أهل بيته .
  ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة ، وسُلّماً إلى العزّ والإمرة لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً .
  ثمّ فتح الله عليها الفتوح فأثرت بعد الفاقة ، وتموّلت بعد الجهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت : لولا أنّه حقّ لما كان كذا .

---------------------------
(1) يأتي في / 257 ـ 258 .
(2) الإمامة والسياسة 1 / 29 ذكر الإنكار على عثمان ، واللفظ له ، وقريب منه في تاريخ المدينة 3 / 1094 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 165 _

  ثمّ نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكّد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين .
  فكنّا ممّن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممّن يعرف ، ونشأ كثير ممّن لا يعرف ... )) (1) .
  وقد قام الولاة ومَنْ دعمهم في سبيل فرض احترامهم ، وتوطيد أركان حكمهم ، وإضفاء الشرعية عليها ، بأمور خطيرة .

استغلال الألقاب المناسبة لشرعية السلطة ونقلها عن أهلها

  الأمر الأوّل : إضفاء الألقاب المناسبة لشرعية الحكم ديني ، مثل : (خليفة رسول الله) (2) ، و (أمير المؤمنين) ، و (ولي رسول الله) (3) .
  وتأكيداً لذلك تختّم عمر وأبو بكر وعثمان بخاتم النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي كان نقشه : (محمد رسول الله) ، وكان يوقّع به في كتبه للأعاجم ، أو بما هو

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 20 / 299 .
(2) مسند أحمد 1 / 10 ، 13 ، 37 مسند أبي بكر الصديق ، المستدرك على الصحيحين 3 / 81 كتاب معرفة الصحابة ، مناقب عمر بن الخطاب / 607 ذكر سعد بن الربيع الأنصاري ، مجمع الزوائد 5 / 184 و ص 198 كتاب الخلافة ، باب الخلفاء الأربعة ، و باب كيف يدعى الإمام ، و 6 / 222 كتاب المغازي والسير ، باب قتال أهل الردّة ، فتح الباري 13 / 178 ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .
(3) صحيح البخاري 4 / 44 باب فرض الخمس ، و 5 / 24 كتاب المغازي ، باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إليهم ، و 6 / 191 كتاب النفقات ، و 8 / 4 كتاب الفرائض ، وص 147 كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنّة ، صحيح مسلم 5 / 152 كتاب الجهاد والسير ، باب حكم الفيء ، و 2 / 21 كتاب الخراج والإمارة والفيء ، باب في صفايا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، مسند أحمد 1 / 60 مسند عثمان بن عفان ، و 208 ـ 209 حديث العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 166 _

  مثله في النقش (1) .
  وحُمل أبو بكر (2) وعمر (3) بعد موتهما على السرير الذي حُمل عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، كما إنّ من المعلوم أنّه دُفن هو وعمر مع النبي (صلّى الله عليه وآله) في حجرته .
  بل تمادت السلطة وأتباعها فوصفوا الحاكم بأنّه (خليفة الله) (4) ، و (سلطان الله في الأرض) (5) ، ونحو ذلك .
  وقد روى راشد بن سعد أنّ عمر أتي بمال فجعل يقسّم بين الناس ، فازدحموا عليه ، فأقبل سعد بن أبي وقّاص يزاحم الناس حتى خلص إليه ، فعلاه عمر بالدرّة ، قال : إنّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض ، فأحببت أن

---------------------------
(1) صحيح البخاري 7 / 53 كتاب اللباس ، باب نقش الخاتم ، صحيح مسلم 6 / 150 كتاب اللباس والزينة ، باب لبس النبي خاتماً من ورق نقشه محمد رسول الله ولبس الخلفاء له من بعده ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 4 / 142 كتاب الزكاة ، باب ما ورد فيما يجوز للرجل أن يتحلّى به من خاتمه وحلية سيفه ومصحفه إذا كان من فضة ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .
(2) المستدرك على الصحيحين 3 / 63 كتاب الهجرة ، ذكر مرض أبي بكر ووفاته ودفنه ، تاريخ الطبري 2 / 613 أحداث سنة الثالثة عشر من الهجرة ، ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كُفّن فيه أبو بكر ومَنْ صلّى عليه والوقت الذي صلّى عليه فيه والوقت الذي توفي في ، الكامل في التاريخ 2 / 419 أحداث سنة الثالثة عشر من الهجرة ، ذكر وفاة أبي بكر ، وفيات الأعيان 3 / 65 في ترجمة أبي بكر الصديق ، وغيرها من المصادر .
(3) أسد الغابة 4 / 77 في ترجمة عمر بن الخطاب ، تاريخ دمشق 44 / 451 في ترجمة عمر بن الخطاب ، سبل الهدى والرشاد 11 / 275 ، وغيرها من المصادر .
(4) أنساب الأشراف 5 / 27 وأمّا معاوية بن أبي سفيان ، مروج الذهب 3 / 53 ذكر خلافة معاوية بن أبي سفيان ، موقف آخر بين صعصعة ومعاوية ، تاريخ دمشق 39 / 543 في ترجمة عثمان بن عفان و 40 / 411 في ترجمة عطاء بن أبي صيفي بن نضلة ، و 70 / 72 في ترجمة ليلي الأخليلية ، الفتوح ـ لابن أعثم 3 / 88 بعد حديث الزرقاء بنت عدي الهمذانية مع معاوية ، وغيرها من المصادر .
(5) تاريخ الطبري 6 / 331 أحداث سنة 158 من الهجرة ، ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور وذكر بعض سيره ، البداية والنهاية 10 / 130 أحداث سنة 158 من الهجرة ، ترجمة المنصور ، تاريخ دمشق 32 / 311 في ترجمة عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 167 _

