كان النبي قد عسكر في ( الجرف ) قريباً من المدينة عندما وصل علي وقال مخاطباً رسول الله : ـ يا نبي الله زعم المنافقون بانك انما خلفتني استثقالاً لي !
  أجاب النبي مستنكراً : ـ كذبوا ... انما خلّفتك لما ورائي ... ان المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ... فانت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي ... واردف قائلاً كلمته الخالدة : اما ترضى يا علي أن تكون مني بنزلة هارون من موسى ولكن لا نبي بعدي ؟
  وعاد ( هارون ) إلى المدينة وهو يحمل أوسمة المجد ، وشعر المنافقون بالاحباط ، وهم يرون علياً يعود إلى المدينة ، فانطلقوا إلى مسجدهم (1) خارج المدينة .

مشاهد النبوءات :
  المشهد الأول :حل ذو الحجة الحرام من السنة التاسعة للهجرة ، وهبط جبريل يحمل آيات ( البراءة ) ، ايذاناً سماوياً بانتهاء الوثنية في شبه الجزيرة العربية ، استدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر وسلّمه

---------------------------
(1) مسجد ضرار الذي احرق فيما بعد بامر من السماء .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 88 _

  البلاغ السماوي (1) ، ومضى أبوبكر أميراً على الحج ذلك العام ، حتى إذا وصل ( ذي الحليفة ) (2) ، هبط الوحي في المدينة المنورة ، يأمره إلا يبلّغ تلك الآيات إلا نبي أو وصي نبي واستدعى رسول الله علياً وأمره أن يركب ( القصوى ) (3) وأن يدرك أبابكر ويأخذها منه .
  وعاد أبوبكر إلى المدينة وهو يشعر بالقلق وخاطب النبي بلهجة يشوبها خوف : ـ يا رسول الله انزل فيّ شيء ؟
  اجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مطمئناً : ـ لا ولكن قال لي جبريل : لا يؤديها عنك إلا انت أو رجل منك (4) .
  علي يطوي المسافات يقود قوافل الحج الأكبر ، وشهد البيت العتيق للمرّة الثالثة نداءات التوحيد ، وكان الوثنيون يبحثون عن

---------------------------
(1) ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلوا انكم غير معجزين الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولهُ فان تبتم فهو خير لكم وان توليتم فاعلوا انكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب اليم ) | التوبة 1 ـ 3 .
(2) الميقات المعروف اليوم بـ ( مسجد الشجرة ) .
(3) ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
(4) ( ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا إلى من ولاه الله من سمائه فعزلوه والى من عزله الله من سمائه فولّوه ) هشام بن الحكم معلّقا على نتائج ( السقيفة ) .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 89 _

  الات العزى وهبل وعن عشرات الألهة التي دكّها الزلزال الإسلامي .
  وها هو علي بن أبي طالب ابن عم محمد وزوج ابنته فاطمة يعلن موت الوثنية وزوالها إلى الأبد .
  تألقت شمس العاشر من ذي الحجة الحرام ، ووقف علي يتلو بلاغ السماء : ( انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) .
  ودوّت نداءاته في فضاء مكّة وهو يهتف عالياً : ـ لا يحجّن بعد هذا العام مشرك ولا يطوفن في البيت عريان ولاتدخل الجنّة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى مدّته ... ) .
  المشهد الثاني : دخل الناس في دين الله أفواجاً ، ما خلا بعض القبائل هنا وهناك ، وفي شهر رمضان المبارك من السنة العاشرة للهجرة بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم علياً على رأس ثلاثمئة من المقاتلين إلى قبيلة مذحج في اليمن وكانت مشاهد التوديع مؤثرة فقد عمّم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم علياً بنفسه وسلّمه اللواء ، وقال له : ـ ادعهم إلى قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فان أجابوك فأمرهم بالصلاة ولا تبغ منهم غير ذلك ...

