علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر و اضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.
  إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تحليل ما ذكره الرازي بلفظه ، فقال : فلو صدر منهم الإيمان لزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذباً ، فنقول : إنّ هؤلاء لا يصدر منهم الإيمان إلى يوم القيامة قطعاً لكن لا من جهة إخباره سبحانه عنه بل لأجل اختيارهم وانتخابهم عدم الإيمان إلى يوم القيامة ، فالإخبار عن عدم تديّنهم شيء ، و كون الإيمان خارجاً عن الاختيار شيء آخر ، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.
  ومنه يظهر ضعف كلامه الثاني حيث قال : ( فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً ) ، وذلك لأنّه سبحانه أخبر عن عدم صدور الإيمان وبما انّه مخبر صادق لا يصدر منهم الإيمان لكن لا لأجل انّ اللّه أخبر عنه ، بل لأجل مبادئ كامنة في أنفسهم تجرّهم إلى عدم الإيمان ، فالإخبار عن عدم الإيمان شيء وكون الإيمان خارجاً عن اختيارهم شيء آخر ، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.
  وبما ذكرنا من التحليل تقدر على تحليل الوجه الثالث إذ نمنع انّهم كانوا مكلّفين بعدم الإيمان بل كان أبو لهب مكلفاً بالتوحيد والرسالة فقط.
  2 ـ امتناع رؤية اللّه أو إمكانها
  ذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤيته سبحانه يوم القيامة ، وهذا هو الأصل البارز في مدرستهم الكلامية ، ثم إنّ هناك آيات تدلّ بصراحتها على امتناع رؤيته

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 99 _

  سبحانه فحاولوا إخضاع الآيات لنظريتهم ، وإليك نموذجاً واحداً ، يقول سبحانه :
  ( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيء فَاعبدُوهُ وَهوَ عَلى كُلِّ شَيء وَكيلٌ * لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وَهُو يُدرِكُ الأبصارَ وَهوَ اللَّطيفُ الخَبير ) (1).
  ومن المعلوم أنّ الإدراك مفهوم عام لا يتعيّن في البصري أو السمعي أو العقلي إلاّ بالإضافة إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه السماع ، هذا هو ظاهر الآية ، وهي تنفي إمكان الإدراك بالبصر على الإطلاق.
  ولمّا وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو صريحها لا يوافق أصله الكلامي ، لأنّها ظاهرة في نفي الإدراك بالبصر ، قال : إنّ أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في الآخرة ، وذلك لوجوه :
  1 ـ أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصح رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا تصح رؤية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها ( لا تدركه الأبصار ) فثبت أنّ قوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد المدح ، إلاّ إذا صحت الرؤية.
  والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل فقط ، أعني : ( لا تدركه الأبصار ) ، بل المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية كأنّه سبحانه يقول : واللّه جلّت عظمته يدرك أبصاركم ، ولكن لا تدركه أبصاركم ، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأُولى.

--------------------
(1) الأنعام : 102 ـ 103.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 100 _

  2 ـ أنّ لفظ ( الأبصار ) صيغة جمـع دخل عليها الألـف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لا يدركه جميع الأبصار ، وهذا لا ينافي أن يدركه بعض الأبصار. (1)
  يلاحظ عليه : أنّ الآية تفيد عموم السلب لاسلب العموم ، بقرينة كونه في مقام بيان رفعة ذاته ، وشموخ مقامه.
  كأنّه سبحانه يقول : ( لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ولكنّه تعالى يدركهم ، وهذا نظير قوله سبحانه : ( كَذلِكَ يَطبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلبِ مُتَكبِّر جَبّار ) (2) ، وقوله : ( إنَّ اللّهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُختال فَخُور ) (3).
  إلى غير ذلك من الوجوه الواهية التي ما ساقه إلى ذكرها إلاّ ليُخضِعَ الآيةَ ، لمعتقده.

