محاضرات
الشيخ أحمد الماحوزي

إعداد وتدوين
السيّد محمَّد الرّضوي السيّد مصطفى المَزيدي

دار أهل الذكر




  قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « إن الله يبغض المعبس في إخوانه » مستدرك الوسائل ج 8 / 321 فردوس الخطاب ج 1 / 153 كشف الخفاء ج 1 / 289 .
بسم الله الرحمن الرحيم

   الحمد لله رب العامين ، والصلاة والسلام على نبي الرحمة ومنقذ الأمة محمد وآله الطيبين الطاهرين .
   على الرغم من مُضي أكثر من ألف وأربعمائة عام على ولادة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وحرمان البشر من التشرّف بالنظر إلى صورته الحسّية المباركة ، إلا أن ذكراه بقيت وستبقى ما دامت السماوات والأرض ، وأن نور وجهه الشريف لا زال يتلألأ إشراقاً وكمالاً أمام أنظار المسلمين اليوم وغدٍ ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وذلك لأن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قمة الكمال الإنساني ، ورمز كل الفضائل ، وآية كل الحسنات ، وتجلي لكل الخيرات . . . إنه حقاً هدية الرب للبشرية جمعاء ، ومن هنا صارت كل حركاته وسكناته حجة على البشر ، لأنها تعبير صريح عن تفاصيل الشريعة الربانية ، وتبيان واضح لسنن الدين ، ومرآة صافية للحكمة البالغة .

أسطورة العبوسة _ 2 _

   وقد اختاره الله جل جلاله قدوة وأسوة للبشرية لما امتاز به ( صلى الله عليه وآله ) من صفات وطبائع فقال ( لقد كان لكُم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) (1) .
   ولأجل أن نستضيء بنور النبوة أكثر ، ولكي نحذو حذو الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن نخطو خطوات نحوه يتطلب منّا أن نتعرف ولو على بعض جوانب حياته الشريفة ، وأن نستوعب ولو بعض مواقفه ، وأن نهتدي بهداه ، وفي هذا المجال كانت ثَمَّ محاضرات ألقاها سماحة الشيخ أحمد الماحوزي ، تعرّض فيها لتفسير الآيات الأُول من سورة « عَبَسَ وَتَوَلَّى » وفق ما يقتضيه أولاً البحث القرآني ، وثانياً البحث الروائي .
   ولم يكن الغرض الأساسي من تدوين هذه المحاضرات تجريحاً ولا طعناً على أحد ، وإنما هدفنا الأساسي أن نبحث عن الحقيقة في أسطورة العبوسة ونسبتها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أو غيره ، حتى يتعرف القارئ والباحث على ما هو الصحيح في المقام ، نسأل الله تعالى أن يتقبل منّا هذا بقبول حسن ، إنه ولي التوفيق .
السيد محمد الرضوي السيد مصطفى المزيدي
--------------------
(1) الأحزاب : 21 .

أسطورة العبوسة _ 3 _
بسم الله الرحمن الرحيم

   ( عَبَسَ وَتَوَلّى * أَن جَآءهُ الأَعمَى * وَمَا يُدريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَو يَذَّكَّر فَتَنفَعَهُ الذِّكرَى * أَمَّا مَنِ استَغنَى * فَأَنت لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيكَ أَلاّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسعَى * وَهُوَ يَخشَى * فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى ) .

سبب نزول السورة :
   ذهب المفسّرون من العامة إلى أن هذه الآيات الكريمة نزلت في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لمّا عبس في وجه عبد الله بن أم مكتوم حينما جاءه وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل فرعون قريش والوليد بن المغيرة العتل الزنيم وغيرهم من صناديد قريش ليقنعهم بالإسلام ويستميل قلوبهم ، فقال ابن أم مكتوم : يا رسول الله ، أقرأني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قطعه لكلامه وقال في نفسه : الآن يقولون هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد ، فعبس في وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم (1) ، فنزلت الآية عتاباً على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بما فعله في حق المسكين ابن أم مكتوم ، فكان ( صلى الله عليه وآله ) حينما يرى ابن أم مكتوم يقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي فيكرمه حتى يستحي ابن مكتوم من كثرة إكرامه له .

--------------------
(1) الدر المنثور : ج 8 / 418 نقلا عن الحاكم وابن مردويه .

أسطورة العبوسة _ 4 _
   وفي رواية عن الخاصة أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وابن أم مكتوم من كثرة إكرامه له ، قال علي بن ابراهيم : كان ابن أم مكتوم مؤذناً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان أعمى ، فجاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعنده أصحابه ، وعثمان عنده ، فقدّمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على عثمان ، فعبس عثمان في وجهه وتولى عنه ، فأنزل الله ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) يعني عثمان ( أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) أي يكون طاهراً زكياً ( أَوْ يَذَّكَّرُ ) قال : يُذكّره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ) ثم خاطب عثمان فقال ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ) قال : أنت إذا جاءك غني تتصدى له وترفعه ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) أي لا تبالي زكياً كان أو غير زكي ، إذا كان غنياً ( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ) يعني ابن أم مكتوم ( وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أي تلهو ولا تلتفت إليه (1) .
   وتحقيق الحال في مقامين :
الأول : فيما يقتضيه البحث القرآني .
الثاني : فيما يعتضيه البحث الروائي .

--------------------
(1) تفسير القمي : 430 .

