إلى مصرع الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا في كربلاء ينوحون على الإمام الحسين (عليه السّلام) (1) .
  كما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه جاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وقام بالزيارة بآدابها على نحو ما ورد عن أهل البيت (عليهم السّلام) في مراسيم زيارته (صلوات الله عليه) (2) ، وأنّه أوّل مَنْ زار الإمام الحسين (عليه السّلام) (3) .
  وعن نوادر علي بن أسباط عن غير واحد قال : لمّا بلغ أهل البلدان ما كان من أبي عبد الله (عليه السّلام) قدمت لزيارته مئة ألف امرأة ممّنْ كانت لا تلد ، فولدنَ كلّهنّ (4) .

تحقيق الوعد الإلهي ببقاء قبره الشريف علماً للمؤمنين

  وكأنّ ذلك تحقيق للوعد الإلهي الذي تضمّنته النصوص الكثيرة ، ومنها ما عن عقيلة بني هاشم زينب الكبرى (عليها السّلام) ، بنت الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حين مرّوا بهم على الإمام الحسين وأهل بيته وصحبه (صلوات الله عليهم) وهم مضرّجون بدمائهم ، مرمّلون بالعراء ، فضاق صدر الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ممّا رأى ، فأخذت تسلّيه ، وقالت له : لا يجزعنّك ما ترى ، فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى جدّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ

---------------------------
(1) اللهوف في قتلى الطفوف / 114 ، بحار الأنوار 45 / 146 .
(2) بحار الأنوار 65 / 130 ـ 131 ، بشارة المصطفى / 125 ـ 126 ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي 2 / 167 ـ 168 .
(3) مصباح المتهجد / 787 ، مسار الشيعة / 46 .
(4) بحار الأنوار 45 / 200 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 483 _

  الله ميثاق أناس من هذه الأُمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأُمّة ، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرّجة ، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يُدرس أثره ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً ، وأمره إلاّ علّواً .
  ولمّا سألها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عمّا تعرفه من هذا العهد المعهود حدّثته بحديث أُمّ أيمن الطويل ، وفيه يقول جبرئيل (عليه السّلام) للنبي (صلّى الله عليه وآله) : (( ثمّ يبعث الله قوماً من أُمّتك لا يعرفهم الكفّار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة ، فيوارون أجسامهم ، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء ، يكون علماً لأهل الحقّ ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ... وسيجدّ أُناس حقّت عليهم من الله اللعنة والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً )) (1) .
  وعلى كلّ حال فقد استمر شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) على ذلك حتى صار في فترة قصيرة شعاراً لهم معروفاً عنهم يمتازون به عن غيرهم .

تجديد الذكرى بمرور السُنّة

  ثانيهما : تجديد الذكرى بتعاقب السنين بحيث يكون وقت الفاجعة من السنة موسماً سنوياً يتجدّد فيه الأسى والحسرة ، ومظاهر الحزن ونحو ذلك ممّا يناسب الذكرى الأليمة .
  فقد ورد عنهم (عليهم السّلام) التأكيد على اتخاذ يوم عاشوراء يوم مصيبة وحزن وبكاء ، مع التعطيل فيه ، وعدم السعي لما يتعلّق بأمر الدنيا .

---------------------------
(1) راجع ملحق رقم (6) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 484 _

  ففي حديث إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا (عليه السّلام) : (( إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال ، فاستُحلت فيه دماؤنا ، وهُتكت فيه حرمتنا ، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأُضرمت النيران في مضاربنا ، وانتُهب ما فيها من ثقلنا ، ولم تُرعَ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمة في أمرنا .
  إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإنّ البكاء يحطّ من الذنوب العظام )) .
  ثمّ قال (عليه السّلام) : (( كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلوات الله عليه )) (1) .
  وفي حديث الحسن بن علي بن فضال عنه (عليه السّلام) قال : (( مَنْ ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ، ومَنْ كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله (عزّ وجلّ) يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه .
  ومَنْ سمّى يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادّخر ، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد (لعنهم الله) إلى أسفل درك من النار )) (2) ... إلى غير ذلك ممّا ورد عنهم (صلوات الله عليهم) .
  وذلك لم يكن معروفاً قبل حادثة الطفّ إلاّ ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه

---------------------------
(1) الأمالي ـ للصدوق / 190 ، واللفظ له ، إقبال الأعمال 3 / 28 ، بحار الأنوار 44 / 283 ـ 284 .
(2) الأمالي ـ للصدوق / 191 ، بحار الأنوار 44 / 284 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 485 _

  أفضل الصلاة والسّلام) في ذكرى يوم الغدير (1) ، لكنّه لم يأخذ موقعه المناسب عند الشيعة بسبب الانتكاسة والمحن التي مُني بها التشيّع بقتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) حتى جدّده الأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم) مذ قام للشيعة كيان ظاهر بعد فاجعة الطفّ ، وتوجّهوا (عليهم السّلام) لتثقيف شيعتهم ونظم أمرهم .
  وقد فتح ذلك الباب لتجديد الذكرى السنوية في جميع المناسبات المتعلّقة بالدين والمذهب في الأحزان والأفراح .

شدّ الشيعة نحو الإمام الحسين (عليه السّلام) بمختلف الوجوه

  كما حاول الأئمّة (صلوات الله عليهم) تذكير الشيعة بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) وشدّهم نحوه بمختلف الوجوه .
  منها : تأكيدهم (عليهم السّلام) على تميّز تربته الشريفة بالسجود عليه ، والتسبيح بها ، ووضعها مع الميت في قبره ، وغير ذلك من وجوه التبرّك والتكريم .
  ومن أهمّها الاستشفاء بها ، لما له من الآثار التي يدركها الناس باستمرار ، ويرونها عياناً في وقائع كثيرة تفوق حدّ الإحصاء (2) .
  ومنها : تنبيههم إلى كرامة مشهده الشريف وتميّزه باستجابة الدعاء فيه ، وتخيير المسافر في صلاته بين القصر والتمام ، كمكّة المعظمّة والمدينة المنوّرة والكوفة ، أو خصوص مسجده ، فهو رابع المواضع المتميّزة بذلك ، لكرامتها

---------------------------
(1) مصباح المتهجد / 754 ـ 755 .
(2) قال جعفر الخلدي : كان بي جرب عظيم ، فتمسّحت بتراب قبر الحسين فغفوت فانتبهت وليس عليّ منه شيء ، المنتظم 5 / 346 ـ 347 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) ، واللفظ له ، بغية الطلب في تاريخ حلب 6 / 2657 في ترجمة الحسين بن علي بن عبد مناف أبي طالب ، الأمالي ـ للشجري 1 / 165 الحديث الثامن ، في فضل الحسين بن علي (عليهم السّلام) وذكر مصرعه وسائر أخباره وما يتصل بذلك .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 486 _

  عند الله تعالى .
  ومنها : تنبيههم إلى ظلامته (عليه السّلام) في منع ماء الفرات عنه حتى اشتدّ العطش به وبأطفاله وعائلته وبجميع مَنْ معه ، ثمّ الحثّ على ذكره عند شرب الماء ، والسّلام عليه ولعن قاتليه ... إلى غير ذلك .
  وعلى كلّ حال فقد تحوّلت هذه الأمور من ممارسات عابرة إلى شعارات صارخة يتميّز بها الشيعة عن غيرهم ، وكان ثمرتها توحيد جماعتهم وتثبيت هويتهم ، وتأكيد ولائهم لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وتمسّكهم بخطّهم ، والبراءة من أعدائهم وظالميهم ، على ما سبق عند الكلام فيما كسبه التشيّع من فاجعة الطفّ .

