في ذكر النصوص الدالة على إمامته ( عليه السلام ) ، أجمع أصحاب أبيه أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) على أنّه نصّ عليه وأشار بالإِمامة إليه ، إلاّ من شذّ عنهم من الواقفة المسمّين ( الممطورة ) والسبب الظاهر في ذلك طمعهم فيما كان في أيديهم من الأَموال المجباة إليهم في مدّة حبس أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) وما كان عندهم من ودائعه ، فحملهم ذلك على إنكار وفاته وادّعاء حياته ، ودفع خليفته بعده عن الإِمامة ، وإنكار النصّ عليه ليذهبوا بما في أيديهم ممّا وجب عليهم أن يسلّموه إليه ، ومن كان هذا سبيله بطل الاعتراض بمقاله هذا ، وقد ثبت أنّ الإِنكار لا يقابل الإِقرار ، فثبت النصّ المنقول وفسد قولهم المخالف للمعقول ، على أنّهم قد انقرضوا ولله الحمد فلا يوجد منهم ديّار ، فأمّا النصوص الواردة ، عن أبيه عليه : فمن ذلك : ما رواه محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن الحسين بن نعيم الصّحاف قال : كنت أنا وهشام بن الحكم وعليّ بن يقطين ببغداد ، فقال عليّ بن يقطين : كنت عند العبد الصالح جالساً فدخل عليه ابنه عليّ فقالى لي : « يا عليّ بن يقطين ، هذا عليّ سيّد ولدي ، أما إنّي قد نحلته كنيتي » ، قال : فضرب هشام بن الحكم جبهته براحته وقال : ويحك كيف قلت ؟ فقال عليّ بن يقطين : سمعته والله منه كما قلت ، قال هشام : إنّ الأَمر فيه من بعده
، وعنه ، عن أحمد بن مهران ، عن محمد بن عليّ ، عن محمد بن سنان وإسماعيل بن عباد القصري جميعاً ، عن داود الرقّي قال : قلت لإَبي إبراهيم ( عليه السلام ) : جعلت فداك ، إنّه قد كبر سني فخذ بيدي وأنقذني من النار ، مَنْ صاحبنا بعدك ؟ قال : فأشار إلى ابنه أبي الحسن علي الرضا ( عليه السلام ) فقال : « هذا صاحبكم من بعدي »
، وعنه ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن معاوية بن حكيم ، عن نعيم القابوسي ، عن أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) قال : « إبني عليّ أكبر ولدي ، وآثرهم عندي ، وأحبّهم إلي ، وهو ينظر معي في الجفر ولم ينظر فيه إلاّ نبي أو وصيّ نبي ّ»
، وعنه ، عن الحسين بن محمد ، عن معلّى بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، عن الحسن ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن إسحاق ابن عمّار قال : قلت لإَبي الحسن الأَول ( عليه السلام ) : ألا تدلّني على من آخذ ديني عنه ؟
فقال : « هذا ابني عليّ ، إنْ أبي أخذ بيدي فادخلني إلى قبر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : يا بني إنّ الله ( عزّ وجلّ ) قال : ( اِنّي جاعِلٌ في الأَرضِ خليفةً )
(1) وإنّ الله تعالى إذا قال قولاً وفى به »
(2) ، وعنه ، عن أحمد بن مهران ، عن محمد بن عليّ ، عن زياد بن مروان القنديّ ـ وكان من الواقفة ـ قال : دخلت على أبي إبراهيم ( عليه السلام ) وعنده ابنه أبوالحسن فقال : « يا زياد ، هذا ابني كتابه كتابي ، وكلامه كلامي ، ورسوله رسولي ، وما قال فالقول قوله »
(3) وعنه ، عن أحمد بن مهران ، عن محمد بن عليّ ، عن محمد بن الفضيل قال : حدّثني المخزوميّ ـ وكانت اُمّه من ولد جعفر بن أبي طالب ـ قال : بعث إلينا أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) فجمعنا ثمّ قال : « أتدرون لِمَ دعوتكم ؟ » فقلنا : لا ، قال : « إشهدوا إنّ ابني هذا وصيّي والقيّم بأمري وخليفتي من بعدي ، من كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا ، ومن كان له عندي عدة فلينجزها منه ، ومن لم يكن له بدٌ من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه »
(4) وعنه ، عن أحمد بن مهران ، عن محمد بن علي ، عن محمد بن سنان ، وعليّ بن الحكم جميعاً ، عن الحسين بن المختار قال : خرجت إلينا ألواح من أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) ـ وهو في الحبس ـ : « عهدي إلى أكبر ولدي أن يفعل كذا وكذا ، وفلانٌ لا تنله شيئاً حتّى ألقاه أو يقضي الله عليَّ الموت »
(5) ، وعنه ، عن أحمد بن مهران ، عن محمد بن عليّ ، عن أبي عليّ الخزّاز ، عن داود بن سليمان قال : قلت لأبي إبراهيم ( عليه السلام ) : إنّي : أخاف أن يحدث حدث الموت ولا ألقاك ، فأخبرني من الإِمام بعدك ؟ فقال : « ابني عليّ » يعني الرضا ( عليه السلام )
(6) وعنه ، عن ابن مهران ، عن محمد بن عليّ ، عن سعيد بن أبي الجهم ، عن نصر بن قابوس قال : قلت لأبي إبراهيم ( عليه السلام ) : إنيّ سألت أباك ( عليه السلام ) من الذي يكون من بعدك ؟ فأخبرني أنّك أنّك أنت هو ، فلّما توفّي أبو عبد الله ( عليه السلام ) ذهب الناس يميناً وشمالاً وقلت أنا بك وأصحابي ، فأخبرني من الذي يكون من بعدك من ولدك ؟ قال : « ابني فلان »
(7) يعني عليّاً .
---------------------------
(1) البقرة 2 : 30 .
(2) الكافي 1 : 249|4 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 249 ، الغيبة للطوسي : 34|10 ، كشف الغمة 2 : 270 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 49 : 24|35 .
(3) الكافي 1 : 249|6 ، وكذا في : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 31|25 ، ارشاد المفيد 2 : 250 ، الغيبة للطوسي : 37|14 ، كشف الغمة 2 : 271 ، الفصول المهمة : 244 ، ونقله المجلسي في بحار الأَنوار 49 : 19|23 .
(4) الكافي 1 : 249|7 ، وكذا في : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 27|14 ، ارشاد المفيد 2 : 250 ، الغيبة للطوسي 37|15 ، كشف الغمة 2 : 271 ، الفصول المهمة : 244 .
(5) الكافي 1 : 250 | 8 ، وكذا في : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 30 | 23 ، ارشاد المفيد 2 : 250 ، الغيبة للطوسي : 36 | 13 ، كشف الغمة 2 : 271 ، نقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار 49 : 24 | 37 .
(6) الكافي 1 : 250 | 8 ، وكذا في : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 23 |8 ، ارشاد المفيد 2 : 251 ، الغيبة للطوسي : 38 | 16 ، كشف الغمة 2 : 271 ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار 49 : 24 | 38 .
(7) الكافي 1 : 250 | 12 ، وكذا في : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 31 | 26 ، ارشاد المفيد 2 : 251 ، الغيبة للطوسي : 38 | 17 ، رجال الكشي : 451 | 849 ، كشف الغمة 2 : 271 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 49 : 25 | 39 .
