ووصل الجيش الاموي أخيراً ، وما لبث أن أخذ مواقعه في مواجهة معسكر التوابين في (عين الوردة) وبدأت استعداداته تتم في اطار من السرعة المتناهية لبدء عملية الالتحام فوراً ، والتخلص من هؤلاء الذين عرقلوا مسيرة الجيش وأعاقوا مهمته بعض الوقت ، ولكن اللقاء بين المتحاربين في (عين الوردة) تأخر قليلاً ، ولعل ذلك يعود الى ان الجنود الامويين لم يكونوا قد استكملوا ترتيباتهم العسكرية بشكل نهائي ، كما يعود الى محاولات القائد الاموي مفاوضة زعيم التوابين لحمله على الاستسلام والاعتراف بخلافة عبد الملك ، وقد قبل سليمان بالمحاورة مع أعدائه وقدم اليهم شروطه للقبول بعدم القتال (1) ، لكنها كانت شروط تعجيزية وغير مقبولة أصلاً لدى الامويين فقط طلب اليهم تسليمه عبيد الله بن زياد (ابن مرجانة حسب تعبيره) وقتله الحسين ، والانضمام الى صفوف شيعة آل البيت (2) .
  وكان من البديهي أن يرفض القائد الاموي شروط

---------------------------
(1) ثابت الراوي : العراق في العصر الاموي 170.
(2) البلاذري : انساب الاشراف 5/217 ، الفتوح لابن الاعثم الكوفي ، نسخة اسطنبول (مخطوطة).


التوابون _ 152 _

  زعيم التوابين المستحيلة ، وكان معنى ذلك ان الحرب أصبحت وشيكة الوقوع.
  وكانت قد وقعت فعلاً واتخذت شكل مناوشات ، حقق خلالها التوابون نجاحات أولية على جانب كبير من الاهمية ، فقد أرسل سليمان نائبه المسيّب بن نجبه على رأس اربعمائة فارس (1) نحو معسكر الامويين حين علم بتحرك جيش اموي نحو (عين الوردة) بقيادة شرحبيل بن ذي الكلاع والحصين بن نمير السكوني (2) فأوقع المسيب هزيمة قاسية بالجيش الاموي ، افقدته الكثير من القتلى (3) على الرغم من التفاوت العددي الكبير بين كل من القوتين ، وهذا عائد بدون ريب من ناحية الى نجاح مخطط التوابين في الحرب الصاعقة ، ومستوى الحماس الملتهب الذي بلغ حداً كبيراً ، ومن ناحية أخرى الى تفكك الجبهة الاموية واختلاف شرحبيل والحصين على القيادة العليا (4) .
  وكانت هذه الهزيمة بمثابة تصعيد عنيف للموقف من

---------------------------
(1) جاء في البداية والنهاية : خمسمائة فارس ، ابن كثير : 8/253.
(2) الطبري : 7/75 ، ابن الاثير 4/76.
(3) الطبري : 7/75 ، ابن الاثير : 4/76.
(4) الطبري : 7/75 ، ابن الاثير : 4/76.


التوابون _ 153 _

  جانب الامويين الذين بادروا بارسال أحد القائدين المهزومين (الحصين بن نمير) الى (عين الوردة) ومعه اثني عشر الفاً من الجنود حيث أصبح وجهاً لوجه مع التوابين...
  وكان ذلك ايذاناً بوقوع الحرب فعلياً (1) حين اندفع التوابون من مواقعهم بقيادة سليمان بن صُرد التحموا مع قوات الحصين الاموية التي تفوقهم كثيراً في العدد ، وذلك في يوم الاربعاء في الثاني والعشرين من جمادي الاولى سنة 65 هجري /4 كانون الثاني 685 م بعد خمسة أيام من نزولهم في (عين الوردة) (2) .
  ويظهر من سير الاشتباكات الاولية أن وضع التوابين ـ برغم قلتهم العددية ـ كان معززاً ، ومعنوياتهم في ارتفاع دائم ، أما الحماس فقد بلغ حداً لا يوصف ، وكانت تستثيره نداءات سليمان في صخب المعركة فتزيده التهاباً وتأججاً : (يا شيعة آل محمد ، يا من يطلبوا بدم الشهيد ابن فاطمة ، ابشروا بكرامة الله عز وجل ، فوالله ما بينكم ودخول الجنة والراحة من هذه الدنيا الا فراق الانفس والتوبة والوفاء بالعهد) (3) .

