الفهرس العام







   ونتسأل عن حرب الجمل التي أشعلت نارها أم المؤمنين عائشة إذ كانت هي التي قادتها بنفسها ، فكيف تخرج أم المؤمنين عائشة من بيتها التي أمرها الله بالاستقرار فيه بقوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ) (1) .
   ونسأل بأي حق استباحت أم المؤمنين قتال خليفة المسلمين علي بن أبي طالب ، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة ، وكالعادة وبكل بساطة يجيبنا علماؤنا بأنها لا تحب الامام عليا لانه أشار على رسول الله بتطليقها في حادثة الافك ، ويريد هؤلاء إقناعنا بأن هذه الحادثة « إن صحت » وهي إشارة علي على النبي بتطليقها كافية بأن تعصي أمر ربها وتهتك سترا ضربه عليها رسول الله ، وتركب جملا نهاها رسول الله أن تركبه وحذرها أن تنبحها كلاب الحوأب (2) ، وتقطع المسافات البعيدة من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة ، وتستبيح قتل الابرياء ومحاربة أمير المؤمنين والصحابة الذين بايعوه ، وتتسبب في قتل ألوف المسلمين كما ذكر ذلك المؤرخون (3) كل ذلك لانها لا تحب الامام عليا الذي أشار بتطليقها ومع ذلك لم يطلقها النبي ، فلماذا كل هذه الكراهية وقد سجل المؤرخون لها مواقف عدائية للامام علي لا يمكن تفسيرها ، فقد كانت راجعة من مكة عندما أعلموها في الطريق بأن عثمانا قتل ففرحت فرحا شديدا ولكنها عندما علمت بأن الناس بايعوا عليا غضبت وقالت : وددت أن السماء انطبقت على الارض قبل أن يليها ابن أبي طالب وقالت ردوني وبدأت تشعل نار الفتنة للثورة على علي الذي لا تريد ذكر اسمه كما سجله المؤرخون عليها ، أفلم تسمع أم المؤمنين قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « بأن حب على إيمان وبغضه نفاق » (4) حتى قال بعض الصحابة : « كنا لا نعرف المنافقين إلا ببغضهم لعلي » .

---------------------------
(1) سورة الاحزاب : آية 33 .
(2) الامامة والسياسة .
(3) الطبري وابن الاثير والمدائني وغيرهم من المؤرخين الذين أرخوا حوادث سنة ست وثلاثين للهجرة .
(4) صحيح مسلم ج 1 ص 48 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 127 _

   أو لم تسمع أم المؤمنين قول النبي : « من كنت مولاه فعلي مولاه » . . . إنها لا شك سمعت كل ذلك ولكنها لا تحبه ولا تذكر اسمه بل إنها لما سمعت بموته سجدت شكرا لله (1) .
   ودعني من كل هذا فأنا لا أريد البحث عن تاريخ أم المؤمنين عائشة ولكن أريد الاستدلال على مخالفة كثير من الصحابة لمبادئ الاسلام وتخلفهم عن أوامر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويكفيني من فتنة أم المؤمنين دليل واحد أجمع عليه المؤرخون ؛ قالوا لما جازت عائشة ماء الحوأب ونبحتها كلابها تذكرت تحذير زوجها رسول الله ونهيه إياها أن تكون هي صاحبة الجمل ، فبكت وقالت ردوني ، ردوني .
   ولكن طلحة والزبير جاءاها بخمسين رجلا جعلا لهم جعلا ، فأقسموا بالله أن هذا ليس بماء الحوأب فواصلت مسيرها حتى البصرة ، ويذكر المؤرخون أنها أول شهادة زور في الاسلام (2) .
   دلونا أيها المسلمون يا أصحاب العقول النيرة على حل لهذا الاشكال ، أهؤلاء هم الصحابة الاجلاء الذين نحكم نحن بعدالتهم ونجعلهم أفضل البشر بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فيشهدون شهادة الزور التي عدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الكبائر الموبقة التي تقود إلى النار .
   والسؤال نفسه يعود دائما ويتكرر أيهم على الحق وأيهم على الباطل ، فإما أن يكون علي ومن معه ظالمين وعلى غير الحق ، وإما أن تكون عائشة ومن معها وطلحة والزبير ومن معهم ظالمين وعلى غير الحق وليس هناك احتمال ثالث ، والباحث المنصف لا أراه إلا مائلا لاحقية علي الذي يدور الحق معه حيث دار ، نابذا فتنة « أم المؤمنين عائشة » وأتباعها الذين أوقدوا نارها وما أطفأوها حتى أكلت الاخضر واليابس وبقيت آثارها إلى اليوم .

