المسؤوليات فيها ، تقدم النبي بالسن وأخذت آثار المرض وما عاناه تظهر عليه ، وهنا ـ كما يُستخلص من الاخبار ـ أخذ بعض المسلمين يفكرون في مستقبل العقيدة وفي شؤون الحكم في الدولة ومع مرض النبي الاخير أصبحت هذه المسألة هاجساً جثم على صدور المسلمين ، وأثيرت هذه القضية قبل موت النبي ، ويبدو انه حاول وضع الحل لهذه المسألة ولكن مرضه وأموراً أخرى حالت بينه وبين ذلك (1) .
  وبعدما توفي النبي تمّ استلام أبي بكر لمقاليد الحكم في الدولة الجديدة في ظروف سبق شرحها ، وأصبح منصب الخلافة منذ ذلك الحين رسمياً وأساسياً في الحياة السياسية للامة الاسلامية ، بينما لم تكن له في البداية أية هوية واضحة المعالم والاسس.
  وحاول ابو بكر تحديد معالم منصبه الجديد منطلقاً من مفهوم (الخلافة) اللغوي ، أي أن الخليفة نائب ملتزم بأوامر المنيب وأفعاله ، وقد ظهر ذلك في قوله (انما أنا متبع ولست بمبتدع) ، وظل أبو بكر يعرف طيلة حكمه بخليفة رسول الله ، ذلك انه لم يحتج الى تبديل لقبه ، لان

---------------------------
(1) انظر صحيح البخاري : 5/137 ـ 141.


التوابون _ 27 _

  مدة حكمه كانت قصيرة ، لم يحدث فيها مشاكل جديدة تحتاج الى تشريع ، وهكذا ظل ابو بكر يعتبر نفسه نائباً عن النبي منفذاً لكل ما جاء به ، ويرى نفسه انه لا يملك اية صلاحيات تشريعية ، كما انه لا يملك اجبار المسلمين على ركوب خطة لم يحدد معالمها النبي والقرآن الكريم.
  ومات ابو بكر والحالة من حيث الجوهر كما هي ، سوى ان رقعة الدولة قد اتسعت فشملت أراضي خارج شبه الجزيرة ، كما انه تجمع في الاقاليم المفتوحة قوات عربية مسلحة لا ريب انها أخذت تتطلع نحو اسماع صوتها ورأيها في السلطة ، وقبيل وفاته قام ابو بكر بتعيين عمر بن الخطاب لتولي شؤون الحكم من بعده ، وقبل الناس بهذا التعيين ، الامر الذي يدل على حدوث تغييرات في مفاهيم الناس السياسية.
  واستلم عمر السلطة والدولة الناشئة تجتاز مرحلة حاسمة وتواجه مشاكل خطيرة تحتاج الى حلول ، ومثل هذه الحلول تطلبت ممارسة الخليفة صلاحيات تشريعية ، ذلك أن الكثير من المشاكل كان جديداً ليس له نظير بين مشاكل العصر النبوي ، ومن الامثلة على ذلك قضيتا السواد ونصارى تغلب ، حيث قضت الاحكام الاسلامية بتقسيم الغنائم التي يحصل عليها المسلمون وفقاً لقواعد

التوابون _ 28 _

  حددها القرآن ، كما قضى الاسلام بأن يدفع أهل الذمة من نصارى وسواهم من غير المسلمين الجزية دونما استثناء.
  فبعد الاستيلاء على سواد العراق وفتح الجزيرة اقتضت الاحكام تقسيم أرض السواد ، ودفع قبيلة تغلب العربية للجزية اسوة ببقية سكان الجزيرة النصارى ، لكن هؤلاء رفضوا دفع الجزية ، ولقد أدرك عمر ما يمكن أن يلحقه تقسيم السواد من مضار ، فما كان منه الا ان ترك قسمته ، ولجأ الى مضاعفة الصدقة على نصارى تغلب ، بدفع ضريبة من نفس النوع الذي يدفعه المسلم انما الكمية مضاعفة (1) .
  ان في اقدام عمر على مثل هذا العمل ، يعني انه قد منح نفسه صلاحيات تشريعية الامر الذي لم يفعله ابو بكر ، فهو بذلك لم يعد خليفة بمعنى النائب بل تصرف كتصرف أمير الجيش ،وهكذا تخلى عمر عن لقب خليفة ليكتسب لقب (أمير المؤمنين) (2) ، وفي هذا التعبير مؤشرات تدل على تبدل جوهري في المفاهيم السياسية للدولة الاسلامية ، خاصة وأن العرب المسلمين اختلطوا بشعوب كانت خاضعة لفارس وبيزنطه قبل خضوعها للعرب فتركت بعض التأثير.

