أيضاً أبعاده السياسية لتكريس الميثاق الذي التزموا به ، ووضع أنفسهم في أجواء
الشهادة التي بلغت أسمى درجاتها البطولية مع سقوط الحسين في كربلاء.
وقد يذهب بنا الخيال بعيداً الى ذلك الزمن ، وينقلنا الى تلك الارض ، فنتصور رهبة
اللقاء وضجيج التوابين وهم يدورون حول قبر الحسين ، ينشدون بصوت موحد نشيد الغفران
والتوبة ، ويهزجون بايمان عميق اهزوجة الموت والشهادة : (اللهم انا خذلنا ابن بنت
نبينا ، وقد أسأنا وأخطأنا ، فاغفر لنا ما قد مضى من ذنوبنا ، وتب علينا انك أنت
التواب الرحيم ، اللهم ارحم الحسين ، الشهيد ابن الشهيد وارحم اخواننا الذين حصنّوا
أنفسهم معه بالشهادة ، اللهم ان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)
.
وفي اثناء ذلك ، كانت أخبار التحرك والاستعدادات تتسرب الى مسامع أشراف الكوفة ،
الذين أحدق بهم الخوف والهلع على مصيرهم ، وكان أشدهم قلقاً عمر بن سعد الذي التجأ
الى قصر الامارة طلباً للحماية والامان
ولقد سبق لهؤلاء الاشراف أن ألحوا كثيراً على أمير الكوفة الزبيري
(1) لضرب جماعة
التوابين قبل أن يقوى أمرهم ويشتد خطرهم ، ولكنه لم يتأثر لضغوطهم أو ينساق مع
مصالحه السياسية ـ باعتباره ممثلاً لابن الزبير ـ المتعارضة مع آمال التوابين
وتطلعاتهم ، وللحقيقة ، فان أمير الكوفة تصرف بموضوعية واخلاص في معالجة مسألة
التوابين ، وقد ظهر ذلك في جوابه للزمرة من الاشراف : (الله بيننا وبينهم ! ان هم
قاتلونا قاتلناهم ، وان تركونا لم نطلبهم)
(2) ، لِمَ الخوف من التوابين ... أهو الذي
قتل الحسين ؟
(3) على حد تعبيره ... فهو لم يتردد من لعن قاتله أمام الاشراف وبعضهم
اشترك في الجريمة ، وفي نفس الوقت جاهر برأيه في خطبة له في مسجد الكوفة... (لقد أصبت
بمقتله رحمة الله عليه ، فان هؤلاء القوم ـ ويقصد التوابين ـ آمنون ، فليخرجوا
ولينتشروا ظاهرين ليسيروا الى من قاتل الحسين فقد أقبل اليهم وأنا لهم على قاتله
ظهير)
(4) .
لم يكن هناك اذا تضارب بين أمير الكوفة وبين أمير التوابين ، او تنافس بينهما على
السلطة ، فحركة هذا الاخير
---------------------------
(1) عبد الله بن يزيد الانصاري.
(2) الطبري : 7/53.
(3) الطبري : 7/53.
(4) الطبري : 7/54.
التوابون
_ 132 _
وضحت هويتها وتبلورت أهدافها... وهي في شتى الاحوال تخدم مصالح أمير الكوفة وسيده
خليفة الحجاز ، فهي كحركة ثورية موجهة ضد النظام الاموي ـ العدو الرئيسي والمشترك
للحزبين الشيعي والزبيري ـ تؤدي بالنتيجة الى استنزاف طاقات الامويين وتؤخر
استعداداتهم الحربية لاسترجاع العراق ، ومن ثم الحزب الزبيري في عرينه ، هذا المنطق
يمكن تفسيره كأساس للعلاقات بين الحزبين التي سبقت ورافقت تحرك التوابين ، وهو ما
اعتمده بعض المؤرخين
(1) في تصويره للموقف في الكوفة عشية التحرك.