---------------------------
(1) ابن كثير : 8/254.
(2) فلهوزن : الخوارج والشيعة 195.
(3) الفتوح لابن الاعتم الكوفي ، نسخة اسطنبول. (مخطوطة).


التوابون _ 154 _

  (التوبة والوفاء بالعهد) تلك الصرخة التي أطلقها سليمان في المعركة والشعار الذي طرحه التوابون منذ سنوات طويلة وقاسية ، اقترن الآن بالفعل وحانت ساعة تنفيذه ، لقد دخلوا حرب التكفير عن الذنب بأهداف مثالية وقلوب تطفح بالايمان ، عبّروا عنها ابان المعركة بتكسير أغمدة السيوف (1) والتقدم الى القتال بشجاعة خارقة وحماس منقطع النظير.
  دارت المعارك رهيبة ، وبلغت في أيامها الثلاثة التالية (وهو الوقت الذي استغرقته الحرب) مرحلة من التصعيد غير متوقعة ، فعلى جبهة التوابين الدافقة بالحيوية والنشاط ، كانت تحركات المقاتلين تتم في سرعة عجيبة ، والوحدات الانتحارية الصاعقة كانت تحقق نجاحات مذهلة على أطراف ومقدمات الجيش الاموي ، الامر الذي أحدث ارتباكات في صفوفه وأفقده كثيراً من عناصره المقاتلة ، ففي اليوم الاولللمعارك الجدية دار قتال ضاري بين الطرفين حسمه التوابون بهجوم عنيف على طرفي الجيش الاموي فتراجع مهزوماً ، تاركاً وراءه الكثير من القتلى والجرحى (2) ، وقد تركت هذه الهزيمة صدى استياء

---------------------------
(1) الطبري : 7/76.
(2) قدر عدد الجيش الاموي الذي اشترك باثني عشر الفاً ، كان على رأسه الحصين بن نمير السكوني ، ابن الاثير : 8/254.


التوابون _ 155 _

  عميق عند القائد العام عبيد الله بن زياد وأفقدته السيطرة على أعصابه ، حين صب جام غضبه وقذف بشتائمه أحد قواده (شرحبيل بن ذي الكلاع) متهماً اياه بالتخاذل والتقصير (1) .
  واستؤنف القتال الضاري في اليوم الثاني ، وكان وضع الجيش الاموي قد أصبح أكثر تعزيزاً ، بحيث ان التوازن العسكري اختل الى حد كبير وانعدم التكافؤ بين القوتين المتحاربتين بشكل ظاهر ، غير ان الروح النضالية المغامرة التي تميزت بها أعمال التوابين ، وذلك التسابق الجموح نحو الاستشهاد ، نسف كل قواعد التوازن ، فقد كان صمودهم بطولياً ورائعاً طوال يوم مثير ، أثخن فيه الفريقان قتلاً وجراحاً (2) ، ولم تكن نتيجته على ما يبدو حاسمة لاي منهما ، حتى كان اليوم الثالث (3) وهو الاكثر اثارة في معارك (عين الوردة) حين أطبق الجيش الاموي بكل امكانياته على التوابين الذين اصبحوا في قلة قليلة بعد أن أفقدتهم اشتباكات اليوم السابق جزءاً كبيراً من مقاتليهم ، وقد وجدوا أنفسهم في هذا اليوم محاطين من كل جانب بقوات مكثفة من أعدائهم ، انقضّت عليهم

---------------------------
(1) الطبري : 7/76.
(2) الطبري : 7/76.
(3) المسعودي : مروج الذهب 3/94.


