صـبراً أبـا يعلى على دين iiأحمد      وكـن  مظهراً للدين وفّقت iiصابرا
وحط  من أتى بالدين من عند iiربّه      بـصدقٍ وحقٍّ لا تكن حمزة iiكافرا
فـقد سـرّني إذ قـلتَ أنّك iiمؤمن      فـكن لـرسول الله في الله iiناصرا
ونـاد  قـريشاً بـالذي قـد iiأتيته      جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا(1)

الفصل السادس
في ذكر إسرائه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى بيت المقدس
ودخوله بعد ذلك في شعب أبي طالب ( رحمة الله عليه )

  ثمّ اُسري برسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى بيت المقدس ، حمله جبرئيل على البراق فأتى به بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بهم وردّه ، فمرّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه واكفأ ما بقي ، وقد كانوا أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه ، فلمّا أصبح قال لقريش : ( إنّ الله قد أسرى بي إلى بيت المقدس فأراني آيات الأنبياء ومنازلهم وإنّي مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد اضلّوا بعيراً لهم فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك ) ، فقال أبو جهل : قد امكنتكم الفرصة منه ، فسألوه كم فيها من الأساطين والقناديل ؟ فقالوا : يا محمّد ، إنّ ههنا من قد دخل بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه ، فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما سألوه عنه ،

---------------------------
(1) قصص الأنبياء للراوندي : 321 / 401 ، مناقب ابن شهر آشوب 1 : 62 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 210 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 87 _

فلمّا أخبرهم قالوا : حتّى يجيء العير نسألهم عمّا قلت ، فقال لهم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( تصديق ذلك أنّ العير يطلع عليكم عند طلوع الشمس يقدمها جملٌ أحمر عليه عزارتان ) ، فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة ، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم العير حين طلوع القرص يقدمها جمل أحمر ، فسألوهم عمّا قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قالوا : لقد كان هذا ، ضلّ جمل لنا ، في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد اُريق الماء ، فلم يزدهم ذلك إلاّ عتوّاً ، فاجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يواكلوا بني هاشم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا إليهم ولا يحضروا معهم حتّى يدفعوا محمّداً إليهم فيقتلونه ، وأنّهم يد واحدة على محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ليقتلوه غيلة أو صراحاً .
  فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخل الشعب ، وكانوا أربعين رجلاً ، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن شاكت محمّداً شوكة لآتيّن عليكم يا بني هاشم ، وحصّن الشعب ، وكان يحرسه بالليل والنهار ، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله مضطجع ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر ، فلا يزال الليل كلّه هكذا ، ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار ، وأصابهم الجهد ، وكان من دخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن باع منهم شيئاً إنتهبوا ماله ، وكان أبو جهل ، والعاص بن وائل السهميّ ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة(1) نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذّروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله ، وكانت خديجة لها مالٌ كثيرٌ فأنفقته على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الشعب ، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد المطّلب بن عبد مناف ، وقال : هذا ظلمٌ .
  وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ختمه كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلّقوها في الكعبة ، وتابعهم أبو لهب على ذلك ، وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يخرج في كلّ موسم فيدور على قبائل العرب فيقول لهم : ( تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي وثوابكم على الله الجنّة ) وأبو لهب في أثره فيقول : لا تقبلوا منه فإنّه ابن أخي وهو كذاب ساحر ، فلم تزل هذه حاله فبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبايعون إلاّ في الموسم ، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة : موسم للعمرة في

---------------------------
(1) الميرة : جلب القوم الطعام للبيع ( العين 8 : 295 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 88 _

رجب ، وموسم للحجّ في ذي الحجّة ، وكان إذا إجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثمّ لا يجسر أحدٌ منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني ، فأصابهم الجهد وجاعوا ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً حتى نقتله ونملّكك علينا ، فقال : أبو طالب قصيدته الطولية اللامية التي يقول فيها :
فـلمّا رأيـت القوم لا ودّ iiفيهم      وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل
  ويقول فيها :
ألـم تـعلموا أنّ ابـننا لا iiمكذّب      لـدينا  ولا يـعنى بقول iiالأباطل
وأبـيض يُـستسقى الغمام بوجهه      ثـمال  الـيتامى عصمة iiللأرامل
يـطوف  به الهلاّك من آل iiهاشم      فـهم عـنده فـي نعمة iiوفواضل
كَذبتُم وبيت الله يُبزى   (1) محمّداً      ولـمّا  نُـطاعن دونـهُ iiونُـقاتِل

---------------------------
(1) قال ابن الأثيير في النهاية ( 1 : 125 ) : بزا : في قصيدة أبي طالب يعاتب قريشاً في أمر النبي ( صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم . . ، ويبزى ، أي يقهر ويغلب ، أراد لا يُبزى ، فحذف لا من جواب القسم ، وهي مرادة ، أي لا يُقهر ولم نقاتل عنه ونُدافع .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 89 _

  ويقول فيها :
ونُـسلمهُ  حـتّى نُصرَّعَ iiدونه      ونـذهلَ عـن أبنائِنا iiوالحلائلِ
لـعمري لقد كلّفت وجداً iiبأحمدٍ      وأحببته حبّ الحبيب iiالمواصلِ
وَجـدتُ بـنفسي دونهُ iiوحميَتُهُ      ودارأتُ  عنه بالذرى iiوالكلاكِلِ
فلا  زال في الدنيا جمالاً iiلاَهلها      وشيناً لمن عادى وزينُ المحافلِ
حَليماً رشيداً حازماً غير iiطائشٍ      يُـوالي إلـه الحقِّ ليس بماحلِ
فـأيّـده ربّ الـعبادِ iiبـنصره      وأظـهر ديـناً حقّه غير iiباطلِ
  فلمّا سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه ، وكان أبو العاص بن الربيع ـ وهو ختن (1) رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ يجيء بالعير بالليل عليها البرّ والتمر إلى باب الشعب ، ثمّ يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم ، وقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره ، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار فيرسلها في الشعب ليلاً ) ، فلمّا أتى لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابّة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله ، ونزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أبا طالب ، فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثمّ مشى حتّى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلمّا بصروا به قالوا :

---------------------------
(1) الختن : الصهر ( العين 4 : 238 ) ، ولنا تعليق حول هذا الموضوع ، يأتي لاحقاً .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 90 _

قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلم ابن أخيه ، فدنا منهم وسلّم عليهم فقاموا إليه وعظّموه وقالوا : يا أبا طالب قد علمنا أنّك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا وأن تسلم ابن أخيك إلينا ، قال : والله ما جئت لهذا ، ولكن ابن أخي أخبرني ـ ولم يكذبني ـ أنّ الله أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابّة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله ، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقّاً فاتّقوا الله وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطعية الرحم ، وإن كان باطلاً دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم إستحييتموه ، فبعثوا إلى الصحيفة فأنزلوها من الكعبة ـ وعليها أربعون خاتماً ـ فلمّا أتوا بها نظر كلّ رجل منهم إلى خاتمه ثمّ فكّوها فإذا ليس فيها حرفٌ واحد إلاّ : باسمك اللّهم ، فقال لهم أبو طالب : ياقوم اتّقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه ، فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحدٌ ، ورجع أبو طالب إلى الشعب وقال في ذلك قصيدته البائيّة التي أوّلها :
ألا مـن لـهم آخر الليل iiمنصب      وشعب العصا من قومك المتشعّب
وفيها :
وقد  كان في أمر الصحيفة عبرة      متى ما يخبّر غائب القوم iiيعجب
مـحا  الله منها كفرهم iiوعقوقهم      وما نقموا من ناطق الحقّ معرب
وأصبح ما قالوا من الامر iiباطلاً      ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب
وأمسى  ابن عبد الله فينا iiمصدّقاً      على سخط من قومنا غير iiمعتب
فـلا  تـحسبونا مسلمين iiمحمّداً      لـذي  عـزّة مـنّا ولا iiمتعزّب
سـتـمنعه مـنّا يـد iiهـاشميّة      مُـركّبها  في الناس خير iiمركّب

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 91 _

  وقال عند ذلك نفرٌ من بني عبد مناف ، وبني قصي ، ورجال من قريش ، ولدتهم نساء بني هاشم منهم : مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي ـ وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد ـ وأبو البختري ابن هاشم ، وزهير بن اُميّة المخزومي في رجال من أشرافهم : نحن براء ممّا في هذه الصحيفة ، وقال أبو جهل : هذا أمرٌ قضي بليل(1) ، وخرج النبيّ من الشعب ورهطه وخالطوا الناس ، ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين وماتت خديجة بعد ذلك ، وورد على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أمران عظيمان وجزع جزعاً شديداً ، ودخل ( عليه وآله السلام ) على أبي طالب وهو يجود بنفسه ، فقال : ( يا عمّ ربيّت صغيراً ، ونصرت كبيراً ، وكفّلت يتيماً ، فجزاك الله عنّي خيراً ، أعطني كلمة اُشفع بها لك عند ربّي ) ، فقال : يابن أخ لولا أنّي أكره أن يعيروا بعدي لأقررت عينك ، ثمّ مات (2) .