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 90 _

  واردف قائلاً : ـ والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس .
  وحفظ علي وصية النبي فعاش حياته كلها يجاهد من أجل الايمان .
  وحفظ علي وصية النبي فعاش حياته كلها يجاهد من أجل الايمان .
  قال علي وقد ساوره قلق من مهمّته : ـ يا رسول الله تبعثني إلى قوم وانا حديث السن لا أبصر القضاء .
  تقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ووضع يده على صدر علي ونظر إلى السماء بخشوع وقال : ـ اللهم ثبت لسانه واهد قلبه .
  واردف وهو ينظر إلى فتاه وصهره : إذا جاءك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر فانك إذا فعلت تبين لك القضاء (1) .
  وانطلقت خيول الإسلام إلى اليمن ، وكان همّ عليّ الأول أن تدخل القبال القاطنة هناك في دين الله ، وقد نجح في مهمّته (2) ، ثم غادر اليمن بعد أن ترك فيها معاذ بن جبل يعلّم أهلها احكام

---------------------------
(1) قال علي عليه السلام : ( والله ما شككت في قضاء بين اثنين ) .
(2) كان خالد بن الوليد قد اخفق في هذه المهمّة رغم مرابطته ستة اشهر .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 91 _

  الشريعة ، أما علي فقد توجه من هناك إلى مكة ، فقد اطلّ موسم الحج ، وها هو رسول الله ومعه عشرات الألوف من المسلمين يقطعون الصحراء وهم يلبّون نداء ابيهم ابراهيم ، وقد سمّاهم المسلمين من قبل ، واسرع علي (1) يحث خطاه وفي قلبه شوق للقاء نبي الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، والتقى الاخوان على مشارف مكّة .
  وزفّ علي بشائر النصر إلى رسول الله .
  قال النبي وقد اشرقت الفرحة في وجهه : ـ بم اهللت يا علي ؟
  قال علي : ـ يا رسول الله انك لم تكتب اليّ باهلالك ولا عرفته فعقدت نيّتي بنيتك ، وقلت اللهم اهلالاً كإهلال نبيك ، وقد سقت معي من البدن اربعاً وثلاثين بدنة .
  وعندها قال النبي صلى الله عليه وآله : ـ الله أكبر وأنا سقت ستاً وستين ... وانت شريكي في حجي ومناسكي وهديي فأقم على احرامك وعد الى جيشك فعجّل بهم حتى نجتمع بمكة .
  المشهد الثالث : وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم النحر من حجة الوداع خطيباً :

---------------------------
(1) كان علي قد ترك الجيش ليلحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 92 _

  ـ ( اما بعد ايها الناس اسمعوا مني ما ابين لكم فاني لا أدري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا ، ان دماءكم واموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم وبلدكم هذا ... )
  ( ايها الناس انما المؤمنون اخوة ولا يحلّ لأمريء مال اخيه إلا عن طيت نفسه ، فلا ترجعوا كفاراً بعدي يضرب بعضكم اعناق بعض فأني قد تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا بعدي ابداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ... ) .
  انطوى موسم الحج ، وغادر سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم مكّة ومعه مئة ألف أو يزيدون ، التاريخ يشير إلى يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام من السنة العاشرة للهجرة .
  قوافل الحجيج تهوي في بطون الأودية ، الشمس في كبد السماء وقد بدت وكأنها تتشظى لهباً ، القوافل تصل مكاناً (1) قريباً من الجحفة ، حيث مفترق الطرق .
  وغمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو على ناقته ( القصوى ) حمّى الرسالات لقد هبط جبريل يحمل بلاغ السماء ، وتوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يتشرب انذاراً سماوياً : ـ ( يا ايها الرسول بلّغ ما انزل اليك من ربّك وان لم تفعل فما بلغت

---------------------------
(1) غدير خم .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 93 _

