تأليف
امين الاسلام الشيخ ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من اعلام القرن السادس الهجري
( الجزء الاول )
تحقيق
مؤسسة آل البيت ( عليهم السلام ) لإحياء التراث

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


مقدّمة التحقيق
  الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين ، وبعد : فربما كان الخلاف العقائدي في فهم الإرتباط العضوي بين إستمرار الحكم الالهي في الارض ـ بين الفرق الإسلامية المختلفة ـ وعلله فيها ، هو المحور الاَساس الذي إبتنت عليه الإطروحات المختلفة في كتابة وتدوين التأريخ الاسلامي ، ووضع لبناته الاُولى ، وبالتالي ما ترتّب عليها من نتائج وحلقات تعرّضت جملة منها ـ إن لم يكن أكثرها ـ الى النقد والتجريح والرد ، وبشكل حاد وقاطع .
  فالإعتقاد المغلوط الذي وضع وأقام أول أركانه أتباع السقيفة والبيت الاموي من خلال مصادرتهم للحكم الالهي ودفعه قسراً عن أصحابه الشرعيين ، وبالتالي محاولتهم ـ وبترويج من بطانتهم والمقتاتين من فتات موائدهم ـ تركيز مفهومهم المنحرف بإقامة بنيان فاسد قبالة البنيان المقدَّس الذي أقامه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بأمر من الله تعالى ، كلّ ذلك كان هو المدخل الكبير الذي قامت عليه الاطروحة الهادفة إلى تجريد أهل البيت ( عليهم السلام ) من درهم الكبير ، وقطبيتهم المركوزة بأمر السماء ، والذاهبة ـ أي تلك الاطروحة ـ إبتداءً الى القول بان إستمرار هذا الحكم الالهي في الاَرض مرتبط بوجود وإستمرار الاُمّة فحسب ، متجاهلةًً عمداً الدلائل المقطوع بها ، والقائلة بأن حياة الأُمة وديمومتها ، وبالتي إستقامة مناهجها وصواب مسيرتها ، مرتبط بشكل عضوي ومحسوم بالوجود المقدّس لإهل بيت النبوة ( عليهم السلام ) وقائم بقيامهم (1) .

---------------------------
(1) لا غرو في ذلك ، فان الكثير من الدلائل والشواهد القاطعة التي تعرضت لايضاحها كتب الأصحاب تدل على حقيقة هذا الامر دلالة لا يسع أحد إنكارها أو مناقشتها ، فهم ( عليهم السلام ) سفينة حطة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، وهم الامان لاهل الارض ، وهم النجوم التي يضل دون الإهتداء بها ، والإسترشاد بنورها ، بل وهم الذين أمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أمته بان تنزلهم منزلة الرأس من الجسد ، وغير ذلك من الاحاديث والاخبار المنبئة بان مركز الامة وقطبها هم أهل بيت النبوة ( عليهم السلام ) لا غير ، فتأمل .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 2 _

ومن ثم دأبَ أصحاب تلك النظرية وسعوا سعيهم لتضييق هذا المفهوم وحصره في اُضيق حدوده المنظورة ليدور في فلك الحكّام والملوك ، وبالتالي كلّ ما يرتبط بهم ، ويتصل بسياساتهم ، وكأنهم قد أمسوا المراكز الاساسية التي تنطلق من خلالها حقائق الوجود ، ومناهجه الكبرى ، فأغرق كاتبو ذلك التأريخ ما سطّروه من صفحات كتبهم التأريخية بتفاصيل ودقائق واسفافات سقيمة لحياة هؤلاء الحكّام والسلاطين ، متجاوزين أوسع وأعظم الحلقات الكبرى التي تشكّل قطب وجود الاُمم ، ومركز ديموتها ، بالدليلين العقلي والنقلي .
  نعم ، فاذا إعتبرنا بان كتابه التأريخ واحدة من أجلّ العلوم والمعارف الانسانية التي تعمل على مد الجسور والصلات الحياتية ـ بمفرداتها المختلفة ـ والفكرية ، وربطها بالحاضر المعاش ، وحيث ينبغي ان تكون صورة منعكسة صادقة عن واقع الاحداث الدائرة حول مراكزها الحقيقية ، وأقطابها الحقيقية ، فإن الدور الذي لعبته دوائر القرار السياسي الحاكمة إبان إبتناء اللبنات الاولى لقيام هذا البنيان الكبير كان له الاثر الكبير في ترسيخ جملة من المفاهيم والقواعد المغلوطة التي أمست ـ بترويج وتكركيس وإقرار تلك المراكز لها ، والفراغ الذي أوجدته سياسة اولئك الحكام وأتباعهم ـ العيون الكبرى ، والنوافذ الواسعة المشرعة على الدهور السالفة ، والقرون الماضية ، والتي لا يسع الباحث إلاّ الإغتراف من بحرها ، والمخر في عبابها ، وإقتحام لججها ، ولا غرو في ذلك ، فإن من يستقرىء السنوات التي عاصرتها بدايات قيام المناهج التقليدية لكتابة التأريخ ـ بشقيها المتعلّقين بما يسمى بكتب المغازي من جانب ، والتاريخ العام من جانب آخر (1) ـ يجدها قد ولدت بين احضان وإحتواءات السياسة الاموية أو العبّاسية ، وبالتالي إتسامها بالمحاذرة اليقظة المتوجّسة من تجاوز الخطوط الحمراء التي كرّستها سياسة تلك الحكومتين ، وما يترتب على ذلك من تأثر ـ موافقاً كان أو مغلوباً على أمره ـ لا مناص من الجزم به ، وقع به رواة وقنوات النقل بين حلقات الزمن الغابر من جهة ، وبين الصفحات التي تسطّرها أيدي اولئك الكتّاب الخاضعين للموثّرين السابقين من جهة اخرى ،

---------------------------
(1) أردنا هنا بالتأريخ العام الشكل الاوسع في كتابة التأريخ الاسلامي ، لا ما يعرف عند المؤرّخين من أنه ما يشمل تأريخ العالم بأسره ، وحيث يُعد أوّل من كتب فيه اليعقوبي في منتصف القرن الثالث الهجري ، ثم تلاه إبن جرير الطبري المتوفى عام 310 هـ .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 3 _

فكان ما نراه من مؤلّفات وأسفار عجزت من أن تكون صادقة النقل ، وأمينة السرد ، ودقيقة الإستشراف ، نعم ، فإن من يتأمّل في حقيقة مناهج الرواد الاوائل ، والحقبة الزمنية التي عاصروها والمتمخّضة عن المتبنيات الفكرية التي نادت بها السلطة الحاكمة ، والتي وافقت أو أقسرت اولئك الرواد على تتبع خطواتها ، وتجنب حدودها ، كل ذلك يظهر بجلاء صواب وحقيقة ما ذهبنا اليه من تركيز المنهج الخاطىء في صياغة الحلقات الاساسية التي اإرتكز عليها البناء المعروف للتأريخ الإسلامي بروافده المتكاثرة المتفرعة عنه ، فاذا عرفنا بان المدينة المنورة كانت هي الموطن الاساس الذي إختص بالتأليف في المغازي قبل القرن الثاني للهجرة ، فان جيلاً من المؤلّفين والمصنّفين المشخّصين قد تصدوا لوضع الحجر الاساس في كتابة التأريخ الاسلامي بالكيفية التي أشرنا اليها ، منهم : عروة بن الزبير المتوفّى عام 93 هـ (1) .

