وكان هؤلاء جميعاً تحت قيادة اسامة بن زيد الحدث السن والاقل شأناً بينهم في مركزه
السياسي ومكانته القبلية
.
وليست من قبيل الصدفة أن يُستثنى علي من الدخول في هذا الجيش وما كان بقاؤه الى
جانب النبي ـ وهو في آخر أيامه ـ الا تحسبا للظروف.
وقد حدث بعد اشتداد وطأة المرض على النبي ما أكد اصراره على خروج اسامة بالجيش مع
انه لم يكن هناك ضرورة ملحة لهذا الاصرار ، سوى أن ذلك كان محاولة أخيرة لا يصال علي
الى الخلافة بابعاد كبار الطامحين اليها عن المدينة ، وقد أدرك هؤلاء هدف النبي
فترددوا في تنفيذ أوامره وآثروا عدم الابتعاد عن المسرح السياسي في ظل ظروف دقيقة
كهذه
.
ونحن لن نتوغل هنا في تفاصيل أحداث الازمة السياسية التي سيطرت على المدينة ، وتطاحن
الاحزاب فيها من أجل الاستيلاء على السلطة ، فأمر ذلك معروف ومتداول بين مختلف فئات
الناس ، ذلك أن غايتنا هي البحث في جذور حركة التشيع سياسياً ثم ظهور الحزب
الشيعي الذي قاد معظم حركات المعارضة في الاسلام ، وفجر أشد الثورات عنفاً ضد النظام
الاموي ثم العباسي.
ان الفراغ الذي أحدق بالدولة الفتية أثناء مرض النبي لم يشل الحركة السياسية في
المدينة التي غدت دون حكومة وبلا امام ، ففي حين لازم علي بيت الرسول مطمئناً على ما
يبدو بأن سير الامور سيتجه لمصلحته
(1) ، نشط السياسيون الذين كانوا يترصدون الاحداث
عن كثب وبدأوا يتحركون بسرعة ، ولعلهم أدركوا ان السرعة هي التي تقرر الامور في مثل
هذه المواقف.
وعندما مات النبي كان الوضع شديد التوتر ، والناس موزعة بين تكتلات ثلاثة :
1 ـ أسرة النبي وجمهور المسلمين وبعض كبار الصحابة أمثال : الزبير وسلمان وابو ذر
والمقداد فضلاً عن شخصيات أخرى كأبي سفيان وخالد بن سعيد الاموي والبراء بن عازب
الانصاري
(2) ، وكان علي مرشحهم للخلافة.
---------------------------
(1) الطبري : 3/204.
(2) مرتضى العسكري : عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى : 87.
التوابون
_ 17 _
2 ـ بعض زعماء الانصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعده مع نفر قليل بزعامة كبير
الخزرج سعد بن عبادة الذي كان يحاول اعلان ترشيحه للخلافة.
3 ـ تكتل (أبو بكر ، عمر ، ابو عبيدة) من المهاجرين وكانوا جميعاً مرشحين للخلافة.
ولقد كان تكتل الانصار في الواقع سبّاقاً في اثارة المشكلة حين سارع الى التجمع في
سقيفة بني ساعدة فور العلم باحتضار الرسول ، وكان ابرزهم سعد بن عبادة الذي جيء به
وهو مريض ، وصوته يتهدج الى درجة أن ابنه كان ينقل ما يقوله الى الحاضرين
(1) ، وهنا
تحرك تكتل المهاجرين الثاني (ابو بكر ، عمر ، ابو عبيدة) وخطط بذكاء مستفيداً من
الظروف الى أبعد الحدود ، ومعتمداً على سلبية تكتل المهاجرين الاول المنشغلين بموت
الرسول ، وعلى ضرب اتفاق القبيلتين
(2) التي يتألف منها تكتل الانصار خاصة وأن ترشيح
سعد الخزرجي لم يلق تجاوباً لدى زعماء الأوس
(3) ، وأوجد بعض المزاحمة في قبيلة
الخزرج نفسها من جانب بشير بن سعد الانصاري ، فضلاً
---------------------------
(1) طبري : 3/207.
(2) الاوس والخزرج.
