الفصل الثاني

  في ذكر أسمائه ( صلوات الله عليه ) وشرف أصله ونسبه وأمّا أسماؤه وصفاته ( صلوات الله عليه وآله ): فمنها : ما جاء به التنزيل وهو : الرسول ، النبيّ ، الاُمي : في قوله: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (1) ، والمزّمل والمدّثّر : في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) (2) ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) (3) ، والنذير المبين : في قوله تعالى : ( وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) (4) ، وأحمد : في قوله تعالى : ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (5) ، ومحمّد : في قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) (6) ، والمصطفى : في قوله تعالى : ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ ) (7) ، والكريم : في قوله تعالى : ( إنّهُ لقَولُ رسولٍ كَريمٍ ) (8) ، وسمّاه سبحانه نوراً : في قوله : ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) (9) .

---------------------------
(1) الاَعراف 7 : 157 .
(2) المزمل 73 : 1 .
(3) المدثر 74 : 1 . (4) الحجر 15 : 89 .
(5) الصف 61 : 6 .
(6) الفتح 48 : 29 .
(7) الحج 22 : 75 .
(8) التكوير 81 : 19 .
(9) المائدة 5 : 15 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 30 _

  ونعمة : في قوله تعالى : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ) (1) ، ورحمة : في قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (2) ، وعبداً : في قوله تعالى : ( نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) (3) ، ورؤوفاً رحيماً : في قوله : ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (4) ، وشاهداً ، ومبشراً ، ونذيراً ، وداعياً : في قوله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ) (5) ، وسمّاه منذراً : في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ ) (6) ، عبد الله : في قوله تعالى : ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ) (7) ، وسمّاه مذكرّاً : في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (8) ، وسمّاه طه ، ويس .
  ومنها : ما جاءت به الاَخبار : ذكر محمّد بن إسماعيل البخاري في الصحيح عن جبير عن مطعم قال : سمعت رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( إنّ لي أسماء : أنا محمّد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد ) (9) ، وقيل : أن الماحي الذي يمحى به سيّئات من اتّبعه .
  وفي خبر آخر : المقفّي ، ونبيّ التوبة ، ونبيّ الملحمة ، والخاتم ، والغيث ، والمتوكّل (10) ، وأسماؤه في كتب الله السالفة كثيرة منها : مؤذ مؤذ بالعبرانيّة في التوراة ، وفارق في الزّبور (11) ، وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب دلائل النبوّة : بإسناده عن الاَعمش ، عن عباية بن ربعي ، عن إبن عبّاس قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ): ( إنّ الله( عزّ وجل ) قسّم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً ، وذلك قوله في : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ ) (12)( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ ) (13)فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ،

---------------------------
(1) النحل 16 : 83 .
(2) الاَنبياء 21 : 107 .
(3) الفرقان 25 : 1 .
(4) التوبة 9 : 128 .
(5) الاَحزاب 33 : 45 ـ 46 .
(6) الرعد 13 : 7 .
(7) الجن 72 : 19 .
(8) الغاشية 88 : 21 .
(9) صحيح البخاري 4 : 225 ، وكذا في : الموطأ 2 : 1004 ، سنن الدارم ي 2 : 217 : صحيح مسلم 4 : 1828 / 2354 ، مسند أحمد 4 : 80 ، صحيح الترمذي 5 : 135 / 2840 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 152 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 16 : 114 / 43 .
(10) مسند أحمد 4 : 404 ، صفة الصفوة 1 : 55 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 104 ، البداية والنهاية 2 : 252 بزيادة ونقصان ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 16 : 114 / 43 .
(11) أنظر: مناقب إبن شهر آشوب 1 : 151 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 16 : 114 / 43 .
(12) الواقعة 56 : 27 .
(13) الواقعة 56 : 41 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 31 _

ثمّ جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً فذلك قوله : ( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ) (1) ( وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ ) (2)( السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) (3)فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ، ثمّ جعل الاَثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ) (4)الآية، فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر ، ثمّ جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً وذلك قوله ( عزّ وجل ): ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )(5)فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب ) (6) ، وروى الشيخ أبو عبد الله الحافظ بإسناده ، عن سفيان بن عيينة أنه قال : أحسن بيت قالته العرب قول أبي طالب للنبّي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):
وشـقّ  لـه مـن اسمه كي iiيُجلّهُ      فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمد (7)
  وقال غيره : إنّ هذا البيت لحسّان بن ثابت في قطعة له أوّلها :
ألـم  تـر أنّ الله أرسل iiعبده      ببرهانه والله أعلى وأمجد (8)
  ومن صفاته التي جاءت في الحديث : راكب الجمل ، وآكل الذراع ، ومحرّم الميتة ، وقابل الهديّة ، وخاتم النبوّة ، وحامل الهراوة ، ورسول الرحمة ، ويقال : إنّ كنيته في التوراة أبو الاَرامل ، واسمه صاحب الملحمة (9) ، وروي أنّه قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أنا الاَول والآخر ، أوّل في النبوّة وآخر في البعثة ) (10).

---------------------------
(1) الواقعة 56 : 8 .
(2) الواقعة 56 : 9 .
(3) الواقعة 56 : 10 .
(4) الحجرات 49 : 13 .
(5) الاَحزاب 33 : 33 .
(6) دلائل النبوة للبيهقي 1 : 170 ، نقله المجلسي في بحار الاَنوار 16 : 120 .
(7) رواره عنه البيهقي في دلائله 1 : 161 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 16 : 120 .
(8) مناقب إبن شهر آشوب 1 : 165 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 16 : 120 .
(9) انظر: مناقب ابن شهر آشوب 1: 154، وكشف الغمة 1: 13، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 16: 120.
(10) كشف الغمة 1: 13، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 16: 120.

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 32 _

الفصل الثالث

  في ذكر مدة حياته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عاش ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثلاثاً وستين سنة ، منها مع أبيه سنتين وأربعة أشهر ، ومع جدّه عبدالمطلب ثمان سنين ، ثمّ كفّله عمّه أبو طالب بعد وفاة جدّه عبدالمطّلب فكان يكرمه ويحميه وينصره أيّام حياته (1) ، وذكر محمّد بن إسحقاق بن يسار : أنّ أباه عبد الله مات واُمّه حبلى ، وقيل أيضاً : إنّه مات والنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إبن سبعة أشهر(2) ، وذكر إبن إسحقاق قال : قدمت آمنة بنت وهب اُمّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) به على أخواله من بني عديّ بن النجّار بالمدينة ثمّ رجعت به حتّى إذا كانت بالاَبواء هلكت بها ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إبن ستّ سنين(3) .
  وروي عن بريدة قال : إنتهى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى رسم قبر فجلس وجلس الناس حوله فجعل يحرّك رأسه كالمخاطب ثمّ بكى ، فقيل : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : ( هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربّي في أن أزور قبرها فأذن لي فأدركتني رقّتها فبكيت ) فما رأيته ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة (4) ، وفي خبر آخر: ( استأذنت ربي في زيارة قبر اُمّي فأذن لي ، فزوروا القبور تذكّركم الموت ) رواه مسلم في الصحيح(5) ، وتزوّج بخديجة بنت خوليد وهو إبن خمس وعشرين سنة ، وتوفّي عمّه أبو طالب وله ستّ وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرون يوماً ، وتوفّيت خديجة بعده بثلاثة أيّام ، وسمّى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ذلك العام عام الحزن (6) .

---------------------------
(1) أنظر : كشف الغمة 1 : 16 ، والطبقات الكبرى 1 : 119 ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 13 و 14 ، ومروج الذهب 3 : 14 / 1460 ، ودلائل النبوة للاصبهاني 1 : 209 / 103 و 104 ، ودلائل النبوة للبيهقي 1 : 188 ، وصفة الصفوة 1 : 65 .
(2) انظر : دلائل النبوة للبيهقي 1 : 187 ـ 188 .
(3) سيرة إبن إسحقاق : 65 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 188 .
(4) الطبقات الكبرى 1 : 117 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 189 .
(5) صحيح مسلم 2 : 671 / 976 .
(6) انظر : كشف الغمة 1 : 16 ، وسيرة إبن هشام 1 : 198 ، والطبقات الكبرى 1 : 132 ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 20 ، ومروج الذهب 3 : 15 / 1461 ، وصفة الصفوة 1 : 74 ، والكامل في التاريخ 2 : 39 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 33 _

  وروى هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ما زالت قريش كاعّة (1)عنّي حتّى مات أبو طالب ) ، (2)‌، وأقام ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بمكّة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة ، ثمّ هاجر منها إلى المدينة بعد أن إستتر في الغار ثلاثة أيّام وقيل : ستّة أيّام ، ودخل المدينة يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الاَول وبقي بها عشر سنين ، ثمّ قبض ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوم الاَثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة (3) ، وإختلف أهل بيته وأصحابه في موضع دفنه فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنّ الله تعالى لم يقبض روح نبيّه إلاّ في أطهر البقاع فينبغي أن يدفن هناك ) ، فأخذوا بقوله ودفنوه في حجرته التي قبض فيها ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) (4) .