---------------------------
(1) انظر : الكافي 8 : 262 / 376 ، وتفسير القمي 2 : 13 ، وأمالي الصدوق : 363 / 1 ، وقصص الأنبياء للراوندي : 325 ـ 327 / 406 ـ 410 ، والطبقات الكبرى 1 : 208 ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 31 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 311 ، والوفا بأحوال المصطفى 1 : 197 ، والكامل في التاريخ 2 : 89 ، ديوان شيخ الأباطح : 37 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 1 ـ 4 / 1 و 2 .
(2) تُعد قضية إيمان أبي طالب ، ووفاته على الايمان من المسلمات الثابتة لدى عموم الشيعة ، وإيمانهم القطعي بأن هذه الفرية العظيمة كانت ولا زالت تستهدف شخص الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، لأنها وبلا شك دسيسة أموية خبيثة تنضاف إلى جملة دسائسهم الكثيرة للنيل من الصرح الشامخ لوصي رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الذي سفّه أحلامهم ، وأطاح بكياناتهم الفاسدة ، وجندل بسيفه ساداتهم وعظماءهم ، وارغم انوفهم في طاعة الله تعالى ورسوله ، فلما عجزوا عن التصدي له في ميدان الحرب والمنازل انكفؤوا يكيدونه بكل فرية وكذبة وبهتان قد تجد لها في آذان السذج والبسطاء موطئاً ومحلاً ، وتلقف أعوانهم وأزلامهم ، المعتاشون على فتات موائدهم ، ما إخترعته مخلية الأمويين ، فطبّلوا له وزمّروا ، دون أي وقفة للتأمّل في مدى مصداقية هذه المزاعم ودرجة صحتها ، بل وعظم الوزر الذي يقع عليها ، ولكنه حب الدنيا والمسارعة في الجريان خلف سرابها ، وتلك ليست بممتنعة على أحد إذا أعرض عن الآخرة وولاّها ظهره ، بيد أنّ تلك الأمور ، ومنها هذا الأمر المتعلق بإيمان أبي طالب قد مضى عليه الدهر ، وتبين للكثرين بعد البحث والتمحيص ، وتصدي العديد من علماء الطائفة ـ جزاهم الله عن الاسلام وأهله خيراً ـ لاثبات كذب ما افتري على هذا الرجل العظيم ، وكيف انقاد الكثيرون ـ وكلامي يختص بالمغررين منهم ـ دون وعي منهم في هذا التيار المنحرف ، فتحمّلوا وزراً كبيراً في ذلك ، نعم ، لقد إنبرى العديد من علماء الطائفة ومفكريها إلى مناقشة تلك الروايات والأخبار المتعرضة لهذا الأمر ، والمشيرة إلى وفاة هذا الرجل الذي ربّى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ونصره ، وتعرّض معه للأذى ، وشاركه في جميع همومه ومشاكله ، والذي ما أن توفي حتى أمر الله تعالى رسوله الكريم بترك مكة ، لاَنّه لن يجد بعد ذلك ناصراً له ، ومحامياً عنه ، نعم لقد انبرى هؤلاء الأعلام إلى مناقشة هذه الروايات ، والتعرض لأسانيدها ، واحداً واحداً ، فظهر من ذلك العجب ، لاَنّ جميع أولئك الراوين لهذه الأخبار ـ والتي تختصر أوضحها في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ـ من المبغضين لعلي ( عليه السلام ) ، بل واثبات نزول هذه الآية المباركة في موارد اُخرى لا تختص بما اُشيع عنها من أنّها مختصة بأبي طالب دون غيره ، كما أن هؤلاء الأعلام رحمهم الله تعالى قد بينوا بجلاء جملة من المواقف الواضحة والثابتة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المتناقضة تماماً مع تفسير هذه الآية ، ونسبة هذا الخبر الى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي طالب ، وكذا ما روي من حديث الضحضاح وغيرهما ، ولما كان هذا الموضع لا يستوعب هذه المناقشات الطويلة والمسهبة ، فإنا نعرض عن الإستطراد في ذلك محيلين القارئ الكريم الى جملة ما اُلف حول هذا الموضوع قديماً وحديثاً ، ومنها :
1 ـ شيخ الابطح أو أبو طالب : للسيد محمد علي آل شرف الدين الموسوي .
2 ـ مواهب الواهب في فضائل أبي طالب : للشيخ جعفر النقدي .
3 ـ الشهاب الثاقب لرجم مكفِّر أبي طالب : للشيخ ميرزا محمد الطهراني .
4 ـ ضياء العالمين في فضائل الأئمة المصطفين : للشيخ أبي الحسن الفتوني النجفي .
5 ـ إيمان أبي طالب : للسيد أحمد بن موسى بن طاووس الحلي .
6 ـ إيمان أبي طالب : للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي .
7 ـ إيمان أبي طالب ، المعروف بكتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : للسيد أبي علي فخار بن معد الموسوي .
8 ـ أبو طالب مؤمن قريش : للشيخ عبد الله الخنيزي .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 92 _

  وقد روي : أنّه لم يخرج من الدنيا حتّى أعطى رسول الله ( صلّى عليه وآله وسلّم ) الرّضا (1) ، وفي كتاب دلائل النبوّة : عن ابن عباس قال : فلمّا ثقل أبو طالب رُئِي يحرّك شفتيه فأضغى إليه العبّاس يستمع قوله فرفع العباس عنه ، وقال : يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته إيّاها (2) ، وفيه : مرفوعاً عن ابن عبّاس : أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عارض جنازة أبي طالب وقال : ( وَصَلَتْكَ رحم وجزيت خيراً يا عمّ )(3) .
  وذكر محمّد بن إسحاق بن يسار : أنّ خديجة بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله المصائب بهلاك خديجة وأبي طالب ، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الاِسلام وكان يسكن إليها (4) ، وذكر أبو عبد الله بن مندة في كتاب المعرفة : أنّ وفاة خديجة كانت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام ، وزعم الواقديّ أنّهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وفي هذه السنة توفّيت خديجة وأبو طالب وبينهما خمس وثلاثون ليلة(5) .

---------------------------
(1) تفسير القمي 1 : 380 ، ايمان أبي طالب لابن معد : 130 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14 : 71 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 346 ، وكذا في : قصص الأنبياء للراوندي : 330 ، سيرة ابن هشام : 2 : 59 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14 : 71 .
(3) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 349 ، وكذا في : عدة رسائل للمفيد : 307 ، قصص الأنبياء للراوندي : 330 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 35 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 208 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14 : 76 .
(4) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 352 ، وكذا في : سيرة ابن هشام 2 : 57 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 5 / 4 .
(5) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 353 ، وكذا في : مناقب ابن شهر آشوب 1 : 174 ، والكامل في التاريخ 2 : 90 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 5 / 4 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 93 _

الفصل السابع
في ذكر عرض رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
نفسه على قبائل العرب ، وما جاء من بيعة الأنصار إيّاه على الاِسلام ، وحديث العقبة

   في كتاب دلائل النبوّة : عن الزهريّ ، قال : كان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم ، لا يسألهم مع ذلك إلاّ أن يؤووه ويمنعوه ويقول : ( لا اُكره أحداً منكم على شيء ، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه ، فذاك ، ومن كره لم اُكرهه ، إنّما اُريد أن تحرزوني ممّا يراد بي من القتل حتّى اُبلّغ رسالات ربّي ، وحتّى يقضي الله ( عزّ وجلّ ) لي ولمن صحبني ما شاء الله) فلم يقبله أحد منهم ولم يأت أحداً من تلك القبائل إلاّ قال : قوم الرجل أعلم به ، أترون أنّ رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه ؟ ! فالمّا توفّي أبو طالب إشتدّ البلاء على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم أشدّ ما كان ، فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه ، فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة ثقيف يومئذ ، وهم إخوة : عبد ياليل بن عمرو ، وحبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه ، فقال أحدهم : أسرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قطّ ، وقال الآخر : أعجزٌ على الله أن يرسل غيرك ؟ وقال الآخر : والله لا اُكلّمك بعد مجلسك هذا أبداً ، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أن اُكلّمك ، ولئن كنت تكذب على الله لأنت شرّ من أن اُكلّمك ، وتهزّؤوا به ، وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به ، فقعدوا له صفّين على طريقه ، فلمّا مرّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم بين صفّيهم كان لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلاّ رضخوهما بالحجارة ـ وقد كانوا اعدوها ـ حتّى أدْموا رجليه ، فخلص منهم ورجلاه تسيلان الدماء ، فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظلّ في ظلّ حَبَلة (1)منه وهو مكروبٌ موجع ، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله ، فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاماً لهما يدعى عدّاس وهو نصراني من أهل نينوى معه عنب ، فلمّا جاءه عدّاس قال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( من أيّ أرض أنت ) ؟ قال : أنا من أهل نينوى ، فقال له ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( من مدينة الرجل الصالح يونس بن متّى ) ؟ .

---------------------------
(1) الحَبلُ : شجر العنب ، واحدته حَبلَة ، ( لسان العرب 11 : 138 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 94 _

  فقال له عدّاس : وما يدريك من يونس بن متّى ؟ فقال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ وكان لا يحقّر أحداً أن يبلّغه رسالة ربّه ـ : ( أنا رسول الله والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى ) ، فلمّا أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس بن متّى خرّ عدّاس ساجداً لله ، وجعل يقبّل قدميه وهما تسيلان دماً ، فلمّا بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا ، فلمّا أتاهما قالا له : ما شأنك سجدت لمحمّد وقبّلت قدميه ولم نرك فعلته بأحد منّا ؟ قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيءٍ عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى ، فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك ، فإنّه رجلٌ خدّاع ، فرجع رسول الله إلى مكّة(1) .
  قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم : ولمّا رجع رسول الله( صلّى عليه وآله وسلّم ) من الطائف وأشرف على مكّة وهو معتمر كره أن يدخل مكّة وليس له فيها مجيرٌ ، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سرّا ، فقال له : ( ائت الأخنس بن شريق فقل له : إنّ محمداً يسألك أن تجيره حتّى يطوف ويسعى فإنّه معتمر ) ، فأتاه وأدّى إليه ما قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال الأخنس : إنّي لست من قريش ، وإنّما أنا حليف فيهم ، والحليف لا يجير على الصّميم ، وأخاف أن يخفروا جواري ، فيكون ذلك مسبّة ، فرجع إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره ) ، وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في شعب حرّاء مختفياً مع زيد فقال له : ( ائت سهيل بن عمرو فاسأله أن يجيرني حتّى أطوف بالبيت وأسعى ) ، فأتاه وأدّى إليه قوله ، فقال له : لا أفعل ، فقال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إذهب إلى مطعم بن عديّ فسله أن يجيرني حتّى أطوف وأسعى )، فجاء إليه وأخبره فقال : أين محمّد ؟ فكره أن يخبره بموضعه ، فقال : هو قريب ، فقال : ائته فقل له : إنّي قد أجرتك فتعال وطف واسع ماشئت ، فأقبل رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وقال مطعم لولده ، واختانه(2) ، وأخيه طعيمة بن عديّ : خذوا سلاحكم فإنّي قد أجرت محمّداً وكونوا حول الكعبة حتّى يطوف ويسعى ، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح .

---------------------------
(1) دلائل النبوة 2 : 414 ، وانظر : قصص الأنبياء للراوندي : 330 ، ومناقب ابن شهر آشوب 1 : 68 ، والسيرة النبوية لابن هشام 2 : 60 ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 36 ، ودلائل النبوة للاصفهاني 1 : 389 ، والكامل في التاريخ 2 : 91 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 5 / 5 .
(2) الخَتن بالتحريك : كلُّ من كان قِبل المرأة ، مثل الأب والأخ ، وهم الأختان ، هكذا عند العرب ، وأمّا عند العامّة فختن الرجل : زوج ابنته ، ( الصحاح ـ ختن ـ 5 : 2107 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 95 _

  وأقبل رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى دخل المسجد ، ورآه أبو جهل فقال : يا معشر قريش هذا محمّد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به ، فقال له طعيمة بن عديّ : يا عمّ لا تتكلمّ ، فإنّ أبا وهب قد أجار محمّداً ، فوقف أبو جهل على مطعم ابن عدّي فقال : أبا وهب أمجيرٌ أم صابىء ؟ قال : بل مجيرٌ ، قال : إذاً لا يخفر جوارك ، فلمّا فرغ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم ، فقال : ( أبا وهب قد أجرت وأحسنت ، فردّ عليّ جواري ) ، قال : وما عليك أن تقيم في جواري ؟ قال : ( أكره أن اُقيم في جوار مشرك أكثر من يوم ) ، قال مطعم : يا معشر قريش ، إنّ محمداً قد خرج من جواري(1) ، قال علي بن إبراهيم : قدم أسعد بن زرارة ، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب ، وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حربٌ قد بغوا فيها دهراً طويلاً ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان اخر حرب بينهم يوم بعاث(2) ، وكانت للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيءٍ ، قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ .

---------------------------
(1) انظر : قصص الأنبياء للراوندي : 331 ، والسيرة النبوية لابن هشام 2 : 20 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 214 ، والكامل في التاريخ 2 : 92 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 7 .
(2) يوم بُعاث ( بضم الباء ) : يوم مشهور كان فيه حرب بين الأوس والخزرج ، ويُعاث اسم حصن للأوس ، ( النهاية 1 : 139 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 96 _

  قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا ، فقال له أسعد : من هو منكم ؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطّلب ، من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً ، وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم ـ النضير وقريظة وقينقاع ـ : أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنّكم به يا معشر العرب ، فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود ، قال : فأين هو ؟ قال : جالسٌ في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحرٌ يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشّعب ، فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر ، لابدّ لي أن أطوف بالبيت ؟ قال : ضع في اُذنيك القطن ، فدخل أسعد المسجد وقد حشا اُذنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلمّا كان في الشوط الثاني في نفسه : ما أجد أجهل منّي ، أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا اتعرفه حتّى أرجع إلى قومي فاُخبرهم ؟ ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به وقال لرسول الله( صلّى عليه وآله وسلّم ) : أنعم صباحاً ، فرفع رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رأسه إليه وقال : ( قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحيّة أهل الجنّة السلام عليكم ) ، فقال له أسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمّد ؟ قال : ( إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ، وأدعوكم إلى أن لا تشركوا به شيئاً ، وبالوالدين إحساناً ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاها ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ذلك وصاكم به لعلّكم تعقلون ، ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه ، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلّكم تذكّرون ) .
  فلمّا سمع أسعد هذا له : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، يا رسول الله بأبي أنت واُمّي ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبالٌ مقطوعة ، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعزّ منك ، ومعي رجلٌ من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرنا فيك ، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشّروننا بمخرجك ، بصفتك ، وأرجوا أن تكون لله دارنا هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 97 _

  ثمّ أقبل ذكوان فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشّرنا به وتخبرنا بصفته ، فهلّم فاسلم ، فأسلم ذكوان ثمّ قالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو النّاس إلى أمرك ، فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) لمصعب بن عمير ، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضّلانه على أولادهما ولم يخرج من مكّة ، فلمّا أسلم جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الشعب حتّى تغّير وأصابه الجهد ، فأمره رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالخروج مع أسعد ، وقد كان تعلّم من القرآن كثيراً ، فخرجا إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره ، فأجاب من كلّ بطن الرجل والرجلان ، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة ، وكان يخرج في كلّ يوم فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاِسلام فيجيبه الأحداث ، وكان عبد الله بن اُبيّ شريفاً في الخزرج ، وقد كان الأوس والخزرج إجتمعوا على أن يملّكوه عليهم لشرفه وسخائه ، وقد كانوا إتّخذوا له إكليلاً إحتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها ، وذلك أنّه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث ولم يعن على الأوس ، وقال : هذا ظلم منكم للأوس ولا اُعين على الظلم ، فرضيت به الأوس والخزرج ، فلمّا قدم أسعد كره عبد الله ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره ، فقال أسعد لمصعب : إنّ خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس ، وهو رجلٌ عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف ، فإن دخل فى هذا الأمر تمّ لنا أمرنا ، فهلمّ نأتي محلّتهم ، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلّة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم وإجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لاُسيد بن حضير وكان من أشرافهم : بلغني أنّ أبا أمامة أسعد ابن زرارة قد جاء إلى محلّتنا مع هذا القرشي يفسد شبّاننا ، فأته وانهه عن ذلك ، فجاء اُسيد بن حضير ، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب إنّ هدا رجلٌ شريفٌ ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّ أمرنا فأصدق الله فيه ، فلمّا قرب اُسيد منهم قال : يا أبا أمامة يقول لك خالك : لا تأتنا في نادينا ، ولا تفسد شبّاننا ، وأحذر الأوس على نفسك ، فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمراً ، فإن أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحّينا عنك ما تكرهه ، فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن ، فقال : كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟ قال : نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلّي ركعتين ، فرمى بنفسه ممع ثيابه في البئر ، ثمّ خرج وعصر ثوبه ، ثمّ قال : أعرض عليّ ، فعرض عليه شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فقالها ، ثمّ صلّى ركعتين ، ثمّ قال لأسعد : يا أبا أمامة ، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك ،

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 98 _

فرجع اُسيد إلى سعد بن معاذ ، فلمّا نظر إليه سعد قال : اُقسم أنّ اُسيد قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا ، وأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب ( حمَ * تنزيلٌ منَ الرّحمن الرّحيم ) فلمّا سمعها ، قال مصعب : والله لقد رأينا الاِسلام في وجهه قبل أن يتكلّم ، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلّى ركعتين ثمّ قام وأخذ بيد مصعب وحوّله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابّن أحداً ، ثمّ جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح : يا بني عمرو بن عوف لا يبقيّن رجلٌ ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبيّ إلاّ خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب ، فلمّا اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم ، قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا ولا نردّ لك أمراً فمرنا بما شئت ، فقال : كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليّ حرام حتّى تشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله ، فالحمد لله الذي أكرمنا بذلك وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به ، فما بقي دارٌ من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلاّ وفيها مسلمٌ أو مسلمة ، وحوّل مصعب بن عمير إليه وقال له : أظهر أمرك وادع الناس علانية ، وشاع الاِسلام بالمدينة وكثر ، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم ، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود ، وبلغ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّ الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام ، وكتب إليه مصعب بذلك ، وكان كلّ من دخل في الاِسلام من قريش ضربة قومه وعذّبوه ، فكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة ، فكانوا يتسلّلون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم ، قال : فلمّا قدمت الأوس والخزرج مكّة جاءهم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال لهم : ( تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنّة ) ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، فخذ لنفسك وربّك ما شئت ، فقال : ( موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ) .
  فلمّا حجوا رجعوا إلى منى ، وكان فيه ممّن قد أسلم بشرٌ كثير ، وكان أكثرهم مشركين على دينهم وعبد الله بن اُبّي فيهم ، فقال لهم رسول الله( صلّى الله وآله وسلّم ) في اليوم الثاني من أيّام التشريق : ( فاحضروا دار عبد المطّلب على العقبة ولا تنبّهوا نائماً ، وليتسلّل واحد فواحد ) ، وكان رسول الله نازلاً في دار عبد المطّلب ، وحمزة وعليّ والعبّاس معه ، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج ، فدخلوا الدار ، فلمّا إجتمعوا قال لهم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنّة ) ؟ فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام : نعم يارسول الله ، فإشترط لنفسك ولربّك ، فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم ، وتمنعون أهلي ممّا تمنعون أهليكم وأولادكم ) ، قالوا : فما لنا على ذلك ؟ قال : ( الجنّة ، تملكون بها العرب في الدنيا ، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً ) ، فقالوا : قد رضينا .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 99 _

  فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال : يا معشر الأوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه ؟ إنّما تقدمون على حرب الأبيض والأحمر ، وعلى حرب ملوك الدنيا ، فإن علمتم أنّه إذا اصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغرّوه ، فإنّ رسول الله وإن كان قومه خالفوه فهو في عزّ ومنعة ، فقال له عبد الله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيّهان : مالك وللكلام يا رسول الله ؟ بل دمنا بدمك ، وأنفسنا بنفسك ، فإشترط لربّك ولنفسك ما شئت .
  فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً ) ، فقالوا : اختر من شئت ، فأشار جبرئيل ( عليه السلام ) إليهم ، فقال : ( هذا نقيبٌ ، وهذا نقيبٌ ) حتّى إختار تسعة من الخزرج ، وهم : أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله، ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، وعبادة بن الصامت ، وثلاثة من الأوس ، وهم : أبو الهيثم بن التيّهان ـ وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف ـ، واُسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة .
  فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) صاح بهم إبليس : يا معشر قريش والعرب ، هذا محمّد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم ، فأسمع أهل منى ، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح ، وسمع رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) النداء فقال للأنصار : ( تفرّقوا ) ، فقالوا : يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا ، فقال رسول الله( صلّى الله وآله وسلّم ) : ( لم اُومر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم ،فقالوا : يا رسول الله فتخرج معنا ، قال : ( أنتظر أمر الله) ، فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح ، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فلمّا نظروا إلى حمزة قالوا : ما هذا الذي إجتمعتم عليه ؟ قال : ما إجتمعنا ، وما ها هنا أحد ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلاّ ضربته بسيفي ، فرجوا وغدوا إلى عبد الله بن اُبي وقالوا له : قد بلغنا أنّ قومك بايعوا محمّداً على حربنا ، فحلف لهم عبد الله أنّهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، وأنّهم لم يطلعوه على أمرهم ، فصدّقوه ، وتفرّقت الأنصار ورجع رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى مكّة(1) .

---------------------------
(1) أنظر : تفسير القمي 1 : 272 ، وقصص الأنبياء للراوندي : 332 / 412 ، والسيرة النبوية لابن هشام 2 : 77 ـ 83 ، والطبقات الكبرى 1 : 221 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 430 ـ 446 ، والوفا بأحوال المصطفى 1 : 224 ، والكامل في التأريخ 2 : 96 ـ 98 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 8 / 5 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 100 _

الفصل الثامن
في ذكر مكر المشركين برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
واجتماعهم في دار الندوة لذلك

   وذكر هجرته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة وما كان من إستقبال الانصار إيّاه ، ونزوله ما ظهر من آثار النبوّة وآثارهم ، ومختصر من أخباره إلى أن امر بالقتال :
   ثمّ إجتمعت قريش في دار الندوة وكانوا أربعين رجلاْ من أشرافهم ، وكان لا يدخلها إلاّ من أتى له أربعون سنة سوى عتبة بن ربيعة فقد كان سنّه دون الأربعين ، فجاء الملعون أبليس في صورة شيخ فقال له البوّاب : من أنت ؟ قال : أنا شيخ من نجد ، فإستأذن فاذنوا له ، وقال : بلغني إجتماعكم في أمر هذا الرجل ، فجئتكم لاشير عليكم ، فلا يعدمكم منّي رأي صائب ، فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إنّه لم يكن أحدُ من العرب أعزّ منّا ونحن في حرم الله وأمنه تفد إلينا العرب في السنة مرّتين ولا يطمع فينا طامع ، حتّى نشأ فينا محمّد ، فكنّا نسمّيه الأمين لصلاحه وأمانته ، فزعم أنّه رسول الله ، وسبّ آلهتنا ، وسفّه أحلامنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا ، وقد رأيت فيه رأياً ، وهو أن ندسّ إليه رجلاً يقتله ، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات ، فقال إبليس : هذا رأي خبيث ، فإنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على الأرض أبداً ، وتقع بينكم الحروب في حرمكم ، فقال آخر : الرأي أن نأخذه فنحبسه في بيت ونثبته فيه ونلقي إليه قوته حتّى يموت كما مات زهير والنابغة .
  فقال إبليس : إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فإذا جاء موسم العرب إجتمعوا عليكم وأخرجوه فيخدعهم بسحره ، وقال آخر : الرأي أن نخرجه من بلادنا ونطرده فنفرغ نحن لآلهتنا ، فقال إبليس : هذا أخبث من الرأيين المتقدّمين ، لأنّكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً ، وافصح الناس لساناً ، وأسحرهم ، فتخرجوه إلى بوادي العرب فيخدعهم بسحره ولسانه ، فلا يفجأكم إلاّ وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً فبقوا حيارى ، ثم قالوا للملعون إبليس : فما الرأي عندك فيه ؟ قال : ما فيه إلاّ رأي واحد ، أن يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش رجلٌ شريفُ ، ويكون معكم من بني هاشم واحد ، فيأخذون حديدة أو سيفاً ويدخلون عليه فيضربوه كلّهم ضربة واحدة ، فيتفرقّ دمه في قريش كلّها ، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه ، فما بقي لهم إلاّ أن تعطوهم الدية ، فأعطوهم ثلاث ديات .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 101 _

  قالوا : نعم وعشر ديات ، وقالوا بأجمعهم : الرأي رأي الشيخ النجدي ، فإختاروا خمسة عشر رجلاً فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله فيقتلونه ، فأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ )الآية (1) .
  ثمّ تفرّقوا على هذا وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمرهم ، فقال أبو لهب : بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه ،فباتوا حول حجرة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلّم ) وأمر رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يفرش له ، وقال لعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( ياعليّ افدني بنفسك ) ، قال : ( نعم يا رسول الله) قال : ( نم على فراشي والتحف ببردي ) ، فنام ( عليه السلام ) على فراش رسول الله والتحف ببردته ، وجاء جبرئيل ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال له : ( اُخرج ) والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعليّ ( عليه السلام ) نائمٌ عليه ، فيتوهّمون أنّه رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فخرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم وهو يقرأ ( يس ) إلى قوله : ( فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (2) وأخذ تراباً بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى ، فقال له جبرئيل ( عليه السلام ) : ( يا محمّد ، خذ ناحية ثور ) وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور ، فمرّ رسول الله وتلقّاه أبو بكر في الطريق ، فأخذ بيده ومرّ به ، فلمّا إنتهى إلى ثور دخل الغار ، فلمّا أصبحت قريش واضاء الصبح وثبوا في الحجرة وقصدوا الفراش ، فوثب عليّ ( عليه السلام ) إليهم وقام في وجوههم فقال لهم : ( ما لكم ؟ ) ، قالوا : أين ابن عمّك محمّد ؟ قال عليّ ( عليه السلام ) : ( جعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم له : اُخرج عنّا ، فقد خرج عنكم ، فما تريدون ؟ ) ، فأقبلوا عليه يضربونه ، فمنعهم أبو لهب ، وقالوا : أنت كنت تخدعنا منذ الليلة .

---------------------------
(1) الأنفال 8 : 30 .
(2) يس 36 : 9 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 102 _

  فلمّا أصبحوا تفرّقوا في الجبال ، وكان فيهم رجلٌ من خزاعة يقال له : أبو كرز يقفو الآثار ، فقالوا له : يا أبا كرز اليوم اليوم ، فما زال يقفو أثر رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى وقف بهم على باب الحجرة ، فقال : هذه قدم محمد ، هي والله اُخت القدم التي في المقام ، وهذه قدم أبي قحافة أو ابنه ، وقال : ههنا عبر ابن أبي قحافة ، فلم يزل بهم حتّى وقفهم إلى باب الغار وقال لهم : ما جازوا هذا المكان ، إما أن يكونوا صعدوا السماء أو دخلوا الأرض ، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار ـ وقد ذكرناه فيما قبل (1) ـ قال : وجاء فارسٌ من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : ( اطلبوه في هذه الشعاب ، فليس ههنا ) ، فأقبلوا يدورون في الشعاب ، وبقي رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الغار ثلاثة أيام ، ثمّ أذن الله له في الهجرة وقال : ( اُخرج عن مكّة يا محمد فليس لك بها ناصرٌ بعد أبي طالب ) فخرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) من الغار ، وأقبل راع لبعض قريش يقال له : ابن اُريقط فدعاه رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وقال له : ( يا ابن اُريقط أءتمنك على دمي ؟ ) ، قال : إذاً والله أحرسك وأحفظك ولا أدلّ عليك ، فأين تريد يا محمد ؟ قال : ( يثرب ) ، قال : والله لأسكلنّ بك مسلكاً لا يهتدي فيه أحدٌ ، قال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : ( ائت عليّاً وبشّره بأنّ الله قد أذن لي في الهجرة فيهيّئ لي زاداً وراحلة ) ، وقال أبو بكر : ائت أسماء ابنتي وقل لها : أن تهيئ لي زاداً وراحلتين ، وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا ـ وكان من موالي أبي بكر وقد كان أسلم ـ وقل له : ائتنا بالزاد والراحلتين ، فجاء ابن اُريقط إلى علي ( عليه السلام ) فأخبره بذلك ، فبعث عليّ بن أبي طالب إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بزاد وراحلة ، وبعث ابن فُهيرة بزاد وراحلتين ، وخرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من الغار ، وأخذ به ابن اُريقط علي طريق نخلة بين الجبال ، فلم يرجعوا إلى