---------------------------
(1) لا يخفى على أحد موقف عروة من أهل البيت عليهم السلام توافقاً مع موقف أبيه وأخيه عبدلله، حتى انه نُقل عنه مبادرته للخروج مع أصحاب الجمل لقتال علي عليه السلام ولكنه مُنع من ذلك لصغرسنه. بل وكان أيضاً من أشد المؤيِّدين لخالته عائشة، والمتحمِّسين لمواقفها من علي وأهل بيته عليهم السلام من جانب، ومن المنحازين إلى جانب الامومين في اُمورهم وأفعالهم من جانب آخر ، وحتّى انه قد نُقل عنه موقفه المؤيِّد لعبدالملك بن مروان في حربه مع أخيه عبدالله، كما يذكر ذلك المسعودي في مروجه (3: 113) حيث يقول: وكان عروة بن الزبير على رأي عمِّه عبدالملك بن مروان، وكانت كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج متصلة يأمره بتعاهد عروة ، وأن لا يسوءه في نفسه وماله ، فخرج عروة إلى الحجاج ، ورجع إلى أخيه فقال له : هذا خالد بن عبدالله بن خالد بن اُسيد ، وعمرو بن عثمان بن عفان يعطيانك أمان عبدالملك على ما أحدثت أنت ومن معك ! ! .
وللمرء أن يتصور انصياع هذا الرجل لعبدالملك وحكومته حتى في مخالفته لاخيه واتهامه بالاحداث ، مع ما يُعرف عن عبدالملك من فساد وإنحراف وحدة طبع وميل إلى الدماء ، كيف انه لا يكون منقاداً للسياسة الاموية في تحريف التأريخ وكتم الكثير من حقائقه ، وبالذات منها ما كان متعلِّقاً بأهل بيت العصمة ( عليهم السلام ) أصحاب الحق الذي إنتزعه منهم الامومين .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 4 _

  وابان بن عثمان بن عفان المتوفى عام 105 هـ (1) ، ومحمّد بن مسلم ، المعروف بإبن شهاب الزهري المتوفى عام 124 هـ (2) ، والذي عُرف عنه اسلوب المقارنة بين الأحاديث المختلفة لغرض إدماجها في حديث واحد ، حيث فتح الباب على مصراعيه لتسرّب الاَخبار التي يدسّها غير الموثوق بهم من المحدِّثين .
  ومحمّد بن إسحقاق بن يسار المتوفى عام 151 هـ (3) وغيرهم (4) ، نعم ، إن هذه البدايات المبكرة في تركيز مبدأ الاعراض عن الحقائق الثابتة والكبرى التي أوصى بها المشرّع المقدّس ، والتعامل معه تعاملاً يتراوح بين الاِعراض تارة ،

---------------------------
(1) هو إبن الخليفة عثمان ، وموقف أبيه المؤيد لبني اُمية أجلى من الشمس في رابعة النهار ، ولا يحتاج إلى مزيد شرح ، وكثير بيان ، بل تكفي مقولته المشهورة التي أدلى بها في محضر من الصحابة والتي رواها أحمد بن حنبل في مسنده ( 1 : 62 ) : لوان بيدي مفاتيح الجنة لاَعطيتها بني امية حتى يدخلوا من عند آخرهم ، ومن الطبيعي كان لابد ان يترك تعاطف أبيه المفرط مع الامويين ، بالإضافة الى الموقف المقصود والمبالغ به من قبل أركان هذه الاسرة بإتهام علي ( عليه السلام ) وتحميله مسؤولية قتل عثمان ، وإتخاذها ذرعة للطعن في خلافته ، أثراً بيّناً في حياة وتوجّهات أبان ، لا سيما وقد عمل والياً على المدينة لعبد الملك بن مروان ، فكان لابد ان يكون منهجه موافقاً للمنهج الذي سار عليه الاَمويون في سياستهم العامة المنحرفة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) .
(2) عرف عن الزهري إتصاله وميله الشديد للامويون ، وحيث كان صاحب شرطتهم ، ومن الملتصقين بهم حاكماً بعد حاكم ، وممن لم يبخل عليه الامويون بالعطاء والرعاية طيلة حياته ، وللمرء ان يتصور ماذا يعني رضا سدنة وحكام هذه الدولة عن مؤرخ يسطّر بقلمه الخطوط العامة للسيرة والتي ينبغي ان تتوافق ومناهجهم وسياستهم المتقدم ذكرها ،وإذا كان خالد بن يزيد القسري المعاصر للزهري يخاطبه ـ بعد ان طلب منه كتابة السيرة ، وقول الزهري له : انه يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب ، فأذكره ؟ ـ بقوله : لا ،إلا ان تراه في قعر الجحيم ! ! ( انظر : 22 : 21 ) ، فان خالد هذا كان متهماً بإعتماد سياسة اللين والرفق مع الشيعة ، وبسبب ذلك عزل عن ولاية العراق ، وولي بدلاً عنه يوسف الثقفي المعروف بحقده وبغضه وعدائه لهم ، فياترى ما عمد إليه الآخرون المتفانون في خدمة الدولة الاموية وحكّامها وسياساتها المعارضة لإهل البيت ( عليهم السلام ) ومنها تحريف الحقائق ، ودس ما يوافق المنهج المخالف لارادة السماء ومشيئتها المقدَّسة ؟ ! .
(3) رغم إن ابن إسحاق عمد في كتابه هذا الى التوسع والتفصيل خلافاً عما كان عليه السابقون من إعتماد تأريخ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) فحسب ، بل تجاوز ذلك الى تدوين تأريخ النبوة ايضاً ، وما يتصل بها ، وحتى وفاة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ثم إنه عمد أيضاً الى التعرض بشكل واضح وبيّن الى سيرة الامام علي ( عليه السلام ) ، إلاّ انه تعرّض أولاً للإتهام بكونه شيعياً ، ومن ثم تعرّض مؤلّفه هذا للضياع ، ثم ظهروه بعد ذلك بشكل مختصر ومشوه قام بجمعه عبد الملك بن هشام المتوفى 218 هـ ، فكان بالتالي موافقاً للمنهج الذي أشرنا إليه آنفاً .
(4) ليس ثمة شك بإن هناك البعض ممّن حاول أن يكتب ولو بعض ما يصح لديه من السيرة النبوية وما يتصل بها ، إلاّ ان ذلك لم يكن بالقدر المؤثّر في وقف التيار العام المندفع بقوة والذي تسيّره سياط الحكّام وأكياس دارهم ، فبقي أثرهم محدوداً ، وكتاباتهم متعثرة ، لا سيما والتلويح بتهمة التشيع وما يترتب عليها كانت تقف أمامهم بالمرصاد ، كحال أبي معشر وإبن سعيد الاموي وغيرهما .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 5 _

  والتعامل المشوب بالحذر والتتوجّس من الموقف السلطوي والعام المتأثر به تارة اُخرى (1) كوّنت بالتالي مدخلاً كبيراً للإيذان بفتح الاَبواب مشرعة أمام قيام المدارس التي تنتهج المبدأ السائد والمعروف في كتابة التأريخ بالشكل الذي جعله معرضاً للاَخذ والرد والنقاش ، ولم يوفّق بالتالي في اداء المهمة المقدّسة المتعلّقة به ، والمناطة بكتّابه .

---------------------------
(1) من يتأمّل المنهج الذي سارت عليه الدولة الاموية ـ منذ نزو معاوية بن هند على سدة الحكم وحتى طليلة تلاحق سلسلة الحكّام الامويين ـ يجد الكثير من الشواهد والحقائق الدالة على حقيقة هذا التوجه الخبيث الرامي الى دفع حالة الإستقطاب الكبرى لاَهل البيت ( عليهم السلام ) بواسطة سياسة حرف أنظار التأريخ وعيونه عن إعتمادهم كمراكز وأقطاب مقدّسة ـ يُدرس التأريخ وتقام صروحه من خلال آفاقها الواسعة ، ومعطياتها الكبرى التي أقامها لهم الشارع المقدّس ـ والمرتكزة في أوضح أبوابها على اسلوب الإرهاب والقتل والتشريد ، وذلك ليس بخاف على أحد ، نعم ، فإذا كان مصير حجر بن عدي وأصحابه ، ورشيد الهجري ، وعبد الله بن يقطر ، وميثم التمّار ـ الذي أظهر اسلوب قتله حقيقة السياسة الأموية التي أشرنا اليها بأوضح صورها ، وحيث صلب على نخلة ، ثم ألجم لما لم يكف عن التحدّث عن فضل أهل البيت ( عليهم السلام ) ومنزلتهم العظيمة ، وما يعنيه هذا من تركيز حاد لعيون التأريخ عليهم ، وبالتالي ابتناء المنهج الدي تخشاه الدولة الاموية ، ومن تبعهم من العبّاسيين ومن لف لفهم ـ وغيرهم القتل الذريع بايدي أزلام الدولة الاموية ، ومنفذي سياستها الوسخة ، فان زعيم هذه الدولة الفاسدة كان قد أقام لإتباعه اُسس هذا النظام ومناهجه من خلال ما عمّمه في كتابه الشهير الى عمّاله والذي ينص على أن : برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، قال إبن أبي الحديد المعتزلي بعد إشارته الى هذا الكتاب : فقامت الخطباء في كلّ كورة ، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ! ! ويبرءون منه ! ! ويقعون فيه وفي أهل بيته . . . ! ! وأضاف : وكتب معاوية الى عمّاله أن لا يجيزوا لاَحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وأن من قامت عليه البيّنة أنه يحبّ علياً فان إسمه يُمحى من الديوان ، ويُسقط عطاؤه ورزقه ، وأمّا من يُتهم بمولاة أهل هذا البيت إنه يُنكّل به ، وتُهدم داره . . . وللقارىء الكريم أن يتأمل في ما تعنيه سياسة تكميم الاَفواه هذه ، وما تشكّله من خطورة في حرف التأريخ ، وصرفه عن الحقائق الكبرى .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 6 _