(3) اسيد بن حضير وعويم بن ساعدة ، طبري : 3/209 ابن قتيبة : الامامة والسياسة 1/9.
التوابون
_ 18 _
عن ان بعض (الانصار قالت لا نبايع الا علياً)
(1) .
وما لبث التصدع أن أصاب جبهة الانصار بظهور أول موقف تراجعي أعلنته طائفة منهم
بقولها : (منا أمير ومنكم أمير) ، وكان ذلك أول الوهن كما عبّر عنه سعد بن عبادة
(2) ،
وهو لا شك قد لامس الحقيقة ، لان جدلاً عنيفاً تفجر في السقيفة حينئذ ، ولم يخفف من
حدته الا محاولات عمر لاشغال الرأي العام بقضية موت النبي
(3) ، ثم ظهور أبي بكر
(4)
حيث ألقى خطبة عرض فيها دور المهاجرين في نصرة الرسول وسابقتهم في الاسلام
(5) وأعلن
انه ورفاقه الجماعة التي ينبغي ان يكون لها هذا الأمر
(6) ، دون أن يتجاهل دور
الانصار ونصيبهم في الدولة الناشئة
(7) .
---------------------------
(1) طبري : 3/198.
(2) طبري : 3/208.
(3) طبري : 3/197.
(4) طبري : 3/195.
(5) ابن قتيبة : الامامة والسياسة : 1/6.
(6) لن تعرف العرب هذا الامر الا لهذا الحي من قريش : ابن هشام.
(7) ابن قتيبة : الامامة والسياسة : 1/6.
التوابون
_ 19 _
ويبدو ان خطبة ابي بكر فعلت فعلها في نفوس المجتمعين في السقيفة ، وكان حينذاك عمر
بذكائه الشديد وشخصيته القوية يبذل جهداً فائقاً في استغلال الموقف الذي بدأ يتحول
تدريجياً لصالح المهاجرين ، فقد أصبح الآن باستطاعة ابي بكر ان يطرح رجلاً من تكتله
للخلافة وفعل ذلك حين قال : (هذا عمر وهذا أبو عبيدة ، فأيهما شئتم فبايعوا)
(1) .
ولكن عمر أبى الاستجابة لدعوة ابي بكر وأصر على أن يكون هذا الاخير هو الخليفة.
وثار الجدل من جديد ، وفي غمرة ذلك تقدم عمر من أبي بكر قائلاً : (من ذا ينبغي له أن
يتقدمك أو يتولى الامر عليك ، ابسط يدك نبايعك)
(2) ، وبذلك خرج ابو بكر من السقيفة
أول خليفة في الاسلام حائزاً على تأييد الانصار واثنين من زعماء المهاجرين الكبار.
وكانت خلافة ابي بكر أشبه ما تكون بانقلاب سياسي ناجح ، فجّره تمرد الانصار في
السقيفة ، وحوّله تكتل المهاجرين الى مصلحته ، دون أن يتاح لفئة مهمة من المسلمين في
أن تمارس حقها المشروع في عملية الاختيار ، فالظروف التي تمت فيها البيعة ، لم تكن في
مطلق الاحوال ملائمة
---------------------------
(1) الطبري : 3/209.
(2) الطبري : 3/209.
التوابون
_ 20 _
لتقرير مسألة خطيرة كالخلافة ، حين تمخض عنها تشريع عرفي ، بأن السلطان لمن غلب ، وكان
لا بد من أن تعكس سلبياتها طويلاً على تلك المؤسسة.
كانت حادثة السقيفة ، برغم الاجماع الذي حظي به أبو بكر ، وبيعة مختلف الاحزاب له
فيما بعد ، نقطة البداية في تاريخ الحركة الشيعية
(1) ، ذلك أن اختيار ابي بكر وابعاد
علي لم تستسيغهما جماعة هذا الاخير والمؤيدين له ... وقد ترك أعمق الاثر في نفوس
هؤلاء الذين التفوا منذ ذلك الحين حول علي وأيدوا قضيته في الخلافة ، ثم تحولوا الى
حزب سياسي عرف بالحزب الشيعي (لمشايعته علياً) او العلوي نسبة اليه.
