|
غريزته ذلك ، ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيما على طريق الفطرة (1) وقال تعالى : ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) (2) جعلهم سلفا للآخرين لتقدمهم عليهم في دخول النار ، وجعلهم مثلا لهم لكونهم مما يعتبر به الآخرون لو اعتبروا واتعظوا ، ففرعون مجموعة من الجرائم ساعده قومه على ارتكابها ، تحت شعار الحفاظ على سنة الآباء ، التي لا يستفيد منها سوى فرعون وطابور كهنته الذين يطبخون له الفتوى التي يريد ! لقد أجرى فرعون الدماء على جذوع النخل وفي البيوت وفي القصور وجحد بآيات الله وكل ذلك من أجل حماية شذوذه وامتلك فرعون الكثير ، ولكن هيهات هيهات ، لقد انهالت على السهل أعاصير الشتاء فدمرت ما كانوا يعرشون ، وقلب البحر الهائج سطحه ، وهبط فرعون وقومه إلى الجحيم ليصبحوا عبرة لأصحاب المداخل المسدودة الذين يدونون أوراق الفقه الواحد ، الذي يعبر عن وجهة نظر فرعونية ... قادرة على امتصاص جميع الأهواء وصهرها في قالب ذهبي واحد !
-------------------------------
(1) الميزان : 189 / 20 .
(2) سورة الزخرف ، الآية : 56 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 253 _
انحرافات بني إسرائيل
( وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ ) سورة البقرة ، الآية : 88
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 255 _
الحمار يحمل أسفارا
الطريق إلى المسيح الدجال
مقدمة :
أثناء حكم يوسف (عليه السلام ) لمصر ، جاء بنو إسرائيل وأقاموا فيها ، وسار فيهم يوسف بشريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ، وأرسى قواعد التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله وحده لا شريك له في نفوسهم ، وبعد رحيل يوسف (عليه السلام ) هبت عواصف الفراعنة تحمل الوثنية وتطرحها على أرض مصر من جديد (1) ، ويرى هذا لدى قوله تعالى : ( وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) (2) وعلى امتداد الثقافة الفرعونية تأثرت الروح الإسرائيلية بالوثنية الفرعونية ومنها عبادة عجل أبيس الذي اعتقدوا أن روح الآلهة تسكنه ! وتحت الراية الفرعونية شرب بنو إسرائيل من وعاء المادية حتى أصبحت المادية أصل أصيل داخل نفوسهم ، وهذه المادية هي التي جعلتهم يحكمون في الله سبحانه بما يعقلون من أوصاف الماديات ، ورغم أن شعب بني إسرائيل أجرى حياته في ظل الفرعونية وفيما بعد على المادة إلا أن عصبيتهم
-------------------------------
(1) تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع .
(2) سورة غافر ، الآية : 34 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 256 _
القومية كانت تحتفظ لهم بدين آبائهم بصورة من الصور ، وعلى الرغم من أن الكثرة منهم كانوا يجرون في حياتهم على أصالة الحس ولا يعنون بما وراء الحس، إلا أن عصبيتهم القومية كانت تعتني بما وراء الحس اعتناء تشريفيا من غير أصالة .
وعندما بعث موسى (عليه السلام ) لم يؤمن به إلا القلة إيمانا حقيقيا ، أما الكثرة فكانوا يؤمنون به إيمانا قوميا عاموده الفقري إنجاز المصالح ، وبعد خروج بني إسرائيل من مصر إلى سيناء ، بوأهم الله المبوأ الطيب الذي يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من مسكن وهواء وماء ، فسيناء صحراء جرداء لا شجر فيها ولا سكن والشمس فيها شديدة ، ولكن يطيب لهم المكان ، ساق الله إليهم الغمام ليظلهم ويقيهم وهج الشمس ، وأرسل لهم سبحانه الرياح تحمل لهم المن والسلوى ، وأمر سبحانه موسى أن يضرب بعصاه الحجر ، فلما ضربه انبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء ، وبالجملة أصبحوا وهم مع رسول الله موسى (عليه السلام ) أحرارا يملكون أنفسهم ويعملون بكل حرية وكرامة ويعبدون إله الخلق ، ولكن شعب بني إسرائيل لم يشكر النعمة التي أنعمها الله عليه ، فلقد كانت الكثرة إلى الكفر أسبق ، والناقضون لعهد الله فيهم أكثر ، فبعد أن ملوا من العيش في سيناء ، طلب القوم من موسى (عليه السلام ) سعة العيش ، وقالوا له : لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض ، فقال لهم موسى : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ، فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ند خلها حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .
قال المفسرون : توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار .
والحق أن المراد مصر من الأمصار (1) فموسى (عليه السلام ) حينما أراد الإنتقال بهم إلى إحدى المدن وإلى مصر من الأمصار من بلاد الشام امتنعوا عليه (2) ، وقالوا لا قدرة لنا على مقاومتهم وقتالهم فلما رغبهم بوعظه ونصائحه ، وببيان آياته التي أجراها الله على يديه ، وعلموا منه الجد في لزوم دخول تلك البلاد ، وسكنى تلك الأرض المقدسة ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ
-------------------------------
(1) ابن كثير : 102 / 1 .