--------------------
(1) تفسير الرازي : 13 / 125.
(2) غافر : 35.
(3) لقمان : 18.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 101 _

  المنهج الأوّل / 3
التفسير على ضوء السنن الاجتماعية
  إنّ النظرة الفاحصة في التفاسير التي ألّفت قبل القرن الرابع عشر يعرب عن أنّ الطابعَ العام لها هو تفسير الآيات القرآنية ، وتبيين مفرداتها ، وتوضيح جملها ، وكشف مفاهيمها بمعزل عن المجتمع ومسائله ومشاكله ، من دون أن يستنطقوا القرآن من أجل وضع الحلول المناسبة لمعاناتهم مع أنّ الواجب على المسلمين الرجوع إلى القرآن لمعالجة دائهم ، كما يقول الإمام علي ( عليه السَّلام ) : ( ذلك القرآن فاستنطقوه ، ولن ينطق ، ولكن أُخبركم عنه : ألا إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم ). (1)
  فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم ، فالحقّ انّ القدامى لم يولوا العناية بهذا الجانب من التفسير إلاّ شيئاً يسيراً ، وأوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه هو السيد جمال الدين الأسد آبادي ، فقد وجه أنظار المسلمين إلى الجانب الاجتماعي من التفسير ، فقال في خطبته المعروفة : عليكم بذكر اللّه الأعظم ، وبرهانه الأقوم ، فانّه نوره المشرق ، الذي به يخرج من ظلمات الهواجس ، ويتخلّص من عتمة الوسواس ، وهو مصباح النجاة ، من

--------------------
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 158.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 102 _

  اهتدى بها نجا ، ومن تخلّف عنه هلك ، وهو صراط اللّه القويم ، من سلكه هُدي ، ومن أهمله غوى.
  وتبعه تلميذه ومن تربى في أحضانه ، الإمام الشيخ محمد عبده ، فأبدع منهجاً خاصاً للتفسير له ميزاته التالية :
  1 ـ التحرر من قيود التقليد وإعمال العقل في الأقوال والآراء المروية في الآيات ، وفهم كتاب اللّه من دون نظر إلى مذهب إمام دون إمام على وجه يكون القرآن هو المتبع دون مذهب الإمام.
  2 ـ الاهتمام ببيان نظم الاجتماع ومشاكل الأُمّة الإسلامية خاصة ، ومشاكل الأُمم عامة ، وبيان علاجها بما أرشد إليه القرآن من أُصول وتعاليم.
  3 ـ التوفيق بين القرآن والنظريات العلمية على وجه لا يكون القرآن مخالفاً للعلم.
  فلنأت لكلّ ميزة بمثال.
  أمّا الميزة الأُولى فيكفي الامهال فيما ذكره حول آية الوصية للوالدين.

الوصية للوالدين ليست منسوخة
  يقول سبحانه : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصيةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلى الْمُتَّقين ). (1)
  قال الشيخ الطوسي : تصح الوصية للوارث مثل الابن والأبوين وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : لا وصية للوارث. (2)

--------------------
(1) البقرة : 180.
(2) الخلاف : 2 / 41 ، كتاب الوصية ، المسألة 1.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 103 _
  وقال صاحب المنار : الآية صريحة في جواز الوصية للوالدين ولا وارث أقرب للإنسان من والديه ، وقد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصية ثمّ عمّم الموضوع وقال : ( والأقربين ) ليعم كلّ قريب وارثاً كان أم لا ، غير انّ جمهور الفقهاء من أهل السنّة رفضوا الآية وقالوا بأنّ الآية منسوخة بآية المواريث ، ولكنّ الإمام عبده خالف رأي الجمهور وقال : لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا ، فانّ السياق ينافي النسخ ، فانّ اللّه تعالى إذا شرع للناس حكماً وعلم انّه مؤقت وانّه سينسخه بعد زمن قريب فانّه لا يؤكّده ولا يوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين ومن وعيد لمن بدله . (1)
  وهذا دليل على أنّ الإمام نظر إلى الآية بعقلية حرة من دون أن يتبع رأي الأئمّة الأربعة وبذلك وجه لوم المتحجرين إلى نفسه كما هو شأن كلّ مصلح.
  وأمّا الميزة الثانية فالحقّ انّ تفسير الإمام مشحونة بهذه المباحث ولا يمكن لنا عرض معشار ما جاء في ذلك الكتاب من هذا النوع من المسائل ، ولنقتصر بالمورد التالي :