أسطورة العبوسة _ 5 _
المقام الأول : البحث القرآني
   السورة المباركة جاءت مستنكرة الموقف والحالة التي حدثت مع الأعمى الذي عُبِسَ في وجهه وأُعرض عنه ، فوصفت ذلك المُعَاتَب الذي تولى عن الأعمى وتشاغل عنه بأمور : العبس ، والتولي ، والتصدي للأغنياء ، والتلهي عن الفقراء والمؤمنين ، فقوله تعالى ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) إشارة إلى الأولين ، وقوله ( فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى . . . فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) إشارة إلى الثالث والرابع ، فليس المتصدي لفئة معينة والمتلهي عن فئة أخرى شخص آخر غير العابس ، فظاهر سياق الآيات صريح في اتحاد العابس مع المتصدي والمتلهي .
   بل منشأ العبس والتولي ليس إلا بسبب الاتصاف بالتصدي والتلهي ، وكأن هاتين الصفتين عادة متبعة وملكة راسخة لدى العابس ، لا أنها موقف وانتهى ، والشاهد على ذلك الاتيان بصيغة الفعل المضارع « تصدى » أي تتصدى « تلهى » أي تتلهى (1) ، الصريح على الاستمرارية والتكرار ، ففرق بين قولنا « عثمان عبس في وجوه المؤمنين » وقولنا « عثمان يعبس في وجوه المؤمنين » ، إذ الجملة الأولى لا تفيد إلأ تحقق ذلك في الماضي ، ولا تدل على أن ذلك عادة متبعة أم لا ، بخلاف الجملة الثانية فإنها تدل بصراحة على استمرارية العبس في الوجوه وأن ذلك عادة متبعة وملكة راسخة في عثمان ، فتدبر ، فغرض السورة كما أفاد العلامة الطباطبائي عتاب على مَن يقدم الأغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة (2) .

--------------------
(1) تصدى فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفاً وكذا تلهى .
(2) تفسير الميزان : ج 20 / 219 .


أسطورة العبوسة _ 6 _
تفسير الآية :
   ( عبس ) قطّب وكلح ، من العَبس وهو قطوب الوجه وتقبَضه بسبب ضيق الصدر ، ورجل عابس اي كريه الملقى الجهم المحيا ، ومنه اشتق عبّاس ، أي المقطب وجهه أمام أعدائه لكي يرهبهم ويخوفهم (1) .
   قال الأصمعي : إذا زَوى (2) ما بين عينيه فهو قاطب وعابس ، فإذا كشر عن أنيابه مع العبوس فهو كالح ، فإذا زاد عبوسه ، فهو باسر ومُكفَهِرٌّ ، وإذا كان عبوسه من الهم فهو ساهم ، فإذا كان عبوسه من الغيظ وكان مع ذلك منتفخاً فهو مُبرطم (3) .
   فكلما تحقق العبس لا بد وأن يتحقق الضيق الصدري وعدم الاشتهاء النفسي أولاً ثم يظهر أثر ذلك على قسمات الوجه ، وهو في بعض موارده ملازم للتكبر والتعالي ولذا قال الله تعالى في حق الوليد بن المغيرة ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ) وهو صفة ذميمة ولو وقع من الإنسان مرة واحدة ، لاستلزامه الاستهانة والاستخفاف بالآخرين .

العبس وعدم الشعور به :
   وكون الأعمى لا يشعر بالعبوس لا يعني عدم قبحه ، فعدم معرفة الانسان من اغتابه لا تجعل الغيبة من المباحات ، مع أنّا لا نسلم أن ابن أم مكتوم لم يشعر بعملية العبس من قبل العابس ، إذ لم يقتصر هذا العابس بالعبس بل أعرض وتولى ، فإن كان المعبوس في وجهه أعمى لم ير العبس فإن تولى العابس عنه مما لا يخفى عليه كما أن رؤية الحاضرين عملية العبس كافية في الحكم بقبحها شعر بذلك المعبوس في وجهه أم لا .

--------------------
(1) وباب العبوس : عبس وكلح وكشر وقطّب وبسل وبسر وكره وتجهّم واقمطر واكفهر ، راجع الألفاظ المؤتلفة : ج 1 / 206 .
(2) أي تقبض وتكلّح .
(3) فقه اللغة وسر العربية : 139 .


أسطورة العبوسة _ 7 _
العبس وعدم التأذي :
   وعدم التأذي والتأثّر من العابس لا يستلزم عدم قبح التعبيس في وجوه المؤمنين ، إذ لعل ذلك بسبب الروحية العالية التي يمتلكها المعبوس في وجهه ، فكثير من المؤمنين لا يتأذون من غيبتهم واتهامهم وتكفيرهم ، وهذا لا يعني أن من اغتابهم واتهمهم لم يرتكب الذنب والمعصية ، فالأذية النفسية شيء والحرمة والإباحة والقبح شيء آخر ولا ملازمة ذاتية بينهما ، حتى يجزم بعدم القبح والحرمة عند عدم الأذية ، هذا مع ما تكشفه عملية العبس من ضيق نفسي منشأه الخلق السيء والصدر الضيق ، فالعتاب في الآية أولا وبالذات على تلك النفسية التي تَتَنَفّر من الفقراء والمؤمنين وتَتَحَبّب إلى الأغنياء مهما كانوا .

عبس المضايقة لا الاحتقار :
   والقول : بأن هذا العبس ليس عبس احتقار ، بل هو أقرب إلى عبس المضايقة النفسية التي توجد تقلصاً في الوجه عندما يقطع أحد على الانسان حديث (1) ، لا يستلزم : رفع القبح من هذه العملية ، ولو كان هذا التفصي والهروب من الإشكال صحيحاً لكانت الغيبة وبقية الصفات المذمومة أيضاً كذلك ، فَنُقسّم الغيبة إلى غيبة منشؤها الحقد والحسد ، وغيبة منشؤها الضيق النفسي بأفعال الآخرين ، فنلتزم بحرمة الأولى دون الثانية ، مضافاً إلى أن العابس لم يكتف بالعبس بل أعرض وتولى وكان ممن يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء الخاشعين المؤمنين (2) .