---------------------------
(1) الطبري وابن الاثير والفتنة الكبرى وكل المؤرخين الذي أرخوا حوادث سنة أربعين للهجرة .
(2) الطبري وابن الاثير والمدائني وغيرهم من المؤرخين الذين أرخوا لسنة ست وثلاثين للهجرة .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 128 _

   ولمزيد البحث وليطمئن قلبي أقول أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الفتن باب الفتنة التي تموج كموج البحر ، قال : لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر والحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه فسمعت عمارا يقول : إن عائشة قد سارت إلى البصرة ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي (1) .
   كما أخرج البخاري أيضا في كتاب الشروط باب ما جاء في بيوت أزواج النبي ، قال : قام النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة فقال هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان (2) .
   كما أخرج البخاري في صحيحه عنها أشياء عجيبة وغريبة في سوء أدبها مع النبي حتى ضربها أبوها فأسال دمها وفي تظاهرها على النبي حتى هددها الله بالطلاق وأن يبدله ربه خيرا منها وهذه قصص أخرى يطول شرحها ، وبعد كل هذا أتسأل كيف استحقت عائشة كل هذا التقدير والاحترام من أهل السنة والجماعة ، ألانها زوج النبي ، فزوجاته كثيرات وفيهن من هي أفضل من عائشة بتصريح النبي نفسه (3) .
   أم لانها ابنة أبي بكر ! أم لانها هي التي لعبت الدور الكبير في إنكار وصية النبي لعلي حتى قالت عندما ذكروا عندها أن النبي أوصى لعلي : قالت من قاله لقد رأيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإني لمسندته إلى صدري فدعا بالطست فانحنى فمات فما شعرت فكيف أوصى إلى علي (4).

---------------------------
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 161 .
(2) صحيح البخاري ص 128 .
(3) صحيح الترمذي ، الاستيعاب ترجمة صفية ، الاصابة ترجمة صفية أم المؤمنين .
(4) صحيح البخاري ج 3 ص 68 باب مرض النبي ووفاته .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 129 _

   أم لانها حاربته حربا لا هوادة فيها وأولاده من بعده حتى اعترضت جنازة الحسن سيد شباب أهل الجنة ومنعت أن يدفن بجانب جده رسول الله قائلة : لا تدخلوا بيتي من لا أحب ونسيت أو تجاهلت قول الرسول فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » ، أو قوله : « أحب الله من أحبهما وأبغض الله من أبغضهما » ، أو قوله : « أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » ؛ وغير ذلك كثير لست في معرض الكلام عنه . . . كيف لا وهما ريحانتاه من هذه الامة .
   ولا غرابة فقد سمعت في حق علي أضعاف ذلك ولكنها ورغم تحذير النبي ( صلى الله عليه وآله ) لها ، أبت إلا محاربته وتأليب الناس عليه وإنكار فضله وفضائله ، ومن أجل ذلك أحبها الامويون وأنزلوها تلك المنزلة العظيمة التي تقصر عنها المنازل ورووا في فضلها ما ملأ المطامير وسارت به الركبان حتى جعلوها المرجع الاكبر للامة الاسلامية لان عندها وحدها نصف الدين .
   ولعل نصف الدين الثاني خصوا به أبا هريرة الذي روى لهم ما يشتهون فقربوه وولوه إمارة المدينة وبنوا له قصر العقيق بعد ماكان معدما ، ولقبوه براوية الاسلام ، وبذلك سهل على بني أمية أن يكون لهم دين كامل جديد ليس فيه من كتاب الله وسنة رسوله إلا ما تهواه أنفسهم ويتقوى به ملكهم وسلطانهم وخليق بهذا الدين أن يكون لعبا وهزوا مليئا بالمتناقضات والخرافات ، وبذلك طمست الحقائق وحلت محلها الظلمات ، وقد حملوا الناس عليها وأغروهم بها حتى أصبح دين الله عندهم مهزلة من المهازل لا يقيمون له وزنا ولا يخافون من الله كخوفهم من معاوية .
   وعندما نسأل بعض علمائنا عن حرب معاوية لعلي وقد بايعه المهاجرون والانصار ، تلك الحرب الطاحنة التي سببت انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة وانصدع الاسلام ولم يلتئم حتى اليوم ، فإنهم يجيبون كالعادة وبكل سهولة قائلين : إن عليا ومعاوية صحابيان جليلان اجتهدا فعلي اجتهد وأصاب فله أجران أما معاوية فاجتهد وأخطأ وله أجر واحد ، وليس من حقنا نحن أن نحكم لهم أو عليهم وقد قال الله تعالى : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 130 _