---------------------------
(1) كاعّة : خائفة وجبانة .
(2) كشف الغمة 1: 16، دلائل النبوة للبيهقي 2: 350.
(3) انطر : الكافي 1 : 346 ، كشف الغمة 1 : 16 ، وسيرة إبن هشام 2 : 130 ، وصحيح البخاري 5 : 73 ، وصحيح مسلم 4 : 1826 / 2351 ، وتاريخ الطبري 2 : 379 ، ومروج الذهب 3 : 18 / 1467 ، وصفة الصفوة 1 : 117 و 129 ، والكامل في التاريخ 2 : 104 و 106 و 107 .
(4) روضة الواعظين : 71 ، مناقب إبن شهر آشوب 1 : 240 ، كشف الغمة 1 : 19 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 34 _

الباب الثاني
في ذكر آياته الباهرات ومعجزاته الخارقة للعادات

  وهذه الآيات: قسمان أحدهما: ما ظهر قبل مبعثه ، والآخر : ما ظهر بعد ذلك .
  فأمّا ما ظهر قبل الدعوة والمبعث: فمن ذلك ما إستفاض في الحديث: أنّ اُمّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لما وضعته رأت نواراً أضاءت له قصور الشام ، وحدّثت هي : أنّها اُتيت حين حملت برسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقيل لها : إنّك حملت بسيد هذه الاُمة فإذا وقع على الاَرض فقولي :
اُعـيذه بـالواحد      من شرّ كلّ حاسد
  فإنّ آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بُصرى من أرض الشام ، فإذا وقع فسمّيه محمّداً ، فإنّ إسمه في التوارة أحمد ، يحمده أهل السماء والاَرض ، وإسمه في الاِنجيل أحمد ، يحمده أهل السماء والاَرض ، واسمه في الفرقان محمّد ، قالت : فسمّيته بذلك (1) .
  وروى أبو اُمامة قال : قيل : يا رسول الله ما كان بدء أمرك ؟ قال : ( دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت اُمّي أنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ) (2) ، ومن ذلك : ما رواه الاُستاذ أبو سعد الواعظ الزاهد الخركوشي (3)بإسناده عن مخزوم بن أبي المخزومي ، عن أبيه وقد أتت عليهمائة وخمسون

---------------------------
(1) انظر : كشف الغمة 1 : 20 ، وسيرة إبن هشام 1 : 166 ، وتاريخ الطبري 2 : 156 ، ودلائل النبوة للبيهقي 1 : 82 و 83 ، والكامل في التاريخ 1 : 458 .
(2) الخركوشي : هو أبو سعد عبد الملك بن محمّد النيشابوري الحافظ الواعظ صاحب كتاب ( شرف المصطفى ) ، قال عنه السمعاني في الانساب : الخركوشي بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وضم الكاف وفي آخرها الشين ، هذه النسبة إلى خركوش وهي سكة بنيسابور كبيرة كان بها جماعة من المشاهير مثل أبي سعد عبد الملك بن أبي عثمان محمد بن إبراهيم الخركوشي ، الزاهد الواعظ ، أحد المشهورين بأعمال البر والخير ، وكان عالماً زاهداً فاضلاً ، رحل إلى العراق والحجاز وديار مصر ، وأدرك العلماء والشيوخ ، وصنّف التصانيف المفيدة ـ إلى أن قال ـ : وجاور حرم الله مكة ، ثم عاد إلى وطنه نيشابور ، ولزم منزله ، وبذل النفس والمال للمستورين من الغرباء والفقراء المنقطعين منهم ، وبنى داراً للمرضى بعد أن خربت الدور القديمة لهم ، ووكَّل جماعة من أصحابه لتمريضهم وحمل مياههم ، وكانت وفاته في سنة 406 هـ بنيشابور ، انظر : الكنى والاَلقاب 2 : 183 ، الانساب 5 : 93 .
(3) إرتجس : إضطرب وتحرك حركة سُمع لها صوت ( لسان العرب 6 : 95 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 35 _

سنة قال : لمّا كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إرتجس(1) أيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة ، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وغاضت بحيرة ساوة ، ورأى المؤبذان(2)أنّ إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة فإنتشرت في بلادها .
  فلمّا أصبح كسرى راعه ذلك وأفزعه وتصبّر عليه تشجّعاً ، ثمّ رأى أن لا يدّخر ذلك عن وزرائه ومرازبته (3) ، فجمعهم وأخبرهم بما هاله ، فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود نار فارس ، فقال المؤبذان : وأنا رأيت رؤيا ، وقصّ عليه رؤياه في الاِبل ، فقال : أيّ شيء يكون هذا يا مؤبذان ، قال : حدث يكون من ناحية العرب ، فكتب كسرى عند ذلك إلى ملك العرب النعمان بن المنذر :
  أمّا بعد : فوجّه إليّ برجل عالم بما اُريد أن أسأله عنه ،فوجّه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغسّاني ، فلمّا قدم عليه أخبره بما رأى ، فقال : علم ذلك عند خال يسكن مشارق الشام ، يقال له : سطيح ، قال : فإذهب إليه فسله وائتني بتأويل ما عنده ، فنهض عبد المسيح حتّى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت ، فسلّم فلم يحر جواباً ، فأنشأ عبد المسيح أبياتاً فيها ما أراده منه ، ففتح سطيح عينيه ثمّ قال : عبد المسيح على جمل مسيح إلى سطيح وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان : لإرتجاس الاَيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وإنتشرت في بلادها ، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة ، وظهر صاحب الهراوة ، وفاض وادي السماوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار فارس ، فليس الشام لسطيح شاماً ، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات ، وكلّ ما هو آت آت ، ثمّ قضى سطيح مكانه .

---------------------------
(1) إرتجس : إضطرب وتحرك حركة سُمع لها صوت ( لسان العرب 6 : 95 ).
(2) المؤبذان ( بضم الميم وفتح الباء ) : فقيه الفرس وحاكم المجوس ، ( القاموس المحيط 1 : 360 ) .
(3) المرزبة : كمرحلة ، رئاسة الفُرس ، وهو مرزبانهم أي أميرهم ورئيسهم ، ( انظر : القاموس المحيط 1 : 73 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 36 _

  فنهض عبد المسيح وقدم على كسرى وأخبره بما قال سطيح ، فقال : إلى أن يملك منّا أربعة عشر ملكاً كانت اُمور ، فملك منهم عشرة في أربع سنين والباقون إلى أمارة عثمان (1) ، ومن ذلك : ما رواه عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن رجاله قال : كان بمكّة يهوديّ يقال له يوسف ، فلمّا رأى النجوم تقذف وتتحرّك ليلة ولد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : هذا نبيّ قد ولد في هذه الليلة ، لاَنّا نجد في كتبنا أنه إذا ولد آخر الاَنبياء رجمت الشاطين وحجبوا عن السماء ، فلمّا أصبح جاء إلى نادي قريش فقال : هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا : قد ولد لعبد الله بن عبد المطّلب إبنٌ في هذه الليلة ، قال : فأعرضوه عليّ ، فمشوا إلى باب آمنة ، فقالوا لها : اخرجي إبنك ، فأخرجته في قماطه ، فنظر في عينه ، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء وعليها شعيرات ، فلمّا نظر إليه اليهوديّ وقع إلى الاَرض مغشيّاً عليه ، فتعجّبت منه قريش وضحكوا منه ، فقال : أتضحكون يا معشر قريش هذا نبيّ السيف ليبيرنّكم ، وذهب النبوة عن بني إسرائيل إلى آخر الاَبد ، وتفرّق الناس يتحدّثون بخبر اليهودي (2) .
  ومن ذلك : بشارة موسى بن عمران ( عليه السلام ) به في التوراة ، فلقد حدّثني من أثق به قال : مكتوب في خروج النبي من ولد إسماعيل ، وصفته هذه الاَلفاظ : لاشموعيل شمعشخوا هني بيراخت اُوثو هربيث ، اُتو هربتي واُتو بمادماد شينم آسور نسيئم وأنا تيتو الكوى كادل .
  وتفسيره : إسماعيل قبلت صلاته ، وباركت فيه ، وأنميته ، وكثّرت عدده بولد له إسمه محمّد ، يكون إثنين وتسعين في الحساب ، ساُخرج إثنا عشر إماماً ملكاً من نسله ، واُعطيه قوماً كثير العدد .