  ولا مناص من القول بإن هذا المنهج ـ القائل بإنّ إستمرار الحكم الإلهي في الاَرض مرتبط بوجود الاُمة وإستمرارها ـ قد تضيّق بشكل واضح ، وبدت ملامح ذلك التضييق تظهر بشكل جلي بعد إنقضاء الحقبة الاُولى التي أشرنا اليها ـ والتي جهدت في تجاوز الكثير من الحقائق وإلاشارات المتعرّضة لإيضاح مركزية وقطبية أهل البيت ( عليهم السلام ) في الوجود الفكري والعقائدي الانساني ـ وحيث يرى الباحث والمستقرىء مناهجاً ، وان تفاوتت في بعض مفرداتها ، إلاّ انها تتوافق إجمالاً على تجسيد هذا المنهج غير السليم في كتابة التأريخ ، ودراسة أبعاده المختلفة ، ولا غرابة في ذلك ، إذ ان المؤرّخين الذين مثّلوا الحقبة التالية أو اللاحقة في كتابة التأريخ قد إعتمدوا كثيراً في نصوصهم المروية على ما وصلهم من كتب السير والمغازي التي أشرنا إليها آنفاً ، وأضافوا إليها ما يتوافق والمنهج العام الذي أمسى راسخاً ومتحكّماً في البنيان التأريخي الإسلامي ، لا سيما وان تلاحق الحكومات المعارضة لمنهج أهل البيت ( عليهم السلام ) هو الحاكم في غالب العصور التي شهدت ظهور تلك الكتابات ونشأتها ، وذلك مما كرّس بشكل أكبر تواصل إنحدار عجلات التأريخ كثيراً نحو مواطن الخطأ ، ومناهله المضطربة ، فكان ما نراه من تهافت سقيم يدور في حلقات هامشية تطنب في سرد حياة الملوك والسلاطين ، وليالي مجونهم وصخبهم ، وبإعتماد الخطوط العامّة التي سلف أن أقامت مرتكزاتها الاَساسية سياسة الامويين السيئة الذكر ، والتي تحدّثنا عن بعض مفرداتها لاحقاً .
  فاذا كان محمّد بن جرير الطبري المتوفى عام 310 هـ هو صاحب الكتاب التأريخي الذي أمسى المرجع الشهير الذي إستقت منه كتب التأريخ اللاحقة موادها وتراجمها المتعددة المختلفة ، فإنّا نراه كثيراً ما يعتمد على المصادر السالفة في كتابته لتأريخه ، مع إعتماده على جملة مما نقله عن شيوخه ورواة أخباره ، ودون فحص أو تمحيص في صحة الروايات وأسانيدها ، مع وقوعه الواضح تحت تأثير المنهج السالف الذي أشرنا اليه ، حيث يبدو ذلك جليّاً وواضحاً من خلال إستقراء بعض المواضيع الحسّاسة والهامة في التأريخ الاسلامي ،

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 7 _

والتي يمثّل بعضها الحجر الاَساس في الخلاف الواقع بين أهل البيت ( عليهم السلام ) من جانب ، ومخالفيهم ـ وعلى رأسهم الامويون ـ من جانب آخر ، كما في أحداث السقيفة ، وما ترتّب عليها من أحداث ونتائج ، حيث نراه قد أعرض عن تقصّي جوانب الاَحداث ، مكتفياً برواية سيف بن عميرة الذي إتفق أصحاب التراجم والسير على كذبه وتدليسه وفساده (1) مع تجاوزه عن ذكر الكثير من مفاسد الامويين ، وأفعالهم النكراء .
  ولمّا تكاملت الصورة بإعتبار أن هذا التأريخ يمثل أوسع وأشمل التواريخ لما ذكر من انه قد إستطاع ان يجمع بين دفتيه ما وصل إليه من الاَخبار المتفرّقة المودعة في الكتب المختلفة ، حديثية كانت أم تفسيرية ، بالإضافة الى كتب اللغة والاَدب والسير وغيرها ، ونسّق فيما بينها تنسيقاً لطيفاً ، وعرضها عرضاً جميلاً ، وبإسلوب المحدّثين كما هو مشهور عنه (2) ، فانه أمسى المرجع الذي إعتمدت على نقولاته وتراجمه معظم المراجع والكتب التي تلته ، كما فعل إبن الاثير ، وإبن خلدون ، وإبن مسكويه ، والمسعودي ، وغيرهم ، وهكذا نرى بوضوح جلي الإمتداد المتصاعد في تركيز القاعدة المفتعلة في بناء هيكلية كتابة التأريخ الاسلامي ، وضمن الأطر التي أقامتها السياسات السالفة نئياً به عن موطنه الحقيقية ، ومصادره السليمة ، فبدأ ـ رغم سعته ـ قاصراً عن ترجمة الدور المناط به ، والمتوقع منه بإعتماد الوصايا المتكررة

---------------------------
(1) ذكر ابن حجر في ترجمته ـ سيف بن عميرة ـ له: قال ابن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة: فليس خير منه، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي والدار قطني: ضعف ، وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الاثبات. وقال أيضاً: وقالوا: انه يضع الحديث، واتهم بالزندقة، وقال البرقاني: متروك، وقال الحاكم: اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط. والملفت للنظر اعتماد الطبري على هذا الراوي المطعون بوثاقته وفي دينه على أدق الاحداث التي وأعقدها في التأريخ الاسلامي، وبشكل يدفع فيه القارىء الى الامتعاض والاستهجان عند الوهلة الاولى، ولكنه عند اخضاعه الى المقياس السالف الذي أشرنا اليه يجده متوافقاً معه بشكل واضح وبيّن .
(2) ان ما ذهب إليه الطبري من أنه إعتمد إسلوب المحدثين في إيراده للروايات والاخبار مع اسانيدها ، ودون أي بحث أو تمحيص جعله في موضع نقد وتشكيك من قبل الباحثين والدارسين ، لإن إيراد هذه الاحداث بهذه الطريقة المغلوطة يثير في الاذهان سريانها على عموم الكتاب ومواده ، ولإنها خلاف ما ينبغي ان يكون عليه عمل المؤرخ البصير الذي يتصدى لتأليف مرجع يتعرض فيه الى أهم حلقات التأريخ الاسلامي ، وتفرعاتها المختلفة ، واذ تنصل الطبري من تبعة ما أورده من أخبار ، وحمل ناقليها مسؤولية ذلك ، فانه قد أتي بأسوء من فعله الاول ، إذ لا يسع عموم القراء إدراك صواب الأخبار من عدمه ، وضعف الراوي من وثاقته ، وكان الاولى به ان يتصدى هو لتحقيق ذلك ، طالما وقد قيل عنه انه كان ممعناً في التثقيف والتدقيق ، ومستجلياً للغوامض ، ومتبحراً في الكثير من العلوم والمذاهب ، حتى قيل انه أفتى الناس ببغداد عشر سنين . . . فأين هذا من ذاك ؟ ! بل والأكنى من ذلك ان يأتي من ينقل الكثير من الاخبار ـ صحيحها وموضوعها ـ عن هذا المصدر دون تعرض منه لرواتها وناقليها ، مكتفياً بإنه نقلها عن الطبري فحسب ، فتضاف الرواية الى الطبري لا الى الراوي ، ويؤخذ بها على انها من مصدر معتبر موثوق ، لا ان روايها ـ مثلاً ـ متروك مطعون بروايته كما في حال سيف بن عميرة وغيره .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 8 _