---------------------------
(1) أبو يوسف : الخراج ، 28 ـ 47.
(2) الطبري : 5/22.


التوابون _ 29 _

  ومع امتداد الايام واتساع رقعة الدولة وبروز مشاكل جديدة أصبح الناس أكثر قبولاً لاعطاء الخليفة صلاحيات أوسع في التشريع ، ويبدو أن عمر كان متنبهاً لذلك ، فأخذ يبحث عن قاعدة يُرتكز اليها في المستقبل ، غير أن اغتياله المفاجئ جاء ليمنعه من اتمام هذا الامر ، وبينما هو على فراش الموت يعاني من آلام جراحه ، لم يشغله ذلك عن هاجس الحكم ومستقبل زمام السلطة في الدولة الاسلامية الناشئة ، نظر عمر حوله ، فرأى ستة من اصحاب النبي كل واحد منهم يمثل فرعاً بارزاً من أسرة الزعامة القرشية ، وكان أبرز هؤلاء الستة ، علي بن ابي طالب ممثل بني هاشم ، اسرة النبي ، آل البيت في الاسلام ، وأبرز أسر الزعامة قبل الاسلام منجهة ، ومن جهة ثانية عثمان بن عفان ممثل أسرة بني أمية ، أسرة المال والزعامة الاولى قبل الاسلام ، والتي تسلم العديد من أفرادها أخطر مناصب الولايات بعد فتح مكة وأيام الفتوح زمن أبي بكر وعمر نفسه ، ويبدو أن هذا الاخير رأى في تعيين علي مقدمة لقيام حكم الاسرة المقدسة ، ورأى في تعيين عثمان تمهيداً لتمكين بني أمية من التسلط الكلي على الدولة وتسييرها بعقلية الارستقراطية التجارية المؤثرة.
  لهذا آثر عمر عدم تحمل مثل هذه المسؤولية فتكون آخر أعماله وأخطرها ، فكان أن ترك هذا الامر للستة الباقين من أصحاب النبي ، ليقوموا باختيار أحدهم خليفة.

التوابون _ 30 _

  وتوفي عمر ، واجتمع هؤلاء فوضحت منذ البداية معالم الصراع ، حيث أعلن أربعة من المرشحين عزفهم عن ترشيح أنفسهم مع احتفاظهم بحق التصويت ، وبذلك انحصرت المعركة بين علي وعثمان ، وأوكلت الامور الى عبد الرحمن بن عوف لاختيار واحد منهما ، وقام هذا الاخير باستطلاع آراء الناس ، فكان أن واجه تيارين : أحدهما ملّ قسوة نظام عمر ورقابته المركزية الشديدة وعدم تساهله ، ورأى في استلام علي للحكم استمراراً ، لا بل تطويراً لنظام الخليفة السابق ، وتطبيقاً أشد لقوانين الاسلام ، ذلك ان علياً كان ابن الاسلام وربيب البيت النبوي وعارفاً بأمور الدين وعلومه أكثر من سواه ، فقد شرب من ينابيعه الاولى منذ البداية وحتى نهاية حياة النبي بلا انقطاع أو توقف ، كما رأى اتباع هذا التيار ان في استلام علي للسلطة انتصاراً دائماً للتيار الهاشمي الذي انتصر بنجاح النبي وطعن يوم السقيفة ، ولقد كان اتباع هذا التيار أقل قوة من التيار الآخر ، غير انه كان أكثر مرونة وأوسع دهاء وأقل مثالية وأبرع في اعداد الانقلابات وخلق المواقف المحرجة (1) .