  رسالته والله يعصمك من الناس ) .
  وتوقفت عشرات الألوف وهي تتساءل عن السرّ في توقف النبي ، في هذه البقعة الملتهبة من دنيا الله .
  وانبرى بعض الصحابة يصنعون للنبي مرتفعاً فلديه كلمات تامّات يريد ابلاغها لعشرات الآلاف من الصحابة ... والأجيال القادمة ... والتاريخ .
  كلمات الحمد والثناء لله تنساب من بين شفاه آخر الأنبياء كان علي واقفاً قرب الإنسان الذي ربّاه صغيراً وعلّمه كيف يحيا ، قال النبي وعشرات الاُلوف تتطلع إليه : ـ ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم ؟
  وجاء الجواب من عشرات الحناجر : ـ بلى يا رسول الله .
  وأخذ النبي بيد علي ورفعها عالياً : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ... ورفع آخر الأنبياء يديه إلى السماء : ـ اللهم وال من والاه ... وعاد من عاداه ... ونصر من نصره ... واخذل من خذله .
  وهبط جبريل يبشر محمداً صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قد ادّى رسالته وقد آن له

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 94 _

  أن يستريح ، لقد اكتمل الدين وتمت النعمة وقيل الحمد لله رب العالمين .
  تصفد الجبين الازهر ، عرقاً تألقت حبّات العرق كقطرات الندى وقد انطبعت كلمات السماء فوق شغاف قلبٍ وسع الدنيا والتاريخ : ـ ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .

ارهاصات الرحيل :
  عاد رسول الله إلى المدينة ، ينوء بثقل السنين ، تؤرقه هواجس المصير ، جبريل يعرض عليه القرآن مرّتين ، أنه يقترب من النهاية ... نهاية كل الحيوات ، وقد ظهرت في الافق غيوم وغيوم (1) .
  انتصف الليل وبدت النجوم في صفحة السماء قلوباً تنبض بوهن استدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مولاه ( أبا مويهبة ) .

قال النبي بشيء من الحزن :
  ـ اني قد أمرتُ أن استغفر لاهل البقيع فاخرج معي .

---------------------------
(1) تعدّ الشهور الأخيرة من حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ( أواخر السنة العاشرة ومطلع السنة الحادية عشرة من الهجرة ) من الفترات العاصفة في تاريخ الإسلام وما تزال بعض حوادها تثير حتى اليوم اسئلة عديدة .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 95 _

  ـ لبيك يا رسول الله .
  الصمت يهيمن على المكان ما خلا خطوات واهنة في طريقها إلى اناس عاشوا ثم ماتوا ، وقف آخر الأنبياء يحيّي أولئك الذين رحلوا بعيداً بالرغم من تلك الاشبار القليلة التي تفصلهم عمّا يجري فوق الأرض : ـ السلام عليكم يا أهل المقابر : ليهن لكم ما اصبحتم فيه مما اصبح الناس فيه ، لو تعلمون ما نجاكم الله منه ... أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع اخرها أولاها والآخرة شرّ من الأولى .
  التفت رسول الله إلى مولاه : ـ يا أبا مويهبة : اني قد اوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنّة ، وخيّرت بين ذلك ولقاء ربّي والجنّة ، فاخترت لقاء ربّي والجنّة .
  قال أبو مويهبة بحزن : ـ بابي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنّة .
  أجاب النبي وقد هزّة لقاء الحبيب : ـ لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربّي ...

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 96 _

  وسمع أبو يهبة تمتمات الاستغفار ... ها هو النبي الأمّي يتذكر اصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
  الأيام تمرّ حزينة والرسول يخطو إلى النهاية ... وقد ازفت ساعة الرحيل (1) .
  لزم النبي فراش المرض ، جسده يغلي من وقع الحمّى .
  المسلمون رجالاً ونساءً يعودون آخر الأنبياء ... القلوب تذوب حزناً وجاءت أم بُشر تعوده ، قال النبي وقد ومضت في ذهنه حوادث خيبر : ـ يا أم بشر ... وجدت انقطاع ابهري مع الاكلة التي اكلت مع ابنك بخيبر (2) .
  الخميس 24 | صفر | 11 هـ : اليوم هو يوم الخميس ، ارتدت الاشياء ثوب الحزن والقلق ، أو هكذا خيّل للمؤمنين ، فالقب الكبير يخفق بشدّة تتسارع دقّاته