---------------------------
(1) كمال الدين : 191 / 38 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 8 ، تاريخ الطبري 2 : 166 ـ 168 ، دلائل النبوة للاصبهاني 1 : 174 ـ 177 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 126 ـ 129 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 97 ـ 100 ، وفيها بإختلاف يسير .
(2) تفسير القمي 1 : 373 و 374 ، كمال الدين : 97 ، وفيه بإختلاف يسير .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 37 _

  ومن ذلك : ما أخبر به الثقة أنه قرأ في الاِنجيل ـ ذكره الشيخ أبو جعفر إبن بابويه ( رحمه الله) في كتاب كمال الدين وتمام النعمة ـ : ( إنّي أنا الله الدائم الذي لا أزول ، صدّقوا النبيّ الاُميّ صاحب الجمل والمدرعة والتاج ـ وهي العمامة ـ والنعلين والهراوة ـ وهي القضيب ـ الاَكحل العينين ، الصلت (1) الجبين ، الواضح الخدّين ، الاَقنى (2) الاَنف ، المفلّج (3)الثنايا ، كأنّ عنقه إبريق فضّة ، كأنّ الذهب يجري في تراقيه ، له شعرات من صدره إلى سرّته ، ليس على بطنه وصدره شعر ، أسمر اللون ، دقيق المسربة (4) ، شثن الكفّ والقدم ، إذا إلتفت إلتفت جميعاً ، وإذا مشى كأنّما ينقلع من صخر وينحدر من صبب ، وإذا جاء مع القوم بذّهم ، عرقه في وجهه كاللؤلؤ ، وريح المسك تنفح منه ، لم ير قبله مثله ولا بعده ، طيّب الريح ، نكّاح للنساء ، ذو النسل القليل ، إنّما نسله من مباركة لها بيت في الجنّة ، لا صخب فيه ولا نصب ، يكفّلها في آخر الزمان كما كفّل زكريّا اُمّك ، له فرخان مستشهدان ، كلامه القرآن ، ودينه الاِسلام وأنا السلام ، طوبى لمن أدرك زمانه ، وشهد أيّامه وسمع كلامه ) ، قال : ( شجرة في الجنّة إنّما غرستها بيدي ، تظّل الجنان ، أصلها من رضوان ، ماؤها من تسنيم ، برده برد الكافور ، وطعمه طعم الزّنجبيل ، من يشرب من تلك العين شربة لم يظمأ بعدها أبداً ) ، فقال عيسى ( عليه السلام ) : ( اللّهم إسقني منها ) ، قال : ( حرام يا عيسى على النبيّين أن يشربوا منها حتّى يشرب ذلك النّبي ، وحرامٌ على الاُمم أن يشربوا منها حتّى تشرب اُمّة ذلك النبيّ ، أرفعك إليّ ثم اُهبطك في آخر الزمان لترى من اُمّة ذلك النبيّ العجائب ، ولتعينهم على اللعين الدجّال ، اُهبطك في وقت الصلاة لتصلّي معهم إنّهم اُمّة مرحومة ) (5) .

---------------------------
(1) الصلت : الواضح، ( لسان العرب 2 : 53 ) .
(2) القنا : أحديداب في الاَنف ، يقال رجل أقنى الاَنف وامرأة قنواء ، الصحاح ـ قنا ـ 6 : 2469 ) .
(3) المفلّج : الفلج في الأسنان : تباعد ما بين الثنايا والرباعيات ، ( العين 6 : 127 ) .
(4) المسربة : شعرات تنبت في وسط الصدر إلى أصل السرة ، ( العين 7 : 249 ) .
(5) كمال الدين : 159 / 18 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 38 _

  ومن ذلك : حديث سلمان الفارسي وأنّه لم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه ، ويبحث عن الاَسرار ، ويستدلّ بالاَخبار ، وينتظر قيام سيّد الاَولين والآخرين محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أربعمائة سنة حتّى بُشّر بولادته ، فلمّا أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي ، والخبر في ذلك طويل مذكور في كتاب كمال الدين (1) ، ومن ذلك : حديث تّبع الملك وقوله : سيخرج من هذه ـ يعني مكة ـ نبي يكون مهاجره يثرب ، وأخذ قوماً من اليمن فأنزلهم مع اليهود بيثرب لينصروه إذا خرج ، فهم الاَوس والخزرج ، وفي ذلك يقول تبع :
شـهدت  عـلى أحـمد iiأنه      رسول  من الله بارىء iiالنسم
فـلو مـدّ عمري إلى iiعمره      لـكنت وزيـراً له وابن iiعمّ
وكنت  عذاباً على iiالمشركين      وأسقيهم كأس خوف وغمّ(2)
  ومن ذلك : ما رواه أيضاً بإسناده عن عكرمة ، عن إبن عبّاس قال : كان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظّل الكعبة لا يجلس عليه أحد إجلالاً له ، وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج عبد المطلب ، فكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يخرج وهو غلام فيمشي حتّى يجلس على الفراش ، فيعظم ذلك على أعمامه ويأخذونه ليؤخّروه ، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا إبني فوالله إنّ له لشأناً عظيماً ، إنّي أرى أنّه سيأتي عليكم يوم وهو سيّدكم ، إنّي أرى غرّته غرّة تسود النّاس ، ثمّ يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبّله ، ويقول : ما رأيت قُبلة أطيب منه ولا أطهر قطّ ، ثمّ يلتفت إلى أبي طالب ـ وذلك أنّ أبا طالب وعبد الله لاَُم ـ فيقول : يا أباطالب ، إنّ لهذا الغلام لشأناً عظيماً فإحفظه وإستمسك به فإنّه فردٌ وحيدٌ ، وكن له كالاُم لا يوصل إليه بشيء يكرهه ، ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به اُسبوعاً ، وكان عبد المطلب قد علم أنّه يكره اللات والعزّى فلا يدخله عليهما .

---------------------------
(1) كمال الدين : 161 / 21 .
(2) كمال الدين : 170 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 39 _

  فلمّا تمّت له ستّ سنين ماتت اُمّه آمنة بالاَبواء بين مكّة والمدينة ، وكانت قدمت به أخواله من بني عدي ، فبقي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يتيماً لا أب له ولا اُمّ ، فإزداد عبد المطلب له رقّةً وحفظاً ، وكانت هذه حاله حتّى أدرك عبد المطّلب الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب فجاءه ومحمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على صدره وهو في غمرات الموت فصار يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب أنظر أن تكون حافظاً لذلك الوحيد الّذي لم يشمّ رائحة أبيه ولا ذاق شفقة اُمّه ، أنظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك ، فإنّي قد تركت بنيّ كلّهم ووصيتك به لاَنّك من اُمّ أبيه ، يا أبا طالب إن أدركت أيّامه فإعلم أنّي كنت من أبصر النّاس ومن أعلم الناس به ، وإن إستطعت أن تتبعه فافعل ، وانصره بلسناك ويدك ومالك ، فإنّه والله سيسود ويملك ما لم يملك أحدٌ من بني آبائي .
  يا أبا طالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ولا اُمّه على حال اُمّه ، فاحفظه لوحدته ، هل قبلت وصيّتي ؟ قال : نعم قد قبلت والله على ذلك شاهد ، قال عبد المطّلب : فمدّ يدك إليّ، فمدّ يده إليه فضرب يده على يده ، ثمّ قال عبد المطلّب : الآن خفّف عليّ الموت ، ثمّ ضمّه إلى صدره ولم يزل يقبّله ويقول : أشهد أنّي لم اُقبّل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً منك ، ويتمنّى أن يكون قد بقي حتّى يدرك زمانه ، فمات عبد المطلّب وهو إبن ثمان سنين ، فضمّه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه حتّى بلغ ، لا يأتمن عليه أحداً (1) .
  ومن ذلك : حديث سيف بن ذي يزن ، والرواية بذلك مشهورة ، عن أبي صالح ، عن إبن عبّاس قال : لمّا ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة ـ وذلك بعد مولود النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بسنتين ـ وفد العرب وأشرافها إليه وفيهم : عبد المطلب بن هاشم واُميّة بن عبد شمس ، وعبد الله بن جذعان ، وأسد بن خويلد ، ووهب بن عبد مناف ، وغيرهم من وجوه قريش ، فقدموا عليه صنعاء فاستأذنوا وهو في قصر ، يُقال له غمدان ، وهو الذي يقول فيه اُميّة بن أبي الصلت :

---------------------------
(1) كمال الدين : 171 / 28 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 40 _