التوابون _ 156 _

  بمنتهى العنف والشراسة ، ولكن التوابين ، للحقيقة ، لم يتخاذلوا ولم يتخلوا مطلقاً عن ايمانهم بالقضية التي يناضلون في سبيلها ، وانما ظلوا متماسكين في جبهة واحدة متراصة ويقاتلون قتالاً بطولياً مستميتاً (1) ، حتى أن هجماتهم الانتحارية أوقفت بعض الوقت الجنود الامويين عن التقدم ، وجعلتهم يتحاشون الالتحام المباشر معهم ، فاعتمدوا النبال كسلاح رئيسي (2) وتمكنوا بذلك من انزال خسائر جسيمة في صفوف التوابين ، مما أدى الى سيطرتهم أخيراً على زمام الموقف.
  وكان سليمان ذلك الرجل الاسطوري ، يتقدم رفاقه المناضلين ، بخطى ثابتة نحو قدره الذي اختاره عن قناعة وايمان ، وفي وسط المعمعة كان صوته يخترق الآذان مردداً : (عباد الله من أراد البكور الى ربه والتوبة من ذنبه والوفاء بعهده فاليّ) (3) ، وكانت هذه الكلمات آخر ما وردده القائد التوابي وهو يشق بسيفه صفوف الامويين بكل جرأة ورباطة جأش ، ولعله عاش في تلك اللحظات لذة الانتقام وحلم الشهادة الذي أوشك أن

---------------------------
(1) الجمعة في 24 جمادي الاول 65 هجري / 6 كانون الثاني 685 م ، المسعودي : مروج الذهب : 3/94.
(2) جون جلوب : امبراطورية العرب 135.
(3) الطبري : 7/76.


التوابون _ 157 _

  يتحقق ، وحدث ذلك فعلاً عندما أدركه سهم ألقى به يزيد بن الحصين ، فأوقعه قتيلاً وكان له من العمر ثلاثاً وتسعين سنة (1) ، ومن غرائب المصادفات ان تكون نهاية زعيم التوابين ـ الذي قام بثورته للانتقام من النظام الاموي عبر ممثله والمسؤول الاول عن مقتل الحسين ، يزيد بن معاوية ـ على يد يزيد آخر هو ابن الحصين بن نمير السكوني أحد أركان هذا النظام البارزين ، وكأن ذلك جاء ليوحي بأن معركة الانتقام التي يخوضها الحزب الشيعي لم تنته بعد ، وستبعث من جديد ، ولكن مع وجوه أخرى وبأبعاد مختلفة.
  بعد مقتل سليمان ، تسلم راية القيادة نائبه المسيّب بن نجبه الذي أثبت انه لا يختلف عن مستوى سليمان في جرأته المتطرفة وفي ايمانه العظيم ، وقد وصفه أحد الذين شاركوا في (عين الوردة) بقوله : (ما رأيت أشجع منه انساناً قط ، ولا من العصابة التي كان فيهم ، ولقد رأيته يقاتل قتالاً شديداً ما ظننت ان رجلاً واحداً يقدر أن يبلى مثل ما أبلى ، ولا ينكأ في عدوه مثل ما نكأ) (2) ، وقد سقط المسيّب بدوره صريعاً في المعركة(3) بعد جهود

---------------------------
(1) ابن كثير : 8/255.
(2) الطبري : 7/76 ـ 77.
(3) ابن كثير : 8/254.


التوابون _ 158 _

  مستميتة ، وتبعه بقية القواد وعدد كبير من المقاتلين ، باستثناء رفاعة بن شداد الذي اعترف بالهزيمة وأدرك عدم جدوى القتال ، وكانت القيادة قد انتقلت اليه فأصدر أوامره سراً الى البقية الباقية من التوابين بالانسحاب والتراجع ، غير أن الاستجابة لم تكن جماعية ، لان فئة ، قدّر عددها نحو مائة وثلاثين مقاتلاً ، رفضت فكرة الانسحاب ، وأصرت على الاستشهاد ، فظلت تقاتل حتى أبيدت بكاملها (1) ، اما الباقون فقد انسحبوا تحت جنح الظلام ممتثلين لاوامر القائد العام ، وكانت عملية الانسحاب مدروسة ومنظمة الى حد كبير ، ذلك ان رفاعة كان قد أمر بتشكيل فرقة من سبعين فارس ، مهمتهاً تغطية الانسحاب واشغال العدو ، كما أمر بتهديم الجسور والقناطر وراء المقاتلين لاعاقة أي ملاحقة قد يقوم بها الامويون.
  تمت عملية التراجع بنجاح تام ، وابتعد التوابون المنسحبون عن ميدان المعركة ، واصبحوا في منأى عن مطاردة الجيش الاموي المنتصر الذي استنكف عن محاولة اللحاق بهم (2) ، وفي طريق العودة الى الكوفة عاودتهم ذكريات القتال في (عين الوردة) ورجعت اليهم من جديد عقدة الشعور بالذنب ، ففكروا بالرجوع والسير على خطى

---------------------------
(1) جون جلوب : امبراطورية العرب 136.
(2) ابن كثير : 8/254.