اعلام الورى بأعلام الهدى
_ 24 _
في ذكر دلالاته ومعجزاته ( عليه السلام ) ، قد نقلت الرواة من العامّة والخاصّة كثيراً من دلالاته وآياته في حياته وبعد وفاته ، ونحن نذكر منها ما يليق بكتابنا هذا ، فممّا روته العامّة : ما أخبرني به الحاكم الموفّق بن عبد الله العارف النوقانيّ قال : أخبرنا الحسن بن أحمد بن محمد السمرقنديّ المحدّث ، قال : أخبرنا محمد بن أبي علي الصفار ، قال : أخبرنا أبو سعد الزاهد ، قال : أخبرنا عبد العزيز بن محمد بن عبد ربّه الشيرازيّ بمصر ، قال : حدّثنا عمر بن محمد بن عراك ، قال : حدّثنا عليّ بن محمد الشيروانيّ ، قال : حدّثنا عليّ بن أحمد الوشّاء الكوفيّ قال : خرجت من الكوفة إلى خراسان فقالت لي ابنتي : يا أبه ، خذ هذه الحلّة فبعها واشتر لي بثمنها فيروزجاً ، قال : فأخذتها وشددتها في بعض متاعي وقدمت مرو ، فنزلت في بعض الفنادق ، فإذا غلمان عليّ بن موسى ـ المعروف بالرضا ـ قد جاؤوني وقالوا : نريد حلّة نكفّن بها بعض علمائنا ، فقلت : ما عندي ، فمضوا ثمّ عادوا وقالوا : مولانا يقرأ عليك السلام ويقول لك : « معك حلّة في السفط الفلانيّ دفعتها إليك ابنتك وقالت : اشترلي بثمنها فيروزجاً ، وهذه ثمنها » ، فدفعتها إليهم وقلت : والله لاَسألنّه عن مسائل فإن أجابني عنها فهو هو ، فكتبتها وعدوت إلى بابه فلم أصل إليه لكثرة إزدحام الناس ، فبينما أنا جالس إذ خرج إليّ خادم فقال لي : يا عليّ بن أحمد هذه جوابات مسائلك التي معك ، فأخذتها منه فإذا هي جوابات مسائلي بعينها
(1) ومن ذلك : ما رواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده ، عن محمد بن عيسى ، عن أبي حبيب النباجي قال : رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في المنام وقد وافى النباج
(2) ونزل في المسجد الذي ينزله الحجّاج في كلّ سنة ، وكأنّي مضيت إليه وسلّمت عليه ووقفت بين يديه ، فوجدت عنده طبقاً من خوص نخل المدينة فيه تمر صيحاني ، وكأنّه قبض قبضة من ذلك التمر فناولني ، فعددته فكان ثماني عشرة ، فتأوّلت أنّي أعيش بعدد كلّ تمرة سنة ، فلمّا كان بعد عشرين يوماً كنت في أرض تُعمر بين يدي للزراعة إذ جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) من المدينة ونزوله لك المسجد ، ورأيت الناس يسعون إليه فمضيت نحوه ، فإذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وتحته حصير مثل ما كان تحته وبين يديه طبق من خوص فيه تمر صيحاني ، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام ، واستدعاني فناولني قبضة من ذلك التمر ، فعددته فإذا عدده مثل ذلك العدد الذي ناولني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقلت له : زدني منه يا ابن رسول الله ، فقال : « لو زادك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لزدناك »
(3) .
---------------------------
(1) المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 341 ، دلائل الامامة : 194 ، الثاقب في المناقب | 406 ، كشف الغمة 2 : 312 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 49 : 69 | ذيل حديث 93 .
(2) قال الحموي في « معجم البلدان 5 : 255 » : قال منصور : في بلاد العرب نباجان ، احدهما على طريق البصرة يقال له نباج بني عامر وهو بحذاء فيد ، والآخر نباج بني سعد في الغريتين ، وقال غيره : النباج منزل لحجاج البصرة ، وقيل : النباج بين مكة والبصرة للكريزيين ، ونباج آخر بين البصرة واليمامة .
(3) رواه عنه ابن شهرآشوب في المناقب 4 : 342 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : 483 | 412 ، واُنظر عيون اخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 210 | 15 ، دلائل الإمامة : 189 ، ونقله ابن الصباغ في الفصول المهمة : 246 ، والمجلسي في بحار الانوار 49 : 35 | 15 .
اعلام الورى بأعلام الهدى
_ 25 _
ومن ذلك ما أورده الحاكم أيضاً ورواه بإسناده ، عن سعد بن سعد ، عنه ( عليه السلام ) : أنّه نظر إلى رجل فقال له : « يا عبد الله ، أوص بما تريد واستعدّ لما لا بدّ منه » ، فمات الرجل بعد ذلك بثلاثة أيّام
(1) ، ومما روته الخاصة : ما رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه بإسناده ، عن يحيى بن محمد بن جعفر قال : مرض أبي مرضاً شديداً فأتاه الرضا ( عليه السلام ) يعوده وعمّي إسحاق جالس يبكي ، فالتفت إليّ وقال : « ما يُبكي عمّك ؟ » قلت : يخاف عليه ماترى .
قال : فقال لي : « لا تغتمنّ ، فإنّ إسحاق سيموت قبله » ، قال : فبرئ أبي محمد ومات إسحاق
(2) ، وباسناده ، عن معمر بن خلاّد قال : قال لي الريّان بن الصلت : أُحبّ أن تستأذن لي ئعلى أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فاُسلّم عليه ، واُحبّ أن يكسوني من ثيابه ، وأن يهب لي من الدراهم التي ضُربت باسمه ، فدخلت على الرضا ( عليه السلام ) فقال مبتدئاً : « إنّ الريّان بن الصلت يريد الدخول علينا ، والكسوة من ثيابنا ، والعطيّة من دراهمنا ، فأذنتُ له » ، فدخل وسلّم ، فأعطاه ثوبين ، وثلاثين درهماً من الدراهم المضروبة باسمه
(3) وباسناده ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن الحسين بن موسى ابن جعفر قال : كنّا حول أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ونحن شبّان من بني هاشم إذ مرّ علينا جعفر بن عمر العلوي ، وهو رثّ الهيئة ، فنظر بعضنا إلى بعض وضحكنا من هيئته ، فقال الرضا ( عليه السلام ) : « سترونه عن قريب كثير المال كثير التبع » ، فما مضى إلاّ شهر أو نحوه حتّى ولي المدينة وحسنت حاله ، فكان يمرّ بنا ومعه الخصيان والحشم
(4) وباسناده ، عن الحسين بن بشار قال : قال لي الرضا ( عليه السلام ) : « إنّ عبدالله يقتل محمداً » ، فقلت : عبد الله بن هارون يقتل محمد بن هارون ؟ فقال لي : « نعم ، عبد الله الذي بخراسان يقتل محمد بن زبيدة الذي هو ببغداد » فقتله
(5) .
---------------------------
(1) نقله عنه ابن حمزة في الثاقب في المناقب : 481 | 407 ، واُنظر : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 223 | 43 ، ونقله ابن الصباغ في الفصول المهمة : 247 ، والمجلسي في بحار الانوار 49 : 59 | 75 .
(2) عيون اخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 206 | 7 ، وكذا في : المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 340 ، الثاقب في المناقب : 481 | 408 .
(3) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 208 | 10 ، وكذا في : رجال الكشي 1 : 824 | 1036 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 340 ، الثاقب في المناقب : 476 | 399 .
(4) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 208 | 11 وكذا في : المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 335 ، الثاقب في المناقب 486 | 414 ، كشف الغمة 2 : 314 ، الفصول المهمة : 247 .
(5) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 209 | 12 ، وكذا في : اثبات الوصية : 177 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 335 ، الثاقب في المناقب : 481 | 409 ، دلائل الإمامة : 189 ، كشف الغمة 2 : 314 ، الفصول المهمة : 247 .
