تحدي القرآن بعدم الاختلاف فيه
  وقد تحدى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه ، قال تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82 ، فإن من الضروري أن النشة نشأة المادة والقانون الحاكم فيها قانون التحول والتكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم الا وهو متدرج الوجود متوجه من الضعف إلى القوة ومن النقص إلى الكمال في ذاته وجميع توابع ذاته ولواحقه من الافعال والآثار ومن جملتها الانسان الذي لا يزال يتحول ويتكامل في وجوده وأفعاله وآثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها بالفكر والادراك ، فما من واحد منا إلا وهو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس ولا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله وعثرات في اقواله الصادرة منه في الحين الاول ، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.
  وهذا الكتاب جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نجوما وقرأه على الناس قطعا قطعا في مدة ثلاث وعشرين سنة في أحوال مختلفة وشرائط متفاوتة في مكة والمدينة في الليل والنهار والحضر والسفر والحرب والسلم في يوم العسرة وفي يوم الغلبة ويوم الامن ويوم الخوف ، ولالقاء المعارف الالهية وتعليم الاخلاق الفاضلة وتقنين الاحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة ، ولا يوجد فيه أدنى إختلاف في النظم المتشابه ، كتابا متشابها مثانى ولم يقع في المعارف التي ألقاها والاصول التي أعطاها إختلاف يتناقض بعضها مع بعض وتنافي شئ منها مع آخر ، فالآية تفسر الآية والبعض يبين البعض ، والجملة تصدق الجملة كما قال علي ( عليه السلام ) : ( ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ) ( نهج البلاغة ). ولو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحة ومن حيث الاتقان والمتانة.
  فان قلت : هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل وقد أخذ على القرآن مناقضات واشكالات جمة ربماألف فيه التأليفات ، وهى اشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة ومناقضات معنوية تعود إلى خطأه في آرائه وأنظاره وتعليماته ، وقد

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 67 _

  أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة وإرتضاء الفطرة السليمة.
  قلت : ما أشير إليه من المناقضات والاشكالات موجودة في كتب التفسير وغيرها مع أجوبتها ومنها هذا الكتاب ، فالاشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.
  ولا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها الا وهي مذكور في مسفورات المفسرين مع اجوبتها فأخذوا الاشكالات وجمعوها ورتبوها وتركوا الاجوبة وأهملوها ، ونعم ما قيل : لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة.
  فان قلت : فما تقول في النسخ الواقع في القرآن وقد نص عليه القرآن نفسه في قوله : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ) البقرة ـ 106 وقوله : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ) النحل ـ 101 ، وهل النسخ إلا اختلاف في النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المناقضة في القول ؟.
  قلت : النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول وهو ظاهر كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر والحكم وانما هو ناش من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله إنطباق الحكم يوما لوجود مصلحته فيه وعدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدل المصلحة من مصلحة اخرى توجب حكما آخر ، ومن أوضع الشهود على هذا أن الآيات المنسوخة الاحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومي إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) النساء ـ 14 ، ( انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الاخيرة ) ، وكقوله تعالى : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً ) إلى أن قال ( فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) البقرة ـ 109 ، حيث تمم الكلام بما يشعر بأن الحكم مؤجل.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 68 _

التحدي بالبلاغة
  وقد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) هود ـ 13 ، 14 ، والآية مكية ، وقوله تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس ـ 38 ، 39 ، والآية ايضا مكية وفيها التحدي بالنظم والبلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شؤون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الامم المتقدمة عليهم والمتأخرة عنهم ووطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان وجزالة النظم ووفاء اللفظ ورعاية المقام وسهولة المنطق. وقد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية ويوقد نار الانفة والعصبية. وحالهم في الغرور ببضاعتهم والاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه ، وقد طالت مدة التحدي وتمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي ولم يزدهم إلا العجز ولم يكن منهم إلا الاستخفاء والفرار ، كما قال تعالى : ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) هود ـ 5.
  وقد مضى من القرون والاحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا ولم يأت بما يناظره آت ولم يعارضه أحد بشئ إلا أخزى نفسه وافتضح في أمره.
  وقد ضبط النقل بعض هذه المعارضات والمناقشات ، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله : ( الفيل ما الفيل وما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل ) وفي كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية ( فنولجه فيكن إيلاجا ، ونخرجه منكن إخراجا ) فانظر إلى هذه الهذيانات واعتبر ، وهذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى ( الحمد للرحمن. رب الاكوان الملك الديان. لك العبادة وبك المستعان اهدنا صراط الايمان ) إلى غير ذلك من التقولات.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 69 _

