تحقيق هدفه عن المبادئ الشريفة ، والتعاليم الدينية القويمة بأعذار ومبرّرات ما أنزل الله بها من سلطان ، فيكون قد أعطى باليمين ما أخذه باليسار .
  بل قد يزيد في الفساد ، لأنّه إذا فتحت الباب للأعذار والمبرّرات صعب غلقها أو تحجيمها وتحديدها ، وكلّما استمر الإنسان على ذلك زاد هو وكلّ مَنْ هو على خطّه جرأة على الخروج عن المبادئ الشريفة والتعاليم السامية حتى يتمحّض مشروعه في الجريمة .
  على أنّه ربما يفشل في مشروعه ، ويبقى عليه تبعة الخروج في سبيل تحقيق هدفه عن الموازين الدينية والعقلية والأخلاقية .
  مع إنّ تبرير الجريمة في نفسه من أجل الغاية من قِبَل الشخصيات ذات الوجود الاجتماعي المحترم موجب لتخفيف حدّة الجريمة في نفوس العامّة ، وضعف الرادع الوجداني عنها تدريجاً ، فيسهل ارتكابها ، وبذلك تضيع معالم الحقّ ، وهو من أعظم الجرائم في حق المجتمع .
  وما أكثر ما استغلّ المصلحيون والانتهازيون في سبيل تحقيق مصالحهم وأهدافهم الجهنمية تأجيج العواطف ضدّ الفساد ، والدعوة للإصلاح ، من أجل إغفال أتباعهم عن واقعهم المشبوه وسلوكهم المشين ، فسار الناس وراءهم متغافلين عن كلّ ما يصدر منهم ، ثمّ لم ينتبهوا إلاّ بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم .
  ونسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والسداد .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 426 _

المقام الثاني : في النتائج

  سبق أن أشرنا إلى أنّ تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في السلطة كشفت عن تعذّر إصلاح المجتمع الإسلامي بإقامة حكم يطبّق الإسلام عملياً بنحو كامل .
  لكنّ اهتمام شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) والموالين لهم في الكوفة بالإصلاح ، ومعاناتهم من الفساد ، وشعورهم بالتقصير آنفاً إزاء أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) كلّ ذلك جعلهم يستسهلون الصعاب في سبيل الإصلاح المذكور ، وأفقدهم النظرة الموضوعية في الموازنة بين قوى الخير والشرّ ، وفي التمييز بين ذوي المبادئ والتصميم حتى النفس الأخير ، وغيرهم ممّنْ ينهار إذا جدّ الجدّ وضاقت الأمور ، أو يكون انتهازياً في مواقفه من أوّل الأمر .
  وقد جعلهم ذلك يترددون على الإمامين الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في عهد معاوية يحاولون حملهما على الخروج عليه ، لكنّهما (عليهما السّلام) لم يستجيبا لهم ، لعدم تحقّق الظرف المناسب على ما يأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى .
  حتى إذا انتهى عهد معاوية تخيّلوا إمكان تحقيق حلمهم في الإصلاح ، فاندفعوا في سبيل ذلك ، وتحمّلوا مسؤولية تعهّدهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، وحملهم له على تلك النهضة المقدّسة ، وتبعات تقصيرهم في حقّه ، والعدوان الذي حصل عليه وعلى مَنْ معه .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 427 _

  وإذا كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قد استجاب لهم من أجل التضحية لصالح الدين ـ كما أوضحناه فيما سبق ـ فإنّ ذلك لم يكن هو مشروعهم الذي تحرّكوا من أجله ، بل حاولوا إقامة حكم إسلامي أصيل يطبّق الإسلام عملياً بالوجه الكامل .

كشفت فاجعة الطفّ عن تعذّر إصلاح المجتمع بالوجه الكامل

  وقد كشفت فاجعة الطفّ أخيراً عن تعذّر ذلك ، وأكّدت ما كشفت عنه تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من قبل .
  وكلّما امتدّ الزمن كان ذلك أولى بالتعذّر ، فإنّ ظرف نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يتميّز عمّا بعده من العصور بأمور :
  الأوّل : شخص الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذي هو أعرف الناس بحقيقة الإسلام ، مع مؤهلاته الشخصية الأخرى من حكمة واستقامة ، وقوّة وتصميم ، وصلابة موقف ... إلى غير ذلك .
  مضافاً إلى أنّه خامس أصحاب الكساء (عليهم السلام) ، وقد فرض احترامه على عموم المسلمين ، وهم يرونه في قرارة نفوسهم الرجل الأوّل فيهم كما سبق .
  الثاني : القرب من العهد النبوي ، حيث يوجد بقيّة من كبار الصحابة والتابعين الذين هم على علم بكثير من الحقائق قد تكون خفيت بعد ذلك .
  الثالث : التدهور السريع نتيجة الانحراف ، خصوصاً في العهد الأموي الذي تمادى فيه الانحراف لصالح مَنْ يعرف عنهم المسلمون أنّهم أعداء الإسلام ، حيث صدمهم ذلك ، وعظم وقعه عليهم .
  أمّا بعد ذلك فيهون ما استصعبوه أوّلاً ، إذ كلّما طال الزمن وتعاقبت الأجيال يخفّ وقع الانحراف والتدهور ، ويألفه المجتمع حتى يكون جزءاً من

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 428 _

  كيانهم ، ولا يستفزّهم .
  الرابع : وجود نخبة صالحة قد تعرّفت على الحقيقة الكاملة من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، وصمّمت على التضحية في سبيل هذه الحقيقة .
  ولا نعني بذلك كلّ مَنْ كتب إلى الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، أو بايع ، إذ كثير منهم انتهازيون قد قاموا بذلك لتخيّلهم نجاح الإمام (عليه السّلام) في الاستيلاء على السلطة ، وكثير منهم همج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق .
  بل نعني به مَنْ كان مصمّماً على التضحية عن جدّ وإخلاص ، وهم كثيرون نسبياً ، سواء مَنْ ضحى بالفعل ، أم مَنْ لم يضحِ ، إمّا لأنّه منع من الوصول للإمام الحسين (عليه السّلام) لسجن ، أو لقطع الطرق وجعل المراصد ـ كما أشرنا إليه في المقدّمة ـ أو لأنّ عزمه قد ضعف عندما جدّ الجدّ ، أو عندما يئس من انتصار الإمام الحسين (عليه السّلام) عسكرياً .
  ومع كلّ هذه الأمور الأربعة لم يتسنَّ للنهضة الشريفة النجاح العسكري ، بسبب غشم السلطة ، وفساد المجتمع ، وتخاذله أمام الغشم المذكور .
  كما قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في خطبته في الطريق أو حينما نزل كربلاء : (( الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون )) (1) .
  وقد تجاهلت السلطة كلّ الحواجز والمثبّطات ، وقامت بهذه الجريمة النكراء بأبعادها المتقدّمة ، وتبعها مَنْ تبعها ، وكُمّت الأفواه بين الخوف والرجاء .
  وذلك كافٍ لأن يكون عبرة ودليلاً على تعذّر الإصلاح الكامل ، إذ لا ينتظر وجود قائد أكفأ من الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، ولا وجود أُناس