إشرب  هنيئاً عليك التاج iiمرتفعاً      في رأس غمدان دار منك محلالاً
  ثمّ ساق الحديث إلى أن قال : فأرسل إلى عبد المطّلب فأدنى مجلسه ثمّ قال : يا عبد المطّلب إنّي مفض إليك من سرّ علمي أمراً لو كان غيرك لم أبح به إليه ولكنّي رأيتك معدنه فأطلعتك عليه ، فليكن عندك مطويّاً حتّى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره ، إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي إخترناه لاَنفسنا واُخبرناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، للناس عامّة ولرهطك كافّة ، ولك خاصّة ، فقال عبدالمطلب : مثلك أيّها الملك قد سرّ وبرّ فما هو ؟ فداك أهل الوبر زمراً بعد زمر ، فقال : إذ ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامّة كانت له الاِمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة ، فقال عبد المطّلب : أبيت اللعن ، لقد إبْتُ بخير ما آب بمثله وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من أسراره ما أزداد به سروراً ، فقال إبن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد فيه ، إسمه محمد ، يموت أبوه واُمّه ويكفله جدّه وعمّه ، وقد ولد سراراً ، والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منّا أنصاراً ، يعزّ بهم أولياءه ويذلّ بهم أعداءه ، يضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الاَرض ، يكسّر الاَوثان ، ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ، ويدحر الشيطان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله .
  فقال عبد المطّلب : أيّها الملك عزّ جدّك ، وعلا كعبك ، ودام ملكك ، وطال عمرك ، فهل الملك سارّي بإفصاح فقد أوضح لي بعض الاِيضاح ؟ فقال إبن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات على النصب ، إنّك يا عبد المطّلب لجدّه غير كذب ، قال : فخرّ عبد المطلب ساجداً ، فقال له : إرفع رأسك ثلچ صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئاً ممّا ذكرته ؟ فقال : كان لي إبن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً ، فزوّجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام فسمّيته محمّداً ، مات أبوه وامّه وكفّلته عمّه .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 41 _

  قال إبن ذي يزن : إنّ الذي قلت لك كما قلت لك ، فإحتفظ بإبنك ، وإحذر عليه اليهود فإنّهم له أعداد ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً ، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرّهط الذي معك فإنّي لست آمن أن تدخلهم النّفاسة من أن تكون له الرّئاسة ، فيطلون له الغوائل وينصبون له الحبائل ، وإنهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شكّ ، ولولا أنّي أعلم أنّ الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتّى أصير بيثرب دار ملكه ، فإنّي أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أنّ يثرب دار ملكه ، فيها إستحكام أمره ، وأهل نصرته ، وموضع قبره ، ولولا أنّي أخاف فيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات ، لاَعلنت على حداثة سنّه أمره في هذا الوقت ، ولأوطأت أسنان العرب عقبه ، ولكنّي سأصرف ذلك إليك عن غير تقصير منّي بمن معك .
  قال : ثمّ أمر لكلّ رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلّتين من البرود ومائة من الاِبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضّة وكرش مملوءة عنبراً ، قال : وأمر لعبد المطّلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال : إذا حال الحول فائتني ، فمات إبن ذي يزن قبل أن يحول الحول ، قال : فكان عبد المطّلب كثيراً ما يقول : يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنّه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه ، فإذا قيل : وما هو ؟ قال : ستعلمنّ نبأ ما أقول ولو بعد حين(1) ، وقد روى هذا الحديث الشّيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب دلائل النبوّة من طريقين(2) ، ومن ذلك : حديث بحيراء الراهب ، فقد أورد محمّد بن إسحاق بن يسار قال : إنّ أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير إنتصب له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأخذ بزمام ناقته وقال : ( يا عمّ إلى من تكلني لا أب لي ولا اُمّ لي ؟ ) ، فرقّ له أبو طالب فقال : والله لاَخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا اُفارقه أبداً ، فخرج وهو معه .

---------------------------
(1) كمال الدين : 176 / 34 ، كنز الفوائد 1 : 187 ، دلائل النبوة للاصبهاني 1 : 114 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 125 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 191 / 11 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 9 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 42 _

  فلمّا نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيراء في صومعة له ، وكان أعلم أهل النصرانية ، وكان كثيراً ما يمرّون به قبل ذلك لا يكلّمهم ولا يعرض لهم ، فلمّا نزلوا ذلك العام قريباً من صومعته صنع لهم طعاماً ، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظلّه من بين القوم ، ثمّ أقبلوا حتّى نزلوا بظلّ شجرة قريباً منه ، فنظر إلى الغمامة حتّى أظلّت الشجرة ، وتهصّرت (1)أغصان الشجرة على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى إستظلّ تحتها ، فلمّا رأى ذلك بحيراء نزل من صومعته ـ وقد أمر بذلك الطعام فصنع ـ ثمّ أرسل إليهم فقال : إنّي صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش وإنّي اُحبّ أن تحضروا كلّكم صغيركم وكبيركم ، وحرّكم وعبدكم ، فقال له رجل منهم : يا بحيراء إنّ لك اليوم لشأناً ، ما كنت تصنع لنا هذا الطعام وقد كنّا نمرّ بك كثيراً ، فما شأنك اليوم ؟ فقال له بحيراء : صدقت قد كان ما تقول ، ولكنّكم ضيفٌ ، وقد أحببت أن اُكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلّكم ، فإجتمعوا إليه وتخلّف رسول الله( صلّى عليه وآله وسلّم ) من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة ، فلمّا رأى بحيراء القوم لم يجد الصفة التي يعرف فقال : يا معشر قريش لا يتخلّف أحد منكم عن طعامي هذا ، قالوا له : ما تخلّف عنّا أحد ينبغي له أن يأتيك إلاّ غلامٌ هو أحدث القوم سنّاً تخلّف في رحالهم ، قال : فلا تفعلوا ، اُدعوه حتّى يحضر هذا الطعام معكم ، فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزّى إنّ هذا اللوم بنا أن يتخلّف إبن عبد المطّلب عن الطعام من بيننا ، قال : ثمّ قام إليه فإحتضنه ثمّ أقبل به حتّى أجلسه مع القوم ، فلمّا رآه بحيراء جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد يجدها عنده في صفته ، حتّى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرّقوا قام بحيراء فقال له : يا غلام أسألك باللات والعزّى إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه ، وإنّما قال ذلك بحيراء لاَنّه سمع قومه يحلفون بهما ، فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لا تسألني باللات والعزّى ، فوالله ما أبغضت كبغضهما شيئاً قطّ ، فقال بحيراء : فوالله إلاّ أخبرتني عمّا أسألك .

---------------------------
(1) تهصّرت : أي تدلّت عليه أغصانها ، ( انظر : النهاية 5 : 264 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 43 _

  فقال : سلني عمّا بدا لك ، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من( 1) نومه وهيئته واُموره ، فجعل رسول الله( صلّى عليه وآله وسلّم ) يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيراء من صفته ، ثمّ نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده ، قال : لمّا فرغ منه أقبل على عمّه أبي طالب فقال : ما هذا الغلام منك ؟ قال : إبني ، قال بحيراء : وما هو بإبنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّاً ، قال : فإنّه إبن أخي ، قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات واُمّه حبلى به ، قال : صدقت إرجع بإبن أخيك إلى بلده وإحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت منه ليبغيّنة شرّاً ، فإنّه كائن لإبن أخيك هذا شأن فاسرع به إلى بلده .
  فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتّى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام ، فزعموا أنّ نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمّه أبي طالب أشياء فأرادوه فردّهم عنه بحيراء وذكّرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنّهم إن أجمعوا بما أرادوه لم يخلصوا إليه ، ولم يزل بهم حتّى عرفوا ما قال لهم وصدّقوه بما قال وتركوه وانصرفوا ، وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدته الدالية ـ أوردها محمّد بن إسحاق بن يسار ـ :

---------------------------
(1) سيرة إبن اسحاق : 73 ، وانظر كذلك : كمال الدين : 183 / 35 ، الخرائج والجرائح 1 : 71 / 130 ، سيرة إبن هشام 1 : 191 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 27 ، تأريخ الطبري 2 : 277 ، دلائل النبوة للاصبهاني 1 : 211 | 108 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 44 _

إنّ ابـن آمـنة ( النبي ) (1) iiمحمّداً      عـنـدي بـمـثل مـنـازل iiالاَولادِ
لـمّـا تـعـلّق بـالـزّمامِ iiرحـمتهُ      والـعيشُ  قد ( قلصن ) (2) بالاَزوادِ
( فارفضِّ ) (3) من عينيّ دمعٌ ذارفٌ      مـثـل  الـجـمانِ مـفرّد iiالاَفـرادِ
راعـيـتُ  فـيه قـرابة iiمـوصولة      وحـفـظتُ فـيه وصـيّة iiالاَجـدادِ
وأمـرتـه  بـالسيرِ بـين iiعـمومةٍ      بـيـضُ الـوجوِه مـصالت iiأنـجادِ
ســاروا  لاَبـعـد طـيّة iiمـعلومةٍ      ولـقـد  تـبـاعد طـيّـة iiالـمرتادِ
حـتى إذا مـا الـقوم بُصرى iiعاينوا      لا قـوا عـلى شـرفٍ من iiالمرصادِ
حـبـراً فـأخبرهم حـديثاً iiصـادقاً      عــنـه وردّ مـعـاشر iiالـحـسّادِ
قـوماً يـهوداً قـد رأوا مـا قد iiرأى      ظـلّ  ( الغمام وغرّ ذا الاكبادِ )  (4)
( سـاروا ) (5) لـقتل محمّدٍ iiفنهاهم      عنه  وأجهد أحسن الاِجهاد (6)  (7)
  وأمثال ماذكرناه كثيرة ، لو قصدنا إيراد جميعها لخرجنا من الفرض المقصود بهذا الكتاب .