   هكذا ـ وللاسف ـ تكون إجاباتنا وهي كما ترى سفسطة لا يقول بها عقل ولا دين ولا يقر بها شرع ، اللهم إني أبرأ إليك من خطل الآراء وزلل الاهواء و ( أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) .
   كيف يحكم العقل السليم باجتهاد معاوية ويعطيه أجراً على حربه إمام المسلمين وقتله المؤمنين الابرياء وارتكابه الجرائم والآثام التي لا يحصي عددها إلا الله وقد اشتهر عند المؤرخين بقتله معارضيه وتصفيتهم بطريقته المشهورة وهو إطعامهم عسلا مسموما وكان يقول : « إن لله جنودا من عسل » .
   كيف يحكم هؤلاء باجتهاده ويعطونه أجرا وقد كان إمام الفئة الباغية ؟ ففي الحديث المشهور الذي أخرجه كل المحدثين من السنة والشيعة وسواهم : « ويح عمار تقتله الفئة الباغية » ولم يختلف اثنان من المسلمين على أن الذي قتل عمارا وأصحابه هو معاوية ! كيف يحكمون باجتهاده وقد قتل حجر بن عدي وأصحابه صبرا ودفنهم في مرج عذراء ببادية الشام لانهم امتنعوا عن سب علي بن أبي طالب .
   كيف يريدونه صحابيا عادلا وقد دس السم للحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة وقتله ، كيف ينزهونه وقد أخذ البيعة من الامة بالقوة والقهر لنفسه أولا ثم لابنه الفاسق يزيد من بعده وبدل نظام الشورى بالملكية القيصرية (1) ، كيف يحكمون باجتهاده ويعطونه أجرا وقد حمل الناس على لعن علي وأهل البيت ذرية المصطفى من فوق المنابر ، وقتل الصحابة الذين امتنعوا عن ذلك وأصبحت سنة متبعة يهرم عليها الكبير ويشيب عليها الصغير فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
   والسؤال يعود دائما ويتكرر ويلح : ترى أي الفريقين على الحق وأيهما على الباطل ؟ فإما أن يكون علي وشيعته ظالمين وعلى غير الحق ، وإما أن يكون معاوية وأتباعه ظالمين وعلى غير الحق ، وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله كل شيء .

---------------------------
(1) راجع : الخلافة والملك للمودودي ، ويوم الاسلام لاحمد الامين .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 131 _

   وفي كلا الحالين فإن عدالة الصحابة كلهم من غير استثناء أمر مستحيل ، لا ينسجم مع المنطق السليم .
   ولكل هذه المواضيع أمثلة كثيرة لا يحصي عددها إلا الله ولو أردت الدخول في التفصيل وبحث هذه المواضيع من كل جوانبها لاحتجت إلى مجلدات كثيرة ولكنني رمت الاختصار وأخذت في هذا البحث بعض الامثلة وهي بحمد الله كافية لابطال مزاعم قومي الذين جمدوا فكري ردحا من الزمن وحجروا علي أن أفقه الحديث أو أحلل الاحداث التاريخية بميزان العقل والمقاييس الشرعية التي علمنا إياها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة .
   ولذلك سوف أتمرد على نفسي وأنفض عني غبار التعصب الذي غلفوني به وأتحرر من القيود والاغلال التي كبلوني بها أكثر من عشرين عاما ولسان حالي يقول لهم : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ، ياليت قومي اكتشفوا العالم الذي يجهلونه ويعادونه دون أن يعرفوه .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 132 _

   بقيت متحيرا ثلاثة أشهر مضطربا حتى في نومي تتجاذبني الافكار وتموج بي الظنون والاوهام خائفا على نفسي من بعض الصحابة الذين أحقق في تاريخهم فأقف على بعض المفارقات المذهلة في سلوكهم ، لان التربية التي تلقيتها طيلة حياتي تدعوني إلى احترام أولياء الله والصالحين من عباده وتقديسهم ، الذين ( يؤذون ) من يقول فيهم سوءا أو يسيء إليهم الادب حتى في غيابهم وإن كانوا موتى .
   ولقد قرأت في ما سبق في كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري (1) : أن رجلا كان يشتم عمر بن الخطاب وكان أصحابه في القافلة ينهونه فلما ذهب يتبول لدغه أسود سالخ فمات لحينه وحفروا له لدفنه فوجدوا في القبر أسود سالخا ثم حفروا قبورا أخرى وفي كل مرة يجدون أسود سالخا ، فقال لهم أحد العارفين ادفنوه أنى شئتم فلو حفرتم الارض كلها لوجدتم أسود سالخا ذلك ليعذبه الله في الدنيا قبل الآخرة على شتمه سيدنا عمر .
   ولذلك وجدتني وأنا أقحم نفسي في هذا البحث العسير خائفا محتارا وخصوصا لانني تعلمت في الفرع الزيتوني بأن أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبوبكر الصديق ثم يأتي بعده سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق الذي يفرق الله به بين الحق والباطل ، ثم بعده سيدنا عثمان بن عفان ذو النورين الذي استحت منه ملائكة الرحمن ،

---------------------------
(1) كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري . هذه القصة توجد في حديثه عن الاسود السالخ .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 133 _