---------------------------
(1) تقدّمت مصادره في / 36 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 429 _

  أصلح ممّنْ كان في عصره ، ولا تهيؤ ظرف أحسن من ظرفه بحسب الوضع الطبيعي ، بل كلّما استمر الزمن زاد الفساد وألِفه الناس .

لا ينبغي الاغترار باندفاعات الناس العاطفية

  ولا ينبغي الاغترار بمواقف الناس العاطفية حتى لو صدقت ، نتيجة اكتوائهم بآلام الفساد وتعطشهم للإصلاح ، لأنّ ذلك قصير الأمد ، ثمّ لا بدّ من التراجع نتيجة العوامل المختلفة من خوف أو رجاء ، أو ملل أو وهن أمام المتاعب والعقبات التي تقف في طريق الإصلاح ... إلى غير ذلك .
  ولو فرض تحقّق فرصة لانتصار المشروع عسكرياً في ظروف استثنائية ، فيتعذّر الاحتفاظ به مع الحفاظ على المبادئ ، بل لا بدّ إمّا من الإجهاز عليه أخيراً ـ كما حدث في تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ـ أو الانحراف به تدريجاً حتى يُمسخ ، نتيجة فساد المجتمع ، وتكالب قوى الشرّ والطغيان كما حصل في كثير من المحاولات .

ينحصر الأمر بمحاولة الإصلاح النسبي

  ومن هنا ينحصر الأمر بالإصلاح النسبي الراجع لتخفيف الفساد ، إمّا على الصعيد الفردي بالتربية الصالحة ، والموعظة الحسنة ، والتثقيف الديني السليم ، وإمّا على الصعيد الاجتماعي العام بتخفيف نسبة الفساد فيه ولو إلى أمد قصير ، فإنّ الميسور لا يُترك بالمعسور ، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه .
  نعم ، لا بدّ :
  أوّلاً : من إحراز المبرّر الشرعي للتحرّك .
  وثانياً : من الموازنة الموضوعية بين الخسائر التي تقع في طريق العمل ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 430 _

  والفوائد المترتبة عليه بحيث يكون العمل مثمراً ولازماً أو سائغاً .
  وذلك يختلف باختلاف الظروف والمقارنات ، كما تختلف فيه وفي أساليبه الأنظار والقناعات ، ولكلّ وجهة نظره ، وهو يتحمّل مسؤولية عمله من دون أن يتحمّل الإسلام سلبيات ذلك ، والحساب على الله (عزّ وجلّ) .
  وثالثاً : من الإصحار بالهدف على حقيقته ، وعدم إطلاق الدعاوى العريضة ، والمواعيد الكبيرة من أجل جمع الأعوان والتغرير بالناس ، كلّ ذلك للحفاظ على سلامة آليّة العمل كما سبق .
  وهذه الحقيقة وإن كانت مرّة إلاّ إنّها واقع قائم لا مفرّ منه ، ويجب الاعتراف به ، نتيجة النظرة الموضوعية ، ثمّ التعامل مع هذا الواقع بحكمة ورويّة ، وبعد نظر بعيداً عن النظرة العاطفية ، والمواقف الانفعالية .
  وقد سبق أنّ ذلك لم يكن يخفى على الإمامين الشهيدين أمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهما) ، وأنّهما لم يقدما على ما أقدما عليه من أجل تحقيق العدل المطلق ، وإقامة النظام الإسلامي الأكمل ، بل كان هدفهما رضى الله سبحانه وتعالى والقيام بتكليفهما .
  وقد ظهر لنا من ثمرات تحرّكهما وجهادهما كبح جماح الانحراف في الدين ، وتخفيف الفساد بظهور صوت الحقّ المنكر عليه ، وإقامة الحجّة على الحقّ ، وإسماع دعوته ، وقطع العذر على مَنْ يخرج عنه ... إلى آخر ما تقدّم .
  وإذا كان شيعة أهل البيت قبل فاجعة الطفّ لا يستوعبون هذه الحقيقة ، ولا يذعنون بتعذّر الإصلاح الكامل وتعديل مسار السلطة في الإسلام ، لقلّة تجربتهم وشدّة إنكارهم للظلم ، وعظيم ما قاسوه منه ، واغترارهم بمواقف الناس الانفعالية ، وبتعهّدهم بالانتصار للحق ، وبالثبات على ذلك .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 431 _

الموقف المسالم للسلطة من الأئمّة المتأخرين (عليهم السّلام)

  فمن القريب جدّاً أن تكون صدمتهم بفاجعة الطفّ الفظيعة ـ بأبعادها المأساوية المتقدّمة ـ وما ظهر من نقض الناس للعهود ، وتخاذلهم إذا جدّ الجدّ قد أعادت لكثير منهم رشدهم ، فأخذوا يتقبّلون من الأئمّة من ذريّة الإمام الحسين (صلوات الله عليه وعليهم) إصرارهم على الموقف المسالم للسلطة ، والرافض للخروج عليها بالسيف ، وإعلانهم (عليهم السّلام) عن أنّ قيام دولة الحقّ إنّما يكون بظهور خاتمهم القائم المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .
  حتى صار ذلك شعاراً للأئمّة (صلوات الله عليهم) ، وعرفه عنهم الجمهور ، وتميّزوا به عن غيرهم ـ من الفاطميين وغيرهم ـ ممّنْ يدعو للثورة ، والكفاح المسلّح ضدّ الظالمين ، وإقامة نظام بديل عن نظامهم .
  وقد صار ذلك سبباً لتعاطف عامّة الناس معهم (عليهم السّلام) ، وشعورهم بمظلوميتهم عند تعرّضهم لضغط السلطة وتنكيلها بعد أن لم يكونوا بصدد منافستها والخروج عليها .
  ولاسيما مع ما لهم (صلوات الله عليهم) من الكرامة والاحترام في نفوس المسلمين عامّة ، نتيجة مقامهم الرفيع في النسب والعلم والعمل .
  ولا يظهر الإنكار على الأئمّة (عليهم السّلام) من شيعتهم ، أو التململ من الموقف المذكور إلاّ بصورة فردية انفعالية يسهل عليهم (عليهم السّلام) تجاهلها أو الردّ عليها ، وإفهام مَنْ يصدر منه ذلك بخطئه ، وسوء تقديره للأمور .
  ولاسيما بعد أن تبلور مفهوم عصمة الإمام ، ووجوب التسليم له ، وقد حفظ لنا التراث الشيعي كثيراً من مفردات ذلك .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 432 _