---------------------------
(1) تذكر المصادر التاريخة ان زينب بنت الحارث اليهدية اهدت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم شاة مشوية بعد أن سمّت ذراعها ( وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يحبّ من لحم الشاة الذراع ) ، وقد لاك النبي منها مضغة ولم يسغها ، وتناول أحد اصحابه ( بشر بن البراء ) منها لقمة فمات فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم : ان هذا العظم ليبخرني أنه مسموم واعترفت المرأة بجريمتها وبرّرت ذلك بقولها : قلت في نفسي : ان كان نبيّاً فيخبر وان كان ملكاً استرحت منه ، وقد وقع الحادث بعد توقف العمليات الحربية في خيبر سنة 7 هـ ـ صيف عام 628 م .
(2) الطبري 3 : 16 .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 97 _

  تحت لهيب الحمّى ... والنبي يقطع الخطوات الأخيرة من حياته في كوكب الحوادث ، عيناه مشدودتان إلى الافق البعيد ... الافق المغمور بالطمأنينة والسلام ، والقلب يخفق لآخر الامم وقد ذرّ الشيطان قرنيه .
  الحجرة الطينية المتواضعة تكتظ برجال رافقوا النبي وها هم يجتمعون حوله ، وآلاف الأفكار تصطرع في الرؤوس ، وقد ( اقبلت الفتن كقطن الليل المظلم ) .
  نظر النبي إلى اصحابه ... دمعت عيناه ... ها هي لحظة الوداع قادمة من بعيد انها تقترب ، وها هي الفتن مقبلة .
  تمتم النبي بصوت واهن : ـ ائتوني تصحيفة ودواة لاكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً .
  ونهض صحابي ... فاعترضه رجل فيه غلظة : ـ أرجع ... لقد غلب رسول الله الوجع ... انه يهجر ... حسبنا كتاب الله .
  الجسد يغلي تحت وطأه الحمى ... غامت المرئيات وولج النبي عالماً آخر اغضبته كلمات صاحبه .
  ولمّا افاق وجد اصحابه يتنازعون ، قال رجل : ـ ألا نأتي لك بدواة يا رسول الله !

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 98 _

  اجاب النبي بحزن : ـ أبعد الذي قلتم .
  أدار آخر الأنبياء وجهه إلى الحائط ... ونهض الرجال وكان ابن عم له بيكي (1) ... يبكي بمرارة ، لقد اضاع المسلمون مجدهم ... ولسوف يبكون ... يذرفون الدموع غزاراً قبل أن يعثروا عليه .
  الجمعة 25 | صفر | 11 هـ : جاءت فاطمة ... فتاة تحمل ملامح مريم ... النبع الدافق رحمة وحناناً ... جاءت ( أم أبيها ) (2) ... تعود أباها ... اراد آخر الأنبياء أن ينهض اجلالاً للمرأة المثال ... لسيدة كل امرأة في التاريخ ... ولكن الجسد الواهن لم يستجب للارادة ... هتف وقد شاعت الفرحة في وجهة .
  ـ مرحباً يا بنتي ... أخذ النبي بيدها واجلسها إلى يمينه ، همس في اذنها بكلمات ... شهقت الفتاة بعبرات واخضلّت الاجفان بالدمع ... كسماء تمطر بحزن ... وهمس الأب بكلمات ... انقشعت الغميوم ... واشرقت شمس

---------------------------
(1) عبد الله بن عباس .
(2) كلمة مأثورة عن النبي في حق ابنته .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 99 _

