الكوفة ، وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فأخذ كافة احتياطاته للحؤول بين الحسين
والكوفيين ، بفرضه حصاراً محكماً على المدينة لمنع خروج أحد منها وبارساله حملة
استطلاعية من ألف رجل بقياد الحر بن يزيد لقطع الطريق على الحسين
والتضييق عليه
ومنعه من الاقتراب من الكوفة.
وفي نفس الوقت كان يعد للحملة الاساسية التي عهد اليها بتصفية الامر... وكانت معدة
بذكاء ومكر ، وفوجئ القائد الذي وقع عليه الاختيار لقيادة الحملة وهو عمر بن سعد
القرشي وابن الصحابي الشهير سعد بن أبي وقاص ، وحاول أن يتخلص من المهمة الثقلية
ولكن عبثاً ، فقد أصر الامير على رأيه لاسباب لم تغب عن بال القائد المعين ، ولم يكن
بامكان ابن سعد الذي ذاق طعم السلطة وانغمس في بؤرة السياسة أن يصمد في موقفه ، وقبل
المهمة خوفاً من ضياع الولاية التي وُعد بها
.
ومعه تعليمات مشددة من سيده بدعوة الحسين الى الاستسلام والبيعة ليزيد ، والا
فالحرب.
وفي خلال اسبوع من الحوار ، لم يطرأ على الموقف أي تغيير ، فقد أصر الحسين على رفضه
لشروط القائد الاموي ، وان كان قد طلب بأن تتاح له فرصة العودة الى الحجاز
(1) ولكن
طلبه لم يجاب.
وكان ابن سعد في وضع لا يخلو من الحرج ، فاذا ما تودد في حواره مع الحسين كانت نظرات
خبيثة تحدق فيه من شمر بن ذي الجوشن ، الرجل الثاني في الحملة ، فيتذكر المهمة
والولاية التي تنتظره
(2) .
وفي العاشر من محرم حدث ما كان متوقعاً دون اية مفاجآت ، سوى انضمام الحر بن يزيد
الى جبهة الحسين التي لم تتجاوز السبعين بين فارس وراجل
(3) ، وكانت تلك النهاية
المأساوية لثورة الحسين التي لم يقدر لها الوصول الى قاعدتها في الكوفة ، فاجهضت في
كربلاء ، وكان ذلك المصرع البطولي الذي سجله الحسين ورفاقه ، الذي هز ضمائر الناس ولا
زال ... وابتدأ تاريخاً جديداً في حركة النضال الشيعي سيستمر لآماد طويلة يُكتب
بالتضحيات ويُسطر بالفداء .
---------------------------
(1) ابن الاثير : 4/24.
(2) الطبري : 6/237.
(3) الطبري : 6/244 ـ 245.
تضعضع الاحوال السياسية في نهاية عهد يزيدتضعضع الاحوال السياسية في نهاية عهد يزيد
كان لسقوط الحسين بهذه الصورة المأساوية نتائج خطيرة في تاريخ العراق والدولة
الاموية عامة ، فقد عاش الحزب الشيعي عقدة الذنب مثقلاً بمرارة الموقف الانهزامي
الذي وقفه ازاء كربلاء ، وتحرج النظام الاموي الذي لم يقدر فظاعة المأساة ، وكان عليه
ان يجابه نتائجها السريعة والمستقبلية التي اخذت تنعكس منذ ذلك الحين على بنية هذا
النظام ، وليس ثمة شك ان يزيد كان المسؤول الاول عن مجزرة كربلاء ، وكان مسوقاً الى
ارتكابها بدافع من قصر النظر وعدم صحة الرؤية ، فقد اثبت فشله الذريع في تبؤ مركز
خطير كالخلافة ذلك المركز الذي بذل في سبيله معاوية كل امكانياته وصرف كل جهوده من
اجل الحفاظ عليه ، ها هو يزيد يكاد يقضي بتصرف ارعن على كل انجازات ابيه برغم توصيات
هذا الاخير له بعدم الصدام مع الحسين.