---------------------------
(1) جاء في تاريخ الطبري ان عبد الرحمن بن عوف بعث في صبيحة اليوم الثالث لوفاة عمر (الى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار ، والى اُمراء الاجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال : ايها الناس ، ان الناس قد احبوا ان يلحق اهل الامصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم ، فقال سعيد بن زيد : انا نراك لها أهلاً ، فقال : أشيروا علي بغير هذا ، فقال عمار : ان أردت الا يختلف المسلمون فبايع علياً ، فقال المقداد بن الاسود : صدق عمار ، ان بايعت علياً قلنا سمعنا واطعنا ، قال ابن ابي سرح : ان أردت الا تختلف قريش فبايع عثمان : فقال عبيد الله بن ابي ربيعة : صدق أن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا ، فشتم عمار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين ، فتكلم بنو هاشم وبنو امية فقال عمار : أيها الناس أن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم ! فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سمية ، وما انت وتأمير قريش لانفسها ، فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبد الرحمن افرغ قبل ان يفتتن الناس ، فقال عبد الرحمن : اني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على انفسكم سبيلاً ، ودعا علياً فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل واعمل بمبلغ علمي وطاقتي ، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي ، قال : نعم ، فبايعه ، فقال علي : حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما وليت عثمان الا ليرد الامر اليك والله كل يوم هو في شأن ، فقال عبد الرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فاني قد نظرت وشاورت الناس فاذا هم لا يعدلون بعثمان ، فخرج علي وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله ، فقال المقداد : يا عبد الرحمن أما واللّه لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين ، فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم ، أني لاعجب من قريش انهم تركوا رجلاً ما أقول أن أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل ، فقال عبد الرحمن : يا مقداد اتق الله فأني خائف عليك الفتنة ، فقال علي : أن الناس ينظرون الى قريش وقريش تنظر الى بيتها فتقول : أن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم) ـ الطبري : 5/37 ـ 38.


التوابون _ 31 _

  لقد رفض علي القبول بشروط عبد الرحمن بن عوف

التوابون _ 32 _

  وأصر على أن يعمل بمبلغ علمه وطاقته ، ذلك انه أتسم بالعلم والمعرفة الواسعة بالاسلام ، والى هذه الناحية الاساسية أشار المقداد بن الاسود ، واتسام علي بالعلم والمعرفة صار فيما بعد ، أي بعد نشوء الحزب الشيعي وتطوره حجر أساس في العقيدة الشيعية.
  وبعدما صار عثمان أميراً للمؤمنين تمهد السبيل امام بني أمية للسيطرة على مقاليد السلطة للأمة الجديدة والتحكم بها ، على ان ذلك لم يحدث دون ردات فعل ، ودونما ثمن باهظ كان على عثمان أن يدفعه بدمه ، وجاءت خلافة علي ،

التوابون _ 33 _

  فكانت أشبه بفترة انتقال انتهت معها فترة الخلافة لتحل محلها على الصعيد الرسمي والعملي ، حكم الاسرة الاموية الملكي ، وعلى صعيد المعارضة الامامة.
ولن أحاول هنا التأريخ لما واجهه عثمان أيام حكمه او الاسهاب عن خلافة علي والمشاكل التي اعترضتها ، فلذلك مكان آخر ومناسبة خاصة ، وانما سأكتفي بالاشارة الى ان استلام علي للحكم واتخاذه من الكوفة عاصمة له ، جعل حزبه الذي تكوّن مع الايام يمارس السلطة وينظم نفسه بعض الشيء ، هذا وقد نظر هذا الحزب مع الذين آمنوا بأحقية علي بالخلافة الى هذا الاخير بعد استلامه الحكم ، نفس نظرتهم السابقة : رجل له من المؤهلات ثم القرابة ما يجعله أجدر الناس وأحقهم بالقيادة ، أي أن القرابة كانت مزية من المزايا ، انما لم تكن بحال من الاحوال المنطلق والقاعدة الاساسية.
  وبعد اغتيال علي ، ووصول معاوية الى أن يكون (أمير المؤمنين) كما كان أبوه (سيد أهل الجاهلية) حرمت شيعة علي (حزبه) من الحكم ، وغدا أفرادها رجال المعارضة الملاحقون من قبل السلطة ، وقامت جماعة الشيعة بمبايعة الحسن بن علي خليفة بعده ، لكن الحسن تنازل لمعاوية ثم ما لبث أن أغتيل ، فتوجه الشيعة بأبصارهم نحو أخيه الحسين ، وفي خلال هذا الوقت ثبت في أذهان الناس