اعلام الورى بأعلام الهدى
_ 26 _
وباسناده ، عن موسى بن مهران قال : رأيت الرضا ( عليه السلام ) وقد نظر إلى هرثمة بالمدينة فقال : « كأنّي به وقد حُمل إلى مرو فضربت عنقه » ، فكان كما قال
(1) وباسناده ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران وصفوان بن يحيى قالا : جاءنا الحسين بن قياما الواسطي ـ وكان من رؤساء الواقفة ـ فسألنا أن نستأذن له على الرضا ( عليه السلام ) ففعلنا ، فلمّا صار بين يديه قال له : أنت إمام ؟ قال : « نعم » قال : فإنّي اُشهد الله أنّك لست بإمام ، قال : فنكت طويلاً في الاَرض منكس الرأس ثمّ رفع رأسه إليه فقال له : « ما علمك أنّي لست بإمام ؟ » قال له : إنّا روينا عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّ الاِمام لايكون عقيماً ، وأنت قد بلغت هذا السنّ وليس لك ولد ، قال : فنكس رأسه أطول من المرّة الاُولى ثمّ رفع رأسه وقال : « إنّي اُشهد الله انّه لا تمضي الاَيّاخم والليالي حتّى يرزقني الله ولداً منّي » قال عبدالرحمن : فعددنا الشهور من الوقت الذي قال ، فوهب الله له أبا جعفر في أقلّ من سنة
(2) ، قال الشيخ : حدّثنا أحمد بن علي بن الحسين الثعالبيّ قال ، حدّثنا أبو أحمد عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالصفواني قال : خرجت قافلة من خراسان إلى كرمان ، فقطع اللصوص عليهم الطريق وأخذوا منهم رجلاً اتّهموه بكثرة المال ، وأقاموه في الثلج وملأَوا فاه منه فانفسد فمه ولسانه حتّى لم يقدر على الكلام ، ثمّ انصرف إلى خراسان وسمع بخبر الرضا ( عليه السلام ) وأنّه بنيسابور ، فرأى فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول له : إنّ ابن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد ورد خراسان فسله عن علّتك ليعلّمك دواء تنتفع به ، قال : فرأيت كأنّي قد قصدته وشكوت إليه ما كنت دفعت إليه ، وأخبرته بعلّتي فقال لي : « خذ من الكمّون والسعتر والملح ودقّه وخذ منه في فمك مرّتين أو ثلاثاً ، فإنّك تعافى » فانتبه الرجل من منامه ولم يفكّر فيما كان رأى في منامه حتّى ورد باب نيسابور فقيل له : إنّ عليّ بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) قد ارتحل من نيسابور وهو برباط سعد ، فوقع في نفسه أن يقصده ويصف له أمره ، فدخل إليه فقال له : يا ابن رسول الله ، كان من أمري كيت وكيت ، وقد انفسد عليّ فمي ولساني حتّى لا أقدر على الكلام إلا بجهد ، فعلّمني دواء أنتفع به ، فقال ( عليه السلام ) : « ألم أعلّمك ، اذهب فاستعمل ما وصفته لك في منامك » ، فقال الرجل : يا ابن رسول الله ، إن رأيت أن تعيده عليّ ، فقال لي : « خذ من الكمّون والسعتر والملح فدقّه وخذ منه في فمك مرّتين أو ثلاثاً فإنّك تعافى » ، قال الرجل : فاستعملت ما وصفه لي فعوفيت ، قال الثعالبي : سمعت الصفواني يقول : رأيت هذا الرجل وسمعت منه هذه الحكاية
(3) .
---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 210 | 14 ، وكذا في : اثبات الوصية : 175 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 335 ، الثاقب في المناقب : 482 | 410 ، دلائل الإمامة : 193 ، كشف الغمة 2 : 304 .
(2) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 209 | 13 ، وكذا في : إثبات الوصية : 183 ، دلائل الامامة : 189 ، نوادر المعجزات : 172 | 11 .
(3) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 211 | 16 ، وباختصار في : المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 344 ، الثاقب في المناقب 484 | 413 ، كشف الغمة 2 : 314 ، مكارم الاخلاق 1 : 416 | 1412 .
اعلام الورى بأعلام الهدى
_ 27 _
وباسناده ، عن جعفر بن محمد النوفليّ قال : أتيت الرضا ( عليه السلام ) وهو بقنطرة أربق
(1) فسلّمت عليه ثمّ جلست وقلت : جعلت فداك ، إنّ اُناساً يزعمون أنّ أباك حيّ ، فقال : « كذبوا لعنهم الله ، لوكان حيّاً ما قُسّم ميراثه ولا نكح نساؤه ، ولكّنه والله ذاق الموت كما ذاقه عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، قال : فقلت له : فما تأمرني ؟ قال : « عليك بابني محمد من بعدي ، وأمّا أنا فإنّي ذاهب في وجه لا أرجع منه ، بورك قبر بطوس وقبران ببغداد » ، قلت : جعلت فداك قد عرفنا واحداً فما الثاني ؟ قال : « ستعرفونه » ثمّ قال : « قبري وقبر هارون هكذا » وضمّ اصبعيه
(2) ، وعن حمزة بن جعفر الاَرجانيّ قال : خرج هارون من المسجد الحرام من باب وخرج الرضا ( عليه السلام ) من باب ، فقال الرضا ( عليه السلام ) ـ وهو يعني هارون : « ما أبعد الدار وأقرب اللقاء يا طوس يا طوس ، ستجمعني وإيّاه »
(3) وباسناده ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء قال : قال لي الرضا ( عليه السلام ) : « إنّي حيث أرادوا الخروج بي من المدينة جمعت عيالي فامرتهم أن يبكوا عليّ حتّى أسمع ، ثمّ فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار ، ثمّ قلت : أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً»
(4) وعن الحسن الوشّاء أيضاً ، عن مسافر قال : كنت مع الرضا عليه السلام بمنى فمرّ يحيى بن خالد مع قوم من آل برمك فغطّى وجهه من الغبار فقال ( عليه السلام ) : « مساكين لا يدرون ما يحلّ بهم في هذه السنة » ثمّ قال : « وأعجب من هذا هارون وأنا كهاتين » وضمّ بين إصبعيه ، قال مسافر : فما عرفت معنى حديثه حتّى دفنّاه معه
(5) ، وباسناده ، عن صفوان بن يحيى قال : لمّا مضى أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) وتكلّم الرضا ( عليه السلام ) خفنا عليه من ذلك وقلنا له : إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً ، وإنّا نخاف عليك هذا الطاغي ، فقال : « ليجتهد جهده ، فلا سبيل له عليّ » ، قال صفوان « فأخبرنا الثقة : أنّ يحيى بن خالد قال للطاغي : هذا عليّ ابنه قد قعد وادّعى الاَمر لنفسه ، فقال : ما يكفينا ما صنعنا بأبيه ، تريد أن نقتلهم جميعاً !
(6) وباسناده ، عن عليّ بن جعفر ، عن أبي الحسن الطيب قال : لمّا توفّي أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) دخل أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) السوق واشترى كلباً وكبشاً وديكاً ، فلمّا كتب صاحب الخبر بذلك إلى هارون قال : قد أمنّا جانبه .
---------------------------
(1) اربق ( بفتح الباء وقد تضم ) : من نواحي رامهرمز من نواحي خوزستان ، « معجم البلدان 2 : 137 » .
(2) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 216 | 23 ، وكذا في : الثاقب في المناقب : 419 | 419 .
(3) عيون اخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 216 | 24 ، وكذا في : الثاقب في المناقب : 492 320 ، كشف الغمة 2 : 315 ، الفصول المهمة : 246 .
(4) عيون اخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 217 | 28 ، وكذا في : اثبات الوصية : 187 .
(5) عيون اخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 225 | 2 ، وكذا في : الكافي 1 : 410 | 9 ، المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 340 ، كشف الغمة 2 : 275 .
(6) عيون اخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 226 | 4 ، وكذا في : الكافي 1 : 406 | 2 ، كشف الغمة 2 : 315 .
