.
على ان هذه الحركة برغم فشلها السريع ، نجم عنها نتائج على جانب من الاهمية ، ذلك ان
معركة الجمل أدت الى انتهاء مدينة الرسول كعاصمة سياسية وتحويلها الى مدينة ذات
مركز ديني بحت واصبحت الكوفة عاصمة الدولة الجديدة خلال الفترة القصيرة التي قضاها
علي في الحكم ومن ثم المركز الاول لنشاط الحزب الشيعي طوال أجيال عديدة ، كما كانت
معركة الجمل أول معركة في الاسلام يقودها خليفة بنفسه ضد اخوان له في العقيدة
.
وكان على علي وهو الشديد الايمان أن يوجد حلاً لذلك ويستن تشريعاً خاصاً عرف فيما
بعد بتشريع قتال أهل القبلة جاء فيه : (ليس على الموحدين سبي ولا يغنم من أموالهم
الا ما قاتلوا به وعليه)
.
واذا كانت حركة المعارضة الحجازية قد لاقت الفشل سريعاً في البصرة ، فان حركة أشد
خطورة كان على الخليفة
محاربتها في الشام حيث معاوية العامل القوي والولاية المنضبطة والجيش المنظم.
فبعد فراغه من موقعة الجمل وجه علي من مركزه الجديد في الكوفة ، الدعوة الى معاوية
لمبايعته واعلان الولاء له مع التهديد بأنه سيلجأ الى قتاله اذا ما استمر في
مخالفته والخروج على ارادته
(1) ، ولكن هذه الدعوة كما توقع الخليفة نفسه ومعه كبار
معاونيه
(2) اصطدمت بتصلب من معاوية واصرار منه على تسليم المسؤولين عن مقتل عثمان.
ولم يكن هذا الاصرار سوى تبريراً لخروجه على الطاعة واخفاء لما يخطط له من وراء هذه
الحملة ، وهو منطق كان من الطبيعي أن يرفضه علي أو أي حاكم آخر ، فهو الخليفة
والمسؤول الاول ، واليه يرجع المتخاصمون فيحكم ما بينهم.
وبدأت الحرب أخيراً في صيف 36 هجري / 657 م وكان سهل صفين ، المدينة الفراتية
القديمة مسرحاً لها ، وقد شهدت عدة معارك طاحنة كان يرافقها حملات دعائية مركزة من
الطرفين فضلاً عن الحرب النفسية التي كان الهدف
---------------------------
(1) الطبري : 5/215.
(2) ابن الاثير : 3/140.
التوابون
_ 44 _
منها تدعيم المعنويات واكتساب أكبر عدد ممكن من عناصر الجيش الآخر ، وكان سير
المعارك الاولى يتجه لصالح العراقيين الذين اصبحوا على وشك الانتصار الى أن جابهتهم
المصاحف مرفوعة على أسنة الرماح ، وطرح شعار التحكيم للنظر في مسألة الخلاف بين
الطرفين ، فاستجاب علي وهو مكره
(1) ، وتوقف القتال بعد جدل عنيف بين كبار قواده ، وكان
التحكيم مسرحية لتمييع الموقف أخرجها عمرو بن العاص أحد كبار البارزين في معسكر
معاوية. والحق ان استعدادات معاوية لم تتم في الاطار العسكري فقط ، وانما في الاطار
السياسي أيضاً حيث أحاط نفسه بمجموعة من الرجالات الذين عرف عنهم الدهاء والبراعة
في تغيير المواقف ، ومن هؤلاء عمرو بن العاص الذي انضم الى معاوية بعد مساومات طويلة
جرت بين الرجلين
(2) .
وأرغم علي على القبول تحت ضغط الاكثرية في صفوف جيشه التي كان يعوزها الانضباط
وتفتقر الى روح الحماسة ، فالجبهة العراقية كانت غير متماسكة وتتفجر بالتناقضات
بينما كان الامر على عكس ذلك في الجبهة
---------------------------
(1) Perier Vie Dal ـ Hadjajadj ibn yousof ، P12
(2) الطبري : 5/232
التوابون
_ 45 _
الشامية ، حيث كان وقف القتال انتصاراً للشاميين دفع عنهم الهزيمة وجعل من زعيمهم
معاوية في مركز الند والمنافسة لعلي في الخلافة.
وكما أرغم علي على القبول بمبدأ التحكيم ، أرغم على اختيار ممثله في المفاوضات وهو
ابو موسى الاشعري ، بينما كان ممثل معاوية بطل عملية رفع المصاحف عمرو بن العاص ،
الذي أوصاه معاوية بقوله : (ان أهل العراق أكرهوا علياً على أبي موسى ، وأنا وأهل
الشام راضون بك ، وقد ضُم اليك رجل طويل اللسان قصير الرأي ، فأخر الحزّ ، وطبق المفصل
ولا تلقه برأيك كله)
(1) ، والتقى الحكمان بأذرح في دومة الجندل (37 هجري /659 م)
ووضح منذ بدء المفاوضات انعدام التكافؤ بينهما ، وما لبث الاجتماع ان ارفضّ دون
نتيجة ، وعادت الامور الى ما كانت عليه قبل التحكيم مع فارق واحد ان مركز علي أصبح
أكثر تضعضعاً حيث خرج من معسكره مجموعة من اثني عشر ألفاً محتجة على مبدأ التحكيم ،
رافعة شعار (لا حكم الا لله) ، وهي المجموعة التي عُرفت بالخوارج وكان لثوراتها فيما
بعد تأثيراً كبيراً في التاريخ الاسلامي ، ولقد أحدث تمرد هؤلاء ارباكاً في جيش علي
اضطر هذا
---------------------------
(1) المسعودي : مروج الذهب 2/392.
