، وكان هذا كافياً لاجهاض أية مبادرة من البصرة
للمشاركة في التحرك ، وبعد أن غادر هذه الاخيرة الى الكوفة عين عليها نائباً عنه هو
أخوه عثمان بن زياد
وأوصاه باستعمال الشدة والحزم.
وفي الكوفة ، حيث انتقل اليها عبيد الله ملثماً وعلى رأسه عمامة سوداء ، أخذت الامور
تنعقد على جبهة الحزب الشيعي وتلاحقت الاحداث فيها بسرعة مذهلة ، فقد كان الناس
حينئذ يترقبون وصول الحسين بين لحظة وأخرى ، حتى انهم اعتقدوه ذلك الملثم الذي ظهر
في الكوفة ، وبعد وصوله الى قصر الامارة أحاط ابن زيادة نفسه بالشرطة ، ومن هناك أخذ
يخطط لانقلابه ، مستفيداً من البلبلة التي خلقها ظهوره في الكوفة ، بدأ أولاً بنشر
جواسيسه في المدينة لمعرفة مكان مسلم بن عقيل ، حتى علم أخيراً انه في منزل هاني بن
عروة
أحد الزعماء الشيعيين ، فاستدعى هذا الاخير وسأله عن مسلم ، فأنكر وجوده في
بيته ، غير أن ابن زياد فاجأه بالجاسوس الذي شاهده في داره
فاعترف هاني حينئذ ولكنه رفض تسليمه وأصر على ذلك رغم السجن والتعذيب (والله لو لم
أكن الا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه)
(1) .
وفي تلك الاثناء كان ابن زياد يقوم بحملة اعلامية واسعة لاستعادة زمام الموقف الذي
أفلت ، وفق مخطط ذكي وتكتيك بارع ، فأوهم رؤساء القبائل بأن جيوشاً عظيمة من الشام
تشق طريقها الى العراق
(2) ، ونثر رجاله في شوارع الكوفة لتخذيل الناس عن مسلم
ومحاولة التأثير عليهم نفسياً باشاعة جو من الذعر والخوف
(3) ، وقد أعطت هذه الحملة
نتائجها الايجابية ، ووجد رسول الحسين نفسه أخيراً في قلة قليلة جداً من الانصار
(4)
وفوجئ بشرطة ابن زياد يقودها محمد بن الاشعث تلقي عليه الحصار ، فقاوم ببطولة ولكن
دول جدوى ، وسيق أخيراً الى قصر الامارة ليواجه مصيره بنفس الشجاعة البطولية
(5) ، ثم
جيء برفيقه هاني بن عروة من سجنه وقد أنهكوه تعذيباً ، وحمل الى السوق حيث أعدم أمام
---------------------------
(1) الطبري : 6/206.
(2) الطبري : 6/208.
(3) مقاتل الطالبيين : 67.
(4) الطبري : 6/208.
(5) الطبري : 6/213 ، مقاتل الطالبيين : 71.
التوابون
_ 74 _
جمهور من الناس
(1) ، وقبل أن ينبلج صباح اليوم التالي كان رأساً مسلم وهاني أول
شهيدين في ثورة الحسين ، مغروسين على أسنة الرماح في طريقهما الى دمشق.
سارع ابن زياد الى تطويق ذيول ما يمكن أن يحدثه مصرع الزعيمين الشيعيين من ردة فعل
في الكوفة ، فأبعد عنها عدداً من المتعاونين مع مسلم وقبض على أشدهم خطورة وزج بهم
في السجن من أمثال المختار بن ابي عبيد الثقفي وسليمان بن صُرد الخزاعي والمسيّب بن
نجبه الفزاري وغيرهم
(2) ، واختفت فئة من هؤلاء ، فلم تتمكن منها شرطة ابن زياد
وجواسيسه ... وأما الذين استهوتهم اغراءات أمير الكوفة ، فقد انضموا الى جانب السلطة
وأصبحوا جزءاً من النظام الحاكم وصاروا يشكلون طبقة لها امتيازاتها الخاصة عرفت
بطبقة الاشراف.
والواقع ان الانقلاب الذي قاده ابن زياد ضد مسلم في الكوفة لم يكن يخلو من مغامرة.
وقد ساعدته عدة عوامل على نجاح انقلابه وافشال حركة مسلم أهمها شخصيته السياسية
الصارمة التي شابهت الى حد كبير شخصية أبيه ، ثم التركيب القبلي في الكوفة ونجاح
---------------------------
(1) الطبري : 6/213.
(2) احمد البراقي : تاريخ الكوفة : 289.
التوابون
_ 75 _
أميرها في شق الوحدة السياسية لاكثر من قبيلة واستقطابه عدد غير قليل من رؤساء
القبائل ، وأخيراً فان التزام مسلم بخط اخلاقي واضح ، هو خط الثورة التي كان يبشر بها
جاء في مصلحة ابن زياد الذي استغل الظروف بأسلوب مناقض تماماً ، في وقت كانت فيه
المبادرة في يد مسلم ، وكان بامكانه أن يبطش بعدوه
(1) ولكن اخلاقيته واطمئنانه الى
موقف الكوفة دفعاه الى اضاعة هذه الفرصة المهمة من يده.
وبذلك انطوت الصفحة الاولى من المأساة التي توّجها الحسين بسقوطه في كربلاء دون أن
تتم فصولاً ، وفي تلك الاثناء كان الحسين قد غادر الحجاز (في الثامن من ذي الحجة سنة
60 هجري) متجهاً الى الكوفة ومعه نفر قليل من أهله الاقربين ، وهو لا يعلم من تفاصيل
ما جرى في المدينة سوى أخبار الثمانية عشر ألفا الذين بايعوا مسلماً على الموت
(2) .
وقد يقول قائل أن خروجه تم قبل جلاء الصورة تماماً في الكوفة ، ولكن ألم تكن تكفي
الاحتياطات التي اتخدها والضمانات التي حصل عليها ؟ ، وهل كان بامكانه أن يسلك
طريقاً آخراً حينئذ طالما أصر
---------------------------
(1) الطبري : 6/204.
(2) الطبري : 6/207.