(2) كتاب الأنباء : ص 322 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 257 _
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (1) ، لقد طالبهم رسولهم بالقتال ، والإنسان ذو الفطرة النقية يحب الاستشهاد تحت قيادة نبي الله ورسوله ، ولكن القوم لم يرتفعوا إلى هذا الفهم نظرا لأنهم لا يعنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة ولا حقيقة ، ومن أجل هذا قاموا بأعمال تثبت أنهم أكثر أمم الأرض لجاجا وخصاما وأبعدهم عن الانقياد للحق ، لأنهم يتمادون في الجهالة والضلالة ولا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت ، وعن نقض المواثيق وإن غلظت ، والقرآن الكريم سجل لهم العديد من مواقف الكفر والجحود وبأنهم كفروا النعمة وفرقوا الكلمة واختلفوا في الحق ، ولم يكن اختلافهم عن عذر الجهل، وإنما اختلفوا عن علم ، وشعب بني إسرائيل لم يعبد كله العجل ، ولا كلهم عصوا الأنبياء ولا كلهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم ، وإنما نسبت المعاصي إلى الكل رغم أنها صادرة عن البعض ، لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض ، وينسب فعل بعضهم إلى الآخرين ، لمكان الوحدة الموجودة فيهم ، وكما رأينا قبل ذلك أن الذي عقر ناقة صالح كان فردا واحدا ولكن الله تعالى نسب عملية العقر إلى ثمود كلها لأنهم قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض .
* 1 ـ بصمات الانحراف على وجه شعب إسرائيل :
لقد فضل الله تعالى بني إسرائيل على العالمين ، لأن فيهم أنبياء بني إسرائيل، فوجود النبوة هو العمود الفقري للتفضيل وليس وجود الشعب ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (2) قال المفسرون :
-------------------------------
(1) سورة المائدة ، الآيتان : 24 ـ 25 .
(2) سورة الأنعام ، الآيات : 83 ـ 88 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 258 _
قوله : ( وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) فالعالم هو الجماعة من الناس ، كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم ، ومعنى تفضيلهم على العالمين، تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم ، لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة ، وأما غيرهم من الناس فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم ، ويمكن أن يكون المراد ، تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس ، سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم ، فإن الهداية الإلهية من غير واسطة ، نعمة يتقدم بها ، تلبس بها على من لم يتلبس .
وقد شملت المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، فالمجتمع الحاصل من الأنبياء الملتف حولهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي (1) .
فالذين حول دائرة النبوة ، مهديون إلى صراط مستقيم وفي أمن إلهي من خطرات السير وعثرات الطريق ، أما الذين يسيرون على طريق يفرقون فيه بين رسل الله ، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، أو يفرقون فيه بين أحكام الله وشرائعه ، فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض ، أو يركبون الطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنساني ، فهذه الطرق هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه ، لأن أصحابها انحرفوا عن دائرة الأنبياء التي هي شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الأهواء ، فبني إسرائيل فضلهم الله على العالمين لأنهم الأرضية لأنبياء بني إسرائيل ، فبدون الأنبياء ما ذكر اسم بني إسرائيل ، وبني إسرائيل بدون الدين الحق ، لا قيمة لهم ولا وزن ، ولذا نرى أنهم عندما طالبوا موسى بأن يجعل لهم آلهة من دون الله، ردهم (عليه السلام ) إلى دائرة التفضيل التي لا تستند إلا على الدين الحق ، يقول تعالى : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ ... ) (2) الآية قال المفسرون: كانت نفوسهم قد تأثرت بالعبادات
-------------------------------
(1) الميزان : 243 / 7 .
(2) سورة الأعراف ، الآيات : 138 ـ 141 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 259 _
المصرية ، لذلك كانوا يتصورون أن الله سبحانه جسم من الأجسام! وكلما كان موسى (عليه السلام ) يقرب لهم الحق من أذهانهم حولوه إلى أشكال وتماثيل ...
لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم ، فسألوا موسى (عليه السلام ) أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها! فقال : كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا وهو غير الله ربكم ، وإذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة ، فقالوا : فكيف نعبده ولا نراه ، ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده ـ كما يقول عبدة الأصنام ـ فقال : اعبدوه بما تعرفونه من صفته ، فإنه فضلكم جملي سائر الأمم بآياته الباهرة ودينه الحق ، وإنجائكم من فرعون وعمله .
فكما ترى ، دفعهم موسى (عليه السلام ) بألطف بيان وأوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل (1) لقد ردهم (عليه السلام ) إليه بصفته رسول الله الذي على يديه شاهدوا المعجزات وبصفته أعلم الناس بدين الله الحق لأن الله فضله على العالمين ، وبردهم إليه أد خلهم في دائرة التفضيل ، وهم داخل هذه الدائرة ما داموا في ظلال الأنبياء ، فإذا كذبوا الأنبياء أو قتلوهم ، فلا مكان لهم على الصراط المستقيم ولو رفعوا آلاف الرايات التي تحمل في ظاهرها رموز الصراط المستقيم، وبني إسرائيل تاجروا بالاسم على امتداد فترة طويلة من تاريخهم ، وذلك بعد أن قفزوا بعيدا خارج دائرة الأنبياء ، لقد تمردوا على موسى وهارون عليهما السلام ، يقول تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) (2) قال المفسرون : أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة (3) ولم يقف الأمر عند موسى ، بل تمردوا على جميع أنبياء الشجرة الإسرائيلية ، حتى لعنهم داوود وعيسى ابن مريم عليهم السلام ، يقول تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) (4) قال المفسرون : إخبار
-------------------------------
(1) الميزان : 235 / 8 .
(2) سورة الصف ، الآية : 5 .
(3) ابن كثير : 359 / 4 .
(4) سورة المائدة ، الآيات : 78 ـ 79 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 260 _
بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم ، وفيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات ، بأنهم ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم ، وذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم واستمرارهم على الاعتداء .