للشارع المقدَّس ، وتأكيداته المتكررة ، والمُقرَّة عقلاً ومنطقاً ، ومن هنا فقد كان لابد من أن تُترجم هذه الوصايا والتأكيدات بنتاجات تأريخية تقف ـ رغم شدة التيار المعاكس لها ـ كشواخص حية وصادقة في رسم الصورة الحقيقية التي ينبغي ان يعتمدها المؤرخون في كتابتهم لصفحات التأريخ ، وترجمتهم لوقائعه المختلفة ، ولعل من يستقرئ ـ إجمالاً ـ الاَزمنة التي يفترض لهذه الكتابات أن تعاصرها فانه يجدها في موقف حساس وخطير لا تحسد عليه ، طالما أن الخط العام الحاكم ـ سياسياً كان أم تقليداً فرضه حكم تقادم الاَيام والسنين ـ كان يقف الى حد ما بشكل مغاير لتوجهات ومتبنيات هذا المنهج السليم والصادق في كيفية دراسة التأريخ ، وطبيعة مرتكزاته الاَساسية ، وهذه كانت هي محنة مؤلّفات الشيعة الامامية التأريخية ، ومعوقها الكبير ، وهو ما جعلها تبدو للناظر أول وهلة محدودة النتاجات ، بسيطة الاستشراف والاحاطة بحلقات التأريخ المختلفة .
بيد ان اخضاع هذا التصور المتعجّل للواقع المذكور من جانب ، ومن جانبٍ دراسة مجمل ما كتبه الشيعة الامامية في هذا الميدان المقدّس والكبير ، وكيفية تعامل مؤلّفوها مع وقائع الاَحداث ، وترابطها الموضوعي مع الشريعة الاسلامية المباركة ، كلّ ذلك يدفع الباحث قسراً للإقرار بخلاف ما ذهب إليه ، والى اكبار واجلال تلك الجهود التي ترجمت ـ في رفد حركة البناء التأريخي ـ نواياها الصادقة من خلال جملة من المؤلّفات التأريخية المختلفة ، والتي يُعد الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم نموذجاً واحداً منها ، وأثراً مباركاً من آثارها وثمارها الطيّبة ، حيث أبدع يراع مؤلّفة أمين الاسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي ( رحمه الله) في كتابته وجمعه وتأليفه ، وستنعرض لإيضاح ذلك لاحقاً في مطاوي الصفحات اللاحقة بإذن الله تعالى .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 9 _

  مؤلّف الكتاب أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (1) ، يُعد بلا شك من أجلّة علماء الشيعة ومؤلّفيهم ، وممّن لم يختلف مترجموه في الإقرار بفضله وجلالته ، وتبحّره في شتى العلوم ، ووثاقته ، من أعلام القرن السادس الهجري ، ومن كبار مؤلّيفه الذين طبق صيتهم الآفاق ، وخلّفوا الكثير من الآثار المباركة في شتى المعارف والعلوم ، والتي أمست زاداً تقتات من عطائها الاَجيال المتلاحقة بثقة وإطمئنان ، بل ومراجعاً كبرى لا غنى للباحثين والدارسين عن إرتيادها والتزوّد من معارفها ، قال عنه الشيخ منتجب الدين الرازي : ثقة فاضل ، ديّن عين الفضل الطبرسي (2) ، وقال عنه الشيخ عبّاس القمي في سفينة البحار : العالم الجليل ، والكامل النبيل ، فخر العلماء

---------------------------
(1) نسبة الى طبرسان ، وهي بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الإسم من بلاد فارس ، وهي في البلاد المعروفة بمازندران ، والغالب على تلك النواحي الجبال .
وطبر : هو الذي تشقق به الاَحطاب وما شاكل بلغه الفرس ، واستان : الموضع أو الناحية ، ( انظر : معجم البلدان 4 : 13 ) ، ونسبة الطبرسي تطلق على العديد من العلماء والفضلاء ، ولكنها عند الإطلاق لا تنصرف إلاّ لصاحب الترجمة ، أو لإبنه أبي نصر الحسن ، صاحب كتاب مكارم الاخلاق ، وإن كانت تطلق في أحبان ما على معاصره أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب ، صاحب كتاب الإحتجاج المعروف .
(2) فهرست منتجب الدين : 144 / 336 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 10 _

الاَعلام ، أمين الملّة والاسلام الفضل الطبرسي (1) ، وفي نقد الرجال قال عنه السيّد التفريشي : فاضل ديّن عين ، من أجلاّء هذه الطائفة ، له تصانيف حسنة الفضل الطبرسي (2) ، وفي نقد الرجال قال عنه السيّد التفريشي : فاضل ديّن عين ، من أجلاّء هذه الطائفة ، له تصانيف حسنة (3) .
  وأمّا الخونساري فقد ترجم له في روضاته: الشيخ الشهيد السعيد، الحبر الفقيه الفريد، الفاضل العالم المفسّر، المحدّث الجليل، الثقة الكامل، النبيل الفاضل، العالم المفسّر، المحدّث الجليل، الثقة الكامل (4) ، وفي المقابس قال عنه الشيخ أسد الله الكاظمي : الشيخ الاَجل الاَوحد ، والاَكمل الاَسعد ، قدوة المفسّرين وعمدة الفضلاء المتبحّرين ، أمين الدين ابي علي(5) ، وترجم له الحر العاملي في أمل الآمل : الشيخ الامام ، أمين الإسلام ، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، ثقة فاضل ، ديّن عين ، له تصانيف ، وذكر جملة من تصانيفه (6) ،

---------------------------
(1) سفينة البحار 2 : 80 .
(2) نقد الرجال : 266 .
(3) روضات الجنات 5 : 357 / 544 .
(4) مقابس الانوار : 10 .
(5) أمل الآمل 2: 216 / 650 .
(6) أعيان الشيعة 8 : 398 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 11 _

  وقال عند السيّد الاَمين في أعيانه : وبالجملة ففضل الرجل وجلالته وتبحّره في العلوم ووثاقته أمر غني عن البيان (1) ، وأما الزركلي فقد ترجم له في أعلامه بأنه : مفسّر محقّق لغوي ، من اجلاّء الامامية ووصفه كحالة في معجمه بإنه : مفسّر ، مشارك في بعض العلوم ، وذكر جمله من آثاره (2) .

مشايخه :
  أخذ الشيخ الطبرسي ( رحمه الله ) وروى عن جملة من العلماء والفضلاء في عصره ، حيث تجد أسماءهم متناثرة في بطون كتبه ومؤلفاته المختلفة ، ولقد تصدى السيّد الامين ( رحمه الله ) لإستقصاء جملة منهم ، وأورد ذلك في كتابه القيّم أعيان الشيعة ، حيث ذكر :
1 ـ الشيخ أبو علي ابن شيخ الطائفة الطوسي .
2 ـ الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن علي المقرىء الرازي عن الشيخ الطوسي .
3 ـ الشيخ الاجل الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمّي الرازي ، جدّ منتجب الدين صاحب الفهرست .
4 ـ الشيخ الإمام موفق الدين غبن الفتح الواعظ البكر آبادي عن أبي علي الطوسي .
5 ـ السيّد ابو طالب محمّد بن الحسين الحسيني القصبي الجرجاني .
6 ـ الشيخ الإمام السعيد الزاهد أبو الفتح عبد الله بن عبد الكريم بن هوازن القشيري .

---------------------------
(1) الاعلام 5 : 148 .
(2) معجم المؤلفين 8 : 66 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 12 _

7 ـ الشيخ أبو الحسن عبيد الله محمّد بن الحسين البيهقي .
8 ـ الشيخ جعفر الدوريستي .

تلامذته والراوون عنه :
  روى عن الشيخ الطبرسي ( رحمه الله ) جملة من العلماء الاعلام ، والذين يمكننا حصر بعضهم بما يلي :
1 ـ ولده الحسن صاحب كتاب المكارم .
2 ـ الشيخ منتجب الدين .
3 ـ الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب .
4 ـ القطب الراوندي .
5 ـ الشيخ عبد الله بن جعفر الدوريستي .
6 ـ الشيخ شاذان بن جبرئيل القمي .
7 ـ السيّد مهدي بن نزار القائيني .
  وغيرهم ممن صرّحوا بكونهم من تلامذته أو ممّن عدّوه من شيوخهم .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 13 _

مصنّفاته :
  لقد خلّف الطبرسي ( رحمه الله) الكثير من المصنّفات والمؤلّفات القيّمة التي أشاد بقيمتها العلمية العلماء والمفكّرون ، وعدّوها من الآثار التي إزدانت بها المكتبة الإسلامية الكبرى ، ومن الذخائر المهمة التي أمست ـ بجدارة ـ مراجعاً هامة ينهل من عذب مائها الباحثون والدارسون ، ومن تلك الآثار :
1 ـ مجمع البيان في تفسير القرآن .
2 ـ الوسيط في التفسير .
3 ـ الآداب الدينية .
4 ـ تاج المواليد .
5 ـ الوافي في تفسير القرآن .
6 ـ غنية العابد .
7 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى ، وهو الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم .
8 ـ النور المبين .
9 ـ العمدة فى اُصول الدين والفرائض النوافل .
10 ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل .
  وغير ذلك من المصادر والمؤلّفات المختلفة التي نسبه البعض إليه ، ككتاب عدة السفر وعمدة الحضر ، وكتاب كنوز النجاح وغيرهما .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 14 _

وفاته :
  ذهبت معظم المصادر الى ان وفاته ( رحمه الله) كانت في مدينة سبزوار عام 548 هـ (1) ، وفي ليلة النحر من هذه السنة (2) ، ثم نقل نعشه الى مدينة مشهد حيث دفن في الموضع الذي يعرف بـ( قتلگاه ) (3) ، وقبره معروف يُزار بالقرب من المشهد المقدّس للإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) في مدخل شارع يُعرف بإسمه .

كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى :
  من الأسفار القيمة ، والكتب التأريخية المهمة ، عرض فيه مؤلفه ـ بأبوابه وفصوله المتعددة ـ فضائل وحياة أهل بيت العصمة والطهارة ( عليهم السلام ) وبشكل مرتّب ومنسق تنسيقاً دقيقاً .
  رتّب المؤلّف كتابه على أربعة أركان ، تتفرّع عنها أبواب وفصول متعددة ، تناول فيها بالتفصيل من خلال إستعراض حياة المعصوم ( عليه السلام ) مجمل ما يختص بالتأريخ المتصل به ، والمعاصر له ، خصص الركن الاول من كتابه لسيرة رسول الله( صلّى الله عليه وآله ) والاحداث الكبرى التي زاملت عصر الرسالة الاولى ، وبترتيب وتنسيق دقيقين ، تتبع من خلال ذلك معظم الجوانب المتصلة بحياة الرسول الاكرم ( صلّى الله عليه وآله ) والقضايا التي تربط إرتباطاً عضوياً بالعقيدة الإسلامية المباركة ، ومنها تأكيدات رسول الله( صلّى الله عليه وآله ) وتوجيهاته للاُمّة بوجوب التمسك بأهل بيته المعصومين ( عليهم السلام ) بإعتبارهم قرناء القرآن ، والامناء على الرسالة من بعده .

---------------------------
(1) ذكر صاحب كشف الظنون ( 3 : 223 ) :إن وفاته كانت عام إحدى وستين وخمسمائة .
(2) انظر : روضات الجنات 5 : 358 ، نقد الرجال : 266 ، أعيان الشيعة 8 : 400 .
(3) أي مكان القتل ، وقيل ان مرجع هذه التسمية هو ما وقع فيها من القتل العام الحادث بأمر عبد الله خان أفغان في أواخر الدولة الصفوية .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 15 _

حيث تناول معظم الإخبتار والروايات المتصلة به ، مستعرضاً من خلال ذلك الظروف والاحداث التي عاصرها أبان حضوره الظاهري ، منتقلاً منها الى ما رافق غيبتيه الصغرى والكبرى ، وما يتصل بهما ، والاحداث والوقائع التي ستصاحب ظهوره المنتظر بإذن الله تعالى ، وقد حاول المؤلف في كتابه هذا عرض الاخبار والاحداث بشكل مرتب ومنظم ، وبالصورة التي تساعد على رسم صورة واقعية للزمن الذي عاصرته هذه الاحداث ، ووفق المقاييس المرتكزة على جوهر العقيدة الإسلامية ، ومبانيها الواضحة والصحيحة ، وبإعتماد جملة من المراجع والمصادر المهمة والمعتبرة ، والتي يشكّل كتاب الإرشاد للشيخ المفيد ( رحمه الله ) واحداً منها ، وعموماً فإن هذا الكتاب يمثل خطوة رائدة في عملية كتابة التأريخ بالشكل الذي يرتكز إرتكازاً واضحاً وبيناً على المنهج المتفرع عن التوصيات المتكررة للمشرّع المقدس ، وإعتماداً على خطوطه العامة التي تقدمت منّا الإشارة اليها آنفاً .

بين إعلام الورى وربيع الشيعة :
  من يتأمل في متني كتابنا هذا ـ إعلام الورى ـ وربيع الشيعة المنسوب للسيد إبن طاووس ( رحمه الله ) يجد توافقاً غريباً ، وتطابقاً عجيباً بين الاثنين ، سواء في ترتيب الاَركان والاَبواب والفصول ، أو في المواضيع التي تناولتها هذه التقسيمات ، بإستثناء بعض الإختصارات المحدودة ، وإلاختلاف في خطبة الكتاب ، وهذا ممّا أثار إستغراب قرّاء الكتابين وتعجبهم ، ودفعهم للتفحُّص بدقة وعناية في علّة هذا التوافق ومصدره ، وهل إن هذين الإسمين لكتابين مختلفين ومؤلّفين اثنين ؟ أم هناك التباس دفع لهذه الشبهة وان العنوانين هما لكتاب واحد ، ولمؤلّف واحد ؟ أو لعل احدى هاتين التسميتين مضافة قهراً أو سهواً على هذه الكتاب ، وبالشكل الذي قد يدفع البعض للإعتقاد باثنينيتهما ؟ .
  نعم ، إن هذا الأمر وإن شكّل في أول وهلة حيرة عند الفضلاء والعلماء ، إلاّ أنّ البعض منهم لم يلبث أن قطع بعد الفحص والتأمُّل بان هذين الاَصلين يعودان ـ بلا أدنى شك ـ لكتاب واحد ، لإتحادهما الشامل ، وتوافقهما الكبير كما ذكرنا آنفاً ، ولمّا كانت نسبة كتاب إعلام الورى
.

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 16 _

  للشيخ الطبرسي ( رحمه الله) مقطوعاً بها ، وثابتة بشكل لا يرقى اليه الشك ، فان هذا الشك كان منصباً ومتوجهاً نحو الكتاب الآخر ـ إن تنازلنا وقلنا بعدم وحدتهما ـ وصحة نسبته للسيّد إبن طاووس ( رحمه الله) وهو الاَمر الذي لا يعسر على باحث ومتمرّس في عمله القطع بعدم صواب هذه النسبة وابطال شبهتها ولا غرو في ذلك ، فان التحقٍّق في مدى نسبة كتاب ربيع الشيعة للسيّد إبن طاووس ( رحمه الله) تظهر بجلاء وهن وضعف هذه النسبة التي لم يُثار إلاّ من خلال ما وجد على بعض نسخه التي تشير إلى انه من تصانيف السيّد علي بن طاووس فحسب ، وهذا الاَمر عند اخضاعه للبحث والتمحيص نجده لا يقف قطعاً أمام القرائن والدلائل المتعددة النافية لهذه النسبة ، وهذه التسمية .
  ولعلّ من تلك القرائن ـ كما ذكر ذلك الشيخ آقا بزرك الطهراني ( رحمه الله) ـ ان الممارس لبيانات السيد إبن طاووس لا يرتاب في أن ربيع الشيعة ليس له ، والمراجع له لا يشك في إتحاده مع إعلام الورى (1) ، نعم فإن للسيد إبن طاووس إسلوباً معلوماً ومنهجاً واضحاً في كتبه ومؤلفاته تجعل من نسبة هذا الكتاب إليه غريبة وشاذة ، بل وغير معهودة لما عرف عنه ، وتعاهد عليه الجميع ، ثم ان من تعرّض لجرد مؤلّفاته وكتبه ( رحمه الله ) لم يذهب الى نسبة هذا الكتاب إليه ، وكذا معظم من ترجم له ، إلاّ في حالات متشككّة ومتردّدة ، وفي هذا الاَمر ما يضعف أيضاً نسبة الكتاب اليه بل ولعل ممّا يقطع بإنتفاء هذه النسبة من جانب ، وكون النسختين لكتابين مستقلين من جانب آخر ، مسألة التطابق بين النسختين بالشكل الذي يدفع القارىء للقول بإن ما يقرأه كتاب واحد فحسب ، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتفق مؤلّفان في كتابين مستقلّين على جميع مواد كتابيهما ، وتفاصيل بحوثهما وأخبارهما إلاّ إذا عمد اللاحق الى إستنساخ ما كتبه السابق ثم قيامه بنسبة

---------------------------
(1) الذريعة 2 : 241 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 17 _