التوابون _ 34 _

  أن الخلافة حق لعلي وأولاده ، فبعد فاجعة كربلاء لم ير بعض الشيعة غضاضة بالاعتراف بمحمد بن الحنفية كصاحب حق في الخلافة ، وكان هذا شعار المختار وأتباعه ، وبعد اخفاق ثورة هذا الاخير أجمع غالبية الشيعة على حصر الحق الخلافي في أولاد علي من زوجته فاطمة بنت النبي ، ذلك أن تطوراً كبيراً قد ألم بالفكر الشيعي من كافة الجوانب ، وغدت القرابة هي العمود الفقري لحق الحكم والقيادة ، وهذا الحق ثابت بالنص والتعيين ، ومحاط بخصائص ومزايا ، فالنبي كان خاتم الانبياء وهو عند وفاته لم يورّث النبوة وانما ورّث قيادة الامة لعلي ، وهذا ورّثها لأولاده من بعده ، ومع وفاة النبي انقطع الوحي لكن النبي كان قد تدارك ذلك بأن أعطى علياً علماً خاصاً ، وعلي ـ الذي وصف دائماً بالعلم ـ ورّث هذا العلم لابنه وهكذا.
  وعلى هذا نجد انه بعد استيلاء معاوية على السلطة حدث تطور كبير في الخلافة وامرة المؤمنين ، فقد أصبح رأس السلطة ملكاً أو أشبه بالملك ، مع احتفاظه بلقب (أمير المؤمنين) دون سواه من أصحاب السلطة ، وصار زعيم المعارضة اماماً ، كذلك تطورت فكرة الامامة تطوراً كبيراً ، فقد حدث انشقاق بين صفوف الحزب الشيعي ، بحيث طورت كل جماعة فكرة الامامة تطويراً خاصاً وحددتها بما شاءت وبما اقتضت الاحوال.

علي (عليه السلام) و الخلافة

التوابون _ 37 _

  بعد مصرع عثمان ، الذي أخفق في تحمل مسؤوليات الحكم بعد خليفة قوي هو عمر بن الخطاب ، شغر مركز الحكم مرة أخرى ، وعادت الازمة من جديد تفجر صراعات وتثير تناقضات لا حد لها ، وهي أزمة فاقت كثيراً في خطورتها وأبعادها الازمة الاولى التي انتهت في السقيفة ، ذلك ان مقتل الخليفة في أعقاب ثورة دموية قام بها الجند العرب في الامصار ، لم يكن حدثاً عادياً يمكن أن يمر دون أن يخلّف رواسب ستصبح متأصلة في جسم الدولة الناشئة ، فتهدد وحدتها بين الحين والآخر ، فهو حدث ترك تأثيره العميق على مجرى التاريخ الاسلامي كله ، وجعل للسيف الكلمة الفاصلة في امور الحكم (1) ، ولعل ما ينسب الى عثمان بعد اشتداد وطأة المحاصرين على داره يعبّر عن هذه الحقيقة حين قال : (فو الله لئن قتلوني لا

---------------------------
(1) فلهوزن : تاريخ الدولة العربية ، 50.