---------------------------
(1) احمد صبحي : نظرية الامامة عند الشيعة الاثني عشرية ، 28 ـ 29.
قيام مؤسسة الخلافة وتطورها السياسيقيام مؤسسة الخلافة وتطورها السياسي
ليس من السهل أن نبحث في مسألة نشوء الخلافة وتطور أسسها والتحول في مفاهيمها
السياسية والعقائدية ، فذلك يحتاج أولاً التعرض الى المنطلقات السياسية مع أصول
الادارة والسلطة عند العرب قبل قيام الاسلام ، ثم تطور هذه الاصول والمنطلقات بعد
انتصار الاسلام وتأسيس دولته.
ولا بد للباحث ، عند الشروع بمثل هذا العمل ، أن يجد نفسه ملزماً في التعرف الى أحوال
مكة ومجتمعها بشكل أساسي ، ثم أحوال بقية شبه الجزيرة حاضرها وباديها ، لم تعرف مكة
قبل قيام الاسلام الحكومة بأي شكل من اشكالها وحدود سلطاتها ، بل أديرت شؤونها من
قبل كبار التجار وممثلي كبار الاسرة القرشية ، وكان للمدينة عدد من الشعب الوظائفية
وزعت كل واحدة منها على أسرة من الأسر ، دون أن يكون هنالك اية هيئة حاكمة تتمتع
بصفة من صفات الشرعية ، كذلك لم تعرف المدينة
التوابون
_ 22 _
أي نوع من أنواع القوة المسلحة ، او يوجد فيها جماعات كهنة لهم نفوذ وسلطات ، بل كان
زعماؤها يجتمعون أحياناً للتداول في القضايا والمشاكل ، وكان مكان اجتماعهم يدعى
(دار الندوة) ، غير أن القرارات التي كانت تتخذ في هذه الاخيرة ، لم يكن لها صفة
الالزام ، وانما كان الاخذ بها اختيارياً وفردياً ... وكان اجماع زعماء المدينة على
أمر من الامور متعذراً في كثير من الاحيان ، وكثيراً ما كانت تنقسم المدينة في
مواقفها من القضايا وتعقد التحالفات المتضادة داخلها ، وفي النهاية يكون النصر
غالباً للحلف الأقوى ، وفي كتب الاخبار والسيرة أحاديث طويلة حول بعض القضايا التي
واجهها مجتمع مكة وحول أحلاف هذا المجتمع ، ويستفاد من بعض الاخبار انه وجد لدى
المكيين مفهوم واحد للشرعية الواجب الالتزام بأوامرها مهما كانت ، وهذا المفهوم
ارتبط بالكعبة التي كانت موضع اجلالهم وقداستهم ، فعندما كان يجمع غالبية الزعماء
المكيون على أمر من الأمور كانوا يدونون ما أجمعوا عليه في صحيفة ويقومون بتعليقها
في جوف الكعبة ، وهنا يأخذ الامر صفة الشرعية ، ولدينا مثال واضح حول هذا : ما عمله
المكيون حين أعلنوا صحيفة مقاطعة بني هاشم التي اضطرت هؤلاء الالتزام بها ، فتركوا
مكة وأقاموا محصورين في شعب ابي طالب ، وعاشوا في ظل المقاطعة حتى مزقت الصحيفة
(1) .
---------------------------
(1) سهيل زكار : التاريخ عند العرب ، 95 - 115.
التوابون
_ 23 _
هذا وقد استمرت عادة تعليق صحف المعاهدات والوصايا وغيرها في الكعبة ، ومن أوضح
الامثلة على ذلك ما فعله هارون الرشيد حين قام بتولية اولاده العهد من بعده.
ان أمر الالتزام بشرعية الاوامر المعلقة في جوف الكعبة مرتبط بقدسيتها ، حيث اعتبرها
القرشيون بيت الله ، وهكذا فالامر المعلق في جوفها تصبح له صفات الهية ، وهو أمر في
غاية الاهمية ، وقد تطور بعد ذلك تطوراً كبيراً.