حديث سدير الصيرفي

  وقد يحسن بنا أن نذكر هنا حديث سدير الصيرفي ، قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) ، فقلت له : والله ما يسعك القعود .
  فقال : (( ولِمَ يا سدير ؟ )) .
  قلت : لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك ، والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ما لَكَ من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم وعدي .
  فقال : (( يا سدير ، وكم عسى أن يكونوا ؟ )) .
  قلت : مئة ألف .
  قال : (( مئة ألف ؟! )) .
  قلت : نعم ، ومئتي ألف .
  قال : (( مئتي ألف ؟! )) .
  قلت : نعم ، ونصف الدنيا .
  قال : فسكت عنّي ، ثمّ قال : (( يخفُّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع ؟ )) .
  قلت : نعم .
  فأمر بحمار وبغل أن يُسرج ... فمضينا ، فحانت الصلاة ، فقال : (( يا سدير ، انزل بنا نصلّي )) ، ثمّ قال : (( هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها )) .
  فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ، نظر إلى غلام يرعى جداءً ، فقال : (( والله يا سدير ، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود )) .
  ونزلنا وصلّينا ، فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر (1) .
  ومن الطبيعي أن يكون مراده (عليه السّلام) من الشيعة هنا الخلّص ذوي الثبات والتسليم ، والتصميم على الوجه الأكمل الذين لا تزعزعهم المحن والبليات ، ولا تزيلهم الشبهات والمغريات .
  وقد يشير إلى ذلك حديث أبي مريم عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال : (( قال أبي يوماً وعنده أصحابه : مَنْ منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفّه ، فيمسكها حتى تطفُ ؟ )) .
  قال : (( فكاع الناس كلّهم ونكلوا ، فقمت وقلت : يا أبة أتأمر أن أفعل ؟ فقال : ليس إيّاك عنيت ، إنّما أنت منّي وأنا منك ، بل إيّاهم أردت [ قال : ] وكرّرها ثلاثاً ، ثمّ قال : ما أكثر الوصف ، وأقلّ الفعل ، إنّ أهل الفعل قليل ، إنّ أهل الفعل قليل ، وإنّا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً ، وما كان هذا منّا

---------------------------
(1) الكافي 2 / 242 ـ 243 ح 4 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 433 _

  تعامياً عليكم ، بل لنبلوا أخباركم ، ونكتب آثاركم )) .
  فقال : (( والله لكأنّما مادت بهم الأرض حياء ممّا قال ... فلمّا رأى ذلك منهم قال : رحمكم الله ، فما أردت إلاّ خيراً ، إنّ الجنّة درجات ، فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول ، ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم )) .
  قال : (( فوالله ، لكأنّما نشطوا من عقال )) (1) .
  وعلى ذلك يجري قوله تعالى : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أنّهم فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيت ) (2) .
  نعم ، قد تعرّض الأئمّة (صلوات الله عليهم) للإنكار عليهم ممّنْ يتبنّى خطّ الثورة من العلويين وغيرهم ، إلاّ إنّهم (عليهم السّلام) لم يكترثوا بذلك بعد رضوخ شيعتهم لهم ، وتقبّلهم لموقفهم ، ولاسيّما بعد ظهور فشل محاولات الثورة والإصلاح الكثيرة عسكرياً ، أو عملياً بانحراف الثورة حين قيامها أو بعد نجاحها .
  والحاصل : إنّ فاجعة الطفّ قد خفّفت من ضغط الدعوة للثورة على سلطان الجور عن الأئمّة (صلوات الله عليهم) ، وسهّلت عليهم إقناع شيعتهم بعدم الجدوى فيه ، وانتظار الفرج بقيام الحجّة المهدي المنتظر (صلوات الله عليه وعجّل الله فرجه) .
  وهذه فائدة مهمّة لفاجعة الطفّ حيث سهّلت على الأئمّة (عليهم السّلام) بناء الشيعة ثقافياً كما يريدون ، بعيداً عن الضجيج والعجيج ، وهي في الحقيقة من جملة الثمرات الدينية لفاجعة الطفّ تضاف لما سبق في الفصل الأوّل .

---------------------------
(1) الكافي 8 / 227 ـ 228 ح 289 .
(2) سورة النساء / 65 ـ 66 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 434 _

دعوى أنّ ذلك لا يتناسب مع قابلية الإسلام للتطبيق

  هذا وقد يدّعي المدّعي أنّ ذلك لا يتناسب مع ما نعتقده ـ نحن وعامّة المسلمين ـ من ابتناء التشريع الإسلامي على حكم الإسلام في الأرض ، وما ذلك إلاّ لقابلية نظام الإسلام للتطبيق بوجه كامل من أجل إصلاح المجتمع ، وتطهيره من الفساد ، وتعميم العدل ، فكيف يدّعى تعذّر ذلك ، خصوصاً في عصر حضور الأئمّة (صلوات الله عليهم) ؟!

