واما نفى التواتر المنقول عن جملة من محققيهم فهي وان كانت ذات تصيب في كتب التحقيق وسهم وافر على السنة العلماء الا انها متروكة ومهجورة ومعزوف عنها في حيز العمل عند جمهور المسلمين لعدم توفر البديل الذي يعتد به .
واما عند الشيعة الامامية فان أول من حكى القراءات السبع ف مصنفاته من علمائهم السيد الرضي
(1) في كتاب حقائق التأويل
(2) في غير موضع منه ثم جاءت النوبة الى العلامة الحلي
(3) فاستلقها واوجب العمل بمقتضاها دون سواها بل ادعى صريحاً تواترها كما هو صريح لفظه في المنتهى حيث قال : يجوز ان يقرأ بأي قراءة شاء من السبعة لتواترها اجمع ولا يجوز ان يقرأ بالشاذ وان اتصلت رواية بعدم تواترها
(4) .
فقلده اكثر من جاء من بعده من غير ضبط أو تحقيق ثم انتهت النوبة الى الشهيد الاول الشيخ جمال الدين محمد بن مكي العاملي
(5) الذي ادعى تواترها عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزاد عليها كمال العشر .
وكان أول من ادعى ذلك بهذه المثابة وقد صرح بذلك في كتابه الموسوم بذكرى الشيعة بقوله : يجوز القراءة بالمتوات ولا يجوز بالشواذ ومنع بعض الأصحاب من قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف وهي كمال العشر والأصح جوازها لثبوت تواترها كثبوت قراءة القراء السبعة
(6) .
--------------------
(1) المتوفى سنة 406 .
(2) حقائق التأويل متشابه التنزيل ج 5 ص 87 ط بيروت .
(3) المتوفى سنة 762 هـ .
(4) المنتهى ج 1 ص 273 .
(5) المستشهد سنة 772 هـ .
(6) ذكرى الشيعة ص 187 ط قم مكتبة بصيرتي .
اتحـاف الفـقهـاء
في تحقيق مسألة اختلاف القراءات والقراء
_ 52 _
والمستغرب كيف انه قد اشتهر على السنة الفقهاء كافة كما سيمر بك نقل كلامهم ان اول من ادعى تواترها انما هو الشهيد الاول ولذا افردوه بالذكر عند النقص ولاابرام وهو غلط محقض بل هو اول من زاد عليها دعوى كمال العشر وقد تعاصرا الا ان العلامة الحلي كان اسبق ولادة ووفاة حيث توفى سنة 762 هـ بينما الشهيد الاول كانت شهادته في سنة 786 هـ بفارق زمن قدره اربع وعشرون عاماً .
وكان اول من تبعه في هذه الدعوى الشهيد الثاني الشيخ زين الدين الجبعي العاملي المستشهد سنة 965 هـ في كتاب المقاصد العلية في شحر النفلية حيث بالغ الأخير بقوله : ان كلا من القراءات السبع من عند الله تعالى نزل بها الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله الطاهرين ) تخفيفاً على الامة وتهويناً على اهل هذه الملة .
وحكى عند سبطه ( ابن بنته ) السيد السند في المدراك بقوله : وقد نقل جدي ( قده ) عن بعض محققي القراء انه أفرد كتاباً في اسماء الرجال الذين نقلوا هذه القراءات في كل طبقة وهم يزيدون عما يعتبر في التواتر
(1) .
ثم تبعهم المحقق الثاني الشيخ علي في جامع المقاصد بقوله : فقد اتفقوا على تواتر السبع وفي الثلاث اأخر التي بها تكمل العشرة وهي قراءة ابي جعفر ويعقوب وخلف تردد نظراً الى الاختلاف في تواترها وقد شهد شيخنا في الذكرى بثبوت تواترها ولا يقصر عن ثبوت الاجماع بخبر الواحد فحينئذ تجوز القراءة بها . . .
(2) .
وتصل النوبة الى السيد محمد جواد العاملي ( قده ) الذي اعتمد هو الآخر على ما ادعاه الشهيد الاول فصرح بقوله : ليعلم ان هذه السبع ان لم تكن متواترة الينا كما ظن لكن قد تواتر نقل الاجماع على تواترها فيحصل لنا بذلك القطع . . .
(3) .
--------------------
(1) مدارك الاحكام ص 187 ط قم حجري .
(2) جامع المقاصد ج 2 ص 246 ط قم مؤسسة اهل البيت ( عليهم السلام ) .
(3) مفتاح الكرامة ج 2 ص 391 .
اتحـاف الفـقهـاء
في تحقيق مسألة اختلاف القراءات والقراء
_ 53 _
. . . الظاهر من كلام اكثر علمائنا واجماعاتهم انها متواترة اليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ونقل الامام الرازي اتفاق اكثر أصحابه على ذلك . . . (1) ، وقال في موضع آخر : وقد علم . . . ان كل ما ورد الينا متوتراً من السبع فهو متواتر الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وما اختلفت الرواية فيه عن احدهما ( اي راويي كل قارئ ) يعدل عنه الى ما اتفقت فيه الرواية عن القارئ الآخر لانه ليس بواجب ولا مستحب عند الكل اتباع قراءات الواحد في جميع السورة ولا مانع عندهم ( اي القراء ) من ترجيح بعضها ( اي بعض القراءات المروية عنهم ) على بعض (2) .