المدّ الإلهي والكرامات الباهرة

  ويشدّ من عزمهم على ذلك كلّه الآيات الظاهرة ، والكرامات الباهرة ، والمعاجز الخارقة التي تضمّنها تراث الشيعة الرفيع ، ولازالوا يرونها بأعينهم ، ويعيشونها في واقعهم على امتداد الزمن ، وقد بلغت من الكثرة والظهور بحيث أقرّ بها غيرهم قولاً وعملاً .

الحكمة في التأكيد المذكور

  وقد يخفى وجه الحكمة في ذلك على فريق من الناس ، ويرون أو يقولون : إنّ الهدف السامي لنهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي انتهت بفاجعة الطفّ هو إصلاح المجتمع وتوجيهه نحو المبادئ السامية التي نهض الإمام الحسين (عليه السّلام) من أجلها ، فاللازم الاهتمام بذلك ، أمّا هذه الممارسات فهي لا تزيد عن أن تكون تقاليد وعادات ، لا أهميّة لها في تحقيق الهدف المذكور ، ولا تستحق

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 487 _

  هدر هذه الطاقات الهائلة من أجله .
  وقد سبق أن رفع شعار يقول : إنّ الحسين قُتل من أجل العِبرة ، لا من أجل العَبرة ، كما قد يُقال : إنّه (عليه السّلام) قُتل من أجل الإصلاح ، لا من أجل البكاء والضجيج والنياح .
  لكنّ ملاحظة وضع الناس في تعاملهم مع الأمر الواقع وتعايشهم معه ، وخفّة وقع الأحداث في أنفسهم بمرور الزمن تشهد بأنّه لولا إصرار الشيعة على إحياء فاجعة الطفّ ، وإبراز الجوانب العاطفية فيها التي تحمل على البكاء وتستدرّ الدمعة ، وتثير العجيج والضجيج ، لخفّ وقع الفاجعة بمرور الزمن ، ولنسيها الناس كما نسوا كثيراً من الأحداث المهمّة ، نتيجة طول المدّة .
  وحينئذ لا يتسنّى الاستفادة من الفاجعة في استحصال العِبر ، وإصلاح المجتمع وتنفيره من الظلم والظالمين ، وتذكيره بالمبادئ السامية التي نهض الإمام الحسين (عليه السّلام) من أجلها ، وضحّى هو وجميع أهل البيت (صلوات الله عليهم) في سبيلها ، ولضاعت علينا الثمرات الكثيرة التي لازال التشيّع والشيعة تجنيها بإحياء فاجعة الطفّ ، والانطلاق منها لإحياء جميع مناسبات أهل البيت (عليهم السّلام) .
  ولعلّ ذلك هو الوجه في التأكيد المكثّف من قِبَل الأئمّة (صلوات الله عليهم) على إحياء هذه المناسبات والتذكير بها ، والتركيز على الجوانب العاطفية فيها ، وعلى الصرخة واستدرار الدمعة .
  وهم (عليهم السّلام) الأعرف بالأهداف السامية التي حملت الإمام الحسين (عليه السّلام) على نهضته المباركة ، والإقدام على تلك التضحيات الجسيمة التي تمخّضت عنها ، كما إنّهم (صلوات الله عليهم) الأعرف أيضاً باستثمارها لصالح الدين وأهله .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 488 _

التأكيد على أهمّية الإمامة في الدين وبيان ضوابطها

  الثالث : بيان أهمّية الإمامة في الدين وضوابطها وشروطها ووجوبها ، وعدم خلوّ الأرض من الإمام ، ورفعة مقام الإمام عند الله (عزّ وجلّ) ، وتميّزه عن رعيته بالعلم والعصمة وكثير من صفات الكمال ، ووجوب معرفته وموالاته وطاعته والتسليم له ، وحرمة الردّ عليه والاستهانة بشأنه ... إلى غير ذلك .
  وما ورد عنهم (عليهم السّلام) في ذلك كثير جدّاً ، وبمضامين في غاية السمو والرفعة ، ولا يسعنا التعرّض لها إجمالاً ، فضلاً عن تفصيل الكلام فيه ، ويسهل الاطلاع عليها بالرجوع لتراثهم الرفيع .

دعم مقام الإمامة بالكرامات والمعاجز

  وقد دعم ذلك وأكّده ما صدر منهم (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) إماماً بعد إمام من الكرامات الباهرة ، والمعاجز الخارقة التي تأخذ بالأعناق .
  وقد بدأ ذلك أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، وتتابع عليه الأئمّة من ولده (عليهم السّلام) حتى نشأ عليه الشيعة ، وعُرف بينهم ، فكان من دلائل الإمامة التي تتوقّع ممّنْ يتصدّى لها أو يدّعيها ، وكثيراً ما يطالب بها .
  وهذه المفاهيم والأمور كلّها غريبة على جمهور المسلمين حسبما نشأوا عليه من مفاهيم الإمامة وواقع أئمّتهم ، حتى ربما كان الاعتقاد بذلك سبباً للتشهير بالشيعة والتشنيع عليهم .
  وذلك ممّا يزيد الشيعة تمسّكاً وإصراراً ، بل هو منشأ لاعتزازهم ، لشعورهم بأنّهم يتميّزون بحقيقة شريفة ، وواقع رفيع لا تتحمّله عقول غيرهم ، والناس أعداء ما جهلوا .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 489 _

اعتراف غير الشيعة بكرامات أهل البيت (عليهم السّلام)

  وأخيراً تمّ فرض ذلك على أرض الواقع ، واعترف به الكثير من غير الشيعة ، بل حتى من غير المسلمين ، فأخذوا يلجأون في مهمّاتهم ومشاكلهم حين تضيق بهم الأمور ، وتنسدّ أمامهم الطرق الطبيعية إلى أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وأبرار ذريّتهم ، ويتوسّلون بهم ، إمّا بزيارة قبورهم ، أو بإحياء مناسباتهم ، أو النذر لهم ، أو غير ذلك .
  فيرون ما يحبّون وينقلبون مسرورين بقضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم ، والحديث في ذلك طويل وشواهده كثيرة ، وقد أشرنا لطرف من ذلك في آخر كتابنا (في رحاب العقيدة) ، وتحدّث عنه الكثيرون ، ولازلنا نعيشه .