التوابون _ 38 _

  يتحابون بعدي أبداً ولا يصلون بعدي جميعاً ، ولا يقاتلون بعدي عدواً) (1) .
  واذا كان هدف الثوار الذين قادوا انقلابهم على عثمان تحرير الخلافة من طغيان العائلية والاحتكار لمغانم الحكم ، فانهم قضوا بحركتهم دون قصد على آخر ما تبقى من نظام الشورى الذي تحول الى ملكية مطلقة في عهد معاوية (2) .
  ظلت عاصمة الخلافة تعيش في غليان لعدة أيام ، بانتظار من يخلف عثمان في الخلافة ... ولم تكن المسألة بسيطة في ظروف حرجة كهذه لان مسؤوليات ضخمة ومهمات خطيرة كانت تنتظر الحاكم الجديد وكان لا بد ان يبت بها سريعاً قبل أن يحترق بنار الحكم ، وعلى ذلك لم يكن مستغرباً أن يبتعد بعض كبار السياسيين عن المدينة بعدما أدركوا خطورة الوضع ، تاركين معالجة الازمة لعلي المرشح الاوفر حظاً حينئذ للخلافة والذي كان قد بدأ يمارس بعض اعمالها قبل مقتل عثمان (3) ، وتردد عليّ نفسه في قبول هذا المنصب حين توجه اليه الثوار وعرضوه

---------------------------
(1) ابن كثير : 7/180.
(2) بيضون ـ زكار : تاريخ العرب السياسي ، 76.
(3) ابن كثير : 7/177.


التوابون _ 39 _

  عليه بعدما رأوا ميل الغالبية العظمى اليه ، ولكن تردده زال أمام اصرار الثوار على بيعته وربما لشعوره بأن التهرب من الحكم في مثل هذه الظروف خيانة للامة ، وللعقيدة ، فقد كانت فترة حاسمة في تاريخ الاسلام ، فترة في أشد الحاجة الى رجل قوي كعلي ، ارتبط تاريخياً بالاسلام منذ ظهوره ، وثمة شيء آخر هو ان علياً كان السياسي الذي يحظى بتأييد الغالبية في المدينة والزعيم الذي يمكن ان يتفق عليه بقية الزعماء.
  اجتازت الازمة بعض خطورتها بتولية علي مهام الخلافة ، ولكن الامور في عهد الخليفة الجديد سارت في اتجاه أكثر تعقيداً وأخذت الاحداث تتلاحق بصورة عجيبة ، فقد كان هناك أكثر من عائق يعترض هذا الخليفة ويمنعه من القيام بمهماته لا سيما في مجال التغييرات التي كان لا بد من اجرائها لازالة رواسب الحكم السابق ، فقد كان عليه أن يوجد حلاً لجميع المشاكل التي أثيرت في عهد عثمان وأدت الى مقتله ... وهذا معناه الاصطدام بعدد من كبار الصحابة ورجالات الاسلام الذين اصابوا حداً بعيداً من الثراء زمن الخليفة السابق ، ومن الطبيعي أن تتعارض مصالحهم مع الخليفة الجديد المعروف عنه المثالية وشدة التصلب في الرأي.

التوابون _ 40 _

  والحقيقة ان مهمة الخليفة الجديد كانت على جانب كبير من الخطورة ، ذلك أنه لم يكن يحظى بتأييد كل القوى السياسية في الدولة يضاف الى ذلك ان بعض الذين بايعوه أخذوا يرفضّون عنه ويتطلعون كل بدوره الى الافادة من الظروف والوصول الى مكاسب معينة ، ومن المدهش حقاً أن نرى اثنين من الصحابة الكبار هما الزبير وطلحة اللذين ما انفكا يكيدان ضد الخليفة السابق ، أول من ينقلب على علي ، ويصل الامر بهما الى اتهامه بالوقوف وراء مقتل عثمان.
  بدأ علي أولى مهماته الكبيرة ، بعزل ولاة الاقاليم وكانوا موضع السخط والتذمر ووضع مكانهم مجموعة جديدة تتمتع بثقة وتنسجم مع سياسته (1) ، وقد نفّذ الجميع أوامره الخليفة باستثناء والي الشام معاوية الذي اتخذ من قضية الخليفة المقتول عثمان ذريعة لعدم الاعتراف بعلي ، فافتتح بذلك صفحة جديدة دامية في تاريخ الحرب الاهلية التي شهدها حينئذ العالم الاسلامي.
  وكان علي بدوره يدرك جيداً أبعاد المشكلة ويعرف ان القضاء على خصمه القوي المتمرس في المنطقة الشامية

---------------------------
(1) اليعقوبي : 2/155.