وقد يحتوي هذا المؤشر بعض المبالغة ، وقد يكون ناتجاً عن تقدير خاطئ ، فاذا كان يعبر
عن منطق الحزب الزبيري واستراتيجيته ، فانه ليس كذلك بالنسبة لممثل الحزب في الكوفة ،
الذي كانت له نظرته المختلفة في هذا الامر ، ومن الانصاف ان لا نغفل دور هذا الرجل
الذي شغله بكل مسؤولية ، وهو دور الناصح بالتخلي عن هذه الحركة الانتحارية والتسلح
بالصبر والتروي ... لان هدفه كان منصباً حول اجتذابهم الى الحزب الزبيري وتشكيل جبهة
قوية ضد الامويين
(2) بدل أن تتبعثر القوى ،
---------------------------
(1) الخربوطلي : تاريخ العراق في ظل الحكم الاموي 135 - 136.
(2) الطبري : 7/69.
التوابون
_ 133 _
وتنصرف الجهود في غير مواقعها الاساسية.
ولكن سليمان وجماعته ، كانوا قد بلغوا نقطة اللارجوع في القرار الحاسم الذي اتخذوه
والتزموا مصيرياً بتنفيذه (لقد خرجنا لامر ونحن نسأل الله العزيمة على الرشد
والتسديد لاصوبه ، ولا ترانا الا شاخصين)
(1) .
وبعد خروج التوابين الى قبر الحسين ، لم يتكاسل عبد الله بن يزيد (أمير الكوفة) عن
اسداء النصيحة مرة أخرى لسليمان ، محاولاً باخلاص ان يثنيه عن قراره وطالباً اليه
تأخير موعد التحرك ، فذلك أسلم عاقبة وأضمن نتيجة لسلامة الحركة وشريكها في مناهضة
الامويين ، الحزب الزبيري ، مصوراً له ضخامة الجيش الاموي الذي بدأ يزحف حينئذ باتجاه
العراق ، وما يقابله من ضآلة حجم المتطوعين مؤكداً من جديد على ضرورة توحيد الجهود
وتكاتف الايدي للوقوف في وجه عدو قوي وعنيد ، فقد كتب الى سليمان قائلاً : (أما بعد
فان كتابي لكم كتاب ناصح مشفق ، تريدون المسير بالعدد اليسير الى الجمع الكثير
والجيش الكبير ، وقد علمتم انه من أراد أن يقلع الجبال من أماكنها تكل معاوله ولا
تظفر بحاجته ، فيا قومنا لا تطمعوا عدوكم في أهل بلدكم فانكم خيار قومكم ، ومتى ظفر
بكم عدوكم طمع في غيركم من أهل
---------------------------
(1) الطبري : 7/69.
التوابون
_ 134 _
مصركم وهلاككم ومن خلفكم ، يا قومنا انهم ان يظهروا عليكم يرجموكم او يعيدوكم في
ملتهم ولن تفلحوا اذا أبداً ، فارجعوا واجعلوا أيدينا وأيديكم اليوم واحدة على عدونا
وعدوكم ، فانه متى اجتمعت كلمتنا ثقلنا على عدونا فلا تستعيبوا نصحي ولا تخالفوا
أمري ، واقبلوا حين تقرأون كتابي هذا أقبل بكم الى طاعته وادبر بكم عن معصيته
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)
(1) .
ان أحداً لا يستطيع أن يرتاب في موقف أمير الكوفة الزبيري نحو التوابين او يشكك في
مدى اخلاصه حين دعاهم الى التريث والتراجع ، حتى ان سليمان نفسه لم يجد في نصيحة
الامير الا الصدق والاخلاص ، ولكن المسألة خرجت عن حدود النصيحة وتعدت اطار المنطق ،
فالتوابون حينئذ كانوا اشبه بمركبة أفلت زمامها وانجرفت في الوادي السحيق ، الى درجة
استحال معها أن تتوقف او تخفف بعض اندفاعها... فقد كانوا معبئين لسنوات خمس مضت
بشحنات متراكمة من العواطف السخية ، بحيث انها خلقت منهم شخصيات مغامرة تطبعت بروح
الفداء واستهوتها التضحية ، وفي كل الحالات كان
---------------------------
(1) الفتوح لابن الاعثم الكوفي (مخطوطة) 260 - نسخة اسطنبول.