التأكيد على شدّة جريمة خصوم أهل البيت (عليهم السّلام)

  الرابع : التركيز في المقابل على شدّة جريمة أعداء أهل البيت وغاصبي حقوقهم وقتلتهم ومنتهكي حرماتهم ، وعلى خبثهم وسوء منقلبهم وهلاكهم ، وهلاك أتباعهم وأوليائهم ، ثمّ وجوب معاداتهم والبراءة منهم مع التأكيد على ذلك بمختلف الوجوه ، وتحرّي المناسبات المختلفة لبيانه والتذكير به .
  الخامس : التركيز على الارتباط بالله (عزّ وجلّ) ، وعلى تحرّي رضاه بلزوم طاعته وتجنّب معصيته ، والإخلاص له ، والرجاء لثوابه ، والخوف من عقابه ، وحسن الظنّ به ، والتوكّل عليه ، والتسليم له ، والرضى بقضائه ، والصبر على محنته وبلائه ، واللجأ له ، وطلب الحوائج منه ... إلى غير ذلك من شؤون الارتباط به تعالى وتوثيق العلاقة معه .
  وقد سبق أنّ ذلك كان معروفاً عن شيعة أهل البيت في الأجيال الأولى (1) ،

---------------------------
(1) تقدّم في / 346 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 490 _

  وذلك ممّا يعين على تركيزه في الأجيال اللاحقة حيث يصير بمرور الزمن سمة شرف مميّزة للكيان الشيعي تحملهم على التحلّي به .
  والأهم من ذلك أنّ الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ـ الذين هم أئمّة الشيعة وقدوتهم ـ في المرتبة العليا من الدين والإخلاص والواقعية والفناء في ذات الله (عزّ وجلّ) ، وفي التأكيد على الالتزام بأحكامه وتعاليمه والدعوة لذلك بسلوكهم الرفيع ، وأحاديثهم الشريفة ، ومواعظهم الشافية .
  وقد سلك الأئمّة (صلوات الله عليهم) في التركيز على هذه الأمور الثلاثة ـ التي لها أعظم الأهمية من الناحيتين العقائدية والعملية ـ طريقين :

التركيز على الأمور المذكورة في أحاديثهم (عليهم السّلام)

  أحدهما : بيان المضامين المذكورة وشرحها وتوضيحها في أحاديثهم الخاصة مع شيعتهم ، كتراث محفوظ في الكتب يرجع إليه مَنْ يريد التعرّف على ثقافتهم (عليهم السّلام) ، والاطلاع على تعاليمهم الشريفة ، ويدعمه في ذلك كثير من التراث الثقافي والتاريخي لعموم المسلمين .
  وقد أكثروا (عليهم السّلام) من ذلك على اختلاف أنحاء البيان في الإجمال والتفصيل حسب اختلاف المقامات والمناسبات ، كما يشهد بذلك الرجوع إلى تراثهم القيم الذي حفظه وتوارثه علماء شيعتهم وحملة ثقافتهم جيلاً بعد جيل .
  وبذلك تدعم الدعاوى العريضة التي يدعيها الشيعة في أهل البيت (صلوات الله عليهم) وفي خصومهم ، وعليها يبتني التولّي والتبري والتديّن التي يظهر بوضوح في كيان الشيعة الثقافي والعملي .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 491 _

التركيز على الأمور المتقدّمة في الأدعية والزيارات

  ثانيهما : الأدعية والزيارات الكثيرة في المناسبات المختلفة ، وقد كان لها الأهمية الكبرى في تركيز هذه الأمور :
  أوّلاً : لِما تتميّز به من بيان فريد في الفصاحة والبلاغة ، ورفعة المستوى ، ورصانة الأسلوب ، وقوّة العرض ، وجمال الطرح مع علوّ المضمون وشرفه ، وأصالته وارتكازيته .
  ولذلك أعظم الأثر في أن تأخذ موقعها من القلوب ، وتترك أثرها في النفوس ، فتتقبلها وتتفاعل بها وتبخع لها .
  وثانياً : لأنّ مَنْ يؤدّي وظيفة قراءتها ويقوم بهذا الشعار يتحوّل إلى عالم روحاني شريف ، وجوّ عرفاني قدسي ، حيث يخاطب الله (جلّ جلاله) بالدعاء ، ويتضرّع بين يديه ، ويخاطب رموزه المقدّسة بالزيارات في المناسبات الشريفة المختلفة ، ويؤدّي فروض الاحترام والتبجيل له ، وذلك أحرى بأن يُحمل على الإيمان بتلك المضامين ، والتفاعل بها .
  وثالثاً : لأنّ أداء تلك الوظائف والقيام بتلك الشعائر لا يختصّ بفئة خاصة دون فئة ، كأهل العلم مثلاً دون غيرهم ، بل يشترك فيه جميع الشيعة الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم) على اختلاف طبقاتهم .
  ولاسيما مع كثرة المناسبات المذكّرة بهذه الأمور ، وتكرّرها على مدار السنة ، بل قد يتكرّر بعضها في كلّ يوم ـ كالتعقيب للصلوات المفروضة ـ أو على مدار الأسبوع ، أو الشهر .
  مضافاً إلى أهمّية كثير من هذه المناسبات حتى صارت مواسم عامّة يجتمع فيها الحشود الكبيرة والجموع الغفيرة ، وإلى كثرة مراقدهم (صلوات الله عليهم) ومشاهدهم الشريفة ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 492 _

  ومشاهد مَنْ يتعلّق بهم وينسب إليهم ممّنْ يقصده الشيعة بالزيارة ، بالإضافة إلى بعض المساجد المعظمة التي يقصدها الشيعة ويؤدّون فيها مراسم العبودية لله (عزّ وجلّ) .
  وكان لذلك أعظم الأثر في تعميم هذه الثقافة في المجتمع الشيعي ، وتركيزها على الصعيد العام بحيث صارت هذه الأمور من الملامح المميّزة للكيان الشيعي العام ، والسمات الظاهرة فيه رغم كلّ المعوّقات والمثبّطات .