ثم بعده سيدنا علي باب مدينة العلم ، ثم يأتي بعد هؤلاء الاربعة الستة الباقون من العشرة المبشرين بالجنة وهم ، طلحة والزبير وسعد وسعيد ، و عبد الرحمن ، وأبو عبيدة ، ثم يأتي بعد هؤلاء الصحابة جميعا ، وكثيرا ما كانوا يعلموننا الاستدلال بالآية الكريمة ( لا نفرق بين أحد من رسله ) على وجوب النظر إلى بقية الصحابة بالمنظار نفسه دون خدش أي واحد منهم .
   وعلى هذا خشيت على نفسي واستغفرت ربي مرات عديدة أردت فيها الانقطاع عن البحث في مثل هذه الامور التي تشككني في صحابة رسول الله وبالتالي تشككني في ديني ولكني وجدت من خلال الحديث مع بعض العلماء طيلة تلك المدة تناقضات لا يقبلها العقل وبدأوا يحذرونني من أنني إن واصلت البحث في أحوال الصحابة فسوف يسلب الله نعمته عني ويهلكني ، ومن كثرة معاندتهم وتكذيبهم كل ما أقول دفعني فضولي العلمي وحرصي على بلوغ الحقيقة إلى أن أقحم نفسي من جديد في البحث ووجدت قوة داخلية تدفعني دفعا .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 134 _


   قلت لاحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الابرياء وهتك الاعراض وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد ، وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول وأباح المدينة لجيشه وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد حتى قال بعضكم : « قتل الحسين بسيف جده » لتبرير فعل يزيد .
   فلماذا لا أجتهد أنا في البحث وهو ما يجرني للشك في الصحابة وتعرية البعض منهم وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة ، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر « واحد » ، على أن انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السب والشتم واللعن ، وإنما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضالة .
   وهذا واجبي وواجب كل مسلم ، والله سبحانه يعلم السرائر وما تخفى الصدور ، أجابني العالم قائلا :
ـ يا بني لقد أغلق باب الاجتهاد من زمان .
ـ فقلت ومن أغلقه ؟ .
ـ قال الائمة الاربعة .
ـ فقلت متحررا : الحمد لله إذ لم يكن الله هو الذي أغلقه ولا رسول الله ولا الخلفاء الراشدون الذين « أمرنا بالاقتداء بهم » فليس علي حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا .
ـ فقال : لا يمكنك الاجتهاد إلا إذا عرفت سبعة عشر علما ، منها علم التفسير واللغة والنحو والصرف والبلاغة والاحاديث والتاريخ وغير ذلك .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 135 _

ـ وقاطعته قائلا : أنا لن اجتهد لابين للناس أحكام القرآن والسنة أو لاكون صاحب مذهب في الاسلام ، كلا ، ولكن لاعرف من على الحق ومن على الباطل ، ولمعرفة إن كان الامام علي على الحق ، أو معاوية مثلا ولا يتطلب ذلك الاحاطة بسبعة عشر علما ، ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتى أتبين الحقيقة .
ـ قال : وما يهمك أن تعرف ذلك ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، قلت : أتقرأ « ولا تسألون » بفتح التاء أم بضمها ؟ .
ـ قال : تسألون بالضم ، قلت : الحمد لله لو كانت بالفتح لامتنع البحث ، وما دامت بالضم فمعناها أن الله سبحانه سوف لن يحاسبنا عما فعلوا وذلك كقوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) و ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) .
   وقد حثنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الامم السابقة ولنستخلص منها العبرة ، وقد حكى الله لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الانبياء السابقين وشعوبهم ، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل .
   أما قولك « وما يهمني من هذا البحث » ؟ .
   فأجيب عليه بقولي : يهمني :
* أولاً : لكي أعرف ولي الله فأواليه وأعرف عدو الله فأعاديه وهذا ما طلبه مني القرآن بل أوجبه علي .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 136 _

* ثانيا : يهمني أن أعرف كيف أعبدالله وأتقرب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جل وعلا لا كما يريدها مالك أو أبوحنيفة أو غيرهم من المجتهدين لاني وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصلاة بينما يقول أبوحنيفة بوجوبها ، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها وبما أن الصلاة هي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها ، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة ، كما أن الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنة بغسلهما بينما نقرأ في القرآن ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) وهي صريحة في المسح ، فكيف تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويرد قول ذاك بدون بحث ودليل .
ـ قال : بإمكانك أن تأخذ من كل مذهب ما يعجبك لانها مذاهب إسلامية وكلهم من رسول الله ملتمس .
ـ قلت : أخاف أن أكون ممن قال الله فيهم : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) (1) .
   يا سيدي أنا لا أعتقد بأن المذاهب كلها على حق مادام الواحد منهم يبيح الشيء ويحرمه الآخر ، فلا يمكن أن يكون الشيء حراما وحلالا في آن واحد والرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يتناقض في أحكامه لانه « وحي من القرآن » ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) (2) .