الصبر وأثره البنّاء
  يقول الإمام في تفسير قوله سبحانه : ( وَتَواصَوا بِالصَّبْر ) والصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله ، والرضى بما يكره في سبيل الحقّ ، وهو خلق يتعلّق به بل يتوقّف عليه كمال كلّ خُلق ، و ما أُوتي الناس من شيء مثل ما أُتوا من فقد الصبر أو ضعفه ، كلّ أُمّة ضعف الصبر في نفوس أفرادها ، ضعف فيها كلّ شيء ، وذهبت منها كلّ قوة ، ولنضرب لذلك مثلاً : نقص العلم عند أُمّة

--------------------
(1) تفسير المنار : 2 / 136 ـ 137.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 104 _
  من الأُمم كالمسلمين اليوم ، إذا دقّقت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر ، فإنّ من عرف باباً من أبواب العلم ، لا يجد في نفسه صبراً على التوسع فيه ، والتعب في تحقيق مسائله ، وينام على فراش من التقليد هين لين ، لا يكلفه مشقة ، ولا يجشمه تعباً ، ويسلّي نفسه عن كسله بتعظيم من سبقه ، ولو كان عنده احترام حقيقي لسلفه ، لاتّخذهم أُسوة له في عمله ، فحذا حذوهم ، وسلك مسلكهم ، وكلّف نفسه بعض ما حمّلوا أنفسهم عليه واعتقد كما كانوا يعتقدون انّهم ليسوا بمعصومين. (1)
  وكم للأُستاذ بيانات شافية حول المحرمات كالقمار والزنا ، وحول الجهاد وتحريم الربا إلى غير ذلك من الأُسس الاجتماعية في الإسلام.
  وأمّا الميزة الثالثة فنقتصر بالمورد التالي :
انشقاق السماء عند اختلال نظامها   يذكر في تفسير قوله سبحانه : ( إِذا السماء انشقت ) انشقاق السماء مثل انفطارها الذي مر تفسيره في سورة ( اذا السماء انفطرت ) وهو فساد تركيبها واختلال نظامها عندما يريد اللّه خراب هذا العالم الذي نحن فيه ، وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجر إليها سير العالم ، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما فيضطرب نظام الشمس بأسره ، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام ، يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع ، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره. (2)
  وهذه الأمثلة نقلناها من تفسيره المعروف لجزء عمّ ، ذلك التفسير الذي

--------------------
(1) تفسير جزء عمّ ، تفسير سورة العصر.
(2) تفسير جزء عمّ ، ص 49.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 105 _
  ألفه بقلمه بمشورة من بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية ليكون مرجعاً لأساتذة مدارس الجمعية في تفهيم التلاميذ معاني ما يحفظونه من سور هذا الجزء ، وعاملاً للإصلاح في أعمالهم وأخلاقهم ، وقد أتمّ الاستاذ تفسير هذا الجزء سنة 1321 هو ببلاد المغرب.
  وأمّا الدروس التي ألقاها الإمام فقد ابتدأ بأوّل القرآن في غرة محرم سنة 1317 هـ ، وانتهى عند تفسير قوله تعالى : ( وللّهِ ما فِي السَّماواتِ وََما فِي الأَرضِ وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْء مُحِيطاً ) (1) في منتصف محرم سنة 1321 هـ ، إذ توفّـي ( رحمه الله ) لثمان خلون من جمادى الأُولى من السنة نفسها ، وقد أملى الأُستاذ هذه الدروس على تلاميذه .
  ومع الأسف انّ ما أملاه الإمام لم ينشر على وفق ما أملاه بلا تصرف بزيادة أو نقيصة ، فانّ تلميذه السيد محمد رشيد رضا لمّا كتب تفسيره المسمّى بتفسير ( المنار ) أدخل فيه ما كتبه عن أُستاذه من آراء وأقوال ومزجها بآرائه وأفكاره ، ولذلك لا يمكن أن ينسب كلّ ما فيه إلى الإمام إلاّ إذا صرح الكاتب به.
  وعلى كلّ حال فقد ابتدأ التلميذ بأوّل القرآن وانتهى عند قوله تعالى من سورة يوسف ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَني مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأْويلِ الأَحاديثِ فاطِرَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيّ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحينَ ). (2)
  ثمّ وافته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن.