التوابون
_ 135 _
منطق واحد يوجه تحركاتهم ، بدون ضابط ، هو منطق العاطفة الجامحة ، بما فيه من مثالية
وتجرد واندفاع ، وكان من الطبيعي ان يتعارض منطقهم هذا مع منطق أمير الكوفة ، وان
تكون صرخة هذا الاخير في غير محلها ولا تلاقي من يصغي اليها في صفوف التوابين
(1) .
فقد اعتمدت منطق العقل في تصوير الموقف السياسي في الكوفة وفي تجسيد الخطر الذي
يتهددها على يد الامويين اذا ما استمرت جبهتها في التمزق وقواها في التبعثر.
أنهى سليمان قراءة الكتاب الذي وصله من أمير الكوفة بتنهيدة رافقها هذا البيت من
الشعر :
أرى لـك شكلاً غير شكلي فأقصري عن اللوم اذ بُدّلتِ واختلف الشكل (2) |
وهو لا شك يعبّر بصدق عن التناقض في المواقف والاهداف بين كل من التوابين وبين ممثل
ابن الزبير في الكوفة... فلم يكن هناك ـ أي رابط مبدئي يربطهم بهذا الاخير ، أو
يدفعهم الى التعاون معه (انا وهؤلاء مختلفون ... ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير الا
ضلالاً ،
---------------------------
(1) الطبري : 7/71 ـ 72.
(2) الطبري : 7/72.
التوابون
_ 136 _
وأنّا ان نحن ظهرنا رددنا هذا الامر الى أهله ، وان أصبنا فعلى نياتنا تائبين من
ذنوبنا)
(1) .
ولعل من المفيد ان نعود قليلاً الى الوراء ، لنتلمس انعكاسات الحركة التوابية على
الوضع العام في الكوفة ، منذ أن خرجت من سريتها الحذرة الى العلنية الجريئة ، وأخذ
قادتها يصعّدون الموقف بخطبهم الملتهبة بعد موت يزيد بن معاوية ، فقد اندفعت
الجماهير الى قصر الامارة وأطاحت بالامير الاموي ونصّبت مكانه أميراً آخراً يدين
بالولاء للحزب الزبيري ، وفي الحقيقة كان فضل التوابين ظاهراً في تهيئة الظروف أمام
هذا الحزب لاستلام السلطة ، وكان من الممكن لاي حركة سياسية ، اضطلعت بهذا الدول ، ان
تتحول الى شريك رئيسي في الحكم الزبيري حينئذ ، ولكن حركة التوابين ، كما عرفنا ، كانت
لها همومها البعيدة كل البعد عن استلام الحكم أو المشاركة فيه ، او حتى المباركة في
أدنى الاحتمالات ، لذلك كان تعاملهم مع نظام ابن الزبير تعاملاً محدوداً ، وفي نطاق
ما يوفره لهم من حرية التحرك وعدم اثارة المشاكل التي يمكن ان تعيقهم عن تحقيق ما
التزموه بتنفيذه وما أخذوه على أنفسهم من ميثاق.
---------------------------
(1) الطبري : 7/72.
التوابون
_ 137 _
وانطلاقاً من هذا المبدأ رفض سليمان دعوة أمير الكوفة الى التراجع برغم ما فيها من
اخلاص وتودد ، وكان قد وصل الى مكان يقال له (هيت)
(1) ومن هناك أجابه برسالة لا تخلو
من استحسان ظاهر لموقفه المسؤول وسلامة نواياه : (أما بعد فقد قرأنا كتابك أيها
الامير ، وفهمنا ما نويت ، فنعم أخو العشيرة أنت ما علمناك في المشهد بالمغيب ، غير
انّا سمعنا الله تعالى يقول في كتابه وقوله الحق (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في
التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به
فذلك هو الفوز العظيم)
(2) ، وأعلمك أيها الامير ان القوم قد استبشروا ببيعهم الذي
بايعوه وقد تابوا اليه من عظيم ذنوبهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)
(3) .