دفع الدعوى المذكورة

  والجواب عن ذلك : إنّ من تتمّة نظام الإسلام العظيم أن يكون المشرف على تطبيقه بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) هم الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، المأمونين عليه نتيجة عصمتهم ، والمحكمين فيه نتيجة وجوب موالاتهم وطاعتهم ، وبذلك كمال الدين وتمام النعمة .
  ولو أنّ الصحابة الأوّلين من المهاجرين والأنصار أجمعوا على ذلك ، واتّحدت كلمتهم ، وتسلّم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) السلطة بناء على ذلك وإقراراً له لاختلف كيان الإسلام عمّا انتهى إليه بسبب الانحراف ، إذ يُقرّ قولاً وعملاً بنحو إجماعي عند المسلمين نظام الخلافة حينئذٍ على ما أراده الله تعالى من خلافة الإمام المعصوم المنصوص عليه ، بدءاً بأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، وهو الذي كان يد النبي (صلّى الله عليه وآله) الضاربة ، وسيفه الصارم في جهاده الطويل ، والمبلّغ عنه والناطق باسمه .
  والذي هو امتداد طبيعي لوجوده (صلّى الله عليه وآله) الشريف في كونه عميداً لبني هاشم ، القبيلة ذات المقام الرفيع في نفوس العرب الذي زاد فيه النبي (صلّى الله عليه وآله) أضعافاً كثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 435 _

  كما إنّه (عليه السّلام) امتداد طبيعي للنبي (صلّى الله عليه وآله) في قوّة شخصيته (عليه السّلام) وصلابته وهيمنته ، وفي علمه وعمله ، وفي مبادئه ومثاليته .
  ويترتّب على ذلك أمور في غاية الأهمية :
  الأوّل : انصياع العرب لأمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ويتجنّب المسلمون كثيراً من الحروب التي سمّيت بحروب الردّة ، أو جميعها .
  كما يناسبه قول سلمان الفارسي حينما بويع أبو بكر : أصبتم ذا السنّ منكم ، وأخطأتم أهل بيت نبيّكم ، لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان ، ولأكلتموها رغداً (1) .
  وقول أبي ذرّ : لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم اثنان (2) .
  إذ الظاهر أنّ كثيراً من تلك الحروب أو كلّها إنّما كانت من أجل تثبيت السلطة الجديدة المهزوزة دينياً ، لعدم كونها بعهد من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، واجتماعياً ، لاستهانة العرب بأبي بكر وقبيلته ، ولسقوط هيبة الإسلام باختلاف المسلمين وانشقاقهم على ما أوضحناه في جواب السؤال الرابع من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة) .
  الثاني : قطع آمال الآخرين في السلطة إلى الأبد ، ويتجنّب المسلمون الصراع عليه ، ذلك الصراع الذي فرّقهم ونخر في كيانهم ، بل دمّرهم .
  الثالث : تحجيم دور المنافقين وحديثي الإسلام في إدارة الأمور ، وفي نشر مفاهيمهم ، وقطع الطريق عليهم من أجل قضاء مآربهم الخبيثة على حساب الإسلام .
  الرابع : قوّة نفوذ السابقين من الصحابة المعروفين بقوّة الدين ، والإخلاص والأثر الحميد في الإسلام ، والتابعين لهم بإحسان من ذوي الإيمان والتقوى

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 2 / 49 ، و 6 / 43 .
(2) شرح نهج البلاغة 6 / 13 ، واللفظ له ، و 2 / 49 ، بحار الأنوار 28 / 195 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 436 _

  والالتزام العملي .
  وبذلك يتجنّب الإسلام كثيراً من السلبيات والمفارقات التي تقدّم منّا التعرّض لبعضها في حديثنا هذا .
  ومن الطبيعي حينئذ أن تسير عجلة الإسلام بتعاليمه الكاملة ومثله السامية على الطريق الواضح من دون أي انحراف أو تحوير أو وهن ، ويتجسّد بواقعه الثقافي والعملي على ما أراده الله (عزّ وجلّ) كما تضمّنت ذلك النصوص الكثيرة .
  فإذا تمّت الفتوح في عهد هذا الإسلام الأصيل وهذه القيادة الفذة ، والجماعة الصالحة ، واتّسعت رقعته ، وجاءت بسببها الغنائم والخيرات ، والعزّة والكرامة قوي هذا الإسلام وارتفع شأنه ، وتركّز في النفوس وتجذّر في أعماقها .
  وبذلك يقوم كيان الإسلام على الاستقامة والصلاح مهما اتسع وانتشر من دون أن يكون هناك ما يدعو للخروج عليه ، أو الانحراف به .

صلاح المجتمع مدعاة للتسديد والفيض الإلهي

  ولاسيما أنّ المجتمع المذكور يكون حينئذ مورداً للفيض الإلهي ، كما قال الله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) (1) ، وقال (عزّ وجلّ) : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أنّهم أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ... ) (2) .
  وقد تقدّم قريباً في كلام سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ما يناسب ذلك ، ونحوه في كلام له آخر (3) .
  وفي كلام له ثالث : لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ، ومن تحت

---------------------------
(1) سورة الأعراف / 96 .
(2) سورة المائدة / 65 ـ 66 .
(3) المصنّف ـ لابن أبي شيبة 8 / 586 كتاب المغازي ، ما جاء في خلافة علي بن أبي طالب (ع) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 437 _

  أرجلهم (1) .
  وفي كلام أبي ذرّ : أما لو قدّمتم مَنْ قدّم الله ، وأخّرتم مَنْ أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ، ومن تحت أقدامكم (2) .
  ومن الظاهر أنّ الفيض الإلهي المذكور يقلل من فرص الخلاف والشقاق ، ومن الخروج على السلطة الشرعية ، لفقد المبرّر له ، ورفض المسلمين لذلك حينئذٍ .
  بل قد ورد في كلام غير واحد من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ووجوه الصحابة القطع بعدم تحقّق الخلاف والشقاق حينئذٍ ، كما يناسبه ما سبق في كلامي سلمان وأبي ذرّ .
  وقالت الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) في خطبتها الكبرى : (( فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ... وطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً للفرقة )) (3) .
  وقال عبد الله بن جعفر في حديث له مع معاوية : فإنّ هذه الخلافة إن أُخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أُخذ فيها بسُنّة رسول الله فأولوا رسول الله ... وأيم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر في موضعه ، لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان (4) ... إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ الأُمّة لو لم تنحرف من أوّل الأمر لاستمرت في استقامتها وتماسكها .