لقد قطع بنو إسرائيل شوطا طويلا في عالم الانحراف ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء بغير حق ، وقالوا قلوبنا غلف ، وبعد هذا يقولون ، إن الله فضلهم على العالمين! إن الشذوذ الذي دق قوم نوح أوتاده انتهى آخر الأمر إلى سلة بني إسرائيل ! بمعنى أن الانحراف الذي وضعه قوم نوح ، ضرب الله أصحابه بالغرق ليكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم ... أما الانحراف نفسه فإن طرحه على الأجيال في كل زمان ، مهمة شيطانية ... فالشيطان يلتقط الانحراف بعد التجربة الإنسانية الأولى، ثم يزينه بما يستقيم مع جيل آخر ، وبعد انتهاء الجيل يقوم بتعديل الانحراف بعد التجربة الإنسانية الثانية ، ليلقيه على جيل ثالث ، وهكذا ، فمن كان له عبرة في السلف وتذكر ضربات الطوفان والرياح والصيحة وغير ذلك ... ابتعد بفطرته النقية عن مصادر الشذوذ الملون والانحراف المغلف بأغلفة براقة ! أما الذين تربعت عبادة العجول على عقولهم ، فإن في سلالهم تتجمع جميع الانحرافات ابتداء من قابيل قاتل أخيه وانتهاء بآخر انحراف وآخر شذوذ ، وبنو إسرائيل استحوذوا على جميع الانحرافات ثم قاموا بنشرها على صفحة العالم للصد عن سبيل الله ، معتمدين في ذلك على أديان اخترقوها وقاموا بتوجيهها نحو أهدافهم وأيضا على منظمات وجمعيات تحمل لافتات براقة ظاهرها الرحمة والعدل وباطنها العذاب الأليم ، ونحن سنوجز هنا انحرافات الأوائل التي استقرت في السلال الإسرائيلية بعد أن قام تلاميذ الشيطان بتحويرها وتهذيبها وتجميلها حتى استقرت في الصورة الأخيرة .
1 ـ بصمة انحراف قوم نوح :
كما ذكرنا من قبل أن قوم نوح عبدوا الأصنام ، ورفضوا بشرية الرسول ، وأطاحوا بسنة العدل الاجتماعي فقسموا البشر إلى أقوياء وضعفاء ، فالأقوياء هم الأشراف ، والضعفاء هم الأراذل ، وبنو إسرائيل لم يخرجوا قيد أنملة عن هذا ، لقد عبدوا العجل واتبعوا الأهواء ، وسنتكلم عن هذا في موضعه ، أما رفضهم للرسول البشر ، فلقد رفعوا هذه اللافتة في وجه نبي الله الخاتم محمد صلى الله
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 261 _
عليه وآله وسلم ، يقول تعالى : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ )
(1) قال المفسرون : أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وعليه فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب ، والطائفتين ترجعان إلى أصل واحد ، وهو شعب إسرائيل ، بعث إليهم موسى وعيسى عليهما السلام ، ودعوة عيسى انتشرت بعد رفعه في غير بني إسرائيل ، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى (عليه السلام ) (2) ، لقد سألوا رسول الله أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوب من الله إلى فلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به (3) ، وهذا السؤال بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن ، لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة ، وإنما يلغو ويهذو بما قدمت له أيدي الأهواء ، من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس (4) .
ولم يطلبوا خطاب السماء فقط ، وإنما طالبوا أيضا بآية على الأرض يقول تعالى : ( الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ )
(5) قال المفسرون : كذب الله تعالى هؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار ، وأخبر على لسان رسوله ، بأنه قد جاءهم رسل من قبل محمد بالحجج والبراهين وبنار تأكل القرابين ، فلماذا قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلوهم ، أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم ، ثم أخبر الله تعالى رسوله بأن لا يوهنه تكذيب هؤلاء له ، فله أسوة بمن قبله من الرسل الذين كذبوا مع ما جاؤوا به من البينات.
-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 153 .
(2) الميزان : 129 / 5 .
(3) ابن كثير : 572 / 1 .
(4) الميزان 130 / 5 .
(5) سورة آل عمران ، الآيتان : 183 ـ 184 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 262 _
وبنو إسرائيل الذين يرفعون لافتة التفضيل على العالمين ، قالوا لمحمد رسول الله قاله فرعون لموسى (عليه السلام ) لقد وصف فرعون آيات موسى بالسحر ، وبنو إسرائيل لم يفعلوا أكثر من هذا ، يقول تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (1) قال المفسرون : ملخص دعوة عيسى (عليه السلام ) ( أني رسول الله إليكم ) أشار بهذا إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم ، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله ، ( مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ ... ) فقوله : ( مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة ، ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ، ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا ، والنسخ بيان انتهاء أمر الحكم وليس بإبطال ، ولذا جمع (عليه السلام ) بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها في قوله : ( وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) (2) ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله ، ( قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (3).
وقوله : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته (عليه السلام ) ، وقد أشار إلى الشطر الأول بقوله : ( مصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه ، ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه ، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته ، هو انفتاح باب الرحمة الإلهية على الناس ، فيه سعادة دنياهم وعقباهم ، من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما ... فماذا فعل بنو إسرائيل في الرسول الذي بعثه الله ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وبين لهم بعض ما يختلفون فيه ؟ وماذا كان موقفهم من النبي أحمد صلى الله عليه وآله الذي بشر به عيسى والذي يجدونه مكتوبا عند هم في التوراة والإنجيل ؟ لقد كان موقفهم من
-------------------------------
(1) سورة الصف ، الآية : 6 .
(2) سورة آل عمران ، الآية 50 .
(3) سورة الزخرف ، الآية : 63 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 263 _
عيسى أنهم كذبوه ، وحاصروه ، فرفعه الله إليه ، أما موقفهم من أحمد صلى الله عليه وآله فكان هو نفس موقف فرعون من موسى ( قالوا هذا سحر مبين ) .