--------------------
(1) من وحي القرآن : ج 24 / 66 .
(2) ولو كان هذا العبس عبس مضايقة ولا محذور فيه فَلِمَ هذا العتاب الشديد اللهجة على شيء ليس فيه محذور ، وراجع صفحة : 32 .

أسطورة العبوسة _ 8 _
* ( وتولى ) أي أعرض بوجهه ، كقوله تعالى ( إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ) وقوله ( فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ولعل منه ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ) كناية عن الفرار من الزحف إذ يلازمه عادة الإعراض وجهاً عن الأعداء ، والذي يقتضيه سياق الآيات أيضاً أن التولي في المقام فعل سلبي آخر صدر من العابس ، فهو على غرار قوله تعالى ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) .
* ( أَن جَاءهُ الْأَعْمَى ) أي عبس وتولى بسبب مجيء الأعمى ، والأعمى في المصطلح القرآني عادة ما يكون بمعنى أعمى القلب وفاقد الايمان المشار إليه في قوله تعالى ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (1) وقوله ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (2) وقوله ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) (3) .
   وعليه فالأعمى هنا ليس بالضرورة أن يكون أعمى البصر وفاقد العينين ، بل يمكن أن يكون المقصود منه أعمى القلب والايمان ، وتتبع موارد استعمال هذه الكلمة في سائر آيات الذكر الحكيم لعله يرجّح كون المراد من الأعمى في هذه السورة هو أعمى القلب ، إذ هو الأطار العام لاستعمال هذه اللفظة ، إن قلت : إن بقية آيات السورة قرينة على أن المراد من العمى هو العمى الظاهري ، مضافاً إلى أن السياق العام للآية كاشف عن واقعة حصلت فنزلت هذه السورة ، قلت : بل العكس هو الصحيح ، إذ قوله ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ) قرينة على أن هذا الأعمى إنما جاء طلباً للتزكية ـ وهو الإيمان والإسلام ـ أو التذكرة ، والانسان لا يطلب الشيء إلا بعد فقده ، وفقد ذلك هو العمى باصطلاح القرآن .

--------------------
(1) الحج : 46 .
(2) الإسراء : 72 .
(3) الرعد : 19 .

أسطورة العبوسة _ 9 _
   فلو خلّينا والظهور القرآني لا يمكن أن نجزم بكون الأعمى من كان فاقداً للبصر الظاهري ، بل هو أعم من ذلك ومن العمى القلبي ، فتخصيص أو تقييد الآية بالعمى الظاهري بحاجة الى دليل ، وترجيح أن العمى القلبي هو المقصود من الآية له وجه وجيه ولا مجازفة فيه ، ومن جزم بكون الأعمى هو أعمى البصر فَلِمَكان الرويات المصرحة بنزولها في ابن أم مكتوم وبحثنا الأن في ما هو مقتضى الظهور القرآني وتفسير القرآن بالقرآن ، وسيأتي البحث في الظهور ومقتضى البحث الروائي وانسجامه مع ما استظهرناه من كتاب الله أو عدم انسجامه .
* ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) أي لا تدري لعل هذا الأعمى يتزكى ويتطهر بالعمل الصالح ، والتزكية هي التخلية والاقتلاع عن الآثام والمعاصي وعلى رأسها الكفر والشرك بالله تعالى ، ( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ) بأن يتحلى بالطاعات والأعمال الصالحة والصفات الحسنة إن كان زكياً مؤمناً ولم يرتكب الموبقات ، فالآيتان تشيران إلى حالتي التخلية والتحلية ، والمقصود من الأولى التخلية والاقتلاع عن المعاصي والموبقات المسمات في الذكر الحكيم بـ « التزكية » ، والثانية هو التحلي والاتصاف بالسمات الحسنة والأعمال الصالحة حتى تكون نفسه صالحة (1) .

--------------------
(1) وللمزيد من التفصيل في مصطلحي « التخلية والتحلية » راجع ما ذكرناه في « الأسفار الأربعة العرفانية » صفحة : 11 .

أسطورة العبوسة _ 10 _
   ومن ذلك يعلم أن مهمة الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) تزكية البشر المشار إليه في قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) وتذكرة المؤمنين المشار اليه بقوله ( فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ) وقوله ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ) وقوله ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ) أي من كان ذا ثروة وغنى ، وقيل أي من استغنى عن الايمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن (1) واكتفى بماله .
* ( فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام به ، وعن ابن عباس : تصدى تقبل عليه بوجهك ، فالتصدي هو إقبال الانسان على الشيء بكلّه قلباً وقالباً (2) .
   قال الزجاج : الأصل تتصدى ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين ، ومن قرأ تصدى بإدغام التاء فالمعنى أيضاً تتصدى إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد (3) .

--------------------
(1) تفسير أبي السعود : ج 9 / 108 ، وغيره .
(2) قال القرطبي في تفسيره ج 19 / 214 : « فأنت له تصدى » أي تعرض له وتصغي لكلامه والتصدي الإصغاء . . . وأصله تتصدد من الصد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها نصب على الظرف ، وقيل من الصدى وهو العطش أي تَتَعرض له كما يتعرض العطشان للماء والمصاداة المعارضة .
(3) زاد المسير : ج 9 / 28 .