جامعية زيارة الجامعة الكبيرة وزيارة يوم الغدير

  ويبدو أنّ الإمام أبا الحسن علي بن محمد الهادي (صلوات الله عليه) قد حاول أن يجمع ما ورد متفرّقاً عمّنْ قبله من آبائه (صلوات الله عليهم) ـ في بيان رفعة مقام أهل البيت ، ووجوب موالاتهم ، وبيان جريمة أعدائهم ، ووجوب البراءة منهم ـ في الزيارتين المشهورتين ، الزيارة الجامعة الكبيرة لجميع الأئمّة (صلوات الله عليهم) ، وزيارة أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) يوم الغدير ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام ، حيث أعلن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند منصرفه من حجّة الوداع بالنصّ بالولاية من بعده لأمير المؤمنين (عليه السّلام) .
  فقد أفاضت هاتان الزيارتان في الأمرين الأخيرين بنحو يصلحان لأن يكونا بمجموعهما أطروحة كاملة عن الموقف العقائدي الشيعي من أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) ومن أعدائهم وخصومهم ، ليكونا سبباً لتذكير عموم الشيعة بعقيدتهم وتركيزها في نفوسهم .
  أمّا الأدعية الكبيرة والصغيرة ـ في مختلف أمور الدنيا والآخرة ـ ، والأوراد والأذكار ، والصلوات والأعمال فهي من الكثرة بحيث لا مجال لاستقصائها ، ومن الظهور والاشتهار بحيث يسهل على كلّ أحد الوصول إليها والاطلاع عليها .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 493 _

التأكيد على عدم شرعية الجور

  السادس : التأكيد على عدم شرعية سلطة الجور ، وتحريم السير في ركاب الجائر ، وإعانته ودعمه ، والركون إليه ، ووجوب مباينته قلباً وعملاً ، إلاّ في حدود الضرورة ، أو مصلحة المذهب الحقّ على ما يُذكر مفصلاً في كتب الفقه .
  وذلك يجعل التنفّر من الظالمين وعدم الركون إليهم والتفاعل معهم حالة ثابتة في نفوس الشيعة ، ومتركزة في أعماقهم حتى لو اضطروا لمجاراتهم عملاً .

إحياء تعاليم النبي (صلّى الله عليه وآله) وسيرته وجميع المعارف الحقة

  السابع : إحياء تعاليم النبي (صلّى الله عليه وآله) وآثاره وسيرته ، وتاريخ ظهور الإسلام ، ونشر ذلك خالياً من الشوائب والأوهام بعد أن حاولت السلطات التعتيم عليه ، والتحريف له ، وتشويهه حسب اختلاف المقامات .
  وأعانها على ذلك الفتن المتلاحقة ، والاضطراب السياسي الذي شغل عامّة المسلمين عن التعرّف على دينهم وتعاليمه الحقّة وتاريخه الصحيح .
  وقد بلغ التحريف والتشويه فيها حدّاً مأساوياً قد ينتهي بالتنفير من الدين ورموزه ، ويتخذ ذريعة للتشهير والتشنيع من قبل الأعداء والطامعين .
  كما فتح الأئمّة (صلوات الله عليهم) أبواب المعارف الحقّة التي ورثهم النبي (صلّى الله عليه وآله) مفاتيحه ، لأنّهم أبواب مدينة علمه .
  فأظهروا كثيراً من الحقائق في العقائد ، وبدء الكون والخليقة ، وخواص الأشياء ، وفي الآداب ومكارم الأخلاق ، وسنن الأنبياء وسيرتهم ، وغيرها من فنون المعرفة التي ميّزهم الله (عزّ وجلّ) بها عن غيرهم فضلاً منه عليهم .
  وقد سبقهم إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) الذي هو

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 494 _

  باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وجرى على ذلك جميع الأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم) ، لأنّهم ورثوا علمه ، إلاّ إنّ الأئمّة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم) قد تفرّغوا لذلك كما سبق .

اهتمام الأئمّة (عليهم السّلام) بحملة آثارهم وعلماء شيعتهم

  وقد حاولوا (صلوات الله عليهم) تثقيف شيعتهم بثقافتهم عن طريق أصحابهم وخواصهم من الرواة وحملة الآثار ، وقد جعلوهم وسائط بينهم وبين شيعتهم ، من أجل أن يرجعوا إليهم ويأخذوا عنهم معالم دينهم ومعارفه ، ويستغنوا بهم عمّنْ سواهم .
  وقد اشتدّ اهتمامهم (عليهم السّلام) بذلك حتى ورد في صحيح هشام بن سالم عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أنّه قال : (( لمّا حضرت أبي (عليه السّلام) الوفاة قال : يا جعفر ، أوصيك بأصحابي خيراً .
  قلت : جعلت فداك ، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً )) (1) .
  وقد أكّدوا (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) على الرجوع للعلماء والأخذ عنهم والقبول منهم في أحاديث كثيرة .
  منها : حديث عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (عليه السّلام) الوارد في تنازع الشيعة بينهم في الحقوق ، وفيه : (( انظروا إلى مَنْ كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّما بحكم الله استُخفّ ، وعلينا رُدّ .
  والرادّ علينا رادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله (عزّ وجلّ) ... )) (2) .

---------------------------
(1) الكافي 1 / 306 .
(2) تهذيب الأحكام 6 / 218 ، واللفظ له ، الكافي 1 / 67 ، و ج 7 / 412 ، وسائل الشيعة 1 / 23 ، و ج 18 / 99 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 495 _

  ومنها : التوقيع الشريف عن الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، وفيه : (( فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا أنّا نفاوضهم سرّنا ، ونحمله إيّاه إليهم )) (1) .
  ومنها : التوقيع الآخر عنه (عليه السّلام) ، وفيه : (( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله ... )) (2) ... إلى غير ذلك .

تأكيد الأئمّة (عليهم السّلام) على التفقّه في الدين وعلى إحياء أمرهم

  كما أكّدوا (صلوات الله عليهم) على التفقّه في الدين ، وعلى كتابة الكتب وتدوين العلم ، ومذاكرته وتدارسه وتعليمه ، وعلى إحياء أمرهم (عليهم السّلام) ، وأنّ به حياة قلوب شيعتهم .
  وقد استطاعوا (صلوات الله عليهم) في المدّة الطويلة التي قضوها مع شيعتهم ـ رغم الضغوط الشديدة والصراع المرير ـ أن يبثّوا تعاليمهم السامية وثقافتهم الأصيلة في العقائد والفقه ، والأخلاق والأدعية والزيارات والمواعظ والسلوك وغيرها حتى تبلورت .

قيام الحوزات العلمية الشيعية ومميّزاتها

  وبذلك قام للشيعة كيان علمي وثقافي متميّز ، حملته وحافظت عليه الحوزات العلمية في مختلف بقاع الأرض التي يتواجد فيها الشيعة .
  وقد رعى الأئمّة (صلوات الله عليهم) هذه الحوزات مدّة تزيد على قرنين

---------------------------
(1) اختيار معرفة الرجال 2 / 816 ، واللفظ له ، وسائل الشيعة 1 / 27 ، و ج 18 / 108 ـ 109 .
(2) كمال الدين وتمام النعمة / 484 ، واللفظ له ، الغيبة ـ للطوسي / 291 ، الاحتجاج 2 / 283 ، وسائل الشيعة 18 / 101 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 496 _

  ونصف ، ووضعوا الضوابط العامّة لها ، وراقبوا مسيرتها حتى تأقلمت مع نهجهم (عليهم السّلام) ، وحملت بصماتهم ، وتفاعلت مع مفاهيمهم بحيث أمنوا عليها من الزيغ والانحراف .
  ونتيجة لذلك تميّزت هذه الحوزات بالاهتمام بالبحث عن الحكم الشرعي ، وأخذه من مصادره الأصيلة وحججه المعذّرة بين يدي الله تعالى ، وبالحفاظ على حدوده وحرفيته ، بعيداً عن التخرّص والتسامح ، وعن التأثّر بالجهات الخارجية من سلطان أو عرف اجتماعي أو غير ذلك ؛ جرياً على نهج أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، والتزاماً بتعاليمهم الموافقة للفطرة ، وحكم العقل السليم .

