في الكوفة ، عبر انقلاب أبرز ما فيه انه تم دونما اسراف في اراقة الدماء أو جنوح نحو
العنف في ملاحقة الذين تم الانقلاب عليهم ، فالاشراف طلبوا الامان ، فأجيبوا اليه
،
والعامل الزبيري المهزوم أخرج من مخبأه ، مبعداً الى البصرة ومعه مائة ألف درهم
.
وبذلك خضعت الكوفة بكل فئاتها ـ رسمياً على الاقل ـ للمختار الذي اعتلى المنبر في
المسجد ليعلن برنامجه السياسي والاصلاحي ، وكان محوره اقامة حكم علوي يشيع العدل بين
الناس ويبعث الطمأنينة في النفوس ويتعايش مع مختلف الاحزاب ، ومما جاء فيه :
(تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفاع
عن الضعفاء ، وقتال من قاتلنا ، وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا
نستقيلكم)
.
على أن المختار اذا كان قد استولى على السلطة بمثل هذه السهولة ، فان الاحتفاظ بها
وسط تلك الدائرة من الصراعات الخطيرة التي اتخذت من الارض العراقية
مسرحاً لها كان أمراً في منتهى الصعوبة ، فهناك أخطار مباشرة تتهدد نظامه الحديث ،
وتستهدفه مباشرة كلما اقترب الجيش الاموي ـ الذي فتك بالتوابين ـ من الكوفة ، وهناك
في الطرف الآخر ابن الزبير الذي لا زال يحتفظ بسيطرته على جنوب العراق ، وكان على
المختار أن يتحاشى الاصطدام به ، واقناعه بأن حركته ليست ضده ، مع ما في هذا الاقناع
من استحالة ، خاصة بعد أن مُنع الوالي الزبيري الجديد من دخول المدينة
(1) .
بالاضافة الى ذلك فان الجبهة الداخلية ، لم تكن خالية من المتاعب.
فالمختار وصل الى
الحكم ـ كما هو معروف ـ بواسطة الحزب الشيعي وهو ليس كل الكوفة ، فكان من الطبيعي أن
يواجه معارضة قوية ـ لا سيما من الاشراف الذين بايعوا مكرهين ـ سببت له الكثير من
المشاكل وكادت تطيح بسلطانه الحديث العهد.
والواقع ان الاحداث كانت تتلاحق بصورة مثيرة ولا بد من مواجهة الموقف بجرأة وحزم.
وكان وصول عبيد الله بن زياد بجيشه الاموي الى الموصل
(2) من أثقل الامور على
المختار الذي بدا وكأنه يسابق الزمن في
---------------------------
(1) فلهوزن : الخوارج والشيعة : 215.
(2) ابن كثير : 8/268.
التوابون
_ 179 _
استعداداته العسكرية لمواجهة أشد أعدائه خصومة وأكثرهم الحاحاً. ولكي يؤخر زحف
هؤلاء نحو الكوفة ، أرسل المختار جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة يزيد بن انس ،
المريض والمسن حينئذ
(1) فاشتبك مع طلائع الجيش الاموي وتمكن بعد يومين من تحقيق
انتصار غير متوقع ، ولكن ذلك اقترن بوفاة القائد المنتصر في نفس الليلة ، فكان لموته
تأثيراً سيئاً على معنويات الجنود الذين تهيبوا ضخامة الجيش الاموي وأخذوا في
التراجع الى الكوفة
(2) .
بلغت أخبار الانسحاب ، ومعها اشاعات عن هزيمة جيش المختار
(3) ، فأسقط في يده ، وأمر
قائده ابن الاشتر بالتوجه مع سبعة آلاف مقاتل
(4) للحؤول دون توغل ابن زياد في
العراق.
غير أن خروج ابن الاشتر من الكوفة ترك مضاعفات خطيرة في المدينة وزاد الموقف حراجة ،
حين انتفض الاشراف ـ وكأنهم كانوا ينتظرون خلو الكوفة من ابن الاشتر ـ وقد كان
الحافز وراء ذلك ، تضارب مصالحهم
---------------------------
(1) الطبري : 7/113 ـ 114.
(2) الطبري : 7/115.
(3) فلهوزن : الخوارج والشيعة : 218.
(4) ابن كثير : 8/269.
التوابون
_ 180 _
الاقتصادية والسياسية مع وجود حكومة شيعية في الكوفة برئاسة المختار ، أبرز
اهتماماتها معاقبة المسؤولين عن مقتل الحسين ، وبعضهم كان من الاشراف ، وانصاف
الطبقات المحرومة والفئات المضطهدة لا سيما الموالي ، وغير ذلك مما أثار حفيظة هؤلاء
ودفعهم الى التآمر على الحكم الشيعي الذي هدد ما تمتعوا به من امتيازات خاصة في ظل
الحكومات السابقة
(1) .