أسطورة العبوسة _ 11 _
   وقد قرأ ابن كثير ونافع « تصَّدى » بتشديد الصاد ، وقرأ عاصم وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي « تَصَدّى » بفتح التاء والصاد وتخفيفها ، وقرأ أُبي بن كعب وابو الجوزاء وعمرو بن دينار « تتصدى » بتاءين مع تخفيف الصاد ، والمعنى واحد في الكل (1) ، وقرأ ابن مسعود وابن السميفع والجحدري « تُصَدى » بتاء واحدة مضمومة وتخفيف الصاد (2) ، وقد نسبت هذه القراءة للباقر ( عليه السلام ) (3) ، وسيأتي وجه متين لهذه القراءة .
* ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ذهب مشهور المفسرين من العامة أن معنى الآية : أن وظيفتك الإبلاغ سواء آمن السامع أم لم يؤمن فلا يلزمك شيء من عدم تطهره وإيمانه (4) ، وذهب علي بن ابراهيم القمي في تفسيره أن معنى الآية هكذا : أي لا تبالي زكياً كان أغير زكي إذا كان غنيّاً (5) .

--------------------
(1) وظاهر « تفسير الأمثل » أن « تصدى » فعل أمر ، فأنت له تصدى بمعنى توجه إليه وجاهد في هدايته على ما أصابته الثروة من غرور ، وبطلانه أوضح من أن يخفى ، لأمور من أهمها : المقابلة بين « تصدى » و « تلهى » ، فالآيات في سياق الأخبار لا الإنشاء ، فـ « تصدى » فعل مضارع لا فعل أمر .
(2) راجع زاد المسير : ج 9 / 27 وغيره .
(3) تفسير الفخر الرازي : ج 31 / 56 ، روح المعاني : ج 30 / 41 .
(4) تفسير الطبري المتوفي سنة 310 : ج 30 / 52 ، تفسير البغوي : ج 4 / 446 ، فتح القدير : ج 5 / 383 ، زاد المسير : ج 9 / 27 ، واختاره من الخاصة : الطبرسي في تفسيريه ومغنية في الكاشف ومكارم في الأمثل ، وفي تفسير من وحي القرآن : « وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى » فلن تتحمل أية مسؤولية من خلال ابتعاده عن الخط المستقيم ، وتمرده عن تطلعات الروح إلى آفاق الطهارة وسماوات الصفاء لأنك لم تقصر في الإبلاغ ، ولم تدخر أي جهد فيما حركته من الوسائل التي تملكها وفيما استخدمته من الأساليب التي تحركها في اتجاه التزكية للناس جميعاً ، وقد سمعوا ذلك كله وأصروا على الاستكبار والتمرد . . . الخ .
(5) واختاره الفيض الكاشاني والمرتضى الكاشاني المتوفي سنة 1115 في تفسيره المعين والطهراني في متنيات الدرر والشيخ الكرمي في تفسيره المنير وغيرهم ، وهو ظاهر السيد المرتضى .

أسطورة العبوسة _ 12 _
   قال العلامة الطباطبائي : قيل : ما نافية ، والمعنى ليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الأعراض والتلهي عمن أسلم والإقبال عليه ، وقيل : ما للاستفهام الإنكاري ، والمعنى وأي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ ، وقيل : المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور ، وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله (1) .
   ووجه الأنسبيّة والتعيّن ثلاثة أمور :
الأول : ما أشار إليه قدس سره من كون الآيات في مقام العتاب وسياق التوبيخ ، فلو كانت الآية في مقام بيان حرص العابس والمتولي على إسلام الآخرين لكان ذلك مدحاً ومنقبة له ، فلا تتناسب مع العتاب والذم والتوبيخ ، فتكون كقوله تعالى ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (2) .
الثاني : إن تصدي وتعرض العابس إنما هو لمكان صفة الاستغناء لا غير كما هو صريح قوله ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي أما المتصف بالغنى فله تتعرض ، والتصدي أما أن يكون الهدف منه طلب الهداية للغني أو لأجل الاستفادة المادية منه ، وإطلاق الآية يشمل الحالتين .

--------------------
(1) تفسير الميزان : ج 20 / 220 .
(2) والحرص على إسلام الناس وهدايتهم مما لا شك في حسنه ومطلوبيته ، بل من الصفات الكمالية الممدوح بها النبي الأمّي ( صلى الله عليه وآله ) في القرآن الكريم ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) فهو ( صلى الله عليه وآله ) يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته وحريص على الناس وهدايتهم ، أما تعامله مع المؤمنين فالاهتمام والعناية والرأفة والرحمة بهم تفوق حد التصور ، كيف ! ! وهو الذي بعث رحمة للعامين .

أسطورة العبوسة _ 13 _
   ولذا نجد بعض المسلمين والصحابة في الصدر الأول يتصدون لهداية الأغنياء من الكفار والمشركين ، ويتركون هداية الفقراء والمستضعفين ، بل هذا السلوك متخذ عند أكثر الرساليين وأصحاب الدعوات والمبادئ على طوال التاريخ ، من تركيزهم على الأغنياء وأصحاب الجاه والثروة والسمعة الاجتماعية وتركهم للفقراء والمستضعفين ، توهماً وظناً بأن هداية أصحاب الأموال والسمعة هي المجدية لنشر الرسالة والهداية .
   وهناك سلوك آخر لدى الكثير ومنهم بعض الصحابة ، من تصديهم للأغنياء وأصحاب الجاه طمعاً في أموالهم أو مداهنة لهم ، مع عدم المبالاة بإيمانهم أو محاولة هدايتهم ، فقوله تعالى ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ) بيان حال السلوك الأول ، وقوله ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) إشارة إلى السلوك الثاني ، وتأكيد على أن هذا العابس لا يتصدى للأغنياء ويترك الفقراء من أجل هدايتهم بل يتصدى لهم لمكان غناهم ولا يهمه بعد ذلك آمنوا أو لم يؤمنوا ، وكلا السلوكين يرفضهما القرآن ويتشدد العتاب والتوبيخ على أصحاب السلوك الثاني (1) .

