اذا حلفت على يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير
وأكفّر يميني ، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم)
.
وتشاء الصدف أن يتحلل المختار تلقائياً من عهوده مع عبد الله بن يزيد ، حين غادر هذا
الاخير قصر الامارة معزولاً بقرار من سيده ابن الزبير اذ وجد فيه ضعفاً لا يتناسب
مع خطورة المرحلة وعيّن مكانه أحد أشد مؤيديه حماسة هو عبد الله بن مطيع القرشي
الذي لم يكن بينه وبين المختار شيئاً من المواثيق.
وهكذا خرج المختار من سجنه ، ليجد نفسه في مواجهة أحداث مصيرية وخطيرة ، فكان عليه أن
يتحرك فوراً وأن لا يتردد في اتخاذ الموقف المناسب بكل جرأة ، قبل أن تقوم شرطة
الوالي الجديد برصد نشاطاته واعادته من جديد الى السجن
، وبسرعة أعلن برنامجه
السياسي باسم محمد بن الحنفية أحد أبناء علي من غير فاطمة ، الذي كان يعيش في
المدينة ، حيث زعم انه اتفق سراً مع هذا الاخير على الدعوة له في الكوفة ، وكان على
المختار أن يقنع الكوفيين بصحة زعمه ، لان فريقاً كبيراً منهم شكك في هذا الامر ،
وانتدب وفداً ذهب لمقابلة الزعيم العلوي من أجل الوقوف على حقيقة ما يزعمه المختار.
ورغم ان ابن الحنفية لم يعط جواباً حاسماً ، وذلك لاعتبارات متعددة أهمها ، موقعه في
الدعوة العلوية ثم تخوفه من ابن الزبير ، سيد الحجاز ، الذي وضع ابن الحنفية تحت
مراقبة أجهزته المشددة.
ولكن الزعيم العلوي على ما يبدو لم يمانع في مباركة ما يقوم به المختار واستناده في
دعوته على العلويين اذ قال للوفد الكوفي : (انا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من
خلقه)
(1) .
ومن المرجح أن المختار ، قبل خروجه من الحجاز او بعده ، كان قد اتصل بعلي بن الحسين
وباحثه بأمر الدعوة له في العراق ولكنه لم يلق استجابة ، فانصرف عنه الى محمد بن
الحنفية
(2) ، وسواء قابل المختار الزعيمين العلويين ، أم أنه زعم ذلك ليعطي تسويغاً
أقوى لدعوته وبعداً أكثر من مجرد الثأر للحسين والتكفير عن الذنب ،
---------------------------
(1) ابن كثير : 8/265.
(2) المسعودي : مروج الذهب 3/74.
التوابون
_ 172 _
فان موقف ابن الحنفية من المختار ـ رغم عدم وضوحه ـ انعكس على الوضع العام في
الكوفة حيث شهد الحزب الشيعي تحولاً نحو ابن الحنفية الذي لم يكن مطروحاً حتى ذلك
الحين كامام للدعوة العلوية ، وأدى الى نجاح المختار في فرض نفسه على الحزب وتسلم
زعامته.
ولقد التف حول المختار بعد خروجه من السجن ، نفر من الزعماء الشيعيين الذين وجدوا
فيه الشخصية القيادية الصالحة لمتابعة التحرك ، وكان من أبرز هؤلاء : رفاعة بن شداد ،
ويزيد بن انس ، وأحمد بن شميط ، وعبد الله بن شداد الجشمي ، والسائب بن مالك الاشعري.
وقد نشط هؤلاء وقاموا بحملات دعائية في أسواق الكوفة وأحيائها لحمل الناس على تأييد
المختار والبيعة له
(1) ، ولكن عقبات عدة جابهت المختار ، وأخرت قليلاً سيطرته على
الوضع في الكوفة فكان لا بد له من معالجتها بالسرعة الممكنة ، ومن هذه العقبات
مثلاً ، موقف حزب الاشراف منه الذي لم يقل عدائية عن موقفه السابق من التوابين
(2) ،
ومنها ايضاً تردد ابراهيم بن الاشتر النخعي أحد كبار الشيعة في الكوفة ، في الانضمام
الى جانب
---------------------------
(1) ابن كثير : 8/264.
(2) ابن الاثير : 4/89.