التوابون
_ 80 _
والواقع ان الدولة الاموية ، لم تلبث ان اخذت تجتني ثمرة كربلاء بصورة غير متوقعة
وبدت عاجزة عن صد تيار الثورة الذي عم مختلف مناطق الدولة.
ففي الحجاز ، كانت المدينة مسرحاً لاول انتفاضة ضد السيادة الاموية تحركها عوامل
مختلفة اهمها ما يتعلق بالعزلة السياسية التي فرضها معاوية على الحجاز منذ انتقال
الخلافة الى البيت الاموي ، وبنوعية العمال الذين انتدبتهم الدولة لحكم المدينة لا
سيما عثمان بن محمد بن ابي سفيان وهو من عناصر البيت الاموي كان صغير السن ، قليل
التجربة
(1) ، وهكذا فان عوامل التحلل والنقمة كانت متوافرة في الحجاز ، ولكنها تنتظر
المحرك والوقت الملائم ... فجاءت حادثة كربلاء تفجر المواقف وتطلق النفوس من عقالها.
سوقد حاول يزيد ان يتدارك الامر في المدينة عن طريق التلويح باغداق الاموال عليها
حيناً ، وبالتهديد احياناً اخرى ، ولكن موقف المدينة كان حاسماً ووصل قرارها في
الثورة على النظام الاموي نقطة اللارجوع ، ففي المؤتمر الذي عقده زعماؤها في المسجد ،
اتخذ قرار بالاجماع ، بخلع يزيد ومبايعة عبد الله بن حنظلة الانصاري الذي اصبح زعيم
الثورة
(2) والمسؤول عن تنفيذ مقررات المؤتمر وكان اولها
---------------------------
(1) ابن الاثير : 4/44.
(2) الطبري : 7/4.
التوابون
_ 81 _
الهجوم على عناصر البيت الاموي في المدينة ، وكانوا مجتمعين بدورهم في منزل كبيرهم
مروان بن الحكم ، فطردوهم من المدينة كما طردوا عاملها الاموي ، وبذلك غدت عاصمة
الاسلام الاولى خارج اطار السيادة الاموية.
ولم يقف يزيد الذي اصطبغت يداه بدم الحسين ، موقف المتفرج على احداث المدينة ، وانما
كان متصلباً ، ومصمماً على ضرب الثورة بمنتهى الشدة والقسوة ، ويبدو ذلك واضحاً من
خلال شخصية القائد العسكري الذي أوكل اليه مهمة القضاء على ثورة الحجاز ، وهو مسلم
بن عقبة الذي يصفه المؤرخون ، بأنه أحد جبابرة العرب
(1) لصلافته وقسوته ، ولم يخيّب
مسلم أمل الخليفة به ، فسرعان ما وصل بجيشه الى المدينة وضرب حولها الحصار ، ولكن
أهلها جابهوا الموقف بشجاعة وحفروا خندقاً
(2) حول مدينتهم استعداداً لحرب طويلة
وقاسية ، غير أن استعدادات المدينة لم تكن كافية للوقوف أمام جيش متفوق في العدد
والتنظيم والقيادة ، فانتهت أحلامها الاستقلالية بالسقوط في موقعة الحرة (63 هجري
/683 م) وبانتهاك مسلم حرمتها باباحتها لجنوده أياماً ثلاثة : (يقتلون الناس
ويأخذون الأموال)
(3) .
---------------------------
(1) البلاذري : انساب الاشراف 4/43.
(2) اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي 2/250.
(3) الطبري : 7/258.
التوابون
_ 82 _
وهكذا كان تحرك المدينة ، استنكاراً مباشراً لمقتل الحسين ورفضاً للسيادة الاموية
التي حادت برأيهم عن الشرعية وانحرفت عن روح الاسلام ، ولم يكن اخضاع المدينة معناه
القضاء على الثورة في الحجاز ، لان رايتها انتقلت الى مكة التي شهدت تحركاً أكثر
عنفاً وضراوة.