--------------------
(1) أما الأمر الثالث فراجع صفحة 31 خامساً .

أسطورة العبوسة _ 14 _
   ومن ذهب من الخاصة تبعاً لعامة المفسرين من كون معنى الآية أي ليس عليك حساب وبأس في عدم إيمانهم وإسلامهم بعد أن بلّغت ما عليك ، فإنما كان لتوهم كونها نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وأنه هو العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي ، فالدخول بهذه العقلية في تفسير الآية هو الذي أفضى وأنتج هذا المعنى من التفسير ، ولو كان ـ وهو محال ـ كون العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي هو الرسول لكان هذا التفسير هو المتعين لا غير (1) .
   ومثله ما في « من وحي القرآن » من قوله : « إن مدلول الآيات يوحي بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يستهدف من حديثه مع هؤلاء الصناديد تزكيتهم الفكرية والروحية والعملية ، بعيداً عن مسألة الاهتمام بغناهم من ناحية ذاتية » (2) .

--------------------
(1) ولذا لا بد في عملية التفسير من ترك الاعتقادات والمرتكزات الفكرية والثقافية ـ وكذا الروايات ـ على جانب والدخول في تفسير القرآن بعيداً عن كل ذلك ، حتى يتم عرض الأفكار والآراء والاعتقادات والروايات على القرآن ، لا العكس أو محوالة التوفيق مهما أمكن بين ما يعتقده الانسان وما في القرآن ، ولو كان التوفيق خلافاً لمقتضى الظهور والصراحة القرآنية ، ولذا ورد عنهم ( عليهم السلام ) كما سيأتي ما خالف كتاب ربنا لم نقله ، وفي رواية أخرى فهو زخرف ، وضابطه معرفة صحة الرواية وكذبها كما جاء في الروايات عنهم هو عرضها على كتاب الله ، والعرض لا يتحقق إلا بعد معرفة المراد القرآني .
وعليه فلا بد أولاً من معرفة المراد القرآني وتفسير القرآن بالقرآن ، ثم بعد ذلك الانتقال إلى خطوة أخرى وهي تفسير القرآن بالروايات المأثورة والأحاديث المروية ، وملاحظة هل أن ما استُظهر من كتاب الله من معاني تؤيده الروايات ويقرّه العقل أم لا ، هذه هي الخطوات السليمة لمعرفة واستيعاب القرآن الكريم ، واقحام الخطوة التالية لترجيح أحد المعاني المستظهرة في الخطوة الأولى على بقية المعاني والاحتملات هو منشأ أكثر الاشتباهات التي وقع فيها المفسرن والفقهاء والمجتهدون .
(2) من وحي القرآن : ج 24 / 67 ، ومثله ما في أعيان الشيعة من كون تصدي العابس للأغنياء ليس لغناهم وتلهيه عن الفقراء لا لفقرهم وإنما لقطعهم حديثه مع من يرجو إسلامه .

أسطورة العبوسة _ 15 _
   ولقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كذلك ورب الكعبة ، ولكن الذي نستوحيه من الآيات أن الاهتمام إنما هو للغني لغناه ، وإلا ! ! الاهتمام للغني لتزكيته مع عدم الطمع في ماله مما يقبح العتاب عليه والتوبيخ فيه ، وكيف يعاتب عكلى صفة لا يتخلق بها إلا من كان ذو حظ عظيم وخلق عال وإيمان عميق ، والذي أجبره على هذا « الاستيحاء » هو دخوله في تفسير الآيات بعقلية أنها نزلت في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، ولو افترضنا محالاً أنها نزلت فيه ( صلى الله عليه وآله ) لكان ما قاله هو الحق الذي يجب أن يتبع .
   ( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) قرأ ابن مسعود وابن مصرف وابو الجوزاء « تَتَلهى » بتاءين ، وقرأ اُبي كعب وابن السميفع والجحدري « تُلهى » بتاء واحدة خفيفة مرفوعة ، قال الزجاج : أي تتشاغل عنه ، يقال لهيت عن الشيء ألهى عنه إذا تشاغلت عنه (1) ، فالتلهي هو تعمد التشاغل وقصد الإعراض ، فهو قبال التصدي الذي هو تعمد التعرض وقصد الإقبال .
   ومن خلال المقابلة بين التصدي والتلهي يستظهر أن هؤلاء الساعين نحو الخشوع هم من الفقراء والمستضعفين ، فالأية وإن لم يكن لسانها « وأما ذو العالة والفقير فأنت عنه تلهى » لكن من خلال التقسيم المردد بـ « إما » يعرف أن من سمات هؤلاء الساعين نحو الخشوع هي الفقر والعالة والاحتياج .

التصدي : المحاولة الرسالية
   وما في : تفسير « من وحي القرآن » من كون التصدي بمعنى المحاولة الرسالية وبذل الجهد في سبيل تغيير أولئك المترفين والمستكبرين ، والسعي لإصلاحهم وتزكيتهم حيث يقول ( فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ) لتحاول بجهدك الرسالي أن تمنحه زكاة الروح وطهارة الفكر ، فيما تحسبه من النتائج الكبيرة لذلك على مستوى امتداد الإسلام في قريش (2) .