--------------------
(1) النساء : 126.
(2) يوسف : 101.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 106 _
موقف المنار من المعاجز والكرامات
  قد تعرّفت على المزايا الإيجابية لتفسير المنار ، وما فيه من اهتمام بالغ بتفسير القرآن وفق المعايير الاجتماعية السائدة على الحياة.
  بيد انّ التفسير المذكور لا يخلو من سلبيات في موارد وأخصّ بالذكر المعاجز والكرامات ، فقد حاول في كثير من الآيات المشتملة على هذا النوع من خوارق العادات ، أن يخرجها عن طابعها الغيبي ويصبغ عليها الطابعَ المادي.
  والذي دفع المصنّف إلى هذا النوع من التفكير هو انبهاره بالحضارة الغربية المادية حينما نفي أوائل القرن الرابع عشر الهجري وألقى رحل الإقامة في منفاه ( باريس ) ، شاهد عن كثب تقدّم العلوم الطبيعية وازدهارها في مختلف المجالات وصار العلم يقين لكلّ ظاهرة علة مادية دون أن ينسبها إلى عوامل غيبية من الجن والملك.
  وقد دفع ذلك ، الأُستاذ إلى محاولة الجمع بين الدين والعلم من خلال تفسير الخوارق بالأسباب الطبيعية على نحو يخرجها عن كونها أمراً خارقاً للعادة ، وقد تأثر بهذا المنهج كثير من تلامذته وهذه المحاولة ـ في الحقيقة ـ إخضاع الوحي للعلوم الطبيعة وتفسير له من هذا المنظار.
  وها نحن نذكر في المقام نماذج من هذه التأويلات ونقتصر من أجزاء المنار على الجزء الأوّل ، كما نقتصر منه على بعض ما ذكره في تفسير سورة البقرة ونحيل الباقي إلى القارئ الكريم.
  1 ـ ( وَلَقَد عَلِمتُمُ الّذِينَ اعتَدَوْا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كُونُوا قِرَدةً خاسئِين * فَجَعَلناها نَكالاً لِما بَينَ يَدَيها وَما خَلفَها وَمَوعِظةً للمتَّقين ) (1).

--------------------
(1) البقرة : 65 ـ 66.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 107 _
   كتب ما يلي : ( إنّ السلف من المفسّرين ـ إلاّ من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله : ( كونوا قردة خاسئين ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيّين.
  وإنّما نسب هذا المعنى إلى السلف ، لأنّه يصطدم بالمنهج الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن ، حيث لا تصدقه أنصار الحضارة المادية الّذين ينكرون إمكان صيرورة إنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة ، ولأجل ذلك مال الأُستاذ إلى رأي مجاهد الذي قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثّلوا بالقردة كما مثّلوا بالحمار في قوله تعالى : ( مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التَّوراة ثمَّ لَم يَحمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أسفاراً ). (1)
  ثم أخذ في نقد قول الجمهور ـ إلى أن قال ـ : فما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة. (2)
  ولا يخفى أنّه إذا صحّ هذا التأويل ، فيصح لكل من ينكر المعاجز والكرامات وخوارق العادات هذا النمط من التأويل ، وعندئذ تبطل المعارف ويكون الكتاب العزيز لعبة بيد المحرّفين.
  2 ـ نقل صاحب المنار عن بعض المفسّرين مذهباً خاصاً في معنى الملائكة وهو أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات ، وخلقة حيوان ، وحفظ إنسان وغير ذلك ، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة ، وهو أنّ هذا النمو في النبات لم يكن إلاّ بروح خاص نفخه اللّه في