وفي مكة بلغ التحرك بعداً أشد خطورة ، باعلان عبد الله بن الزبير ثورته ورفضه
الاعتراف بخلافة يزيد ، وقد جاء توقيت هذه الثورة بعد سقوط الحسين في كربلاء ، ليضعها
في اطار التحرك العام الذي شمل المنطقة بكاملها استنكاراً للمأساة ورد فعل مباشر
لها ، والحق انه برغم ما كان لمقتل الحسين من تأثيرات على هذه الثورة ، الا اننا لا
نستطيع أن نربطها بثورة الحسين والثورات الاخرى التي كانت امتداداً لها ، ذلك ان ابن
الزبير كان يعد نفسه للثورة بمعزل عن الحسين وقبل أن يتحرك هذا الاخير الذي وقف
عائقاً أمام طموحه الى السلطة ، لان المكانة العظيمة التي احتلها الحسين في نفوس
الجماهير ، لم تدع أي مجال للمنافسة ، ونتيجة لذلك كان على ابن الزبير أن يتسلح
بالصبر وأن يتصرف بذكاء الى أن يتبلور الموقف وتتوضح الامور وهو في نفس الوقت لا
يألو جهداً في دفع الحسين للاستجابة الى نداء الكوفيين في الذهاب الى العراق واعلان
الثورة من هناك على خلافة يزيد.
على اننا نخطئ اذا انزلقنا في تصورنا لمدى تأثير
التوابون
_ 83 _
الحملة النفسية التي قام بها ابن الزبير ازاء منافسه الرئيسي الحسين لدفعه على
الخروج ، لان هذا الاخير كان يعمل وفق خطة مرسومة وفي اطار من الحذر
(1) وسلامة
الرؤية ، وكان يدرك جيداً ما وراء هذا التشجيع
(2) لتحديد موقفه والاسراع في مغادرة
الحجاز (لو كان لي في الكوفة مثل شيعتك ما عدلت عنها)
(3) ، فوجوده في هذا الاقليم
كان ثقيلاً على ابن الزبير الذي (عرف ان أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً
ما دام الحسين بالبلد وأن حسيناً أعظم في أعينهم وأنفسهم منه وأطوع في الناس
منه)
(4) ، انها حقيقة أدركها الحسين بكل أبعادها ، ومع ذلك اتخذ الطريق الى العراق
للقيام بمسيرته التاريخية ، وهي الثورة على (الظلم ودك صروح الطغيان) ، واقامة مجتمع
عادل متحرر من الطبقية والقهر والاستغلال
(5) .
---------------------------
(1) الطبري 6/189.
(2) ابن كثير : البداية والنهاية 8/163.
(3) ابن كثير : البداية والنهاية 8/160.
(4) الطبري : 6/169 - 197.
(5) جاء في وصية الحسين لاخيه محمد بن الحنفية : (اني لم اخرج اشراً ، ولا بطراً ،
ولا مفسداً ، ولا ظالماً ، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي ، اريد ان آمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا اصبر حتى
يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، وهو خير الحاكمين).
التوابون
_ 84 _
وفي نفس الوقت لم تكن الحجاز بنظر الحسين الارض الصالحة لحركة سياسية ناجحة ، فقد
أفسدها تطاحن الاحزاب وشراء الضمائر ، واصرار معاوية على ابقائها معزولة عن الاحداث ،
فعاشت في الظل نحو ربع قرن من الزمن ، فضلاً عن قلة مواردها الاقتصادية
(1) وعدم
اكتفائها الذاتي الامر الذي كان يجعل من استمراريتها وحيدة في التصدي للنظام الاموي
أمراً في غاية الصعوبة ، لذلك كان العراق بضخامة موارده البشرية والاقتصادية ، الارض
الصلبة التي توفر الطمأنينة ، وتجعل فرص النجاح أقرب الى التحقيق.