انطلق الاشراف في زمر مسلحة في الكوفة وحاصروا قصر الامارة ، وقد أدى ذلك الى قتال
عنيف في الشوارع خاضته الشيعة ببسالة ، وصمد المختار ، فلم تفقده خطورة الموقف
توازنه ، وقدرته الفائقة على المناورة ، حين لجأ الى المماطلة بالتفاوض مع
المتمردين
(2) كسباً للوقت ريثما يصل قائده ابن الاشتر ، وكان قد كتب اليه بشأن
المؤامرة
(3) .
عاد ابراهيم بسرعة الى الكوفة ، وبعودته أتيح للحزب الشيعي ـ وكانت الحماسة قد بلغت
به أقصى درجاتها ، يزيدها اشتعالاً صرخات التوابين بقيادة رفاعة ابن شداد مرددة
شعارها المعروف (يالثارات
---------------------------
(1) بيضون ـ زكار : تاريخ العرب السياسي 117.
(2) ابن كثير : 8/270.
(3) ابن الاثير : 4/98.
التوابون
_ 181 _
الحسين)
(1) ـ أن يقضي على تمرد الاشراف ويصفي مقاومتهم ، وقد أتاح ذلك بدون شك أمام
المختار فرصة الاسراع بتنفيذ قراره الانتقامي من قتلة الحسين وتتبعهم في أنحاء
العراق ، فأوقع بالكثيرين منهم
(2) قتلاً ونفياً وتعذيباً ، كان بينهم عمر بن سعد
وشمّر بن ذي الجوش
(3) .
وبعد يومين من اخماد تمرد الاشراف ، غادر ابراهيم ابن الاشتر الكوفة من جديد في
طريقه الى الموصل حيث كان يرابط بجوارها عبيد الله بن زياد مع جيشه الاموي ، وعند
نهر الخازر
(4) اشتبك الجيشان في ملحمة عظيمة
(5) بذل فيها الشيعة جهوداً عظيمة
للسيطرة على زمام الموقف ، وقامت فرقة انتحارية منهم باختراق صفوف العدو ، مستهدفة
عبيد الله بن زياد فتمكنت من الوصول اليه وقتله ، ثم قتل غيره من القواد الكبار ،
---------------------------
(1) الطبري : 7/120.
(2) الطبري : 7/120.
(3) جون جلوب : امبراطورية العرب 153 ـ 154.
(4) رافد للزاب الكبير.
(5) في الشهر الاول من سنة 67 للهجرة ، ابن الاثير : 4/109.
التوابون
_ 182 _
الامر الذي أحدث بلبلة وفوضى وأدى الى هزيمة ساحقة للجيش الاموي
(1) .
وهكذا اكتملت الصورة الانتقامية ، وغمر الارتياح والفرح نفوس الشيعة بمقتل عبيد الله
بن زياد الذي اجتز رأسه وحمل الى الكوفة ليوضع في نفس المكان الذي وضع فيه رأس
الحسين يوم كان ابن زياد والياً على المدينة ، وحينذاك بلغ المختار قمة مجده
السياسي ، ولكنه وجد نفسه أيضاً أمام المنحدر ، يتهاوى فيه بمثل السرعة التي صعد بها
الى القمة ، ذلك ان الانتصار الذي حققه سيد الكوفة الجديد على الامويين ـ أعداء ابن
الزبير ـ لم يخفف من حفيظة هذا الاخير نحو المختار الذي أضر كثيراً بقضيته
(2) ، فبعد
قليل من الوقت ، والمختار لم يفق بعد من سكرة الانتصار ، فوجئ بمصعب ابن الزبير يزحف
بجيشه نحو الكوفة ، وكان قد أرسل من قبل أخيه أميراً على البصرة سنة 67 للهجرة
(3)
وقد شغل الاشراف المنفيون في البصرة دورهم البارز في تحريض مصعب وتعجيل الحملة التي
أعدها للقضاء على المختار.
وفي الكوفة ، بدا كأن المختار لم يفاجأ بأخبار هذه
---------------------------
(1) الطبري : 7/144.
(2) الطبري : 7/80 ـ 81.