--------------------
(1) زاد المسير : ج 9 / 27 .
(2) من وحي القرآن : ج 24 / 74 .

أسطورة العبوسة _ 16 _
   كلام متين : فإن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يألُ جهداً في هداية قومه ، والسعي بشتى الطرق والوسائل لهدايتهم وإدخالهم في دين الله ، لكن صريح الآية لا يساعد على ذلك حتى وإن قلنا تنزلاً أنها نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وأنه هو المعني بها (1) ، إذا التصدي للأغنياء والمترفين في الآية يقابله التلهي عن الفقراء والمعدمين (2) ، فلوجه المقابلة نعرف أن التصدي هو الاهتمام والتقدير والاحترام للأغنياء ، ويقابله التلهي عن الفقراء .
   ولو كان التصدي بمعنى المحاولة الرسالية لكان الرسول له محاولة رسالية لهداية المترفين دون المستضعفين مع أنه مأمور بأن يساوي في دعوته بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسيد والعبد والرجل والمرأة والصغير والكبير ، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فتفسير التصدي بمعنى المحاولة الرسالية ليس تفصياً عن المحذور ، فهو من قبيل تغيير قولة عمر بن الخطاب المشهورة في رزية الخميس « إن الرجل ليهجر » إلى « أن رسول الله غلب عليه الوجع » ، وقولنا في المجنون بأنه مصاب بمرض عقلي ، فالنتيجة واحدة ولكن وقع اللفظ على القلب أهون .
   وعليه : فلا بد أن يكون معنى التصدي في الآية بمعنى التعرض والاهتمام والاحترام ، والتلهي بمعنى التشاغل وعدم المبالاة ، فالآية تدعو إلى المساواة في الدعوة إلى الإسلام ، إذ هو الواجب الملقى على عاتق الرساليين ، وهداية الناس وعدمها بيد الله تعالى المشار إليه في قوله ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء ) ، فليس الآية فقط في مقام توبيخ العابس بل حتى لو لم يتحقق العبس لا بد من المساواة في الدعوة والتبليغ .

--------------------
(1) ومنشأ تفسير التصدي بما ذكر لقناعته بنزول الآية في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، فهو المخاطب والمقصود معاً .
(2) أما من استغنى . . . وأما من جاءك يسعى وهو يخشى .

أسطورة العبوسة _ 17 _
عتابٌ وتوبيخ :
   قال العلامة الطباطبائي : وفي الآيات الأربع عتاب شديد ويزيد شدة باتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة ـ ضمير الغائب ـ لما فيه من الإعراض عن المشافهة والدلالة على تشديد الإنكار وإتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ وإلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض والتقريع من غير واسطة .
   قال : وفي التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان إعمى فاقدا للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يُرحم ويخص بمزيد الإقبال والعطف لا أن ينقبض ويعرض عنه (1) ، وقال ابن زيد لو أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتم من الوحي شيئاً كتم هذا عن نفسه (2) .
   ومن كل ما مرّ تعرف وهن من قال : أن الآيات لا لَوم فيها ولا عتاب على النبي ولا على الأعمى وإنما هي في واقعها تحقير وتوبيخ للمشركين الذين أقبل عليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقصد أن يستعملهم ويرغبهم في الإسلام (3) .

--------------------
(1) تفسير الميزان : 20 / 219 .
(2) تفسير الطبري : ج 30 / 50 ، وكلامه صحيح إذ الآية صريحة على أنها في مقام العتاب والتوبيخ ، لكن تطبيقها على الرسول لم يصب فيه .
(3) تفسير الكاشف للشيخ المرحوم جواد مغنية العاملي : 7 / 510 .

أسطورة العبوسة _ 18 _
   قلت : أما الأعمى فكما قال ، وأما العابس فالقول بعدم توجه العتاب واللوم إليه سدّ لحجية ظواهرالقرآن بل صريحه ، وأما المشركين فلا تعرض لهم في الآية من قريب ولا من بعيد ، ومنشأ تصريحه بذلك ـ هو كما قلنا في غيره ـ دخوله في تفسير الآية بعقلية أنها نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) .

سياق الآيات وتحديد العابس :
   هذا فيما يرتبط بصفات العابس ، أما من هو العابس ، فسياق الآيات لا يدل على أن العابس هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ قوله « عَبَسَ وَتَوَلَّى » فعلان ماضيان والضمير « هو » لغائب ، فلو كان العابس هو الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لقال تعالى « يا أيها النبي لِمَ عبست وتوليت أن جاءك الأعمى (1) ، وما يدرك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى » ولا إخلال بالبلاغة والفصاحة حينما يُأتى بضمير المخاطب كما لا يخفى .
   إن قلت : إنما لم يأت بضمير المخاطب إجلالاً للرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ العبوس مما لا ينبغي أن يصدر عنه ، قلت : قوله تعالى « أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى . . . فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أشد تقريعاً وعتاباً وتوبيخاً فَلِمَ جيئ فيها بضمير المخاطب ، فمن باب إجلال النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان ينبغي أن يأتي بها بضمير الغائب كعبس وتولى .

--------------------
(1) على غرار قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) .