  فان قلت : ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للانسان ووضع الكلام مما سمحت به قريحة الانسان ؟ فكيف يمكن ان يترشح من القريحة ما لا تحيط به والفاعل اقوى من فعله ومنشأ الاثر محيط بأثره ؟ وبتقريب آخر الانسان هو الذي جعل اللفظ علامة دالة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعية إلى تفهيم الانسان ما في ضميره لغيره فخاصة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصة وضعية اعتبارية مجعولة للانسان ، ومن المحال أن يتجاوز هذه الخاصة المترشحة عن قريحة الانسان حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة ، فمن المحال حينئذ أن يتحقق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة والا كانت غير الدلالة الوضعية الاعتبارية ، مضافا إلى أن التراكيب الكلامية لو فرض ان بينها تركيبا بالغا حد الاعجاز كان معناه أن كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في النقص والكمال والبلاغة وغيرها ، وبين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها وابلغها لا تسعها طاقة البشر ، وهو التركيب المعجز ، ولازمه أن يكون في كل معنى مطلوب تركيب واحد إعجازي ، مع ان القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة وتراكيب متفرقة ، وهو في القصص واضح لا ينكر ، ولو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كل معنى مقصود الا واحد لا غير.
  قلت : هاتان الشبهتان وما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في أعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف ، ومعنى الصرف أن الاتيان بمثل القرآن أو سور أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدي وظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون ، ولكن لا لكون التأليفات الكلامية التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الانسان وفائقة على القوة البشرية ، مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم الممكن للانسان ، بل لان الله سبحانه يصرف الانسان عن معارضتها والاتيان بمثلها بالارادة الالهية الحاكمة على إرادة الانسان حفظا لآية النبوة ووقاية لحمى الرسالة.
  وهذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدل عليه آيات التحدي بظاهرها كقوله ( قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ ) الآية هود ـ 13 و 14 ، فان الجملة الاخيرة ظاهرة في ان الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما تقوله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان نزوله انما هو بعلم الله لا بإنزال الشياطين

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 70 _

  كما قال تعالى ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) الطور ـ 34 ، وقوله تعالى : ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) الشعراء ـ 212 ، والصرف الذي يقولون به إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف ، لا على كون القرآن كلاما لله نازلا من عنده ، ونظير هذه الآية الآية الاخرى ، وهي قوله : ( قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) الآية يونس ـ 39 ، فإنها ظاهرة في ان الذي يوجب إستحالة إتيان البشر بمثل القرآن وضعف قواهم وقوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن هو ان للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه ، ولا يحيط به علما إلا الله فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه ، لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى.
  وكذا قوله تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) الآية النساء ـ 82 ، فانه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الاتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا ومعنى ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف ، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا ، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.
  وأما الاشكال باستلزام الاعجاز من حيث البلاغة المحال ، بتقريب أن البلاغه من صفات الكلام الموضوع ووضع الكلام من آثار القريحة الانسانية فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدا لا تسعه طاقة القريحة وهو مع ذلك معلول لها لا لغيرها ، فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الانسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه ، وأما سرد الكلام ونضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف وهيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة وإرائة واضحة أو خفية ، وكذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه ومقدماته ومقارناته ولواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فانما هو امر لا يرجع إلى وضع الالفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان وفن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الالفاظ ونظم

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 71 _
  الادوات اللفظية ونوع لطف في الذهن يحيط به القوة الذاهنة على الواقعة المحكية باطرافها ولوازمها ومتعلقاتها.
  فهيهنا جهات ثلث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي والتكلم ، وربما تمهر الانسان في البيان وسرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف والمطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه ، وربما تبحر الانسان في سلسلة من المعارف والمعلومات ولطفت قريحته ورقت فطرته لكن لا يقدر على الافصاح عن ما في ضميره ، وعى عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج.
  فهذه امور ثلاثة : أولها راجع إلى وضع الانسان بقريحته الاجتماعية ، والثانى والثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة ، ومن البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الاحاطه بتفاصيل الحوادث الخارجية والامور الواقعية بجميع روابطها ، فلسنا على أمن من الخطأ قط في وقت من الاوقات ، ومع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال ، فأي خطيب اشدق واي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره ؟ فلو فرضنا كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطأ لفرض عدم إطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع وشرائطه ( أولا ) ولم يكن على حد كلامه السابق ولا على زنة كلامه اللاحق بل ولا أوله يساوي آخره وإن لم نشعر بذلك لدقة الامر ، لكن حكم التحول والتكامل عام ( ثانيا ) ، وعلي هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه ( وجد الهزل هو القول بغير علم محيط ) ولا إختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا ، وهو الذي يفيده القرآن بقوله : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) الآية النساء ـ 82 ، وقوله تعالى : ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق ـ 14 ، انظر إلى موضع القسم بالسماء والارض المتغيرتين والمعنى المقسم به في عدم تغيره واتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله ( وسيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل ) ، وقوله تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 72 _
  مَّحْفُوظٍ ) البروج ـ 22 ، وقوله تعالى : ( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ 4 ، وقوله تعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ 79 ، فهذه الآيات ونظائرها تحكى عن إتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة ولا متغير ما يتكي عليها.
  إذا عرفت ما مر علمت أن إستناد وضع اللغة إلى الانسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الانسان الواضع له ، وليس ذلك إلا كالقول بان القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها وواضع النرد والشطرنج يجب أن يكون امهر من يلعب بهما ومخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.
  فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعني ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية.
  أما اللفظ فان يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز.
  وأما المعنى فان يكون في صحته وصدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة ، وهذه المرتبة هي التي يتكى عليها المرتبة السابقة ، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد ، وكم من كلام بليغ مبنى على الجهالة لكنه لا يعارض ولا يسعه أن يعارض الحكمة ، والكلام الجامع بين عذوبة اللفظ وجزالة الاسلوب وبلاغة المعنى وحقيقة الواقع هو ارقى الكلام.
  وإذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة ومنطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الاخر ولم تكذبه فإن الحق مؤتلف الاجزاء ومتحد الاركان ، لا يبطل حق حقا ، ولا يكذب صدق صدقا ، والباطل هو الذي ينافي الباطل وينافي الحق ، انظر إلى مغزى قوله سبحانه وتعالى : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ) يونس ـ 32 ، فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه ولا تشتت ، وانظر إلى قوله تعالى : ( وَلاَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 73 _
  تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الانعام ـ 153 ، فقد جعل الباطل متشتتا ومشتتا ومتفرقا و مفرقا.
  وإذا كان الامر كذلك فلا يقع بين اجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف ، يجر بعضه إلى بعض ، وينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض.
  وهذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الانتاج ، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها وتشهد بها ، هذا شأنه وخاصته ، وستري في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك ، على ان الطريق متروك غير مسلوك ولو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة وخزائن من أثقاله النفيسة.
  فقد اتضح بطلان الاشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال ان الانسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على ابلغ الكلام وأفصحه وهو واضح أو يقال ان ابلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق والجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الاعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن والخارج.