التوابون _ 159 _

  رفاقهم الذين وهبهم الله نعمة الشهادة ، ولكن رفاعة تمكن بعد صعوبة من اقناعهم بالتخلي عن هذه الفكرة ومتابعة الانسحاب الى الكوفة (1) .
  ولم تقتصر متاعب الانسحاب على التمرد والاصرار على الرجوع الى ساحة القتال ، وانما كانت مشاق الرحلة تفوق حدود الاحتمال ، وتضفي عليها مسألة الجرحى (2) وفقدان بعضهم في الطريق ، ظلالاً مأساوية قاتمة ، وقد حاول زفر بن الحارث الكلابي مواساتهم والتخفيف عنهم عند وصولهم الى (قرقيسيا) ، فأرسل اليهم المواد الغذائية ، والاطباء لمداواة الجرحى ، عارضاً عليهم الاقامة ما شاءوا في مدينته ، فأقاموا فيها ثلاثة أيام (3) انصرفوا بعدها متبعين نفس الطريق الذي حملهم الى (عين الوردة) حتى اذا بلغوا (هيت) تفجرت أحزانهم من جديد بلقاء اخوانهم من جماعة المدائن بقيادة سعد بن حذيفة بن اليمان ، وهم في طريقهم الى ساحة القتال (4) ، فكان مجيئهم متأخراً وفي غير محله.
  ولكنهم سجلوا على أية حال موقف التضامن

---------------------------
(1) جون جلوب : امبراطورية العرب 136.
(2) الفتوح لابن الاعثم الكوفي ، نسخة اسطنبول (مخطوطة).
(2) الطبري : 7/80.
(4) ابن الاثير : 4/78.


التوابون _ 160 _

  السياسي والعقائدي مع رفاقهم التوابين من أجل الغفران والتكفير عن الذنب. كان اللقاء حزيناً بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، لم يخفف بعض حدته الا افتراقهم ، عائدين كل الى مدينته ، وقد غمره أسى عميق وحمل في قلبه صورة لن تنسى من الفجيعة.
  تابعت فلول التوابين بعد ذلك رحلة العودة الى الكوفة ، وكانت أخبار المعارك الانتحارية والبطولات الخارقة التي شهدتها (عين الوردة) ، قد بلغت أسماع الكوفيين فهزتهم اعجاباً ، كما أن بعضهم آلمه أن تتهاوى تلك النخبة من الحزب الشيعي وتضيع جهودها هباء في غمار حرب غير متكافئة ، فلما بلغوا مشارف المدينة ، هرع لمواساتهم جمهور من الكوفيين ، كان بينهم الامير الزبيري عبد الله بن يزيد الانصاري الذي استقبل قائدهم رفاعة معزياً ومشجعاً ، ومشيداً كذلك بالدور البطولي الذي قام به التوابون في مسيرتهم النضالية الرائعة ضد (قوى الطغيان) و(زمرة الجوار)(1) .
  وفي الكوفة ، اتصل بهم المختار من السجن معزياً : (ابشروا فقد قضيتم ما عليكم وبقي ما علينا ، ولن يفوتنا منهم من بقي ان شاء الله) (2) ، وكتب الى زعيمهم رفاعة

---------------------------
(1) الفتوح لابن الاعثم الكوفي ، نسخة اسطنبول (مخطوطة).
(2) الفتوح لابن الاعثم الكوفي ، نسخة اسطنبول (مخطوطة).


التوابون _ 161 _

  مبشراً بالنصر القريب ، ومعاهداً على اكمال المسيرة التي بدأها سليمان ورفاقه وان كان لا يفوته ان يغمز من قناة هذا الاخير بوصفه انه ليس بالرجل الذي يمكن ان يتحقق على يديه النصر وانما هو ـ أي المختار ـ القادر على حمل راية الحزب الشيعي وتنفيذ مخططاته الثأرية وتصفية كل من شارك في مأساة كربلاء ، نظاماً كان أم اشخاصاً : (أما بعد فمرحباً بالعصبة الذين عظم الله لهم الاجر ورضي فعلهم حين قتلوا ، اما ورب البيت ما خطا خاط منكم خطوة ولا ربا ربوة الا كان ثواب الله أعظم من الدنيا ، ان سليمان قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون ، اني أنا الامير المأمور والامين المأمون وقاتل الجبارين والمنتقم من أعداء الدين المقيد من الاوتار ، فأعدوا واستعدوا وابشروا.
  أدعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدم أهل البيت والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين) (1) .