---------------------------
(1) كذا في نسخنا ، وفي ديوان شيخ الاباطح ، وكتاب شعر إبي طالب : الامين ، وهي الصواب ، لإن رسول الله( صلّى الله عليه وآله ) كان لم يبعث بعد حين قال أبو طالب ( رحمه الله ) تعالى هذا الشعر ، كما ان هذا البيت برواية ابي هفان ورد هكذا :
ان الأمين محمّداً في iiقومه      عندي يفوق منازل الاولاد
(2) قلصن : إرتفعن ونهضن للمسير ( انظر : لسان العرب 7 : 81 ) .
(3) إرفضّ : سال وتفرّق ، ( اُنظر : لسان العرب 7 : 81 ) .
(4) كذا في نسخنا وفي سيرة إبن إسحاق : وغرّ ذي الاكياد ، إلاّ أن الصواب ما ورد في ديوان شيخ الاباطح ، وشعر أبي طالب لأبي هفان حيث ورد بهذا الشكل : ظل الغمامة ناغري الاكباد ، لوضوح العبارة وصحة كلماتها ، فالرواية المعروفة تذكر بان غمامة واحدة كانت تظل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وهو منطقي ومعقول ، فالفرد الواحد تكفيه غمامة واحدة ، فما جدوى أكثر منها ، ومن تظل ، ثمّ ان باقي الكلام الوارد في العجز اعلاه لا معنى له عكس ما جاء في الديوانين لانه يوفي بالغرض الذي جاء من أجله .
فالنغر شدة الغيظ، وحيث يقال للرجل الذي يغلي جوفه من الغيظ رجل ناغر ( اُنظر : الصحاح ـ نغر ـ 2 : 833 ) أي ان اليهود لعنهم الله تعالى كانوا ينظرون إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والغمامة تظله واجوافهم تضطرم غيظاً وغضباً .
(5) في الديوانين : ثاروا ، وفي سيرة إبن إسحاق كما في كتابنا .
(6) في الديوانين : التجهاد ، وفي سيرة إبن إسحاق موافق لما في كتابنا .
(7) اُنظر : سيرة إبن إسحاق : 76 ، شعر إبن طالب وأخباره : 63 ، ديوان شيخ الاباطح : 33 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 45 _

  وأمّا ما ظهر منه ( صلوات الله عليه وآله ) عقيب البعث وإظهار النبوّة من الآيات والمعجزات فضربان :
  أحدهما : هذا القرآن الذي أنزله الله سبحانه عليه وأيّده به .
  والآخر : غيره من المعجزات .
  فوجه الإستدلال من القرآن : أنّ كلّ عاقل سمع الاَخبار وخالط أهلها قد علم ظهور نبيّنا ( عليه وآله السلام ) وإدّعاءه الرسالة من الله إلينا ، وأنّه تحدّى العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يده وإدعى انه إختصه الله به ، وان العرب مع تطاول الاَزمان لم يعارضوه ، إذا ثبت ما ذكرناه ، وعلمنا أنهم إنما لم يعارضوه لتعذّر المعارضة عليهم فهذا التعذّر معجز خارق للعادة ، فأمّا الذي يدلّ على أنّه ( عليه السلام ) تحدّى بالقرآن فهو أنّ المراد بالتحدّي أنّه كان يدّعي أنّ جبرئيل يهبط عليه بذلك ، وأنّ الله سبحانه قد أبانه به ، وهذا معلوم ضرورة وهو غاية التحدّي في المعنى ، وأيضاً : فأنّ آيات القرآن صريحة في التحدّي وهي قوله تعالى : ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ) (1) وفي موضع آخر : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (2) .
  وأمّا الذي يدلّ على إنتفاء المعارضة منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة لوجب ظهورها ونقلها ، فإذا لم تنقل وجب القطع على إنتفائها ، وإنّما قلنا ذلك لاَنّ جميع ما يقتضي نقل القرآن من قوّة الدواعي وشدّة الحاجة وقرب العهد ثابتٌ في المعارضة ، بل المعارضة تزيد عليه ، لاَنّها كانت تكون الحجّة والقرآن شبهة ، ونقل الحجّة أولى من نقل الشبهة ، وكيف لا تنقل المعارضة لو كانت وقد نقلوا كلام مسيلمة مع ركاكته وبعده عن الشبهة ، فإنّ ادّعي ان المانع من النقل هو الخوف من أهل الاِسلام وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم ، فجوابه : أنّ الخوف لا يقتضي إنقطاع النقل على كلّ وجه ، وإنّما يمنع من التظاهر به ، ألا ترى أنّ فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف الشديد من بني اُميّة والرهبة من التظاهر بها ، وكان يجب أن ينقل ذلك أعدادالاِسلام أو يكون نقلاً مكتوماً فيما بينهم .

---------------------------
(1) هود 11 : 13 .
(2) البقرة 2 : 23 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 46 _

  وأيضاً فإنّ الكثرة في الاِسلام كانت بعد الهجرة ، فكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة ، وإذا نقلت وانتشرت لم تكن قوّة الاِسلام موجبة بعد ذلك لخفائها إلاّ أن يدعى أنّ المعارضة لم تقع في تلك المدّة وإنّما وقعت بعد الهجرة ، وفي ذلك كفاية في إعجاز القرآن وثبوت خرق العادة به ، على أنّ الاِسلام وإن قوي حينئذٍ بالمدينة ، فقد كانت لاَهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة ، ومملكة الفرس كانت ثابتة لم يزل ، وممالك الروم وغيرها من البلاد إلى هذه الغاية عريضة ، فكان يجب ظهور المعارضة في هذه البلاد ، وأمّا الذي يدّل على أنّ إنتفاء المعارضة كان للتعذّر إنّا قد علمنا أنّ كلّ فعل يرتفع من فاعله مع توفّر دواعيه إليه وقوّة بواعثه عليه فإنّه يدلّ على تعذّره ، فإذا ثبت ذلك وعلمنا أنّ العرب تُحدّوا بالقرآن ولم يعارضوه مع شدّة حاجتهم إلى المعارضة وقوّة دواعيهم ، علمنا أنّها متعذّرة عليهم ، فإذا إنضاف إلى ذلك أنّهم قد تكلّفوا الاُمور الشاقّة من الحرب وغيره ممّا لو بلغوا غاية مرادهم فيه لم يكن لهم بذلك حجّة ، اتّضح الاَمر في أنّهم قد تعذّرت المعارضة عليهم ، هذا وقد دعاهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى المعارضة وهم ذوو الأنفة والحميّة ، وطالبهم بالرجوع عن دياناتهم ، والنزول عن رئاستهم ، والبراءة من آبائهم وأسلافهم وأبنائهم ، ومجاهدة من خالف دينه وإن كان من أنسابهم وأقربائهم ، وعلموا أنّ بالمعارضة يزول ذلك كلّه ويبطل ، فأيّ داع أقوى من هذا ؟ وكيف لا يكونون مدعوّين إليها وقد تحمّلوا ضروباً من الكلف والمشاقّ كالمحاربة وبذل الاَموال ونظم الهجاء ، مع أنّ كلّ ذلك لا يغني ، فلو تيسّرت لهم المعارضة لبادروا إليها ، إذ كانت أسهل ممّا تكلّفوه وتحمّلوه وأحسم للمادّة من كلّ ما فعلوه .
  وأمّا الذي يدلّ على أنّ تعذّر المعارضة كان على وجه الاِعجاز هو أنّ ما يمكن أن يدّعى في ذلك أن يقال أنّه ( عليه السلام ) كان أفصحهم فتأتّى له ما لم يتأت لهم ، أو يقال : إنّه تعمّل زماناً لم يكن طويلاً فلم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضتة ، فإذا بطل هذان الوجهان لم يبق إلا أنّ هذا التعذّر غير معهود ، فهو خارق للعادة ، والذي يدلّ على فساد الوجه الاَول : أنّ المطلوب في المعارضة ما يقارب الفصاحة ، والاَفصح يقاربه في كلامه وفصاحته من هو دون طبقته ، فإذا لم يماثلوه ولم يقاربوه فقد انتقضت العادة ، وأيضاً فإنّ الاَفصح إنّما تمتنع مساواته ومجاراته في جميع كلامه أو أكثره وليس تمتنع مجاراته ومساواته في البعض منه على من هو دون طبقته ، بهذا جرت العادة ،