( معنى الآية المعجزة في القرآن وما يفسر به حقيقتها )
  ولا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة وتحققها بمعنى الامر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الامر المبطل لضرورة العقل.
  وما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا بينها وبين ما يترائى من ظواهر الابحاث الطبيعية ( العلمية ) اليوم تكلف مردود إليه.
  والذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة وإعطاء حقيقتة نذكره في

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 74 _
  فصول من الكلام.

1 ـ تصديق القرآن لقانون العلية العامة
  إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسبابا ويصدق قانون العلية العامة كما يثبته ضرورة العقل وتعتمد عليه الابحاث العلمية والانظار الاستدلالية ، فإن الانسان مفطور على ان يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد وإرتياب ، وكذلك العلوم الطبيعية وساير الابحاث العلمية تعلل الحوادث والامور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل ، ولا نعني بالعلة إلا ان يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلا تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على انه كلما تحقق احتراق لزم ان يتحقق هناك قبله علة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك ، ومن هنا كانت الكلية وعدم التخلف من أحكام العلية والمعلولية ولوازمهما.
  وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه وتكلم فيه من موت وحيوة ورزق وحوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه ، وان كان يسندها جميعا بالاخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد.   فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الاسباب إذا تحقق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة.

2 ـ اثبات القرآن ما يخرق العادة
  ثم ان القرآن يقتص ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة والمعلول الموجود ، وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الانبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنها امور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 75 _
  لكن يجب أن يعلم أن هذه الامور والحوادث وأن انكرتها العادة واستبعدتها الا أنها ليست امورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا لايجاب والسلب يجتمعان معا ويرتفعان معا من كل جهة وقولنا الشئ يمكن أن يسلب عن نفسه وقولنا : لواحد ليس نصف الاثنين وأمثال ذلك من الامور الممتنعة بالذات كيف ؟ وعقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير انكار ورد ولو كانت المعجزات ممتنعه بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدل بها على شئ ولم ينسبها أحد إلى احد.
  على أن أصل هذه الامور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحى إلى ميت والميت إلى الحى وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء ، وإنما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أن الاسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانية ومكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير ، مثلا العصا وإن أمكن أن تصير حية تسعى والجسد البالى وإن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة وشرائط زمانية ومكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر وتحل بها الصورة الاخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة والتجربة لا مع أي شرط إتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن.
  وكما ان الحس والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي ، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة والمعلول الطبيعيين ، اعني به السطح الذى يستقر عليه التجارب العلمي اليوم والفرضيات المعللة للحوادث المادية.
  إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه ، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الارتياض كل يوم تمتلي به العيون وتنشره النشريات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك ولا في تحققها ريب.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 76 _
  وهذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان امواج مجهولة الكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الارتياضات الشاقة تعطي للانسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة وشعور وبذلك يقدر على ما يأتي به من حركات وتحريكات وتصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض والبسط ونحو ذلك.
  وهذه الفرضية لو تمت وأطردت من غير انتقاض لادت إلى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة والقوة ولساقت جميع الحوادث المادية إلى التعلل والارتباط بعلة واحدة طبيعية.
  فهذا قولهم والحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعية محفوظة ، وبعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب وروابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث ولم يتحقق وجوده.
  واما القرآن الكريم فإنه وإن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الاخيرة التي تعلل جميع الحوادث المادية العادية والخارقة للعادة ( على ما نحسبه ) بتشخيص إسمه وكيفية تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلا انه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا باذن الله تعالى ، وبعبارة اخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى الله سبحانه و ( الكل مستند ) مجرى ماديا وطريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه ، قال تعالى : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق ـ 3 ، فان صدر الآية يحكم بالاطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله وتوكل عليه وان كانت الاسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه وتحكم بعدمه فإن الله سبحانه حسبه فيه وهو كائن لا محالة ، كما يدل عليه أيضا اطلاق قوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) البقرة ـ 186 ، وقوله تعالى : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن ـ 60 ، وقوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) الزمر ـ 36.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 77 _
  ثم الجملة التالية وهي قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق ـ 3 ، يعلل إطلاق الصدر ، وهذا المعنى قوله : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) يوسف ـ 21 ، وهذه جملة مطلقة غير مقيدة بشئ البتة فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث تعلقت به مشيته وإرادتة وإن كانت السبل العادية والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.
  وهذا يحتمل وجهين : أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي وعلة طبيعية بل بمجرد الارادة وحدها ، وثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه الا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى ، قد جعل الله لكل شئ قدرا ، تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شئ من المسببات أعم مما تقتضيه الاسباب العادية أو لا تقتضيه فان له قدرا قدره الله سبحانه عليه ، وإرتباطات مع غيره من الموجودات ، واتصالات وجودية مع ما سواه ، لله سبحانه أيتوسل منها إليه وان كانت الاسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات والارتباطات ليست مملوكة للاشياء أنفسها حتى تطيع في حال وتعصى في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
  فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الاشياء جميعها إرتباطات واتصالات له ان يبلغ إلى كل ما يريد من أي وجه شاء وليس هذا نفيا للعلية والسببية بين الاشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء وأراد ، ففي الوجود علية وارتباط حقيقي بين كل موجود وما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة ( ولذلك نجد لفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية ) بل على ما يعلمه الله تعالى وينظمه.
  وهذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر ـ 21 ، وقوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر ـ 49 ، وقوله تعالى : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) الفرقان ـ 2 ، وقوله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) الاعلى ـ 3 ، وكذا قوله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 78 _
  نَّبْرَأَهَا ) الحديد ـ 22 ، وقوله تعالى : ( ما أصاب من مصيبة إلا باذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم ) التغابن ـ 11 ، فان الآية الاولى وكذا بقية الآيات تدل على أن الاشياء تنزل من ساحة الاطلاق إلى مرحلة التعين والتشخص بتقدير منه تعالى وتحديد يتقدم على الشئ ويصاحبه ، ولا معنى لكون الشئ محدودا مقدرا في وجوده إلا أن يتحدد ويتعين بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات والموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الاخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشئ ويعين وجوده ويحدده ويقدره فما من موجود مادي إلا وهو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه وتصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.
  ويمكن أن يستدل أيضا على ما مر بقوله تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) المؤمن ـ 62 ، وقوله تعالى : ( مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود ـ 56 ، فإن الآيتين بانضمام ما مرت الاشارة إليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية العام تنتج المطلوب.
  وذلك أن الآية الاولى تعمم الخلقة لكل شئ فما من شئ إلا وهو مخلوق لله عز شأنه ، والآية الثانية تنطق بكون الخلقة والايجاد على وتيرة واحدة ونسق منتظم من غير إختلاف يؤدي إلى الهرج والجزاف.
  والقرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام في ما بين الموجودات المادية ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادية سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف ووتيرة واحدة في إستناد كل حادث فيه إلى العلة المتقدمة عليه الموجبة له.
  ومن هنا يستنتج أن الاسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها وبين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك اسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الاحكام والخواص كما ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحيوة وفي خوارق العادة كما مر.