اعلام الورى بأعلام الهدى
_ 28 _
وكتب الزبيري : أنّ عليّ بن موسى قد فتح بابه ودعا إلى نفسه ، فقال هارون : واعجبا إنّ عليّ بن موسى قد اشترى كلباً وكبشاً وديكاً ويُكتب فيه بما يُكتب !
(1) وباسناده ، عن الحسن بن موسى قال : خرجنا مع أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) إلى بعض أملاكه في يوم لا سحاب فيه ، فلّما برزنا قال : « حملتم معكم المماطر ؟ » قلنا : لا ، وما حاجتنا إلى المماطر وليس سحاب ولا نتخوّف المطر ؟ ! قال : « لكني حملته وستمطرون » ، قال : فما مضينا إلاّ يسيراً حتّى ارتفعت سحابة ومُطِرنا ، فما بقي منّا أحدٌ إلاّ ابتلٌ
(2) ، وأسانيد هذه الاَحاديث مذكورة في كتاب عيون الاَخبار للشيخ أبي جعفر قدس الله روحه .
وروى محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله بإسناده ، عن إبراهيم بن موسى قال : ألححت على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) في شيء أطلبه منه وكان يعدني ، فخرج ذات يوم يستقبل والي المدينة وأنا معه ، فجاء إلى قرب قصر فلان فنزل تحت شجرات ونزلت معه أنا وليس معنا ثالث ، فقلت : جعلت فداك ، هذا العيد قد أظلّنا ولا والله ما أملك درماً فما سواه ، فحكّ بسوطه الاَرض حكّاً شديداً ثمّ ضرب بيده فتناول منه سبيكة ذهب ، ثمّ قال : « انتفع بها واكتم ما رأيت »
(3) ، وأما ما ظهر للناس بعد وفاته من بركة مشهده المقدّس وعلاماته ، والعجائب التي شاهدها الخلق فيه ، وأذعن العامّ والخاصّ له ، وأقرّ المخالف والمؤالف به إلى يومنا هذا ، فكثير خارج عن حدّ الاِحصاء والعدّ ، ولقد اُبرئ فيه الاَكمه والاَبرص ، واُستجيبت الدعوات ، وقضيت ببركته الحاجات ، وكُشفت الملّمات ، وشاهدنا كثيراً من ذلك وتيقّناه وعلمناه علماً لا يتخالج الشكّ والريب في معناه ، فلو ذهبنا نخوض في إيراد ذلك لخرجنا عن الغرض في هذا الكتاب .
في ذكر طرف من خصائصه ومناقبه وأخلاقه الكريمة عليه السلام .
---------------------------
(1) عيون اخبار الرضا عليه السلام 2 : 205 | 4 ، وكذا في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 369 ، الثاقب في المناقب : 492 | 421 ، كشف الغمة 2 : 315 .
(2) عيون اخبار الرضا عليه السلام 2 : 221 | 37 ، وكذا في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 341 ، كشف الغمة 2 : 303.
(3) الكافي 1 : 408 / 6 ، وكذا في : اثبات الوصية : 176 ، دلائل الامامة : 190 ، روضة الواعضين : 222 ، كشف المغمة 2 : 274 .
اعلام الورى بأعلام الهدى
_ 29 _
محمد بن يحيى الصولي ، عن ابن ذكوان قال : سمعت إبراهيم بن العبّاس يقول : ما رأيت الرضا ( عليه السلام ) سئل عن شيء قطُّ إلاّ علمه ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلّ شيء فيجيب عنه ، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله إنتزاعات من القرآن ، وكان يختمه في كلّ ثلاث ويقول : « لو أنّي أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت ، ولكنّي ما مررت بآية قطّ إلاّ فكّرت فيها وفي أي شيء اُنزلت وفي أي وقت ، فلذلك صرت أختمه في كلّ ثلاث »
(1) .
وفي رواية اُخرى : عن إبراهيم بن هاشم ، عن إبراهيم بن العبّاس أنّه قال : ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا ، وشاهدت منه مالم أشاهده من أحد ، وما رأيته جفا أحداً بكلامه قط ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتّى يفرغ منه ، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها ، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطُّ ، ولا اتكئ بين يدي جليس له قط ، ولا رأيته يشتم أحداً من مواليه ومماليكه ، وما رأيته تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه بل كان ضحكه التبسّم ، وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس على مائدته مماليكه ومواليه حتّى البوّاب والسائس ، وكان قليل النوم بالليل ، كثير السهر ، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح ، وكان كثير الصوم ، ولا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ، ويقول : « ذلك صوم الدهر » وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ، فمن زعم أنّه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه
(2) ، وعن محمد بن أبي عباد قال : كان جلوس الرضا ( عليه السلام ) على حصير في الصيف وعلى مسح في الشتاء ، ولبسه الغليظ من الثياب حتّى إذا برز للناس تزيّن لهم
(3) .
وروى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده ، عن الفضل بن العبّاس ، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهرويّ قال : ما رأيت أعلم من عليّ ابن موسى الرضا ( عليهما السلام ) ، ولا رآه عالم ألاّ شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الاَديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين فغلبهم عن آخرهم حتّى ما بقي أحد منهم إلاّ أقّرّله بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور ، ولقد سمعت عليّ بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) يقول : « كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم وبعثوا إليّ بالمسائل فأجيب عنها »
(4) ، قال أبو الصّلت : ولقد حدّثني محمد بن إسحاق بن موسى بن جعفر ، عن أبيه : أنّ موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) كان يقول لبنيه : « هذا أخوكم عليّ بن موسى عالم آل محمد ، فاسألوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم ، فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمّد غير مرّة يقول لي :
---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 180 | 4 ، كشف الغمة 2 : 316 .
(2) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 184 | 7 ، كشف الغمة 2 : 316 .
(3) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 187 | 1 ، المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 360 ، كشف الغمة 2 : 316 .
(4) كشف الغمة 2 : 316 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 49 : 100 | 17 .
اعلام الورى بأعلام الهدى
_ 30 _
إنّ عالم آل محمد لفي صلبك ، وليتني أدركته فإنّه سميّ أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام )
(1) .
وروى عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمد بن يحيى الفارسيّ قال : نظر أبو نؤاس إلى الرضا ( عليه السلام ) ذات يوم وقد خرج من عند المأمون على بغلة له ، فدنا منه وسلّم عليه وقال : ياابن رسول الله ، قد قلت فيك أبياتاً وأنا اُحبّ أن تسمعها منّي ، قال : « هات » فأنشأ يقول :
مـطهـّرونَ نقيّـــات ثــيابـــــهم تجري الصلاةُ عليــــهم أين ما ذُكروا مـن لـم يكن علويّاً حـين تنســــــبهُ فمـا لهُ في قــــديمِ الدهــر iiمفتخرُ فـالله لـمّا بــــــرا خلــقاًفأ تقنـهُ صــفّاكــم واصـطفاكم أيّها البشـرُ فأنتـم المـلاَ الاَعلــى وعنـــــدكـم علمُ الكتاب ومـا جـاءت به iiالـسـورُ
|
فقال الرضا ( عليه السلام ) : « قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحدٌ ، يا غلام هل معك من نفقتنا شيء ؟ » .
فقال : ثلاثمائة دينار ، فقال : « أعطها إيّاه » ثم قال : « لعلّه استقلّها ، يا غلام سق إليه البغلة »
(2) .
ولاَبي نؤاس فيه أيضاً :
قيل لي أنت أوحدُ الناسِ طرّاً في فنونٍ من الكلام النبيهِ (3) لك مـِن جَوهرِ الكـلامِ بديعٌ يثمرُ الدرُ في يـدي مجتنيهِ |
---------------------------
(1) كشف الغمة 2 : 317 ، نقله المجلسي في بحار الانوار 49 : 100| ذيل حديث 17 .
