الجزيره ، وشهدت جلسات السمر في مضارب القبائل احاديث عن رجل مكي اسمه محمد ، من بني هاشم وخفقت القلوب لكلمة التوحيد ، فجاءت تقطع المسافات تتنسم اخبار النبي ، وذات يوم شدّ جندب من قبيلة غفار الرحال إلى مكّة ، فدخلها على حذر ، واتجه إلى الكعبة بيت الله الحرام علّه يعثر على ضالته ، وراح يراقب عن كثب الوجوه ، فقد يرى محمداً ، ويصغي إلى الأحاديث المتناثرة فلعله يمسك بخيط فيها يدلّه على النبي ولكن دون جدوى .
توارت الشمس خلف تلال مكّة ، ودبّ المساء ، واقفرت الكعبة من الوافدين ، والرجل الغفاري ما يزال جالساً ينتظر ، وقد اعتصر اليأس قلبه ... مرّت لحظات فدخل شابٌ حرم المسجد وراح يطوف حول البيت العتيق ، ودار حوار مقتضب بينه وبين القادم الغريب : ـ من الرجل ؟
من غفار .
قم إلى منزلك .
وأكبر الرجل الغفاري سماحة الفتى المكّي فنهض معه إلى منزله .
العربي والسماحة ما بعث في قلبه الأمل ولم يكن الغفاري ليعلم من يكون هذا الفتى ؟
وفي الصباح عاد الرجل الغريب ادراجه إلى الكعبة وراح كعاده يتصفح الوجوه ويصغي إلى الأحاديث ، وحلّ المساء ، ومرّ الفتى والقى كلمته بودّ : ـ أما آن للرجل ان يعرف منزله ؟!
ونهض الرجال الغفاري ملبّيا دعوة الفتى ومضى معه إلى منزل كريم .
ويتكرر ذات المشهد في اليوم الثالث ، وقد ارتاح جندب إلى ذلك الفتى الطيب ، وان لم يعرف هويّته بعد .
والتزم الرجل الغريب كعادته الصمت وان بدت الحيرة على وجهه فسأل الفتى ضيفه : ـ اراك متفكراً ففيم تفكر ؟
ووجد الغريب نفسه يصارح الفتى بشيء من الاحتياط .
ـ ان كتمت عليّ خبرتك .
ـ أكتم عليك ان شاء الله .
وارتاح الغريب لكلمة حبيبة إلى قلبه ، فافصح عن مهمّته التي جاء من أجلها مكّة .
ـ بلغنا انه قد خرج هنا رجل يزعم انه نبي فأردت ان القاه .
إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري
_ 22 _
ـ اما انك قد رشدت اتبعني حيث اذهب ، فان رأيتُ احداً اخافه عليك قمت إلى الحائط كأني اصلح نعلي فامض في طريقك .
وهكذا سار الفتى وسار خلفه الرجل الغفاري ، حتى وصلا منزل النبي ، واسفر اللقاء عن اسلام جندب الذي اصبح اسمه ( أبا ذر ) ، ولم ينسَ المسلم الجديد أن يسأل رسول الله عن الفتى الذي دلّه عليه فاجاب النبي صلى الله عليه وآله باعتزاز :
ـ هو ابن عمي وأخي علي بن أبي طالب .
وتحول أبو ذر منذ تلك الليلة الحاسمة في حياته إلى بركان بعد أن اضطرمت في اعماقه حقيقة الايمان فهتف بعزم : ـ والذي بعثك بالحق نبياً لأصرخنّ بها في المسجد الحرام .
ما أن أشرقت شمس اليوم التالي حتى كان أبو ذر في وسط المسجد يتحدى جبروت قريش وهو يهتف بصوت جهوري .
ـ ما معشر قريش اني اشهد ان لا إله إلا الله واشهد أن محمداً رسول الله .
ولقد هزّت الصرخة الوضع السائد ليبدأ فصل جديد في تاريخ الإسلام .