لبث ابن الزبير معتصماً في المدينة المقدسة ، يرقب من بعيد سير الاحداث ، حتى جاءته
الاخبار تنقل اليه مصرع الحسين في كربلاء ، فلم يتردد في اتخاذ الموقف الذي كان يتوق
الى اتخاذه وهو اعلان الثورة على النظام الاموي والاستقلال بالحجاز ، مستغلاً كما
حدث في المدينة بشاعة المجزرة في تكتيل الجماهير الغاضبة حوله وتحريكها بشكل عاصف
ضد الامويين قتلة الحسين ، ولكن ثورته اختلفت عن ثورة المدينة بأن هذه الاخيرة
انعكست عليها كربلاء بكل ما فجرته من غضب وحقد ، بينما كان الطموح الشخصي
---------------------------
(1) الخربوطلي : عبد الله بن الزبير 92.
التوابون
_ 85 _
فقط هو جوهر الثورة التي قام بها ابن الزبير وأكثر سماتها بروزاً.
واذا كانت قوات الخلافة الاموية قد تمكنت من حسم الموقف سريعاً في موقعة الحرّة
التي انتهت بفشل ثورة المدينة ، فان الموقف كان أشد حراجة في مكة قاعدة ابن الزبير
التي أخذت تتوسع بعدئذ لتشمل الحجاز كله ، ثم العراق ومصر ، ذلك ان هذه القوات فقدت
في الطريق قائدها الصلف متأثراً بشدة المرض وتقدم السن ، فخلفه في القيادة بناء على
وصية من يزيد أحد معاونيه والمتفانين في خدمة النظام الاموي هو الحصين بن نمير
السكوني
(1) .
وصل الحصين بن نمير بقواته الى مكة وضرب حولها الحصار ، وأثبت في صلافته انه تلميذ
متفوق لمسلم بن عقبة ، أما ابن الزبير فقد تحصن في الكعبة وسد منافذ المدينة ، وكان
قد قوي مركزه حينئذ بما انضم اليه من الحلفاء كبعض الهاربين من موقعة الحرّة ،
وجماعة الخوارج النجدية
(2) والازارقة
(3) فضلاً عن المختار الثقفي الذي بدأ يبرز
كشخصية قوية أثر التطورات السياسية التي رافقت كربلاء وتمخضت عنها ، وازداد مركز ابن
الزبير
---------------------------
(1) ابن قتيبة : الامامة السياسة : 2/10.
(2) الشهرستاني : الملك والنحل 1/165.
(3) ابن كثير : البداية والنهاية 8/239.
التوابون
_ 86 _
قوة ، حين أصبح المعارض الاول للنظام الاموي والرجل الذي يحظى بتأييد غالبية
المسلمين ، التي استنكرت اقدام جيش يزيد على غزو مكة ، واشتد سخطها حين أخذت مجانيق
هذا الجيش ترمي بقذائفها الكعبة
(1) مرتكبة أول عمل جريء من هذا النوع ، سيظل يستثير
حفيظة المسلمين على مر الايام
(2) .
وفي غمرة هذه الاحداث ، تأتي الانباء ناعية يزيد ، الذي ترك الخلافة الاموية لمصيرها
الغامض ، واذ ذاك توقفت العمليات الحربية في المدينة المقدسة (64 هجري) ، ودخل القائد
الاموي في مفاوضات مع ابن الزبير انتهت باجتماع الرجلين في (الأبطح)
(3) لمناقشة
الوضع السياسي العام ، وقد حاول الحصين اقناع ابن الزبير بالذهاب الى الشام ومبايعته
بالخلافة ، ويبدو ان القائد الاموي أدرك ان الامور تتجه لمصلحة ابن الزبير ، فأراد ان
يخوض به معركة الخلافة في دمشق ، ولكن هذا الاخير رفض عروض الحصين الذي سارع بالعودة
الى عاصمة الخلافة ليكون على مقربة من تطورات الاحداث فيها.
والواقع ان استنكاف ابن الزبير عن الاستماع لنصيحة
---------------------------
(1) ابن الاثير : 4/52.
(2) GABRIELI Les ARABES 91
(3) الطبري : 7/16 ـ 17.