(2) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 143 | 10 ، المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 366 ، بشارة المصطفى : 81 ، كشف الغمة 2 : 317 ، الفصول المهمة : 248 .
(3) في نسخة « م » في المعاني وفي الكلام البديه .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 31 _
فعلامَ تركتَ مدحَ ابن موسى والخصـالَ التي تجمّعنَ iiفيهِ قلتُ لا أهـتدي لمدحِ إمـامٍ كـان جبريلُ خادماً لاَبيه (1) |
علىُّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهرويّ قال : دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ على الرضا ( عليه السلام ) بمرو فقال له : يا ابن رسول الله ، إنّي قد قلت فيكم قصيدة ، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك ، فقال عليه السلام : « هاتها » فأنشده :
مَدارسُ آياتٍ خَلتْ من تلاوةٍ ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ |
فلما بلغ إلى قوله :
أرى فيئهم في غيرهم مُتقِّسماً وأيديهمُ مِن فَيئهم صفراتِ |
بكى أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) وقال له : « صدقت يا خزاعيّ » ، فلما بلغ إلى قوله :
إذا وِتروا مدُّوا إلى واتريهُم أكفّاً عن الاَوتارِ مُنقبضاتِ |
جعل الرضا ( عليه السلام ) يقلّب كفّيه ويقول : « أجل والله منقبضات » ، فلما بلغ إلى قوله :
---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 143 | 9 ، روضة الواعضين : 236 ، المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 342 ، بشارة المصطفى : 80 ، كشف الغمة 2 : 317 ، تذكرة الخواص : 321 ، وفيات الاعيان 3 : 270 .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 32 _
لقد خفتُ في الدينا وأيّام سعيها * وإنّي لارجوا الاَمَن بعدَ وفاتي
|
قال الرضا ( عليه السلام ) : « آمنك الله يوم الفزع الاَكبر » ، فلما انتهى إلى قوله :
في ذكر نبذ من أخباره مع المأمون ، كان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من الطالبيّة فحملهم من المدينة وفيهم الرضا ( عليه السلام ) ، فأخذ بهم على طريق البصرة حتّى جاؤوه بهم ، وكان المتولي لاِشخاصهم المعروف بالجلودي ، فقدم بهم على المأمون فأنزلهم داراً وأنزل الرضا ( عليه السلام ) داراً وأكرمه وعظّم أمره ، ثمّ أنفذ إليه أنّي اُريد ان أخلع نفسي من الخلافة واُقلّدك إيّاها ، فأنكر الرضا ( عليه السلام ) هذا الاَمر وقال له : « اُعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد » فرد عليه الرسالة : فإذا أبيت ما عرضته عليك فلا بدّ من ولاية العهد من بعدي ، فأبى عليه الرضا ( عليه السلام ) إباءً شديداً ، فاستدعاه إليه وخلا به ومعه ذو الرئاستين الفضل بن سهل وردد عليه هذا الكلام ، فقال ( عليه السلام ) : « إعفني من ذلك يا أمير المؤمنين » ، فقال له المأمون كالمهدّد : إنّ عمر بن الخطّاب جعل الاَمر شورى في ستّة أحدهم جدّك أمير المؤمنين وشرط فيمن خالف ذلك أن يضرب عنقه ، ولا بدّ من قبولك ما اُريده منك ، فقال الرضا ( عليه السلام ) : « فإنّي اُجيبك إلى ما تريده من ولاية العهد ، على أنّي لا آمر ولا أنهي ، ولا اُفتي ولا أقضي ، ولا اُولّي ولا اُعزل ، ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائمٌ » فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه
(1) .
وذكر رواة السير : أنّ المأمون لمّا أراد العقد للرضا ( عليه السلام ) أحضر الفضل بن سهل والحسن بن سهل فأعلمها بما قد عزم عليه من ذلك وقال : إنّي عاهدت الله تعالى أنّني إن ظفرت بالمخلوع أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب ، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل على وجه الاَرض ، فلمّا رأيا عزيمته على ذلك أمسكا عن معارضته ، فأرسلهما ألى الرضا ، فعرضا ذلك عليه فامتنع منه ، فلم يزالا به حتّى أجاب ورجعا إلى المأمون فعرّفاه إجابته ، فسّر به وجلس للخاصّة في يوم خميس ، وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في عليّ بن موسى ( عليه السلام ) ، وانّه قد ولاه عهده ، وقد سمّاه الرضا ، وأمرهم بلبس الخضرة والعَود لبيعته في الخميس الآخر ، على أن يأخذوا رزق سنة .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 2 : 259 ، روضة الواعضين : 224 ، كشف الغمة 2 : 275 ، مقاتل الطالبيين : 562 .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 33 _
فلمّا كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القوّاد والحجّاب والقضاة وغيرهم في الخضرة ، وجلس المأمون ووضع للرضا ( عليه السلام ) وسادتين عظيمتين حتّى لحق بمجلسه وفرشه ، وأجلس الرضا ( عليه السلام ) عليهما في الخضرة وعليه عمامة وسيف ، ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون فبايع له أوّل الناس ، فرفع الرضا ( عليه السلام ) يده فتلقّى بها وجه نفسه وببطنها وجوههم ، فقال المأمون : ابسط يدك للبيعة ، فقال الرضا ( عليه السلام ) : « إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هكذا كان يبايع » ، فبايعه الناس ويده فوق أيديهم ، ووضعت البدر ، وقامت الخطباء والشعراء ، فجعلوا يذكرون فضل الرضا ( عليه السلام ) وما كان من المأمون في أمره ، ثمّ دعا أبو عبّاد بالعبّاس بن المأمون فوثب فدنا من أبيه فقبّل يده وأمره بالجلوس ، ثمّ نودي محمد بن جعفر بن محمد وقال له الفضل بن سهل : قم ، فقام فمشى حتّى قرب من المأمون فوقف فلم يقبّل يده ، فقيل له : إمض فخذ جائزتك ، وناداه المأمون : إرجع يا أبا جعفر إلى مجلسك ، فرجع ثمّ جعل أبو عبّاد يدعو بعلويّ وعبّاسيّ فيقبضان جوائزهما حتّى نفدت الاَموال ، ثم قال المأمون للرضا ( عليه السلام ) : اخطب الناس ، فحمد الله سبحانه وأثنى عليه وقال : « إنّ لنا عليكم حقّاً برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولكم علينا حقّاً به ، فإذا أنتم أدّيتم إلينا ذلك الحقّ وجب علينا الحقّ لكم » ، ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس ، وأمر المأمون فضربت الدراهم وطبع عليها إسم الرضا ( عليه السلام ) ، وخطب للرضا في كلّ بلد بولاية العهد ، وخطب عبدالجبّار بن سعيد في تلك السنة على منبر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالمدينة فقال في الدعاء له : ولي عهد المسلمين عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ ( عليهم السلام ) .