أدرك أمير الكوفة عبث ندائه الى التوابين بالتراجع ، وتأكد له أن القوم سائرون الى
أقدارهم بعزيمة ثابتة لملاقاة
---------------------------
(1) الطبري : 7/72.
(2) القرآن الكريم : التوبة 111.
(3) الفتوح لابن الاعثم الكوفي 260. نسخة اسطنبول (مخطوطة).
التوابون
_ 138 _
موتهم البطولي ، فالتفت الى الحاضرين في ديوانه مردداً وكأنه يسّر الى نفسه :
(استمات القوم ورب الكعبة ، وأول خبر يأتيكم عنهم بأنهم قتلوا بأجمعهم والله لا
قُتلوا حتى يكثر القتل بينهم وبين عدوهم)
(1) .
فرغت الكوفة حينئذ من زعماء التوابين الذين غادروها وهم في ذروة الحماسة الى
(النخيلة) ، المعسكر الذي هرع اليه رفاق آخرون ، اشتركوا معهم في تلك المسيرة
النضالية الرائعة ، لخوض معركة الانتقام البطولي ضد النظام الاموي ولضرب ما عبروا
عنه بقواعد الطغيان والظلم ، وكانت بعض العناصر الشيعية التي استهوتها حركة سليمان
قد أخذت بدورها تغادر الكوفة تباعاً وتلتحق بمركز التجمع في (النخيلة) ، دونما
التزام ، أحياناً ، بمواقف قبائلها التي لم تقتنع زعاماتها بدعوة سليمان ووجدت فيها
مجرد مغامرة انتحارية لا هدف منها سوى تبديد الجهود وهدر الطاقات دون أي نتيجة
ايجابية على صعيد حركة النضال الشيعي ، وهذه الظاهرة كانت من أبرز سمات الجيش الذي
خاض به التوابون معركة
---------------------------
(1) الفتوح لابن الاعثم الكوفي 260. نسخة اسطنبول (مخطوطة).
التوابون
_ 139 _
التكفير عن الذنب في (عين الوردة) ، فقد كان الانفلات من نظام القبيلة كوحدة قتالية
أمراً مألوفاً الى حد كبير ، على خلاف ما عرفه التقليد العربي بصفة عامة في ميادين
الحرب ، وكان لهذا الواقع مدلولاً آخراً ، هو أن نفراً قليلاً فقط من جمهور الشيعة
الكوفيين خرج الى (النخيلة) اما الغالبية ، فقد التزم بعضها بقرار القبيلة في معارضة
الحركة ، وبعض آخر ظل على تردده يترقب انجلاء الامور ، اما الاشراف فقد كانوا أكثر
الفئات ابتهاجاً بخروج التوابين حيث انزاح عنهم كابوس ظل لفترة يؤرق مضاجعهم ،
ويفقدهم نعمة الاستقرار ، وثمة شخص آخر في الكوفة ، لم يكن أقل شعوراً بالفرح من
الاشراف هو المختار الثقفي ، وكان لا يزال في السجن ينظر من وراء قضبانه فيجد الساحة
الشيعية خالية من منافسيه ، فاذا به المستفيد الاكبر من غياب التوابين ، وبسرعة عاد
الى تحركه وأخذ يصعّد نشاطه في أوساط الحزب الشيعي ، حتى أصبح بعد قليل من الوقت
زعيم هذا الحزب غير المنافس ، والى حين زعيم الكوفة بأسرها.