أليس في هذا بصمات كفار قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون ، لقد رفضوا بشرية الرسول بما يستقيم مع أهوائهم ، فطالبوا بكتاب من السماء وقربان تأكله النار وعندما شاهدوا المعجزة أمام عيونهم بعد ما شاهدوا معالمها على صفحات كتبهم قالوا : هذا سحر مبين ، وبعد أن رفضوا القمة على امتداد عصورهم ، بدأوا يرفضون القاعدة وفقا لفقه كفار قوم نوح الذين صنفوا البشرية إلى قسمين ، أشراف وأراذل! فهذا الفقه سار بشذوذه على امتداد المسيرة البشرية ، واستقر في النهاية داخل سلة بني إسرائيل ، فادعوا أنهم شعب الله المختار ! وأنهم أولياء الله وأحباؤه ، وباقي البشر بالنسبة لهم مجرد حيوانات آدمية تكد من أجلهم ، وتحمل على ظهورها أحجار هيكلهم، ولقد أطاح القرآن الكريم بتصنيفهم للبشر ، وتحداهم بأن يتمنوا الموت أمام رسول الله الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (1) قال المفسرون : ومحصل المعنى ، قل لليهود مخاطبا لهم ، يا أيها الذين تهودوا ، إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس ، إن كنتم صادقين في دعواكم ، فتمنوا الموت ، لأن الولي يحب لقاء وليه ، ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة ، ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت ، وعلى هذا فهو يحب الموت ويتمنى أن يحل به ، ليدخل دار الكرامة ، ويتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة ، وقد علل سبحانه عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم ، وهو كناية عن الظلم والفسوق ، ومعنى الآية ( ولا يتمنونه أبدأ ) أي ولا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم، فكانوا ظالمين والله عليم بالظالمين ، يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه، لا ولاية بينه وبينهم ولا محبة ، والآيتان مع معنى قوله تعالى : ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ) (2) إن ادعاء
-------------------------------
(1) سورة الجمعة ، الآية : 6 ـ 7 .
(2) سورة البقرة ، الآيتان : 94 ـ 95 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 264 _
الولاية تطوير لأطروحة الأشراف والأراذل... تلك الأطروحة التي مرت بتجارب عديدة داخل المعامل الشيطانية حق طالت الكبير والصغير ، داخل البيت الواحد والشارع الواحد والقرية الواحدة ، لقد رفع الأشراف أعلا مهم ، وما زالوا يسخرون من الأراذل الذين يجمعون الألواح والدسر ، إن ادعاء بني إسرائيل هذا كان مظلة كبرى قاست البشرية من تحتها جرائم لا حصر لها ، وحتما سيأتي الطوفان يوما ، وليس كل طوفان من ماء. وليس كل سفينة من ألواح ودسر .
2 ـ بصمة انحراف قوم عاد :
استكبرت عاد قوم هود ، ودقت في خيام الانحراف وتد وثقافة ( من أشد منا قوة ؟ ) ، وهذا الشذوذ ناله التطوير على امتداد المسيرة البشرية ، فتلاميذ الشيطان ، وفروا لكل منحرف جرعته ! أما فيما يتعلق ببني إسرائيل ، فلقد امتلأت سلالهم بالذهب وبالمكائد ، بالترغيب والترهيب ، بالتجويع والتخويف ، والقرآن عندما سجل لهم انبهارهم بما عندهم وضعهم في موضع الخزي ، فعاد عندما قالوا من أشد منا قوة ؟ لم يشيروا إلى الله سبحانه صراحة .
لهذا قال تعالى : ( أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ... ) (1) أما بنو إسرائيل فلقد طرحوا الفقه بعد تطويره وقالوا إن الله فقير !!! وإن يده مغلولة !!! أما هم فأغنياء ، يقول تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ) (2) قال المفسرون :
إنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شئ من أمر الرزق ، إما في خصوص المؤمنين ، لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة ، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه ، إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر ، وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) (3) فقالوا : يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه ، لترويج دينه وإحياء دعوته ، وقد رد الله عز
-------------------------------
(1) سورة فصلت ، الآية : 15 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 64 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 245 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 265 _
وجل عليهم ما قالوه ، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه (1) ، ولعنهم ، ولعنة الله تعالى لأحد ... إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي ، فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه ومن غيره (2) .
وفي موضع آخر يقول تعالى : ( لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ) (3) قال المفسرون : القائلون هم اليهود ، بقرينة ما في ذيل الآية من قتلهم الأنبياء وغير ذلك ، بأنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم ، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم ، فليس إلا فقير ونحن أغنياء !!! وقد رد الله عز وجل عليهم ما قابلوه ، وأخبر سبحانه أن قولهم هذا ومعاملتهم رسل الله ، وقد قارن الله قولهم هذا بقتل الأنبياء : لكونه قولا عظيما .
سيجزيهم الله عليه شر الجزاء .
لقد تمدد فقه عاد آخر الزمان وجاب البحار وحلق في الفضاء وجلس على مقاعد الصفوف الأولى في المحافل الدولية ! وتسلل من تحت الأظافر ليتجسس على الناس ويحصي الكلمات حتى في السكون ! وجميع ذلك في الظاهر من أجل حقوق الإنسان ، أما في الباطن فمن أجل إنسان واحد ، يعتقد بأن الله فضله على العالمين وأنه شعب الله المختار ، بدون قيد أو شرط ، إنه فقه القوة وبناء الأعمدة والجدران ! إنه فقه الغطرسة والاستكبار ، وما عاد من الظالمين ببعيد !
3 ـ بصمة انحراف ثمود :
لقد عقرت ثمود الناقة التي جعلها الله آية لصالح (عليه السلام ) ، وإذا كان عقر الحقائق قد شق طريقه وسط المسيرة البشرية ، بواسطة تلاميذ الشيطان، فإن فقه العقر عندما وصل إلى سلة بني إسرائيل كان قد ذهب مذهبا بعيدا ، فالقوم تخصصوا في قتل الأنبياء ، يقول تعالى :( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) (4)
-------------------------------
(1) ابن كثير : 75 / 2 .
(2) نالميزا : 33 / 6 .
(3) سورة آل عمران ، الآية 181 .