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 47 _

ولهذا فقد ساوت الطبقة المتأخّرة من الشعراء الطبقة المتقدمة منهم في البيت والاَبيات ، وربما زادوا عليهم في القليل ، وإذاكان التحدّي وقع بصورة قصيرة من عرض القرآن فكونه أفصح لا يمنع من مساواته في هذا القدر اليسير ، وأيضاً فليس يظهر من كلامه ( عليه السلام ) فصارحة تزيد على فصاحة غيره من القوم ، ولو كان أفصحهم وكان القرآن من كلامه لظهرت المزيّة في كلامه على كلّ كلام في الفصاحة كما ظهرت مزيّة القرآن .
  وأمّا الذي يدلّ على فساد الوجه الثاني ـ وهو إنّه تعمّل زماناً طويلاً ـ : فهو أنّه كان ينبغي أن يتعمّلوا مثله فيعارضوه به مع امتداد الزّمان ، فإذا ثبت أنّ التعذّر خارق للعادة فلابدّ من أحد أمرين : إمّا أن يكون القرآن نفسه خرف العادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه ، وإمّا أن يكون الله تعالى صرفهم عن معارضته ولولا الصرف لعارضوه ، وأيّ الاَمرين كان ثبتت معه صحّة النبوّة ، لاَنّ الله تعالى لا يصدق كاذباً ، ولا يخرق العادة لمبطل ، ولو ذهبنا نَصِفُ ما سطَّره المتكلّمون في هذا الباب من الكلام وما فيه من السؤال والجواب لطال به الكتاب ، وفيما ذكرنا ههنا مقنع وكفاية لذوي الاَلباب .

في ذكر بيان بعض معجزات النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
  وأما المعجزات الباهرة الدلاه على نبوته ـ التي هي سوى القرآن ـ فكثيرة أثبتنا متونها وحذفنا أسانيدها لإشتهارها بين الخاص والعام وتلقي الاَمّة إياها بالقبول التام : فمنها : مجيء الشجرة إليه ، ذكرها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خطبته القاصعة قال :

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 48 _

  ( لقد كنت معه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يا محمّد إنّك قد إدّعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبيّ ورسولُ ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحرٌ كذّاب ، فقال لهم : وما تسألون ؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ): إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل ذلك بكم أتؤمنون وتشهدون بالحقّ ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّي ساُريكم ما تطلبون وإنّي لاَعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح في القليب ومن يحزّاب الأحزاب ، ثمّ قال : أيّتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أنّي رسول الله فإنقعلي بعروقك حتّى تقفي بين يدّي بإذن الله، فالذي بعثه بالحقّ ، لإنقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتّى وقفت بين يدي رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مرفوفة ، وألقت بغصنها الاَعلى على رأس رسول الله وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّاً وإستكباراً : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً فكادت تلتف برسول الله ، فقالوا كفراً وعتوّاً : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه ، فأمره ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فرجع ، فقلت أنا : لا إله إلا الله ، إنّي أوّل مؤمن بك يا رسول الله ، وأوّل من آمن بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقاً لنبوّتك وإجلالاً لكلمتك ، فقال القوم : بل ساحرٌ كذّاب ، عجيب السحر ، خفيف فيه ، وهل يصدّقك في أمرك غير هذا ؟ ! يعنونني )(1) .
  ومنها : خروج الماء من بين أصابعه ، وذلك أنّهم كانوا معه في سفر فشكوا أن لا ماء معهم وأنّهم بعرض التلف وسبيل العطب فقال : ( كلاّ إنّ معي ربّي عليه توكّلت ) ثمّ دعا بركوة فصبّ فيها ماء ما كان ليروي رجلاً ضعيفاً ، وجعل يده فيها فنبغ الماء من بين أصابعه ، وصيح في الناس فشربوا وسقوا حتّى نهلوا وعلّوا وهم اُلوف وهو يقول : ( أشهد أنّي رسول الله حقّاً )(2) .

---------------------------
(1) نهج البلاغة 2 : 183 / ذيل الخطبة 187 ، ونقلها المجلسي في بحار الاَنوار 17 : 389 / 59 .
(2) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 28 / 17 ، وكشف الغمة 1 : 23 ـ 24 ، وصحيح البخاري 4 : 234 ، والاَنوار في شمائل النبي المختار 1 : 105 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 27 / 10 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 49 _

  ومنها : حنين الجذع الذي كان يخطب عنده ( صلوات الله عليه ) ، وذلك أنّه كان في مسجده بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس ، فلمّا كثر الناس إتّخذوا له منبراً ، فلمّا صعده حنّ الجذع حنين الناقة فقدت ولدها ، فنزل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فضمّه إليه ، فكان يئنّ أنين الصبيّ الذي يُسكت (1) .
  ومنها : حديث شاة اُمّ معبد ، وذلك أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لمّا هاجر من مكّة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن ارُيقط اللّيثي ، فمرّوا على اُمّ معبد الخزاعيّة ، وكانت إمرأة برزة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة ، فسألوا تمراً ولحماً ليشتروه ، فلم يصيبوا عنده شيئاً من ذلك ، وإذا القوم مرمّلون ، فقالت : لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى ، فنظر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في كسر خيمتها فقال : ( ما هذه الشاة يا اُمّ معبد ) ؟ قالت : شاة خلّفها الجهد عن الغنم ، فقال : ( هل بها من لبن ) ؟ قالت : هي أجهد من ذلك ، قال : ( أتأذنين في أن أحلبها ) ؟ قالت : نعم بأبي أنت واُمّي إن رأيت بها حلباً فاحلبها ، فدعا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالشّاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال : ( اللّه بارك في شاتها ) فتفاجت (2) ودرّت، فدعا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بإناء لها يريض الرهط (3) فحلب فيه ثجّاً (4) حتّى علته الثمال (5) ، فسقاها فشربت حتّى رويت ، ثم سقى أصحابه فشربوا

---------------------------
(1) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 165 / 255 ، ومناقب إبن شهر آشوب 1 : 90 ، وكشف الغمة 1 : 24 ، وصحيح البخاري 4 : 237 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 556 و 561 ، والوفا باحوال المصطفى 1 : 322 و 323 ، والاَنوار في شمائل النبي المختار 1 : 134 / 145 .
(2) تفاجت : أي فتحت ما بين رجليها ، انظر ( الصحاح ـ فجج ـ 1 : 333 ) .
(3) يريض الرهط : قال إبن الاَثير في النهاية ( 2 : 277 ) : وفي حديث أم معبد ( فدعا بإناء يريض الرهط ) أي يرويهم بعض الري ، من أراض الحوض إذا صب فيه من الماء ما يوار أرضه .
(4) ثجّاً : أي انصب بشدة ، انظر : ( العين 6 : 13 ) .
(5) الثمال : بالضم ، جمع ثمالة ، وهي الرغوة ، وقد أثمل اللبن أي كثرت ثمالته ، الصحاح ـ ثمل ـ 4 : 1649 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 50 _

حتّى رووا ، فشرب ( عليه السلام ) آخرهم وقال : ( ساقي القوم آخرهم شرباً ) ، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل حتّى أراضوا ، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء ، فغادوا عندها ثمّ إرتحلوا عنها .
  فقلّما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزاً عجافاً هزلى مخهنّ قليل ، فلمّا رأى اللبن قال : من أين لكم هذا والشاة عازب ولا حلوبة في البيت ؟ قالت : لا والله ، إلاّ أنّه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت ، الخبر بطوله (1) .
  ومنها : خبر سراقة بن جعشم الذي إشتهر في العرب ، يتقاولون فيه الاَشعار ، ويتفاوضونه في الديار ، أنّه تبعه وهو متوجّه إلى المدينة طالباً لغرتّه ليحظى بذلك عند قريش ، حتّى إذا أمكنته الفرصة في نفسه ، وأيقن ان قد ظفر ببغيته ، ساخت قوائم فرسه ، حتّى تغّيبت بأجمعها في الاَرض ، وهو بموضع جدب وقاع صفصف (2) ، فعلم أنّ الذي أصابه أمر سماوي ، فنادى : يا محمّد إدع ربك يطلق لي فرسي وذمّة الله عليّ أن لا أدلّ عليك أحداً ، فدعا له فوثب جواده كأنّه أفلت من انشوطة ، وكان رجلاً داهية وعلم بما رأى أنّه سيكون له نبأ ، فقال : اكتب لي أماناً ، فكتب له فإنصرف (3) ، قال محمّد بن إسحاق : إنّ أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتاً فأجابه سراقة :
أبا حكم واللات لو كنت شاهداً      لاَمـر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت  ولم تشكك بأنّ iiمحمداً      نـبيّ  وبرهان فمن ذا iiيكاتمه
---------------------------
(1) كشف الغمة 1 : 24 ، الثاقب في المناقب : 85 / 68 ، الطبقات الكبرى 1 : 230 ، مستدرك الحاكم 3 : 9 ، دلائل النبوة للاصفهاني 2 : 436 / 238 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 278 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 242 ، صفة الصفوة 1 : 137 ، البداية والنهاية 3 : 192 ، الاصابة 4 : 497 ، ونقله عنه المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 43 / 30 .
(2) الصفصف : المستوي من الاَرض ( الصحاح ـ صفف ـ 4 : 1378 ) .
(3) الكافي 8 : 263 / 378 ، الخرائج والجرائح 1 : 23 / 1 ، مناقب إبن شهر آشوب 1 : 71 ، كشف الغمة 1 : 25 ، دلائل النبوة للاصبهاني 2 : 426 ، اُسد الغابة 2 : 264 ، الكامل في التاريخ 2 : 105 ، البداية والنهاية 3 : 185 ، بإختلاف في بعضها ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 17 : 387 / 53 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 51 _