---------------------------
(1) سورة الجاثية : آية 23 .
(2) سورة النساء : آية 82 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 137 _

   وبما أن المذاهب الاربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند الله ولا من عند رسوله لان الرسول لا يناقض القرآن ، ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيا وحجتي مقبولة .
ـ قال : أنصحك لوجه الله تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين فهم أعمدة الاسلام الاربعة إذا هدمت عمودا منها سقط البناء .
ـ قلت : استغفر الله يا سيدي فأين رسول الله إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الاسلام ؟
   أجاب : رسول الله هو ذاك البناء ! هو الاسلام كله ، ابتسمت من هذا التحليل وقلت : استغفر الله مرة أخرى يا سيدي الشيخ فأنت تقول من حيث لا تشعر بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن ليستقيم إلا بهؤلاء الاربعة بينما يقول الله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) (1) .
   فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الاربعة ولا من غيرهم وقد قال الله تعالى في هذا الصدد : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ) (2) .

---------------------------
(1) سورة الفتح : آية 28 .
(2) سورة البقرة : آية 151 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 138 _

ـ قال : هذا ما تعلمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا نناقش ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد أصبحتم تشكون في كل شيء وتشككون في الدين ، وهذه من علامات الساعة فقد قال صلى الله عليه وآله : « لن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق » .
ـ فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل أعوذ بالله أن أشك في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت بالله وحده لا شريك له وملائكته وكتبه ورسله ، وآمنت بأن سيدنا محمدا عبده ورسوله وهو أفضل الانبياء والمرسلين وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتهمني بهذا ؟
ـ قال : أتهمك بأكثر من هذا لانك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال ( ص ) : « لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر » .
   وقال في حق سيدنا عمر « عرضت عليّ أمتي وهي ترتدي قمصا لم تبلغ الثدي وعرض عليّ عمر وهو يجر قميصه ، قالوا ما أولته يا رسول الله قال : الدين » ، وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر ، ألم تعلم بأن أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق ! ! .
ـ ماذا أقول لهذا العالم المدعي العلم الذي أخذته العزة بالاثم ، فتحول من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء وبث الاشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به والذين احمرت أعينهم وانتفخت أوداجهم ولاحظت في وجوههم الشر .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 139 _

   فما كان مني إلا أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للامام مالك وصحيح البخاري وقلت يا سيدي : إن الذي بعثني على هذا الشك هو رسول الله نفسه وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق ، ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال : « إننا لكائنون بعدك » (1) .
  ثم فتحت صحيح البخاري وفيه دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال ـ حين رآها ـ من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه ، قالت أسماء نعم ، قال سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم ، فغضبت وقالت كلا والله ، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي أسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه ، فلما جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) قالت يا نبي الله ، عمر قال كذا وكذا قال فما قلت له قالت كذا وكذا .

---------------------------
(1) موطأ الامام مالك ج 1 ص 307 ، المغازي للواقدي ص 310 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 140 _

   قال : ليس بأحق بي منكم وله ولاصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان قالت فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم مما قال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) (1) .
   وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الاحاديث تغيرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ينتظرون رد العالم الذي صدم فما كان منه إلا أن رفع حاجبيه علامة التعجب وقال : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ).
   فقلت : إذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو أول من شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لانه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقر بتفضيل عمر بن الخطاب على أسماء بنت عميس بل فضلها عليه ، فمن حقي أن أشك وأن لا أفضل أحدا حتى أتبين وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أن هذين الحديثين يناقضان كل الاحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها ، لانهما أقرب إلى الواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة ؛ قال الحاضرون ! وكيف ذلك ؟ .
   قلت : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يشهد على أبي بكر وقال له إنني لا أدري ماذا تحدثون بعدي ! فهذا معقول جدا وقد قرر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدلوا بعده ولذلك بكى أبو بكر وقد بدل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول ـ كما سبق ـ وقد بدل حتى ندم قبل وفاته وتمنى أن لا يكون بشرا .


---------------------------
(1) صحيح البخاري ج 3 ص 387 باب غزوة خيبر .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 141 _

   أما الحديث الذي يقول : « لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر » فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل قضى أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الاصنام أرجح إيمانا من أمة محمد بأسرها ، وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والائمة الذين قضوا أعمارهم كلها جهادا في سبيل الله ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث ؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا .
   ولو كان إيمانه يفوق إيمان الامة ماكانت سيدة النساء ، فاطمة بنت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، تغضب عليه وتدعو الله عليه في كل صلاة تصليها ، ولم يرد العالم بشيء ، ولكن بعض المجالسين قالوا : لقد بعث ـ والله ـ هذا الحديث الشك فينا ، عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده ؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم وكفاني أحدهم الرد عليه إذ قال : كلا ، إن الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملا ، واتبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبين لنا الآن أن ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث ! ! ووافقه على رأيه بعض الحاضرين ، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة ، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنه انتصار العقل والحجة والبرهان ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 142 _