(4) سورة المائدة ، الآية : 70 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 266 _
قال المفسرون : يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسله ، فنقضوا تلك العهود والمواثيق ، واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقد موها على الشرائع ، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه (1) وعلى هذا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أساؤوا مواجهته وإجابته وجعلوا الرسل المبعوثين فيهم فريقين : فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ، وقد ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا ، فأعمى ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق ! وأصم ذلك آذانهم من سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم !
واليهود قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام ، وكان الله قادرا على منعهم من قتلهما ، كما كان سبحانه قادرا على منع ثمود من عقر الناقة، ولكن كل شئ يجري لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة ! فزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام هم آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية ، ومن عدل الله سبحانه أنه جعل سد منافذ الهدى يأتي على أيدي الظالمين ، ليكون رفضهم للهدى هو عين إقامة الحجة عليهم بأنهم قد جاءهم من الله هدى ، وقتل بني إسرائيل لأنبياء الله، يدل على أن القوم اتسعوا في الانحراف والشذوذ ، ومعنى رفضهم للهدى من أجل المحافظة على الانحراف، أنهم باختيارهم خرجوا من دائرة التفضيل على العالمين ، لكونهم شعب غير جدير بالجندية تحت قيادة أنبياء الله، باختصار لم يظلمهم الله، فهم الذين قتلوا الأنبياء وهم الذين قفزوا خارج دائرة التفضيل ، ولأن قيادة البشرية ليست حكرا على أحد، فقد جاء الله تعالى بالذين يتولون قيادة المسيرة من بعد شعب بني إسرائيل الذي تفرغ للكيد وا الظلم والفساد ، وبني إسرائيل كان عمدتهم في قتل الأنبياء وتكذيبهم ، أنهم ! يجدون عندهم ما تهوى أنفسهم.
بمعنى أنهم يريدون أن يتبع الحق أهواءهم ! ! وهذا ضد حركة الوجود لقوله تعالى : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ) (2) قال المفسرون : إن الذين يكرهون الحق ، إنما يكرهونه لمخالفته هواهم ، فهم يريدون من الحق أن يتبع أهواءهم وهذا مما لا يكون ، إذ لو اتبع الحق أهواءهم .
-------------------------------
(1) ابن كثير 80 / 2 .
(2) سورة المؤمنون ، الآية : 71 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 267 _
تركوا وما يهونه من الإعتقاد والعمل فعبدوا الأصنام واتخذوا الأرباب واقترفوا ما أرادوه من الفحشاء والمنكر والفساد ، جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة والنظام الذي يجري فيها بالحق ، فيعطي كل واحد منهم ما يشتهيه من جريان النظام ، ولا يكون ذلك إلا بتغيير أجزاء الكون عما هي عليه ، فتبدل العلل والأسباب ، وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة ، توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم ، وفي هذا فساد السماوات والأرض ومن فيهن ، واختلال النظام ، وانتفاض القوانين الجارية في الكون ، لأنه من البين أن الهوى لا يقف على حد ولا يستقر على قرار .
وقديما عقرت ثمود الناقة ، وكانت الناقة ترشد هم إلى الطريق الحق ، فعندما تغوص ثمود في أوحال الذنوب تشرب الناقة من الماء الكثير ولا تترك لهم إلا القليل ، كما تأكل من العشب مثل ذلك ، وعندما يخرجوا من أوحال الذنوب لا تشرب الناقة ولا تأكل إلا القليل ، كانت الناقة تفعل وصالح (عليه السلام ) يترجم .
لكنهم أبوا إلا الأوحال وأرادوا أن توافق حركة الناقة أفعالهم التي تمليها أهواءهم ولأن الحق لا يتبع الأهواء ... عقروها ، ولأن الأنبياء لم يأتوا بني إسرائيل إه بما لا تهوى أنفسهم قتلوهم ، فأي فرق بين ثمود وبين بني إسرائيل ؟ لقد قتلوا زكريا ويحيى وقالوا : ( إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ ) (1) لقد شاهدوا معجزاته الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها ، وأجراها على يديه ، ومع هذا كذبوه !
وخالفوه ! وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم ! حتى جعل نبي الله عيسى (عليه السلام ) لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام ، ولم يتركوه في سياحته فعملوا على حصاره ، وعندما شرعوا في الهجوم عليه ، رفعه الله إليه ، وألقى الله شبه عيسى على آخر ، فلما رأوا شبيهه ظنوه إياه فألقوا القبض عليه وصلبوه ، إن حركة ثمود لم تمت ، بل تجددت ولبست أكثر من ثوب ذواعا عن الأهواء ، بعد أن فقد القوم روح الطاعة والسمع لرسل الله، وبعد أن استقرت
-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 157 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 268 _
ملكة الاستكبار والعتو فيهم ، فإن حركة ثمود باقية تحفر بخناجرها الصخور والقبور ليد فنوا كل ناقة ، وكم في كون الله من ناقة لا تسير على أربع ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (1) .
4 ـ بصمة انحراف قوم لوط :
قوم لوط قطعوا السبيل ودقوا أوتاد اللاأخلاق في طريق المسيرة البشرية ، ورقعوا الحجارة في وجه من يريد الاصلاح ! وهددوه بالرجم وخوفوه بالإخراج من قريتهم ! كان لوط (عليه السلام ) يريد زرع الأخلاق الفاضلة وإزالة الأخلاق الرذيلة لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلا قهم كان (عليه السلام ) يريد أن يرتفع القوم ويخرج من حياة الحضيض حيث الفحشاء والوقاحة والفساد إلى بئر العفة حيث يتعلمون الأدب ولا يتركون شيئا إلا لله ولا يتعلقون بسبب إلا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه وبعده ، ولكن القوم أبوا إلا الفحشاء والعار فحل بهم الدمار ، ومن بعدهم بدأت الفحشاء حول وتدهم الذي دقوه تتسع شيئا فشيئا ، وعندما استقرت الفحشاء في معامل بني إسرائيل خرجت بوجوه عديدة ، تنطلق من فقه يحب أن تشيع الفاحشة بين الناس ، ومن أجل هذا الهدف زينوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، زينوا المقدمات والنتائج .