التوابون
_ 173 _
المختار ، وكان ابراهيم ـ كأبيه الاشتر ـ شديد الاخلاص في ولائه لعلي وأبنائه ،
ومتطرفاً الى أبعد حدود التطرف في عدائه للامويين ، ولكن مع نظرة خاصة للامور ورؤية
مختلفة تماماً عن غيره من زعماء الحزب الشيعي ، فهو لم يشترك مثلاً في ثورة
التوابين ، ووقف موقف الحذر من المختار ، لان التحرك الشيعي كان برأيه حينئذ ، تحركاً
انفعالياً يفتقر الى خطط منظمة واستعدادات طويلة وأهداف واضحة.
ولعل ابراهيم كان يطمح الى أن يقود بنفسه الحزب الشيعي في العراق ، خاصة وانه كان
على اتصال دائم مع زعماء البيت العلوي ومنهم محمد بن الحنفية نفسه
(1) ، وهذا ما دعاه
الى التشكيك بمزاعم المختار ، غير أن هذا الاخير تمكن بعد الحاح من اقناع ابراهيم
بالاعتراف بدعوته والبيعة له ، ويبدو ان الموافقة على ذلك كانت بايحاء من زعيم
الدعوة محمد بن الحنفية الذي كتب الى ابراهيم بهذا الشأن
(2) .
والواقع ان المختار كسب حليفاً قوياً بانضمام ابن الاشتر اليه ، الذي ما لبث ان صار
من ألمع رجالات الثورة
---------------------------
(1) ابن كثير : 8/268.
(2) الطبري : 7/98 ـ 99.
التوابون
_ 174 _
وقائدها العسكري الاول ، وأصبح يحضر بانتظام الاجتماعات السرية في بيت المختار
لتحضير الانقلاب ضد الحكم الزبيري في الكوفة
(1) ، واتخاذ قرار بتحديد ساعة الخروج
حيث اتفق على أن تكون ليلة الخميس في الرابع عشر من ربيع الاول سنة ست وستين
هجري
(2) .
وفي تلك الاثناء كانت التقارير ترد على عبد الله بن مطيع ـ والي الكوفة ـ من قائد
شرطته
(3) ، محذرة من انقلاب قريب يعده المختار
(4) ، فبعث حينذاك ابن مطيع رجاله في
أحياء مختلفة من الكوفة في محاولة لافشال خطط المختار ، ولكن ذلك لم يؤد الى أي
نتيجة سوى المساهمة بتعجيل انفجار الثورة وتقديم موعدها يومين (الثلاثاء 12 ربيع
الاول 66 هجري) ، فقد حدث ان كان ابن الاشتر -ـ ومعه مائة من المسلحين ـ في طريقه ذلك
اليوم الى منزل المختار أن اصطدم بصاحب الشرطة اياس بن مضارب الذي اعترض طريقه ،
فطعنه ابراهيم برمحه طعنة
---------------------------
(1) ابن كثير : 8/266.
(2) ابن كثير 4/91.
(3) (اياس بن مضارب) ، ابن الاثير 4/89.
(4) الطبري : 7/100.
التوابون
_ 175 _
أودت بحياته
(1) ، وكانت هذه الحادثة اشارة البدء بالتحرك ، وبسرعة مذهلة تم استيلاء
المختار وقائده ابن الاشتر على الموقف ، وهُزم القائد
(2) الذي أعده الوالي وحزب
الاشراف
(3) ، وما لبث ان هرب الوالي نفسه ، وغادر قصر الامارة متخفياً ولجأ الى منزل
ابي موسى الاشعري
(4) .
وهكذا نجحت ثورة المختار الثقفي ، وتحققت معها تطلعات الحزب الشيعي لاستلام الحكم ،
لاول مرة منذ قيام الخلافة الاموية وتنازل الحسن لمعاوية ، وهناك عدة عوامل أسهمت
بدون ريب في انجاح هذه الثورة ومهدت لها الطريق لتصل الى السلطة دون أدنى صعوبة.
ومن أبرز هذه العوامل :
1 ـ الاعتماد بشكل أساسي على الفئات الشعبية من العرب وغيرهم الذين ضاقوا بالاضطهاد
الاموي ثم الزبيري ، ووجدوا في ثورة المختار متنفساً لتحقيق مطالبهم الاصلاحية.
---------------------------
(1) الطبري : 7/100
(2) شبث بن ربعي.
(3) الطبري 7/103.
(4) ابن كثير : 8/267.