3 ـ القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى الله تعالى
  ثم ان القرآن كما يثبت بين الاشياء العلية والمعلولية ويصدق سببية البعض للبعض كذلك

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 79 _
  يسند الامر في الكل إلى الله سبحانه فيستنتج منه أن الاسباب الوجودية غير مستقلة في التأثير والمؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه ، قال تعالى : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الاعراف ـ 53 ، وقال تعالى ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) البقرة ـ 284 ، وقال تعالى : ( لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد ـ 5 ، وقال تعالى : ( قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ ) النساء ـ 77 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أن كل شئ مملوك محض لله لا يشاركه فيه احد ، وله أن يتصرف فيها كيف شاء وأراد وليس لاحد أن يتصرف في شئ منها إلا من بعد أن يأذن الله لمن شاء ويملكه التصرف من غير إستقلال في هذا التمليك أيضا ، بل مجرد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الآذن ، قال تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ) آل عمران ـ 26 ، وقال تعالى : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه ـ 50 ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقال تعالى أيضا : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) البقرة ـ 255 ، وقال تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس ـ 3.
  فالاسباب تملكت السببية بتمليكه تعالى ، وهي غير مستقلة في عين أنها مالكة. وهذا المعنى هو الذي يعبر سبحانه عنه بالشفاعة والاذن ، فمن المعلوم أن الاذن إنما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرف المأذون فيه ، والمانع أيضا إنما يتصور فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره ويحول بينه وبين تصرفه.
  فقد بان أن في كل السبب مبدئا مؤثرا مقتضيا للتأثير به يؤثر في مسببه ، والامر مع ذلك لله سبحانه.

4 ـ القرآن يثبت تأثيرا في نفوس الانبياء في الخوارق
  ثم إنه تعالى قال : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) المؤمن ـ 78.
  فأفاد إناطة اتيان أية آية من أي رسول بإذن الله سبحانه فبين أن إتيان الآيات

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 80 _

  المعجزة من الانبياء وصدورها عنهم إنما هو لمبدأ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة متوقف في تأثيره على الاذن كما مر في الفصل السابق.
  قال تعالى : ( وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) البقرة ـ 102 ، ولآية كما انها تصدق صحة السحر في الجملة كذلك تدل على ان السحر ايضا كالمعجزة في كونه عن مبدأ نفساني في الساحر لمكان الاذن.
  وبالجملة جميع الامور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحرا أو غير ذلك ككرامات الاولياء وسائر الخصال المكتسبة بالارتياضات والمجاهدات جميعها مستندة إلى مباد نفسانية ومقتضيات إرادية على ما يشير إليه كلامه سبحانه الا ان كلامه ينص على ان المبدأ الموجود عند الانبياء والرسل والمؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب وفي كل حال ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافات ـ 173 ، وقال تعالى : ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة ـ 21 ، وقال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن ـ 51 ، والآيات مطلقة غير مقيدة.
  ومن هنا يمكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة وفوق المادة.
  فان الامور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا وحدا عند التزاحم والمغالبة ، والامور المجردة أيضا وان كانت كذلك إلا أنها لا تزاحم بينها ولا تمانع إلا ان تتعلق بالمادة بعض التعلق ، وهذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإراده الله سبحانه إذا قابل مانعا ماديا إفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم.

