الفهرس العام







   فما هي إذن الحجة في صحة خلافة أبي بكر ؟ والجواب لا حجة هناك عند أهل السنة والجماعة ، فقول الشيعة إذن هو الصحيح في هذا الموضوع ، لانه ثبت وجود النص على خلافة علي عند السنة أنفسهم ، وقد تأولوه حفاظا على كرامة الصحابة ، فالمنصف العادل لا يجد مناصا من قبول النص وبالاخص إذا عرف ملابسات القضية (1) .

2 ـ خلاف فاطمة مع أبي بكر : وهذا الموضوع أيضا مجمع على صحته من الفريقين فلا يسع المنصف العاقل إلا أن يحكم بخطأ أبي بكر إن لم يعترف بظلمه وحيفه على سيدة النساء ، لان من يتتبع هذه المأساة ويطلع على جوانبها يعلم علم اليقين أن أبا بكر تعمد إيذاء الزهراء وتكذيبها لئلا تحتج عليه بنصوص الغدير وغيرها على خلافة زوجها وابن عمها علي ونجد قرائن عديدة على ذلك ، منها ما أخرجه المؤرخون من أنها ( سلام الله عليها ) خرجت تطوف على مجالس الانصار وتطلب منهم النصرة والبيعة لابن عمها ، فكانوا يقولون : « يا ابنة رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول علي كرم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (2) .
   ولو كان أبو بكر مخطئا عن حسن نية أو على اشتباه لاقنعته فاطمة الزهراء ولكنها غضبت عليه ولم تكلمه حتى ماتت ، لانه رد في كل مرة دعواها ولم يقبل شهادتها ولا شهادة زوجها ولكل هذا اشتد غضبها عليه حتى أنها لم تأذن له بحضور جنازتها حسب وصيتها لزوجها الذي دفنها في الليل سرا (3) وعلى ذكر دفنها ( سلام الله عليها ) سرا في الليل فقد سافرت خلال سنوات البحث إلى المدينة المنورة لاطلع بنفسي على بعض الحقائق ، واكتشفت .

---------------------------
(1) راجع : السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود ، والسقيفة للشيخ محمد رضا المظفر .
(2) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 1 ص 19 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( بيعة أبي بكر ) .
(3) صحيح البخاري ج 3 ص 36 صحيح مسلم ج 2 ص 72 باب لا نورث ما تركناه صدقة .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 152 _

أولا : أن قبر الزهراء مجهول لا يعرفه أحد فمن قائل بأنه في الحجرة النبوية ومن قائل بأنه في بيتها مقابل الحجرة النبوية ، وثالث يقول : « إنه في البقيع وسط قبور أهل البيت بدون تحديد » .
   هذه الحقيقة الاولى التي استنتجت منها أنها ( سلام الله عليها ) أرادت بهذا أن يتسأل المسلمون عبر الاجيال عن السبب الذي دعاها أن تطلب من زوجها أن يدفنها في الليل سرا ولا يحضر جنازتها منهم أحدا ! ! ! وبذلك يمكن لاي مسلم أن يصل إلى بعض الحقائق المثيرة من خلال مراجعة التاريخ .
ثانيا : اكتشفت أن الزائر الذي يريد زيارة قبر عثمان بن عفان يمشي مسافة طويلة حتى يصل إلى آخر البقيع فيجده تحت الحائط بينما يجد أغلب الصحابة مدفونين في بداية البقيع قرب المدخل وحتى مالك بن أنس صاحب المذهب وهو من تابعي التابعين مدفون قرب زوجات الرسول ، وتحقق لدي ما قاله المؤرخون من أنه دفن بحش كوكب وهي أرض يهودية لان المسلمين منعوا دفنه في بقيع رسول الله ، ولما استولى معاوية بن أبي سفيان على الخلافة اشترى تلك الارض من اليهود وأدخلها في البقيع ليدخل بذلك قبر ابن عمه عثمان فيها والذي يزور البقيع حتى اليوم سيري هذه الحقيقة بأجلى ما تكون .
   وإن عجبي لكبير حين أعلم أن فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) أول من لحق بأبيها فبينها وبينه ، ستة أشهر على أكثر الاحتمالات ثم لا تدفن إلى جانب أبيها ، وإذا كانت فاطمة الزهراء هي التي أوصت بدفنها سرا فلم تدفن بالقرب من قبر أبيها كما ذكرت فما بال ما حصل مع جثمان ولدها الحسن لم يدفن قرب قبر جده ؟ ! فقد منعت هذا ( أم المومنين ) عائشة وقد فعلت ذلك عندما جاء الحسين بأخيه الحسن ليدفنه إلى جانب جده رسول الله ، فركبت عائشة بغلة وخرجت تنادي وتقول : لا تدفنوا في بيتي من لا أحب .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 153 _

   واصطف بنو أمية وبنو هاشم للحرب ولكن الامام الحسين قال لها أنه سيطوف بأخيه على قبر جده ثم يدفنه في البقيع لان الامام الحسن أوصاه أن لا يهرقوا من أجله ولو محجمة من دم .
   وقال لها ابن عباس أبياتا مشهورة :
تجملت (1) تبغلت (2)      ولـو عـشت iiتـفيلت
لـك الـتسع من iiالثمن      وبـالـكل  iiتـصرفت
   وهذه حقيقة أخرى من الحقائق المخيفة ، فكيف ترث عائشة كل البيت من بين أزواج النبي المتعددات وهن تسع نساء حسب ما قاله ابن عباس : وإذا كان النبي لا يورث كما شهد بذلك أبو بكر نفسه ومنع ذلك ميراث الزهراء من أبيها فكيف ترث عائشة ؟ فهل هناك في كتاب الله آية تعطي الزوجة حق الميراث وتمنع البنت ؟ أم أن السياسة هي التي أبدلت كل شيء فحرمت البنت من كل شيء وأعطت الزوجة كل شيء ؟ .
   وبالمناسبة أذكر هنا قصة طريفة ذكرها بعض المؤرخين ولها علاقة بموضوع الارث ، قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة : جاءت عائشة وحفصة ودخلتا على عثمان أيام خلافته وطلبتا منه أن يقسم لهما إرثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
   وكان عثمان متكئا فاستوى جالسا وقال لعائشة : أنت وهذه الجالسة جئتما بأعرابي يتطهر ببوله وشهدتما أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : نحن معشر الانبياء لا نورث فإذا كان الرسول حقيقة لا يورث فماذا تطلبان بعد هذا ، وإذا كان الرسول يورث لماذا منعتم فاطمة حقها ؟ فخرجت من عنده غاضبة وقالت : أقتلوا نعثلا فقد كفر (3) .