ومسنوافيك بالمزيد من الاقوال الأخر في هذه المسألة في الفصل التالي وكيف كان فان ما ادعاه السيد الخوئي فيما نقلناه عنه في صدر الكلام انما صار اليه من عدم اعطاء النظر والتأمل حقه في المسألة الذي ادى به الى عدم الاحاطة التامة والصحيحة بأطراف الأقوال .
والذي ينبغي ان يذكر في المقام ان العلامة الحلي في كتاب المنتهى هو أول من ادعى تواتر السبع المشهورة ثم زاد عليها الشهيد الاول دعوى أخرى اضافية مفادها تواتر قراءات القراء الثلاثة ابي جعفر ويعقوب وخلف وهي كمال العشر في القرن الثامن الهجري وهذه الدعوى الأخيرة هي الأساس الذي اوقع من جاء بعد عصره في الالتباس وتأثث شباك الوسواس الخناس اما قبل القرن الثامن الهجري فلم يكن لهذه الفريد والدعوى عين ولا أثر .
ولا يخفى ما فيها من البعد والتهافت لأمور : ( فاما اولها ) فلما تقدم بيانه وتفصيله من تاريخ القراءات ، ( واما ثانيها ) للمنع من تواترها عن القراء لانهم نصوا على انه كان لكل قارئ راويان يرويان قراءته نعم اتفق التواتر في الطبقات اللاحقة .
--------------------
(1) نفس المصدر السابق ص 392 .
(2) نفس المصدر السابق ص 394 .
اتحـاف الفـقهـاء
في تحقيق مسألة اختلاف القراءات والقراء
_ 54 _
كما نص على ذلك الزركشي في كتاب البرهان في علوم القرآن من علمائهم بقوله : التحقيق انها متواترة عن الائمة السبعة ما تواترها عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ففيه نظر فان اسنادهم لهذه القراءات السبع موجود في الكتب وهو نقل الواحد عن الواحد (1) .
وقد اورد السيد الخوئي في تفسيره البيان بعض الايرادات عليها بما حاصله :
(1) ان اتصال الاسانيد بهم انفسهم ( اي القراء السبعة او كمال العشرة ) يقطع التواتر حتى لو كان متحققاً في جميع الطبقات فان كل قارئ انما ينقل قراءته بنفسه .
(2) ان استقراء حال القراء يورث القطع بان القراءات نقلت الينا بأخبار الآحاد فليست هي متواترة عن القراء .
(3) ان التأمل في الطرق التي اخذ القراء عنها يدلّ بالقطع على انّها انما نقلت اليهم بطريق الآحاد .
(4) ان احتجاج كل قارئ على صحة قراءته واعراضه عن قراءة غيره دليل قطعي على استنادها الى اجتهادهم دون التواتر عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) والا لم يحتج الى الاحتجاج .
(5) اضف الى ذلك انكار جملة من الاعلام على جملة من القراءات ولو كانت متواترة لما صح هذا الانكار .. الى آخر كلامه ومن اراد الوقوف على حقيقة تلك الامور فليرجع الى الكتاب المذكور .
ومنه يظهر بطلان ما صرح به العاملي في حاشيته على كتابه مفتاح الكرامة حيث قال في جواب اعتراض وجهه : ان لكل واحد راويين فمن اين حصل التواتر ؟ بما نصه : انا نقول الراويان ما رويا أصل التواتر وانما رويا المختار من التواتر . . . حيث طفوح الغلط واللغط العظيم منه بما لا يعلم له وجه ولو على جهة التأويل المتكلف والحمل المتعسف اذ كيف يعقل تحقق التواتر بهذا النحو بأن يكون راويا كل قارئ محرزين لثبوته .
ومن اين ثبت له ان تلك القراءات كانت متواترة بجملتها وقد اختارها من متواترها اولئك القراء بما استحسنته اذواقهم واستذوقته اذهانهم .
--------------------
(1) البرهان في علوم القرآن ج 1 ص 213 ـ 227 ط بيروت .
اتحـاف الفـقهـاء
في تحقيق مسألة اختلاف القراءات والقراء
_ 55 _
اما ( ثالث الأمور ) : لو سلمنا تواترها عن القراء لكن ذلك لا ينهض حجة شرعية لأنهم من آحاد المخالفين استبدوا بآرائهم كما سيأتي ذكره ولئن حكوا في بعض قراءاتهم الاستناد الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكن الاعتماد على رواياتهم لا يخفى ما فيه على ما حقق في علم الدراية والاصول .
( واما رابعها ) فلما تحقق من أن كتب القراءة والتفسير قد طفحت من قولهم قرأ حفص او عاصم كذا وفي قراءة علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) او اهل البيت ( عليهم السلام ) كذا بل ربما قالوا وفي قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كذا كما يظهر من الاختلاف المذكور في قراءة ( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) .