   ذلك ما دفعني وشجعني على الدخول في البحث وفتح الباب على مصراعيه فدخلته باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله ، راجيا منه سبحانه وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كل باحث عن الحق وهو لا يخلف وعده .
   قرأت كتاب المراجعات للامام شرف الدين وراجعته عدة مرات وقد فتح أمامي آفاقا سببت هدايتي وشرحت صدري لحب أهل البيت ومودتهم ، وقرأت كتاب الغدير للشيخ الاميني وأعدته ثلاث مرات لما فيه من حقائق دامغة واضحة جلية وقرأت كتاب فدك في التاريخ للسيد محمد باقر الصدر وكتاب السقيفة للشيخ محمد رضا المظفر وفهمت منهما أسرارا غامضة اتضحت ، كما قرأت كتاب النص والاجتهاد فازددت يقينا ثم قرأت كتاب أبي هريرة لشرف الدين وشيخ المضيرة للشيخ محمود أبو رية المصري وعرفت أن الصحابة الذين غيروا بعد رسول الله قسمان ، قسم غير الاحكام بما له من السلطة والقوة الحاكمة ، وقسم غير الاحكام بوضع الاحاديث المكذوبة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
   ثم قرأت كتاب الامام الصادق والمذاهب الاربعة لاسد حيدر وعرفت الفرق بين العلم الموهوب والعلم المكسوب عرفت الفرق بين حكمة الله التي يؤتيها من يشاء وبين التطفل على العلم والاجتهاد بالرأي الذي أبعد الامة عن روح الاسلام .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 143 _

   وقرأت كتبا أخرى عديدة للسيد جعفر مرتضى العاملي والسيد مرتضى العسكري والسيد الخوئي والسيد الطباطبائي والشيخ محمد أمين زين الدين وللفيروز آبادي ولابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة والفتنة الكبرى لطه حسين ، ومن كتب التاريخ قرأت تاريخ الطبري وتاريخ ابن الاثير وتاريخ المسعودي وتاريخ اليعقوبي ، وقرأت الكثير حتى اقتنعت بأن الشيعة الامامية على حق فتشيعت وركبت على بركة الله سفينة أهل البيت وتمسكت بحبل ولائهم لاني وجدت بحمد الله البديل عن بعض الصحابة الذين ثبت عندي أنهم ارتدوا على أعقابهم القهقرى ولم ينج منهم إلا القليل وأبدلتهم بأئمة أهل البيت النبوي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وافترض مودتهم على الناس أجمعين .
   فالشيعة ليسوا كما يدعي بعض علمائنا ، هم الفرس والمجوس الذين حطم سيدنا عمر كبرياءهم ومجدهم وعظمتهم في حرب القادسية ولذلك يبغضونه ويكرهونه ! وأجبت هؤلاء الجاهلين بأن التشيع لاهل البيت النبوي لا يختص بالفرس بل الشيعة في العراق وفي الحجاز وفي سوريا ولبنان كل هؤلاء عرب كما يوجد الشيعة في الباكستان والهند وفي أفريقيا وأمريكا وكل هؤلاء ليسوا من العرب ولا من الفرس .
   ولو اقتصرنا على شيعة إيران فإن الحجة تكون أبلغ إذ أنني وجدت الفرس يقولون بإمامة الائمة الاثني عشر وكلهم من العرب من قريش من بني هاشم عترة النبي ، فلو كان الفرس متعصبين ويكرهون العرب كما يدعي البعض لاتخذوا سلمان الفارسي إماما لهم لانه منهم وهو صحابي جليل عرف قدره كل من الشيعة والسنة على حد سواء .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 144 _

   بينما وجدت أهل السنة والجماعة ينقطعون في الامامة إلى الفرس فأغلب أئمتهم من الفرس كأبي حنيفة والامام النسائي والترمذي والبخاري ومسلم وابن ماجة والرازي والامام الغزالي وابن سينا والفارابي وغيرهم كثيرون يضيق بهم المقام فإذا كان الشيعة من الفرس يرفضون عمر بن الخطاب لانه حطم كبرياءهم وعظمتهم فبماذا نفسر رفض الشيعة له من العرب وغير الفرس فهذه دعوى لا تقوم على دليل ، وإنما رفض هؤلاء عمر للدور الذي قام به في إبعاد أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عن الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما سبب ذلك من فتن ومحن وقلاقل وانحلال لهذه الامة ويكفي أن يزاح الحجاب عن أي باحث حر وتكشف له الحقيقة حتى يرفضه بدون عداوة سابقة .
   والحق إن الشيعة سواء كانوا من الفرس أم من العرب أم من غير هؤلاء قد خضعوا للنصوص القرآنية والنصوص النبوية واتبعوا إمام الهدى وأولاده مصابيح الدجى ولم يرضوا بغيرهم رغم سياسة الترغيب والترهيب التي قادها الامويون ومن بعدهم العباسيون طيلة سبعة قرون تتبعوا خلالها الشيعة تحت كل حجر ومدر وقتلوهم وشردوهم ومنعوهم العطاء ومحوا آثارهم وأثاروا حولهم الاشاعات والدعايات التي تنفر الناس منهم وبقيت هذه الآثار حتى اليوم .
   ولكن الشيعة ثبتوا وصمدوا وصبروا وتمسكوا بالحق لا تأخذهم في الله لومة لائم وهم يدفعون حتى اليوم ثمن هذا الصمود ، وإني اتحدى أي عالم من علمائنا أن يجلس مع علمائهم ويجادلهم فلا يخرج إلا مستبصرا بالهدى الذي هم عليه ، نعم وجدت البديل والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 145 _

   الحمد لله والشكر له على أن دلني على الفرقة الناجية التي كنت أبحث عنها بلهف ولم يبق عندي أي شك في أن المتمسك بعلي وأهل البيت قد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، والنصوص النبوية على ذلك كثيرة أجمع عليها المسلمون ، والعقل وحده خير دليل لمن ألقى السمع وهو شهيد ، فعلي كان أعلم الصحابة وأشجعهم على الاطلاق وذلك بإجماع الامة ، وهذا وحده كاف للدلالة على أحقيته ( ع ) للخلافة دون غيره ، قال الله تعالى : ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) (1) .
   وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن من بعدي » (2) .
   وقال الامام الزمخشري في أبيات له :
كـثر الـشك والخلاف iiوكل      يـدعى  أنه الصراط iiالسوي
فـتمسكت بـلا إلـه إلا iiالله      وحـبـي لاحـمـد iiوعـلي
فاز كلب بحب أصحاب كهف      كـيف  أشقى بحب آل iiالنبي
---------------------------
(1) سورة البقرة : آية 247 .
(2) صحيح الترمذي ج 5 ص 296 خصائص النسائي ص 87 مستدرك الحاكم ج 3 ص 110 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 146 _

   نعم وجدت البديل بحمد الله ، وصرت اقتدي ـ بعد رسول الله ـ بأمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين أسد الله الغالب الامام علي بن أبي طالب وبسيدي شباب أهل الجنة وريحانتي النبي من هذه الامة الامام أبي محمد الحسن الزكي والامام أبي عبد الله الحسين وببضعة المصطفى سلالة النبوة وأم الائمة معدن الرسالة ومن يغضب لغضبها رب العزة والجلالة سيدة النساء فاطمة الزهراء .
   وأبدلت الامام مالك بأستاذ الائمة ومعلم الامة الامام جعفر الصادق ، وتمسكت بالائمة التسعة المعصومين من ذرية الحسين أئمة المسلمين وأولياء الله الصالحين ، وأبدلت الصحابة المنقلبين على أعقابهم أمثال معاوية وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة وعكرمة وكعب الاحبار وغيرهم بالصحابة الشاكرين الذين لم ينقضوا عهد النبي أمثال عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الاسود وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين واُبي بن كعب وغيرهم والحمد لله على هذا الاستبصار .
   وأبدلت علماء قومي ، الذين جمدوا عقولنا واتبع كثير منهم السلاطين والحكام في كل زمان ، بعلماء الشيعة الابرار الذين ما أغلقوا يوما باب الاجتهاد ولا وهنوا ولا استكانوا للامراء والسلاطين الظالمين .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 147 _

   نعم أبدلت أفكارا متحجرة متعصبة تؤمن بالتناقضات بأفكار نيرة متحررة ومتفتحة تؤمن بالدليل والحجة والبرهان ، وكما يقال في عصرنا الحاضر : « غسلت دماغي » من أوساخ كثفتها عليه ـ طوال ثلاثين عاماً ـ أضاليل بني أمية وطهرته بعقيدة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا لما تبقى من حياتي » .
   اللهم أحينا على ملتهم وأمتنا على سنتهم واحشرنا معهم فقد قال نبيك ( صلى الله عليه وآله ) « يحشر المرء مع من أحب » ، وبذلك أكون قد رجعت إلى أصلي ، فقد كان أبي وأعمامي يحدثوننا حسب الشجرة التي يعرفونها أنهم من السادة الذين هربوا من العراق تحت الضغط العباسي ولجأوا إلى شمال أفريقيا حيث أقاموا في تونس وبقيت آثارهم حتى اليوم .
   وهناك في شمال أفريقيا كثيرون مثلنا يسمون الاشراف لانهم من السلالة الطاهرة ولكنهم تاهوا في ضلالات الامويين والعباسين ولم يبق عندهم من الحقيقة شيء إلا ذلك الاحترام والتقدير الذي يكنه لهم الناس ، فالحمد لله على هدايته والحمد لله على استبصاري وفتح بصري وبصيرتي على الحقيقة .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 148 _

35 ـ أسباب الاستبصار :

   أما الاسباب التي دعتني للاستبصار فكثيرة جدا ولا يمكن لي في هذه العجالة إلا ذكر بعض الامثلة منها :

1 - النص على الخلافة : لقد اليت على نفسي عند الدخول في هذا البحث أن لا أعتمد إلا ما هو موثوق عند الفريقين وأن أطرح ما انفردت به فرقة دون الاخرى ، وعلى ذلك أبحث في فكرة التفضيل بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب وأن الخلافة إنما كانت بالنص على علي كما يدعي الشيعة أو بالانتخاب والشورى كما يدعي أهل السنة والجماعة .
   والباحث في هذا الموضوع إذا تجرد للحقيقة فإنه سيجد النص على علي بن أبي طالب واضحا جليا كقوله ( صلى الله عليه وآله ) : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » قال ذلك بعد ما انصرف من حجة الوداع فعقد لعلي موكب للتهنئة حتى أن أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنئين للامام ويقولان : « بخ بخ لك يا أبن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة » (1) .