---------------------------
(1) تقدم في صفحة : 79 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 103 _

الطريق إلاّ بقُديد (1) فنزلوا على اُمّ معبد هناك ، وقد ذكرنا حديث شاة أمّ معبد والمعجزة التي ظهرت فيها فيما قبل (2) ، وحديث سراقة بن مالك بن جعشم المدلجيّ ورسوخ قوائم فرسه في الأرض (3) ، فلا وجه لإعادته ، فرجع عنه سراقة ، فلمّا كان من الغد وافته قريش ، فقالوا : يا سراقة ، هل لك علم بمحمّد ؟ فقال : قد بلغني أنّه خرج عنكم ، وقد نفضت هذه الناحية لكم ولم أر أحداً ولا أثراً ، فإرجعوا فقد كفيتكم ما ههنا ، وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليهم ، فكانوا يتوقّعون قدومه ، وكان يخرج الرجال والنساء والصبيان إذا أصبحوا إلى طريقه ، فإذا إشتدّ الحرّ رجعوا (4) .
  وروي عن ابن شهاب الزهري قال : كان بين ليلة العقبة وبين مهاجرة رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ثلاثة أشهر وكانت بيعة الأنصار لرسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ليلة العقبة في ذي الحجة ، وقدوم رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلّم ) المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه في يوم الاثنين ، وكانت الأنصار خرجوا يتوكّفون (5) أخباره ، فلمّا آيسوا رجعوا إلى منازلهم ، فلمّا رجعوا أقبل رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، فلمّا وافى ذا الحُليفة (6) سأل عن طريق بني عمرو بن عوف ، فدلّوه فرفعه الآل (7) ،

---------------------------
(1) قديد : اسم موضع قرب مكة ، قال ابن الكلبي : لما رجع تُبّع من المدينة بعد حرب لأهلها نزل قديداً ، فهبت ريح قدت خيم أصحابه ، فسمي قديداً ، ( معجم البلدان 4 : 313 ) .
(2) تقدم في صفحة : 76 .
(3) تقدم في صفحة 77 ، فراجع .
(4) انظر : تفسير القمي 1 : 273 ، قصص الأنبياء للراوندي : 335 / 114 ـ 115 ، السيرة النبوية لابن هشام 2 : 124 ، الطبقات الكبرى 1 : 227 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 467 الوفا بأحوال المصطفى 1 : 229 ، الكامل في التاريخ 2 : 101 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 48 .
(5) التوكف : التطلع والتوقع ، ( انظر : العين 5 : 413 ) .
(6) ذو الحليفة : قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، ومنها ميقات أهل المدينة ، ( معجم البلدان 2 : 295 ) .
(7) الآل : السراب ، ( العين 8 : 359 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 104 _

فنظر رجل من اليهود وهو على اُطم(1) له إلى ركبان ثلاثة يمرّون على طريق بني عمرو بن عوف ، فصاح : يا معشر المسلمة هذا صاحبكم
قد وافى ، فوقعت الصيحة بالمدينة فخرج الرجال والنساء والصبيان مستبشرين لقدومه يتعاودون ، فوافى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقصد مسجد قبا ونزل واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف ، وسرّوا به وإستبشروا وإجتمعوا حوله ، ونزل على كلثوم بن الهدم ، شيخ من بني عمرو ، صالح مكفوف البصر .
  وإجتمعت إليه بطون الأوس ، وكان بين الأوس والخزرج عداوة ، فلم يجسروا أن يأتوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لما كان بينهم من الحروب ، فأقبل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يتصفّح الوجوه فلا يرى أحداً من الخزرج ، وقد كان قدم على بني عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ناسٌ من المهاجرين ، ونزلوا فيهم ، وروي : أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لمّا قدم المدينة جاء النساء والصبيان يقلن :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع      وجب الشكر علينا ما دعا لله iiداع
  وكان سلمان الفرسيّ عبداً لبعض اليهود ، وقد كان خرج من بلاده من فارس يطلب الدين الحنيف الذي كان أهل الكتاب يخبرونه به ، فوقع إلى راهب من رهبان النصارى بالشام فسأله عن ذلك وصحبه فقال : اُطلبه بمكّة فثم مخرجه ، واطلبه بيثرب فثمّ مهاجره ، فقصد يثرب فأخذه بعض الأعراب فسبوه وإشتراه رجلٌ من اليهود ، فكان يعمل في نخله ، وكان في ذلك اليوم على النخلة يصرمها (2) ، فدخل على صاحبه رجلٌ من اليهود ، فقال : يا ابا فلان أشعرت أنّ هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيّهم ؟ فقال سلمان : جعلت فداك ، ما الذي تقول ؟ فقال له صاحبه : مالك وللسؤال عن هذا ، أقبل على عملك ، قال : فنزل وأخذ طبقاً وصيّر عليه من ذلك الرطب فحمله إلى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ما هذا ) .

---------------------------
(1) الاُطم ( بالضم ) : بناء مرتفع ، وجمعه آطام ، ( النهاية 54 : 1 ) .
(2) الصرام : جداد النخل ، أي قطع الثمرة واجتناؤها من النخلة ، ( انظر : لسان العرب 12 : 336 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 105 _

  قال : صدقة تمورنا ، بلغنا أنّكم قومٌ غرباء قدمتم هذه البلاد ، فأحببت أن تأكلوا من صدقاتنا ، فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( سمّوا وكلوا ) ، فقال سلمان في نفسه وعقد بإصبعه : هذه واحدة ـ يقولها بالفارسية ـ ثمّ أتاه بطبق آخر ، فقال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ما هذا ؟ ) ، فقال له سلمان : رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هديّة أهديتها أليك ، فقال ( عليه وآله السلام ) : ( سمّوا وكلوا ) وأكل ( عليه وآله السلام ) فعقد سلمان بيده اثنين ، وقال له : هذه اثنتان ـ يقولها بالفارسية ـ ، ثمّ دار خلفه فألقى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن كتفه الإزار فنظر سلمان إلى خاتم النبوّة والشامة فأقبل يقبّلها ، فقال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( من أنت ؟ ) ، قال : أنا رجلٌ من أهل فارس ، قد خرجت من بلادي منذ كذا وكذا ، وحدّثه بحديثه وله حديث فيه طول ، فأسلم ، وبشّره رسول الله( صلّى الله عليه وآله ) وسلّم فقال له : ( أبشر واصبر ، فإنّ الله سيجعل لك فرجاً من هذا اليهوديّ ) ، فلمّا أمسى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم )فارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار ، وبقي رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلّم ) بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم ، فلمّا صلّى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المغرب والعشاء الآخرة جاءه أسعد بن زرارة مقنّعاً فسلّم على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفرح بقدومه ، ثمّ قال : يا رسول الله ما ظننت أن أسمع بك في مكان فأقعد عنك ، إلاّ أنّ بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم ، فكرهت أن آتيهم ، فلمّا أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) للأوس : ( من يجيره منكم ؟ ) ، فقالوا : يا رسول الله ، جوارنا في جوارك فأجره ، قال : ( لا ، بل يجيره بعضكم ) ، فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة : نحن نجيره يا رسول الله ، فأجاروه ، وكان يختلف إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيتحدّث عنده ويصلّي خلفه ، فبقي رسول الله( خمسة عشر يوماً ، فجاءه أبو بكر فقال : يا رسول الله تدخل المدينة ؟ فإنّ القوم متشوّقون إلى نزولك عليهم ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( لا اريم من هذا المكان حتّى يوافي أخي عليّ ) ، وكان رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بعث إليه : أن أحمل العيال وأقدم ، فقال أبو بكر : ما أحسب عليّاً يوافي ، قال : ( بلى ما أسرعه إن شاء الله ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 106 _

  فبقي خمسة عشر يوماً ، فوافى عليّ ( عليه السلام )بعياله ، فلمّا وافى كان سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج ، وكان كلّ رجل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيّبه ، ولكلّ بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرمونه ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له ، فلمّا قدم الاثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من أطاعهم ، فلمّا قدم السبعون كثر الإسلام وفشا ، وجعلوا يكسرون الأصنام ، قال : وبقي رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد قدوم عليّ يوماً أو يومين ثمّ ركب راحلته ، فإجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف ، فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا فإنّا أهل الجدّ والجلد والحلفة والمنعة ، فقال ( عليه وآله السلام ) : ( خلوا عنها فإنّها مأمورة ) ، وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فلبسوا السّلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته ، لا يمرّ بحيّ من أحياء للأنصار إلاّ وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وتطلّبوا إليه أن ينزل عليهم ، ورسول الله( صلّى الله عليه وآله ) يقول : ( خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة ) حتّى مرّ ببني سالم ، وكان خروج رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قبا يوم الجمعة ، فوافى بني سالم عند زوال الشمس فتعرضت له بنو سالم فقالوا : يا رسول الله هلم إلى الجدّ والجلد والحلفة والمنعة ، فبركت ناقته عند مسجدهم ، وقد كانوا بنوا مسجداً قبل قدوم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، فنزل ( عليه وآله السلام ) في مسجدهم وصلّى بهم الظهر وخطبهم ، وكان أوّل مسجد صلّى فيه الجمعة ، وصلّى إلى بيت المقدس ، وكان الذين صلّوا معه في ذلك الوقت مائة رجل ، ثمّ ركب رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ناقته وأرخى زمامها ، فإنتهى إلى عبد الله بن اُبيّ ، فوقف عليه وهو يقدّر أنّه يعرض عليه النزول عنده ، فقال له عبد الله بن اُبيّ ـ بعد أن ثارت الغبرة وأخذ كمّه ووضعه على أنفه ـ : يا هذا اذهب إلى الذين غرّوك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولا تغشنا في ديارنا ، فسلّط الله على دور بني الحبلى الذرّ (1) فخرق دورهم فصاروا نزالاً على غيرهم ، وكان جدّ عبد الله بن اُبّي يقال له : ابن الحبلى ، فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء ، فإنّا كنّا إجتمعنا على أن نملّكه علينا وهو يرى الآن أنّك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه ، فانزل عليّ يا رسول الله ، فإنّه ليس في الخزرج ولا في الأوس أكثر فم بئر منّي ، ونحن أهل الجلد والعزّ ، فلا تجزنا يا رسول الله .