وبعد أن رفعت أعلام الفواحش فتحوا الأبواب للمنكر ودونوا له الدساتير وبعد أن استقر في عالمهم المنكر دخل البغي .
إنها دوائر تسلم بعضها بعضا ، فالفاحشة في عهد قوم لوط كانت بقعة قذرة ، أما في عهد بني إسرائيل فكانت أقذر وأوسع ، لقد سيطرت أدواتهم على عالم السهرات والأزياء وبيوت التجميل ومعامل السينما ودور العرض ووسائل الإعلام مسموعة ومنظورة ومقروءة ، وظهرت في مدارسهم اللاأخلاقية أجيال المخنثين وفي هذه الدوائر ظهر الجنس الثالث حيث الرجال للرجال ! والجنس الرابع حيث النساء للنساء ! واتسعت تجارة اللواط والزنا والسحاق وأصبحت لها مدن ودول واستيراد وتصدير ! وبالجملة قطع الفساد شوطا طويلا في عالم الانحراف والشذوذ وأصبح يهدد البشرية في عمقها ، وتهديد العمق البشري يدرج
-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآية : 227 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 269 _
في جرائم إهلاك النسل ، وفي عصر الهيمنة لبني إسرائيل وأتباعهم سعى الجميع في الأرض ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل ، وكما رفع قوم لوط الحجارة في وجه الذين يتطهرون! فإن بني إسرائيل عملوا من أجل إشعال الحروب للفتك بالذين يتطهرون ، يقول تعالى : ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (1) قال المفسرون ن أي أنه كلما أثاروا حربا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم ، والآية على ما يدل السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التي يوقدونها على دين الله وعلى المسلمين ، بما أنهم مؤمنين بالله وآياته (2) وقوله : ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ) أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الافساد في الأرض والله لا يحب من هذه صفته (3) ، إن فقه الفساد الذي يحوي بين دفتيه جميع صور الفواحش ، سهر عليه الذين لعنهم الله في القرآن ، والله تعالى لعن في القرآن إبليس ولعن فيه اليهود ولعن فيه المشركين ولعن فيه المنافقين ، والملعون لا يمكن بحال أن يقيم مجتمعا فاضلا عادلا ، لأن المجتمع الفاضل لا يقومك إلا بالأخلاق الفاضلة ، والأخلاق الفاضلة تحتاج إلى عامل يحرسها ويحفظها في ثباتها ودوامها ، ولا يكون هذا العامل سوى التوحيد .
5 ـ بصمة انحراف أهل مدين :
لقد نهى الله تعالى عن نقص المكيال والميزان ، وسماه إفسادا في الأرض ، ومدين دقت وتدها في طريق المسيرة البشرية ، ولقد نصحهم شعيب (عليه السلام ) فأبوا إلا بخس الناس أشياءهم ، وفي عهد بني إسرائيل اتسعت دوائر المعاملات المالية ، وأصبح للمال بيوت عتيقة دولية وإقليمية ، وقلما تجد بيتا عتيقا من هذه البيوت ليس لليهود فيه خيط ، فالقوم أحكموا السيطرة لمعرفتهم بخفايا الربح السريع على امتداد تاريخهم الطويل ، والقرآن الكريم وصفهم بأنهم في معاملاتهم يأكلون السحت ، والسحت هو كل مال اكتسب من حرام ، يقول
-------------------------------
(1) سورة المائدة ، الآية : 64 .
(2) الميزان : 36 / 6 .
(3) ابن كثير : 76 / 2 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 270 _
تعالى : ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(1)، وقال تعالى : ( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ) (2) قال المفسرون : لقد نهاهم الله عن الربا ، فتناولوه وأخذوه ، واحتالوا عليه بأنواع الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل (3) وأهل الكتاب كل ثمين عندهم خضع للنجارة فحرفوا الكلم عن مواضعه وأخذوا على ذلك رشوة ، ويقول تعالى في طائفة منهم : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) (4) قال المفسرون : هؤلاء صنف من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل (5) وقال تعالى : ( إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (6) .
فإذا كانت القاعدة والقمة مهمتها بخس الناس أشياءهم وأكل أموالهم بالباطل ، فإنه لا أمل في إقامة المجتمع الإنساني الذي يليق بالإنسان الفطري ، وكيف يتم هذا إذا كان أهل القمة على أرائك الدين قد انحرفوا إلى سبيل الباطل ، وهم المعنيون بإصلاح قلوب الناس وأعمالهم ودفع الناس في سلوك طريق العبودية ، في الحقيقة إن أباطرة الحال في المحافل الدولية العتيقة لم يكن الإصلاح هدفا لهم في يوم من الأيام ، وكيف يكون ذلك وهم الذين يسعون في الأرض فسادا بنص القرآن ، لقد امتدت أيديهم إلى الجهة المالية التي يقوم عليها المجتمع الإنساني واستحوذوا عليها ، ثم بدأوا العمل المنظم الذي يؤدي إما إلى فقر مفرط ، وإما إلى غنى مفرط ، لأن هذه النتيجة ستؤدي في النهاية إلى فرض تربيتهم وسياستهم ! وفي ظل التربية والسياسة هذه لا ترى ملامح حكمة ولا يصغى فيه لموعظة ... لقد هيمن أصحاب الأرائك الدينية على الجهات المالية
-------------------------------
(1) سورة المائدة ، الآية 62 .
(2) سورة النساء ، الآية : 161 .
(3) ابن كثير : 584 / 1 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 79 .
(5) ابن كثير : 117 / 1 .