التوابون
_ 46 _
الاخير ان يوقف الزحف الى الشام من أجل القضاء عليهم ، وقد أدى هذا الاقتتال الجانبي
الى هدر طاقات الجيش العراقي في الوقت الذي اتاح الفرصة لمعاوية ان يستفيد بتعزيز
مواقعه التي تعدت الدفاع الى الهجوم.
... وفجأة انهارت الجبهة العراقية بعد ان دأب عليّ على ترميمها واستكمالها بعناصر
متجانسة موحدة الولاء لوضع الامور في نصابها.
ولكن مشاريع الحرب التي أريد لها ان تفتح مرة أخرى أبواب الصراع بين الشام والعراق ،
احبطها معاوية قبل ان تخرج الى النور ، وفي غمار ذلك تسقط ولاية مصر المهمة بيد عمرو
بن العاص ـ أحد أبرز المتحالفين مع معاوية في صفين ـ ويقتل علي غيلة في مسجد الكوفة
(40 هجري ـ 661 م) ، فكانت الضربة القاتلة للحزب الشيعي بغياب قائده المؤسس ، وليس من
العسير على أي متتبع لشريط الاحداث حينئذ ان يلمح شبح معاوية وراء تلك المؤامرة وقد
تلوثت أصابعه بالدماء ، واذ أصبحت الصورة أكثر وضوحاً ، تحدّد الموقف بصورة شبه
نهائية لمصلحة الحزب الاموي.
الباب الثاني ... الاحوال السياسية منذ اغتيال علي (عليه السلام) إلى كربلاء
التوابون
_ 49 _
بين الحسن (عليه السلام) و معاوية
بويع الحسن بالخلافة بعد اغتيال ابيه ، وكأي حاكم جديد يتولى السلطة ، أعلن برنامجه
السياسي في مسجد الكوفة ، وكانت أبرز خطوطه مشكلة الصراع مع معاوية ، ذلك الصراع الذي
وجد الحسن نفسه منقاداً اليه تلقائياً لاعتبارات عقائدية وسياسية.
وعلى عكس ما يعتقد البعض من أن هذا الخليفة كان عازفاً عن استئناف الحرب مع معاوية ،
وأنه حين سار لقتال هذا الاخير كان تحت ضغوط من جماعته الكوفيين
(1) ، فالحقيقة
الثابتة أن الحسن واجه هذا الامر بمنتهى الجدية والحزم ، وكان أول ما فعله بعد وصوله
الى الحكم هو الاهتمام بجيشه ، فدفع رواتب جنوده
(2) وعمل على اعدادهم اعداداً لائقاً
لحرب مصيرية مقبلة ، وهذا الجيش
---------------------------
(1) الخربوطلي : تاريخ العراق في ظل الحكم الاموي 68.
(2) الاصفهاني : مقاتل الطالبيين 34.
التوابون
_ 50 _
هو نفسه الذي أعده علي قبل اغتياله للزحف به الى الشام ، ولعل بعض المؤرخين قد خلطوا
بين ما اشاروا اليه من تردد الحسن في مجابهة هذه المشكلة وبين حذره الذي غلب على
تصرفاته ، فالتردد شيء والحذر شيء آخر ، وهذا الموقف كان نابعاً في المقام الاول من
عدم ثقته بالزمرة السياسية التي حاطت به وكان لا بد من الاعتماد عليها في مطلق
الاحوال
(1) ، فهي مركز الثقل في الكوفة بما تمتلكه من رجال وأموال ، وهي في الواقع
تقرر الموقف الذي تريد
(2) على ضوء ما تراه منسجماً مع مصالحها وامتيازاتها في
المدينة.
فالحسن كما نعرف عاش عن كثب تجربة الحرب في صفين وما صاحبها من مؤامرات ، وخبر جيداً
أساليب معاوية في امتلاك قلوب هذا النوع من الرجال
(3) الذي كانت مصالحه فوق المبادئ
وفوق المثل ، ولم يكن
---------------------------
(1) راجع صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين 83 وما بعدها.
(2) راجع صلح الامام الحسن للسيد محمد جواد فضل الله 51 وما بعدها.
(3) كان من أبرز هؤلاء : الاشعث بن قيس ، عمرو بن حريث ، معاوية بن خديج ، المنذر بن
الزبير ، شبث بن ربعي ، اسحق بن طلحة ، وعمر بن سعد.