ســتّة آبــاءٍ هــُم ما هُم أفضُ مَنْ يَشرَبُ صَوبَ الغمامِ |
وذكر المدائنيّ عن رجاله قال : لمّا جلس الرضا ( عليه السلام ) لولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء ، وخفقت الاَلوية على رأسه ، فذكر بعض من حضر ذلك المجلس ممّن كان يختصّ بالرضا ( عليه السلام ) قال : نظر إليّ وكنت مستبشراً بما جرى ، فأومأ إليّ أن اُدن فدنوت منه فقال لي من حيث لا يسمعه غيري : « لا تشغل قلبك بهذا الاَمر ولا تستبشرله ، فإنّه شيء لا يتمّ » .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 34 _
وذكر الصوليّ بإسناده ، عن الفضل بن سهل النوبختي ـ أو عن أخ له ـ قال : لمّا عزم المأمون على العقد للرضا ( عليه السلام ) بالعهد قلت : والله لاَعتبرنّ بما في نفس المأمون أيحبُّ تمام هذا الاَمر أو هو تصنّع منه ؟ فكتبت إليه على يد خادم له كان يكاتبني بأسراره على يده : قد عزم ذو الرئاستين على عقد العهد والطالع السرطان وفيه المشتري ، والسرطان وإن كان شرف المشتري فهو برج منقلب لا يتمّ أمر يعقد فيه ، ومع هذا فإنّ المرّيخ في الميزان في بيت العاقبة ، وهذا يدلّ على نكبة المعقود له ، وقد عرّفت أمير المؤمنين ذلك لئلاً يعتب عليّ إذا وقف على هذا من غيري ، فكتب إليّ : إذا قرأت جوابي إليك فاردده إليّ مع الخادم ، ونفسك أن يقف أحدٌ على ما عرّفتنيه ، أو أن يرجع ذوالرئاستين عن عزمه ، فإنّه إن فعل ذلك ألحقت الذنب بك وعلمت أنّك سببه ، قال : فضاقت عليّ الدنيا ، وبلغني أنّ الفضل بن سهل قد تنبّه على الاَمر ورجع عن عزمه ، وكان حسن العلم بالنجوم ، فخفت والله على نفسي وركبت إليه فقلت له : أتعلم في السماء نجماً أسعد من المشتريّ ؟ قال : لا ، قلت : أتعلم في الكواكب (نجماً) يكون في حال أسعد منها في شرفها ؟ قال : لا ، قلت : فأمض العزم على ذلك إن كنت تعقده وسعد الفلك في أسعد حالاته ، فأمضى الاَمر
(1) على ذلك ، فما علمت أنّي من أهل الدنيا حتّى وقّع العقد فزعاً من المأمون
(2) .
وروى عليّ بن إبراهيم ، عن ياسر الخادم والريّان بن الصلت جميعاً قالا : لمّا حضر العيد ـ وكان قد عُقد للرضا ( عليه السلام ) الاَمر بولاية العهد ـ بعث المأمون إليه في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم ، فبعث إليه الرضا ( عليه السلام ) : « قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الاَمر ، فاعفني عن الصلاة بالناس » ، فقال له المأمون : إنّي اُريد أن تطمئنّ قلوب الناس ويعرفوا فضلك ، ولم يزل الرسول يتردّد بينهم في ذلك ، فلمّا ألحّ عليه المأمون أرسل ( عليه السلام ) إليه : « إن أعفيتني فهو أحبُّ إليّ ، وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال المأمون : اُخرج كيف شئت ، وأمر القوّاد والناس أن يبكروا إلى باب الرضا ( عليه السلام ) ، فقعد الناس لاَبي الحسن في الطرقات والسطوح ، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه ، وصار جميع القوّاد والجند إلى بابه ، فوقفوا على دوابّهم حتّى طلعت الشمس ، فاغتسل أبو الحسن ( عليه السلام ) ، ولبس ثيابه ، وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه ، ومسّ شيئاً من الطيب ، وأخذ بيده عكّازة وقال لمواليه : « إفعلوا مثل ذلك » .
---------------------------
(1) في نسختي « ق » و « ط » : العزم .
(2) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 147 | 19 .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 35 _
فخرجوا بين يديه وهو حاف ، قد شمّر سراويله إلى نصف الساق ، وعليه ثياب مشمّرة ، فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر مواليه معه ، ومشى حتّى وقف على الباب ، فلمّا رآه القوّاد والجند في تلك الصورة سقطوا كلّهم إلى الاَرض ، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكّين قطع بها شرابة چاچيلته
(1) ونزعها وتحفّى ، وكبّر الرضا ( عليه السلام ) على الباب وكبّر الناس معه ، فخيل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه ، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لمّا رأوا أبا الحسن ( عليه السلام ) وسمعوا تكبيره ، وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : يا أمير المؤمنين ، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس وخفنا كلّنا على دمائنا ، فأنفذ إليه أن يرجع فبعث إليه المأمون : قد كلّفناك شططاً وأتعبناك ، ولست اُحبّ أن تلحقك مشقّة ، فارجع وليصلّ بالناس من كان يصلّي بهم على رسمه ، فدعا أبو الحسن ( عليه السلام ) بخفّه فلبسه وركب ورجع واختلف أمر الناس في ذلك اليوم ولم تنتظم صلاتهم
(2) ، وروى عليّ بن إبراهيم ، عن ياسر قال : لمّا عزم المأمون على الخروج من خراسان إلى بغداد خرج معه ذو الرئاستين وخرجنا مع أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، فورد على الفضل كتاب من أخيه الحسن بن سهل ونحن في بعض المنازل : إنّي نظرت في تحويل السنة فوجدت فيه أنّك تذوق في شهر كذا يوم الاَربعاء حرّ الحديد وحرّ النار ، وأرى أن تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا الحمّام في هذا اليوم وتحتجم فيه تصبّ على بدنك الدّم ليزول عنك نحسه ، فكتب ذوالرئاستين بذلك إلى المأمون وسأله أن يسأل أباالحسن في ذلك ، فكتب إلى الرضا ( عليه السلام ) يسأله فيه ، فأجابه : « لست بداخل الحمّام غداً » فأعاد عليه الرقعة مرّتين ، فكتب إليه أبو الحسن ( عليه السلام ) : « إنّي رأيت رسول الله ( صلّى لله عليه وآله وسلّم ) في هذه الليلة فقال لي : يا عليّ لا تدخل الحمّام غداً ، ولا أرى لك يا أمير المؤمنين ولا للفضل أن تدخلا الحمّام » ، فكتب إليه المأمون : صدقت يا أبا الحسن وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ولست بداخل الحمّام غداً ، والفضل أعلم ، قال ياسر : فلمّا أمسينا قال لنا الرضا ( عليه السلام ) : « قولوا : نعوذ بالله من شرّ ما ينزل في هذه الليلة » فلم نزل نقول ذلك ، فلّما صلّى الرضا ( عليه السلام ) الصبح قال لي : « إصعد السطح فاستمع هل تجد شيئاً » فلمّا صعدت سمعت الصيحة فكثرت وزادت فلم نشعر بشيء ، فإذا نحن بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من داره إلى دار أبي الحسن ( عليه السلام ) وهو يقول : يا سيّدي يا أبا الحسن ، آجرك الله في الفضل ، فإنّه دخل الحمّام ودخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه ، وأُخذ ممّن دخل عليه ثلاثة نفر أحدهم ابن خالة الفضل ابن ذي القلمين .
---------------------------
(1) الچاچله : كلمة فارسية تُطلق على الحذاء المصنوع من الجلد « اُنظر : لغت نامة 16 : 13 » .