---------------------------
(1) الذر : جمع ذرة ، وهي أصغر النمل ، ( الصحاح 2 : 663 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 107 _

  فأرخى زمام ناقته ، ومرّت تخبّ (1) به حتّى إنتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم ، ولم يكن مسجداً إنّما كان مربداً (2) ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل ، وكانا في حجر أسعد بن زرارة ، فبركت الناقة على باب أبي أيّوب خالد بن زيد ، فنزل عنها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فلمّا نزل إجتمع عليه النّاس وسألوه أن ينزل عليهم ، فوثبت اُمّ أبي أيّوب إلى الرحل فحلّته وأدخلته منزلها ، فلمّا أكثروا عليه قال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أين الرّحل ؟ ) ، فقالوا : اُمّ أبي أيّوب قد أدخلته بيتها ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( المرء مع رحله ) ، وأخذ أسعد بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها إلى منزله ، وكان أبو أيّوب له منزل أسفل وفوق المنزل غرفة ، فكره أن يعلو رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا رسول الله ( بأبي أنت واُمّي العلوّ أحبّ إليك أم السفل ؟ فإنّي أكره أن أعلو فوقك ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( السفل أرفق بنا لمن يأتينا ) ، قال أبو أيّوب : فكنّا في العلوّ أنا واُميّ ، فكنت إذا إستقيت الدلو أخاف أن تقع منه قطرة على رسول الله ، وكنت أصعد واُمّي إلى العلوّ خفيّاً من حيث لا يعلم ولا يحسّ بنا ، ولا نتكلّم إلاّ خفيّاً ، وكان إذا نام ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لا نتحرّك ، وربّما طبخنا في غرفتنا فنجيّف الباب على غرفتنا مخافة أن يصيب رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) دخان ، ولقد سقط جرّة لنا واُهريق الماء فقامت اُمّ أبي أيّوب إلى قطيفة ـ لم يكن لها والله غيرها ـ فألقتها على ذلك الماء تستنشف به مخافة أن يسيل على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من ذلك شيء ، وكان يحضر رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين ، وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يبعث إليه في كلّ يوم غداء وعشاء في قصعة ثريد عليها عراق (3) ، وكان يأكل معه من حوله حتّى يشبعون ، ثمّ تردّ القصعة كما هي ، وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشّى معه من حضره وتردّ القصعة كما هي ، فكانوا يتناوبون في بعثة الغداء والعشاء إليه : أسعد بن زرارة ، وسعد بن خيثمة ، والمنذر بن عمرو ، وسعد بن الرّبيع ، واُسيد بن حضير .

---------------------------
(1) الخبب : ضرب من العدو ، وقيل : هو السرعة ، أي جاءت به تعدو مسرعة ، انظر : ( لسان العرب 1 : 341 ) .
(2) المربد : الموضع الذي تحبس فيه الابل والغنم ، وبه سمي مربد المدينة والبصرة ، ( النهاية 2 : 182 ) .
(3) العرق ( بالسكون ) : العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم ، وجمعه عُراق ( النهاية 3 : 220 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 108 _

  قال : فطبخ له اُسيد يوماً قدراً ، فلم يجد من يحملها فحملها بنفسه ، وكان رجلاً شريفاً من النقباء ، فوافاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وقد رجع من الصلاة ، فقال : ( حملتها بنفسك ؟ ) ، قال : نعم يا رسول الله ، لم أجد أحداً يحملها ، فقال : ( بارك الله عليكم من أهل بيت ) (1) ، وفي كتاب دلائل النبوة : عن أنس بن مالك قال : قدم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المدينة ، فلمّا دخلها جاءت الأنصار برجالها ونسائها فقالوا : إلينا يا رسول الله ، فقال : ( دعوا الناقة فإنّها مأمورة ) ، فبركت على باب أبي أيّوب ، فخرجت جوار من بني النجّار يضربن بالدفوف ويقلن :
نحن جوار من بني النجّار      يـا حـبّذا محمّد من iiجار
  فخرج إليهم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : ( أتحبّوني ؟ ) ، فقالوا : إي والله يا رسول الله ، قال : ( أنا والله اُحبّكم ) ثلاث مرّات (2) ، قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم : وجاءته اليهود ـ قريظة والنضير والقينقاع ـ فقالوا : يا محمد إلى ما تدعو ؟ ، قال : ( إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله ، واني رسول الله، واني الذي تجدوني مكتوباً في التوراة ، والذي أخبركم به علماؤكم أن مخرجي بمكّة ومهاجري في هذه الحرّة ، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام ، فقال : تركت الخمر والخمير ، وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه بمكّة ومهاجره ههنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالكسرة ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، ويضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لا قى ، وهو لضحوك القتّال ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر ) ،فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ، ولا نتعرض لأحد من أصحابك ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا حتى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك .

---------------------------
(1) انظر : الخرائج والجرائح 1 : 150 / 240 ، وقصص الأنبياء للراوندي : 337 ، وسيرة ابن هشام 2 : 137 ، والطبقات الكبرى 1 : 233 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 498 ، والوفا بأحوال المصطفى 1 : 248 ، والكامل في التاريخ 2 : 109 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 104 / 1 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 508 ، وكذا في : البداية والنهاية 3 : 199 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 109 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 109 _

  فأجابهم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى ذلك ، وكتب بينهم كتاباً : أن لايعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع (1) في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار والله بذلك عليهم شهيد ، فأن فعلوا فرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم ، وكتب لكلّ قبيلة منهم كتاباً على حدة ، وكان الذي تولىّ امر بني النّضير حييّ بن أخطب ، فلمّا رجع إلى منزله قال له اخويه جديّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب : ما عندك ؟ قال : هو الذي نجده في التوراة ، والذي بشّرنا به علماؤنا ، ولا ازال له عدوّاً، لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق وصارت في ولد إسماعيل، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً ، وكان الذي ولي أمر قريظة كعب بن أسد ، والذي تولّى أمر بني قينقاع مخيريق ، وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنّه النبيّ المبعوث ، فهلم نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين ، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك (2) ، قال : وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يصلّي في المربد بأصحابه ، فقال لأسعد بن زرارة : ( إشتر هذا المربد من أصحابنا ) ، فساوم اليتيمين عليه فقالا : هو لرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال رسول الله: ( لا ، إلاّ بثمن ) ، فإشتراه بعشرة دنانير ، وكان فيه ماء مستنقع ، فأمر به رسول الله فسيل ، وأمر باللبن فضرب ، فبناه رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وحفره في الأرض ، ثمّ أمر بالحجارة فنقلت من الحرّة ، وكان المسلمون ينقلونها ، فأقبل رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يحمل حجراً على بطنه ، فإستقبله اُسيد ابن حضير فقال : يا رسول الله أعطني أحمله عنك ، قال : ( لا ، اذهب فاحمل غيره ) ، فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتّى بلغ وجه الأرض ، ثم بناه أوّلاً بالسعيدة لبنةً لبنةً ، ثمّ بناه بالسميط (3) ، وهو لبنة ونصف ، ثمّ بناه بالاُنثى والذكر لبنتين مخالفتين ، ورفع حائطه قامة ، وكان مؤخّره ( ذراع ) في مائة ، ثمّ إشتدّ عليهم الحرّ فقالوا : يا رسول الله لو أظللت عليه ظلاً ، فرفع ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب ، ثمّ ظلّله وألقى عليه سعف النخل ، فعاشوا فيه ، فقالوا : يا رسول الله لو سقفت سقفاً .

---------------------------
(1) الكراع : اسم لجماعة الخيل خاصة ، ( مجمع البحرين 4 : 385 ) .
(2) انظر : تفسير القمي 2 : 180 ، وقصص الأنبياء للراوندي : 338 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 110 .
(3) السميط : الآجر القائم بعضه فوق بعض ، ( لسان العرب 7 : 324 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 110 _

  قال : ( لا ، عريش كعريش موسى ، الأمر أعجل من ذلك )، وابتنى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وخطّ لأصحابه خططاً ، فبنوا فيها منازلهم ، وكلّ شرع منه باباً إلى المسجد ، وخطّ لحمزة وشرع بابه إلى المسجد ، وخطّ لعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) مثل ما خطّ لهم ، وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : ( يا محمد إنّ الله يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد يسدّه ، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلاّ لك ولعليّ ، ويحلّ لعليّ فيه ما يحلّ لك ) ، فغضب أصحابه وغضب حمزة وقال : أنا عمّه يأمر بسدّ بابي ويترك باب ابن أخي وهو أصغر منّي ، فجاءه فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( يا عمّ لا تغضبنّ من سدّ بابك وترك باب عليّ ، فو الله ما أنا أمرت بذلك ولكنّ الله أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ ) ، فقال : يا رسول الله رضيت وسلّمت لله ولرسوله (1) ، قال : وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حيث بنى منازله كانت فاطمة ( عليها السلام ) عنده ، فخطبها أبو بكر ، فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أنتظر أمر الله ( عزّ وجل ) ) ثمّ خطبها عمر ، فقال : مثل ذلك ، فقيل لعليّ ( عليه السلام ) : لم لا تخطب فاطمة ؟ فقال : ( والله ما عندي شيء ) ، فقيل له : إن رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لا يسألك شيئاً ، فجاء إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فاستحيى أن يسأله فرجع ، ثمّ جاءه في اليوم الثاني فإستحيى فرجع ، ثمّ جاء في اليوم الثالث فقال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ): ( يا عليّ ألك حاجة ؟ ) ، قال : ( بلى يا رسول الله ) ، فقال : ( لعلّك جئت ( خاطباً ) ؟ )، قال : ( نعم يا رسول الله) ، قال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( هل عندك شيء يا عليّ ؟ )، قال : ( ما عندي يا رسول الله شيء إلاّ درعي ) ، فزوّجه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على اثنتي عشرة أوقيّة ونشّ (2) ودفع إليه درعه ، فقال له رسول الله: ( هيّىء منزلاً حتّى تحوّل فاطمة إليه ) .