  الأمل تبعث النور والدفء ... اشرقت ابتسامة في الوجه المضيء ... تعجبت عائشة ... حفصة ... أم سلمة ... وكل النسوة ... نهضت فاطمة ... لحقتها عائشة : ـ لقد خصّك بسرّ ... تضحكين تارة وتبكين أُخرى !!
  اخبريني بما قال لكِ .
  قالت فاطمة وما تزال قطرات الدمع عالقة باهدابها : ـ ما كنت لأفشي سرّ رسول الله .
  السبت 26 | صفر | 11 هـ : ترك أسامة جيشه في ( الجرف ) (1) ودخل منزل تموج في نفسه الهواجس ، فهناك من الصحابة من نتذمّر من قيادته لحداثة سنّة ، وهناك من يتعلّل بحالة النبي قال اسامة وهو مطرق الرأس : ـ بأبي أنت وأُمي ... اتأذن ان امكث اياماً حتى يشفيك الله ...

---------------------------
(1) شدّد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على اهمية هذه الحمله العسكرية واسند قيادتها إلى أسامة بن زيد بعد أن تناهت الأنباء حول حملة اضطهاد ينفذها الرومان حيال المسلمين وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كبار الصحابة بالانضواء باستثناء وصيه علي بن ابي طالب ، وهو أمر يدعو إلى التأمل في حوادث تلك الفترة العاصفة من التاريخ .
  وكانت مهمّة ( اسامة ) كما وردت في كتب التاريخ ان يوطئ الخيل تخوم البلقاء ( الأردن ) والدواروم من ارض فلسطين قريباً من ( مؤتة ) حيث سقط والده ( زيد بن حارثة ) شهيداً .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 100 _

  ـ لا يا أُسامة ... انفذ بجيشك حتى توطئ خيلك ارض البلقاء والداروم حيث قتل أبوك .
  ورأى النبي صاحبيه .
  قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بألم : ألم أمركم بانفاذ جيش اسامة ؟!
  اجاب الأول : كنت في ( الجرف ) وقد جئت اجدّد بك العهد .
  وقال الثاني : أما أنا فلم اخرج ... لا أريد أن أسأل عنك الاعراب في الصحراء !
  تضاعفت آلام محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ... غلت العروق بسبب الحمى والغضب تمتم بحزن : انفذوا جيش اسامة ... انفذوا جيش اسامة ... أنفذوا ... الأحد 27 | صفر | 11 هـ : خفّت الحمّى ... وشعر آخر الأنبياء بشيء من النشاط يسري في جسده الواهن ، تاقت روحه العظيمة إلى مسجد أُسس بنيانه على التقوى ، كان الوقت ضحى ، طلت النبي من ابني عمّه (1) .
  ان يساعداه ، وبالرغم من العصابة التي شدّها حول رأسه إلاّ ان الحمى قد خفّت قليلاً ... وها هو النبي يمشي الهويني بين علي

---------------------------
(1) علي والفضل .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 101 _

  والفضل ، وشاعت الفرحة بين اصحابه ... اتجه آخر رسل السماء إلى فارتقاه وكان يتساند على يد الفضل حتى استوى قال النبي اصحابه بنظرات تشّع رحمة وقال : احمد اليكم الله ... ايها الناس .
  من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه ومن كنت اخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ... ولا يقل رجل أني أخاف الشحناء من رسول الله ألا وان الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني الا وان احبكم اليّ من أخذ مني حقاً ان كان له ... أو حلّلني فأتيت الله وأنا طيب النفس ... الاثنين 28 | صفر | 11 هـ : دهمت الحمّى الجسد الواهن ، والروح العظيمة توشك على الرحيل ، القلب الكبير يخفق بعنف ... واخفقت مياه الآبار في اطفاء النار المشتعلة ... ارتفع صوت بلال يدعو إلى الصلاة ... وخف بلال الى بيت الرجل الذي علّمه كيف يحيا ... وقف إزاء الباب وهتف بشوق : ـ الصلاة يرحمكم الله :

