غاية الأمر أنّ التعامل وتمشية الأمور يكون معه ، تبعاً للقوّة ، رضوخاً للأمر الواقع ، وانسجاماً معه في شرعية مهزوزة مادامت القوّة من دون إيمان بها في الأعماق ، فضلاً عن التقديس المفترض لمقام الخلافة والإمامة ، وكلّما زاد إجراماً وانتهاكاً للحرمات زاد بُعداً عن الحقيقة الدينية .
والحاصل : إنّه سبق أنّ الكتاب المجيد والسُنّة النبوية الشريفة قد أكّدا على وجوب معرفة الأئمّة ، وفرض طاعتهم وموالاتهم والنصيحة لهم ، ولزوم جماعتهم ، وحرمة الخروج عليهم ، وسقوط حرمة الخارج بحيث يكون باغياً يجب على المسلمين قتاله ... إلى غير ذلك ممّا يفترض أن يترتّب عليه انشداد جمهور المسلمين للخلفاء وتقديسهم لهم بحيث يكونون هم الممثلين للدين بنظرهم والقدوة التي يقتدون بها في حياتهم .
وقد حاول الأوّلون بمختلف الوسائل ، وبجهود مكثّفة استغلال ذلك كلّه لصالحهم ، ونجحوا في ذلك نسبياً ، كما يظهر ممّا سبق .
إلاّ إنّ الصراع الذي بدأه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، واستمر عليه خواص شيعته ، وتحمّلوا صنوف الأذى والتنكيل من أجله ، وختم بفاجعة الطفّ وتداعياتها ، كلّ ذلك قد جعل من واقع الخلفاء بنظر جمهور المسلمين أمراً لا ينسجم مع شيء من ذلك .
بل هم ينظرون لهم كذئاب كاسرة لا يؤمنون على دنيا ولا دين ، وأصبح تقييمهم للخليفة منوطاً بعمله وسلوكه معهم من دون صبغة دينية ترفع من شأنه ، وتجعلهم يتفاعلون معه .
اتضاح أنّ بيعة الخليفة لا تقتضي شرعية خلافته
كما إنّ البيعة للخليفة ـ حتى من الخاصة ـ لا تعني إضفاء الشرعية على
فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها
_ 369 _
خلافة الخليفة ، بل الرضوخ له والتعايش معه ، دفعاً لشرّه ، وتقيّة منه .
أوّلاً : لتبلور مفهوم التقيّة تدريجاً نتيجة إفراط الخلفاء في الظلم والجبروت والطغيان ، نظير ما تقدّم من الإمام علي بن الحسين زين العابدين (صلوات الله عليه) حول البيعة التي طلبها مسلم بن عقبة بعد واقعة الحرّة
(1) .
وثانياً : لتسافل أمر الخلافة بتسافل وسائل الوصول إليه ، وتحوّلها إلى سلطة قمع لتثبيت الطغاة .
وثالثاً : لتسافل واقع الخلفاء ، ونزولهم للحضيض ، وتوحّلهم في مستنقع الجريمة والرذيلة والخلاعة والتحلل .
ومثل هذه الخلافة لا يمكن الاقتناع بشرعيتها من كلّ مسلم مهما كان التزامه الديني وثقافته ، وإن كان يتعامل معها كأمر واقع مفروض عليه .
وإذا كان معاوية في حديثه المتقدّم
(2) مع المغيرة بن شعبة قد استصعب الولاية بالعهد ليزيد لما يعرفه من واقعه المشين ، ولبقاء شيء من الحرمة للخلافة ، فإنّ الأمر بعد ذلك لم يعد صعباً ، لسقوط حرمة الخلافة ، وتحوّلها إلى أداة قمع ووسيلة للترف والاستهتار .
اتضاح أنّ وجوب الطاعة ولزوم الجماعة لا يعني الانصياع للسلطة
وقد اضطر ذلك رجال الدين والفقهاء ـ فيما بعد ـ إلى أن يفصحوا بحرمة طاعة السلطة في معصية الله تعالى
(3) ، لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
---------------------------
(1) تقدّم في / 344 .
(2) تقدّم في / 335 .
(3) المغني ـ لابن قدامة 9 / 479 ، بدائع الصنائع 7 / 100 ، الثمر الداني / 24 ، كشاف القناع ـ للبهوتي 5 / 611 ، جواهر العقود ـ للمنهاجي الاسيوطي 2 / 280 ، فقه السنة 2 / 643 ـ 644 ، عمدة القارئ 14 / 221 ، تحفة الأحوذي 5 / 298 ، وغيرها من المصادر .
فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها
_ 370 _
كما إنّ الجماعة التي يجب لزومها ، ولا يجوز الخروج عنها ليست هي جماعة الخليفة الحاكم كما كان عليه الأمر في الصدر الأوّل ، وحاول الحكّام التشبّث به على طول الخطّ ، بل هي جماعة الحقّ أين كانوا ، وكيف كانوا .