هزيمة الشعر الجاهلي :
ورأى زعماء مكّة مواجهة خطر الدين الجديد باستخدام
إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري
_ 23 _
امضى الأسلحة وهو الشعر الذي بلغ العرب فيه الذروة آنذاك ، وهكذا انبرى أبو سفيان بن الحارث وعمرو بي العاص وابن الزبعري وغيرهم إلى مقارعة النبي ، ولكنهم وجدوا أنفسهم خاسرين لدى أول منازلة ولم يصمد الشعر الجاهلي برمّته أمام بلاغة آيات القرآن التي فتنت العربي بحلاوتها وطلاوتها وانسيابها وتأثيرها العميق .
ووقف العربي مشدوهاً أمام ظاهرة بالغية لم تكن لتخطر على باله ، وقد نصح الوليد بن المغيرة قريشاً بعد أن اعترف قائلاً : ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وانه ليحطم ما تحته ، وانه ليعلو ولا يعلى عليه ، نصحهم ان يقولوا : ( ما هو إلا سحر يؤثر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ) .
وقد لج كفار قريش في صراعهم مع النبي وقالوا أن ما يردده محمد لا يعدو أن يكون اساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة واصيلا ، وينبري النضر بن حارث إلى ترديد اساطير قديمية من قبيل حكايات ( اسفنديار ورستم ) الفارسية الأصل ، واتخذ مكانه في المسجد الحرام حيث يجلس النبي لتلاوة القرآن ، ولم تجد كل المحاولات في صرف المأخذوين بروعة البيان السماوي عن الاصغاء لمحمد ، ولم يجدوا سبيلاً سوى ابداء الناصئح قائلين : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) .
اننا نذكر ذلك لأننا سنجد الفتى علي بن أبي طالب سوف
إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري
_ 24 _
يبهر العرب ببلاغته بعد عقود من السنين ، فلقد تشرّب آيات السماء منذ اعتناقه الأسلام يوم الثلاثاء
(1) .
سنوات الرماد :
تفتق ذهن ابي جهل عن فكرة شيطانية تقضي بمقاطعة بني هاشم اقتصادياً واجتماعياً ، وقد تحمس لها زعماء قريش فحرّروا بذلك صحيفة قاسية وقعها اربعون رجلاً منهم يمثلون طوائف قريش ، وعلّقت الصحيفة في جوف الكعبة لكي تكتسب صفة مقدّسة .
جدير بالذكر ان فكرة المقاطعة هذه قد تم تداولها في ( دار الندوة ) وهو المكان الذي تجتمع فيه قريش لمناقشة القضايا المصيرية .
وكان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله في مستوى التحدّي الجديد ، فنصح قبيلته بالنزوح إلى احد أودية مكّة لأن روح المقاطعة يتضمن شكلاً من اشكال اعلان الحرب ، وبات من المتعذر على المحاصرين مغادرة الوادي إلا في موسمي الحج والعمرة
(2) ، وقد تفقد أبو طالب الثغرات الموجودة في الوادي وبنى فيها تحصينات منيعة للحؤول دون تسلل من يهمة الاعتداء على حياة النبي الذي
---------------------------
(1) تذكر كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه بعث يوم الاثنين وصلّى علي يوم الثلاثاء .
(2) شهري رجب وذو الحجة .
إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري
_ 25 _
اضحى رمزاً لأكبر تحدٍ يواجهه بنو هاشم وبنو عبد المطلب
(1) .
ولقد كانت تجربة الحصار تجربة مريرة عانى فيها المحاصرون من الجوع والظمأ ولكنهم صمدوا حتى النهاية وكان أكبر همّ أبي طالب حماية النبي بأي ثمن ، واصبح من المشاهد المتكرّرة انه كان يطلب من ابن اخيه العظيم أن يأوى إلى فراشه في ساعة الغروب حتى يراه الجميع ، فاذا غمر الظلام الوادي طلب من ابنه علي أن ينام في فراش ابن عمّه فاذا كان هناك من يراقب النبي ويترصّده ليعيّن مكانه قبل أن يتسلّل لتنفيذ جريمته فانه سوف يطعن قلب علي وبذلك ينجو محمد صلى الله عليه وآله وتستمر رسالة السماء .