---------------------------
(1) إشارة إلى ركوبها الجمل في حرب الجمل المشهورة .
(2) إشارة إلى ركوبها البغلة يوم منعت دفن الحسن بجانب جده .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 220 ـ 223 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 154 _

3 ـ علي أولى بالاتباع : ومن الاسباب التي دعتني للاستبصار وترك سنة الآباء والاجداد ، الموازنة العقلية والنقلية بين علي بن إبي طالب وأبي بكر ، وكما ذكرت في الابواب السابقة من هذا البحث إني أعتمد على الاجماع الذي يوافق عليه أهل السنة والشيعة .
   وقد فتشت في كتب الفريقين فلم أجد إجماعا إلا على علي بن أبي طالب فقد أجمع على إمامته الشيعة والسنة في ما ورد من نصوص ثبتتها مصادر الطرفين ، بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلا فريق من المسلمين وقد كنا ذكرنا ما قاله عمر عن بيعة أبي بكر ؛ كما أن الكثير من الفضائل والمناقب التي يذكرها الشيعة في علي بن أبي طالب لها سند ووجود حقيقي ثابت في كتب أهل السنة المعتمدة عندهم ، ومن عدة طرق لا يتطرق إليها الشك ، فقد روى الحديث في فضائل الامام علي جمع غفير من الصحابة ، حتى قال أحمد بن حنبل : ما جاء لاحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من الفضائل كما جاء لعلي بن أبي طالب (1) .
   وقال القاضي إسماعيل والنسائي وأبوعلي النيسابوري : لم يرد في حق أحد من الصحابة بالاسانيد الحسان ماجاء في علي (2) .

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين للحاكم ج 3 ص 107 المناقب للخوارزمي ص 3 و 19 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 168 الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ص 72 ، تاريخ ابن عساكر ج 3 ص 63 شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 19 .
(2) الرياض النضرة للطبري ج 2 ص 282 الصواعق المحرقة لابن حجر ص 118 وص 72 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 155 _

   هذا مع ملاحظة أن الامويين حملوا الناس في مشارق الارض ومغاربها على سبه ولعنه وعدم ذكر فضيلة له حتى منعوا أن يتسمى أحد باسمه ، ومع كل ذلك خرجت فضائله ومناقبه ( سلام الله عليه ) رغم الجحود ؛ وفي ذلك يقول الامام الشافعي : « عجبت لرجل كتم أعداؤه فضائله حسدا ، وكتمها محبوه خوفا ، وخرج ما بين ذين ما طبق الخافقين » .
   أما بشأن أبي بكر فقد فتشت أيضا في كتب الفريقين فلم أجد له في كتب أهل السنة والجماعة القائلين بتفضيله ما يوازي أو يعادل فضائل الامام علي ، على أن فضائل أبي بكر المذكورة في الكتب التاريخية مروية إما عن ابنته عائشة وقد عرفنا موقفها من الامام علي فهي تحاول بكل جهدها دعم أبيها ولو بأحاديث موضوعة أو عن عبد الله بن عمر وهو أيضا من البعيدين عن الامام علي وقد رفض مبايعته بعدما أجمع الناس على ذلك وكان يحدث أن أفضل الناس بعد النبي أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم لا تفاضل والناس بعد ذلك سواسية (1) يعني هذا الحديث أن عبد الله بن عمر جعل الامام علي من سوقة الناس كأي شخص عادي ليس له فضل ولا فضيلة .
   فأين عبد الله بن عمر من الحقائق التي ذكرها أعلام الامة وأئمتها بأنه لم يرد في أحد من الصحابة بالاسانيد الحسان ماجاء في علي بن أبي طالب ، هل أن عبد الله بن عمر لم يسمع بفضيلة واحدة لعلي ؟ بلى والله لقد سمع ووعى ولكن السياسة وما أدراك ما السياسة فهي تقلب الحقائق وتصنع الاعاجيب .
   كذلك يروي فضائل أبي بكر ، كل من عمرو بن العاص وأبوهريرة وعروة وعكرمة وهؤلاء كلهم يكشف التاريخ أنهم كانوا متحاملين على الامام علي وحاربوه إما بالسلاح وإما بالدس واختلاق الفضائل لاعدائه وخصومه .
   قال الامام أحمد بن حنبل : إن عليا كان كثير الاعداء ففتش أعداؤه عن شيء يعيبونه به فلم يجدوا ، فجاؤوا إلى رجل قد حاربه وقاتله ، فأطروه كيدا منهم له (2) .

---------------------------
(1) صحيح البخاري ج 2 ص 202 .
(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 7 ص 83 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 199 ، الصواعق المحرقة لابن حجر ص 125 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 156 _

   ولكن الله يقول : ( إنهم يكيدون كيدا ، وأكيد كيدا ، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) (1) .
   وإنه لمن معجزات الله سبحانه أن تخرج فضائل الامام على بعد ستة قرون من الحكم الجائر الظالم له ولاهل بيته ، إذ لم يكن العباسيون أقل بغضا وحسدا ونكاية وتقتيلا لاهل البيت النبوي من أسلافهم الامويين حتى قال أبوفراس الحمداني في ذلك :
ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت      تـلـك الـجرائر إلا دون iiنـيلكم
كـم غـدرة لكم في الدين iiواضحة      وكــم  دم لـرسول الله iiعـندكم
أنـتم لـه شيعة في ما ترون iiوفي      أظـفاركم مـن بنيه الطاهرين iiدم
   فإذا خلصت بعد كل ذلك تلكم الاحاديث وخرجت من تلكم الظلمات فلتكن لله الحجة البالغة ، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك ، ورغم أن أبا بكر كان هو الخليفة الاول وله من النفوذ ما قد عرفنا ورغم أن الدولة الاموية كانت تجعل عطاء خاصا ورشوة لكل من يروي في حق أبي بكر وعمر وعثمان ورغم أنها اختلقت لابي بكر من الفضائل والمناقب الكثير مما سودت بها صفحات الكتب ، مع ذلك فلم يبلغ معشار عشر حقائق الامام علي وفضائله ،

---------------------------
(1) سورة الطارق : آية 15 ، 16 ، 17 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 157 _

   أضف إلى ذلك أنك إذا حللت الاحاديث المروية في فضائل أبي بكر وجدتها لا تتماشى مع ما سجله له التاريخ من أعمال تناقض ما قيل فيه ولا يقبلها عقل ولا شرع وقد تقدم شرح ذلك في حديث « لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أمتي لرجح إيمان أبي بكر » ولو كان يعلم رسول الله أن أبا بكر على هذه الدرجة من الايمان ماكان ليؤمر عليه أسامة بن زيد ولا ليمتنع من الشهادة له كما شهد على شهداء اُحد وقال له إني لا أدري ماذا تحدث من بعدي حتى بكى أبو بكر (1) ، وماكان ليرسل خلفه علي بن أبي طالب ليأخذ منه سورة براءة فيمنعه من تبليغها (2) ، وما كان قال يوم إعطاء الراية في خيبر : لاعطين رايتي غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا ليس فرارا امتحن الله قلبه بالايمان ؛ فأعطاها إلى علي ولم يعطها إليه (3) .
   ولو علم الله أن أبا بكر على هذه الدرجة من الايمان وأن إيمانه يفوق إيمان أمة محمد بأسرها فلم يكن الله سبحانه ليهدده بإحباط عمله عندما رفع صوته فوق صوت النبي (4) ، ولو علم علي بن أبي طالب والصحابة الذين اتبعوه أن أبا بكر على هذه الدرجة من الايمان ما جاز لهم أن يتخلفوا عن بيعته ولو علمت فاطمة الزهراء سيدة النساء أن أبا بكر على هذه الدرجة من الايمان ما كانت لتغضب عليه وتمتنع عن الكلام معه وعن رد السلام عليه وتدعو الله عليه في كل صلاة (5) ، ثم لا تأذن له ـ حسب ما ورد في وصيتها ـ حتى بحضور جنازتها .
   ولو علم أبو بكر أنه على هذه الدرجة من الايمان ما كان ليتمنى عند احتضاره أنه لو لم يكن يكشف بيت فاطمة ( ع ) ، وأنه لو لم يكن أحرق الفجاءة السلمي ، ولكان يوم السقيفة قذف الامر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة (6) .
   فالذي هو على هذه الدرجة من الايمان ويرجح إيمانه على إيمان كل الامة لا يندم في آخر لحظات حياته على ما فعله مع فاطمة وعلى حرقه الفجاءة السلمي وعلى توليه الخلافة ، كما لا يتمنى أن لا يكون من البشر ويكون شعرة أو بعرة ، أفيعادل إيمان مثل هذا الشخص إيمان الامة الاسلامية بل يرجح عليها ؟ ! .

---------------------------
(1) موطأ الامام مالك ج 1 ص 307 مغازي الواقدي ص 310 .
(2) صحيح الترمذي ج 4 ص 339 مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 319 مستدرك الحاكم ج 3 ص ـ 51 .
(3) صحيح مسلم باب فضائل علي بن أبي طالب .
(4) صحيح البخاري ج 4 ص 184 .
(5) الامامة والسياسة ج 1 ص 14 رسائل الجاحظ ص 301 أعلام النساء ج 3 ص 1215 .
(6) تاريخ الطبري ج 4 ص 52 الامامة والسياسة ج 1 ص 18 تاريخ المسعودي ج 1 ص 414 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 158 _

   وإذا أخذنا حديث « لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا » ، فهو كسابقه ، إذ أين كان أبو بكر يوم المؤاخاة الصغرى في مكة قبل الهجرة ويوم المؤاخاة الكبرى في المدينة بعد الهجرة وفي كلتيهما اتخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليا أخا له وقال له : « أنت أخي في الدنيا والآخرة » (1) ولم يلتفت إلى أبي بكر فحرمه من مؤاخاة الآخرة كما حرمه من الخلة ، وأنا لا أريد الاطالة في هذا الموضوع وأكتفي بهذين المثلين اللذين أوردتهما من كتب أهل السنة والجماعة ، أما عند الشيعة فلا يعترفون بتلك الاحاديث مطلقا ولديهم الادلة الواضحة على أنها وضعت في زمن متأخر عن زمن أبي بكر .
   هذا وإذا تركنا الفضائل وبحثنا في المساوئ فإننا لا نحصى لعلي بن أبي طالب سيئة واحدة من كتب الفريقين ، بينما نجد لغيره مساويء كثيرة في كتب أهل السنة كالصحاح وكتب السير والتاريخ ، وبهذا يكون الاجماع من الفريقين يختص بعلي وحده كما يؤكد التاريخ أن البيعة الصحيحة لم تكن إلا لعلي وحده ، فقد امتنع هو وأصر عليها المهاجرون والانصار وقعد عن بيعته نفر فلم يجبرهم عليها ، بينما كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ـ كما يقول عمر بن الخطاب ـ وكانت خلافة عمر بعهد عهده إليه أبو بكر وكانت خلافة عثمان مهزلة تاريخية ، ذلك أن عمر رشح ستة للخلافة وألزمهم أن يختاروا من بينهم واحدا وقال إذا اتفق أربعة وخالف إثنان فاقتلوهما وإذا انقسم الستة إلى فريقين ثلاثة في كل جهة فخذوا برأي الثلاثة الذين يقف معهم عبدالرحمن بن عوف ، وإذا مضى وقت ولم يتفق الستة فاقتلوهم ، والقصة طويلة وعجيبة ، والمهم أن عبدالرحمن بن عوف اختار عليا واشترط عليه أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر فرفض علي هذا الشرط ، وقبله عثمان فكان هو الخليفة ، وخرج علي من البيعة وهو يعلم مسبقا النتيجة وقد تحدث عن ذلك في خطبته المعروفة بالشقشقية .

---------------------------
(1) تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص 23 تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 107 ، المناقب للخوارزمي ص 7 الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 21 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 159 _

   وبعد علي استولى معاوية على الخلافة فأبدلها قيصرية ملكية يتداولها بنو أمية ومن بعدهم بنو العباس إبنا عن أب ولم يكن هناك خليفة إلا بنص السابق على اللاحق أو بقوة السيف والسلاح والاستيلاء ، فلم تكن هناك بيعة صحيحة (1) في التاريخ الاسلامي من عهد الخلفاء وحتى عهد كمال أتاتورك الذي قضى على الخلافة الاسلامية إلا لامير المؤمنين علي بن أبي طالب .

4 ـ الاحاديث الواردة في علي توجب اتباعه : من الاحاديث التي أخذت بها ودفعتني للاقتداء بالامام علي ، تلك التي أخرجتها صحاح أهل السنة والجماعة وأكدت صحتها والشيعة عندهم أضعافها ولكن ـ وكالعادة ـ سوف لا أستدل ولا أعتمد إلا الاحاديث المتفق عليها من الفريقين ، ومن هذه الاحاديث .
أ - حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » (2) .
   وهذا الحديث وحده كاف لتشخيص القدوة الذي ينبغي اتباعه بعد الرسول صلى الله عليه وآله ، لان العالم أولى بالاتباع ، أولى أن يقتدى به من الجاهل ، قال تعالى : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (3) .
   وقال أيضا : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (4) ومن المعلوم أن العالم هو الذي يهدي والجاهل يستحق الهداية وهو أحوج إليها من أي أحد وفي هذا الصدد سجل لنا التاريخ أن الامام عليا هو أعلم الصحابة على الاطلاق وكانوا يرجعون إليه في أمهات المسائل ولم نعلم أنه ( ع ) رجع إلى واحد منهم قط فهذا أبو بكر يقول : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبوالحسن ، وهذا عمر يقول : لولا علي لهلك عمر (5).

---------------------------
(1) أي بإجماع المسلمين لم يفرضها عليهم أحد ولم تكن « فتنة » .
(2) مستدرك الحاكم ج 3 ص 127 تاريخ ابن كثير ج 7 ص 358 أحمد بن حنبل في المناقب .
(3) سورة الزمر : آية 9 .
(4) سورة يونس : آية 35 .
(5) الاستيعاب ج 4 ص 39 مناقب الخوارزمي ص 48 الرياض النضرة ج 2 ص 194 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 160 _

   وهذا ابن عباس يقول : ما علمي وعلم أصحاب محمد في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر (1) ، وهذا الامام علي نفسه يقول : « سلوني قبل أن تفقدوني ، والله لا تسألونني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا أخبرتكم به وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل » (2) .
   بينما يقول أبو بكر عندما سئل عن معنى الاب في قوله تعالى : ( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) قال أبو بكر : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم .
   وهذا عمر بن الخطاب يقول : « كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال » ويسأل عن آية من كتاب الله فينتهر السائل ويضربه بالدرة حتى يدميه ويقول : «لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » (3) وقد سئل عن الكلالة فلم يعلمها .
   أخرج الطبري في تفسيره عن عمر أنه قال : لئن أكون أعلم الكلالة أحب إلي من أن يكون لي مثل قصور الشام .

---------------------------
(1) لقد أجمعت صحاح أهل السنة وكتبهم على أفضلية علي ( ع ) وتقدمه في العلم على كل الصحابة ، راجع ـ على سبيل المثال ما جاء في الاستيعاب ج 3 ، ص 38 ـ 45 من أقوال الصحابة أنفسهم فيه وتقديمهم له عليهم .
(2) المحب الطبري في الرياض النضرة ج 2 ص 198 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 124 ، الاتقان ج 2 ص 319 فتح الباري ج 8 ص 485 تهذيب التهذيب ج 7 ص 338 .
(3) سنن الدارمي ج 1 ص 54 تفسير ابن كثير ج 4 ص 232 الدر المنثور ج 6 ص 111 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 161 _

   كما أخرج ابن ماجه في سننه عن عمر بن الخطاب قال : ثلاث لئن يكون رسول الله بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها : الكلالة والربا والخلافة ، سبحان الله ! حاشى لرسول الله أن يكون سكت عن هذه الاشياء ولم يبينها .

ب ـ حديث « يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » : وهذا الحديث كما لا يخفى على أهل العقول فيه ما فيه من اختصاص أمير المؤمنين علي بالوزارة والوصاية والخلافة .
   فكما كان هارون وزيرا ووصيا ، وخليفة موسى في غيابه عندما ذهب لميقات ربه ، كذلك أيضا منزلة الامام علي ( ع ) فهو كهارون عليه وعلى نبينا السلام وصورة طبق الاصل عنه ما عدا النبوة التي استثناها نفس الحديث ، وفيه أيضا أن الامام عليا هو أفضل الصحابة والحديث كما هو معلوم مجمع عليه عند عامة المسلمين .

ت ـ حديث « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار » : وهذا الحديث وحده كاف لرد مزاعم تقديم أبي بكر وعمر وعثمان على من نصبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وليا للمؤمنين من بعده ، ولا عبرة بمن أول الحديث إلى معنى المحب والنصير لصرفه عن معناه الاصلي الذي قصده الرسول وذلك حفاظا على كرامة الصحابة ، لان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عندما قام خطيبا في ذلك الحر الشديد « قال ألستم تشهدون بأني أولى المؤمنين من أنفسهم » قالوا بلى يا رسول الله فقال عندئذ : « فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه . . . » وهذا نص صريح في استخلافه على أمته ، ولا يمكن للعاقل المنصف العادل إلا قبول هذا المعنى ورفض تأويل البعض المتكلف والحفاظ على كرامة الرسول قبل الحفاظ على كرامة الصحابة لان في تأويلهم هذا استخفافا واستهزاء بحكمة الرسول الذي يجمع حشود الناس في الحر والهجير الذي لا يطاق ليقول لهم بأن علي هو محب المؤمنين وناصرهم .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 162 _

   وبماذا يفسر هؤلاء الذين يؤولون النصوص حفاظا على كرامة كبرائهم وساداتهم موكب التهنئة الذي عقده له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
   وبدأ بزوجاته أمهات المؤمنين وجاء أبو بكر وعمر يقولان « بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصحبت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة » والواقع والتاريخ يشهدان أن المتأولين لكاذبون فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكتبون قال تعالى : ( وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (1) .

ث ـ حديث : « علي مني وأنا من علي ، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي » (2) ، وهذا الحديث الشريف هو الآخر صريح في أن الامام عليا هو الشخص الوحيد الذي أهله صاحب الرسالة ليؤدي عنه وقد قاله عندما بعثه بسورة براءة يوم الحج الاكبر عوضا عن أبي بكر ، ورجع أبو بكر يبكي ويقول يا رسول الله أنزل في شيء فقال : إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو علي .
   وهذا ظهير ما قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي في مناسبة أخرى عندما قال له : « أنت يا علي تبين لامتي ما اختلفوا فيه بعدي » (3) .

---------------------------
(1) سورة البقرة : آية 146 .
(2) سنن إبن ماجه ج 1 ص 44 خصائص النسائي ص 20 صحيح الترمذي ج 5 ص 300 ، جامع الاصول لابن كثير ج 9 ص 471 الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 56 ، الرياض النضرة ج 2 ص 229 .
(3) تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 488 كنوز الحقائق للمناوي ص 203 ، كنز العمال ج 5 ص 33 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 163 _

   فإذا كان لا يؤدي عن رسول الله إلا علي وهو الذي يبين للامة ما اختلفوا فيه بعده ، فكيف يتقدم عليه من لا يعرف معنى الاب ومن لا يعرف معنى الكلالة وهذا لعمري من المصائب التي أصابت هذه الامة وأعاقتها عن أداء المهمة التي رشحها الله لها ، وليست الحجة على الله ولا على رسول الله ولا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وإنما الحجة البالغة على الذين عصوا وبدلوا ، قال تعالى : ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) (1) .

ج ـ حديث الدار يوم الانذار : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مشيرا إلى على : « إن هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا » (2) .
  وهذا الحديث هو أيضا من الاحاديث الصحيحة التي نقلها المؤرخون لبداية البعثة النبوية وعدوها من معجزات النبي ، ولكن السياسة هي التي أبدلت وزيفت الحقائق والوقائع ، ولا عجب من ذلك لان ما وقع في ذلك الزمان المظلم يتكرر اليوم في عصر النور فهذا محمد حسين هيكل أخرج الحديث بكامله في كتابه « حياة محمد » في صفحة 104 من الطبعة الاولى سنة 1354 هجرية وفي الطبعة الثانية وما بعدها حذف من الحديث قوله ( صلى الله عليه وآله ) ( وصيي وخليفتي من بعدي ) ؛ كذلك حذفوا من تفسير الطبري الجزء 19 صفحة 121 قوله ( وصيي وخليفتي ) وأبدلوها بقوله إن هذا أخي وكذا وكذا . . ! ! وغفلوا عن أن الطبري ذكر الحديث بكامله في تاريخه الجزء 2 صفحة 319 .

---------------------------
(1) سورة المائدة : آية 104 .
(2) تاريخ الطبري ج 2 ص 319 تاريخ ابن الاثير ج 2 ص 62 السيرة الحلبية ج 1 ص 311 شواهد التنزيل للحسكاني ج 1 ص 371 كنز العمال ج 15 ص 15 ، تاريخ ابن عساكر ج 1 ص 85 تفسير الخازن لعلاء الدين الشافعي ج 3 ص 371 ، حياة محمد لحسين هيكل الطبعة الاولى باب وأنذر عشيرتك الاقربين .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 164 _

   أنظر كيف يحرفون الكلم عن مواضعه ويقلبون الامور ، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره . . . وخلال البحث الذي قمت به أردت الوقوف على جلية الحال فبحثت عن الطبعة الاولى لكتاب « حياة محمد » وتحصلت عليها بحمد الله بعد عناء ومشقة وقد كلفني ذلك كثيرا ، والمهم أنني اطلعت على ذلك التحريف وزادني ذلك يقينا بأن أهل السوء يحاولون جهدهم أن يمحوا الحقائق الثابتة لانها حجة قوية لدى ( خصومهم ) ! .
   ولكن الباحث المنصف عندما يقف على شيء من هذا التحريف والتزييف يزداد عنهم بعدا ويعرف بلا شك أنهم لا حجة لديهم غير التضليل والدس وقلب الحقائق بأي ثمن ، ولقد استأجروا كتابا كثيرين وأغدقوا عليهم الاموال كما أغدقوا عليهم الالقاب والشهادات الجامعية المزيفة ليكتبوا لهم ما يريدون من الكتب والمقالات التي تشتم الشيعة وتكفرهم وتدافع بكل جهد وإن كان باطلا عن كرامة بعض الصحابة المنقلبين على أعقابهم والذين بدلوا بعد رسول الله الحق بالباطل ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (1) صدق الله العظيم .

---------------------------
(1) سورة البقرة : آية 118 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 165 _

36 ـ الأحاديث الصحيحة التي توجب أتباع أهل البيت :

1 ـ حديث الثقلين : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي » وقال أيضا : « يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي » (1) .
   وإذا أمعنا النظر في هذا الحديث الشريف الذي أخرجه صحاح أهل السنة والجماعة وجدنا أن الشيعة وحدهم هم الذين اتبعوا الثقلين « كتاب الله والعترة النبوية الطاهرة » بينما اتبع أهل السنة والجماعة قول عمر « حسبنا كتاب الله » .
   وليتهم اتبعوا كتاب الله بغير تأويل حسب أهوائهم فإذا كان عمر نفسه لم يفهم منه معنى الكلالة ولا عرف منه آية التيمم وعدة أحكام أخرى فكيف بمن جاء بعده وقلده بدون اجتهاد أو اجتهد برأيه في النصوص القرآنية ، وبطبيعة الحال سوف يردون علي بالحديث المروي عندهم وهو « تركت فيكم كتاب الله وسنتي » (2) .

---------------------------
(1) صحيح مسلم باب فضائل علي ج 5 ص 122 صحيح الترمذي ج 5 ص 328 ، مستدرك الحاكم ج 3 ص 148 مسند الامام أحمد بن حنبل ج 3 ص 17 .
(2) أخرج مسلم في صحيحه والنسائي والترمذي وابن ماجه وأبي داوود في سننهم الحديث المذكور .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 166 _

   وهذا الحديث إن صح وهو صحيح في معناه ، لان معنى العترة بقوله ( صلى الله عليه وآله ) في حديث الثقلين المتقدم هو الرجوع إلى أهل بيتي ليعلموكم ـ أولا ـ سنتي ، أو لينقلوا إليكم الاحاديث الصحيحة لانهم منزهون عن الكذب وإن الله سبحانه عصمهم بآية التطهير .
وثانيا : لكي يفسروا لكم معانيها ومقاصدها ، لان كتاب الله وحده لا يكفي للهداية فكم من فرقة تحتج بكتاب الله وهي في الضلالة كما ورد ذلك عن رسول الله عندما قال : « كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه » .
   فكتاب الله صامت ، وحمال أوجه ، وفيه المحكم والمتشابه ولابد لفهمه من الرجوع إلى الراسخين في العلم حسب التعبير القرآني وإلى أهل البيت حسب التفسير النبوي ، فالشيعة يرجعون كل شيء إلى الائمة المعصومين من أهل البيت النبوي ولا يجتهدون إلا في ما لا نص فيه ، ونحن نرجع في كل شيء إلى الصحابة سواء في تفسير القرآن أو في إثبات السنة وتفسيرها ، وقد علمنا أحوال الصحابة وما فعلوه وما استنبطوه واجتهدوا فيه بآرائهم مقابل النصوص الصريحة وهي تعد بالمئات فلا يمكن الركون إلى مثلهم بعد ما حصل منهم ما حصل .
   وإذا سألنا علماءنا ، أي سنة تتبعون ؟ لاجابوا قطعا : سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والواقع التاريخي لا ينسجم مع ذلك ؛ فقد رووا أن الرسول نفسه قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ » إذا فالسنة التي يتبعونها هي في أغلب الاحيان سنة الخلفاء الراشدين وحتى سنة الرسول التي يقولون بها فهي المروية عن طريق هؤلاء .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 167 _

   على أننا نروي في صحاحنا أن الرسول منعهم من كتابة سننه لئلا تختلط بالقرآن ، وكذلك فعل أبو بكر وعمر إبان خلافتيهما ، فلا يبقى بعد هذا حجة في قولنا « تركت فيكم سنتي » (1) .
   والذي ذكرته في هذا البحث من الامثلة ـ وما لم أذكره هو أضعاف ذلك ـ كاف لرد هذا الحديث لان من سنة أبي بكر وعمر وعثمان ما يناقض سنة النبي ويبطلها ، كما لا يخفى .
   وإذا كانت أول حادثة وقعت بعد وفاة رسول الله مباشرة وسجلها أهل السنة والجماعة والمؤرخون : هي مخاصمة فاطمة الزهراء لابي بكر الذي احتج بحديث « نحن معشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة » .
   هذا الحديث الذي كذبته فاطمة الزهراء وأبطلته بكتاب الله ، واحتجت على أبي بكر بأن أباها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يمكنه أن يناقض كتاب الله الذي أنزل عليه إذ يقول سبحانه وتعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (2) ، وهي عامة تشمل الانبياء وغير الانبياء ، واحتجت عليه بقوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (3) وكلاهما نبي ، وقوله عز من قائل : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (4) .

---------------------------
(1) ورد بلفظ ( كتاب الله وعترتي ) مسندا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أما لفظ سنتي فلم يرد في أي من الصحاح الست ، وقد أخرج الحديث بهذا اللفظ مالك بن أنس في موطئه ونقله مرسلا غير مسند ، وأخذ عنه بعد ذلك البعض كالطبري وابن هشام ونقلوه مرسلا كما ورد عن مالك .
(2) سورة النساء : آية 11 .
(3) سورة النمل : آية 16 .
(4) سورة مريم : آية 5 ، 6 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 168 _

   والحادثة الثانية التي وقعت لابي بكر في أيام خلافته وسجلها المؤرخون من أهل السنة والجماعة اختلف فيها مع أقرب الناس إليه وهو عمر بن الخطاب تلك الحادثة التي تتلخص في قراره بمحاربة ما نعي الزكاة وقتلهم فكان عمر يعارضه ويقول له لا تقاتلهم لاني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فمن قالها عصم مني ماله ودمه وحسابه على الله » .
   وهذا نص أخرجه مسلم في صحيحه جاء فيه : « ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أعطى الراية إلى علي يوم خيبر فقال علي : يا رسول الله على ماذا أقاتلهم ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (1) .
   ولكن أبا بكر لم يقتنع بهذا الحديث وقال : والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ؛ أو قال : « والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه » واقتنع عمر بن الخطاب بعد ذلك وقال : ما إن رأيت أبا بكر مصمما على ذلك حتى شرح الله صدري ؛ ولست أدري كيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم سنة نبيهم ! .
   وهذا التأويل ، منهم لتبرير قتال المسلمين الذين حرم الله قتلهم إذ قال في كتابه العزيز ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) (2) صدق الله العظيم .

---------------------------
(1) صحيح مسلم ج 8 ص 51 كتاب الايمان .
(2) سورة النساء : آية 94 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 169 _

   على أن هؤلاء الذين منعوا إعطاء أبي بكر زكاتهم لم ينكروا وجوبها ولكنهم تأخروا ليتبينوا الامر ويقول الشيعة إن هؤلاء فوجئوا بخلافة أبي بكر وفيهم من حضر مع رسول الله حجة الوداع وسمع منه النص على علي بن أبي طالب فتريثوا حتى يفهموا الحقيقة ، ولكن أبا بكر أراد إسكاتهم عن تلك الحقيقة وبما أنني لا أستدل ولا أحتج بما يقوله الشيعة فسأترك هذه القضية لمن يهمه الامر ليبحث فيها .
   على أنني لا يفوتني أن أسجل هنا أن صاحب الرسالة ( صلى الله عليه وآله ) وقعت له في حياته قصة ثعلبة الذي طلب منه أن يدعو له بالغني وألح في ذلك وعاهد الله أنه يتصدق ودعا له رسول الله وأغناه الله من فضله وضاقت عليه المدينة وأرجاؤها من كثرة إبله وغنمه حتى ابتعد ولم يعد يحضر صلاة الجمعة ، ولما أرسل إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العاملين على الزكاة رفض أن يعطيهم شيئا منها قائلا إنما هذه جزية أو أخت الجزية ، ولم يقاتله رسول الله ولا أمر بقتاله وأنزل فيه قوله : ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ) (1) .
   وجاء ثعلبة بعد نزول الآية وهو يبكي وطلب من رسول الله قبول زكاته وامتنع الرسول حسب ما تقول الرواية ، فإذا كان أبو بكر وعمر يتبعان سنة الرسول فلماذا هذه المخالفة وإباحة دماء المسلمين الابرياء لمجرد منع الزكاة على أن المعتذرين لابي بكر والذين يريدون تصحيح خطئه بتأويله بأن الزكاة هي حق المال ، لا يبقى لهم ولا له عذر بعد قصة ثعلبة الذي أنكر الزكاة واعتبرها جزية ، ومن يدري لعل أبا بكر أقنع صاحبه عمر بوجوب قتل من منعوه الزكاة أن تسري دعوتهم في البلاد الاسلامية لاحياء نصوص الغدير التي نصبت عليا للخلافة ، ولذلك شرح الله صدر عمر بن الخطاب لقتالهم وهو الذي هدد بقتل المتخلفين في بيت فاطمة وحرقهم بالنار من أجل أخذ البيعة لصاحبه .

---------------------------
(1) سورة التوبة : آية 75 ، 76 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 170 _

   أما الحادثة الثالثة التي وقعت لابي بكر في أول خلافته وخالفه فيها عمر بن الخطاب وقد تأول فيها النصوص القرآنية والنبوية : فهي قصة خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة صبرا ونزا على زوجته فدخل بها في نفس الليلة .
   وكان عمر يقول لخالد : يا عدو الله قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لارجمنك بالاحجار (1) .
   ولكن أبا بكر دافع عنه وقال : « هبه يا عمر ، تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد » ، وهذه فضيحة أخرى سجلها التاريخ لصحابي من الاكابر ! ! إذا ذكرناه ، ذكرناه بكل احترام وقداسة ، بل ولقبناه بـ « سيف الله المسلول » ! ! ماذا عساني أن أقول في صحابي يفعل مثل تلك الافعال يقتل مالك بن نويرة الصحابي الجليل سيد بني تميم وبني يربوع وهو مضرب الامثال في الفتوة والكرم والشجاعة .
   وقد حدث المؤرخون أن خالدا غدر بمالك وأصحابه بعد أن وضعوا السلاح وصلوا جماعة فأوثقوهم بالحبال وفيهم ليلى بنت المنهال زوجة مالك وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال ويقال إنها لم ير أجمل منها وفتن خالد بجمالها ، وقال له مالك : يا خالد أبعثتنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا ، وتدخل عبد الله بن عمر وأبو قتادة الانصاري وألحا على خالد أن يبعثهم إلى أبي بكر فرفض خالد وقال : لا أقالني الله أن لم أقتله فالتفت مالك إلى زوجته ليلى وقال لخالد : هذه التي قتلتني ، فأمر خالد بضرب عنقه وقبض على ليلى زوجته ودخل بها في تلك الليلة (2) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 280 تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 158 ، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 110 الاصابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 336 .
(2) تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 158 تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 110 ، تاريخ ابن الشحنة بهامش الكامل ج 11 ص 114 وفيات الاعيان ج 6 ص 14 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 171 _

   ماذا عساني أن أقول في هؤلاء الصحابة الذين يستبيحون حرمات الله ويقتلون النفوس المسلمة من أجل هوى النفس ويستبيحون الفروج التي حرمها الله ، ففي الاسلام لا تنكح المرأة المتوفى زوجها إلا بعد العدة التي حددها الله في كتابه العزيز ، ولكن خالدا اتخذ إلهه هواه فتردى وأي قيمة للعدة عنده بعد أن قتل زوجها صبرا وظلما وقتل قومه أيضا وهم مسلمون بشهادة عبدالله بن عمر وأبي قتادة الذي غضب غضبا شديدا مما فعله خالد وانصرف راجعا إلى المدينة وأقسم أن لا يكون أبدا في لواء عليه خالد بن الوليد (1) .
   وحسبنا في هذه القضية المشهورة أن ننقل اعتراف الاستاذ هيكل في كتابه « الصديق أبو بكر » إذ قال تحت عنوان « رأي عمر وحجته في الامر » ، « أما عمر ، وكان مثال العدل الصارم ، فكان يرى أن خالدا عدا على امرئ مسلم ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين ، ويسيء إلى مكانتهم بين العرب قال : ولا يصح أن يترك بغير عقاب على ما أتم مع ليلى .
   ولو صح أنه تأول فأخطأ في أمر مالك ، وهذا ما لا يجيزه عمر ، وحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحد ، فليس ينهض عذرا له إنه سيف الله ، وإنه القائد الذي يسير النصر في ركابه فلو أن مثل هذا العذر يقبل لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم ، ولكان أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله ، لذلك لم يفتأ عمر يعيد على أبي بكر ، ويلح عليه ، حتى استدعى خالدا وعنفه . . » (2) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 280 تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 110 ، تاريخ أبي الفداء الاصابة ج 3 ص 336 .
(2) كتاب « الصديق أبو بكر » للاستاذ هيكل ص 151 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 172 _

   وهل لنا أن نسأل الاستاذ هيكل وأمثاله من علمائنا الذين يراوغون حفاظا على كرامة الصحابة ، هل لنا أن نسألهم ، لماذا لم يقم أبو بكر الحد على خالد ؟ وإذا كان عمر كما يقول هيكل مثال العدل الصارم فلماذا اكتفى بعزله عن قيادة الجيش ولم يقم عليه الحد الشرعي حتى لا يكون ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله كما ذكر ؟ وهل احترموا كتاب الله وأقاموا حدود الله ؟ كلا إنها السياسة وما أدراك ما السياسة ؟ تصنع الاعاجيب وتقلب الحقائق ، وتضرب بالنصوص القرآنية عرض الجدار .
   وهل لنا أن نسأل بعض علمائنا الذين يروون في كتبهم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غضب غضبا شديدا عندما جاء أسامة ليشفع لامراة شريفة سرقت ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « ويحك أتشفع في حد من حدود الله والله لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد » .
   فكيف يسكتون عن قتل المسلمين الابرياء والدخول بنسائهم في نفس الليلة وهن منكوبات بموت أزواجهن وياليتهم يسكتون ! ولكنهم يحاولون تبرير فعل خالد باختلاق الاكاذيب وبخلق الفضائل والمحاسن له حتى لقبوه بسيف الله المسلول ، ولقد أدهشني بعض أصدقائي وكان مشهورا بالمزح وقلب المعاني ، فكنت أذكر له مزايا خالد بن الوليد في أيام جهالتي وقلت له أنه سيف الله المسلول ، فأجابني : إنه سيف الشيطان المشلول ، واستغربت يومها ، ولكن بعد البحث فتح الله بصيرتي وعرفني قيمة هؤلاء الذين استولوا على الخلافة وبدلوا أحكام الله وعطلوها وتعدوا حدود الله واخترقوها . وخالد بن الوليد له في حياة النبي قصة مشهورة إذ بعثه النبي إلى بني جذيمة ليدعوهم إلى الاسلام ولم يأمره بقتالهم .
   فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا : صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر بهم ودفع الاسرى إلى أصحابه وأمرهم بقتلهم وامتنع البعض من قتلهم لما تبين لهم أنهم أسلموا ولما رجعوا وذكروا ذلك النبي ( ص ) .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 173 _

   قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد قالها مرتين (1) وبعث علي بن أبي طالب إلى بني جذيمة ومعه مال فودى لهم الدماء وما أصيبت لهم من أموال حتى ودى لهم ميلغة الكلب وقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه إلى السماء حتى انه ليرى ما تحت منكبيه ، يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات (2) .
   فهل لنا أن نسأل أين هي عدالة الصحابة المزعومة التي يدعونها ، وإذا كان خالد بن الوليد وهو عندنا من عظمائنا حتى لقبناه بسيف الله أفكان ربنا يسل سيفه ويسلطه على المسلمين والابرياء وعلى المحارم فيهتكها ، ففي ذلك تناقض لان الله ينهى عن قتل النفس وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولكنه ـ أي خالد ـ في نفس الوقت يسل سيف البغي ليفتك بالمسلمين ويهدر دماءهم وأموالهم ويسبي نساءهم وذراريهم ، إن هذا زور من القول وبهتان مبين ، سبحانك ربنا وبحمدك تباركت وتعاليت عن ذلك علوا كبيرا ، سبحانك ما خلقت السموات والارض وما بينهما باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
   كيف جاز لابي بكر وهو خليفة المسلمين أن يسمع بتلكم الجرائم الموبقة ويسكت عنها بل ويدعو عمر بن الخطاب بأن يكف لسانه عن خالد ، ويغضب على أبي قتادة لانكاره فعل خالد ، أكان مقتنعا حقا بأن خالدا تأول فأخطأ ، فأي حجة بعد هذا على المجرمين والفاسقين في هتكهم الحرمات وأدعائهم التأويل .
   أما أنا فلا أعتقد بأن أبا بكر كان متأولا في أمر خالد الذي سماه عمر بن الخطاب بـ « عدو الله » وكان من رأيه أن يقتل خالد لانه قتل أمرءا مسلما ويرجمه بالحجارة لانه زنى بزوجة مالك ( ليلى ) ولم يقع شيء من ذلك للقاتل الجاني بل خرج منها منتصرا على عمر بن الخطاب لان أبا بكر وقف إلى جانبه وهو يعلم حقيقة خالد أكثر من أي أحد ، فقد سجل المؤرخون أنه بعثه بعد تلك الواقعة المشينة إلى اليمامة التي خرج منها منتصرا وتزوج في أعقابها بنتا كما فعل مع ليلى ولما تجف دماء المسلمين بعد ولا دماء أتباع مسيلمة ، وقد عنفه أبو بكر على فعلته هذه بأشد مما عنفه على فعلته مع ليلى (3) ، ولا شك أن هذه البنت هي الاخرى ذات بعل فقتله خالد ونزا عليها كما فعل بليلى زوجة مالك .

---------------------------
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 171 باب إذا قضى الحاكم بجور فهو رد .
(2) سيرة ابن هشام ج 4 ص 53 طبقات ابن سعد ، اُسد الغابة ج 3 ص 102 .
(3) الاستاذ هيكل في كتابه « الصديق أبو بكر » ص 151 وما بعدها .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 174 _

   وإلا لما استحق أن يعنفه أبو بكر بأشد مما عنفه على فعلته الاولى ، على أن المؤرخين يذكرون نص الرسالة التي بعث بها أبو بكر إلى خالد بن الوليد وفيها يقول : « لعمري يابن أم خالد إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد » (1) .
   ولما قرأ خالد هذا الكتاب قال : هذا عمل الاعسر يقصد بذلك عمر بن الخطاب ، فهذه من الاسباب القوية التي جعلتني أنفر من أمثال هؤلاء الصحابة ، ومن تابعيهم الذين يتأولون النصوص ويختلقون الروايات الخيالية لتبرير أعمال أبي بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد ومعاوية وعمرو بن العاص وإخوانهم ، اللهم إني استغفرك وأتوب إليك ، اللهم إني أبرأ إليك من أفعال هؤلاء وأقوالهم التي خالفت أحكامك واستباحت حرماتك وتعدت حدودك ، واغفر لي ما سبق من موالاتهم إذ كنت من الجاهلين ، وقد قال رسولك « لا يعذر الجاهل بجهله » ، اللهم إن ساداتنا وكبراءنا قد أضلونا السبيل وحجبوا عنا الحقيقة وصوروا لنا الصحابة المنقلبين بأنهم أفضل الخلق بعد رسولك ، ولا شك إن آباءنا وأجدادنا كانوا ضحية الدس والغش الذي توخاه الامويون ومن بعدهم العباسيون اللهم فاغفر لهم ولنا فأنت تعلم السرائر وما تخفي الصدور وما كان حبهم وتقديرهم واحترامهم لاولئك الصحابة إلا عن حسن نية على أنهم أنصار رسولك محمد صلواتك وسلامك عليه وأحباؤه . . . وأنت تعلم ـ يا سيدي ـ حبهم وحبنا للعترة الطاهرة ، الائمة الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا وعلى رأسهم سيد المسلمين وأمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وإمام المتقين سيدنا على بن أبي طالب .
   واجعلني اللهم من شيعتهم ومن المتمسكين بحبل ولائهم والسائرين على منهاجهم ، والراكبين في سفينتهم والمستمسكين بعروتهم الوثقى والداخلين من أبوابهم والدائبين في محبتهم ومودتهم العاملين بأقوالهم وأفعالهم والشاكرين لفضلهم ونوالهم ، اللهم واحشرني في زمرتهم فقد قال نبيك صلواتك عليه وعلى آله : « يحشر المرء مع من أحب » .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 254 ، تاريخ الخميس ج 343 .

ثُمَّ اهتَدَيت _ 175 _

2 ـ حديث السفينة : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق » (1) .
   « وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له » (2) .
   وقد أورد ابن حجر في كتابه الصواعق المحرقة هذا الحديث ثم قال : ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم ، وأخذا بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز الطغيان ، ووجه تشبيههم بباب حطة ، إن الله تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا ، أو بيت المقدس مع التواضع ، والاستغفار سببا للمغفرة ، وجعل لهذه الامة مودة أهل البيت سببا للمغفرة والنجاة .
   ويا ليتني أسأل ابن حجر هل كان من الذين ركبوا السفينة ودخلوا الباب وأخذوا بهدي العلماء ، أم أنه من الذين يقولون مالا يفعلون ويخالفون ما يعتقدون ، وكثيرون هم أولئك الجهلة الذين عندما أسألهم واحتج عليهم يقولون لي ، نحن أولى بأهل البيت وبالامام علي من غيرنا ، نحن نحترم أهل البيت ونقدرهم وليس هناك من ينكر فضلهم وفضائلهم ! .

---------------------------
(1) المستدرك للحاكم ج 3 ص 151 تلخيص الذهبي ، ينابيع المودة ص 30 و 370 ، الصواعق المحرقة لابن حجر ص 184 و 234 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي والجامع الصغير له ، إسعاف الراغبين .
(2) مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 168 .