والحاصل انهم يجعلون قراءة القراء قسيمة لقراءة المعصومين عليهم السلام فكيف تكون القراءات السبع متواترة من الشارع المقدس تواتراً يكون حجة على الناس .
( واما خامسهاً ) ما عثرنا عليه من كلمات جملة من اعلام فقهائنا نور الله مضاجعهم فمن ذلك :
(1) ما جادت به يراعة المحقق البارع السيد حسين البروجردي في تفسيره الصراط المستقيم : ان دعوى التواتر في شيء منها فضلا عن جميعها ليست في محلها (1) . . . لكنك خبير بان ما ذكروه في هذا الباب مما سمعت وما لم تسمع كلها قاصرة عن افادة ذلك نعم قام الاجماع بل الضرورة على عدم الزيادة في القرآن فالمشترك بين القراءات السبع بل وبين غيرها ايضاً قرآن قطعاً واما خصوص ما تفرد به كل واحد من القراء السبعة او العشرة من حيث تلك الخصوصية لا من حيث المادّة الجامعة فلم يقم اجماع ولا ضرورة على كونه بتلك القراءة الخاصة قرآناً .
كيف وقد سمعت ان المستفاد من الاخبار انه واحد نزل من عند اله واحد بل قد سمعت سبب الاختلاف في ذلك وان كل ما اختلفوا فيه او خصوص السبعة ليس مما نزل به جبرئيل ولا مما قرأ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا مما أقره بل كيف يكون الاغلاط العثمانية في المصاحف السبعة واختلاف الناس في قراءة كل منها حيث انها كانت عارية عن النقط والاعراب الصلا في اثبات القرآن النازل من السماء هذا مضافاً الى استفاضة الاخبار بل تواترها على مخالفة قراءة الائمة للقراءات المشهورة .
--------------------
(1) تفسير الصراط المستقيم ج 3 ص 111 .
اتحـاف الفـقهـاء
في تحقيق مسألة اختلاف القراءات والقراء
_ 56 _
بل كتب القراءة والتفسير مشحونة من قولهم قرأ حفص كذا وعاصم كذا وحمزة وعلي بن ابي طالب كذا وفي كثير منها وفي قراءة اهل البيت كذا وربما ينسبونها الى واحد منهم ( عليه السلام ) فجعلوا قراءتهم قسيماً لقراءة أهل بيت الوحي والتنزيل بل كثيراً ما صدر ذلك من الخاصة واخبارهم به متظافرة (1) . . . ومما من ظهر ضعف ما ادعاه الصالح المازندراني في شرح الزبدة من ان التواتر قد يحصل سبعة نفر اذ لا يتوقف على حصول عدد معين بل المعتبر فيه حصول اليقين وان القارين لكل واحد من القراءات السبع كانوا بالغين حد التواتر .
الا انهم اسندوا كل واحدة منها الى واحد منهم اما لتجرده بهذه القراءة او لكثرة مباشرته لها ثم اسندوا الرواية عن كل واحد منهم الى اثنين لتجردهما لروايتها وعدم تجرد غيرهما اذ فيه المنع من حصول اليقين ينقلهم سيّما مع مخالفةالمذهب مع هن وهن مع انه ليس الكلام في المشترك بل الخصوص وبلوغ القارين لكل واحدة منها حد التواتر اول الكلام هذا كله مضافاً الى ما اورده الرازي عليهم من انه اذا كانت تلك القراءات متواترة وخير الله المكلفين بينها فترجيح بعضها على بعض موجب للفسق مع انك ترى ان كل واحد من هؤلاء القراء مختص بنوع معين من القراءة ويحمل الناس عليه ويمنعهم عن غيره . . . الخ (2) .
(2) ما نمقته يراعه المحقق النجفي في جواهر الكلام حيث قال : منع التواتر او فائدته اذ لو أريد به الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان فيه ان ثبوت ذلك بالنسبة الينا عن طريق العلم مفقود قطعاً بل لعل المعلوم عندنا خلافة ضرورة معروفية مذهبنا بأن القرآن نز بحرف واحد على نبي واحد والاختلاف فيه من الرواة كما اعترف به غير واحد من الاساطين . . . (3) .
وبالجملة من انكر التواتر منا ومن القوم خلق كثير بل ربما نسب الى اكثر قدمائهم تجويز العمل بها وبغيرها لعدم تواترها (4) . . . كما انه من المستبعد ايضاً توتر الحركات والسكنات مثلاً في الفاتحة وغيرها من سور القرآن ولم يتواتر اليهم ان البسملة آية منها ومن كل سورة عدا براءة وأنه يجب قراءتها معها سيما والفاتحة باعتبار وجوب قراءتها في الصلاة تتوفر الدواعي الى معرفة ذلك فيها .
--------------------
(1) نفس المصدر السابق ص 113 ـ 114 .
(2) نفس المصدر السابق ص 115 .
(3) جواهر الكلام ج 9 ص 943 .
(4) نفس المصدر السابق ص 295 .
اتحـاف الفـقهـاء
في تحقيق مسألة اختلاف القراءات والقراء
_ 57 _