أسطورة العبوسة _ 19 _
ضمير المخاطب :
   ودعوى : أن قوله تعالى ( فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى . . . فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) المخاطب به هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، فالمقصود من « أنت » أي أنت يا رسول الله ، وبما أن المتصدي للأغنياء والمتلهي عن الفقراء متحد مع الذي عبس وتولى لا شخص آخر ينتج أن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي عبس وتولى ، نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة (1) .
   في غاية الفساد : وذلك لأن القرآن كله خطاب للرسول الأكرم لا يعني بالضرورة أن يكون هو المقصود من الآية ، فلا بد من التفريق بين كونه خطاباً له وبين كونه المقصود من الخطاب وفيه نزلت الآية (2) .
   ولبيان ذلك إليك آيات من القرآن الكريم تقرر هذا المطلب وتثبته :
(1) قوله تعالى ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ) خطاب للرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ولكن ليس هو المقصود من هذا الخطاب ، إذ لم يكن ثمَّ أبٌ وأمٌ للرسول آنذاك .
(2) وقوله تعالى ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) فليس هو المقصود بهذا الحكم وإن كان هو المخاطب ، إذ رسول الله كما هو مسلم عند الكل له الحق في أن يتزوج أكثر من أربع .
(3) وقوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فالخطاب وإن كان متوجاً إلى الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ولكن ليس هو المقصود منه ، إذ قد عصم الله تعالى رسوله من الذنب الصغير فكيف بالشرك العظيم .

--------------------
(1) وهي من القواعد التي ينبغي أن يلتفت إليها في تغسير القرآن الكريم .
(2) فتعجب بعض المعاصرين ـ في أنه إذا كانت الآية غير متوجة ومخاطبة للرسول فلمن هي إذن مخاطبة ؟ هل هي متوجهة إلى شخص مجهول من بني أمية ـ منشأه عدم التفريق بين المخاطب وبين المقصود من الخطاب ، وأنه ليس بالضرورة أن يكون المخاطب هو المقصود من الخطاب ، ومن يلتزم بأن المخاطب هو المقصود يقحم نفسه في نسبة الذنب والمعصية والجهل للرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وهذا ما لا يقبله المسلم العادي .

أسطورة العبوسة _ 20 _
   وغيرها من الآيات الكثيرة جداً ، فالقرآن الكريم كما في الروايات نزل بـ « إياك أعني واسمعي يا جارة » (1) وهو مثل يضرب لمن يتكلم بكلام يريد به غير المخاطب ، وما أكثره في القرآن الكريم .
   فعن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن ( عليه السلام ) مما سأله المأمون : فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) ، قال الرضا ( عليه السلام ) : هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ؛ خاطب الله عز وجل بذلك نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأراد به أمته ، وكذلك قوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وقوله تعالى ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) قال : صدقت يا بن رسول الله (2) .
   وعن محمد بن سعيد الأذخري وكان ممن يصحب موسى بن محمد بن علي الرضا أن موسى أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فيها ، وأخبرني عن قول الله عز وجل ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) من المخاطب بالآية فإنك أن المخاطب النبي ( صلى الله عليه وآله )أليس قد شك فيما أنزل الله عز وجل إليه ، فإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذا أنزل الكتاب .

--------------------
(1) تفسير العياشي 1 / 10 والكافي : 2 / 631 حديث 14 معتبرة عبد الله بن بكير ، ثم قال الكليني وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : معناه ما عاتب الله عز وجل به نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) عنى بذلك غيره .
(2) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : ج 1 / 408 ، باب 37 حديث 1 .

أسطورة العبوسة _ 21 _
   قال موسى : فسألت أخي علي بن محمد الهادي ( عليهما السلام ) عن ذلك قال : أما قوله ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) فإن المخاطب بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يكون في شك مما أنزل الله عز وجل (1) ، ولكن قالت الجهلة : كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة ، إنه لم يفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق فأوحى الله عز وجل إلى نبيه ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) بمحضر من الجهلة هل يبعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة وإنما قال : وإن كنت في شك ولم يقل ولكن ليتبعهم كما قال له ( صلى الله عليه وآله ) فقل ( تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا . . . فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ولو قال : تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبون للمباهلة ، وقد عرف أن نبيه ( صلى الله عليه وآله ) مؤدى عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه (2) .

--------------------
(1) وهذا موضع الشاهد ، فهو ( صلى الله عليه وآله ) المخاطب ولكنه ليس المقصود من الخطاب ، لكونه من الشك ، وهل يمكن أن يبعث الله رسولاً شاكاً في رسالته ؟ ! !
(2) علل الشرائع : 156 باب 107 حديث 1 .

أسطورة العبوسة _ 22 _
   وفي صحيحة ابراهيم بن عمر رفعه إلى أحدهما في قول الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) ( فَإِن كُنتَ . . . ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا أشك ولا أسئل (1) .
   فمن حيث السياق لا يمكن الجزم ـ بل الظن ـ بكونها نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ القرآن مليء بالآيات النازلة بنحو « إياك اعني واسمعي يا جارة » (2) ، ومن يتتبع الخطابات القرآنبة يستظهر أنه حينما يكون المخاطب والمقصود هو النبي ( صلى الله عليه وآله ) حينما يكون ذلك الخطاب محفوف بهالة من الاحترام والتقدير وعادة ما يكون بهذا التعبير « يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ » .
   والعجب : من البعض احتمل أو رجّح كون الآية نازلة في النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه هو العابس في وجه لبن أبي مكتوم بشهادة قوله تعالى ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (3) وقوله ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) (4) ، فنسب إلى الرسول من دون أن يشعر الطرد المفضي إلى الظلم كما هو ذيل الآية وإطاعة الغافلين عن ذكر الله (5) .