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 102 _


  قال النبي وهو ينوء تحت وطأة الحمّى : ـ يصلّي بالناس بعضهم فاني مشغول بنفسي ...
  هتفت عائشة : مروا أبابكر !
  هتفت حفصة : مروا عمر !
  وتألم النبي فما يزال اصحابه في المدينة وقد أمروا بالجهاد ... مايزال جيش اسامة في المدينة وقد أمر أن يذهب إلى تخوم ( البلقاء ) .
  ونهض رسول الله ... وساعده علي والفضل ... وكانت قدماه تخطان في الأرض ... ووجد صاحبه في الغار في المحراب فنحّاه ... وعاد النبي إلى منزله ينوء بحمى الرحيل ... وضع النبي رأسه في حجر اخيه ... وتوهجت الذكريات البعيدة تذكر مشاهد مضيئة ... انبعثت من بين غبار الأيام وتراب السنين ... تذكر يوم كان صبياً في حجر محمد ... تذكر رحلاته إلى جبل حراء ويوم هبط جبريل يحمل آخر الرسالات ... وتذكر اللحظات التي ودّعه فيها يوم فرّ من مكّة ... تذكر سنوات الجهاد والعناء ... ويوم تحطمت الأصنام وعنت الوجوه للواحد القهّار ... ها هو محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم يذوي ... يخبو بريق عينيه ... يشع اسمه في القلوب ... كل القلوب ... نهضت فاطمة احتراماً للرجلين ابيها وبعلها ... احتراماً للحظات الوداع ... بعد رحلة طويلة ناهزت

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 103 _


  الثلاثين سنة ونهضت النسوة احتراماً لفاطمة ... لم يبق في الحجرة الطينية سوى محمد وعلي وكلمات الوداع ... جلست فاطمة عند عتبة الباب ... في استسلام كامل للقدر وانبعثت كلمات محمد الأخيرة ... السماء تخيّره فاختار : ـ بل الرفيق الأعلى ... وعانق علي اخاه وسيّده ... وانطلقت الروح من أهاب الجسد تطوي المسافات ... ودوّى هتاف حزين : ـ وامحمداه (1) !
  وانطفأت الشمس وحلّ زمن الزمهرير .
  فاطمة تنوء بنفسها وقد اسندت رأسها إلى صدر لم يعد النسيم يزوره .
  كانت تصغي إلى صمت الأنبياء ... وللصمت حديث تسمعه القلوب وتصغي اليه العقول ... العينان اللتان كانتا نافذتي نور قد اسدلتا جفونهما ، واليدان اللتان كانتا مهداً هما الآن مسبلتان ... والروح التي كانت تصنع التاريخ والإنسان قد رحلت بعيداً ...

---------------------------
(1) (وسمعوا صوتاً من السماء بعد موته ينادي وامحمداه ... ) | تاريخ بن الوردي 1 : 209 .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 104 _

  غادر هذا الكوكب الزاخر بالويلات .
  لقد حلّت لحظة الفراق ، وتخفف الإنسان السماوي من ثوبه الأرضي ليرحل بعيداً ... إلى عوالم حافلة بالنور والحبّ والسلام .

الفصل الثاني : اصلب من الأيام
  ( فصبرت وفي العين قذىً وفي الحلق شجىً ... أرى تراثي نهبا ... )