---------------------------
(1) ابن الاثير : 4/78 ،{ 3 } النتائج


التوابون _ 165 _

  ان ثورة التوابين ـ كما رأينا ـ أخفقت عسكرياً ، وتحطمت قوتها الاساسية في (عين الوردة) ، وسبب هذا الاخفاق يعود بدون شك الى عامل رئيسي ، هو الاختلال الظاهر في توازن القوى بين الجيشين الاموي والتوابي ، فبينما كان الاول ، قوياً ، انضباطياً ومتفوقاً بشكل بارز في امكانياته البشرية والمادية ، كان الآخر ضعيفاً ، اقتصر على عدد محدود من المتطوعين ، الذين توفر لهم من الحماسة والفروسية والايمان ، أكثر مما توفر من التنظيم والعدد والعتاد ، وهذا الواقع اعترف به سليمان قبيل المعركة عندما لاحظ هزالة جيشه وقلة امكانياته بالمقارنة مع أعدائه الامويين (1) ، وقد أدى هذا الوضع المتباين لدى كل من الفريقين ، الى حسم الموقف بسرعة وانهاء المعركة خلال أيام ثلاثة رغم الجهود البطولية التي بذلها التوابون في ساحة القتال (2) .

---------------------------
(1) الطبري : 7/66.
(2) المسعودي : مروج الذهب 3/94.


التوابون _ 166 _

  وعلى الرغم من أن المنطلقات الاولى للحركة التوابية جاءت منسجمة مع ما آلت اليه من نتائج فان التقويم الموضوعي لها هو أبعد من حدود الارتجال والتهور ، كما في أذهان بعض المؤرخين ، فقد ولدت حركة التوابين في الظلام تحت واقع التكفير عن الذنب الذي أوجده مصرع الحسين في كربلاء ، وعاشت كمنظمة سرية تعمل في الخفاء ـ طوال خلافة يزيد بن معاوية ـ لتكوين قاعدتها الشعبية في الكوفة ، وتحاول ان تستفيد من الظروف التي تمخضت عن وفاة هذا الاخير بخروجها من الاطار السري واعلانها الثورة على النظام الاموي المسؤول المباشر عن مقتل الحسين.
  ومع اعترافنا بأن حركة التوابين كانت مجرد حركة تكفيرية التزمت بهدف أساسي هو التوبة ، وبأنها كحركة سياسية لم تتضمن أي برنامج اصلاحي سياسياً كان أم اجتماعياً ، فلابد لنا أن نعترف ايضاً بأنها كانت حركة منظمة ومدروسة ، دأبت بصورة جدية على استقطاب الحزب الشيعي بكل فصائله وتعبئته لخوض معركة الانتقام للحسين ، ولكن التمزق الذي أصاب هذا الحزب ، بسبب تردد بعض عناصره ، واستنكاف البعض الآخر عن المشاركة وانتقاده زعامة الحركة التي لم تضع امامها مخطط الاستيلاء

التوابون _ 167 _

  على السلطة ، فضلاً عن ظهور المختار في الكوفة في وقت شارفت فيه هذه الحركة على النضج ، فكان لظهوره الاثر الكبير في ارتداد الكثيرين عنها واستمالتهم الى دعوته الاكثر واقعية بمضمونها السياسي والاجتماعي.
  ان كل هذه الامور أدت في النهاية الى نتيجة حتمية وهي الاخفاق العسكري المدمر للحركة التوابية ، وان كان ينبغي أن نكون حذرين عند استعمالنا صيغة الاخفاق أو الفشل ، لان الهزيمة العسكرية لم تكن مفاجئة او غير متوقعة بالنسبة للتوابين ، وانما كان هؤلاء يعرفون سلفاً النتائج المترتبة على تحركهم والتي حذرهم منها أكثر من محذر ، لذلك توجهوا الى المعركة وهم يشعرون في قرارة أنفسهم انهم متجهين الى نهايتهم المحتومة بكل قناعة وبكل ادراك واقعي للظروف ، فحققوا بذلك أهدافهم المرسومة ، وكان لهم من النتائج ما أرادوا.
  والحقيقة ان أي تقويم موضوعي لحركة التوابين ، ينبغي ان لا يبتعد عن المفهوم العام الذي انطلقت منه ، وهو الشعور بالذنب ومحاولة التكفير عنه ، ذلك الشعور الذي جمع عناصرها القيادية والمتطوعة في تنظيم سري ، تحول بعد فترة الى حركة انتحارية ، هدفها الاول الانتقام