---------------------------
(1) أنساب الأشراف 2 / 274 أمر السقيفة .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 171 أيام عثمان .
(3) راجع ملحق رقم (1) .
(4) الإمامة والسياسة 1 / 140 ما تكلم به عبد الله بن جعفر ، جمهرة خطب العرب 2 / 247 الباب الثالث ، الخطب والوصايا في العصر الأموي ، خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها ، خطبة عبد الله بن جعفر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 438 _

  ولو فرض أن سوّلت بعض النفوس لأصحابها بذلك كان خارجاً عن جماعة المسلمين محارباً من قبلهم ، لا مجال لتبرير موقفه بعد اتفاقهم على وجوب طاعة الإمام وعصمته اللذين لا مجال معهما للاجتهاد والاختلاف .
  ولاسيما بعد إدراكهم خير ذلك وبركته بنحو يقتضي تجذّر الاستقامة والانقياد للحق في نفوسهم ، والاهتمام بالحفاظ عليه ، والدفاع عنه .

إنّما يتعذّر الإصلاح الكامل بعد حصول الانحراف

  وإنّما قلنا آنفاً بتعذّر الإصلاح التام وتطبيق حكم الإسلام كاملاً من أجل الواقع الذي حصل حيث انحرفت من اليوم الأوّل مسيرة السلطة في الإسلام ، فترتّب على ذلك التلاعب في الدين ، وإبعاد المخلصين ، ونفوذ المنافقين ، واختلاف الأُمّة وانشقاقها على نفسها ، وطمع في السلطة مَنْ ليس أهلاً له من دون ضابط ولا وازعٍ حتى انتهى الأمر إلى أعداء الإسلام والمسلمين ، والموتورين منه ومنهم .
  ثمّ ظهرت الفرق في الأُمّة ، وانشقّت على نفسها ، وصار لكلّ فرقة دينها الذي تختص به ، ومقاييسها التي تجري عليها ، وتجذّر في أعماقها بحيث يصعب التحرّر منها ، والفحص عن الحقّ بموضوعية خالصة .
  وفتح باب الاجتهاد والتشبّث بالمبرّرات للخروج عن النصّ ، ومرضت النفوس ، وتعوّدت على اللف والدوران ، والبغي والعدوان ، وظهرت كوامن النفوس الشريرة ، وشيب الحقّ بالباطل .

زيادة الأمر تعقّداً في عصر الغيبة

  ويزيد الأمر تعقّداً في عصر الغيبة ، حيث لا معصوم ناطق يرعى بالمباشرة

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 439 _

  الدين والدولة ، وغاية ما نملك مجتهدون معرّضون للخطأ ، وهم يختلفون في معرفة الحكم الشرعي وتحديده ، وفي الطريق الأمثل لتطبيقه نسبياً ، ولا يملك أي منهم القدرة على إقناع الآخرين بما أدّى إليه اجتهاده ، وليس له الحقّ في فرض قناعته على غيره .
  مضافاً إلى ما أفرزته التداعيات السابقة من نظريات مناهضة للدين يروّج لها الأعداء والنفعيون ، وعقبات وألغام يزرعونها في طريق العاملين المخلصين الثابتين الذين هم أقلّ القليل .
  ويدعمها في ذلك قوى هائلة ظاهرة وخفية تحاول أن تمسك بزمام الأمور ، لا يهمّها تدمير المجتمع الإنساني في سبيل مصالحها الخاصة ، ومن أجل تنفيذ مخططاتها الجهنّمية .
  وكلّما امتدّ الزمن بالمجتمع الإنساني المريض زادت الأوضاع سوءاً والأمور تعقّداً ، وتضاعفت المشاكل والسلبيات ، إلاّ إن تتدخل العناية الإلهية بنحو خاص ، ولا مفرّج إلاّ الله (عزّ وجلّ) وإليه يرجع الأمر كلّه .

لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور

  نعم ، لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور ، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه ، ولكلّ وجهة نظره ، والله سبحانه وتعالى من وراء القصد ، ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (1) .
  وعلى كلّ حال فذلك كلّه ليس لقصور في النظام الإسلامي الرفيع ، ولا في التشريع الإلهي القويم ، بل لتقصير الأُمّة في واجبها من اليوم الأوّل حيث فسحت المجال للانحراف ، وغضّت الطرف عنه ، ولم تقم بواجبها في إنكار

---------------------------
(1) سورة العنكبوت / 69 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 440 _

  المنكر والاستجابة للإمام المعصوم (صلوات الله عليه) من أجل تعديل المسار وإصلاح الأوضاع .
  فتبوء هي بذنبها ، وتتحمّل مسؤولية عملها من دون أن يتحمّل الإسلام ولا رموزه العظام شيئاً من ذلك ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
  ونسأله (عزّ وجلّ) التسديد والتوفيق ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونعتصم به من الشيطان الرجيم ، ومن مضلات الفتن ، إنّه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 441 _

المقصد الثالث : في توقيت فاجعة الطف

ّ   من الظاهر أنّ الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) بأجمعهم يشتركون في مسؤولية رعاية الدين والجهاد في سبيل صلاحه وحمايته ، وظهور دعوته وحجّته ، ولا يختص الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بذلك .
  فلا بدّ أن يكون انفراده من بينهم بنهضته التي انتهت بفاجعة الطفّ لاختصاصه (عليه السّلام) بظروف ، ودواعي ألزمته بذلك لم تتحقّق لهم (عليهم السّلام) ، لظهور أنّ عصمتهم بأجمعهم (صلوات الله عليهم) تستلزم قيام كلّ منهم بوظيفته المناسبة لظروفه التي يعيشها ، وتكليفه الذي يختص به .
  وقد أكّدت النصوص الشريفة الواردة عنهم (عليهم السّلام) على أنّ كلاً منهم إنّما يقوم بوظيفته المعهودة له من قبل الله تعالى ، وقد سبق ذكر بعضها في مقدّمة هذا الكتاب ، والله سبحانه وتعالى هو العالم بما يقتضيه كلّ ظرف وزمان .
  وهذا على الإجمال أمر لا إشكال فيه ، وإنّما نحاول هنا التعرّف على ما امتازت به ظروف نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ـ بحيث لزمه النهوض ولم يسعه القعود ـ حسبما يتيسّر لنا ، ونرجو أن نوفّق في ذلك ، فنقول : بالتأمّل فيما ذكرناه في المقصدين السابقين يتّضح كثير من وجوه الفرق بين ظروفه وظروف بقيّة الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين) ، إلاّ إنّه يحسن بنا

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 442 _

  هنا التعرّض بتفصيل لما ندركه في وجه اختلاف مواقفهم .
  والكلام :
  تارة : في أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) .
  وأُخرى : في الإمام الحسن السبط (صلوات الله عليه) .
  وثالثة : في الأئمّة من ذرية الحسين (عليهم السّلام) ، وذلك في فصول ثلاثة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 443 _

الفصل الأوّل : في موقف أمير المؤمنين (عليه السّلام)

  بعد خروج السلطة عن موضعها الذي وضعها الله تعالى فيه ، وانحراف مسيرة نظام الحكم الإسلامي ، فأمير المؤمنين (ع) ـ فيما يبدو ـ كان معنيّاً بأمرين لهما أهمية كبرى في الحفاظ على دعوة الإسلام الحقّ ، وبقائها للأجيال ، وتبليغهم بها .

اهتمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بحفظ كيان الإسلام العام

  الأوّل : حفظ كيان الإسلام العام الذي بذل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والمناصحون من أصحابه جهوداً جبّارة من أجله ، لتبقى دعوة الإسلام الشاملة بين مجموعة كبيرة من الناس ذات قوّة وعدد بحيث تسعى لنشره والدفاع عنه ، ولو من أجل مصالحها وامتيازاتها ، وقد ورد أنّ الله (عزّ وجلّ) ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (1) .
  كلّ ذلك من أجل أن يتسنّى للأمم البعيدة سماع دعوته ، والتعرّف عليه ،

---------------------------
(1) تهذيب الأحكام 6 / 134 ، مستدرك الوسائل 11 / 15 ، صحيح ابن حبان 10 / 376 كتاب السير ، ذكر البيان بأن الأمراء وإن كان فيهم ما لا يحمد فإنّ الدين قد يؤيد بهم ، السنن الكبرى ـ للنسائي 5 / 279 كتاب السير ، إنّ الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر ، مسند أحمد 5 / 45 حديث أبي بكرة ، مجمع الزوائد 5 / 302 كتاب الخلافة ، باب فيمَنْ يؤيد بهم الإسلام من الأشرار ، المعجم الأوسط 2 / 269 ، و 3 / 142 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 444 _

  والنظر فيه ، والاهتداء به ، برغم السلبيات التي يفرزها الانحراف ، ليكون الدخول في الإسلام ـ بكيانه العام ـ مفتاحاً لمعرفة الإسلام الأصيل ، والمذهب الحقّ بعد الاطلاع على اختلاف المسلمين ، والاستئناس بتعاليمهم وأدلتهم .
  أمّا مع انهيار كيان الإسلام العام ـ بالردّة العامّة ونحوها ـ فلا يتيسّر لتلك الأمم الاطلاع على الدين الحقّ ، والفرقة الناجية حتى لو بقيت الثلّة الصالحة من حملته ، لقلتهم وعجزهم عن اكتساح القوى الهائلة المناهضة للإسلام ، والاصطدام به ، والانتشار في فجاج الأرض .

اهتمامه (عليه السّلام) بالحفاظ على حياته وحياة الثلّة الصالحة

  الثاني : الحفاظ على حياته (صلوات الله عليه) وحياة الثلّة الصالحة من شيعته ، ممّنْ آمن بالإسلام الحقّ بإخلاص وتفهم ، واستعداد للتضحية من أجل أن يحمل هو (عليه السّلام) وهذه الثلّة الإسلام الحقّ من دون تحريف وتشويه ، ليتسنّى لهم ـ في الوقت المناسب ـ تعريف عامّة المسلمين به ، سواء مَنْ كان منهم مسلماً عند انتقال النبي (صلّى الله عليه وآله) للرفيق الأعلى ، أم مَنْ يدخل بعد ذلك في الإسلام ، ثمّ تهيئة ثلّة تحمل دعوة الإسلام الحقّ ، لتبشّر به وتهيئ الحَمَلة له ، وهكذا ما بقيت الدنيا .
  لتبقى هذه الدعوة مسموعة في الأرض ، ولا يُقضى عليها بالقضاء على حملتها في مبدأ الانحراف والانشقاق ، كي لا ينفرد الإسلام المشوّه بالساحة ، وقد تعرّضنا لذلك بشيء من التوضيح في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة) .
  وبذلك يظهر أنّه لا مجال لقيام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بتضحية شبيهة بتضحية الإمام الحسين (عليه السّلام) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 445 _

الصراع الحاد بين الصدر الأوّل يعرّض الكيان الإسلامي للانهيار

  أوّلاً : لأنّ الصراع الحاد بعد ارتحال النبي (صلّى الله عليه وآله) للرفيق الأعلى يعرّض الكيان الإسلامي العام للوهن والتفكّك ، أو الانهيار بردّة ونحوه ، لأنّ الناس حديثو عهد بالإسلام ، ولم يتركز بَعْدُ في نفوسهم .
  قال أنس بن مالك : وما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى أنكرنا قلوبنا (1) .
  وقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خطبة له عند مسيره إلى البصرة : (( إنّ الله لمّا قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ، فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلّ خلف ... )) (2) .
  وقد تكرّر من أمير المؤمنين وبقية الأئمّة (صلوات الله عليهم) بيان هذه المضامين ونحوها .

قوّة الكيان الإسلامي العام في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

  ولا يُقاس ذلك بعصر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ؛ حيث ضرب

---------------------------
(1) مسند أبي يعلى 6 / 110 فيما رواه عاصم عن أنس ، واللفظ له ، مسند أحمد 3 / 221 ، 268 مسند أنس ، سنن ابن ماجة 1 / 522 كتاب الجنائز ، باب ذكر وفاته ودفنه (صلّى الله عليه وآله) ، سنن الترمذي 5 / 249 أبواب المناقب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في باب لم يسمه قبل باب ما جاء في ميلاد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، صحيح ابن حبان 14 / 601 كتاب التاريخ ، باب وفاته (صلّى الله عليه وسلم) ، ذكر إنكار الصحابة قلوبهم عند دفن صفي الله (صلّى الله عليه وآله) ، الاستذكار ـ لابن عبد البر 3 / 80 ، التمهيد ـ لابن عبد البر 19 / 323 ، و ج 23 / 394 ، تفسير القرطبي 4 / 225 ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 308 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 446 _

  الإسلام بجرانه ، وانتشر في الأرض ، وعمّت دعوته ، وتركّز في النفوس ، نتيجة المكاسب المادية والمعنوية التي حقّقها لأتباعه ، ويأتي في كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ما يناسب ذلك .
  كما إنّ قيام دولة قاهرة واسعة الرقعة باسم الإسلام من أهم العوامل الحافظة لدعوته ، لاهتمام ذوي المطامع في السلطة والنفوذ بالحفاظ على هذه الدعوة من أجل استغلالها لنيل مطامعهم .