(2) الكافي 1 : 408 ، ارشاد المفيد 2 : 264 ، وباختلاف يسير في : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 150| ذيل حديث 21 ، روضة الواعضين : 227 ، وباختصار في : المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 371 ، كشف الغمة 2 : 278 .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 36 _
قال : واجتمع الجند والقوّاد ومن كان من رجال الفضل على باب المأمون فقالوا : هو اغتاله وشغبوا عليه وطلبوا بدمه ، وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب ، قال المأمون لأَبي الحسن ( عليه السلام ) : يا سيّدي إن رأيت أن تخرج إليهم وترفق بهم حتّى يتفرّقوا ؟ قال : « نعم » ، فركب أبو الحسن وقال لي : « يا ياسر ، إركب » فركبت فلمّا خرجنا من باب الدار نظر إلى الناس وقد ازدحموا فأومأ إليهم بيده تفرّقوا ، قال : ياسر فأقبل الناس وقد يقع بعضهم على بعض ، وما أشار إلى أحد إلاّ ركض ومضى
(1) ، وقال أبو عليّ السلامي : إنّما قتل الفضل بن سهل غالب خال المأمون في حمّام سرخس مغافضة
(2) في شعبان سنة ثلاث ومائتين
(3) ، عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن محمد الحسينيّ قال : بعث المأمون إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) جارية ، فلمّا اُدخلت عليه اشمأزّت من الشيب ، فردّها إلى المأمون وكتب إليه :
« نعـى نفسي إلى نفسي المشيبُ وعــندَ الشـيبِ يتّعظُ اللبيـبُ فقــد ولّـى الشبـابُ إلى مداهُ فلسـتُ أرى مـواضـعه تؤوبُ سـأبكيــهِ وأندبـهُ طـويـلاً وأدعـوهُ إلـيّ عســى يجيـبُ وهيهـاتَ الـذي قد فـاتَ منهُ تمـنّيني بـهِ النفـسُ iiالكـذوبُ وراعَ الـغانيـاتِ بيـاضُ رأسي ومـَن مُـدّ البقاءُ لـه iiيـشيـبُ أرى الـبيضَ الحسانِ يحدنَ عنّي وفـي هجرانـهنّ لنا iiنصـيبُ فـإن يكـن الشبابُ مضى حبيباً فإنّ الشيبَ أيـضاً لـي iiحبيـبُ سـأصـحبهُ بتقــوى اللهِ حتّى يفرّقَ بيننا الاَجلُ iiالقريـبُ » (4) |
في ذكر وفاته عليه السلام وسببها وبعض ما جاء من الاَخبار في ذلك ، وكان سبب قتل المأمن إيّاه أنه ( عليه السلام ) كان لا يحابي المأمون في حقّ ، ويجبه في أكثر أحواله بما يغيظه ويحقده عليه ، ولا يظهر ذلك له ، وكان ( عليه السلام ) يكثر وعظه إذا خلا به ، ويخوّفه بالله تعالى ، وكان المأمون يظهر قبول ذلك ويبطن خلافه ، ودخل ( عليه السلام ) يوماً عليه فرآه يتوضّأ للصلاة والغلام يصبّ على يده الماء فقال : « لا تشرك ـ يا أمير المؤمنين ـ بعبادة ربّك أحداً » فصرف المأمون الغلام وتولّى إتمام وضوئه ، وكان ( عليه السلام ) يزري على الفضل والحسن ـ ابني سهل ـ عند المأمون إذا ذكرهما ، ويصف له مساوئهما ، وينهاه عن الاِصغاء إلى مقالهما ، فعرفا ذلك منه ، فجعلا يَخطِبان
(5) عليه عند المأمون ، ويخوفانه من حمل الناس عليه ، حتّى قلبا رأيه فيه وعزم على قتله ، فاتّفق أنّه عليه السلام أكل هو والمأمون طعاماً فاعتلّ الرضا ( عليه السلام ) واظهر المأمون تمارضاً
(6) ، فذكر محمد بن عليّ بن أبي حمزة ، عن منصور بن بشير ، عن أخيه عبد الله بن بشير قال : أمرني المأمون أن اُطوّل أظفاري عن العادة ولا أظهر لاَحد ذلك ، ففعلت ، ثمّ استدعاني وأخرج إليّ شيئاً شبيهاً بالتمر الهنديّ ، وقال : اعجن هذا بيديك جميعاً ، ففعلت .
---------------------------
(1) الكافي 1 : 409 |8 ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 163 | ضمن حديث 24 ، ارشاد المفيد 2 : 266 ، روضة الواعضين : 228 ، كشف الغمة 2 : 279 .
(2) غافصت الرجل : أي اخذنه على غرة : « الصحاح ـ غفص ـ 3 : 1047 » .
(3) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 166 ، دلائل الامامة 181 .
(4) عيون أخبار الرضا
( عليه السلام ) 2 : 178 | 8 .
(5) حَطبَ فلان بفلان : سعى به : « لسان العرب 1 : 322 » .
(6) ارشاد المفيد 2 : 269 ، وباختصار في : مقاتل الطالبيين : 565 .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 37 _
ثمّ قام وتركني ، فدخل على الرضا ( عليه السلام ) فقال له : ما خبرك ؟ قال : « أرجو أن أكون صالحاً » ، فقال له : وأنا اليوم بحمد الله أيضاً صالح ، فهل جاءك أحدٌ من المترفّقين في هذا اليوم ؟ قال : « لا » ، فغضب المأمون وصاح على غلمانه ، ثمّ قال : فخذ ماء الرّمان الساعة ، فإنّه مما لا يُستغنى عنه ، ثمّ دعاني فقال : إئتنا برمّان ، فأتيته به فقال لي : أعصره بيديك ، ففعلت وسقاه المأمون بيده ، وكان ذلك سبب وفاته ، ولم يلبث إلاّ يومين حتّى مات
(1) .
وروي عن محمد بن الجهم أنّه قال : كان الرضا ( عليه السلام ) يعجبه العنب ، فأخذ له شيء منه فعجل في موضع أقماعه الاِبر أيّاماً ثمّ نزعت منه وجيء به إليه ، فأكل منه وهو في علّته التي ذكرناها فقتله ، وذكر أنّ ذلك من لطيف السموم
(2) ، وروي جماعة كثيرة من أصحابنا ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهرويّ قال : بينا أنا واقفٌ بين يدي الرضا ( عليه السلام ) إذ قال لي : « يا أبا الصلت ، اُدخل هذه القبّة التي فيها قبر هارون فائتني بترابه من أربعة جوانب » ، قال : فأتيته به فقال : « ناولني هذا التراب » ـ وهو من عند الباب ـ فناولته فأخذه وشمّه ثمّ رمى به فقال : « سيحفر لي ههنا ، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها » ثمّ قال : « في الذي عند الرجل مثل ذلك ، وفي الذي عند الرأس مثل ذلك » ، ثم قال : « ناولني هذا التراب فهو من تربتي » ثمّ قال : « سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل ، وأن يشقّ لي ضريحاً ، فإن أبوا إلاّ أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً ، فإنّ الله ( عزّ وجلّ ) سيوسّعه لي بما شاء ، فإذا فعلوا ذلك فإنّك ترى عند رأسي نداوة ، فتكلّم بالكلام الذي اُعلّمك ، فإنّه ينبع الماء حتّى يمتلئ اللحد وترى فيه حيتاناً صغاراً ففتّت لها الخبز الذي أعطيك فإنّها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شيءُ خرجت حوته كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتّى لا يبقى منها شيءُ ، ثمّ تغيب فإذا غابت فضع يدك على الماء وتكلّم بالكلام الذي اعلّمك فإنّه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء ، ولا تفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون » ، ثمّ قال ( عليه السلام ) :« يا أبا الصلت ، غداً أدخل إلى هذا الفاجر فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلّم اُكلّمك ، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني » ، فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظر ، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلامُ المأمون فقال له : أجب أمير المؤمنين ، فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا بصر بالرضا ( عليه السلام ) وثب إليه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه وناوله العنقود وقال : ياابن رسول الله ما رأيت عنباً أحسن من هذا ، فقال له الرضا ( عليه السلام ) : « ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة » فقال : كل منه ، فقال له الرضا ( عليه السلام ) : « تعفيني منه » فقال : لابدّ من ذلك ، وما يمنعك منه ، لعلّك تتّهمنا بشيء ، فتناول العنقود وأكل منه ثمّ ناولهمنه الرضا ( عليه السلام ) ثلاث حبّاب ثمّ رمى به وقام ، فقال له المأمون : إلى أين ؟ « إلى حيث وجّهتني » .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 2 : 270 ، اثبات الوصية : 181 ، روضة الواعظين : 232 ، كشف الغمة : 2 : 281 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 270 ، روضة الواعظين : 232 ، المناقب لأبن شهرآشوب 4 : 374 ، كشف الغمة 2 : 282 ، مقاتل الطالبيين : 567 .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 38 _
وخرج ( عليه السلام ) مغطّى الرأس فلم اُكلّمه حتّى دخل الدار وأمر أن يُغلق الباب فاُغلق ثمّ نام ( عليه السلام ) على فراشه ، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ شابُّ حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا ( عليه السلام ) فبادرت إليه وقلت : من أين دخلت والباب مغلق ؟ فقال لي « الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق عليّ » ، فقلت له : ومن أنت ؟ فقال لي : « أنا حجة الله عليك يا أبا الصلت ، أنا محمّد بن عليّ » ، ثمّ مضى نحو أبيه ( عليه السلام ) فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرضا ( عليه السلام ) وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، ثمّ سحبه سحباً في فراشه وأكبّ عليه محمد بن علي يقبله ، وسارّه بشيء لم أفهمه ، ورأيت على شفتي الرضا زبداً أشد بياضاً من الثلج ، ورأيت أبو جعفر يلحسه بلسانه ، ثمّ أدخل يده بين ثوبيه وصدره فاستخرج منه شيئاً شبيهاً بالعصفور فابتلعه أبو جعفر ، ومضى الرضا ( عليه السلام ) .