التقدم نحو الشام التقدم نحو الشام
بعد يوم وليلة من الابتهالات والتضرع حول قبر الحسين
(1) مستغفرين الله وطالبين اليه
أن يمنحهم نعمة الشهادة ، غادر التوابون كربلاء عبر الفرات الى الانبار ومنها الى
القيارة وهيت ، ومن هذه الاخيرة كتب سليمان بن صُرد الى أمير الكوفة عبد الله بن
يزيد جواباً على رسالته كما سبق ان أشرنا ، ولقد تجنب التوابون كما هو واضح السير
عبر الصحراء ، واتخذوا طريق الجزيرة ، ولعل غايتهم من وراء ذلك كانت تزويد جيشهم
بقوات اضافية من الجزيرة وبلاد الشام ، حيث كانت تتواجد المعارضة القيسية بزعامة
الكلابيين أصحاب قرقيسيا
(2) ، خاصة وأن بعض العناصر التوابية تراجعت الى الكوفة
(3)
---------------------------
(1) ابن الاثير : 4/75.
(2) البصيرة حالياً في سوريا ، عند مصب الخابور على الفرات.
(3) ابن كثير : 8/252 ـ 253.
التوابون
_ 141 _
بعد أن فتر حماسها وأدركها الخوف عند تواتر الاخبار عن جيش كبير للامويين زاحف من
دمشق ، فآثرت السلامة والعودة ، ويبدو ان عددها كان محدوداً فلم يؤثر على الخطة
العامة للتوابين ، ولكن هذا لم يمنع حاجة هؤلاء الملحّة الى المساعدات المادية
والعسكرية لمجابهة نظام راسخ في دمشق وجيوش على مستوى رفيع من التنظيم ، ولهذا جرت
اتصالات بين سليمان بن صُرد وبين زفر بن الحارث الكلابي صاحب قرقيسيا عند اقتراب
التوابين من أبواب المدينة وكان المسيّب بن نجبه ، نائب سليمان والرجل القوي
(1) في
الحركة رسول سيده الى الامير الكلابي
(2) ، وكان هذا الاخير قد أمر باغلاق المدينة
تحسباً للظروف ، فلما قابله المسيّب وعرّفه بنفسه وشرح له أبعاد تحركهم هذا ، أبدى
تعاطفاً ملحوظاً معهم واستعداداً للتجاوب مع ما يطلبونه من مساعدات ، دون أن ينسى
تسويغ موقفه باغلاق الابواب في وجههم : (انا لم نغلق ابواب هذه المدينة الا لنعلم
ايانا تريدون ام غيرنا ، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم وقد بلغنا عنكم صلاح
وسيرة جميلة)
(3) .
---------------------------
(1) الطبري : 7/74.
(2) الطبري : 7/72.
(3) ابن الاثير : 4/75.
التوابون
_ 142 _
خرج موكب التوابين من قرقيسيا مزوداً بما يلزمه من احتياجات اقتصرت على بعض المواد
الغذائية ، لان زفر رغم تعاطفه معهم ، ورغم عداوته الشرسة للامويين
(1) ، لم يمدهم
بالمتطوعين ربما لانه وجد في حركتهم من المغامرة والتهور ، ما يجعل أي فرصة للنجاح
معها مستحيلة ، او ربما لخروجه منذ أمد غير بعيد من حرب مدمرة مع الامويين في مرج
راهط ، ولهذا لم يرد استنفاذ طاقاته مرة أخرى بدون جدوى.
وفي اثناء ذلك ، وفي الوقت الذي كان يواكب فيه الزعيم الكلابي جماعة التوابين خارج
المدينة
(2) حملت اليه استخباراته معلومات غير سارة عن وجود عبيد الله بن زياد في
(الرقّه) على رأس جيش ضخم وبصحبته خمسة من كبار قادة الامويين وأشد أعداء الحزب
الشيعي ضراوة وهم : الحصين بن نمير السكوني ، شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، أدهم بن
محرز الباهلي ، ربيعه بن مخارق الغنوي ، جبله بن عبد الله الخثعمي
(3) .
---------------------------
(1) الطبري : 7/73.
(2) الطبري : 7/73.
(3) الطبري : 7/73 ، ابن الاثير : 4/75.