5 ـ القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى
  ثم ان الجملة الاخيرة من الاية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى : ( فَإِذَا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 81 _
  جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) الآية ، تدل على ان تأثير هذا المقتضي يتوقف على أمر من الله تعالى يصاحب الاذن الذي كان يتوقف عليه ايضا فتأثير هذا المقتضى يتوقف على مصادفته الامر أو اتحاده معه ، وقد فسر الامر في قوله تعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس ـ 82 ، بكلمة الايجاد وقول : كن ، وقال تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ) الدهر ـ 29 ، 30 وقال : ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ {التكوير/27} لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ {التكوير/28} وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) التكوير ـ 27 ، 28 ، 29 ، دلت الآيات على ان الامر الذي للانسان أن يريده وبيده زمام اختياره لا يتحقق موجودا إلا أن يشاء الله ذلك بان يشاء أن يشاء الانسان ويريد إرادة الانسان فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الانسان الارادية وإن كانت بيد الانسان بإرادته لكن الارادة والمشية ليست بيد الانسان بل هي مستندة إلى مشية الله سبحانه ، وليست في مقام بيان أن كل ما يريده الانسان فقد اراده الله فإنه خطأ فاحش ولازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الانسان ، تعالى الله عن ذلك ، مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى : ( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) السجدة ـ 13 ، وقوله تعالى : ( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) يونس ـ 99 ، إلى غير ذلك فإرادتنا ومشيئتنا إذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله ومشيتة لها وكذا افعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا ومشيتنا بالواسطة ، وهما أعني الارادة والفعل جميعا متوقفان على أمر الله سبحانه وكلمة كن.
  فالامور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة وسواء كان خارق العادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة ، أو في جانب الشر كالسحر والكهانة مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية ، وهي مع ذلك متوقفة على ارادة الله ، لا توجد إلا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله سبحانه.
  وجميع الاشياء وإن كانت من حيث إستناد وجودها إلى الامر الالهي على حد سواء بحيث إذا تحقق الاذن والامر تحققت عن أسبابها ، وإذا لم يتحقق الاذن والامر لم تتحقق ، أي لم تتم السببية إلا أن قسما منها وهو المعجزة من الانبياء أو ما سأله عبد

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 82 _
  ربه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى وأمر عزيمة كما يدل عليه قوله : ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) الآية المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) الآية البقرة ـ 186 ، وغير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق.

6 ـ القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب
  فقد تبين من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الامور الخارقة للعادة لا تفارق الاسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي وان مع الجميع أسبابا باطنية وأن الفرق بينها أن الامور العادية ملازمة لاسباب ظاهرية تصاحبها الاسباب الحقيقية الطبيعية غالبا أو مع الاغلب ومع تلك الاسباب الحقيقية إرادة الله وأمره ، والامور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة إلى أسباب طبيعية مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالاذن والارادة كإستجابة الدعاء ونحو ذلك من غير تحد يبتني عليه ظهور حق الدعوة وأن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن الله وأمره إذا كان هناك تحد يبتنى عليه صحة النبوة والرسالة والدعوة إلى الله تعالى وأن القسمين الآخرين يفارقان سائر الاقسام في أن سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات.
  فان قلت : فعلى هذا لو فرضنا الاحاطة والبلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الاتيان لغير النبي أيضا ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها إلا بحسب النسبة والاضافه فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين ، وهم المطلعون على سببها الطبيعي الحقيقي ، وفي عصر دون عصر ، وهو عصر العلم ، فلو ظفر البحث العلمي على الاسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق ، ونتيجه هذا البحث أن المعجزة لا حجية فيها إلا على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها .
  قلت : كلا فليست المعجزة معجزة من حيث أنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن إسمها عند إرتفاع الجهل وتسقط عن الحجية ، ولا أنها معجزة من حيث إستنادها إلى سبب مفارق للعادة ، بل هي معجزة من حيث أنها مستندة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 83 _
  إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتة ، وذلك كما ان الامر الحادث من جهة إستجابة الدعاء كرامة من حيث إستنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنه يمكن ان يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.