التوابون
_ 87 _
الحصين في الذهاب الى دمشق ، قد فوّت عليه فرصة عظيمة من فرص الوصول الى الخلافة.
فقد شغر هذا المنصب بوفاة يزيد ، واحتدم الصراع عليه بين أفراد الاسرة الحاكمة ،
والعاصمة الاموية في غمرة ذلك تبحث عن رجلها القوي دون جدوى لفترة غير قصيرة.
ولا ريب ان غياب يزيد المفاجئ ، قد أحدث بلبلة في مختلف أقاليم الدولة الاموية ، وأخذ
التحرك فيها يتصاعد ويحمل بعداً جديداً ، ستحدد على ضوئه موقفها من مسألة الخلافة
بصورة عامة ، وكان من الطبيعي في غمرة هذا الفراغ السياسي وهذا الجو المشحون
بالتناقضات ، أن يتبارى الطامحون الى السلطة في استغلال المواقف وانتهاز الفرض
لاستقطاب اكبر عدد من الناس حول قضيتهم ، وكان العراق ، الذي ما قبل يوماً السيادة
الاموية الا مرغماً ، المسرح الذي تمثلت فيه صورة الرفض لهذه السيادة وما تمخضت عنه
من أحداث عنف واضطرابات متواصلة ، فالبصرة التي عرف عنها بعض التحفظ في مواقفها
العدائية من الحكم الاموي كان عليها هذه المرة أن تأخذ قرارها بسرعة ، أما الاعتراف
بخلافة ابن الزبير ، الرجل الذي اتجهت اليه الانظار حينئذ كأقوى شخصية في العالم
الاسلامي ، واما المضي في خضوعها للسيادة الاموية التي يمثلها عبيد الله بن زياد.
وقد اغتنم هذا الاخير
التوابون
_ 88 _
الفرصة فحاول أخذ البيعة لنفسه باسم الامويين ، بانتظار ما يسفر عنه الموقف في دمشق ،
ولكن محاولاته فشلت وأرغم على الخروج مطروداً من المدينة
(1) .
بايعت البصرة بعد ذلك ، أحد رجالها ، وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل
(2) ولكنه فشل في
مهمته ، لان المدينة تحولت الى مسرح للفوضى ، تعاني من التطاحن القبلي واشتداد ضغط
الخوارج ، وفشل أيضاً الذين جاءوا بعده
(3) ، فكتب أهلها الى ابن الزبير يبايعونه
ويطلبون اليه انتداب رجل يتولى الامر فيهم ويدفع عنهم خطر الخوارج
(4) ، والواقع ان
تدهور الموقف في البصرة وصل الى مرحلة بالغة الخطورة ، الامر الذي دفع سكانها الى
توحيد كلمتهم والاحتكام الى خليفة الحجاز ، فلبى هذا الاخير طلبهم وبعث اليهم الحارث
بن عبد الله بن ربيعة
(5) فساعد كثيراً في اقرار السلام في تلك المنطقة ، حتى اذا جاء
مصعب بن الزبير بعد ذلك بقليل عاد الهدوء تماماً الى البصرة وتحدد موقفها بصورة
واضحة.
---------------------------
(1) ابن كثير : البداية والنهاية 8/238.
(2) الطبري : 7/24 ، ابن كثير : 8/238.
(3) الطبري : 7/32 وما بعدها ، ابن كثير : 8/238.
(4) الدينوري : الاخبار الطوال 280.
(5) ابن كثير : البداية والنهاية 8/239.