التوابون
_ 143 _
تهيّب زفر الموقف الخطير ، وخاف على ضيوفه المتهالكين على الشهادة ، والمتدافعين
لقتال عدو ليسوا في حجمه ، فأخذ يلحّ عليهم بالتروي والرجوع الى قرقيسيا والعمل على
تشكيل جبهة واحدة ضد المروانيين من بني أمية
(1) (ان شئتم دخلتم مدينتنا وكانت
أيدينا واحدة ، فاذا جاء هذا العدو قاتلناهم جميعاً)
(2) ، ولكن هذه المعلومات عن
الجيش الاموي الضخم لم تستثر التوابين الذين أصروا على متابعة المسيرة ، ورفضوا
نصيحة زفر ، كما رفضوا من قبل نصيحة أمير الكوفة عبد الله بن يزيد ، فقد رد سليمان
على الامير الكلابي قائلاً : (قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه وذكروا
الذي ذكرت ، وكتبوا الينا بعدما فصلنا ، فلم يوافقنا ذلك فلسنا فاعلين)
(3) .
ولابد هنا لاي متتبع لاخبار حركة التوابين ، الا ان يستوقفه ذلك الصمود الرائع لهذه
الحركة العظيمة ، ولا بد ان تنتزع اعجابه تلك الشخصيات القيادية المرتفعة ،
---------------------------
(1) الفتوح لابن الاعثم الكوفي ، نسخة اسطنبول (مخطوطة).
(2) ابن الاثير : 4/75.
(3) الطبري : 7/73.
التوابون
_ 144 _
بايمانها المثالي ، ونضالها الاسطوري الفريد ، انها شخصيات من طراز جديد ومن معدن آخر
لا نجد لها مثيلاً الا في كتب الاساطير ، شخصيات اتقنت جيداً صناعة الموت ، وتعدت
قوانين الشهادة المعروفة ، لتكتب بدمائها شرائع جديدة ، ليست لدنياها وانما للتاريخ ،
أليس مثيراً أن تقوم حركة أساسها المغامرة وعنوانها الفداء ، فتمر عليها سنوات خمس ـ
أكثرها كمنظمة سرية تعمل في الخفاء ـ دون أن يخبو بريقها أو تفقد شيئاً من حماسها
المتأجج ، حتى في المواجهة المباشرة مع الموت ؟.
غير أن رفض سليمان لرغبة زفر بالانكفاء الى قرقيسيا والتحصن فيها ضد الامويين ،
واصراره على التقدم لاكمال المهمة التي التزم بها مع رفاقه في مسيرتهم التكفيرية ،
لم يحولا دون متابعة الامير الكلابي تحذيراته للتوابين من الخطر الداهم الذي
يتهددهم ، وتقديم نصائحه وخبراته بكل اخلاص لهم ... وهي توجيهات على جانب من الاهمية ،
خاصة ما يتعلق بجغرافية المنطقة واستراتيجيتها ومواقع الماء فيها ... وكان آخر ما
توجه به زفر للتوابين بعد أن أدرك عقم محاولاته في حملهم على التراجع : (اني للقوم
(أي الامويين) عدو ، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة ، وأنا لكم وادّ أحب أن يحوطكم
الله بالعافية).
التوابون
_ 145 _
ان القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم الى عين الوردة
(1) فاجعلوا المدينة في ظهوركم
ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه ، فاطووا
المنازل فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم ، فأني أرجو أن تسبقوهم ، وان قاتلتموهم
فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنوهم فانهم أكثر منكم ولا آمن أن يحيطوا بكم
فلا تقفوا اليهم فيصرعوكم ولا تصغوا اليهم فاني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة
والفرسان وبعضهم يحمي بعضاً ، ولكن ألقوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين
ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى الى جانبها ، فان حُمل على احدى
الكتيبتين رحلت الاخرى فنفست عنها ، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ومتى شاءت كتيبة انحطت ،
ولو كنتم صفاً واحداً فزحفت اليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة)
(2) .
---------------------------
(1) رأس عين تنبع على بضعة أميال الى الشمال من قرقيسيا على نهر الفرات ، ابن الاثير
: 4/76 ، جون جلوب : امبراطورية العرب 134.