7 ـ القرآن يعد المعجزة برهانا على صحة الرسالة لا دليلا عاميا
  وهيهنا سؤال وهو أنه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقية دعوى الرسالة مع أن العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أن الظاهر من القرآن الشريف ، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة من الانبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعوتهم فأجابوهم فيما سئلوا وجاءوا بالآيات.
  وربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى ( عليه السلام ) وهارون ( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) طه ـ 42 ، وقال تعالى في عيسى ( عليه السلام ) : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران ـ 49 ، وكذا إعطاء القرآن معجزة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ما أتى به الانبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم.
  مضافا إلى أن قيام البراهين الساطعة على هذه الاصول الحقة يغنى العالم البصير بها عن النظر في أمرالاعجاز ، ولذا قيل إن المعجزات لاقناع نفوس العامة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقلية وأما الخاصة فإنهم في غنى عن ذلك.
  والجواب عن هذا السؤال أن الانبياء والرسل ( عليهم السلام ) لم يأتوا بالآيات المعجزة لاثبات شئ من معارف المبدأ والمعاد مما يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 84 _
  وإنما اكتفوا في ذلك بحجة للعقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى : ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : إبراهيم ـ 10 في الاحتجاج على التوحيد قوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار ) ص ـ 28 في الاحتجاج على البعث ، وانما سئل الرسل المعجزة وأتوابها لاثبات رسالتهم وتحقيق دعويها.
  وذلك أنهم ادعوا الرسالة من الله بالوحى وأنه بتكليم إلهي أو نزول ملك ونحو ذلك وهذا شئ خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الادراكات الظاهرة والباطنة التي يعرفها عامة الناس ويجدونها من أنفسهم ، بل إدراك مستور عن عامة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصا من ما وراء الطبيعة في نفوس الانبياء فقط ، مع أن الانبياء كغيرهم من افراد الناس في البشرية وقواها ، ولذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس ومقاومة عنيفة في رده على أحد وجهين :
  فتارة حاول الناس إبطال دعويهم بالحجة كقوله تعالى : ( قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ) إبراهيم ـ 102 ، إستدلوا فيها على بطلان دعويهم الرسالة بأنهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئا مما يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة ، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا ، ولهذا اجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله : ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ) إبراهيم ـ 13 ، فردوا عليهم بتسليم المماثلة وان الرسالة من منن الله الخاصة ، والاختصاص ببعض النعم الخاصة لا ينافي المماثلة فللناس إختصاصات ، نعم لو شاء أن يمتن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصة بالبعض وإن جاز على الكل.
  ونظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ما حكاه الله تعالى : ( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ) ص ـ 8 ، وقولهم كما حكاه الله : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) الزخرف ـ 31.
  ونظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قول تعالى : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 85 _
  يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ) الفرقان ـ 8 ، ووجه الاستدلال أن دعوى الرسالة توجب أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا احوال من الوحي وغيره ليس فينا فلم يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لاكتساب المعيشة ؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الانذار أو يلقي إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الاسواق للكسب أو تكون له جنة فيأكل منها لا مما نأكل منه من طعام ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) إلى أن قال : ( وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) الفرقان ـ 20 ، ورد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للانذار بقوله : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) الانعام ـ 9.
  وقريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ) الفرقان ـ 21 ، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي ، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله : ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ) الفرقان ـ 22 ، فذكر أنهم والحال حالهم لا يرون الملائكة إلا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى : ( وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ) الحجر ـ 8 ، ويشتمل هذه الآيات الاخيرة على زيادة في وجه الاستدلال ، وهو تسليم صدق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في دعواه إلا أنه مجنون وما يحكيه ويخبر به أمر يسوله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله : ( وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) القمر ـ 9.
  وبالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجة على إبطال دعوى النبوة من طريق المماثلة.
  وتارة اخري أقاموا أنفسهم مقام الانكار وسؤال الحجة والبينة على صدق

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 86 _
  الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول ( على طريقة المنع مع السند بإصطلاح فن المناظرة ) وهذه البينة هي المعجزة ، بيان ذلك أن دعوى النبوة والرسالة من كل نبي ورسول على ما يقصه القرآن إنما كانت بدعوى الوحى والتكليم الالهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك ، وهذا أمر لا يساعد عليه الحس ولا تؤيده التجربة فيتوجه عليه الاشكال من جهتين : أحديهما من جهة عدم الدليل عليه ، والثانية من جهة الدليل على عدمه ، فإن الوحى والتكليم الالهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم ، والعادة الجارية في الاسباب والمسببات تنكرة فهو أمر خارق للعادة ، وقانون العلية العامة لا يجوزه ، فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوة والوحى كان لازمه أنه متصل بما وراء الطبيعة ، مؤيد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة وأن الله سبحانه يريد بنبوته والوحى إليه خرق العادة ، فلو كان هذا حقا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن إن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدق النبوة والوحى من غير مانع عنه فإن حكم الامثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة والوحى فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة.
  وهذا هو الذي بعث الامم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جائهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الانبياء يدعون إليها مما يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد ، ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدعيها للسيد فإن بيانه لهذه الاحكام وإقامتة البرهان على أن هذه الاحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلا صلاح شأنهم ، إنما يكفي في كون الاحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل ولا تكفى البراهين والادلة المذكورة في صدق رسالتة وأن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الاحكام بل يطالبونه ببينة أو علامة تدل على صدقه في دعواه ككتاب بخطه وخاتمه يقرئونه ، أو علامة يعرفونها ، كما قال المشركون للنبي : ( حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) أسرى ـ 93 .
  فقد تبين بما ذكرناه أولا : التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة وأنها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 87 _
  الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة والعامة في دلالتها وإثباتها ، وثانيا ان ما يجده الرسول والنبي من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا وعقولنا النظرية الفكرية ، فالوحي غير الفكر الصائب ، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقل إنصاف.
  وقد إنحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الالهية والحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من اصالة المادة المتحولة المتكاملة فقد رأوا أن الادراكات الانسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ وأن الغايات الوجودية وجميع الكمالات الحقيقية إستكمالات فردية أو إجتماعية مادية.
  فذكروا ان النبوة نوع نبوغ فكري وصفاء ذهني يستحضر به الانسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي ويريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية والبربرية إلى ساحة الحضارة والمدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته ، فيقنن لهم اصولا إجتماعية وكليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم ذلك بأحكام وامور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة والمدنية الفاضلة إلى ذلك ويتفرع على هذا الافتراض :
  أولا : أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.
  وثانيا : أن الوحي هو إنتقاش الافكار الفاضلة في ذهنه.
  وثالثا : أن الكتاب السماوي مجموع هذه الافكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية والاغراض النفسانية الشخصية.
  ورابعا : أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر امور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها ، وأن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الافكار المقدسة ، وأن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الافكار الردية وتدعو إلى الاعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع ، وعلى هذا الاسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الانبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسي والكتاب والحساب والجنة والنار بما يلائم الاصول المذكورة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 88 _
  وخامسا : أن الاديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحول بتحولها.
  وسادسا : أن المعجزات المنقولة عن الانبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الاعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم وتبعهم آخرون.
  هذه جمل ما ذكروه والنبوة بهذا المعنى لان تسمي لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية والكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.
  والذي يمكن أن يقال فيه هيهنا أن الكتب السماوية والبيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير لا تناسبه أدنى مناسبة ، وإنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الارض وركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها وتعيدها إلى المادة الجامدة.
  وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير انهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحس كالعرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحس والتجربة على شئ من ذلك ، ثم لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية وجرى البحث على أساس الحس والتجربة لزم الباحثين على ذلك الاسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحس أو البعيدة عنه وأن يفسروها بما تعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط.
  فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد ، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات ، الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا امور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا و الواقع خلافه ، وأما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البينة الواضحة ، وطبقوها على حقائق مادية ينالها الحس وتصدقها التجربة مع أنها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 89 _
  ليست بمقصودة ، ولا البيانات اللفظية تنطبق على شئ منها.
  والبحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظة على ما يعطيها اللفظ في العرف واللغة ثم يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر هل الانظار العلمية تنافيها أو تبطلها ؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شئ خارج عن المادة وحكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفلة العلوم الطبيعية ، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللامر الخارج عنها ؟ فإن العلم الباحث عن المادة وخواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة خواصها لا إثباتا ولا نفيا.
  ولو فعل شيئا منه باحث من بحاثه كان ذلك منه شططا من القول ، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا ، ولنرجع إلى بقية الآيات.
  وقوله تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة. سوق الآيات من أول السورة وإن كانت لبيان حال المتقين والكافرين والمنافقين ( الطوائف الثلث ) جميعا لكنه سبحانه حيث جمعهم طرا في قوله : يا أيها الناس أعبدوا ربكم ، ودعاهم إلى عبادته تقسموا لا محالة إلى مؤمن وغيره فإن هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها وعدمها غير القسمين : المؤمن والكافر وأما المنافق فإنما يتحقق بضم الظاهر إلى الباطن ، واللسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللسان والقلب إيمانا أو كفرا ومن أختلف لسانه وقلبه وهو المنافق ، فلما ذكرنا ( لعله ) أسقط المنافقون من الذكر ، وخص بالمؤمنين والكافرين ووضع الايمان مكان التقوى.
  ثم إن الوقود ما توقد به النار وقد نصت الآية على أنه نفس الانسان ، فالانسان وقود وموقود عليه ، كما في قوله تعالى ايضا : ( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) المؤمن ـ 72 ، وقوله تعالى : ( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) اللمزة ـ 7 ، فالانسان معذب بنار توقده نفسه ، وهذه الجملة نظيرة قوله تعالى : ( كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) البقرة ـ 25 ، ظاهرة في أنه ليس للانسان هناك إلا ما هيأه من هيهنا ، كما عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( كما تعيشون تموتون وكما