التوابون
_ 89 _
وفي الكوفة ، التي عاشت تحت وطأة التقصير والخذلان في أعقاب مصر الحسين ، كان الموقف
يزداد غلياناً ، خاصة وأن الاسلوب الاموي التقليدي القائم على الضغط والارهاب ، نحو
هذه المدينة المعروفة بميولها العلوية المتطرفة ، لم يتغير ولم يطرأ عليه تعديل ، فقد
استمر التنكيل الاموي يتصاعد بعد كربلاء ، وكان الأداة التنفيذية له ، نائب عبيد الله
بن زياد في الكوفة ، عمرو بن حريث ، ومن البديهي القول ان هذه المدينة ، كقاعدة أساسية
للحركة الشيعية ، اختلفت في موقفها من النظام الاموي عن البصرة ، فاذا كان موقف هذه
الاخيرة قد امتزج ببعض التحفظ قبل أن تعلن قرارها الحاسم ، فان الكوفة لم تكن بحاجة
الى التردد ، فقد اتخذت قرارها سريعاً وهو طرد عاملها عمرو بن حريث ممثل النظام
الاموي فيها ، وتولية عامر بن مسعود مكانه ، ثم كتب أهلها الى ابن الزبير بشأن ذلك
فأقر ابن مسعود في منصبه
(1) ، وبذلك خرج العراق بكامله من السيادة الاموية وانضم الى
ابن الزبير.
اما في دمشق فان وضع الخلافة الاموية ازداد تحرجاً بتنازل خليفة يزيد ، معاوية
الثاني ، عقب ظروف غامضة ، مسدياً ـ دونما قصد ـ خدمة كبيرة لخلافة ابن الزبير.
---------------------------
(1) الطبري : 7/30.
التوابون
_ 90 _
فأدى ذلك الى نشوب أزمة سياسية عنيفة في دمشق واجهت النظام الاموي وكادت ان تقضي
عليه
(1) ، وتفاقم التطاحن بين القبائل حتى بلغ مرحلة من الخطورة بعيدة
(2) فقد أيدت
القبائل القيسية بزعامة الضحاك بن قيس الفهري وزفر بن الحارث الكلابي ابن الزبير ،
بينما ايدت القبائل اليمانية بزعامة حسان بن بحدل الكلبي
(3) ، مروان بن الحكم الذي
طرح نفسه كمرشح للخلافة والتف حوله المؤيدون لبني أمية وبايعوه
(4) في مؤتمر الجابية
سنة 64 هجري /684 م الذي عالج مسألة الخلافة والانقسامات في البيت الاموي ، وكان هذا
المؤتمر خطوة أولى ومهمة لاجتياز المحنة وخروج الخلافة من مأزقها ، ثم كانت الخطوة
الثانية والحاسمة عندما التقت جيوش المتنافسين في مرج راهط في معركة طاحنة انتهت
بانتصار مروان وحلفائه من القبائل اليمانية ، وهزيمة قاسية للقبائل القيسية ، حلفاء
ابن الزبير ، ومقتل زعيمها الضحاك وثلاثة من أبناء زفر بن الحارث
(5) .
---------------------------
(1) فلهوزن : تاريخ الدولة العربية 166
(2) بيضون ـ زكار : تاريخ العرب السياسي 139.
(3) فلهوزن : تاريخ الدولة العربية 175.
(4) تاريخ خليفة : 1/326.
(5) تاريخ خليفة : 1/326.
التوابون
_ 91 _
وهكذا قدر للامويين الاحتفاظ بالخلافة وانتزاعها مرة ثانية بالقوة ، بعد أن اوشكت
على الضياع والانتقال الى الحجاز ، غير أن فرعاً آخراً أمسك بزمامها ، هو الفرع
المرواني الذي تقلدها حتى سقوط الخلافة الاموية
(1) .
---------------------------
(1) F. GABRIELI LES Arabes 91
التوابون
_ 95 _
البابُ الثالث ... التوابون (الشعور بالدنب و التقصير)
عاد ابن زياد ، المنفذ الرئيسي لمجزرة كربلاء ، الى الكوفة يحمل في كفيه وزر الجريمة
النكراء دون أن يرتعش لهولها او يدخل في روعه الندم ، فقد كان مستعداً للسير في خدمة
النظام الاموي ، وهو أحد أركانه ، بلا حدود ، بعيداً عن أي التزام يتعدى المصلحة
الخاصة أو المكاسب الشخصية ، لذلك نجده يدخل الى المدينة التي كانت تمثل القاعدة
الجماهيرية الاولى للحسين ، والارض التي كان ينبغي أن تشتعل فوقها الثورة ، متحدياً
شامخاً ، وكأنه ينتظر وسام البطولة ، ألم يصل به الامر ذروة التحدي حين وقف على منبر
الكوفة في محاولة منه لتسويغ ما جرى في كربلاء متهجماً على الحسين وواصفاً اياه
بالكذاب ابن الكذاب ، وحين أمر بقتل أحد الكوفيين الذي انتقض عليه ورد على التحدي
بمثله
(1) .