وبعد قيام الاسلام ، ومع بداية التبشير به لم يحدث تغيير جوهري فيما كان سائداً في
مكة ، ذلك أن النبي لم يمارس أية سلطات على الذين آمنوا برسالته ، ولكنه مع ذلك فقد
غدا مسموع الكلمة ، محترماً ومتبع الرأي بين أتباعه.
وقد تبدل هذا الحال كلياً بانقضاء الفترة المكية وهجرة المسلمين الى المدينة ، حين
عمل النبي الذي أصبح بالاضافة الى صفة النبوة يتحلى بصفة زعيم أمة وحاكمها المطلق
النابعة أحكامه من ارادة الله ، عمل هذا النبي على انشاء أمة جديدة ذات تقاليد
وقواعد جديدة ، ولاول مرة في حياة مجتمع شمالي شبه الجزيرة العربية ، لا بل في مجتمع
الجزيرة كله ، قامت تجربة جديدة للحكم ، مركزية السلطة ،
التوابون
_ 24 _
حاكمها يملك الحق في التشريع وفي نفس الوقت يقع عليه واجب تنفيذ الاحكام. ولم يكن
تطبيق هذا والقبول به من قبل العرب من الامور السهلة ، لكن النبي نجح الى أبعد
الحدود في ارساء قواعد لحكم الامة الجديدة التي أقامها وان كان لم يأت بنظرية للحكم
ذات أسس ومنطلقات ثابتة.
هذا وقد تناول بعض الناس هذه القضية حيث يرون بأن النبي قد أتى بنظرية خاصة في
الحكم والسياسة ، هي نظرية الشورى ، معتمدين على ما جاء في القرآن الكريم (وأمرهم
شورى بينهم) أو (وشاورهم بالامر) ، ومع الاقرار بما ترمي اليه هذه الآيات ، فان
القرآن لم يبيّن قواعد الشورى هذه وحدودها وطرق تطبيقها ، كما لم يبين الى أي حد كان
على النبي الاخذ برأي أصحابه وأتباعه ، وعندما يعود المرء الى كتب السيرة يجد أن
مفهوم هذه القضية لم يكن واضحاً عند أحد من الصحابة ، كما لم تتوضح معالمه في
الممارسات زمن النبي.
لقد ملك النبي وحده جميع فروع السلطة من تشريع وقضاء وادارة وجباية وأعمال حربية ،
وذلك بالاضافة الى صفته الاساسية وهي النبوة ، وهكذا امتزجت مفاهيم السلطات الزمنية
بمفاهيم السلطات الدينية في الاسلام ، وصار كل أمر في الدولة العربية الناشئة مزدوج
الصفات
التوابون
_ 25 _
زمنياً ودينياً ، وكان النبي أحياناً ينتدب بعض أصحابه فيكلفهم ببعض الوظائف حين
يبتعد عن المدينة ، أو يرسلهم لتنفيذ بعض المهام مثل جباية الصدقات أو تفقية الناس
بالاسلام وامامتهم بالصلوات او تنفيذ مهمات عسكرية ، وكان الذي ينوُب عن النبي في
امامة الصلوات يدعى خليفة النبي ، وكان قائد الحملة العسكرية يسمى أمير ، ولما كانت
القوات التي يقودها هذا الاخير قواتاً مؤمنة تقوم بتنفيذ مهمة ضد جماعات غير مؤمنة ،
فقد كان بعض القادة العسكريين يُميزون عن قادة الاعداء بلفظة (أمير المؤمنين !)
(1) .
وكان الخليفة على الصلوات يؤدي الصلاة كما يؤديها النبي دونما زيادة او نقصان ، ذلك
أن الخليفة هو النائب عن الأصيل الملتزم كلياً بما عهد اليه من أوامر وتعاليم.
وكانت صلاحيات أمير الجيش أوسع من صلاحيات الخليفة ، ذلك أن قيادة العساكر تستوجب
الطاعة المبرمة ، وتعطي القائد فرص التصرف وابداع الحلول واصدار ما يراه ضرورياً من
أوامر وتعليمات ، ففي حين حُرم الخليفة من السلطات التشريعية مُنح ذلك للامير وتمتع
به.
ومع اتساع رقعة الدولة الجديدة ، وتعاظم
---------------------------
(1) التراتيب الادارية : 1/2 ـ 8.