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 90 _
  تموتون تبعثون ) الحديث ، وإن كان بين الفريقين فرق من حيث أن لاهل الجنة مزيدا عند ربهم ، قال تعالى : ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد ) ق ـ 35.
  والمراد بالحجارة في قوله : ( وقودها الناس والحجارة الاصنام التي كانوا يعبدونها ، ويشهد به قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ ) الآية الانبياء ـ 98 ، والحصب هو الوقود.
  وقوله تعالى : لهم فيها أزواج مطهرة ، قرينة الازواج تدل على أن المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الاقذار والمكاره التي تمنع من تمام الالتيام والالفة والانس من الاقذار والمكاره الخلقية والخلقية.
  ( بحث روائي )
  روى الصدوق ، قال : سئل الصادق ( عليه السلام ) عن الاية فقال : الازواج المطهرة اللاتي لا يحضن ولا يحدثن.
  أقول : وفي بعض الروايات تعميم الطهارة للبراءة عن جميع العيوب والمكاره.
  ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) ـ 26 ، ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ـ 27.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 91 _
  ( بيان )
  قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب ، البعوضة الحيوان المعروف وهو من أصغر الحيوانات المحسوسة وهذه الآية والتي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) الرعد ـ 19 ، 20 ، 21 ، وكيف كان فالآية تشهد على أن من الضلال والعمى ما يلحق الانسان عقيب أعماله السيئة غير الضلال والعمى الذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى : وما يضل به إلا الفاسقين ، فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدما عليه هذا.
  ثم إن الهداية والاضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان التي ترد منه تعالى على عباده السعداء والاشقياء ، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عبادة بأنه يحييهم حيوة طيبة ، ويؤيدهم بروح الايمان ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نورا يمشون به ، وهو وليهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه ، والملائكة تنزل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك.
  ووصف حال الاشقياء من عباده بأنه يضلهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات ويختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاقان فهم مقمحون ، ويجعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فيغشيهم فهم لا يبصرون ، ويقيض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ، ويزينون لهم أعمالهم ، وهم أوليائهم ، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون ، ويملي لهم أن كيده متين ، ويمكربهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
  فهذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين وظاهرها أن للانسان في الدنيا وراء الحيوة التي يعيش بها فيها حيوة اخرى سعيدة أو شقية ذات اصول وأعراق يعيش بها فيها ، وسيطلع ويقف عليها عند إنقطاع الاسباب وإرتفاع الحجاب ، ويظهر