ما استنسخه اليه ، وهذا الفعل السيء لا يمكن بأي حال من الأحوال نسبته للسيّد ابن طاووس ( رحمه الله )لإنه محض وهم وإفتراء لا يليق توجيهه لعلم من أعلام الطائفة الكبار له الكثير من المؤلفات القيمة التي كانت وما زالت تزدان بها المكتبة الإسلامية العامرة ، فهذا الاَمر مستحيل الوقوع ، ومردود الافتراض(1) ، ومن هنا فقد كان لهذا التطابق الغريب بين هاتين النسختين الاثر الكبير في كيفية التعامل معهما، فاُخذ من الاول ـ أي الاعلام ـ وإعتمد عليه دون الثاني ، للقطع الحاصل بصحة انتساب الأول الى مؤلفه خلاف ما هو الثاني ، وهذا الاَمر هو الذي دفع العلاّمة المجلسي ( رحمه الله) الى التوقُّف عن نقل أي مورد عن ما يُعرف بكتاب ربيع الشيعة ، قال : وتركنا منها ـ أي من كتب ابن طاووس ـ كتاب ربيع الشيعة لموافقته لكتاب إعلام الورى في جميع الاَبواب والترتيب ، وهذا ممّا يقضي منه العجب (2) .
  ثم إن عين الحيرة هي التي أصابت الشيخ الكاظمي في تكملته ، حيث قال : وقد وقفت على إعلام الورى للطبرسي ، وربيع الشيعة لإبن طاووس ، وتتبعتهما من أولهما الى آخرهما ، فوجدتهما واحداً من غير زيادة ونقصان ، ولا تقديم ولا تأخير أبداً ، إلاّ الخطبة (3) ،

---------------------------
(1) ان المنطبق والبديهية ترفض وقوع مثل هذا الامر ، كما ان أي افتراض آخر يذهب الى اثنينية هذا الكتاب باطل قطعاً ، لا سيما وإن الطبرسي وإبن طاووس من أعلام الطائفة وجهابذتها ، ولا يمكن بأي حال من الاحوال ان يقع فيما بينهما هذا التداخل المردود ، فلاحظ وتأمل .
(2) بحار الاَنوار 1 : 31 .
(3) تكملة الرجال 1 : 11 ، بيد أن الشيخ الكاظمي لم يفطن لعلة هذا التوافق وسببه ، ولم تنقض حيرته من ذلك الاّ عند مطالعته لما كتبه العلاّمة المجلسي في بحاره ، ولكن ما ذهب اليه كان خلاف الواقع الذي أشرنا اليه ، وحيث ذهب رحمه الله الى تعددهما ، فراجع .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 18 _

إذن ما الذي أوقع هذا الإلتباس والحيرة في نسبة هذا الكتاب الى علمين كبيرين من أعلام الطائفة لكلِّ واحد منهما مؤلَّفاته وكتبه العديدة التي طبق صيتها الآفاق ، وتناقلتها الاَيدي من مكان الى مكان ، وكثر النقل عنها والرجوع من قبل الكتّاب والباحثين والمؤلِّفين ؟   والمستقرىء في مجمل هذه الشواهد والقرائن يقطع ـ بعد تسليمه بإن نسبة هذا الكتاب الى السيد إبن طاووس وبهذه التسمية باطلة وساقطة ـ بإن للنسّاخ الدور الأكبر في حصول هذا الأمر ووقوعه ، وإلى هذا الامر ذهب الشيخ الطهراني في ذريعته ، حيث قال بعد نفيه نسبة الكتاب إلى السيد إبن طاووس : وقد إحتمل بعض المشايخ كون منشأ هذه الشبهة أن السيد إبن طاووس حين شرع في أن يقرأ على السامعين كتاب إعلام الورى هذا حمد الله تعالى وأثنى عليه ، ( وصلّى على النبي وآله ) ( صلوات الله عليهم ) على ما هو ديدنه ، ثم مدح الكتاب وأثنى عليه بقوله : إن هذا الكتاب ربيع الشيعة ، والسامع كتب على ما هو ديدنه هكذا : يقول الامام ـ وذكر ألقابه وإسمه الى قوله ـ إن هذا الكتاب ربيع الشيعة ، ثم كتب كل ما سمعه من الكتاب الى آخره ، فظن من رأى النسخة بعد ذلك أن ربيع الشيعة إسمه ، وأن مؤلّفه هو السيد إبن طاووس (1) ، أو غير ذلك من الوجوه المحتملة في وقوع هذا الإلتباس دون علم السيد إبن طاووس به كما هو مقطوع به ، والخلاصة : إن ما يذكر من وجود كتاب للسيد علي بن طاووس يعرف بربيع الشيعة محض وهم وإشتباه لا يؤبه به ، وإن الأصل في ذلك هو كتاب إعلام الورى للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي فحسب ، وعلى ذلك توافق الدارسون والباحثون .

---------------------------
(1) الذريعة 2 : 241 / 957 ، كما ان العلاّمة النوري قد وافق في رأيه الشيخ الطهراني ، وأورد في تفسير ذلك شرحاً مستفيضاً في خاتمة لمستدرك الوسائل ، فليراجع إليها من طلب المزيد من البحث التفصيل .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 19 _

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
  الحمد لله الواحد الاَحد ، الفرد الصمد ، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ، تعالى عن الصاحبة والولد ، وإستغنى عن العُدد والعَدد ، وتقدّست عن شبه الخلائق صفته ، وإرتفعت عن مذاهب العقول عظمته ، وأعجزت غوامض الفكر جلالته ، ووضحت بالشواهد الساطعة حجّته ، وظهرت في كلّ شيء حكمته ، أحقَّ الحقَّ بما نصب من أعلامه ودلالاته ، وأوضح من حججه وبيّناته ، وأبطل الباطل بما أدحض من شبهاته ، وأبان عن مشبهاته ، وصلّى الله على عبده المجتبى ، ونبيّه المصطفى، خير الاَنبياء والمرسلين ، وأفضل الاَوّلين والآخرين ، البشير النذير ، الداعي بإذنه والسراج المنير ، سيّد سادات العرب والعجم ، محمّد بن عبدالله بن عبد المطلب ، وعلى أوصيائه وأصفيائه الاَئمة المهديّين المرضيّين المنتجبين من اُرومته (1) ، الحافظين لشريعته ، المعصومين من كلّ دنس ورجس ، المفضَّلين على كافّة الجنّ والاِنس ، الذين ينتجز الموعود يوم المآب بإنجازهم ، ولا يُجاز الصراط إلاّ بجوازهم ، فهم النمرقة(2)الوسطى ، من تقدّمهم مرق ، ومن تأخّر عنهم زهق ، ومن لزمهم لحق ، وهم كباب حطّة ، ومثل سفينة نوح من ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، وهم خاصّة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وصفوة عترته الذين قرن الله معرفتهم بمعرفته ، وجعل محبّتهم في الوجوب كمحبّته ، وهم دعائم الاِسلام ، وأئمّة الاَنام ، وحجج المهيمن السلام ، سرج في كلّ ظلام ، ودرج إلى كلّ مرام ، عليهم أفضل الصلاة والسلام ما لاح برق وإسستهلّ غمام ، وتوسّمت الرياض بفرادى نباتها والتوأم .

---------------------------
(1) الارومة : الاَصل ، ( لسان العرب 12 : 14 ) .
(2) النمرقة ( بضم النون والراء وبكسرهما ) : الوسادة ، وجمعها نمارق ، ( النهاية 5 : 118 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 20 _

  وبعد :
  فإنّ أشرف الكلام عند الخاصّ والعامّ ما وجّه إلى أشرف من حاز الله له رواء الملك إلى بهاء العلم ، وسناء الحلم ، وإمضاء الحكم ، لا زال مبرّاً على ملوك الاَرض وولاة النهي والاَمر بما آتاه من علوّ الشأن وجلالة القدر ، وميّزه بجلائل من المجد ( ودقائق من الشرف المعد ، وخواص من العدل ، وعوام من الفواضل والفضل )(1) ، لا يندرج أدناها تحت القدرة والاِمكان ، ولا ينال أقصاها بالعبارة والبيان ، وهذه صفة الاصفهبذ الاَجلّ ( الاَعظم ، الملك المؤيد العادل ) (2) شرف الدينا والدين ، ظهير الاِسلام والمسلمين ، ( تاج الملوك والسلاطين ، عضد الجيوش في العالمين ، قاهر الكفرة والمشركين ، قامع العتاة والمتمردين ، علاء الدولة ، وبهاء الملة ، مجد الاَُمة ، صفوة الخلافة ، قطب المعالي ) ملك مازندران ، خُسرو ايران ، اصفهبذ ، اصفهبذان ، شاه فرشواذكر (3) أبي الحسن عليّ بن شهريار بن قارن نصرة