(6) سورة التوبة ، الآية : 34 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 271 _
للصد عن سبيل الله كما نصت الآية ( لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) وعندما بدأ العبث المنظم بالجهة المالية للمجتمع الإنساني ، ترتب على هذا العبث جنايات وتعديات ومظالم تنتهي بالتحليل ... إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعديات المالية ، وإما إلى غنى مفرط يدعو إلى الإتراف والإسراف في المأكل والمشرب والمنكح والمسكن والاسترسال في الشهوات ، وهتك الحرمات ، وبسط التسلط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم .
وأصحاب الأرائك ، أو أصحاب الأيكة الجدد لا يضرهم الذين ساروا في طريق الفقر الذي انتهى إلى قطعهم للطرق واختلاسهم لأموال الناس ، ولا يضرهم الذين ساروا في طريق الغنى الذي انتهى بهم إلى الاسترسال في الشهوات لأن خيوط اللعبة كلها في أيديهم ، فإذا اختل النظام الحاكم في حيازة الأموال هنا ، رد عليه نظام آخر في اقتناء الثروة هناك ، إن أصحاب الأيكة الجدد يقبضون على المال ويظفرون بالثروة وهي بين أهلها الذين قتلهم الفقر أو الذين قتل فيهم الترف إنسانيتهم ، والقبض على المال ليس غاية وإنما الصد عن سبيل الله هو الغاية ، والمحيط الإنساني عندما يجري فيه قطاع الطرق الذين يبحثون عندما يسرقون ، ويجري فيه الذين يبحثون عن مشتهيات النفس ومتعتها ، ينقلب هذا المحيط إلى محيط حيواني ردئ ، لا هم فيه إلا البطن وما دونه ، ولا يملك فيه أحد إرادته ، وبفشو الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقي تغلق أبواب الحكمة والمواعظ وهذا هو هدف أصحاب الأيكة الجدد ، وأن لا يقوم مجتمع حي فعال يليق بالإنسان الفطري ، المتوجه إلى سعادته الفطرية ، ولأن السعادة الحقيقية يصل إليها الإنسان ، أو يعمل للوصول إليها عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت ، قام أصحاب الأيكة الجدد برفع أعلام أكثر من طاغوت ، أعلام مغلفة بأغلفة تستقيم مع روح العصر الحديث ، فأيهما أبشع وجها ، أهل مدين أم أصحاب الأيكة الجدد ؟
6 ـ بصمة انحراف الفراعنة :
تقوم العقيدة الفرعونية في الأساس على عبادة الشمس ، وهذه العبادة
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 272 _
أنتجت في النهاية ثالوثا عموده ، الفقري أسطورة إيزيس وأوزير وولدهما حور ، ورغم أن صورة هذا الثالوث شملت جميع الآلهة عند الفراعنة فيما بعد حيث جعلوا ( لرع ) وغيره زوجة وابنا ، إلا أن عجل أبيس كان هو الصورة المثلى للثالوث ولحلول روح الإله فيه ! وكان إذا مات عجل من هذه العجو لي أقامت مصر الحداد وخضعت الجثة لفقه معقد وسارت الجنازة وفقا لطقوس عجيبة ، وكانت أهم مدافن هذه العجول سيرابيوم سقارة (1) وبنو إسرائيل عندما كانوا في مصر بالقطع شاهدوا الحداد وشاركوا في جنازات العجول ، بل واكتسبت قلوب أكثرهم حب هذه العجول ، كما أن بعضهم اختلطت نفسه بعقيدة ابن الإله ... وإلا فلماذا عبدوا العجل ، ولماذا قالوا عزير ابن الله ! ؟ ووفقا لأطروحتهم هذه ... لم يغلق باب بني إسرائيل حتى قالوا بأن المسيح ابن الله! ونحن إذا عدنا إلى نقطة البداية ... عندما عبر بهم موسى (عليه السلام ) البحر ، نجد أنهم عندما شاهدوا قوما يعكفون على أصنام لهم ... طالبوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة .
وبالجملة كان القوم على استعداد للانحراف نظرا لعب ء الثقافة الفرعونية على عقله وقلبه ، ولقد آتت هذه الثقافة ثمارها ، عندما وعد الله تعالى موسى (عليه السلام ) أن ينزل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوما ، وأخبر موسى قومه بذلك وجعل عليهم أخاه هارونا عليه السلام، فلما جاء الثلاثون يوما ولم يرجع موسى .
عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون ! وقالوا : إن موسى كذب وهرب منا ، وعندئذ تقدم السامري وكان من أصحاب موسى وكان على مقدمة القوم يوم أغرق الله فرعون وأصحابه ، وروي أن السامري وهو على مقدمة القوم شاهد فرس جبرائيل كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض، تحرك ذلك الموضع فأخذ السامري قبضة من هذا التراب ، وصرها في صرة وكان يفتخر بها على بني إسرائيل .
وعندما هم القوم بهارون واتهموا موسى بالهرب ... أمر السامري بجمع الذهب ، وفي رواية أن الشيطان جاءهم في صورة رجل وقال لهم : إن موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه ، وعندما جاء القوم بالذهب وصنعوا العجل ... ألقى السامري بالتراب الذي معه في جوف العجل ، فلما وقع التراب في جوفه خار فسجد له أكثر بني إسرائيل !
-------------------------------
(1) تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 273 _
قال تعالى : ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ) (1) وكان اتخاذ العجل خطوة أساسية في عالم الانحراف ما زالت باقية في عالم المادة ، وعلى الرغم من أن العجل قام موسى (عليه السلام ) بنسفه في اليم ولم يعد له وجوب إلا أن العجل قبل أن ينسفه موسى كان قد شربته القلوب ! يقول تعالى : ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) (2) قال المفسرون : الإشراب هو السقي ، والمراد بالعجل : حب العجل ، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل (3) ، لقد جريت ثقافته في الدماء ، يبتلعها كل من وجد هواه فيها ، ومن امتص قلبه الزخرف وقع تحت العقاب في أي زمان وفي أي مكان قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) (4) قال المفسرون ، أبهم الله تعالى ما سينالهم من غضبه وذلة الحياة ، فلم يبين ما هما ، رذيل الآية : ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) يدل على أن غضب الله وذلة الحياة الدنيا ، سنة جارية إلهية في المفترين على الله (5) ، ونائلة لكل من افترى بدعة ، فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفه ، وإن ذل البدعة على أكتافهم وإن همجلت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين ، وقد نبه تعالى عباده وأرشدهم أنه يقبل توبة عباده (6) ، فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أي سيئة كانت ، لم يمنع من قبولها مانع (7) .