تحديد الاجتهاد عند الشيعة

  وذلك هو الاجتهاد الذي بقي مفتوحاً عند شيعة أهل البيت أعزّ الله دعوتهم ، واستمروا عليه هذه المدّة الطويلة ، وليس الاجتهاد عندهم تطويع الحكم الشرعي لأوضاع المجتمع القائمة ، وتطبيعه وتحويره بما يتناسب مع الظروف المختلفة ، والمؤثّرات الطارئة .
  وبذلك أمِن الأئمّة (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) على تعاليمهم الشريفة ، وثقافتهم السامية من الضياع والتحريف والتحوير .
  ولهذا أمكن وقوع الغيبة الكبرى بانقطاع خاتم الأئمّة المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) عن الاتصال المباشر بالشيعة ، لاكتفاء الشيعة بما عندهم من تعاليم وثقافة دينية تقوم بها الحجّة عليهم ، وعلى الناس من مختلف الفئات والأديان والمذاهب ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (1) .

---------------------------
(1) سورة الأنفال / 42 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 497 _

  وكأنّه إلى ذلك يشير حديث المفضّل بن عمر قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( اكتب وبثّ علمك في إخوانك ، فإنّ متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم )) (1) .

ظهور المرجعيات الدينية بضوابطها الشرعية

  وقد انبثقت من تلك الحوزات ـ نتيجة الحاجة الملحّة ، خصوصاً بعد الغيبة الكبرى ـ المرجعيات الدينية ، بضوابطها الشرعية المعذّرة بين يدي الله (عزّ وجلّ) .
  وعمدة تلك الضوابط ـ بعد العلم بأحكام الدين ـ العدالة بمرتبة عالية تناسب ثقل الأمانة التي يعهد فيها للمرجع ، وهي دين الله تعالى القويم ، حيث يتعرّض المرجع لضغوط نفسية وخارجية كثيرة في عملية الوصول للحكم الشرعي ، وفي الفتوى وتثقيف عموم المؤمنين به .
  فلا بدّ من قوّة العدالة ، تبعاً لشدّة الخوف من الله (عزّ وجلّ) ، لتكون حاجزاً دون الانحراف أمام تلك الضغوط ، ومانعاً من الاستجابة لها مهما اشتدّت .

بعض الأحاديث في ضوابط التقليد

  وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه بعد أن ذمّ اليهود بتقليدهم لعلمائهم قال : (( وكذلك عوام أُمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبية الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا وحرامه ، وإهلاك مَنْ يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحق ، وبالترفرف بالبر والإحسان على مَنْ تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحق ، فمَنْ قلّد من عوامنا مثل

---------------------------
(1) الكافي 1 / 52 ، كشف المحجّة لثمرة المهجة / 35 ، وسائل الشيعة 18 / 56 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 498 _

  هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم .
  فأمّا مَنْ كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة ، لا جميعهم ، فإنّه مَنْ ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة ، فلا تقبلوا منّا عنه [منهم عن ، وسائل] شيء ، ولا كرامة ... )) (1) .
  وكان نتيجة ذلك أمور :

ارتباط الشيعة بمرجعياتهم الدينية عملياً وعاطفياً

  أوّلها : ارتباط الشيعة بمرجعياتهم الدينية عملاً ، لحاجتهم لهم بسبب شمولية التشريع الإسلامي لجميع شؤون الإنسان ومفردات حياته .
  ثانيها : ارتباطهم بمرجعياتهم المذكورة عاطفياً ولاءً واحترام ، بسبب اعتقادهم بتدينهم بحيث تكون أهلاً لائتمانهم لها على دينهم ، فكأنّها واجهة لأئمّتهم (صلوات الله عليهم) ، وممّثلة لهم (عليهم السّلام) .
  ولاسيما مع شعور هذه المرجعيات بمسؤوليتها إزاء المؤمنين في إصلاح أمرهم ، وتوحيد كلمتهم ، وعلاج مشاكلهم ، وتخفيف أزماتهم ومواساتهم ، ومدّ يد العون لهم حيث أوجب ذلك الشعور المتبادل بأبوة المرجعية الدينية ، وتوثّق الروابط بينها وبين المؤمنين .
  ثالثها : إنّ للثقافة الدينية والحكمة والتقوى والإخلاص والاهتمام بصلاح الدين والمؤمنين أعظم الأثر في تقريب وجهات النظر بين مراجع الدين في أداء وظيفتهم ، وتخفيف حدّة الخلاف بينهم بنحو يؤدّي إلى موقف موحّد أو شبه موحّد في توحيد الشيعة ومعالجة مشاكلهم بالرغم من فتح باب الاجتهاد ،

---------------------------
(1) الاحتجاج 2 / 264 ، واللفظ له ، وسائل الشيعة 18 / 95 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 499 _

  وتمتّع الجميع بالحرية في اختيار المواقف المناسبة .

قيادة المرجعية للأُمّة

  وبذلك استطاعت المرجعية الشيعية قيادة الأُمّة وتوحيدها في عصر الغيبة الطويل ، حيث لا إمام ناطق تجب طاعته ، ولا يتمتّع المرجع ـ واحداً كان أو أكثر ـ بقوّة مادية قاهرة ترغم على متابعته .
  نعم ، لا ريب في أنّ للتسديد الإلهي أعظم العون على ذلك ، مشفوعاً برعاية إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي يكون الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا جلّلها السحاب .
  ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسدّد المرجعيات ويمدّها ـ ببركة إمام العصر (صلوات الله عليه) ـ بالتوفيق للثبات على السير في الطريق المستقيم ، ويوفّق المؤمنين للتجاوب معها والتلاحم من أجل أداء الوظيفة ، والخروج عن التكليف الشرعي ، إنّه المسدّد للحسنات ، والعاصم عن السيئات ، والناصر للمؤمنين ، وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل .

تأكيد الأئمّة (عليهم السّلام) على حقّهم في الخمس

  الثامن : إنّه بعد أن تركّز التشيّع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) كعقيدة راسخة تحملها جماعة لها كيانها الخاص بها ، بدأ الأئمّة من ذرية الحسين (عليه السّلام) بتذكير شيعتهم بحقّهم في الخمس ، ذلك الحقّ الذي كاد يُنسى نتيجة مواقف الأوّلين من أهل البيت (عليهم السّلام) ، وخطواتهم المتلاحقة من أجل تغييبهم (عليهم السّلام) عن ذاكرة المسلمين .
  وبعد أن ذكّروا (صلوات الله عليهم) شيعتهم بهذا الحقّ بدأوا بمطالبتهم

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 500 _

  بأدائه ، والتأكيد على ذلك تدريجاً ، ليكون للشيعة ـ كمذهب وأفراد ـ مورداً مالياً يعينهم في إدارة شؤونهم وسدّ حاجاتهم بعد أن حُرموا من الأموال العامّة التي هي تحت سيطرة الدولة .
  وهذا المورد وإن كان قليلاً لا يفي بالحاجة ، لتهاون كثير من ذوي المال في أدائه ، إلاّ إنّه صار نواة لتُضاف إليه بقيّة الحقوق الشرعية والخيرات والمبرات والأوقاف وما جرى مجرى ذلك .

استقلال التشيّع مادياً

  كما إنّه وجّه الشيعة تدريجاً نحو الاعتماد على النفس ، والتكافل في الجملة ، والقناعة بالقليل ، وتحمل شظف العيش نسبياً .
  وقد سبق التنبيه لكثرة الأموال التي ينفقها الشيعة طوعاً ، بل عن رغبة وإصرار ، من أجل إحياء ذكرى فاجعة الطفّ وغيرها من مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) (1) .
  وكذلك هو الحال فيما ينفقونه في سبيل التبليغ الديني ، من أجل قيام الحوزات التي ترعاها وتنبثق منها المرجعيات الدينية ، أو من أجل التبليغ في البلاد المتفرّقة ، أو في طبع الكتب ونشر الثقافة الدينية ... إلى غير ذلك .

استقلال الحوزات والمرجعية الدينية عن السلطة

  وكان من نتائجه المهمّة شرف استقلال الحوزات والمرجعيات الدينية عن السلطة وغيرها من الجهات المتموّلة ، وعدم الانصهار بها ، أو التبعية لها ، والتأثّر بتوجّهاتها .

---------------------------
(1) راجع / 412 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 501 _

  وبذلك حافظت الحوزات والمرجعيات على بهائها وقدسيتها في واقعه ، وفي نفوس المؤمنين ، وفرضت احترامها حتى على غيرهم ، وكان لها الدور الفعّال في الحفاظ على الكيان الشيعي بحدوده العقائدية ، وأحكامه الفقهية العملية ، ومميّزاته المشار إليها آنفاً وإن كلّفها ذلك كثيراً من المتاعب والمصائب .

تميّز الكيان الشيعي

  وكانت حصيلة جميع ما سبق قيام كيان للشيعة متميّز في العقائد والفقه ، والعلاقة بالله (عزّ وجلّ) والأدعية والزيارات ، وجهات الثقافة الأُخرى ، وفي الكيان الحوزوي والمرجعي ، وفي التوجّهات والإصرار ، والسلوك والممارسات .
  وقد دعم هذا الكيان المتميّز أمور أربعة لها أهمّيتها القصوى :
  الأوّل : قوّة حجّته وتناسق دعوته ، ومطابقتها للفطرة من دون تناقضات ، ولا سلبيات ، ولا مفارقات كما ذكرناه آنفاً .
  وهو رصيد ضخم للدعوة تستفيد منه حين ينبّه هذا الكيان ـ بممارساته التبليغية والعاطفية ـ الغافلين ، حيث قد يحملهم على البحث الموضوعي عن الحقّ ، بعيداً عن التعصّب والتراكمات فيستفيدون من هذا الرصيد ، ويستجيبون لدعوته الشريفة .
  الثاني : رفعة مقام الأئمّة (صلوات الله عليهم) ، وفرض احترامهم على عموم المسلمين ، حيث يزيد ذلك الشيعة اعتزازاً بالانتساب إليهم والتمسّك بهم (عليهم السّلام) ، وقوّة في الدعوة لحقّهم (عليهم السّلام) ، وجاذبية للغير نحوها تحملهم على الاستجابة له .
  الثالث : الاعتقاد بوجود الإمام المنتظر الذي يرعى الدعوة وحملته ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 502 _

  ويكون الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا جلّلها السحاب ، حيث يبعث ذلك الأمل في نفوس الشيعة ، ويبعد عنهم الاحباط نسبياً .
  الرابع : المدّ الإلهي غير المحدود ، والكرامات الباهرة ، والمعاجز القاهرة التي تأخذ بالأعناق ، حيث يعطي ذلك حيوية ودفعاً للدعوة باستمرار .

فرض الكيان الشيعي على أرض الواقع

  وكانت نتيجة ذلك كلّه أن فرض هذا الكيان المتميّز نفسه على أرض الواقع ـ رغم المعوّقات الكثيرة ، والصراع المرير على طول التاريخ حتى يومنا الحاضر ـ من دون أن يعتمد على سلطة ينسّق معها وتدعمه ، وإن كان قد يستفيد من السلطة في بعض الفترات من دون أن يكون تابعاً لها منصهراً بها ، أو تتحكّم فيه وفي توجهاته .
  وقد حصل ذلك بفضل جهود الأئمّة من ذرية الإمام الحسين (صلوات الله عليهم) بعد أن أصحروا بإعراضهم عن السلطة ، وتفرّغوا لشيعتهم ، ليكملوا الشوط ، ويستثمروا المكاسب العظيمة التي حقّقها الأئمّة الأوّلون (صلوات الله عليهم) والخاصة من شيعتهم في سلوكهم الحكيم ، وتضحياتهم الجسيمة .

تحقيق الوعد الإلهي ببقاء جماعة تلتزم الحقّ وتدعو له

  كلّ ذلك من أجل قيام طائفة في الأُمّة ظاهرة ، تنطق بالحق ، وتعمل به ، وتدعو له ، وتكبح جماح الانحراف ، وتنكر عليه .
  تحقيقاً للوعد الإلهي الذي يشير إليه قوله (عزّ وجلّ) في محكم كتابه المجيد : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (1) .
  وقوله تعالى : ( وَإِن تَتَوَلَّوْا

---------------------------
(1) سورة الأعراف / 181 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 503 _

  يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثمّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (1) .
  وقوله سبحانه : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) .
  وهو صريح ما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من قوله : (( لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين على الحقّ ، لا يضرّهم مَنْ خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )) (3) .
  وحديث سليمان بن هارون عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) الذي يردّ فيه على بعض الدعوات المنحرفة عن خطّ الإمامية حيث قال (عليه السّلام) عن سيف النبي (صلّى الله عليه وآله) منكراً دعواهم : (( وإنّ صاحبه لمحفوظ محفوظ له ، ولا يذهبن يميناً ولا شمالاً ، فإنّ الأمر واضح ، والله لو أنّ أهل الأرض اجتمعوا على أن يحوّلوا هذا الأمر من موضعه الذي وضعه الله ما استطاعوا ، ولو أنّ خلق الله كلّهم جميعاً كفروا حتى لا يبقى أحد جاء الله لهذا الأمر بأهل يكونون هم أهله )) (4) ... إلى غير ذلك ممّا ورد في الكتاب المجيد وعن النبي وأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) .
  كلّ ذلك لإلفات نظر الناس وتنبيههم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ليبحثوا عن الحقّ ، وينظروا في أدلّته الظاهرة وحججه القاهرة ، ولا يقولوا : ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (5) .