---------------------------
(1) النمرقة ( بضم النون والراء وبكسرهما ) : الوسادة ، وجمعها نمارق ، ( النهاية 5 : 118 ) .
(2) قال المسعودي في الاَشراف والتنبيه (91) : الاصفهبذ : وهو أمير الجيوش ، وتفسيره حافظ الجيش ، لاَن الجيش ( اصبه ) و( بذ ) حافظ .
(3) خُسرو ( بضم الاَول وسكون الثاني وفتح الثالث ) : أي ملك وإمام عادل ، ( البرهان القاطع : 436 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 21 _

أمير المؤمنين ، أعلى الله شأنه ، ونصر سلطانه ، وحرس حوباه ، وطرّز بالنجح لواه ، إذ هو بإتّفاق الأوياء والاَعداء ، واصفاق القرباء والبعداء ، واحد الدهر ، وثمال (1) أهل العصر ، وغرّة الاَفلاك الدائرة ، وعمدة العترة الطاهرة .
  لا جرم قد ملّكه الله زمام الدهر ، وأنفذ حكمه في البرّ والبحر ، وشدّ به أزر الاِسلام ، ومهّد له أسباب المعدلة في الاَنام ، وجعل أيّامه للزمان أعياداً ومواسم ، وللاِِقبال مباهج ومباسم ، متّعه الله تعالى بجمال هذه الحال ، وأدام له في العباد والبلاد كرائم الاِِفضال ، ومواد النوال ، بلطفه وطوله وسعة جوده وفضله ، ثم إنّ خادم الدعاء المخلص بالولاء وإن سبق في ميدان الفضل فهو عكاشة غايته ، وبرز على فرسان العلم فهو عرابة رأيته وإن كان قد قصر وهمه وهمّه ، وجمع وكده (2) وكدّه ـ منذ خطّ الشباب بالمسك عذاره ، إلى أن وخط المشيب بالكافور أطراره (3) ـ على إقنتاء العلوم وجمع أفانينها (4) وضبط قوانينها حتى اصبح مقتطفاً من ثمار النحو والاَدب زواهرها وغررها ، مغترفاً من بحار اصول الدين وفروعه جواهرها ودررها ، فإنّ كلّ فاضل وإن بعد في الفضل مداه ، وبلغ من كلّ علم أقصاه ، إذا لم يتشرّف بتقبيل تراب الحضرة العالية الاِِصفهبذية العلائية ، أدام الله لها العلو والعلا والسمو والسنا والقدرة والبهاء ولم ينسب إلى جملة خدمها ، ولم يحسب في زمرة حشمها ، فهو ناقص عن حيّز الكمال ، عادل عن الحقيقة إلى المحال .

---------------------------
(1) الثمال : من يلتجأ إليه قومه وإليه يفزعون ، ( انظر : لسان العرب 11 : 94 ) .
(2) الوكد : الهم ، ( لسان العرب 3 : 467 ) .
(3) الطرة : الناصية ) ( الصحاح ـ طرر ـ 2 : 725 ) .
(4) الاَفانين : الاَساليب ، وهي أجناس الكلام وطرقه ) الصحاح ـ فنن ـ 6 : 2177 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 22 _

لاَنها الغايةُ القُصوى التي iiعجزتْ      عـنْ أنْ تـؤمٍّل إدراكاً لهم iiالهممُ
مـا يـستحقُّ ملوكُ الدهر iiمرتبةً      إلا لـصاحبها مِـنْ فـوقِها قـدَمُ
فـرأيهُ إنْ دَجا ليلُ الشكوكِ iiهُدى      وظلُّه إنْ خطا صرفُ الردى حَرمُ
فـلو عداالكرمُ الموصوفُ iiراحتَهُ      عـن  انْ يُجاورها لم يكرمِ iiالكرمُ
  جلالة الملك أدنى درجاته ، وحماية الدين أقلّ أدواته ، وإكرام ذوي الفضل من الاَنام وإصطناع الكرام والاِِنعام على الخاصّ والعامّ أشهر صفاته ، فالآمال منوطة به ، والهمم مصروفة إليه ، والثناء والحمد والشكر بأجمعها موقوفة عليه ، وإستقلّ بما عجزت الملوك عن حمل أعبائه ، وقام بما قعد الدّهر عن معاناة عنائه ، ( بهمةّ عليّة ) ، وعزيمة علانية وعقيدة علويّة ، فردّ سمل الدين جديداً ، وأعاد ذميم الاَيام حميداً ، بحق أوضحه ، وباطل فضحه ، وهدى أعاده ، وضلالٍ أباده :
فـلا إنتزعَ الله العدي حدَ بأسهِ      ولاإنتزعَ الله الهدي عزِّ iiنصرِهِ
واحـسنَ  عنْ حبِ النبي iiوآلهِ      ورعى سوام الدينِ توفيرُ شكرهِ
فـما يدركُ المداحُ ادنى iiحقوقِهِ      بـإغراقِ  منظومِ الكلامِ iiونثرهِ

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 23 _

  لاَن ادنى نِعَمِه يستغرق جميع الشكر ، وأيسر مننه يفوز مدى الوصف والذكر :
فكلّ أروعَ مِن آلِ ( الرسول عدا )(1)      جَـلانَ يـرفلُ مِـنْ نـعماهُ في iiحُلل
فَـلـو أجــابَ كـتابَ اللهِ iiسـائلهُ      منْ  خير هذاُ الورى لم يسمِ غيرَ iiعلي
  ولمّا عاق هذا الدّاعي المخلص عن ( ورود الحضرة )(2)العالية ، والوصول منها إلى رواق العز والجلال ، والإكتحال بتلك النهجة والجمال عوائق الزحال وعوادي الاُصول (3)أراد أن يخدمها بخدمة تبقى عوائدها على تعاقب الاَيام وتناوب الشهور والاَعوام ، فيؤلّف كتاباً يتضمّن أسامي الاَئمة الهداة والسادة الولاء واُولي الاَمر وأهل الذكر وأهل بيت الوحي ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، ويشتمل على تواريخ مواليدهم وأعمارهم ، وطرف من أخبارهم ومحاسن آثارهم ، والنصوص الدالّة على صحّة إمامتهم ، والآيات الظاهرة من الله عليهم الشاهدة لتمييزهم عمّن سواهم وإبانتهم عمّن عداهم ، ثمّ فكّر في ذلك وقدّر وتأمّل وتدبّر وقال : إذا كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هو الشجرة وهم أغصانها ، والدوحة وهم أفنانها ، ومنبع العلم وهم عيبته ، ومعدن الحكم وهم خزانته ، وشارع الدين وهم حفظته ، وصاحب الكتاب وهم حملته ، فهو أولى بان يقدّم في الذكر وتبيّن آياته الناطقة برسالاته وأعلامه الدالّة على نبوّته ومعجزاته القاهرة ودلالاته الباهرة ، فإستخار الله سبحانه في الابتداء به ، وإستعان به في إتمام ما قصده ،

---------------------------
(1) كان في المطبوع : النبي نجد .
(2) كان في المطبوع : الإستسعاد بخدمة حضرته .
(3) في المطبوع زيادة : والإنبساط لتقبيل بساطها ، والإنخراط في سلك سماطها ، والمرتوع في ظلال كرمها ، والشروع في مشارع حرمها .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 24 _

  وسمّاه كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى وجعله أربعة أركان :
الركن الاَول: في ذكر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
والركن الثاني : في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
والركن الثالث : في ذكر الاَئمة من أبنائه من الحسن بن علي الرضيّ إلى الحسن بن علي الزكي ( عليهم السلام ) .
والركن الرابع : في إمامة الاَئمة الاثني عشر والاِِمام الثاني عشر ( عليهم السلام ) .
  وكلّ ركن منها يتضمّن أبواباً وفصولاً تزهر بما فيها من مكنون العلم ومخزون الحكم ، مفصولاً وموصولاً ، وإنّ من أولى الاُمور وأصوبها عند الجمهور أن تحلّى مسائل العقائد على أجلّ معتقديها ، وتعرّض فرائد الجواهر على أكمل منتقديها ، والمأمول المسؤول من الرّأي العالي أعلاه الله أن يغدق على هذه الكريمة الجسيمة ويسبل على هذه الرّسلة العقلية النيلة جناح القبول ، لينال الدّاعي المخلص بذلك غاية المرام ونهاية المأمول فاستخرجت درّة فإنها خير باكورة جلبت إلى قلوب المؤمنين وأكرم بشارة صبّت على أذان الغارمين والله تعالى الموفّق للسداد ، الهادي إلى الرشاد ، وعليه توكّلت وإليه اُنيب .