التوابون _ 41 _

  ليس بالامر السهل ، ولكن الشام لم تكن كل هموم الخليفة الجديد ، فقد كان هناك أكثر من منتحل لقضية عثمان ، تصدى لعلي وراح يزرع في دربه المتاعب ، ففي الحجاز ناوءه الزبير وطلحة وكانا أصلاً من أصحاب الطموح للخلافة ، وقد أيدا علياً أول الامر ثم ثاراً عليه بعد تعيين ولاة الاقاليم الجدد دون أن يكون لاي منهما نصيب (1) ، وانضمت عائشة التي كانت تحقد على علي منذ أيام النبي الى فريق الساخطين بزعامة طلحة والزبير (2) وكانت غير بعيدة عن مجرى الاحداث التي أودت بالخليفة السابق ، ثم انسحبت الى مكة ، بعد شعورها بأن علياً سيكون الخليفة ، تعمل على تجميع القوى ضده ، وتستغل في نفس الوقت لعبة التشكيك بموقف الخليفة الجديد من قتلة عثمان ، واجتمع الساخطون الثلاثة في مكة ، ثم غادروها الى العراق بعد أن أدركوا صعوبة مناجزة الخليفة في الحجاز ونجحوا في اقناع البصرة بالانضمام الى حركتهم ، ولكن هذه الحركة لم تكلف الخليفة كبير عناء ، فسرعان ما خرجت قواته من المدينة (36 هجري / 656م) وتمكنت من إخضاع الثائرين دونما صعوبة في معركة الجمل التي سميت

---------------------------
(1) ابن قتيبة : الامامة والسياسة 1/49.
(2) Perier Vie Dal ـ Hadjajadj ibn yousof ، P10


التوابون _ 42 _

  بهذا الاسم نسبة الى الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة اثناء المعركة (1) .
  على ان هذه الحركة برغم فشلها السريع ، نجم عنها نتائج على جانب من الاهمية ، ذلك ان معركة الجمل أدت الى انتهاء مدينة الرسول كعاصمة سياسية وتحويلها الى مدينة ذات مركز ديني بحت واصبحت الكوفة عاصمة الدولة الجديدة خلال الفترة القصيرة التي قضاها علي في الحكم ومن ثم المركز الاول لنشاط الحزب الشيعي طوال أجيال عديدة ، كما كانت معركة الجمل أول معركة في الاسلام يقودها خليفة بنفسه ضد اخوان له في العقيدة (2) .
  وكان على علي وهو الشديد الايمان أن يوجد حلاً لذلك ويستن تشريعاً خاصاً عرف فيما بعد بتشريع قتال أهل القبلة جاء فيه : (ليس على الموحدين سبي ولا يغنم من أموالهم الا ما قاتلوا به وعليه) (3) .
  واذا كانت حركة المعارضة الحجازية قد لاقت الفشل سريعاً في البصرة ، فان حركة أشد خطورة كان على الخليفة

---------------------------
(1) قدوره : عائشة 255 - 260.
(2) لويس : العرب في التاريخ 84.
(3) الدينوري : الاخبار الطوال 144 ـ 145.


التوابون _ 43 _

  محاربتها في الشام حيث معاوية العامل القوي والولاية المنضبطة والجيش المنظم.
  فبعد فراغه من موقعة الجمل وجه علي من مركزه الجديد في الكوفة ، الدعوة الى معاوية لمبايعته واعلان الولاء له مع التهديد بأنه سيلجأ الى قتاله اذا ما استمر في مخالفته والخروج على ارادته (1) ، ولكن هذه الدعوة كما توقع الخليفة نفسه ومعه كبار معاونيه (2) اصطدمت بتصلب من معاوية واصرار منه على تسليم المسؤولين عن مقتل عثمان.
  ولم يكن هذا الاصرار سوى تبريراً لخروجه على الطاعة واخفاء لما يخطط له من وراء هذه الحملة ، وهو منطق كان من الطبيعي أن يرفضه علي أو أي حاكم آخر ، فهو الخليفة والمسؤول الاول ، واليه يرجع المتخاصمون فيحكم ما بينهم.
  وبدأت الحرب أخيراً في صيف 36 هجري / 657 م وكان سهل صفين ، المدينة الفراتية القديمة مسرحاً لها ، وقد شهدت عدة معارك طاحنة كان يرافقها حملات دعائية مركزة من الطرفين فضلاً عن الحرب النفسية التي كان الهدف