الصراع الحاد يعرّض الخاصة للخطر

  وثانياً : لأنّ الصراع الحاد يعرّض أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) والثلّة الصالحة الثابتة على الحقّ من أصحابه للخطر .
  وبالقضاء عليهم لا يبقى ناطق بدعوة الحقّ يُسمعها للناس بعد انتشار الإسلام في الأرض ، وينفرد الإسلام الحاكم في الساحة من دون معارضة تقف في وجهه ، وتحدّ من نشاطه في التثقيف والتحريف .
  مع إنّه لا أثر للتضحية من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وخاصة أصحابه ، لعدم تركز مفاهيم الإسلام ، وعدم ظهور مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) ولا ظلامتهم بعد ، بل لا يخرج الصراع بنظر عموم الناس عن كونه صراعاً على السلطة ، غلب فيه مَنْ غلب ، وخسر مَنْ خسر .

تركّز دعوة التشيّع في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

  وهذا بخلاف عصر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، لظهور مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) ورفعة شأنهم ، ووضوح ظلامتهم ، نتيجة الجهود المكثّفة السابقة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 447 _

  كما تجلّت في هذه المدّة معالم دعوة التشيّع وتركّزت ، وحصلت على أُمّة كبيرة تتفهّمه ، وترجع في دينها لبقية الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، بل سبق أنّ فاجعة الطفّ قد رفعت من شأن هذه الدعوة الشريفة ، وصارت سبباً في قوّتها وفاعليتها وانتشارها ، وتعاطف الناس معها ، بل هي نقطة تحوّل فيها .

حاول أمير المؤمنين (عليه السّلام) تعديل مسار السلطة لكنّه فقد الناصر

  نعم ، حاول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أن ينهض في وجه الانحراف ، لا من أجل محض التضحية كما فعل الإمام الحسين (عليه السّلام) ، بل من أجل تعديل مسيرة الإسلام في أوّل الأمر على أن يكسب لجانبه جماعة صالحة تكون ركيزة لدعوة الحقّ ، ويقوم بها كيان الإسلام ، ترهب المنحرفين أو ترغمهم ، فيفيئوا إليه ، ويرجعوا للطريق المستقيم .
  لكنّه (عليه السّلام) لم يجد من الأنصار ما يكفي لذلك كما تضمّنه تراث المسلمين ، وذكرنا طرفاً منه في جواب السؤال الثالث من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة) .
  فاضطر للسكوت والصبر ، والحفاظ على نفسه الشريفة ، وعلى الثلّة الصالحة ممّنْ ثبت معه أو رجع إليه بعد ذلك ، بانتظار الفرصة المناسبة ؛ ليؤدّوا دورهم في كبح جماح الانحراف ، بإظهار دعوة الحقّ ، وتنبيه الأُمّة من غفلتها .

دعوى أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) فرّط ولم يستبق الأحداث

  هذا وقد يُقال : إنّ الانحراف إنّما حصل لأنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لم يستعمل الحزم ، ولم يستبق الأحداث ، وانشغل بتجهيز النبي (صلّى الله عليه وآله) حتى

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 448 _

  تمّ للآخرين ما أرادوا .
  وهو (عليه السّلام) وإن حافظ بذلك على مبدئيته ومثاليته بنحو يدعو للإعجاب والإكبار :
  أوّلاً : في احترام النبي (صلّى الله عليه وآله) ، كما قال (صلوات الله عليه) : (( أفكنت أدع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟! )) (1) .
  وثانياً : في نظرته للخلافة والسلطة حيث لم يجعلها مغنماً يتسابق إليه ، بل هي حق يجب على المسلمين تسليمه له (عليه السّلام) ، ويحرم عليهم منازعته فيها .
  إلاّ إنّه (صلوات الله عليه) فرّط بذلك في حق الإسلام حيث فسح للمنحرفين المجال للتحكم فيه بنحو لا يمكن تداركه ، وتجنّب ذلك أهم من الحفاظ على المثالية من الجهتين المتقدّمتين .

الجواب عن الدعوى المذكورة

  والجواب عن ذلك : إنّه قد ورد بطرق مختلفة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد عهد إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في هذا الأمر ، فلم يتجاوز عهده .
  وعنه (صلوات الله عليه) أنّه قال : (( قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك ، وإلاّ فألصق كلكلك بالأرض ، فلمّا تفرّقوا عنّي جررت على المكروه ذيلي ، وأغضيت على القذى جفني ، وألصقت بالأرض كلكلي )) (2) .
  وفي كلام للفضل بن العباس : وإنّا لنعلم أنّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه (3) ... إلى غير ذلك (4) .

---------------------------
(1) الإمامة والسياسة 1 / 16 إباية علي (ع) بيعة أبي بكر .
(2) شرح نهج البلاغة 20 / 326 .
(3) شرح نهج البلاغة 6 / 21 ، الموفقيات / 580 ح 380 .
(4) راجع الأمالي ـ للمفيد / 223 ـ 224 ، والأمالي ـ للطوسي / 9 ، وخصائص الأئمّة / 72 ـ 75 ، والاحتجاج 1 / 280 ـ 281 ، 291 ، وكشف الغمة 2 / 4 ، وبحار الأنوار 29 / 582 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 449 _