---------------------------
(1) انظر : الطبقات الكبرى 1 : 239 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 19 : 111 .
(2) النش : عشرون درهماً ، وهو نصف أوقية ، ( الصحاح ـ نشش ـ 3 : 1021 ) .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 111 _

  فقال ( عليه السلام ) : ( يا رسول الله ما ههنا منزل إلاّ منزل حارثة بن النعمان ) ، وكان لفاطمة يوم بنى بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تسع سنين ، فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( والله لقد إستحيينا من حارثة ، قد أخذنا عامّة منازله ) ، فبلغ ذلك حارثة فجاء إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : يا رسول الله أنا ومالي لله ولرسوله ، والله ما شيء أحبّ إليّ ممّا تأخذه ، والذي تأخذه أحبّ إليّ ممّا تترك ، فجزاه رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) خيراً ، فحوّلت فاطمة ( عليها السلام ) إلى عليّ ( عليه السلام ) في منزل حارثة ، وكان فراشهما إهاب كبش جعلا صوفه تحت جنوبهما (1) ، قال : وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يصلّي إلى بيت المقدس مدّة مقامه بمكّة وفي هجرته حتّى أتى له سبعة أشهر (2) ، فلمّا أتى له سبعة أشهر عيّرته اليهود وقالوا له : أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا ونحن أقدم منك في الصلاة ، فإغتمّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من ذلك وأحبّ أن يحوّل قبلته إلى الكعبة ، فخرج في جوف الليل ونظر إلى آفاق السماء ينتظر أمر الله ، وخرج في ذلك اليوم إلى مسجد بني سالم الذي جمّع فيه أوّل جمعة كانت بالمدينة ، وصلّى بهم الظهر هناك بركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، ونزل عليه : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) الآية (3) (4) .

---------------------------
(1) انظر : الطبقات الكبرى 8 : 19 ـ 23 ، ذخائر العقبى : 29 ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 112 .
(2) اُختلف في تاريخ تحويل القبلة إلى الكعبة ، فمنهم من روى سبعة اشهر بعد مهاجرة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ومنهم من قال : سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة ، ومنهم من قال : تسعة اشهر أو عشرة اشهر ، وقيل : بسنة ونصف ، اُنظر : مجمع البيان 1 : 223 ، سيرة ابن هشام 2 : 198 تاريخ اليعقوبي 2 : 42 .
(3) البقرة 2 : 144 .
(4) انظر : من لا يحضره الفقيه 1 : 178 / 843 ، ومجمع البيان 1 : 223 ، وتفسير الطبري 2 : 13 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 113 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 112 _

  ثمّ نزلت على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) آية القتال واُذن له في محاربة قريش ، وهي قوله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الآية (1) .

الباب الرابع
في ذكر مغازي رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بنفسه وسراياه ونبذ من أخباره إلى
أن فارق دنياه (2) على سبيل الاِجمال والإختصار


  قال أهل السير والمفسّرون : إن جميع ما غزا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بنفسه ستّ وعشرون غزوة ، وإن جميع سراياه التي بعثها ولم يخرج معها ستّ وثلاثون سريّة ، وقاتل ( عليه السلام ) من غزراته في تسع غزوات ، وهي : بدر ، واُحد ، والخندق ، وبني قريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف(3) .
  فأوّل سريّة بعثها أنّه بعث حمزة بن عبدالمطّلب في ثلاثين راكباً ، فساروا حتّى بلغوا سيف البحر من أرض جهينة ، فلقوا أبا جهل بن هشام

---------------------------
(1) الحج 22 : 39 ـ 40 .
(2) انظر : مجمع البيان 4 : 87 ، وتفسير الطبري 17 : 123 ، وأسباب النزول للواحدي : 177 .
(3) انظر : مغازي الواقدي 1 : 7 ، الطبقات الكبرى 2 : 5 ـ 6 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 186 / 43 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 113 _

في ثلاثين ومائة راكب من المشركين ، فحجز بينهم مجديّ بن عمرو الجهني ، فرجع الفريقان ولم يكن بينهما قتال(1).
  ثمّ غزا رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أوّل غزوة غزاها في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة حتّى بلغ الأبواء ، يريد قريشاً وبني ضمرة ، ثمّ رجع ولم يلق كيداً ، فأقام بالمدينة بقيّة صفر وصدراً من شهر ربيع الأول(2) ، وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث في ستّين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أحدٌ من الأنصار ، وكان أوّل لواء عقده رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فألتقى هو والمشركون على ماء يقال له : أحياء (3) ، وكانت بينهم الرماية ، وعلى المشركين أبو سفيان بن حرب (4) ، ثمّ غزا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في شهر ربيع الآخر يريد قريشاً حتّى بلغ بُواط (5) ، ولم يلق كيداً(6) ، ثمّ غزا ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) غزوة العُشَيرة يريد قريشاً حتّى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها بقيّة جمادى الاُولى وليالي من جمادى الآخرة ، ووادع فيها بني مدلج

---------------------------
(1) انظر : المغازي للواقدي 1 : 9 ، وسيرة ابن هشام 2 : 245 ، والطبقات الكبرى 2 : 6 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 186 / 43 .
(2) انظر : المغازي للواقدي 1 : 11 ، والطبقات الكبرى 2 : 8 ، ودلائل البيهقي 3 : 9 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 187 .
(3) احياء : ماء أسفل من ثنية المرة ، ( معجم البلدان 1 : 118 ) .
(4) انظر : المغازي للواقدي 1 : 10 ، وسيرة ابن هشام 2 : 42 ، والطبقات الكبرى 2 : 7 ، ودلائل البيهقي 3 : 10 و 11 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 187 .
(5) بواط : حبل من جبال جهينة ، ناحية رضوى ( معجم البلدان 1 : 502 ) .
(6) مغازي ( الواقدي 1 : 12 ، سيرة ابن هشام 2 : 248 ، الطبقات الكبرى 2 : 8 وفيها : ربيع الأول ، دلائل النبوة للبيهقي 3 : 11 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 187 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 114 _

وحلفائهم من بني ضمرة(1) ، فروي عن عمّار بن ياسر قال : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ، فقال لي عليّ ( عليه السلام ) : ( هل لك يا أبا اليقظان في هذه الساعة بهذا النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون ) ، فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثمّ غشينا النوم ، فعمدنا إلى صَورٍ (2) من النخل في دقعاء (3) من الأرض فنمنا فيه ، فو الله ما أهبّنا إلاّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقدمه ، فجلسنا وقد تترّبنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله لعليّ : ( يا أبا تراب ) لما عليه من التراب ، فقال : ( ألا اُخبركم بأشقى الناس ؟ ) ، قلنا : بلى يا رسول الله، قال : ( اُحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا عليّ على هذا ) ووضع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يده على رأسه ( حتّى يبلّ منها هذه ) ووضع يده على لحيته(4) ، ثمّ رجع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من العُشَيرة إلى المدينة ، فلم يقم بها عشر ليال حتّى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في طلبه حتّى بلغ وادياً يقال له : سفوان ، من ناحية بدر ، وهي غزوة بدر الاُولى ، وحامل لوائه عليّ بن أبي طالب ، وإستخلف على المدينة زيد بن حارثة ، وفاته كرز فلم يدركه ، فرجع رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأقام جمادى الآخرة ورجب وشعبان ، وكان بعث بين ذلك سعد بن أبي وقّاص في ثمانية رهط ، فرجع ولم يلق كيداً(5) ، ثمّ بعث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )

---------------------------
(1) سيرة ابن هشام 2 : 249 ، الطبقات الكبرى 2 : 9 ، دلائل النبوة للبيهقي 3 : 11 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 187 .
(2) الصور : النخل المجتمع الصغار لا واحد له ( الصحاح ـ صور ـ 2 : 716 ) .
(3) الدقعاء : التراب المنثور على وجه الأرض ( العين 1 : 145 ) .
(4) سيرة ابن هشام 2 : 249 ، تاريخ الطبري 2 : 408 ، دلائل النبوة للبيهقي 3 : 12 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 187 .
(5) انظر : سيرة ابن هشام 2 : 251 ، والطبقات الكبرى 2 : 9 ، ودلائل النبوة للبيهقي 3 : 13 16 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 188 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 115 _

عبد الله بن جحش إلى نخلة(1) ، وقال : ( كن بها حتّى تأتينا بخبرمن أخبار قريش ) ولم يأمره بقتال وذلك في الشهر الحرام ، وكتب له كتاباً وقال : ( اُخرج أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومين فإفتح كتابك وانظر ما فيه وامض لما أمرتك ) .
  فلمّا سار يومين وفتح الكتاب فإذا فيه : ( أن امض حتّى ننزل نخلة ، فائتنا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم ) فقال لاَصحابه حين قرأ الكتاب : سمعاً وطاعة ، من كان له رغبة في الشهادة فلينطلق معي ، فمضى معه القوم حتّى إذا نزلوا النخلة مرّ بهم عمرو بن الحضرميّ والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة ابنا عبد الله ، معهم تجارة قدموا بها من الطائف ، اُدم وزبيب ، فلمّا رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله وكان قد حلق رأسه ، فقالوا : عمّار ليس عليكم منهم بأس ، وائتمر أصحاب رسول الله ، وهي آخر يوم من رجب ، فقالوا : لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ، ولئن تركتموهم ليدخلنّ هذه الليلة مكّة فليمتنعنّ منكم ، فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وهرب المغيرة بن عبد الله فأعجزهم ، واستاقوا العير ، فقدموا بها على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؟ فقال لهم : ( والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ) وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئاً ، واُسقط في أيدي القوم وظنّوا أنّهم قد هلكوا ، وقالت قريش : إستحلّ محمّد الشهر الحرام ، فأنزل الله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) الآية (2) ، فلمّا نزل ذلك أخذ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) العير وفداء الأسيرين ، وقال المسلمون : أتطمع لنا أن نكون غزاة ؟ فأنزل الله فيهم ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ـ إلى قوله : أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ) ، الآية (3) ، وكانت هذه قبل بدر بشهرين(4) .