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 107 _

العاصفة :
  انطفأ السراج فالدنيا ظلام ... وخمد الوقد فالحياة في جزيرة العرب زمهرير ... ورحل السلام ... فذرّ الشيطان قرنيه يعربد ... يها الصامت ! صمتك ابلغ من كل ابجديات الدنيا ... وسكوتك المدوّي صرخة حق في عالم الأباطيل ... وقد زلزلت الأرض زلزالها انهار عمود خيمة كانت تعصف بها الريح ... وتمزّق ( الكساء ) اليماني وكان يدثّر نبياً هو آخر الأنبياء في التاريخ ... ورجلاً يشبه ( هارون ) في كل شيء إلا النبوة ... وامرأة هي سيدة بنات حواء وسبطين هما آخر الاسباط في التاريخ .
  آه منك يا يوم الاثنين ... جثا علي أما جسد كانت روحه العظيمة تضيء الجزيرة وبقايا نور في الجبين البارد تشبه شمساً هوت في المغيب . هيمن صمت ملائكي في المكان فيما العالم خلف الحُجُرات يموج بالفتن .
  ظهرت غمية في الافق حجبت ضوء الشمس ... وكمن

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 108 _

  بيحث عن ظلّه في يوم غائم كان الناس ينظرون هنا وهناك ... هل غادر الحبيب الديار ؟!
  واجتمعت طائفة من الانصار في سقيفة لهم ... فهناك من يريد الاستيلاء على ( سلطان محمد ) ( قريش ) لا تريد علياً ... ذلك الفتى الذي قهر بـ ( ذي الفقار ) جبروتها ... لا تريد لبني هاشم أن يحوزوا النبوّة والإمامة ... والوحي والخلافة والسماء والأرض ... هل ادرك الانصار ما يدور في الخفاء من همس حول اقصاء علي ؟ ... هل طمعوا بـ ( السلطان ) ؟ ، هل خافوا أن يضيع نصيبهم من ( الأمر ) .

يا يوم الاثنين :
  اغمض النبي عينيه ... وعاد جبريل إلى السماء ... واستيقظت في النفوس ... غرائز كانت مكبلة أو نائمة ... دخل عمر حجرة النبي ... كشف الملاءة عن وجه اضاء الدنيا قال بدهشة متصنّعة : ـ ما اشدّ غشي رسول الله .
  اجاب المغيرة مصعوقاً من موقف عمر : ـ مات والله رسول الله .
  ردّ عمر بلهجة فيها وعيد : ـ كذبت ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه ... كما ذهب موسى

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 109 _

  ابن عمران .
  وظل المغيرة ينظر إلى عمر بدهشة .
  خرج عمر وقد جحظت عيناه من الغضب ... شهر سيفه مهدداً وراح يهتف : ـ ان رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات ... لا والله ... ما مات ... ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ثم رجع بعد أربعين ليلة ... والله ليرجعن رسول الله ... فليقطعن أيدي رجال وارجلهم ... ) .
  الغريق يتشبث بكل شيء ... يتشبث بالأمل الكاذب ... يتشبث بالقشة ... يحسبها ... طوق نجاة وخلاص .
  وعندما يفقد الإنسان الأمل ... عندما تجتاحه عاصفة يأس فانه قد يعمد إلى وهم يهبه شكل الحقيقة فيغفو عليه ، لا يريد أن يرى بوضوح ما يجري .
  تحلّق الناس حول رجل يبرق ويرعد ويهدد كل من يقول بموت محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ... ما اجمل ما يقوله عمر ... محمد لم يمت ... ذهب إلى ربّه ... بعد ليال سوف يعود !
  لقد ضربت الصاعقة الاذهان ... شلّتها عن التفكير ... في كل شيء ومن بعيد لاح ( أبو بكر ) ... وصل توّاً من خارج المدينة ... من

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 110 _

  منزل له في ( السنح ) .
  هتف من بعيد : ـ على رسلك أيها الحالف :
  والتفت إلى الأمة المذهولة قائلاً : ـ أيها الناس ! من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حيٌّ لايموت ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ... ) .
  فجأة خمد البركان ... وتظاهر ( عمر ) باستسلام عجيب ، وقف إلى جانب اخيه ... وانضم اليهما رجل ثالث هو ( ابن الجرّاح ) تبادل الثلاثة نظرات ... هي لغة كاملة ... ربّما كانوا يفكرون ليومين أو ثلاثة من المستقبل ... أو ربّما للتاريخ باسره .
  ان كان التحولات الاجتماعية الكبرى انما تولد في الضمائر الإنسانية ، قبل أن تشق طريقها إلى الواقع ... انها موجودة في الأعماق حتى يأتي من يستخرجها إلى ارض الوقائق ، كان في ضمائر جلّة المهاجرين ، وقريش قاطبة عزم في الا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم وقد قرأ رجال ما يجول من خواطر ، فاخرجوا ما استتر في الضمائر ... وقد اخفق النبي في هزيمتها يوم هزم الأوثان العربية .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 111 _