---------------------------
(1) الطبري : 5/215.
(2) ابن الاثير : 3/140.


التوابون _ 44 _

  منها تدعيم المعنويات واكتساب أكبر عدد ممكن من عناصر الجيش الآخر ، وكان سير المعارك الاولى يتجه لصالح العراقيين الذين اصبحوا على وشك الانتصار الى أن جابهتهم المصاحف مرفوعة على أسنة الرماح ، وطرح شعار التحكيم للنظر في مسألة الخلاف بين الطرفين ، فاستجاب علي وهو مكره (1) ، وتوقف القتال بعد جدل عنيف بين كبار قواده ، وكان التحكيم مسرحية لتمييع الموقف أخرجها عمرو بن العاص أحد كبار البارزين في معسكر معاوية. والحق ان استعدادات معاوية لم تتم في الاطار العسكري فقط ، وانما في الاطار السياسي أيضاً حيث أحاط نفسه بمجموعة من الرجالات الذين عرف عنهم الدهاء والبراعة في تغيير المواقف ، ومن هؤلاء عمرو بن العاص الذي انضم الى معاوية بعد مساومات طويلة جرت بين الرجلين (2) .
  وأرغم علي على القبول تحت ضغط الاكثرية في صفوف جيشه التي كان يعوزها الانضباط وتفتقر الى روح الحماسة ، فالجبهة العراقية كانت غير متماسكة وتتفجر بالتناقضات بينما كان الامر على عكس ذلك في الجبهة

---------------------------
(1) Perier Vie Dal ـ Hadjajadj ibn yousof ، P12
(2) الطبري : 5/232


التوابون _ 45 _

  الشامية ، حيث كان وقف القتال انتصاراً للشاميين دفع عنهم الهزيمة وجعل من زعيمهم معاوية في مركز الند والمنافسة لعلي في الخلافة.
  وكما أرغم علي على القبول بمبدأ التحكيم ، أرغم على اختيار ممثله في المفاوضات وهو ابو موسى الاشعري ، بينما كان ممثل معاوية بطل عملية رفع المصاحف عمرو بن العاص ، الذي أوصاه معاوية بقوله : (ان أهل العراق أكرهوا علياً على أبي موسى ، وأنا وأهل الشام راضون بك ، وقد ضُم اليك رجل طويل اللسان قصير الرأي ، فأخر الحزّ ، وطبق المفصل ولا تلقه برأيك كله) (1) ، والتقى الحكمان بأذرح في دومة الجندل (37 هجري /659 م) ووضح منذ بدء المفاوضات انعدام التكافؤ بينهما ، وما لبث الاجتماع ان ارفضّ دون نتيجة ، وعادت الامور الى ما كانت عليه قبل التحكيم مع فارق واحد ان مركز علي أصبح أكثر تضعضعاً حيث خرج من معسكره مجموعة من اثني عشر ألفاً محتجة على مبدأ التحكيم ، رافعة شعار (لا حكم الا لله) ، وهي المجموعة التي عُرفت بالخوارج وكان لثوراتها فيما بعد تأثيراً كبيراً في التاريخ الاسلامي ، ولقد أحدث تمرد هؤلاء ارباكاً في جيش علي اضطر هذا

---------------------------
(1) المسعودي : مروج الذهب 2/392.