--------------------
(1) علل الشرائع : 157 باب 107 حديث 2 .
(2) وسيأتي بيان بعض الثمار من كون القرآن نازل بهذه الطريقة فانتظر .
(3) الأنعام : 52 .
(4) الكهف : 28 .
(5) هذا وقد ورد في روايات العامة أن الطارد للمؤمنين هو عمر بن الخطاب وسيأتي ذكرها فانتظر .

أسطورة العبوسة _ 23 _
   وصفوة القول : أنه لو جعل كل آية فيها عتاب وتأنيب وتوبيخ أن المخاطب والمقصود بها هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لكانت صفاته بأبي وأمي في القرآن الكريم ما يلي : العابس ، الطارد ، مريدُ لزينة الحياة الدنيا ، مطيع للغافلين ، شاك فيما أنزل عليه ، الراكن لعبدة الأوثان والأصنام ، المذنب . . . الخ .
   مع أن القرآن في آيات أُخر وصفه بأنه : رحمة للعالمين ، الرؤوف ، العطوف ، الرحيم ، ذو الخلق العظيم ، مزكي أنفس الخلائق ومعلمهم الكتابة والحكمة ، وهذه لا تتلاءم مع ما تقدم من صفات وسمات .

معنى الآيات وتحديد العابس :
   هذا كله من حيث سياق الآيات وقد عرفت أنها لا تدل على أن المقصود هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، أما من حيث المعنى فلا شك في كون العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي غيره ( صلى الله عليه وآله ) لأمور :
الأول : أن العبس وهو التقطيب في الوجه صفة ذميمة ـ كما تقدم ـ وُصف بها في القرآن الكريم العتل الزنيم المشرك الكافر الوليد بن المغيرة في قوله ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) فلا يمكن أن يتلبس بها الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ولو لمرة واحدة ، كيف ! ! وهو الذي قال عنه القرآن ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وقوله ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) .

أسطورة العبوسة _ 24 _
   وسُئلت عائشة عن خلقه فقالت : كان خلقه القرآن ، فمن يكون خلقه عظيماً لا يمكن أن يتلبس بالضيق القلبي والعبس والتقطيب في وجوه المؤمنين ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (1) والرحمة والتعبيس والتقطيب لا يجتمعان دوماً وأبداً .
   كما يتنافى مع قوله ( صلى الله عليه وآله ) في الحديث المعروف عند الخاصة والعامة « أدبني ربي فأحسن تأديبي » وقول الصادق ( عليه السلام ) « إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فقال ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) .
   هذا وقد عُرف من أخلاقه ( صلى الله عليه وآله ) أنه ما كان ليومئ على كافر قد استحل قتله وأُهدر دمه ، فكيف يعبس في وجه المؤمن والخاشع ، فحينما أهدر ( صلى الله عليه وآله ) دم عبد الله بن أبي سرح فبعد فتح مكة غيّبه عثمان حتى اطمأن الناس ثم أحضره عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وطلب له الأمان ، فصمت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) طويلاً ثم آمنه ، فأسلم وعاد ، فلما انصرف قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأصحابه : لقد صمت ليقتله أحدكم ، فقال أحدهم : هلا أومأت إلينا ؟ فقال : ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين (3) .

--------------------
(1) التوبة : 128 ، فهو ( صلى الله عليه وآله ) حريص على الناس جميعاً المشرك وغيره ، ولكنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وعبسه في وجوه المؤمنين خلاف مقتضى الرأفة والرحمة .
(2) الكافي : ج 1 / باب 108 .
(3) الكامل في التاريخ : 1 / 166 ، تاريخ ابن خلدون : 2 / 460 ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 60 .

أسطورة العبوسة _ 25 _
الثاني : أن العابس كما تقدم هو المتصف بكونه متصدياً للأغنياء ولاهياً عن الفقراء والمؤمنين ، والرسول الأكرم يجلّ أن كون خلقه كذلك ، فلا فرق عنده بين العبد والسيد والعربي والأعجمي ، بل عمدة المسلمين آنذاك كانوا من العبيد والمستضعفين ، فكونه يَتصدى للأغنياء ويَتلهى عن الفقراء ليس من أخلاقه الكريمة العظيمة (1) وعصمته المطلقة تأبى ذلك .
   ولو تنزلنا وجارينا من يقول بأن العبس لا يتنافى مع أخلاقه الكريمة ولا يقدح في عصمته ، مع ذلك لا يمكن أن نقول بأنه هو المقصود بالعبس في هذه الآيات الكريمة ، لكون منشأ العبس والتولي ليس إلا حب التصدي للأغنياء ـ بعد أن بيّنا أن العابس هو المتصدي والمتلهي لا شخص آخر ـ وهذا الحب يلازمه التنفّر عن الفقراء والمستضعفين .

--------------------
(1) ولو قيل لمن أثبت أن العابس والمتصدي والمتولي هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) : أنك ممن تتصدى للأغنياء وتتلهى عن الفقراء لَمَا قَبِلَ ذلك في حق نفسه ولو لمرة واحدة ولا نزعج من هذه النسبة ، ولو أن مخبراً أخبرنا بأن المرجع الفلاني أو العالم الكذائي عبس في وجه بعض المؤمنين الفقراء وتلهى عنه ، لنسبناه إلى الاشتباه أو كذبناه في دعواه ، فكيف نقبل ذلك في حق نور الأنوار وحجة الجبار والآية المخزونة والرحمة الموصولة ، الذي لولاه لما خلق الله السماوات والأرض ، ولما خلق الأفلاك وبرأ النسمات ، الموصوف في القرآن الكريم بالخلق العظيم والرحمة المبسوطة على العالمين جميعاً .