(3) ابن الاثير : 4/112
التوابون
_ 183 _
الحملة بقدر ما فاجأه التوقيت ، فاستعد للامر ودخل المعركة بامكانيات محدودة ، خاصة
وأن قائده الشجاع ابراهيم بن الاشتر كان لا يزال في الموصل
(1) لاسباب غير واضحة
تماماً ، وربما كانت لابراهيم مسوغاته في الابتعاد عن الكوفة والانشغال عنها بأمور
غير أساسية ، وأن التزامه في التحالف مع المختار كان مرحلياً ليس أكثر ، وكان هذا
الاخير يدرك ذلك ويرى في قائده منافساً خطيراً أكثر من مجرد حليف مخلص.
وفي اثناء القتال الذي احتدم في (حروراء)
(2) بين كل من الجيشين ، برز تفوق الزبيريين
بشكل ملحوظ وازداد ضغطهم على رجال المختار الذين تراجعوا مهزومين ، تتبعهم جنود ابن
الزبير ، وما لبثت أخبار الكارثة ان وصلت الى المختار الذي اعتصم في قصر الامارة بعض
الوقت ، غير أنه خرج يطلب الموت
(3) ـ على حد تعبيره ـ بعد أن اشتدت عليه وطأة
المحاصرين ، فقتل بعد مقاومة بطولية نادرة ، وانطوت فكرة الحكومة الشيعية في الكوفة
التي غابت معه وكان غيابها طويلاً جداً.
---------------------------
(1) فلهوزن : الخوارج والشيعة : 229.
(2) ابن الاثير : 4/113.
(3) قال لاصحابه وهو خارج الى القتال : ان الحصار لا يزيدنا الا ضعفاً ، فانزلوا بنا
نقاتل حتى الليل ونموت كراماً ، ابن الاثير : 8/288.
التوابون
_ 184 _
ان سقوط حكومة المختار في الكوفة لم يؤد الى استسلام حركة المعارضة العراقية ، وانما
استمرت تتصاعد ولكن بقيادات مختلفة وبأهداف ومناهج متباينة ، فبعد المختار تسلم
الحزب الزبيري السلطة في العراق بزعامة مصعب ، مستفيداً من الظروف التي كانت خير
حليف في انهاك قوى العدو وتعبئة القوى الشعبية بالكراهية ضد الامويين.
ولكن الى أي مدى سيحتفظ هذا الحزب بالسلطة ذلك هو السؤال ؟ فقد أصبح النظام الاموي
أكثر مناعة واجتاز أزماته العائلية والقبلية بعد وصول عبد الملك بن مروان الى الحكم
وتطلع الانظار اليه حينئذ لانقاذ الدولة الاموية من انقساماتها واعادة بنائها من
جديد قوية ، موحدة.
وبعد أن قضى هذا الخليفة بعض الوقت في تصفية مشاكله الداخلية ومعالجة الوضع العسكري
على جبهة البيزنطيين تحول نحو معركته المصيرية مع منافسه في الخلافة وشريكه في
اللقب عبد الله بن الزبير ، فلما شعر باستقرار الاحوال في عاصمة الخلافة قاد بنفسه
حملة عسكرية الى العراق صيف 72 هجري
(1) لتوجيه ضربته الاولى
---------------------------
(1) ضياء الدين الريس : عبد الملك بن مروان : 210.
التوابون
_ 185 _
الى مصعب ، فاشتبك معه في معركة طاحنة عند (دير الجاثليق) في الجزيرة
(1) انتهت
بهزيمة الجيش الزبيري وحلفائه من العراقيين ومقتل مصعب وقائده الشهير الذي انضم
اليه ابراهيم بن الاشتر ، وكان ذلك ايذاناً برجوع العراق مرة اخرى الى السيادة
الاموية ليستكين فترة ثم ينقض من جديد معبراً بمختلف الوسائل السلبية عن رفضه للحكم
الاموي وتوقه الى التحرر والاستقلال.
وتجدر الاشارة الى أن نضال الحزب الشيعي وهو احدى فصائل المعارضة الاكثر أهمية في
العراق مر بفترة من الركود النسبي وذلك لافتقاده الى المغامرين والقادة العظام في
صفوفه ، وفله في اغتنام الاحداث التي كان من الممكن أن تقوده الى تحقيق طموحاته
السياسية لو أحسن استغلالها جيداً ، وعلى ذلك ستشهد الفترة المتبقية من الخلافة
الاموية تطوراً ملموساً في نظم الحزب الشيعي وعقائده ، وتحولاً بارزاً في مسيرته
النضالية الدائمة ، ولكن هذا لم يؤد بأية حال الى تخلي هذا الحزب عن دوره الريادي في
كل الثورات الرافضة التي شهدتها الارض العراقية منذ مصرع الحسين حتى سقوط الدولة
الاموية نهائياً على يد احدى الدعوات التي فرزتها الحركة النضالية الشيعية.
---------------------------
(1) المسعودي : مروج الذهب : 3/107 ـ 109.