وعقاب الذلة الذي ضربه الله على الذين اتخذوا العجل ، ظل علامة مميزة لهم على امتداد الزمان يحمله الذين جاؤوا على أهوائهم جيلا بعد جيل ، يقول تعالى : ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ
-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية : 148 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 93 .
(3) الميزان : 222 / 1 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 152 .
(5) الميزان : 253 / 8 .
(6) ابن كثير : 248 / 2 .
(7) الميزان : 253 / 8 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 274 _
يَعْتَدُونَ ) (1) قال المفسرون ، أي وضعت عليهم الذلة والمسكنة ، وألزموا بها شرعا وقدرا ، أي لا يزالون مستذلين من وجد هم استذلهم وأهانهم (2)، إن الذلة كانت علامة آبائهم الأوائل الذين جلسوا حول العجل ، وعندما جاء الذين يسيرون على هدى الآباء، قتلوا الأنبياء ، لأن الأنبياء لم يأتوا لهم بما يستقيم مع الذي في قلوبهم ، ويقول تعالى عن الذين يحملون علامات الذل في موضع آخر :
( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ) (3) قال المفسرون : إن الذلة مضروبة عليهم كضرب الخيمة على الإنسان أو كضرب السكة على الفلز فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله ، وحبل وسبب من الناس وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة ، فإنه من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا ، ومن الناس البناء والعمل ، والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم والدليل على ذلك قوله ، ( أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ ) فإن ظاهر معناه أينما وجد هم المؤمنون أي تسلطوا عليهم ، وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية ، فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي، إلا أن يد خلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء .
وقال بعض المفسرين ، إن قوله : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) ليس في مقام تشريع الحكم. بل إخبار عما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر ، فإن الإسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس ، وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى ، وهذا المعنى لا بأس به (4) ، لقد اتبعوا عجول الفراعنة فضربتهم الذلة بعد عجل سيناء ، ولأنهم يعلمون أن مقامهم في الذلة يتحدد بدقة ، إذا هيمن الدين الحق ، لم يدخروا جهدا في وضع العراقيل أمام مشاعل النور للدين الحق، واشتروا بذهب العجول كل
-------------------------------
(1) سورة البقرة ، الآية : 61 .
(2) ابن كثير : 102 / 1 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 112 .
(4) الميزان : 384 / 3 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 275 _
رخيص وكل سلاح وأحصوا الكلمات وتتبعوا المواليد خوفا من أن يخرج منهم من يؤرق مضاجعهم وحاصروا الشواطئ وتحول كل واحد فيهم إلى هامان جديد .
* 2 ـ من معالم الخزي في الحي اليهودي :
عندما شاء الله أن يتقدم بني إسرائيل المسيرة البشرية وراء أنبيائهم في عالم يعج بعبادة غير الله، أقام الأنبياء الحجة الكاملة على البشرية، وفي نفس الوقت على القاعدة التي منها ينطلقون ألا وهم بنو إسرائيل ، وإقامة الحجة هي العامود الفقري فإما أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا ، فهذه قضية أخرى عامودها الفقري أن الله غني عن العالمين ، فالله تعالى هو خالق الإنسان وبما أنه خالقه فهو سبحانه أعلم بما يصلحه ، فبعث إليه الأنبياء والرسل بالإصلاح ، فمن تقبل الدواء نال الشفاء ومن أبى إلا المرض عاش فيه وأصابه ما أصابه ، فإن عاد بالتوبة قبله الله ، وإن أصر على المعصية ففي الدنيا عذاب وفي الآخرة عذاب ، ودين الله لا إجبار فيه والله غني عن العالمين، ولأن بني إسرائيل كانوا في المقدمة يوم أن فضلهم الله على العالمين ، فإن الله تعالى جعل في بعضهم آيات تكون عبرة للقوم كي يستقيم المعوج وتواصل المقدمة المسيرة ، ولكن تكون عبرة لمن يأتي بعدهم لينظر كيف تكون حركة التاريخ، ومن هذه الآيات بعد خروجهم من مصر : إهلاك السبعين وإحياؤهم ، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا ، والتظليل بالغمام وإنزال المن والسلوى ، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة ، وآية البقرة ومسخ بعضهم قردة خاسئين ، وآيات كثيرة حدثت على امتداد رحلة تفضيلهم وهم وراء الأنبياء من بعد موسى (عليه السلام ) ، منها خروج قوم من أوطانهم هربا من الطاعون وكانوا أعدادا كثيرة ، فأماتهم الله دهرا طويلا ثم بعثهم في وقت واحد ، فهذه كلها آيات كان من المفروض أن تكون زادا لبني إسرائيل يمنعهم من الانحراف ، لكن القوم تركوا وراء ظهورهم الآيات والعبر وعندما انتهت رحلة التفضيل ، وانتقل الطريق والقافلة إلى غيرهم ، جلسوا يجترون الذكريات ويعيشون في أوهام التفضيل وأعلامه ، ونحن لن نسرد كل آيات العذاب التي ضربهم بها الله ليستقيم المعوج منهم ، وإنما سنلقي الضوء على آيتين لما فيهما من عبر جامعة لم يلتفت إليها القوم ، الأولى خاصة برجل آتاه الله الأموال وكانت عنده الكنوز والثانية لرجل آتاه الله العلم وأراه الآيات العليا ، ولكن الرجلان جرت في دمائهما كل معالم
| |