فقال أبو جعفر : « قم يا أبا الصلت وائتني بالمغتسل والماء من الخزانة » ، فقلت : ما في الخزانه مغتسل ولا ماء ، فقال لي : « انته إلى ما أمرك به » ، فدخلت الخزانة ، فإذا فيها مغتسل وماء ، فأخرجته وشمّرت ثيابي لاُغسّله معه ، فقال لي : « ( تنح ) يا أبا الصلت ، فإنّ معي من يعينني غيرك » ، فغسّله ثمّ قال لي : « ادخل الخزانة فأخرج إليّ السفط الذي فيه كفنه وحنوطه » ، فدخلت ، فإذا أنا بالسفط لم أره في تلك الخزانة قطّ ، فحملته إليه وكفّنه وصلّى عليه ، ثم قال : « إئتني بالتابوت » ، فقلت : أمضي إلى النجار حتّى يصلح تابوتاً ، قال : « قم ، فإنّ في الخزانة تابوتاً » ، فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قطّ ، فأتيته به فأخذه ( عليه السلام ) فوضعه في التابوت بعدما صلّى عليه وصفّ قدميه وصلّى ركعتين ، لم يفرغ منها حتّى علا التابوت وانشقّ السقف فخرج منه التابوت ومضى ، فقلت : ياابن رسول الله الساعة يجيئنا المأمون يطالبنا بالرضا فما نصنع ؟ فقال لي : « أسكت فإنه سيعود يا أبا الصلت ، ما من نبيّ يموت في المشرق ويموت وصيّه في المغرب إلاّ جمع الله بين أرواحهما وأجسادهما » ، فما أتم الحديث حتّى انشقّ السقف ونزل التابوت ، فقام ( عليه السلام ) واستخرج الرضا ( عليه السلام ) من التابوت ووضعه على فراشه كأنّه لم يغسّل ولم يكفّن ، ثمّ قال : « يا أبا الصلت ، ثم فافتح الباب للمأمون » ، ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب ، فدخل باكياً حزيناً قد شقّ جيبه ولطم رأسه وهو يقول : يا سيّداه ، فجعتُ بك يا سيّدي ، ثمّ دخل وجلس عند رأسه وقال : خذوا في تجهيزه .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 39 _
فأمر بحفر القبر ، فحفرت الموضع فظهر كل شيء على ما وصفه الرضا ( عليه السلام ) ، فقام بعض جلسائه وقال : ألست تزعم أنّه إمام ؟ قلت : بلى ، لا يكون الاِمام إلاّ مقدّم الناس ، فأمر أن يحفر له في القبلة ، فقلت : أمرني أن أحفرله سبع مراقي وأن أشقّ له ضريحه ، فقال : انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت ـ سوى الضريح ـ ولكن يحفر له ويلحد ، فلمّا رأى ما ظهر له من النداوة والحيتان وغير ذلك قال المأمون : لم يزل الرضا ( عليه السلام ) يرينا العجائب في حياته حتّى أراناها بعد وفاته أيضاً ، فقال له وزير كان معه : أتدري ما أخبرك به الرضا ، قال : لا ، قال : أخبركم إنّ ملككم بني العبّاس ـ مع كثرتكم وطول مدّتكم ـ مثل هذه الحيتان ، حتّى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم سلّط الله تعالى عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم ، قال له : صدقت ، ثمّ قال : يا أبا الصلت ، علّمني الكلام الذي تكلمت به ، قلت : والله لقد نسيت الكلام من ساعتي ، وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي ، فحبست سنة ، فضاق عليّ الحبس وسألت الله أن يفرّج عنّي بحقّ محمد وآله ، فلم أستتمّ الدعاء حتّى دخل محمد بن علّي الرضا ( عليهما السلام ) فقال لي : « ضاق صدرك يا أبا الصلت ؟ » فقلت : إي والله ، قال : « قم فاخرج » ثم ضرب بيده إلى القيود التي كانت عليّ ففكّها ، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار ، والحرسة والغلمة يرونني فلم يستطيعوا أن يكلّموني ، وخرجت من باب الدار ثمّ قال لي : « إمض في ودائع الله ، فأنّك لن تصل إليه ولايصل إليك أبداً » ، قال أبو الصلت : فلم ألتق مع المأمون إلى هذا الوقت
(1) .
وروي عن إبراهيم بن العبّاس قال : كانت البيعة للرضا ( عليه السلام ) لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين ، وزوّجه ابنته اُمّ حبيب في أوّل سنة اثنين ومائتين ، وتوفّي سنة ثلاث ومائتين والمأمون متوجّه إلى العراق
(2) .
---------------------------
(1) أمالي الصدوق : 526 | 17 ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 242 | 1 ، روضة الواعظين : 229 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 374 ، الثاقب في المناقب : 489 | 417 .
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 245 | 2 .
أعلام الورى بأعلام الهدى
_ 40 _
فأخبرته بما سألني عنه ابن النجاشيّ فقال : « الاِمام بعدي ابني » ثم قال : « وهل يجترئ أحدٌ أن يقول ابني وليس له ولد ؟ ! » (1) وعنه ، عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن محمد ، عن جعفر بن يحيى ، عن مالك بن أشيم ، عن الحسين بن يسار قال : كتب ابن قياما إلى أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) كتاباً يقول فيه : كيف تكون إماماً وليس لك ولد ؟ فأجابه أبو الحسن ( عليه السلام ) : « وما علمك أنّه لا يكون لي ولد ، والله لا تمضي الاَيّام والليالي حتّى يرزقني الله ذكراً يفرّق بين الحقّ والباطل » (2) وعنه ، عن الحسين بن محمد ، عن الخيراني ، عن أبيه قال : كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن ( عليه السلام ) بخراسان فقال له قائلٌ : يا سيّدي إن كان كون فإلى من ؟ قال : « إلى أبي جعفر ابني » ، فكأنّ القائل استصغر سنّ أبي جعفر ، فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : « إنّ الله بعث عيسى بن مريم رسولاً نبيّاً صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السنّ الذي هو فيه » (3) .
---------------------------
(1) الكافي 1 : 257 | 5 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 277 ، الغيبة للطوسي : 72 | 78 ، كشف الغمة 2 : 352 .
(2) الكافي 1 : 257 | 4 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 277 ، اثبات الوصية 683 ، كشف الغمة 2 : 352 ، ونحوه في : رجال الكشي : 553 | 1044 ، دلائل الامامة : 183 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 50 : 22 | 10 .
(3) الكافي 1 : 258 | 13 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 279 ، كفاية الاثر : 277 ، روضة الواعضين : 237 ، كشف الغمة 2 : 353 ، وباختلاف يسير في : اثبات الوصية : 186 ، دلائل الامامة : 204 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 50 : 23 | 15 .