عـليك  بـكفّ الناس عنه فإنّني      أرى أمره يوماً ستبدو معالمه (1)
  وروي : أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يقول لاَبي بكر : ( أله الناس عنّي فإنّه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب ) فكان أبو بكر إذا سئل : ما أنت ؟ قال : باغ ، فإذا قيل من الذي معك ؟ قال : هاد يهديني (2) .
  ومنها : حديث الغار ، وأنّه ( عليه وآله السلام ) لمّا أوى إلى غار بقرب مكّة يعتوره النزّال (3)ويأوي إليه الرعاء متوجهه إلى الهجرة ، فخرج القوم في طلبه ، فعمى الله أثره وهو نصب أعينهم ، وصدّهم عنه وأخذ بأبصارهم دونه وهم دهاة العرب ، وبعث سبحانه العنكبوت فنسجت في وجه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فسترته ، وآيسهم ذلك من الطلب فيه ، وفي ذلك يقول السيّد الحميري في قصيدته المعروفة بالمذهّبة :
حـتّى  إذا قصدوا لباب iiمغاره      ألفوا  عليه نسيج غزل iiالعنكب
صـنع  الاِلـه له فقال iiفريقهم      ما في المغار لطالب من مطلب
ميلوا وصدّهم المليك ومن iiيرد      عـنه الـدفاع مليكه لا iiيعطب

---------------------------
(1) دلائل النبوة للاصبهاني 2 : 435 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 489 ، البداية والنهاية 3 : 186 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 17 : 387 / 54 .
(2) كشف الغمة 1 : 26 ، الطبقات الكبرى 1 : 234 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 489 .
(3) يعتوره النزّال : يرتاده المسافرون والمارّون بكثرة ، انظر ( العين 2 : 237 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 52 _

  وبعث الله حمامتين وحشيّتين فوقعتا بفم الغار ، فأقبل فتيان قريش من كلّ بطن رجل بعصيّهم وهراواهم وسيوفهم ، حتّى إذا كانوا من النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقدر أربعين ذراعاً تعجّل رجل منهم لينظر من في الغار ، فرجع إلى أصحابه فقالوا له : ما لك لا تنظر في الغار ؟ فقال : رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد ، وسمع النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ما قال ، فدعا لهنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفرض جزاءهنّ فانحدرن في الحرم .
  ومنها : كلام الذئب ، وذلك أنّ رجلاً كان في غنمه يرعاها ، فأغفلها سويعة من نهاره ، فعرض ذئب فأخذ منها شاة ، فأقبل يعدو خلفه فطرح الذئب الشاة ثم كلّمه بكلام فصيح فقال : تمنعني رزقاً ساقه الله إليّ ، فقال الرجل : يا عجباً الذئب يتكلم ! فقال : أنتم أعجب وفي شأنكم للمعتبرين عبرة ، هذا محمّد يدعو إلى الحقّ ببطن مكّة وأنتم عنه لاهون ، فأبصر الرجل رشده وأقبل حتّى أسلم وأبقى لعقبه شرفاً لا تخلقه الاَيّام يفخرون به على العرب والعجم يقولون : إنّا بنو مكلّم الذئب (1) .
  ومنها : كلام الذراع ، وهو أنّه اُوتي بشاة مسمومة أهدتها له امرأة من اليهود بخيبر ، وكانت سألت أيّ شيء أحبّ إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من الشاة ؟ فقيل لها : الذراع ، فسمّت الذّراع ، فدعا ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أصحابه إليه فوضع يده ، ثمّ قال : ( إرفعوا فإنّها تخبرني أنّها مسمومة ) ، ولو كان ذلك لعلّة الإرتياب باليهوديّة لما قبلها بدءاً ولا جمع عليها أصحابه ، وقد كان ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تناول منها أقلّ شيء قبل أن تكلِّمه فكان يعاوده كلّ سنة حتّى جعل الله ذلك سبب الشهادة ، وكان ذلك باباً من التمحيص ليُعلم أنّه مخلوق وعبد (2) .

---------------------------
(1) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 25 / 5 ، وكشف الغمة 1 : 26 ، والطبقات الكبرى 1 : 228 ، ودلائل النبوة للاصبهاني 2 : 419 / 220 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 482 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 17 : 392 / 2 .
(2) انظر : كنز الفوائد 1 : 173 ، والخرائج والجرائح 1 : 27 / 13 ، ومناقب إبن شهر آشوب 1 : 91 ، والثاقب في المناقب : 80 / 64 ، وكشف الغمة 1 : 27 ، ودلائل النبوة للبيهقي 4 : 259 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 53 _

  ومنها : أن أصحابه ( صلوات الله عليه وآله ) أرملوا وضاقت بهم الحال وصاروا بمعرض الهلاك لفناء الاَزواد يوم الاَحزاب ، فدعاه رجل من أصحابه إلى طعامه فإحتفل القوم معه ، فدخل وليس عند القوم إلاّ قوت رجل واحد أو رجلين ، فقال رسول الله ( صلّى عليه وآله وسلّم ) : ( غطّوا إناءكم ) ثمّ دعا وبرّك عليه وقدّمه والقوم اُلوف فأكلوا وصدروا كأن لم يسغبوا قطّ شباعاً رواءً ، والطعام بحاله لم يفقدوا منه شيئاً (1) .
  ومنها : أنّه إجتمع إليه فقراء قومه وأصحابه في غزوة تبوك وشكوا الجوع ، فدعا بفضلة زاد لهم ، فلم يوجد لهم إلاّ بضع عشرة تمرة فطرحت بين يديه ، فانحفل القوم فوضع يده عليها وقال : ( كلوا بسم الله) فأكل القوم حتّى شبعوا وهي بحالها يرونها عياناً (2) .
  ومنها : أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ورد في هذه الغزاة على ماء لا يبل حلق واحد والقوم عطاش ، فشكوا ذلك إليه فأخذ سهماً من كنانة فدفعه إلى رجل من أصحابه ثمّ قال له : ( أنزل فاغرزه في الركي (3) فنزل فغرزه فيه ففار الماء وطما إلى أعلى الركي ، فإرتوى القوم للمقام والظعن وهم ثلاثون ألفاً ، ورجال من المنافقين حضور الاَبدان غائبو العقول ) (4) .

---------------------------
(1) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 27 / 14 ، ومناقب إبن شهر آشوب 1 : 103 ، ودلائل النبوة للبيهقي 3 : 443 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 26 / 7 .
(2) انظر : كنز الفوائد 1 : 170 ، والخرائج الجرائح 1 : 28 / 15 ، والثاقب في المناقب : 52 / 19 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 27 / 8 .
(3) الركي : جمع ركية ، وهي البئر ، انظر ( العين 5 : 402 ) .
(4) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 28 / 16 ، والثاقب في المناقب : 45 / 7 ، ودلائل النبوة للبيهقي 4 : 112 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 54 _

  ومنها : ان ظبية كلّمته حين وقعت في شبكة فقالت : يا رسول الله إنّ لي طفلاً يحتاج إلى لبن وإنّي قد وقعت في هذه الشبكة فخلّني حتّى اُرضعه ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( كيف اُخلّيك وصاحب الشبكة غائب ) ؟ قالت : إنّي أرجع ، فخلاّها وجلس حتّى رجعت الظبية وجاء صاحبها فشفّع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى خلّى سبيلها ، فإتّخذ القوم من ذلك الموضع مسجداً (1) .
  ومنها : أنّ قوماً شكوا إليه ملوحة مائهم وأنّهم في جهد من الظمأ وبعد المناهل ، وأن لا قوّه لهم على شربه ، فجاء معهم في جماعة أصحابه حتّى أشرف على بئرهم فتفل فيها ثمّ إنصرف ، وكانت مع ملوحتها غائرة ، فإنفجرت بالماء العذب الفرات ، فها هي يتوارثها أهلها ويعدّونها أسنى مفاخرهم وأجلّ مكارمهم ، وإنّهم لصادقون ، وكان ممّا أكّد الله به صدقه ، أنّ قوم مسيلمة سألوه مثلها لمّا بلغهم ذلك ، فأتى بئراً فتفل فيها فعادت ماؤها ملحاً اُجاجاً كبول الحمار ، وهي إلى اليوم بحالها معروفة المكان (2) .
  ومنها : أنّ إمرأة أتته بصبيّ لها ترجو البركة بأن يمسّه ويدعو له ، وكانت به عاهة ، فرحمها ـ والرحمة صفته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ فمسح يده على رأس الصبيّ فإستوى شعره وبرىء داؤه ، وبلغ ذلك أهل اليمامة فأتت مسيلمة امرأة بصبيّ لها فمسح رأسه فصلع وبقي نسله إلى يومنا هذا صلعاً (3) .