التوابون _ 46 _

  الاخير ان يوقف الزحف الى الشام من أجل القضاء عليهم ، وقد أدى هذا الاقتتال الجانبي الى هدر طاقات الجيش العراقي في الوقت الذي اتاح الفرصة لمعاوية ان يستفيد بتعزيز مواقعه التي تعدت الدفاع الى الهجوم.
  ... وفجأة انهارت الجبهة العراقية بعد ان دأب عليّ على ترميمها واستكمالها بعناصر متجانسة موحدة الولاء لوضع الامور في نصابها.
  ولكن مشاريع الحرب التي أريد لها ان تفتح مرة أخرى أبواب الصراع بين الشام والعراق ، احبطها معاوية قبل ان تخرج الى النور ، وفي غمار ذلك تسقط ولاية مصر المهمة بيد عمرو بن العاص ـ أحد أبرز المتحالفين مع معاوية في صفين ـ ويقتل علي غيلة في مسجد الكوفة (40 هجري ـ 661 م) ، فكانت الضربة القاتلة للحزب الشيعي بغياب قائده المؤسس ، وليس من العسير على أي متتبع لشريط الاحداث حينئذ ان يلمح شبح معاوية وراء تلك المؤامرة وقد تلوثت أصابعه بالدماء ، واذ أصبحت الصورة أكثر وضوحاً ، تحدّد الموقف بصورة شبه نهائية لمصلحة الحزب الاموي.

الباب الثاني ... الاحوال السياسية منذ اغتيال علي (عليه السلام) إلى كربلاء

التوابون _ 49 _

  بين الحسن (عليه السلام) و معاوية
  بويع الحسن بالخلافة بعد اغتيال ابيه ، وكأي حاكم جديد يتولى السلطة ، أعلن برنامجه السياسي في مسجد الكوفة ، وكانت أبرز خطوطه مشكلة الصراع مع معاوية ، ذلك الصراع الذي وجد الحسن نفسه منقاداً اليه تلقائياً لاعتبارات عقائدية وسياسية.
  وعلى عكس ما يعتقد البعض من أن هذا الخليفة كان عازفاً عن استئناف الحرب مع معاوية ، وأنه حين سار لقتال هذا الاخير كان تحت ضغوط من جماعته الكوفيين (1) ، فالحقيقة الثابتة أن الحسن واجه هذا الامر بمنتهى الجدية والحزم ، وكان أول ما فعله بعد وصوله الى الحكم هو الاهتمام بجيشه ، فدفع رواتب جنوده (2) وعمل على اعدادهم اعداداً لائقاً لحرب مصيرية مقبلة ، وهذا الجيش

---------------------------
(1) الخربوطلي : تاريخ العراق في ظل الحكم الاموي 68.
(2) الاصفهاني : مقاتل الطالبيين 34.


التوابون _ 50 _

  هو نفسه الذي أعده علي قبل اغتياله للزحف به الى الشام ، ولعل بعض المؤرخين قد خلطوا بين ما اشاروا اليه من تردد الحسن في مجابهة هذه المشكلة وبين حذره الذي غلب على تصرفاته ، فالتردد شيء والحذر شيء آخر ، وهذا الموقف كان نابعاً في المقام الاول من عدم ثقته بالزمرة السياسية التي حاطت به وكان لا بد من الاعتماد عليها في مطلق الاحوال (1) ، فهي مركز الثقل في الكوفة بما تمتلكه من رجال وأموال ، وهي في الواقع تقرر الموقف الذي تريد (2) على ضوء ما تراه منسجماً مع مصالحها وامتيازاتها في المدينة.
  فالحسن كما نعرف عاش عن كثب تجربة الحرب في صفين وما صاحبها من مؤامرات ، وخبر جيداً أساليب معاوية في امتلاك قلوب هذا النوع من الرجال (3) الذي كانت مصالحه فوق المبادئ وفوق المثل ، ولم يكن

---------------------------
(1) راجع صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين 83 وما بعدها.
(2) راجع صلح الامام الحسن للسيد محمد جواد فضل الله 51 وما بعدها.
(3) كان من أبرز هؤلاء : الاشعث بن قيس ، عمرو بن حريث ، معاوية بن خديج ، المنذر بن الزبير ، شبث بن ربعي ، اسحق بن طلحة ، وعمر بن سعد.