وليس هناك ما يفسر هذا الموفق سوى الايمان ... الايمان العميق لذلك الشيخ الوقور والسيّد المهاب .
ولنتصور مشاعر ذلك الفتى الشجاع وهو يتقدم كل ليلة طائعاً لينام في فراش رجل تترصّده عيون الحقد وسهام الغدر ، انه يعانق الموت كل ليلة فداءً للحبيب محمد صلى الله عليه وآله .
ولقد استمرت أيام الحصار ثلاث سنين وكانت الارضة تقضم خلالها البنود الظالمة فلم تترك في الصحيفة سوى كلمة مقدّسة هي باسمك اللهم .
ولقد بلغت النذالة لدى زعماء قريش انهم كانوا يشترون ما
---------------------------
(1) استثني من المقاطعة كل من ابي لهب وابي سفيان الحارث بن عبد المطلب .
إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري
_ 26 _
يعرض من طعام في مطّة لتخلوا الأسواق منه في الأيام التي يخرج فيها المحاصرون في موسم الحج حتى إذا جاءوا ليشتروا طعاماً لم يجدوا شيئاً فيعودوا لمواصلة رحلة الجوع المضنية .
واستكملت الارضة التهام الصحيفة الظالمة ما خلا باسمك اللهم واتصلت السماء بالأرض ، وجاء محمد يبشر عمه أبا طالب ووقف زعماء مكّة مذهولين أمام معجزة السماء ، لقد قهرت هذه الحشرة الصغيرة كبرياء قريش ، مرّغت غرورهم بالوحل .
ولنتخيل فرحة الصغار وهم يعودون إلى احضان مدينتهم بعد معاناة طويلة في الوادي .
العام الحزين :
مضت كهور على انتهاء الحصار وكان أبو طالب الذي تخطّى الثمانين يخطو صوب النهاية ... نهاية كل الحيوات لقد هدّته السنون والحوادث .
وقف علي يتأمل أباه بعينين غارقتين بالدموع ، لقد توقف القلب الكبير ، وسكنت تلك الأنفاس الدافئة ووقف النبي صلى الله عليه وآله يبكي بمرارة وهو يؤبن الراحل الكبير : ـ رحمك الله يا عم ... ربيتني صغيراً وكفلتني يتيماً ونصرتني كبيراً ... ولم يجد أحداً يواسيه سوى أخيه وربيبه فعانقه وقد
إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري
_ 27 _
اجهش بالبكاء .
ويسدد القدر سهماً آخر واذا بخديحة تلك الزوجة المؤمنة الوفية تسقط هي الاُخرى فريسة المرض ولم تلبث أن ودّعت زوجها العظيم .
يا لعذاب الأنبياء يا لصبر محمد ! الزمان يتخطّف احبّته مذ كان جنيناّ في بطن امه وعندما بلغ ست سنين ويوم بلغ الثامنة ، غير أن أبا طالب ام يغادر الدنيا حتى خلف فتى يفدي أخاه بروحه ، ولم ترحل خديجة حتى قدّمت لزوجها فتاة تذوب حناناً ورحمة لأبيها .
بدأ زمن الزمهرير والذئاب التي كانت تهاب أبا طالب ذات يوم ، هي الأن تعوي ، عيونها تبرق حقداً وقد ذرّ الشيطان قرنيه
(1) .
الحياة في موتكم قاهرين :
سوف يبقى الموت والحياة لغزاً في حياة البشر ، فالضباب الذي يهيمن على العيون سوف يحجب الرؤية بوضوح لمن يريد الخلود فأي الطريقين يسلك طريق الموت ام طريق الحياة ، دعنا نراقب منزلاص كريماً في مكّه وقد مضت ثلاثة عشر عاماً على هبوط جبريل في غار حراء .
شعر المشركون بالخطر وهم يرون ابناء مكّة يفرّون بدينهم
---------------------------
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله : والله ما نالت قريش مني شيئاً اكرهه إلا بعد موت ابي طالب .