---------------------------
(1) سورة محمد / 38 .
(2) سورة التوبة / 32 .
(3) صحيح مسلم 6 / 52 ـ 53 ، واللفظ له ، كتاب الإمارة ، باب قوله (صلّى الله عليه وآله) : لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم مَنْ خالفهم ، صحيح البخاري 8 / 149 كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنّة ، صحيح ابن حبان 1 / 261 كتاب العلم ، ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة ، 15 / 248 كتاب التاريخ ، باب إخباره (صلّى الله عليه وآله) عمّا يكون في أُمّته من الفتن والحوادث ، ذكر البيان بأنّ الفتن إذا وقعت والآيات إذا ظهرت كان في خللها طائفة على الحقّ أبداً ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .
(4) بحار الأنوار 26 / 204 .
(5) سورة الأعراف / 172 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 504 _

تميّز دين الإسلام الحقّ ببقاء دعوته وظهور حجّته

  وبذلك تميّز دين الإسلام الحقّ عن بقيّة الأديان حيث ظهرت حجّته ، ولم تنطمس معالمه مع طول المدّة ، وتعاقب الفتن ، وتكالب الأعداء عليه من الداخل والخارج .
  وقد سبق في حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهاره ، لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك )) (1) .
  كلّ ذلك لأنّ الإسلام هو الدين الخاتم للأديان ، والباقي ما بقيت الدنيا ، فيجب أن تبقى معالمه واضحة ، ودعوته مسموعة ، وحجّته معه ظاهرة .

المقارنة بين فترة ما بين المسيح والإسلام ومدّة الغيبة

  وذلك هو المبرّر المنطقي والتفسير الطبيعي لطول عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) مع شدّة الفتن ، وتظاهر الزمن ، وتكالب الأعداء ، وعنف الصراع وشراسته .
  بينما كانت المدّة بين رفع النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسّلام) وبعثة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) لا تتجاوز الستة قرون ، وقد ضاعت فيها معالم الدين الحقّ الذي جاء به عيسى (عليه السّلام) ، وانطمست أعلامه ، وانفردت بالساحة دعوة الانحراف والتحريف .
  وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2) .

---------------------------
(1) تقدّمت مصادره في / 150 .
(2) سورة المائدة / 19 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 505 _

  وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنّه قال عن النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( بعثه حين لا علم قائم ، ولا منار ساطع ، ولا منهج واضح )) (1) .
  وقال (عليه السّلام) : (( أرسله بالدين المشهور ، والعلم المأثور ... والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين ، وتزعزعت سواري اليقين ... فالهدى خامل ، والعمى شامل ، عُصي الرحمن ، ونُصر الشيطان ، وخُذل الإيمان ، فانهارت دعائمه ، وتنكرّت معالمه ، ودُرست سبله ، وعفت شركه ... )) (2) .
  وقال (عليه السّلام) : (( إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لإنجاز عدته وتمام نبوّته ... وأهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة ، وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتتة ، بين مشبّه لله بخلقه ، أو ملحد في اسمه ، أو مشير إلى غيره ... )) (3) ... إلى غير ذلك .
  بينما قال (صلوات الله عليه) عن عصر الغيبة الذي نحن فيه : (( اللّهمّ إنّه لا بدّ لك من حجج في أرضك ، حجّة بعد حجّة على خلقك ، يهدونهم إلى دينك ، ويعلّمونهم علمك ، كيلا يتفرّق أتباع أوليائك ، ظاهر غير مطاع ، أو مكتتم يترّقب ، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم ، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة ، فهم بها عاملون )) (4) .
  وفي حديث المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال : (( أقرب ما يكون العباد من الله (جلّ ذكره) ، وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجّة الله (عزّ جلّ) ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه ، وهم في ذلك يعلمون أنّه لم تبطل حجّة الله جلّ ذكره ،

---------------------------
(1) نهج البلاغة 2 / 170 .
(2) نهج البلاغة 1 / 28 ـ 29 .
(3) نهج البلاغة 1 / 24 ـ 25 .
(4) الكافي 1 / 339 ، واللفظ له ، الغيبة ـ للنعماني / 137 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 506 _

  ولا ميثاقه ... وقد علم أنّ أولياءه لا يرتابون ، ولو علم أنّهم يرتابون ما غيّب حجّته عنهم طرفة عين ... )) (1) .
  وفي حديثه الآخر : كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) وعنده في البيت أناس ، فظننت أنّه إنّما أراد بذلك غيري ، فقال : (( أما والله ليغيبنَّ عنكم صاحب هذا الأمر ، وليخملنَّ هذا حتى يُقال : مات ؟ هلك ؟ في أيّ وادٍ سلك ؟ ولتُكفأن كما تُكفأ السفينة في أمواج البحر ، لا ينجو إلاّ مَنْ أخذ الله ميثاقه ، وكتب الإيمان في قلبه ، وأيّده بروح منه ، ولترفعنّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أيّ من أيّ )) .
  قال : فبكيت .
  فقال : (( ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ )) .
  فقلت : جعلت فداك ، كيف لا أبكي وأنت تقول : اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أيّ من أيّ ؟! قال وفي مجلسه كوّة تدخل فيها الشمس ، فقال : (( أبيّنة هذه ؟ )) .
  فقلت : نعم .
  قال : (( أمرنا أبين من هذه الشمس )) (2) .
  وقريب منه حديثه الآخر (3) .
  حيث يظهر من هذه النصوص وغيرها ظهور دعوة الحقّ في عصر الغيبة ، ووضوح حجّته ، وثبات أهل التوفيق وذوي السعادة عليه رغم طول المدّة ، وشدّة المحنة ، واختلاف الآراء والاجتهادات ، وكثرة الشبهات والضلالات والفتن والأهواء .
  وهو ما حصل حتى الآن في دعوة التشيّع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) رفع الله (عزّ وجلّ) شأنها وأعلى كلمتها .
  وكلّما تأخّر الزمن زادت ظهوراً وانتشاراً ، وفرضت نفسها على أرض الواقع ، وكسبت تعاطف الناس وإعجابهم واحترامهم .