---------------------------
(1) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 37 / 41 ، ودلائل النبوة للاصبهاني 2 : 485 ، ودلائل النبوة للبيهقي 6 : 34 ، والفا بأحوال المصطفى 1 : 335 (1) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 28 / 18 ، ومناقب إبن شهر آشوب 1 : 117 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 28 / 11 .
(2) أورده الراوندي في الخرائج والجرائح 1 : 29 / 19 ، وإبن شهر آشوب في المناقب 1 : 116 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 8 / 8.
(3) انظر : كنز الفوائد 1 : 171 ، والخرائج والجرائح 1 : 29 / 20 ، ومناقب إبن شهر آشوب 1 : 120 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 55 _

  ومنها : أنّ قوماً من عبد القيس أتوه بغنم لهم فسألوه أن يجعل لها علامة تذكر بها ، فغمز إصبعه في اُصول آذانها فابيضّت ، فهي إلى اليوم معروفة النسل ظاهرة الأمر (1) .
  ومنها : حديث الإستسقاء ، وأنّ أهل المدينة مطروا حتّى أشفقوا من خراب دورها وإنهدام بنيانها ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( اللّهم حوالينا ولا علينا ) فانجاب السحاب عن المدينة وأطاف حولها مستديراً كالاِكليل والشمس طالعة في المدينة والمطر يهطل على ما حولها ، يرى ذلك ظاهراً مؤمنهم وكافرهم ، فضحك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى بدت نواجذه وقال : ( لله درّ أبي طالب لو كان حياً قرّت عيناه ، من ينشدنا قوله ؟ ) ، فقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله كأنّك أردت قوله :
وأبيض  يستسقى الغمام آل بوجهه      ثمال (2) اليتامى عصمة للاَرامل
يـطوف بـه الهلاّك من آل هاشم      فهم عنده في نعمة وفواضل (3) ii

---------------------------
(1) انظر : كنز الفوائد 1 : 171 ، والخرائج والجرائح 1 : 29 / 20 ، ومناقب إبن شهر آشوب 1 : 120 .
(2) الثمال بالكسر : الغياث ، يقال ثمال قومه ، أي غياث لهم يقوم بأمرهم ( الصحاح ـ ثمل ـ 4 : 1649 ) .
(3) أمالي المفيد : 301 / 3 ، أمالي الطوسي 1 : 73 بزيادة ، الخرائج والجرائح 1 : 29 / 21 ، الثاقب في المناقب : 89 صدر الحديث ، المصنف للصنعاني 3 : 91 / 4910 ، صحيح البخاري 2 : 35 ، صحيح مسلم 2 : 612 / 897 ، سنن أبي داود 1 : 304 / 1174 ، سنن البيهقي 3 : 353 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 140 نحوه .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 56 _

  ومنها: أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أخذ يوم بدر ملء كفّه من الحصباء فرمى بها وجوه المشركين وقال : ( شاهت الوجوه ) فجعل الله سبحانه لتلك الحصباء شأناً عظمياً ، لم تترك من المشركين رجلاً إلاّ ملأت عينيه ، وجعل المسلمون والملائكة يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون كلّ رجل منهم منكباً على وجهه لا يدري أين يتوجّه يعالج التراب ينزعه من عينيه(1) .
  ومنها : أمر ناقته حين إفتقدت فأرجف المنافقون وقالوا : ينبئنا بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ! فلمّا خاف ( صلوات الله عليه وآله ) على المؤمنين وساوس الشيطان دلّهم عليها ووصف لهم حالها والشجرة التي هي متعلّقة بها ، فأتوها فوجدوها كما وصف (2) .
  ومنها : أنّ القمر إنشقّ له نصفين بمكّة في أوّل مبعثه ، وقد نطق به القرآن ، وقد صحّ عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : إنشق القمر حتّى صار فرقتين فقال كفّار أهل مكّة : هذا سحر سَحَرَكم به إبن أبي كبشة (3) ، انظروا السفّار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا ما رأيتم فهو سحر سحركم به ، قال : فسئل السفّار وقد قدموا من كلّ وجه فقالوا: رأيناه (4) .

---------------------------
(1) انظر : كنز الفوائد 1 : 169 ، وسيرة إبن هشام 2 : 280 ، ودلائل النبوة للاصبهاني 2 : 604 / 400 ، ودلائل النبوة للبيهقي 3 : 81 ، والكامل في التاريخ 2 : 126 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 72 / 26 .
(2) انظر : كنز الفوائد 1 : 170 ، وقصص الاَنبياء للراوندي : 308 / 380 ، والخرائج والجرائح 1 : 30 / 25 ، وسيرة إبن هشام 4 : 166 ، وتاريخ الطبري 3 : 106 ، والكامل في التاريخ 2 : 279 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 109 / 11 .
(3) ذكر إبن الاَثير في النهاية ( 4 : 144 ) : ان المشركين كانوا ينسبون النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى أبي كبشة ، وهو رجل من خزاعه خالف قريشاً في عبادة الاَوثان ، وعبد الشعرى العبور ، فلما خالفهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في عبادة الاَوثان شبهوه به .
(4) اُنظر : دلائل النبوة للاصفهاني 1 : 370 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 266 ، والوفا بأحوال المصطفى 1 : 273 ، وصفة الصفوة 1 : 91 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 17 : 357 / 13 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 57 _

   إستشهد البخاريّ في الصحيح بهذا الخبر في أنّ ذلك كان بمكّة(1) ، ومنها : أنّ رجلاً من أصحابه اُصيب بإحدى عينيه في بعض مغازيه فسالت حتّى وقعت على خدّه ، فأتاه مستغيثاً به ، فأخذها بيده فردّها مكانها ، فكانت أحسن عينيه وأصحّهما وأحدّهما نظراً(2) .
  ومنها : أن أبا براء ملاعب الاَسنّة كان به إستسقاء فبعث إليه لبيد بن ربيعة وأهدى له فرسين ونجائب ، فقال ( عليه السلام ) : ( لا أقبل هديّة مشرك ) ، قال لبيد : ما كنت أرى أنّ رجلاً من مضر يرد هديّة أبي براء ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ): ( لو كنت قابلاً هديّة من مشرك لقبلتها ) ، قال : فإنّه يستشفيك من علّة أصابته في بطنه ، فأخذ بيده حثوة من الاَرض فتفل عليها ثمّ أعطاه وقال : دفها بماء ثمّ اسقه إياّه فأخذها متعجّباً يرى أنّه قد إستهزأ به ، فأتاه فشربه ، وأطلق من مرضه كأنّما اُنشط من عقال (3).
  ومنها : شكوى البعير إليه عند رجوعه إلى المدينة من غزوة بني ثعلبة ، فقال : ( أتدرون ما يقول هذا البعير ) ؟ قال جابر : قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنّه يخبرني أنّ صاحبه عليه حتّى إذا أكبره وأدبره(4)وأهزله أراد نحره وبيعه لحماً ، يا جابر إذهب معه إلى صاحبه فأتني به ) ، قال : قلت : والله ما أعرف صاحبه ، قال : ( هو يدلّك ) ، قال : فخرجت معه حتى إنتهيت إلى بني حنظلة أو بني واقف ، قلت : أيّكم صاحب هذا البعير ؟ قال بعضهم : أنا ، قلت : أجب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : ( بعيرك هذا يخبرني بكذا وكذا ) ، قال : قد كان ذلك يا رسول الله ، قال : ( فبعنيه ) ، قال : هو لك .

---------------------------
(1) صحيح البخاري 6 : 178 .
(2) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 32 / 30 ، والثاقب في المناقب : 62 / 34 و 64 / 41 ، ودلائل النبوة للاصبهاني 2 : 621 / 416 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 8 / 9 .
(3) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 33 / 32 ، ومناقب ابن شهر آشوب 1 : 115 ، والمغازي للواقدي 1 : 350 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 22 / 50 .
(4) الدَبَر ( بالتحريك ) : الجرح الذي يكون في ظهر البعير ، وقيل : هو أن يقرح خف البعير ( النهاية 2 : 97 ) .