--------------------
(1) الجمعة : 5.
(2) تفسير المنار : 1 / 343 ـ 354.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 108 _
  البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة ، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان ، فكل أمر كلّي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنّما قوامه بروح إلهي ، سُمِّي في لسان الشرع ملكاً ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمّي هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلاّ ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.
  وقال الإمام عبده بعد نقل نظير هذه التأويلات : ولو أنّ نفساً مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك ، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس على ما أبصرت من الحق. (1)
  ولا يخفى أنّ هذا التأويل لو صحّ في بعض الأحاديث لما صحّ في الملائكة الواردة في قصة آدم وغيرها ، وما هذا التأويل إلاّ للخضوع للمنهج الخاص الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن.
  3 ـ يقول سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّه جَهْرَة فَأَخَذتكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ). (2)
  المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت ، والخطاب لليهود المعاصرين للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) باعتبار أحوال أسلافهم ، ولا يفهم أيّ عربي صميم من لفظة ( ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ ) ، غير هذا إلاّ أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل ، أي أنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون ، بارك اللّه في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ

--------------------
(1) المنار : 1 / 273.
(2) البقرة : 55 ـ 56.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 109 _
  الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها. (1)
  ولم يكن هذا التفسير من الأُستاذ إلاّ لأجل انّ الاعتراف بالإحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسي والتجربة ، فلأجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى ، وما أظن انّ الأُستاذ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية في القرآن الكريم.
  4 ـ أمر سبحانه بني إسرائيل بذبح البقرة ، وقال : ( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُركُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة قالُوا أَتَتَّخذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ باللّهِ أَنْ أَكُون مِنَ الجاهلين ) إلى أن قال : ( وإِذْ قَتَلتُمْ نَفْساً فَادّارءتُمْ فيها وَاللّه مُخرج ما كُنْتُمْ تَكْتُمُون * فَقُلْنا اضْربُوه ببَعضِها كَذلك يحيى اللّه المُوتى ويُريكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ). (2)
  ومجمل القصة هو انّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه ، واختفى قتله له ، فرغب اليهود في معرفة قاتله ، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعض البقرة فانّه يحيى ، ويخبر عن قاتله.
  وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية ، وهو صريح قوله سبحانه : ( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحيى اللّه المَوتى ).
  وأمّا الأُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فهو بعد ان نقل رأي الجمهور ، قال : قالوا : إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة ، وقال : قتلني أخي ، أو ابن أخي فلان ، قال : والآية ليست نصاً في مجمله فكيف بتفصيله ؟


--------------------
(1) تفسير المنار : 1 / 322.
(2) البقرة : 67 ـ 73.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 110 _
  ثمّ فسر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله ، فالواجب أن تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي ، ويقولون : انّ أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل ، ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل ، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل ، ويراد بذلك حقن الدماء.
  ثمّ قال : وهذا الإحياء على حد قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي القِصاص حَياة ) (1) ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس. (2)
  وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله ( فقُلنا اضرِبُوهُ بِبَعضِها ) أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ( كَذلِكَ يُحيى اللّه المَوتى ) ، فهل كان في غسل الأيدي على البقرة المكسورة العنق ، ضرب المقتول ببعض البقرة ؟! هذا أوّلاً.
  وأمّا ثانياً : كيف استند الأُستاذ ـ في تفسير الآية الحاضرة ـ بما ورد في التوراة ، مع أنّ المشهور منه انّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة ، ويصفها بالإسرائيليات والمسيحيات ، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرفة ؟!
  وليس هذا التفسير ـ في حقيقته ـ إلاّ لأجل ما اتخذه الأُستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات ، وخوارق العادة ، وغير ذلك ممّا يرجع إلى عالم الغيب.

--------------------
(1) البقرة : 179.
(2) تفسير المنار : 1 / 345 ـ 350.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 111 _
  5 ـ قال اللّه تعالى : ( أَلَمْ تَر إِلَى الّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوت فَقالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا ثُمَّ أَحياهُمْ إِنَّ اللّه لَذُو فَضْل عَلَى النّاس ولكِنْ أَكْثَر النّاس لا يشكُرون ). (1)
  ذهب الجمهور إلى أنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو من الجهاد فأرسل عليهم الموت ، فلمّا رأوا انّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً منه ، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابّهم ثمّ أحياهم لمصالح وغايات أشير إليها في الآية.
  لكن الأُستاذ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل ، وانّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، فقال لهم اللّه موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي ثمّ أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ ، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في أمرهم.
  يلاحظ عليه : أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة ( المثل ) كما هو دأبه سبحانه في الأمثال القرآنية ، مثل قوله : ( كَمَثَل الَّذي اسْتَوقَدَ ناراً ). (2)
  وقوله تعالى : ( إِنّما مَثَلُ الحَياة الدُّنْيا كَماء أَنْزَلْناهُ ). (3)
  وقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذينَ حمِّلُوا التَّوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسفاراً ). (4)
  فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية ،