التوابون _ 168 _

  للحسين او الموت في سبيله (1) ، ومن خلال هذا المفهوم نستطيع القول أن فشل الحركة العسكري لا يعني بالضرورة انها فشلت على الصعيد السياسي ، ولا يعتبر مبالغة بأية حال اذا اعتبرناها حركة سياسية ناجحة ، نفذت خطة موضوعة سلفاً ، وقامت بتأدية مهمتها الانتقامية على أكمل وجه ، وأخيراً فان أبرز ما حققته الحركة التوابية من نتائج ، انها سجلت بعض الايجابيات على صعيد حركة النضال الشيعي ، وانعكست تأثيراتها بصورة خاصة على المجتمع الكوفي ، فعبأت جماهيره بالثورة ، وعمقت في نفوسهم الكراهية والحقد ضد النظام الاموي ، الامر الذي جعل من الكوفة فيما بعد مسرح التحرك الدائم للحزب الشيعي وثوراته المتلاحقة ، المناهضة للنظام.
  والواقع ان الشيعة في الكوفة ظلوا يمارسون النقد الذاتي ازاء موقفهم من الحسين بعد عودة بقايا التوابين من (عين الوردة) ، واستمر التعبير عن الندامة والشعور بالاثم يمارس عبر نشاطات وتحركات مختلفة.
  ولكن غياب عدد من الشخصيات القيادية في الحزب الشيعي أدى الى فراغ في الزعامة القادرة على تسجيل مواقف سياسية ذات أهمية ، حتى رفاعة بن شداد القائد

---------------------------
(1) (رأوا انهم لا يغسل عنهم ذلك الجرم ، الا قتل من قتله او القتل فيه) مروج الذهب 3/93.


التوابون _ 169 _

  التوابي المنسحب ، لم يكن بمقدوره ، وهو المتقدم في السن والمهزوم عسكرياً ، أن يتزعم الحزب الشيعي المفكك حينئذ ، فهناك فراغ في الزعامة ، واختلاف في آراء القادة حول موقف الحزب من التطورات السياسية الجديدة ، وهناك تململ في أوساط القاعدة الجماهيرية التي لا تزال تتفجر بالنقمة وتقوم بضغوط على القيادة من اجل استئناف التحرك واتخاذ قرارات أكثر جدية.
  وكانت هذه الظروف فرصة نادرة امام الزعيم الشيعي المعتقل آنذاك في سجن الكوفة ، المختار الثقفي ، فراقبها باهتمام كبير ، وكتب الى صهره عبد الله بن عمر موسطاً اياه من جديد لدى عبد الله بن يزيد أمير الكوفة (1) من أجل الافراج عنه ، وقد تم له ذلك لقاء عهود قطعها لهذا الاخير (2) بعدم اثارة المتاعب وتجميد نشاطاته السياسي ، ولكن المختار لم يكن بأية حال ذلك الرجل الذي يلتزم بعهود من هذا النوع وهو المحنك والسياسي الطموح ، وانما سخر منها ، وعجب لسذاجة الذين اعتقدوا انه سيحافظ عليها حيث قال : (ما أحمقهم حين يرون اني أفي لهم بايمانهم هذه ، أما حلفي لهم بالله فانه ينبغي لي

---------------------------
(1) ابن الاثير : 4/89.
(2) الطبري : 7/94.