وكانت الكوفة حينئذ أشبه ببركان عشية الانفجار ، فهي أكثر من غيرها تتحسس ثقل الذنب
ومرارة الندم ، باعتبارها طرفاً مباشراً ومسؤولاً في قضية الحسين ، فهي
---------------------------
(1) البلاذري : انساب الاشراف 4/64.
التوابون
_ 96 _
التي ألحت عليه بالخروج الى ارض الثورة التي تتعطش الى قائدها المنتظر ، ثم تقاعست
في أحرج الظروف عن الالتزام بما وعدت به والوفاء بالعهد الذي قطعته على نفسها ، واذا
كانت الاحداث التي تلاحقت بصورة مفاجئة بُعيد تحرك الحسين من الحجاز ، قد حالت دون
القيام بواجبها وتنفيذ مخططها المرسوم ، فان ذلك لم يكن ليخفف عنها عمق المأساة
لانها افتقدت بمصرع الحسين الشخصية الاكثر جدارة التي وضعت فيها الشيعة كل آمالها
وطموحها للوصول الى الحكم.
والواقع انه ليس من الصعوبة أن يتصور المرء وضع الكوفة في تلك الفترة القلقة من
تاريخها ، فقد كانت تتفاعل بالغضب ويحدق بها شعور بضخامة الاثم الذي غرقت فيه ، وكان
لابد من مخرج لهذه المحنة وتصحيح للموقف المتخاذل بآخر يجلو عنها بعض العار ، ويخفف
عن كاهلها شيئاً من فداحة الذنب ، فالمدينة كانت معبأة بالحقد وتتفجر بالثورة ضد
النظام الاموي ، المسؤول عن مقتل الحسين ، وعلى ذلك لم يكن صعباً على أي زعيم او
مغامر ان يكتّل المدينة بمعظمها ويقودها الى الثورة ورفع راية العصيان على
الامويين ، ولكن الكوفة حينئذ برغم موجة السخط والتذمر التي شملت مختلف فئاتها ، كانت
تفتقر الى الموقف
التوابون
_ 97 _
المتجانس والرأي الموحد ، فالتركيب البشري والسياسي للمدينة كانت تتوزعه ثلاث قوى
رئيسية :
1 ـ أنصار الثورة الذين يشددون على اتخاذ موقف سريع وحاسم.
2 ـ أنصار الثورة غير الايجابيين ، وهؤلاء برغم حقدهم على النظام الاموي ، فان موقفهم
كان متردداً وتعوزه الجدية.
3 ـ أنصار السلطة القائمة ، الذين كانوا على استعداد للتعاون مع أي شكل من أشكال
النظام السياسي في حدود حرصه على مصالحهم وحمايته لها ، وكان هؤلاء يمثلون طبقة
ارستقراطية لها نفوذها التقليدي ومصالحها الخاصة وهم أساساً من كبار رؤساء القبائل
او الاشراف كما كانوا يعرفون.
تلك هي التركيبة البشرية والسياسية للمجتمع الكوفي كما كانت تبدو في أعقاب عودة ابن
زياد وجنده من معسكره في النخيلة
(1) بعد ارتكابه المجزرة ، وكان ذلك مأساوياً بكل ما
تعنيه هذه الكلمة ، ومشهداً مؤثراً لم تستطع جماعة الحسين التي كان مقدراً لها أن
تشارك في ثورته ، تحمله او السكوت عنه ، ولذلك كان لا بد من التحرك والانتقام.