---------------------------
(1) الكافي 1 / 333 ، واللفظ له ، الغيبة ـ للنعماني / 165 .
(2) الكافي 1 / 338 ـ 339 .
(3) الكافي 1 / 336 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 507 _

  بل كثيراً ما اهتدى لنورها ودخل في حوزتها ، واستظلّ برايتها مَنْ كتب الله (عزّ وجلّ) له التوفيق والسعادة ، ولله أمر هو بالغه ، وإليه يرجع الأمر كلّه .
  ومن جميع ما سبق يظهر أنّ الأئمّة من ذرية الإمام الحسين (صلوات الله عليهم) قد أتمّوا ما بدأه الأئمّة الأوّلون (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) من كبح جماح الانحراف الذي حصل ، والعمل لإقامة الحجّة على الدين الحقّ ، والمنع من ضياعه على الناس ، وانطماس أعلامه وبيناته ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (1) .
  فجزاهم الله تعالى جميعاً عن دينه وأهل دينه أفضل جزاء المحسنين ، وثبّتنا على ولايتهم ، وربط على قلوبنا ، وزادنا بصيرة في أمرنا ، ويقيناً في ديننا ، وتسليماً لربّنا ، إنّه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين ، وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل .

---------------------------
(1) سورة الأنفال / 42 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 509 _

  الخاتمة
  يحسن الحديث فيها حول أمرين يتعلّقان بفاجعة الطفّ وما استتبعته من إيضاح معالم دين الإسلام ووضوح حجّته .
  الأوّل : أثر ذلك في تعديل مسار الفكر الديني والإنساني عامّة ، وإيضاح الضوابط التي ينبغي أن ينهجها طالب الحقيقة .
  الثاني : في أهمّية إحياء الفاجعة ، والسعي لتجديدها والتذكير بها ، وآليّة ذلك .
  وذلك يكون في فصلين :

الفصل الأوّل : في أثر وضوح معالم الإسلام في استقامة منهج الفكر الإنساني

  لا يخفى أنّ كبح جماح انحراف السلطة ، والحيلولة دون تحكّمها في الدين ، وقيام الحجّة على الدين الحقّ ووضوح معالمه ، ونشاط فرقة الإمامية الاثني عشرية المؤكّدة على إمامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، والمتبنّية لثقافتهم الرفيعة ، وتعاليمهم المنطقية الموافقة للفطرة السليمة ، والمنكرة للظلم والطغيان ، وتشويه الحقائق ، وتحريف مفاهيم الدين الحنيف ، نتيجة العوامل المتقدّمة ، كلّ ذلك وإن كان بالدرجة الأولى فتحاً مبيناً لدين الإسلام العظيم ورموزه الشامخة ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 510 _

  إلاّ إنّه في الوقت نفسه نصر للأديان السماوية عامّة ، ولرموزها المقدّسة .

دافعت ثقافة الإسلام الحقّ عن الأديان السابقة ونبهت لتحريفه

  حيث نبّهت هذه التعاليم الموافقة للفطرة السليمة على تحريف تلك الأديان وتشويه صورة رموزها بفعل الظالمين ، وإنّ تلك الأديان ـ في الحقيقة ـ منزّهة عمّا نسبته لها يد التحريف من مفاهيم وتعاليم متناقضة أو خرافية أو تافهة أو جائرة ، لتكون آلة بيد المؤسسات السلطوية والمافيات الإجرامية ، لتقوية نفوذها وتعزيز مواقعها ، ولا يصل إلى جمهور الناس منها إلاّ طقوس جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع .
  وإنّ تلك الأديان في حقيقتها تحمل مفاهيم سليمة ، وتعاليم سامية مطابقة للحكمة والفطرة ، من أجل إصلاح البشرية عامّة ، وتنظيم علاقتها فيما بينها على أفضل وجه ، وتقريبها من الله (عزّ وجلّ) ، وهدايتها إلى الصراط المستقيم .

تنزيه رموز تلك الأديان عمّا نسبته لهم يد التحريف

  كما إنّ رموزها العظام (عليهم السّلام) في غاية الرفعة والجلالة والقدسية والكرامة على الله تعالى ، والفناء في ذاته والقرب منه (جلّ شأنه) ، وهم معصومون من الزلل ، مطهّرون من الرجس .
  وإنّهم (عليهم السّلام) قد جدّوا واجتهدوا في أداء رسالاتهم والتبليغ بها ، والنصح لأممهم ، وحملهم على الطريق الواضح من دون أن تأخذهم في الله لومة لائم .
  وهم أيضاً منزّهون عمّا نسبته لهم يد التحريف الظالمة من الرذائل والموبقات ممّا يندى له الجبين ، وتأباه كرامة الإنسان ، ويهوي به إلى الحضيض .
  وببيان آخر : الضوابط والتعاليم العامّة في دين الإسلام العظيم التي

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 511 _

  يتبّناها القرآن المجيد ، والسُنّة الشريفة ، والثقافة المتميّزة لأهل البيت (صلوات الله عليهم) لا تبتني على الاختصاص بالإسلام ، بل على العموم لجميع الأديان السماوية ، سواء التي وصلت بقاياها لنا ، أم التي لم تصل ، لاشتراكها جميعاً في كونها مشرّعة من قبل الله (عزّ وجلّ) ، وهو الحكيم المطلق ، المحيط بكلّ شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، والرؤوف بعباده الرحيم بهم ، والعالم بما يصلحهم .
  ولازم ذلك :
  أوّلاً : أن لا يشرّع لهم من الدين إلاّ ما يصلح شأنهم ويقرّبهم منه (عزّ وجلّ) .
  وثانياً : أن لا يأتمن على دينه وعباده إلاّ مَنْ هو أهل لهذه الأمانة العظمى في علمه وورعه وعمله ؛ ليعرّفهم بدينه ، ويبلغهم به ، ويحملهم عليه بقوله وسيرته ، ويكون قدوة لهم يهتدون بهداه ، ويستضيئون بنوره .
  وكلّ ما خرج عن ذلك ممّا نُسب لتلك الأديان ورموزها المقدّسة لا بدّ أن يكون بهتاناً وزوراً ، وتشويهاً ظالماً حتى لو صدرت نسبة ذلك ممّنْ ينتسب لتلك الأديان ويُعدّ من أتباعها .
  كما إنّه ورد عن النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) الكثير من مفردات ذلك ، وبيان تعاليم تلك الأديان التي تعالج مشاكل البشرية ، والتأكيد على رفعة مقام رموزها العظام ونزاهتهم ، وجهادهم في سبيل أداء رسالتهم ، وما نالهم من الظلم والعدوان من أعداء دعوتهم ومن أممهم .
  ولأجل ذلك فالحفاظ على الثقافة الإسلامية الأصيلة ـ نتيجة العوامل السابقة ـ كما يكون نصراً للإسلام العظيم يكون انتصاراً لتلك الأديان الشريفة ودفاعاً عنها ، وحفاظاً على كرامتها وكرامة رموزها وقدسيتهم .