  ولعلّ الوجه في ذلك أحد أمرين ، أو كلاهما :
  الأوّل : إنّ دعوة الإسلام الرفيعة في بدء ظهورها لم تتركّز ولم تأخذ موقعها المناسب في النفوس كعقيدة مقدّسة ، فإذا ظهر من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ـ الذي هو يمثل النبي (صلّى الله عليه وآله) في موقعه ـ الاهتمام بالسلطة والمغالبة عليه ، وترك النبي (صلّى الله عليه وآله) جثّة لم يجهّز من أجل تحصيله كان ذلك وهناً على هذه الدعوة الشريفة يزعزع جانب القدسية والمبدئية فيه ، ويضعف موقعها العقائدي في النفوس ، وذلك من أعظم المخاطر عليه .
  الثاني : إنّ الله (عزّ وجلّ) يعلم أنّ الأمر لا يتمّ له (عليه السّلام) لو سابَق الأحداث ، وسارع بأخذ البيعة ممّنْ يستجيب له ، لإصرار الحزب القرشي على صرف الخلافة عن أهل البيت عموماً ، وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) خصوصاً ، إصراراً لا يقف عند حدّ دون تحقيق مشروعهم ، ولفقد أمير المؤمنين (عليه السّلام) العدد الكافي من الأنصار من ذوي الثبات والإصرار على الحقّ ، ليتسنّى له الوقوف أمام إصرارهم .
  فتمسّكه (صلوات الله عليه) بحقّه ، وسَبقه إليه بأخذ البيعة ممّنْ هو مقتنع به يستلزم نفس المحذور الذي يلزم من إصراره (صلوات الله عليه) على استرجاع حقه بعد أن سبقوه له ، وهو انشقاق المهاجرين والأنصار على أنفسهم ، الموجب لوهن كيان الإسلام في بدء قيامه بنحو قد يؤدّي إلى الردّة العامّة أو نحوها ، لعدم استحكام الدين في النفوس .
  والبقيّة الصالحة التي تثبت على الدين لو سَلِمت بعد الانشقاق والصراع فهي من القلّة والضعف بحيث لا تقوى على تشييد كيان الإسلام الحقّ والحفاظ

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 450 _

  عليه ، ثمّ حمله للأجيال ، وتبليغهم به .
  بل قد يُقضى على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وعلى البقية الصالحة من الصحابة ، نتيجة الصراع والإصرار المذكورين ، فتضيع معالم الحقّ ، ولا يبقى مَنْ يبلغ الأجيال بالدعوة على صفائها ونقائها ، وينفرد المنحرفون أو المرتدّون بالساحة .
  أمّا تراجع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن الخلافة بعد أن يبايَع ، وتسليمها لجماعة الحزب القرشي إذا رأى منهم الإصرار ، تجنّباً لمخاطر الصراع ، فهو أوهن عليه ، وأضعف لموقفه من التريّث في الأمر حتى يسابقوه كما حصل ، ولاسيما أنّه قد يضفي شرعية على إصرارهم واسترجاعهم للسلطة .
  على أنّ ذلك قد يزيد في مخاوفهم من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، فيقضون عليه كما قُضي أخيراً على مرشّح الأنصار سعد بن عبادة .
  وقد ورد أنّهم قد حاولوا قتله (عليه السّلام) مع إنّه لم يسابقهم ، بل لمجرّد كونه صاحب الحقّ شرعاً ، وقد تلكأ في بيعة أبي بكر كما تعرّضنا لذلك في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة) ، فكيف يكون الحال لو سابقهم واستولى على الخلافة ، ثمّ استرجعت منه قسراً عليه ؟!

حديث لأمير المؤمنين (عليه السّلام) في تقييم الأوضاع

  ويناسب ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، فقد قال له قائل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت لو كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ترك ولداً ذكراً قد بلغ مبلغ الحلم ، وأنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلّم إليه أمره ؟
  قال (عليه السّلام) : (( لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ، إنّ العرب كرهت أمر محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفّرت به ناقته ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 451 _

  مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت منذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته .
  ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة ، وسلماً إلى العزّ والإمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدّت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً ، وبازلها بكراً .
  ثمّ فتح الله عليها الفتوح ؛ فأثرت بعد الفاقة ، وتموّلت بعد الجهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمج ... )) (1) إلى آخر ما تقدّم عنه (عليه السّلام) في أوائل الفصل الأوّل من المقصد الثاني .
  والحاصل : إنّ ملاحظة وضع المسلمين عند ارتحال النبي (صلّى الله عليه وآله) للرفيق الأعلى ، وما تتابع من أحداث مأساوية يشهد بوهنهم وضعفهم عن الحفاظ على استقامة مسيرة الإسلام أمام ضغط الحزب القرشي ومؤامراته ، إمّا خوفاً منه ، أو لعدم تركّز الدين في نفوسهم بحيث ابتلوا بالتواكل والتخاذل واللامبالاة ، ولله أمر هو بالغه .
  فكان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مضطراً للتعامل معهم بالوجه الذي حصل ، والاكتفاء بالحفاظ على ما يمكن أن يكبح به جماح الانحراف في الوقت المناسب في صراع مرير طويل قدّره الله سبحانه وتعالى لهذه الأُمّة .
  والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، وله الأمر من قبل ومن بعد ، وإليه يرجع الأمر كلّه .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 20 / 298 ـ 299 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 453 _

الفصل الثاني : في موقف الإمام الحسن (عليه السّلام)

  إذا كان الإسلام بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) في مهبّ الرياح ، لعدم استحكامه في نفوس كثير من معتنقيه ، لقرب عهدهم بالجاهلية بحيث يخشى من أن يؤدّي ظهور الخلاف والشقاق بين المسلمين إلى انهيار الكيان الإسلامي بردّة ونحوها ـ كما سبق ـ ، فلا مجال لذلك في عهد الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ، حيث قد ضرب الإسلام بجرانه ، واتسعت رقعته ، وتعاقبت الأجيال عليه ، وتدفّقت الخيرات على المسلمين بسبب الفتوح الكبرى ، فهم بين مَنْ يتمسّك به ويدعو له كعقيدة راسخة ـ عن بصيرة كاملة ، أو عن تأثّر بالمجتمع ـ ، ومَنْ يتمسّك به ويدعو له لمصالحه الشخصية من مال أو جاه ، أو نفوذ أو سلطان .
  ومن ثمّ فالظاهر أنّ موقف الإمام الحسن (صلوات الله عليه) لم يكن ناشئاً من الحذر على كيان الإسلام العام ، كما كان هو الحال في موقف أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بعد رحيل النبي (صلّى الله عليه وآله) للرفيق الأعلى .
  ولا بدّ أن يستند موقف الإمام الحسن (عليه السّلام) لوجوه أُخر يحسن بنا التعرّض لما يتيسّر لنا إدراكه منه .
  والكلام تارة : في صلحه (صلوات الله عليه) مع معاوية .
  وأُخرى : في صبره وعدم تغييره بعد ظهور الغدر من معاوية ، ونقضه للعهد ، وانتهاك الحرمات العظام ، فالكلام في مقامين :