  أعلمك أنّ سلطان الله لن يهابك (1) .
  وفي كتاب عثمان إلى الأمراء يتحدّث عن الجماعة المحاصرين له قالوا : لا نرضى إلاّ بأن تعتزلنا ، وهيهات لهم والله من أمر ينال به الشيطان فيما بعد اليوم من سلطان الله حاجته ... .
  ولما قدم الكتاب عليهم قام معاوية فخطب الناس وكان فيما قال : انهضوا إلى سلطان الله فأعزوه يعزكم وينصركم ... .
  وخطب أبو موسى فكان فيما قال : وإنّما قوام هذا الدين السلطان ، بادروا سلطان الله لا يُستذل ... (2) .
  وأخذ عبد الله بن سلام ينهى المحاصرين لعثمان عن قتله ، وكان فيما قال : ... ويلكم إنّ سلطان الله اليوم يقوم بالدرّة ، وإن قتلتموه لم يقم إلاّ بالسيف (3) .
  وقال معاوية في خلافته : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما أخذت فلي ، وما تركته للناس فبفضل منّي (4) .
  وقال جويرية بن أسماء : قدم أبو موسى الأشعري على معاوية في برنس أسود ، فقال : السّلام عليك يا أمين الله .
  قال : وعليك السّلام .
  فلمّا خرج قال

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 3 / 287 ذكر استخلاف عمر ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 3 / 280 أحداث سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مقتل عمر ، حمله الدرّة وتدوينه الدواوين ، أنساب الأشراف 10 / 338 ـ 339 نسب بني عدي بن كعب بن لؤي ، في ترجمة عمر بن الخطاب ، كنز العمّال 12 / 564 ح 35768 ، شرح نهج البلاغة 12 / 96 .
(2) تاريخ دمشق 39 / 431 في ترجمة عثمان بن عفان .
(3) تاريخ دمشق 39 / 439 في ترجمة عثمان بن عفان .
(4) أنساب الأشراف 5 / 27 وأمّا معاوية بن أبي سفيان ، واللفظ له ، مروج الذهب 3 / 53 ذكر خلافة معاوية بن أبي سفيان ، موقف آخر بين صعصعة ومعاوية ، نثر الدرّ 2 / 142 الباب السابع ، الجوابات المسكتة الحاضرة ، التذكرة الحمدونية 2 / 341 الباب الثالث والثلاثون ، في الحجج البالغة والأجوبة الدامغة ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 168 _

  معاوية : قدم الشيخ لأولّيه ، والله لا أولّ يه (1) .
  وخطب زياد بن أبيه فقال في جملة ما قال : أيّها الناس ، إنّا أصبحنا لكم ساسة ، وعنكم ذادة ، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ... (2) .
  وفي كتاب الوليد بن يزيد بن عبد الملك إلى رعيته بعد أن ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : فأبان الله به الهدى ... ثمّ استخلف خلفاءه على منهاج نبوّته حين قبض نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ... فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه ، واستخلفهم عليه منه ، لا يتعرض لحقّهم أحد إلاّ صرعه الله ، ولا يُفارق جماعتهم أحد إلاّ أهلكه الله ... وكذلك صنع الله ممّن فارق الطاعة التي أمر بلزومها والأخذ بها ... فبالخلافة أبقى الله مَنْ أبقى في الأرض من عباده ، وإليها صيّره ، وبطاعة مَنْ ولاّه إيّاها سَعُد مَنْ أكرمها ونصرها ... فمَنْ أخذ بحظّه منها كان لله ولي ، ولأمره مطيع ... ومَنْ تركها ورغب عنها وحادّ الله فيها أضاع نصيبه ، وعصى ربّه ، وخسر دنياه وآخرته ... والطاعة رأس هذا الأمر وذروته ، وسنامه وزمامه ، وملاكه وعصمته وقوامه بعد كلمة الإخلاص لله التي ميّز بها بين العباد ... إلى آخر ما في هذا الكتاب ممّا يجري مجرى ذلك (3) .

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ 4 / 12 أحداث سنة ستين من الهجرة عند الكلام عن معاوية بن أبي سفيان ، ذكر بعض سيرته وأخباره وقضاته وكتابه ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 4 / 245 أحداث سنة ستين من الهجرة عند الكلام عن معاوية بن أبي سفيان ، ذكر بعض أخباره وسيره .
(2) الكامل في التاريخ 3 / 449 أحداث سنة خمس وأربعين من الهجرة ، ذكر ولاية زياد بن أبيه البصرة ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 4 / 166 أحداث سنة خمس وأربعين من الهجرة ، ذكر الخبر عن ولاية زياد البصرة ، الفتوح ـ لابن أعثم 4 / 307 ذكر خطبة زياد بالبصرة ، شرح نهج البلاغة 16 / 202 .
(3) تاريخ الطبري 5 / 530 أحداث سنة 125 من الهجرة ، خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك .