موقفنا
  فإن كان الشيخ المفيد رحمه الله يعتقد بمضمون هذا الكلام ، ولم يورده على سبيل المجاراة في البحث ، وإرسال الكلام وفق ما يرضاه من هو بصدد مناظرته ومحاورته ، فإننا نقول :
  إننا لا نوافقه على ما قاله ، ولا نراه قريباً إلى الصواب ، خصوصاً بالنسبة لتزوج عثمان من زينب بعد وفاة أبي العاص بن الربيع ، وكذا بالنسبة لكون

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 28 _

  البنتين اللتين تزوجهما عثمان بنتين لرسول الله صلى الله عليه وآله على الحقيقة.
  ولبيان ذلك نقول :

عثمان لم يتزوج بزينب :
  فأما بالنسبة لقول الشيخ المفيد رحمه الله :
  (وهاتان هما اللتان تزوجهما عثمان بن عفان ، بعد هلاك عتبة ، وموت أبي العاص).
  فنقول :
  إن من الواضح : أن التي تزوجها أبي العاص بن الربيع اسمها زينب ، وعثمان لم يتزوج بها أصلاً ، وقد توفيت زينب في سنة ثمان من الهجرة كما ذكره كل من ترجم لها ، وكل من كتب في السيرة النبوية الشريفة.
  أما وفاة زوجها أبي العاص بن الربيع ، فقد كانت بعد وفاتها بأربع سنوات ، أي في السنة الثانية عشرة ،

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 29 _

  في خلافة أبي بكر .
  وعثمان إنما تزوج رقية في مكة ، ثم ماتت في المدينة مرجع المسلمين من غزوة بدر ، فتزوج بعدها أم كلثوم ، وماتت في سنة ثمان ، وقيل : ماتت ولم يبن بها عثمان .
  والخلاصة :
  أن زينب لم تتزوج عثمان قطعاً.
  ونظير ما وقع من الاشتباه هنا : ما قاله البعض ، وهو يتحدث عن بنات النبي :
  (... وأم كلثوم خرجت إلى أبي العاص ، بن الربيع ، بن عبد العزى بن عبد شمس ، وزينب خرجت إلى عثمان أيضاً) .

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 30 _

  مع أن العكس هو الصحيح ، فإن زينب تزوجها أبو العاص ، وأم كلثوم تزوجها عثمان كما هو معلوم.
  ماذا عن بنات رسول الله (ص) :
  وأما بالنسبة لكون زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، اللواتي كبرن ، وتزوجن إحداهن ابا العاص بن الربيع ، والأخرى عثمان بن عفان ، فإننا نقول :
  إنهن لسن بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحقيقة ، وذلك يحتاج إلى توضيح في حدود ما يسمح لنا به المجال والوقت ، شرط أن لا نزهق القارئ بالنصوص والتفاصيل الكثيرة والمتشعبة ، بل نكتفي بالقول السديد ، وبالمختصر المفيد إن شاء الله تعالى ، فنقول :

رقية وأم كلثوم في عصمة أبني أبي لهب :
  إنهم يقولون : إن رقية وأم كلثوم كانتا قد تزوجتا في الجاهلية بابني أبي لهب ، فلما بعث النبي (ص)

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 31 _

  ونزل قوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }.
  أمر أبو لهب ولديه بطلاقهما ، وكذلك فعلت زوجته حمالة الحطب ، محتجة لذلك بأنهما قد صبتا إلى دين أبيهما.
  فطلقاهما قبل الدخول ، فتزوجت رقية بعثمان بن عفان ، وهاجرت معه إلى الحبشة في السنة الخامسة من البعثة ، وكانت حاملاً ، فأسقطت علقة في السفينة كما ذكره البعض ثم رجعت معه إلى المدينة ، وماتت هناك.
  وثمة أقاويل وتفاصيل أخرى لا حاجة لإيرادها هي الأخرى موضع شك وريب ، ونكتفي ها هنا بما ذكر.

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 32 _

  ونقول :
  الأدلة والشواهد
  إن لدينا من الأدلة والشواهد ما يكفي للحكم بعدم صحة هذه المزاعم ، ونذكر منها الدلائل التالية :

1 ـ بنات النبي ولدن في الإسلام :
  قال المقدسي : ( عن سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، قال :
  ولدت خديجة لرسول الله (ص) : عبد مناف في الجاهلية.
  وولدت في الإسلام غلامين وأربع بنات : القاسم ، وبه كان يكنى : أبا القاسم ، فعاش حتى مشى ثم مات ، وعبد الله مات صغيراً ، وأم كلثوم ،

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 33 _

  وزينب ورقية ، وفاطمة ) .
  وقال القسطلاني ، والديار بكري : (وقيل : ولد له قبل المبعث ولد يقال له : عبد مناف ، فيكونون على هذا إثني عشر ، وكلهم سوى هذا وُلِدوا في الإسلام بعد المبعث ).
  وقد صرح الزبير بن بكار وغيره بأن عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية ، قد ولدوا كلهم بعد الإسلام .
  وقال السهيلي أيضاً : ( كلهم ولدوا بعد النبوة) .

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 34 _

  فإذا كانت رقية قد ولدت بعد المبعث ، كما يقوله هؤلاء ، فكيف يصح أن يقال : إنها تزوجت في الجاهلية بابن أبي لهب ، فلما جاء الإسلام أسلمت ، فطلقها زوجها ، فتزوجها عثمان ، وحملت منه ، وأسقطت علقة في السفينة ، وهي مهجرة إلى الحبشة ، بعد البعثة بخمس سنوات فقط ؟!
  وكذلك الحال بالنسبة لأم كلثوم ، فإنها إذا كانت قد ولدت بعد المبعث ، فكيف تكون قد تزوجت في الجاهلية ، ثم لما أسلمت بعد المبعث طلقها زوجها قبل الهجرة إلى الحبشة ؟!

2 ـ تبت يدا أبي لهب وتب :
  لقد ذكروا : أن أبا لهب قد أمر ولديه بطلاق بنتي النبي (ص) ، بعد نزول سورة : تبت يدا أبي لهب وتب ، ووافقته على ذلك زوجته حمالة الحطب ،

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 35 _

  محتجة بأن هاتين البنتين قد صبتا إلى دين أبيهما ثم تزوج عثمان رقية وهاجر بها إلى الحبشة.
  ونقول :
  ألف ـ إن ذلك يتنافى مع قولهم : إن هذه السورة (سورة المسد) قد نزلت حينما كان المسلمون محصورين في شعب أبي طالب ، لأن الحصر في

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 36 _

  الشعب قد بدأ في السنة السادسة من البعثة ، أي بعد الهجرة إلى الحبشة بسنة.
  ونحن نرجح هذه الرواية على تلك الرواية التي تقول : إنه (ص) حين نزل قوله تعالى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } صنع لهم طعاماً ودعاهم ، فقال له أبو لهب : تباً لك ، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت : تبت يدا أبي لهب وتب .
  وذلك لأن هذه السورة قد نزلت جملة

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 37 _

  واحدة ، كما هو ظاهر لا يخفى من سياقها وكما صرّحوا به قد تضمنت الإزراء على أم جميل لأذاها لرسول الله(ص) .
  ومن الواضح : أن تعرض قريش لرسول الله(ص) بالأذى ، قد كان بعد نزول آية إنذار العشيرة ، وذلك حينما بدأ يذكر آلهتهم ، ويسفّه أحلامهم.
  ويؤيد ذلك : أنه قد قيل في سبب نزول السورة أيضاً : إنه كان إذا وفد على النبي(ص) وفد سألوا عمه عنه ، وقالوا : أنت أعلم به ، فيقول لهم : إنه ساحر ، فيرجعون عنه ، ولا يلقونه.
  فأتاه وفد ، فقال لهم مثل ذلك ، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، فقال : إنا لم نزل نعالجه من الجنون ، فتباً له .
  فأُخبِر النبي (ص) بذلك ، فحزن ، ونزلت

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 38 _

  السورة .
  ومن الواضح : أن محاولة اتصال الوفد به (ص) واتصاله هو بالوفود قد كانت متأخرة عن نزول آية إنذار العشيرة بسنوات.
  ب ـ إنه إذا كان طلاق رقية وأم كلثوم قد حصل بعد نزول سورة المسد ، وبعد تعرُّض المشركين للنبي(ص) بالأذى ، فإن ما يثير التساؤل هنا هو السبب الذي جعل ابني ابي لهب يمتنعان عن الدخول بزوجتيهما ، اللتين كانتا في وضع لا يمنع من ذلك.
  وها هو عثمان يتزوج إحداهما ويدخل بها فوراً ، فتحمل منه ، وتسقط علقة في السفينة حين هجرتهما

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 39 _

  إلى الحبشة ، كما يدّعون !!.
  ج ـ يقول البعض : ( أما رقية ، فتزوجت من عتبة بن أبي لهب ، فمات عنها ).
  وعليه فإن دعوى طلاق ابن أبي لهب لرقية تصبح موضع شك أيضاً ، ولا يبقى وثوق بالسبب الذي ادعوه لذلك ، وهو نزول السورة وإسلام البنات ، فتترجح رواية نزول السورة ، والمسلمون محصورون في الشعب.

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 41 _

   الفصل الثالث
3 ـ إن شانئك هو الأبتر

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 43 _

  3 ـ إن شانئك هو الأبتر
  أخرج الزبير بن بكار ، وابن عساكر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال :
  توفي القاسم ابن رسول الله (ص) بمكة ، فمرّ رسول الله(ص) ، وهو آت من جنازته ، على العاصي بن وائل وابنه عمرو ، فقال حين رأى رسول الله : أني لأشنؤه .
  فقال العاصي بن وائل : لا جرم لقد أصبح أبتر.

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 44 _

  فأنزل الله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } .
  ورواية أخرى تقول : ولد لرسول الله (ص) القاسم ، ثم زينب ، ثم عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية. فمات القاسم أولاً ، ثم مات عبد الله ، فقال العاصي : قد انقطع نسله ، فهو أبتر ، فنزلت الآية .
  وروى البعض : أن الآية نزلت في عمرو بن العاص ، لا في العاص نفسه .
  وفي رواية السدي وابن عباس : أن الآية نزلت حين قال العاص بعد موت ابن لرسول الله.

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 45 _

  وحسب تعبير آخر : بعد موت ولد رسول الله .
  وقل نزلت في عقبة بن أبي معيط لأجل ذلك .
  أو في أبي لهب كذلك أيضاً .
  أو في قريش في هذه المناسبة كذلك .

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 46 _

  ولكن رواية أخرى ذكرت : أن الآية نزلت في أبي جهل حين قال ما قال بمناسبة موت إبراهيم ابن رسول الله (ص) .
  وقيل غير ذلك.
  ونقول :
  إن المشهور هو أن القاسم كان أكبر وُلِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 47 _

 والرواية السابقة التي هي مورد البحث تدل على أنه قد مات بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف إذا كان عبد الله قد مات بعده بشهر ، فإن الأمر يصبح أكثر وضوحاً ، حيث سيأتي : أن عبد الله قد ولد ومات بعد النبوة قطعاً.
  وهم يقولون : إنه حين مات القاسم كان عمره سنتين وقيل : عاش حتى مشى .

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 48 _

  وجمع البلاذري بين هذين القولين فقال : (مات وقد مشى ، وهو ابن سنتين ).
  وآخرون يقولون : إن أولاد النبي (ص) ماتوا رضّعاً ، زاد بعضهم قوله : قبل المبعث وعلى حد تعبير آخر : ( ماتوا صغاراً جداً ).
  وقال مجاهد عن القاسم : عاش سبعة أيام (أو ليال).

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 49 _

  وقيل : عاش سبعة عشر شهراً .
  وعند السهيلي : ( بلغ القاسم المشي ، غير أن رضاعه لم يتم ).
  وفي نص آخر :( أما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين ).
  وبعض آخر يقول : بلغ القاسم أن يركب الدابة ، ويسير على النجيبة .

بنات النبي (ص) أم ربائبه _ 50 _

  أما اليعقوبي ، فقد قال :( كان للقاسم يوم توفي أربع سنين ).
  شواهد على أن القاسم مات بعد النبوة :
  فإذا كان القاسم قد مات صغيراً ، فلننظر متى ولد القاسم ، على وجه التقريب ، فقد جاء في مسند الفريابي ما يدل على أنه ولد في الإسلام.
  ويدل على ذلك الروايتان التاليتان :
  ألف ـ ما روي من أنه لما توفي القاسم كان له أربع سنين ، ثم توفي عبد الله بن رسول الله بعده بشهر ، ولم يفطم .
  فقالت خديجة : يا رسول الله ، لو بقى حتى أفطمه.