---------------------------
(1) الطبري : 7/47.
التوابون
_ 98 _
أخذ زعماء تلك الفئة المخلصة التي أطلقنا عليها (أنصار الثورة) وكان معظمهم من أصل
يماني يجتمعون بعد مقتل الحسين مباشرة في اطار من السرية التامة ويعقدون مناقشات
أشبه ما تكون بالنقد الذاتي لمحاسبة أنفسهم على التقصير الذي أظهروه ازاء الحسين
والتشاور على كيفية التكفير عن الذنب وغسل العار الذي لحق بهم نتيجة هذا التخاذل.
فقد جاء في الطبري : (لما قتل الحسين بن علي تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم ، ورأت
انها قد أخطأت خطأ كبيراً بدعائهم الحسين الى النصرة وتركهم اجابته ، ومقتله الى
جانبهم ولم ينصروه ، ورأوا انه لا يغسل عارهم والاثم عنهم في مقتله الا بقتل من قتله
او القتل فيه)
(1) .
---------------------------
(1) الطبري : 7/47.
التوابون
_ 99 _
مؤتمر الزعماء الخمسةمؤتمر الزعماء الخمسة
تزعّم التحرك الشيعي حينئذ خمسة من كبار الزعماء الكوفيين ، المتقدمين في السن
(1)
الذين ارتبطوا تاريخياً بالحركة الشيعية وهم : سليمان بن صُرد الخزاعي ، والمسيّب بن
نجبه
(2) الفزاري ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الازدي ، وعبد الله بن وال التميمي ،
ورفاعه بن شداد البجلي
(3) ، وكانوا جميعاً رفاق علي ومن أشد المؤيدين له
(4) ، ومن
خلال انتماءات هؤلاء الزعماء القبلية نلاحظ أنهم يتحدرون جميعاً من أصل يماني ،
علماً بأن القبائل اليمانية لم تنتظم بكاملها في هذه الحركة اذ غاب عنها عدد من
أقطاب اليمانية مثل كندة ومذحج وهمدان ، وقد عرف عن هذه الاخيرة بصورة خاصة تعصبها
الشديد للقضية العلوية.
---------------------------
(1) فلهوزن : الخوارج الشيعة 189 ، الطبري 7/48.
(2) ورد في البداية والنهاية : ابن نجيه 8/247.
(3) الطبري 7/47 ، ابن كثير 8/247
(4) ابن كثير : 8/247
التوابون
_ 100 _
بدأ الزعماء الخمسة يمارسون نشاطهم في الخفاء ويبشرون بدعوتهم الانتقامية في أوساط
الحزب الشيعي ، بعيداً عن مراقبة السلطة وجواسيسها المنتشرين في كل مكان ، فكان ان
أثمرت جهودهم وشكلوا منظمة سرية نواتها نحو مائة
(1) من العناصر المتطرفة ، لم تلبث
أن تحولت الى منظمة كبرى تحمل اسم التوابين ، وقد صارت هذه التسمية هي الغالبة على
حركة سليمان ورفاقه ، وهي أصلاً منبثقة عن الآية الكريمة التي أصبحت الشعار الرئيسي
لهم وهي : (فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم
انه هو التواب الرحيم)
(2) .
وكان الاجتماع الاول الذي ضم هؤلاء قد عقد في منزل سليمان بن صُرد الذي وصف بأنه
صحابي جليل
(3) وهذا يعطينا فكرة بأنه كان متقدماً في السن رفيع المكانة في مجتمعه ،
وربما كان لذلك اثر في تصدره هذه الحركة واحتلاله مركز الزعامة فيها ، لان المناقشات
التي جرت في هذا الاجتماع أظهرت أن المسيّب كان من أبرز الخمسة وألمعهم تفكيراً
وأكثرهم عمقاً ، وكان سليمان يعرف في
---------------------------
(1) الطبري : 7/48.
(2) القرآن الكريم : 54 البقرة 2 ، اليعقوبي 2/257.
(3) ابن كثير : 8/247