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 92 _
  من كلامه تعالى أيضا أن للانسان حيوة اخرى سابقة على حيوته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حيوته الدنيا فيما يتلوها ، وبعبارة اخرى إن للانسان حيوة قبل هذه الحيوة الدنيا وحيوة بعدها ، والحيوة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الاولى ، فالانسان وهو في الدنيا واقع بين حيوتين : سابقة ولاحقة ، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.
  لكن الجمهور من المفسرين حملوا القسم الاول من الايات وهي الواصفة للحيوة السابقة على ضرب من لسان الحال وإقتضاء الاستعداد ، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحيوة اللاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا ، إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك ، أما القسم الاول وهي آيات الذر والميثاق فستأتي في مواردها ، وأما القسم الثاني فكثير من الآيات دالة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الاعمال وعينها كقوله تعالى : ( لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم ـ 7 ، وقوله تعالى : ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) الآية البقرة ـ 281 ، وقوله تعالى : ( فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) البقرة ـ 23 ، وقوله تعالى : ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) العلق ـ 18 ، وقوله تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ ) آل عمران ـ 28 ، وقوله تعالى : ( مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ) البقرة ـ 179 ، وقوله : ( إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) النساء ـ 10 ، إلى غير ذلك من الآيات.
  ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى ـ إلا قوله : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق ـ 22 ، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر ، وكشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الانسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للانسان أن هذه أمور كانت مغفولة لك ، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء ، مزالة منها الغفلة.
  ولعمري أنك لو سئلت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات والاوصاف التي نزل بها القرآن الكريم.
  ومحصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين :

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 93 _
  أحدهما : وجه المجازاة بالثواب والعقاب ، وعليه عدد جم من الآيات ، تفيد : أن ما سيستقبل الانسان من خير أو شر كجنة أو نار أنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.
  وثانيهما : وجه تجسم الاعمال وعليه عدة اخرى من الآيات ، وهي تدل على أن الاعمال تهيئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليه الانسان يوم يكشف عن ساق.
  وإياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الافهام بالامثال المضروبة كما ينص على ذلك القرآن.
  وقوله تعالى : إلا الفاسقين ، الفسق كما قيل من الالفاظ التي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف ، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسر بعده بقوله تعالى : ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) الآية ، والنقض إنما يكون عن إبرام ، ولذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والانسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه ، قال تعالى : ( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الشورى ـ 45 ، وإياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الاشقياء مثل المقربين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهرين وغيرهم ، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالين وأمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد ، وتأخذها هجائا عاميا وحديثا ساذجا سوقيا بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية ومقامات معنوية في صراطي السعادة والشقاوة ، كل واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصة ومنشأ لاحكام مخصوصة معينة ، كما أن مراتب السن وخصوصيات القوى وأوضاع الخلقة في الانسان كل منها منشأ لاحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشأه ومحتده ، ولئن تدبرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه .

بحث الجبر والتفويض
  وإعلم : أن بيانه تعالى أن الاضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 94 _
  تعالى في أعمال العباد ونتائجها ( وهو الذي يراد حله في بحث الجبر والتفويض ).
  بيان ذلك : أنه تعالى قال : ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) البقرة ـ 284 ، وقال : ( لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد ـ 5 ، وقال : ( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) التغابن ـ 1 ، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الاطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه ، كما أن الفرد من الانسان يملك عبدا أو شيئا آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء ، وأما التصرفات السفهية فلا يملكها ، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الاطلاق ، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها ، فان الانسان المالك لحمار مثلا إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل والركوب مثلا وإما أن يقتلة عطشا أو جوعا أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك ، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الانساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن ، وهذا بخلاف ملكه تعالى للاشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى ، فأي تصرف تصرف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحا ولا ذما ولا لوما في ذلك ، إذ التصرف من بين التصرفات انما يستقبح ويذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لان العقلاء لا يرون له ذلك ، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل ، وأما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك وتصرف في مملوك فلا قبح ولا ذم ولا غير ذلك وقد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ ، فقال تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) البقرة ـ 255 ، وقال تعالى : ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس ـ 3 ، وقال تعالى : ( لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) الرعد ـ 33 ، وقال : ( يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ) النحل ـ 93 ، وقال تعالى : ( وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ) الدهر ـ 30 ، وقال تعالى ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الانبياء ـ 23 ، فالله هو المتصرف

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 95 _
  الفاعل في ملكه وليس لشئ غيره شئ من ذلك إلا بإذنه ومشيته ، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.
  ثم انا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الانساني ، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذم عليه كما قال تعالى : ( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) البقرة ـ 271 ، وقال : ( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ ) الحجرات ـ 11 ، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الانسان ومفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الانسان فقال تعالى : ( إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الانفال ـ 24 ، وقال تعالى : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الصف ـ 11 ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ( إلى أن قال ) وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) النحل ـ 90 ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ) الاعراف ـ 28 ، والآيات في ذلك كثيرة ، وفي ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع ، بمعني أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذم وغير ذلك والاحكام المتعلقة بها كقولهم : الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل ، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك ، كما انها هي الاساس للاحكام العامة العقلائية كذلك الاحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعى فيها ذلك ، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض ومصالح عقلائية ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للاحكام والقوانين ، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الاحسان بالاحسان والاساءة بالاساءة أن شاؤا فهذه كلها معللة بالمصالح والاغراض الصالحة ، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الاوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله ، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشرية وبمقدار يناسب وكيف يناسب ، ومن احكامهم أن الامر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل وأيضا إن الجزاء الحسن أو السئ أعنى الثواب والعقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا ، ولا يبالون بقصة إضطراره.