--------------------
(1) البقرة : 243.
(2) البقرة : 17.
(3) يونس : 24.
(4) الجمعة : 5.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 112 _
  تفسير بلا شاهد ، وتأويل بلا دليل.
  وكم للأُستاذ رشيد رضا في تفسيره هذا زلاّت وغفلات أجملنا الكلام فيه ونذكر منها أمرين :
  الأوّل : توغّله في التوهّب ودفاعه العنيف عن ابن تيمية وتعريفه بشيخ الإسلام على وجه أصبح من دعاة الوهابية ، وناشري أفكارها.
  الثاني : تحامله على الشيعة في غير واحد من المواضع على وجه دعا السيد محسن الأمين العاملي على إفراد كتاب أسماه ( الحصون المنيعة في رد ما أورده صاحب المنار في حقّ الشيعة ) وقد أغرق فيه نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعاً.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 113 _
  المنهج الأوّل / 4
التفسير على ضوء العلم الحديث
  ومن المولعين بهذا النمط من التفسير الشيخ طنطاوي جوهري ( 1287 ـ 1358 هـ ) في كتابه المعروف ( الجواهر في تفسير القرآن ) وهو يهتم بهذا النمط ، قائلاً بأنّ في القرآن من آيات العلوم ما يربو على 750 آية في حين انّ علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على 150 آية.
  ثمّ إنّه يهيب بالمسلمين أن يتأمّلو في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون ويحثّهم على العمل بما فيها ويندد بمن يغفل عن هذه الآيات على كثرتها ، وينعى على من أغفلها من السابقين الأوّلين ووقف عند آيات الأحكام وغيرها ممّا يتعلق بأُمور العقيدة.
  ثمّ إنّ الشيخ الذهبي قد ذكر نماذج من هذا النوع من التفسير استخرجها من دراسة هذا التفسير وقال : إنّا لنجد المؤلف ( رحمه الله ) يفسر آيات القرآن تفسيراً علمياً يقوم على نظريات حديثة وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل ثمّ قال : وإليك بعض ما جاء في هذا التفسير.
  1 ـ يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتهُمْ وَأَيديهِم وَأَرجُلهُمْ بِما كانُوا

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 114 _
  َعْمَلُون ) (1) وقوله سبحانه : ( اَلْيَومَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيديهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُون ) (2) والشيخ طنطاوي يفسر الآيتين ونظائرهما بما اثبته العلم.
  يقول : ( أو ليس الاستدلال بآثار الاقدام ، وآثار أصابع الأيدي في آياتنا الحاضرة ، هو نفس الذي صرح به القرآن ، وإذا كان اللّه يعلم ما في البواطن بل هو القائل للإنسان : ( كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوم عَلَيْكَ حَسيباً ) (3) والقائل : ( بَل الإِنْسانُ عَلى نَفْسهِ بَصيرة ) (4) أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أنّ من الدلائل ما ليس بالبينات المشهورة عند المسلمين ؟ وانّ هناك ما هو أفضل منها ؟ وهي التي يحكم بها اللّه فاحكموا بها ، ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا انّ الأيدي فيها أسرار ، وفي الأرجل أسرار ، وفي النفوس أسرار ، فالأيدي لا تشتبه ، والأرجل لا تشتبه ، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم أو ليس في الحق أن أقول : إنّ هذا من معجزات القرآن وغرائبه ؟ وإلاّ فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها. (5)
  2 ـ يقول سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَر الَّذين كَفَرُوا انّ السَّماوات وَالأرْض كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلّ شَيء حَيّ أَفلا يُؤمِنُون ). (6)
  فقد فسر القدماء فتق السماء بنزول المطر وفتق الأرض بخروج النبات غير انّ الشيخ طنطاوي يفسره بما يوحي إليه العلم الحديث ، يقول : ها أنت قد اطّلعت