التوابون _ 170 _

  اذا حلفت على يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير وأكفّر يميني ، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم) (1) .
  وتشاء الصدف أن يتحلل المختار تلقائياً من عهوده مع عبد الله بن يزيد ، حين غادر هذا الاخير قصر الامارة معزولاً بقرار من سيده ابن الزبير اذ وجد فيه ضعفاً لا يتناسب مع خطورة المرحلة وعيّن مكانه أحد أشد مؤيديه حماسة هو عبد الله بن مطيع القرشي (2) الذي لم يكن بينه وبين المختار شيئاً من المواثيق.
  وهكذا خرج المختار من سجنه ، ليجد نفسه في مواجهة أحداث مصيرية وخطيرة ، فكان عليه أن يتحرك فوراً وأن لا يتردد في اتخاذ الموقف المناسب بكل جرأة ، قبل أن تقوم شرطة الوالي الجديد برصد نشاطاته واعادته من جديد الى السجن (3) ، وبسرعة أعلن برنامجه السياسي باسم محمد بن الحنفية أحد أبناء علي من غير فاطمة ، الذي كان يعيش في المدينة ، حيث زعم انه اتفق سراً مع هذا الاخير على الدعوة له في الكوفة ، وكان على

---------------------------
(1) الطبري : 7/94.
(2) الطبري : 7/90 ـ 91.
(3) فلهوزن : الخوارج والشيعة 203 ـ 204.


التوابون _ 171 _

  المختار أن يقنع الكوفيين بصحة زعمه ، لان فريقاً كبيراً منهم شكك في هذا الامر ، وانتدب وفداً ذهب لمقابلة الزعيم العلوي من أجل الوقوف على حقيقة ما يزعمه المختار.
  ورغم ان ابن الحنفية لم يعط جواباً حاسماً ، وذلك لاعتبارات متعددة أهمها ، موقعه في الدعوة العلوية ثم تخوفه من ابن الزبير ، سيد الحجاز ، الذي وضع ابن الحنفية تحت مراقبة أجهزته المشددة.
  ولكن الزعيم العلوي على ما يبدو لم يمانع في مباركة ما يقوم به المختار واستناده في دعوته على العلويين اذ قال للوفد الكوفي : (انا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه)(1) .
  ومن المرجح أن المختار ، قبل خروجه من الحجاز او بعده ، كان قد اتصل بعلي بن الحسين وباحثه بأمر الدعوة له في العراق ولكنه لم يلق استجابة ، فانصرف عنه الى محمد بن الحنفية (2) ، وسواء قابل المختار الزعيمين العلويين ، أم أنه زعم ذلك ليعطي تسويغاً أقوى لدعوته وبعداً أكثر من مجرد الثأر للحسين والتكفير عن الذنب ،

---------------------------
(1) ابن كثير : 8/265.
(2) المسعودي : مروج الذهب 3/74.


التوابون _ 172 _

  فان موقف ابن الحنفية من المختار ـ رغم عدم وضوحه ـ انعكس على الوضع العام في الكوفة حيث شهد الحزب الشيعي تحولاً نحو ابن الحنفية الذي لم يكن مطروحاً حتى ذلك الحين كامام للدعوة العلوية ، وأدى الى نجاح المختار في فرض نفسه على الحزب وتسلم زعامته.
  ولقد التف حول المختار بعد خروجه من السجن ، نفر من الزعماء الشيعيين الذين وجدوا فيه الشخصية القيادية الصالحة لمتابعة التحرك ، وكان من أبرز هؤلاء : رفاعة بن شداد ، ويزيد بن انس ، وأحمد بن شميط ، وعبد الله بن شداد الجشمي ، والسائب بن مالك الاشعري.
  وقد نشط هؤلاء وقاموا بحملات دعائية في أسواق الكوفة وأحيائها لحمل الناس على تأييد المختار والبيعة له (1) ، ولكن عقبات عدة جابهت المختار ، وأخرت قليلاً سيطرته على الوضع في الكوفة فكان لا بد له من معالجتها بالسرعة الممكنة ، ومن هذه العقبات مثلاً ، موقف حزب الاشراف منه الذي لم يقل عدائية عن موقفه السابق من التوابين (2) ، ومنها ايضاً تردد ابراهيم بن الاشتر النخعي أحد كبار الشيعة في الكوفة ، في الانضمام الى جانب

---------------------------
(1) ابن كثير : 8/264.
(2) ابن الاثير : 4/89.