---------------------------
(1) ذكر في سيرة ابن هشام ان نخلة بين مكّة والطائف .
(2) البقرة 2 : 217 .
(3) البقرة 2 : 218 .
(4) انظر : سيرة ابن هشام 2 : 252 ، والطبقات الكبرى 2 : 10 ، وتاريخ الطبري 2 : 410 ، ودلائل النبوة للبيهقي 3 : 18 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 188 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 116 _

غزوة بدرالكبرى

  ثمّ كانت غزوة بدر الكبرى ، وذلك أنّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سمع بأبي سفيان بن حرب في أربعين راكباً من قريش تجّاراً قافلين من الشام ، فخرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في ثلاثمائة راكب ونيّف ، وأكثر أصحابه مشاة ، معهم ثمانون بعيراً وفرس يقال إنّه للمقداد ، يعتقب النفر على البعير الواحد ، وكان بين رسول الله وبين مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعير ، وذلك في شهر رمضان ، فلمّا خرج من المدينة وبلغ أبا سفيان الخبر أخذ بالعير على الساحل ، وارسل إلى أهل مكّة يستصرخ بهم ، فخرج منهم نحو من ألف رجل من سائر بطون قريش ومعهم مائتا فرس يقودونها ، وخرجوا معهم بالقيان يضربن بالدفوف ويتغنّين بهجاء المسلمين ، ورجع الأخنس بن شريق الثقفي ببني زهرة من الطريق وكان حليفاً لهم ، فبقي منهم نحو من تسعمائة وسبعين رجلاً ، وفيهم العبّاس وعقيل ونوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب خرجوا مكرهين ، وكانت أشرافهم المطعمون فيهم : العبّاس بن عبد المطّلب وعتبة بن ربيعة وطعيمة بن عديّ وأبو البختري بن هشام واُميّة بن خلف وحكيم بن حزام والنضر بن الحارث بن كلدة وأبو جهل بن هشام وسهيل بن عمرو ، فلما بلغ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى بدر ، وهي بئر منسوبة إلى رجل من غفار يقال له : بدر ، وقد علم رسول الله بفوات العير ومجيء قريش شاور أصحابه في لقائهم أو الرجوع ، فقالوا : الأمر إليك وآلق بنا القوم ، فلقيهم على بدر لسبع عشرة من شهر رمضان ، وكان لواء رسول الله يؤمئذ أبيض مع مصعب بن عمير ورايته مع عليّ ( عليه السلام ) ، وأيّدهم الله سبحانه بخمسة آلاف من الملائكة ، فكثّر الله المسلمين في أعين الكفّار وقلّل المشركين في أعين المؤمنين كيلا يفشلوا ، وأخذ رسول الله كفّاً من تراب فرماه إليهم وقال : ( شاهت الوجوه ) فلم يبق منهم أحدٌ إلاّ إشتغل بفرك عينيه ، وقتل الله من المشركين نحو سبعين رجلاً ، واُسر نحو سبعينرجلاً منهم : العبّاس بن عبدالمطّلب ، وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث ، فأسلموا ، وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث قتلهما رسول الله بالصفراء ، وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) للعبّاس : ( إفد نفسك وابني أخويك عقيلاً ونوفلاً ، وحليفك عتبة بن عمرو وأخي بني الحارث بن فهر فإنّك ذو مال ) ، فقال : إنّي كنت مسلماً وإنّ القوم إستكرهوني ، فقال ( عليه السلام ) : ( الله أعلم بإسلامك ، إن يكن حقّاً فإنّ الله يجزيك به ، فأمّا ظاهر أمرك فقد كان علينا ) ، قال : فليس لي مالٌ .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 117 _

  قال : ( فأين المال الذي وضعته عند اُمّ الفضل بمكّة وليس معكما أحدٌ فقلت لها : إن اُصبت في سفري هذا فهذا المال لبنيّ : الفضل وعبد الله وقثُم ؟ ) ، فقال : والله يارسول الله إنّي لأعلم أنّك رسول الله ، إنّ هذا لشيءٍ ما علمه أحدٌ غيري وغير اُمّ الفضل ، فأحسب لي يا رسول الله ما أصبتم منّي من مال كان معي عشرون أوقيّة ، فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك ) ، ففدى نفسه بمائة أوقيّة ، وفدى كلّ واحد بأربعين أوقيّة (1) .
  وقتل عليّ ( عليه السلام ) ببدر من المشركين : الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان شجاعاً فاتكاً ، والعاص بن سعيد بن العاص بن اُمّية والد سعيد بن العاص ، وطعيمة بن عديّ بن نوفل شجره بالرمح وقال : ( والله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبداً ) ونوفل بن خويلد ، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بحبل وعذّبهما يوماً إلى الليل ، وهو عمّ الزبير بن العوّام ، ولمّا أجلت الوقعة قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ( من له علم بنوفل ) ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أنا قتلته ) فكبّر النبي ( عليه السلام ) ثمّ قال : ( الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه )(2) ، وروى جابر ، عن الباقر ، عن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) فقال : ( لقد تعجّبت يوم بدر من جرأة القوم وقد قتلت الوليد بن عتبة ، إذ أقبل إليّ حنظلة ابن أبي سفيان فلمّا دنا منّي ضربته بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض قتيلاً )(3) ، وقتل زمعة بن الأسود ، والحارث بن زمعة ، وعمير بن عثمان بن كعب ابن تيم عمّ طلحة بن عبيد الله ، وعثمان ومالكاً أخوي طلحة في جماعة ، وهم في ستّة وثلاثين رجلاً (4) .

---------------------------
(1) انظر : سيرة ابن هشام 2 : 263 ، والطبقات الكبرى 2 : 11 ، ودلائل النبوة للبيهقي 3 : 32 ، 142 .
(2) انظر : إرشاد المفيد 1 : 70 ، ومغازي الواقدي 1 : 92 ، وسيرة ابن هشام 3 : 366 .
(3) إرشاد المفيد 1 : 75 .
(4) انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14 : 209 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 118 _

وقتل حمزة بن عبدالمطّلب شيبة بن ربيعة بن عبد شمس ، والأسود بن عبد الأسود المخزومي (1)، وقتل عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام ، ضربه بالسيف على رجله فقطعها ودفّف (2) عليه عبد لله بن مسعود فذبحه بسيفه من قفاه ، وحمل رأسه إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قال عبد الله : وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على مذمّره ـ أي عنقه ـ وقلت : هل أخزاك الله ياعدو الله ؟ قال : رويعي الغنم ! لقد إرتقيت مرتقاً صعباً ، قال : ثمّ اجتززت رأسه فجئت به رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقلت : هذا رأس عدوّ الله أبي جهل ، فحمد الله تعالى(3) ، وقتل عمّار بن ياسر اُمّية بن خلف(4) ، وأمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن تلقى القتلى في قليب بدر ، ثمّ وقف عليهم وناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم واحداً واحداً ، ثمّ قال : ( قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً ) ثمّ قال : ( إنّهم ليسمعون كما تسمعون ولكن منعوا عن الجواب ) (5) ، وأستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً ، منهم : عبيدة بن الحارث بن عبدالمطّلب ، وذو الشمالين عمرو بن نضلة حليف بني زهرة ، ومهجع مولى عمر ، وعمير بن أبي وقّاص ،

---------------------------
(1) انظر : مغازي الواقدي 1 : 151 ، وسيرة ابن هشام 2 : 366 ، وفيهما : الأسود بن عبد الأسد المخزومي .
(2) دفّف على الجريح : أجهز عليه ، وفي حديث أبن مسعود : انه دافّ أبا جهل يوم بدر أي أجهز عليه ( لسان العرب ـ دفف ـ 9 : 105 ) .
(3) انظر : سيرة ابن هشام 2 : 288 و 289 ، وتاريخ الطبري 2 : 454 ـ 456 ، ودلائل النبوة للبيهقي 3 : 84 ـ 85 .
(4) المغازي للواقدي 1 : 151 وفيه علي بن اُمية بن خلف بدل اُمية بن خلف ، السيرة النبوية لابن هشام 2 : 372 .
(5) سيرة ابن هشام 2 : 92 ، تاريخ الطبري 2 : 456 ، دلائل النبوة للبيهقي 3 : 48 وفيها بإختلاف يسير .