--------------------
(1) النور : 34.
(2) يس : 65.
(3) الاسراء : 14.
(4) القيامة : 14.
(5) الجواهر : 3 / 9.
(6) الأنبياء : 30.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 115 _
  على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين ، من أنّ السماوات و الأرض أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم ، كانت ملتحمة فصلها اللّه تعالى ، وقلنا : انّ هذه معجزة ، لأنّ هذا العلم لم يعرفه الناس إلاّ في هذه العصور ، ـ إلى أن قال : ـ كأنّه يقول : سيرى الذين كفروا انّ السماوات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما ، فهو و ان ذكرها بلفظ الماضي فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى : أتى أمر اللّه وهذه معجزة تامة للقرآن ، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا. (1)
  3 ـ يذكر في تفسير قوله سبحانه : ( وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِج مِنْ نار ) (2) قوله : والمارج المختلط بعضه ببعض ، فيكون اللهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات ، وكما انّ الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللهب مختلطات ، ولقد ظهر في الكشف الحديث انّ الضوء مركب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه ، فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة ، وإلى انّ اللهب مضطرب دائماً ، وإنّما خلق الجن من ذلك المارج المضطرب ، إشارة إلى انّ نفوس الجان لا تزال في حاجة إلى التهذيب والتكميل ، تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها إذ أفادتهم إنّ الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة ، أمّا الروح الناقصة فانّها تكون قلقة مضطربة. (3)
  هذه النماذج ونظائرها استخرجها الأُستاذ الذهبي من تفسير الشيخ طنطاوي ، وأعقبها بقوله :
  والكتاب ـ كما ترى ـ موسوعة علمية ، ضربت في كلّ فن من فنون العلم بسهم وافر ، ممّا جعل هذا التفسير يوصف بما يوصف به تفسير الفخر الرازي ،

--------------------
(1) الجواهر : 10 / 199.
(2) الرحمن : 15.
(3) الجواهر : 24 / 17.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 116 _
  فقيل عنه ( فيه كلّ شيء إلاّ التفسير ) بل هو أحقّ من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به ، وإذا دلّ الكتاب على شيء ، فهو انّ المؤلف كان كثيراً ما يسبح في ملكوت السماوات والأرض بفكره ، ويطوف في نواح شتى من العلم بعقله وقلبه ، ليجلي للناس آيات اللّه في الآفاق وفي أنفسهم ، ثمّ ليظهر لهم بعد هذا كلّه انّ القرآن قد جاء متضمناً لكلّ ما جاء به الإنسان من علوم ونظريات ، ولكلّ ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث ، تحقيقاً لقول اللّه تعالى في كتابه : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده ، وانحراف به عن هدفه. (1)
  ويلاحظ على ذيل ما ذكره الذهبي انّ المراد من ( الكتاب ) في الآية هو الكتاب التكويني للّه سبحانه ، لا التدويني ، يظهر ذلك لمن أمعن في الآية وسياقها.

--------------------
(1) التفسير والمفسرون : 2 / 517.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 117 _
  المنهج الأوّل / 5
التفسير حسب تأويلات الباطنية
  تطلق الباطنية ويراد بها الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) بعد رحيل أبيه ، وعرفوا بالباطنية لأخذهم باطن القرآن دون ظاهره.
  وقد أشبعنا البحث حول عقائد الإسماعيلية في كتابنا ( بحوث في الملل والنحل ) و قلنا بأنّ إسماعيل بن جعفر ( عليه السَّلام ) بريء من هذه الوصمة ، وإنّما هي أفكار موروثة من محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الأسدي وزملائه ، نظراء : المغيرة بن سعيد ، وبشار الشعيري ، وعبد اللّه بن ميمون القداح ، إلى غير ذلك من رؤساء الباطنية ، وقد تبرّأ الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) والأئمّة المعصومون من هذه الفرقة في بلاغات وخطابات خاصة إلى أتباعهم ، ولعنوا الخطابية ، ولم نعثر لهم على كتاب تفسيري يفسر القرآن برمته ، وإنّما حاولوا تفسير الموضوعات الواردة في القرآن والأحاديث وأسموها بباطن القرآن.
  إنّ الباطنية وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة ما دلّ عليها من الشرع شيء وهو أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر ، وإنّ باطنه يؤدي إلى ترك