  علامات استفهام : الشمس ما تزال وراء غيوم ( نيسان ) (1) ... جثمان آخر الأنبياء ما يزال مسجىً ... علي ذاهل دوّخته الفاجعة شعر بغربة شديدة لقد رحل الحبيب ... ستموت فاطمة ... ستذوي مثل شمعة تحترق في ليل الجزيرة ... وسيبقى وحيداً ... اسفر الجدل في ( السقيفة ) (2) عن انتخاب ( سعد بن عبادة ) خليفة للمسلمين !!
  الاطماع ، والقلق ، والخوف هي وحدها وراء اجتماع ( الأنصار ) في سقيفة بني ساعدة ... هناك من يحلم بالمجد وهناك من ينظر إلى الافق البعيد فيرى ( قريش ) تتحفز للانتقام من ( أهل يثرب ) تريد أن تأخذ ثاراتها في ( بدر ) و ( أحد ) و (الأحزاب ) !
  الدقائق تمرّ بطيئة كأن التاريخ اصيب بالذهول ، الأوس يكظمون غيظاً ازاء ( سعد الخزرجي ) ... ولكن ماذا بوسع ( الأوس ) أن يفعلوا لا مفرّ من ذلك ثم انه سيكون أوهن من ( قريش ) ! ... قريش التي لم تنس ثاراتها بعد ، وفي لحظات تاريخية غادر رجلان من الأوس ، وانصار على وشك البيعة ... انطلقا باقصى سرعة إلى ( ابي بكر وعمر وابن الجراح ) وفي قلبيهما عزم على حرمان ( سعد )

---------------------------
(1) انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى الرفيق الأعلى في نيسان سنة 632 م .
(2) مكان كانت تعقد فيه الخزرج اجتماعاتها المصيرية وهو يشبه إلى حدٍ كبير دار الندوة في مكّة .

إلا عليّ أو اصلب من الأيام غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري _ 112 _

  من المجد !!
  ولكن لماذا هؤلاء الثلاثة بالذات !! لماذا عمر ؟ لماذا لم يذهبا إلى علي أو عمّه العباس ؟!
  السماء لم تزل غائمة وانطلق الثلاثة إلى ( السقيفة ) ، سوف يفاجأ الرجل المريض (1) ، جاءت قريش تحتج بانها شجرة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وقد رمت بعيداً ثمرتها اليانعة !!

إذا الشمس كوّرت :
  ترى ماذا كان يفعل علي في تلك اللحظات المثيرة ... ( الأنصار ) و( المهاجرون ) ، في صخب وجدل وشجار حول ( سلطان محمد ) ... لنترك ( السقيفة ) في صخبها ولنعد إلى صخبها ولنعد إلى حجرة آخر الأنبياء ... الصمت ما يزال يهيمن ... وبالرغم من غياب الشمس ... بالرغم من غياب الشمس ... بالرغم من غيوم ( نيسان ) فقد بدت الحجرة مضيئة ... مضيئة بنور شفاف لعلّه تألقات لكائنات سماوية وفدت لتحمل ( الروح العظيم ) .
  محمد صلى الله عليه وآله وسلّم يهيمن على الزمن حيّاً وميتاً ... محمد ساكت ... وما اعظم صمت الأنبياء !

---------------------------
(1) سعد بن عبادة حضر الاجتماع بالرغم من حالته الصحية المتردّية .