التوابون _ 173 _

  المختار ، وكان ابراهيم ـ كأبيه الاشتر ـ شديد الاخلاص في ولائه لعلي وأبنائه ، ومتطرفاً الى أبعد حدود التطرف في عدائه للامويين ، ولكن مع نظرة خاصة للامور ورؤية مختلفة تماماً عن غيره من زعماء الحزب الشيعي ، فهو لم يشترك مثلاً في ثورة التوابين ، ووقف موقف الحذر من المختار ، لان التحرك الشيعي كان برأيه حينئذ ، تحركاً انفعالياً يفتقر الى خطط منظمة واستعدادات طويلة وأهداف واضحة.
  ولعل ابراهيم كان يطمح الى أن يقود بنفسه الحزب الشيعي في العراق ، خاصة وانه كان على اتصال دائم مع زعماء البيت العلوي ومنهم محمد بن الحنفية نفسه (1) ، وهذا ما دعاه الى التشكيك بمزاعم المختار ، غير أن هذا الاخير تمكن بعد الحاح من اقناع ابراهيم بالاعتراف بدعوته والبيعة له ، ويبدو ان الموافقة على ذلك كانت بايحاء من زعيم الدعوة محمد بن الحنفية الذي كتب الى ابراهيم بهذا الشأن (2) .
  والواقع ان المختار كسب حليفاً قوياً بانضمام ابن الاشتر اليه ، الذي ما لبث ان صار من ألمع رجالات الثورة

---------------------------
(1) ابن كثير : 8/268.
(2) الطبري : 7/98 ـ 99.


التوابون _ 174 _

  وقائدها العسكري الاول ، وأصبح يحضر بانتظام الاجتماعات السرية في بيت المختار لتحضير الانقلاب ضد الحكم الزبيري في الكوفة (1) ، واتخاذ قرار بتحديد ساعة الخروج حيث اتفق على أن تكون ليلة الخميس في الرابع عشر من ربيع الاول سنة ست وستين هجري (2) .
  وفي تلك الاثناء كانت التقارير ترد على عبد الله بن مطيع ـ والي الكوفة ـ من قائد شرطته (3) ، محذرة من انقلاب قريب يعده المختار (4) ، فبعث حينذاك ابن مطيع رجاله في أحياء مختلفة من الكوفة في محاولة لافشال خطط المختار ، ولكن ذلك لم يؤد الى أي نتيجة سوى المساهمة بتعجيل انفجار الثورة وتقديم موعدها يومين (الثلاثاء 12 ربيع الاول 66 هجري) ، فقد حدث ان كان ابن الاشتر -ـ ومعه مائة من المسلحين ـ في طريقه ذلك اليوم الى منزل المختار أن اصطدم بصاحب الشرطة اياس بن مضارب الذي اعترض طريقه ، فطعنه ابراهيم برمحه طعنة

---------------------------
(1) ابن كثير : 8/266.
(2) ابن كثير 4/91.
(3) (اياس بن مضارب) ، ابن الاثير 4/89.
(4) الطبري : 7/100.


التوابون _ 175 _

  أودت بحياته (1) ، وكانت هذه الحادثة اشارة البدء بالتحرك ، وبسرعة مذهلة تم استيلاء المختار وقائده ابن الاشتر على الموقف ، وهُزم القائد (2) الذي أعده الوالي وحزب الاشراف (3) ، وما لبث ان هرب الوالي نفسه ، وغادر قصر الامارة متخفياً ولجأ الى منزل ابي موسى الاشعري(4) .
  وهكذا نجحت ثورة المختار الثقفي ، وتحققت معها تطلعات الحزب الشيعي لاستلام الحكم ، لاول مرة منذ قيام الخلافة الاموية وتنازل الحسن لمعاوية ، وهناك عدة عوامل أسهمت بدون ريب في انجاح هذه الثورة ومهدت لها الطريق لتصل الى السلطة دون أدنى صعوبة.
  ومن أبرز هذه العوامل :
  1 ـ الاعتماد بشكل أساسي على الفئات الشعبية من العرب وغيرهم الذين ضاقوا بالاضطهاد الاموي ثم الزبيري ، ووجدوا في ثورة المختار متنفساً لتحقيق مطالبهم الاصلاحية.

---------------------------
(1) الطبري : 7/100
(2) شبث بن ربعي.
(3) الطبري 7/103.
(4) ابن كثير : 8/267.