(2) الطبري 7/73 ـ 74 ، ابن الاثير : 4/76.
التوابون
_ 146 _
معركة عين الوردة
تقدم سليمان مع رفاقه في عمق الجزيرة ، ونصائح الامير الكلابي لازالت تتردد في
أسماعه ، فهذا الرجل (زفر) خبر المنطقة جيداً وأكسبته الحرب مهارة عسكرية وتجربة
واسعة ، فضلاً عما أظهره من تودد ظاهر وتعاطف ملموس ازاء التوابين وقضيتهم ، لقد كان
لكلماته وقعها المؤثر في نفوس هؤلاء الذين استجابوا لنصيحته وساروا في اتجاه عين
الوردة حسب الخطة التي رسمها لهم ، حتى اذا وصلوها واستراحوا قليلاً
(1) من مشاق
الطريق أخذ سليمان في تنظيم المقاتلين ووضع خطط الاشتباك مع الجيش الاموي الذي أخذ
يقترب من المعسكر ، وكانت أهم معالم التكتيك الذي اتبعته القيادة ، تقسيم المقاتلين
الى مجموعات صغيرة
(2) مهمتها القيام بهجمات صاعقة على طلائع وأطراف الجيش الاموي ،
للتأثير على العناصر المقاتلة فيه.
---------------------------
(1) ابن الاثير الخ : 8/253.
(2) الفتوح لابن الاعثم الكوفي ، نسخة اسطنبول (مخطوطة).
التوابون
_ 147 _
وبعد أن استكمل سليمان هذه الترتيبات العامة ، وقف بين رفاقه خطيباً ، ليضعهم نفسياً
في أجواء المعركة التي دنت ساعتها. وكانت بمثابة تحليل لفكرة الخروج والغاية
الاساسية التي انطلقوا في سبيلها وهي التوبة والغفران
(1) ، وتوضيح لمفهوم الحرب
مستقي من تشريع علي ، الامام ورأس الحزب الشيعي ، الذي وضع مفاهيمه المثالية الاولى.
كما أشار فيها الى موضوع القيادة وانتقالها ـ اذا أصيب ـ الى نائبه المسيّب ومنه
الى عبد الله بن سعد فعبد الله بن وال حتى آخر الخمسة القياديين ، رفاعة بن شداد
(2) .
وأخيراً فان هذه الخطبة كانت انعكاساً صادقاً لاخلاقية القيادة التوابية ، المترفعة
والمتمسكة بالمثل العليا حتى في ساحات القتال : (... فقد أتاكم الله بعدوكم الذي
دأبتم في المسير اليه آناء الليل والنهار تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح ولقاء
الله معذرين ، فقد جاءوكم بل جئتموهم انتم في دارهم وحيزهم ، فاذا ألقيتموهم فاصدقوهم
واصبروا ان الله مع الصابرين... لا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا
أسيراً من أهل دعوتكم الا ان يقاتلكم بعد أن تأسروه أو يكون من قتلة اخواننا بالطّف
(3) رحمة الله
---------------------------
(1) الطبري : 7/74.
(2) الطبري : 7/74.
(3) المكان الذي استشهد فيه الحسين ورفاقه في كربلاء.
التوابون
_ 148 _
عليهم ، فان هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل الدعوة...)
(1) .
وفي هذا الوقت كانت طلائع الجيش الضخم الذي أعده مروان بن الحكم تشق طريقها نحو
قرقيسيا بقيادة عبيد الله بن زياد ، وكانت مهمة هذا الجيش تصفية جيوب المعارضة في
العراق والمشرق ضد النظام الاموي الذي انتقلت فيه السيادة الى المروانيين ، وانتقل
معها ولاء ابن زياد الذي ظل خادماً أميناً ومخلصاً لهذا النظام ، مستعداً لتنفيذ
أصعب المهمات في سبيله ، بمقدار حرصه على استمرارية مصالحه الخاصة ، وقد ساعدت خبرة
هذا القائد الطويلة في شؤون العراق ، على أن يكون الرجل الاكثر جدارة للقيام بهذه
المهمة التي كان سائراً الى تنفيذها بملء الثقة ، ولكنها ثقة كانت في غير محلها هذه
المرة ، فالتغييرات السياسية والعسكرية التي شهدتها الارض العراقية حينئذ فاقت
تصوراته ، وفاته أن هذه المهمة كانت آخر مهامه في خدمة النظام الاموي ، بسقوطه صريعاً
على نفس الارض التي كانت لفترة مسرح عملياته الدموية الرهيبة.