---------------------------
(1) مسند الامام أحمد بن حنبل ج 4 ص 281 سر العالمين للامام الغزالي ص 12 ، تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 29 الرياض النضرة للطبري ج 2 ص 169 كنز العمال ج 6 ص 397 البداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 212 تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 50 تفسير الرازي ج 3 ص 63 الحاوي للفتاوي للسيوطي ج 1 ص 112 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 149 _

   وهذا النص مجمع عليه من الشيعة والسنة ، ولم أخرج أنا في البحث ـ هذا ـ إلا مصادر أهل السنة والجماعة ومع ذلك لم أذكر المصادر كلها فهي أكثر بكثير مما ذكرت ، وللاطلاع على مزيد من التفصيل ادعو القارئ إلى مطالعة كتاب الغدير للعلامة الاميني وقد طبع منه ثلاثة عشر مجلدا يحصي فيها المصنف رواة هذا الحديث من طريق أهل السنة والجماعة .
   أما الاجماع المدعى على انتخاب أبي بكر يوم السقيفة ثم مبايعته بعد ذلك في المسجد ، فإنه دعوى بدون دليل ، إذ كيف يكون الاجماع وقد تخلف عن البيعة علي والعباس وسائر بني هاشم كما تخلف أسامة بن زيد والزبير وسلمان الفارسي وأبوذر الغفاري والمقداد بن الاسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبو بريدة الاسلمي والبراء بن عازب واُبي بن كعب وسهل بن حنيف وسعد بن عبادة وقيس بن سعد وأبوأيوب الانصاري وجابر بن عبدالله وخالد بن سعيد وغير هؤلاء كثيرون (1) .
   فأين الاجماع المزعوم يا عباد الله ؟ على أنه لو كان علي بن أبي طالب وحده تخلف عن البيعة لكان ذلك كافيا للطعن في ذلك الاجماع إذ أنه المرشح الوحيد للخلافة من قبل الرسول على فرض عدم وجود النص المباشر عليه ، وإنما كانت بيعة أبي بكر عن غير مشورة بل وقعت على حين غفلة من الناس وخصوصا أولي الحل والعقد منهم كما يسميهم علماء المسلمين إذ كانوا مشغولين بتجهيز الرسول ودفنه ، وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحمل الناس على البيعة بعد ذلك قهرا (2) ، كما يشعرنا بذلك تهديدهم بحرق بيت فاطمة إن لم يخرج المتخلفون عن البيعة فكيف يجوز لنا بعد هذا أن نقول بأن البيعة كانت بالمشورة وبالاجماع .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ، تاريخ ابن الاثير ، تاريخ الخلفاء ، تاريخ الخميس ، الاستيعاب ، وكل من ذكر بيعة أبي بكر .
(2) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 1 ص 18 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 150 _

   وقد شهد عمر بن الخطاب نفسه بأن تلك البيعة كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها ، وقال فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ؛ أو قال فمن دعا إلى مثلها فلا بيعة له ولا لمن بايعه (1) .
   ويقول الامام علي في حقها : « أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير (2).
   ويقول سعد بن عبادة سيد الانصار الذي هاجم أبا بكر وعمر يوم السقيفة وحاول بكل جهوده أن يمنعهم ويبعدهم عن الخلافة ولكنه عجز عن مقاومتهم لانه كان مريضا لا يقدر على الوقوف ، وبعدما بايع الانصار أبا بكر قال سعد : والله لا أبايعكم أبدا حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ولا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي ، فكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجتمع بجمعتهم ، ولا يفيض بإفاضتهم ، ولو يجد عليهم أعوانا لطال بهم ، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم ، ولم يزل كذلك حتى قتل بالشام في خلافة عمر (3) .
   فإذا كانت هذه البيعة فلتة وقى الله المسلمين شرها على حد تعبير عمر الذي شيد أركانها وعرفت ما آلت إليه أمور المسلمين بسببها ، وإذا كانت هذه الخلافة تقمصا ـ من قبل أبي بكر ـ كما وصفها الامام علي إذ قال بأنه هو صاحبها الشرعي ، وإذا كانت هذه البيعة ظلما كما اعتبرها سعد بن عبادة سيد الانصار الذي فارق الجماعة بسببها ، وإذا كانت هذه البيعة غير شرعية لتخلف أكابر الصحابة والعباس عم النبي عنها .

---------------------------
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 127 .
(2) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده ج 1 ص 34 الخطبة الشقشقية .
(3) تاريخ الخلفاء ج 1 ص 17 .