الركن الاَول من الكتاب
  في ذكر النبي المصطفى محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ونسبه ، ومولده ، ومبعثه ، ومدّة حياته ، ووقت وفاته ، وبيان أسمائه وصفاته ، ودلائل نبوّته ومعجزاته ، وذكر أولاده وأزواجه وأعمامه وأخواله ، ومعرفة بعض غزواته وأحواله ، ويشتمل على ستّة أبواب :

   يشتمل على ثلاثة فصول .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 25 _

الفصل الاَول

  في ذكر مولده ونسبه إلى آدم ( عليه السلام ) ووقت وفاته ولد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوم الجمعة عند طلوع الشمس السابع عشر من شهر ربيع الاَول من عام الفيل (1) ،( وفي رواية العامّة : ولد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوم الاثنين ، ثمّ إختلفوا فمن قائل يقول لليلتين من شهر ربيع الاَوّل (2) ، ومن قائل يقول : لعشر ليال خلون منه (3) ، وذلك لاَربع وثلاثين سنة وثمانية أشهر مضت من ملك كسرى) (4) أنوشيروان بن قباد وهو قاتل مزدك والزنادقة ومبيرهم (5)وهو الذي عنى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على ما يزعمون : ولدت في زمان الملك العادل الصالح (6) ، ولثمان سنين وثمانية أشهر من ملك عمرو بن هند ملك العرب (7) .

---------------------------
(1) مساّر الشيعة : 29 ، التهذيب للطوسي 6 : 2 ، مصباح المتهجد : 732 ، قصص الاَنبياء للراوندي : 316 / 393 ، مناقب إبن شهرآشوب 1 : 172 ، روضة الواعظين : 70 ، إقبال الاَعمال : 603 ، العدد القوية : 110 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 279 ) 25 ، وفي بعض المصادر : طلوع الفجر بدل طلوع الشمس .
(2) الطبقات الكبرى 1 : 101 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 7 ، صفة الصفوة 1 : 52 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 90 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 279 / 25 .
(3) الطبقات الكبرى 1 : 100 ، صفة الصفوة 1 : 52 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 90 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 279 / 25 .
(4) اثبتناه من المجلسي .
(5) مبيرهم : مهلكهم ، ( لسان العرب 4 : 86 ) .
(6) قصص الاَنبياء للراوندي : 316 / ذيل الحديث 393 قطعة منه ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 279 / 25 .
(7) مناقب إبن شهرآشوب 1 : 172 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 26 _

وكنيته : أبو القاسم ، وروى أنس بن مالك قال : لمّا ولد إبراهيم ابن النبيّ من مارية أتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : ( السلام عليك أبا إبراهيم ) ، أو : ( يا أبا إبراهيم ) (1).
ونسبه : محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ واسمه شيبة الحمد ـ بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قصي ـ واسمه زيد ـ إبن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (2) ، وروي عنه ( عليه السلام ) أنّه قال : ( إذا بلغ نسبي عدنان فأمسكوا )(3) ، وروي عن اُمّ سلمة زوج النبيّ ( عليه السلام ) قالت : سمعت رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( معد بن عدنان بن اُدد بن زيد بن ثرا بن أعراق الثرى ، قالت اُمّ سلمة : زيد هميسع وثرانبت وأعراق الثرى إسماعيل بن إبراهيم ( عليه السلام ) ؛ قالت : ثمّ قرأ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً )(4) ( لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ ) (5) .

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 1 : 135 ، مستدرك الحاكم 2 : 604 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 164 الوفا بأحوال المصطفى 1 : 105 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .
(2) مناقب إبن شهر آشوب 1 : 154 ، سيرة إبن هشام 1 : 1 ، الطبقات الكبرى 1 : 55 ، تاريخ الطبري 2 : 271 ، مروج الذهب 3 : 5 / 1442 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 179 ، الإستيعاب 1 : 13 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .
(3) قصص الاَنبياء للراوندي : 316 / 394 ، مناقب إبن شهر آشوب 1 : 155 ، الطبقات الكبرى 1 : 56 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .
(4) الفرقان 25 : 38 .
(5) مناقب إبن شهر آشوب 1 : 155 ، دلائل النبوة للبيهقي 1 : 178 ـ 179 ، وذكر صدره الطبري في تاريخه 2 : 271 ، وإبن الجوزي في الوفا بأحوال المصطفى 1 : 16 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 27 _

  وذكر الشيخ أبو جعفر بن بابويه ( رضوان الله عليه ) : عدنان بن أدّ بن اُدد بن يامين بن يشجب بن منحر بن صابوغ بن الهميسع (1) ، وفي رواية اُخرى : عدنان بن اُدد بن زيد بن يقدد بن يقدم الهميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام (2) .
  وقيل : الاَصحّ الذي إعتمد عليه أكثر النسّاب وأصحاب التواريخ : أنّ عدنان هو اُدّ بن اُدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم ( عليهما السلام ) إبن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن ارغوا بن فالغ بن عابر وهو هود ( عليه السلام ) إبن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ( عليه السلام ) بن لمك بن متّوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس ( عليه السلام ) ( ابن يارد ) بن ( مهلائيل ) يارد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ( عليه السلام ) أبي البشر( 1) .
واُمّه : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب ، وأرضعته حتّى شبّ حليمة بنت عبد الله بن الحارث بن شجنة السعديّة من بني سعد بن بكر بن هوازن ، وكانت ثويبة مولاة أبي لهب بن عبد المطّلب أرضعته أيضاً بلبن إبنها مسروح وذلك قبل أن تقدم حليمة ، وتوفيّت ثويبة مسلمة سنة سبع من الهجرة ، ومات إبنها قبلها ، وكانت قد أرضعت ثويبة قبله حمزة بن عبد

---------------------------
(1) نقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .
(2) مناقب إبن شهر آشوب 1 : 155 ، الطبقات الكبرى 1 : 57 ، تاريخ الطبري 2 : 174 ، وبإختلاف يسير في الاَخرين ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .
(3) مناقب إبن شهر آشوب 1 : 155 ، مروج الذهب 3 : 5 / 1442 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 280 / 25 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 28 _

المطلب عمّه ، فلذلك قال رسول الله( عليه السلام ) لإبنة حمزة :
( إنّها ابنة أخي من الرضاعة ) وكان حمزة أسنّ من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأربع سنين (1) .
  وأمّا جدّته اُمّ أبيه عبد الله : فهي فاطمة بنت عمر (و) بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، واُمّ عبدالمطلب : سلمى بنت عمرو من بني النجّار ، واُمّ هاشم : عاتكة بنت مرّة بن هلال من بني سليم ، واُمّ قصي وزهرة : فاطمة بنت سعد من أزد السراة (2) .
  وصدع ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالرسالة يوم السابع والعشرين من رجب وله يومئذ أربعون سنة ، وقبض ( صلوات الله عليه وآله ) يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشر من الهجرة ، وهو إبن ثلاث وستّين سنة (3) .

---------------------------
(1) انظر : المقنعة : 456 ، التهذيب للطوسي 6 : 2 ، مناقب إبن شهر آشوب 1 : 155 و 173 ، سيرة إبن هشام 1 : 164 ، و 165 و 169 ، الطبقات الكبرى 1 : 59 و 108 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 10 ، مروج الذهب 3 : 13 / 1459 ، دلائل النبوة للاصبهاني 1 : 196 و 197 / 95 و 96 ، صفة الصفوة 1 : 56 و 61 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 281 / 25 .
(2) انظر : سيرة إبن هشام 1 : 109 ، و 111 و 114 ، الطبقات الكبرى 1 : 62 و 64 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 11 ، تاريخ الطبري 2 : 247 و 252 و 254 ، الكامل في التاريخ 2 : 10 و 16 و 18 و 33 ، البداية والنهاية 2 : 210 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 281 / 25 .
(3) انظر : الكافي 4 : 149|2 ، المقنعة : 456 ، الإرشاد 1 : 189 ، التهذيب للطوسي 6 : 2 ، مصباح المتهجد : 732 ، مناقب إبن شهر آشوب 1 : 173 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15 : 281 / 25 .