---------------------------
(1) الطبري : 7/74 ، ابن الاثير : 4/76.
التوابون
_ 149 _
وفي الطريق الى العراق تسربت معلومات الى الجيش الاموي عن تحركات التوابين باتجاه
(عين الوردة) فحوّل ابن زياد خط سيره نحو تجمعاتهم ليكونوا أول فريسة له ، ولكن
تطورات جديدة حدثت في دمشق حينذاك ، كان يمكن ان تؤدي الى ارتباك في هذا الجيش ، حين
تناقلت الاخبار موت الخليفة مروان وتعيين ابنه عبد الملك
(1) ، الا ان ذلك لم يترك أي
انعكاس في صفوف الجند ، أو يحدث أي تعديل في خطط الحملة ، ذلك أن الخليفة الجديد سارع
الى تأكيد أوامر الخلافة باستئناف المهمة التي أوكلت الى هذه الحملة واقرار قائدها
في منصبه ، وبدوره كان ابن زياد اكثر تجاوباً مع سيده فأرسل اليه بيعته بالخلافة
ومعه جميع عناصر الجند في الحملة.
لم يكن سوى أيام لحسم الموقف الذي أخذ في التأزم ، كلما اقترب الجيش الاموي من معسكر
التوابين في (عين الوردة) ، حيث كان ترقب مثير من جانب هؤلاء الذين وجدوا في اعدائهم
تفوقاً عددياً ظاهراً وامكانيات عسكرية مذهلة ، بالمقارنة مع جنودهم القلائل
وامكانياتهم المحدودة ، والواقع ان الصورة كما بدت عشية الالتحام في
---------------------------
(1) 3 رمضان سنة 65 هجري. تاريخ خليفة 1/331.
التوابون
_ 150 _
المعركة الفاصلة ، غير واضحة تماماً ، فهناك قوى غير متكافئة ستخوض حرباً هي بالنتيجة
غير متكافئة ، فالتوابون كما أشرنا قبلاً ، لم يطرأ على وضعهم العسكري أي تحسن ، وانما
افتقدوا بعض العناصر القتالية ، فانخفض عددهم الى ما يزيد على الثلاثة آلاف مقاتل
بقليل ، وعلى العكس من ذلك كان جيش الامويين متفوقاً بصورة ملحوظة ، حيث تشير بعض
التقديرات الى انه جاوز العشرين الفاً
(1) ، وهناك تقديرات أخرى لا شك انها احتوت على
كثير من المبالغة أشارت الى انه بلغ الستين ألفاً
(2) ، ولابد ان الرقم الاول هو
الاقرب الى الحقيقة ، وكانت عناصره موزعة ، وفقاً للنظام الحربي التقليدي ، الى خمسة
ألوية : مقدمة ومؤخرة وقلب وجناحين ، وكان على كل لواء قائد من القواد الخمسة الذين
مر ذكرهم ، وعقدت القيادة العامة طبعاً لامير الحملة عبيد الله بن زياد ، اما
التوابون فقد شكلوا خطاً واحداً للتصدي بقيادة سليمان ، يعاونه عبد الله بن سعد بن
نفيل على الميمنة والمسيب بن نجبه على الميسرة
(3) .
---------------------------
(1) الفتوح لابن الاعثم الكوفي ، نسخة اسطنبول (مخطوطة).
(2) تاريخ خليفة 1/331.
(3) الطبري : 7/75.