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 118 _
  العمل بظاهره ، واستدلّوا على ذلك بقوله سبحانه : ( فَضَرَب بَيْنَهُمْ بِسُور لَهُ باب باطنه فيهِ الرّحمة وظاهرهُ مِنْ قبله العَذاب ). (1)
  وعلى ضوء ذلك فقد أوّلوا المفاهيم الإسلامية بالنحو التالي :
  1 ـ الوضوء عبارة عن موالاة الإمام.
  2 ـ التيمم هو الأخذ المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة.
  3 ـ والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى في الآية 45 من سورة العنكبوت : ( إِنَّ الصَّلاة تَنْهى عَنِ الفَحْشاء وَالْمُنْكر ).
  4 ـ والغسل تجديد العهد فمن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد ، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى الاحتلام.
  5 ـ والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين.
  6 ـ والكعبة النبي.
  7 ـ والباب علي.
  8 ـ والصفا هو النبي.
  9 ـ والمروة علي.
  10 ـ والميقات الايناس.
  11 ـ والتلبية إجابة الدعوة.
  12 ـ والطواف بالبيت سبعاً موالاة الأئمة السبعة.
  13 ـ والجنة راحة الأبدان من التكاليف.
  14 ـ والنار مشقّتها بمزاولة التكاليف. (2)


--------------------
(1) انظر الفرق بين الفرق : 18 ، والآية 13 من سورة الحديد.
(2) المواقف : 8 / 390.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 119 _
  هذا ما نقلناه عن كتاب ( المواقف ) ، وإن كنت في شك ممّا ذكره فنحن ننقل شيئاً من تأويلاتهم من كتاب ( تأويل الدعائم ) للقاضي النعمان الذي كان قاضي قضاة الخليفة الفاطمي المعز لدين اللّه منشئ القاهرة وجامعة الأزهر ، وهذا الكتاب يضم في طياته تأويل الأحكام الشرعية بدأً بالطهارة والصلاة وانتهاءً بكتاب الجهاد ، فقد أوّل كلّ ما جاء في هذه الأبواب من العناوين والأحكام ، وطبع الكتاب في مطبعة دار المعارف في مصر ، وإليك نزراً من هذه التأويلات.
  جاء في كتاب ( تأويل الدعائم ) : عن الباقر ( عليه السَّلام ) : ( بني الإسلام على سبع دعائم : (1) الولاية : وهي أفضل و بها و بالوليّ يُنتهى إلى معرفتها ، و الطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، و الحج ، و الجهاد ) ، فهذه كما قال ( عليه السَّلام ) : دعائم الإسلام قواعده ، و أُصوله التي افترضها اللّه على عباده.
  ولها في التأويل الباطن أمثال ، فالولاية مَثلُها مَثلُ آدم (ص) لأنّه أوّل من افترض اللّهُ عزّوجلّ ولايته ، و أمر الملائكة بالسجود له ، و السجود : الطاعة ، وهي الولاية ، و لم يكلّفهم غير ذلك فسجدوا إلاّ إبليس ، كما أخبر تعالى ، فكانت المحنةُ بآدم (ص) الولاية ، وكان آدمُ مثلَها ، ولابدَّ لجميع الخلق من اعتقاد ولايته ، و من لم يتولّه ، لم تنفعْهُ ولاية من تولاّه من بَعده ، إذا لم يدُن بولايته ويعترف بحقّه ، و بأنّه أصل مَنْ أوجب اللّهُ ولايتَه من رسله و أنبيائه وأئمّة دينه ، و هو أوّلهم وأبوهم.
  والطهارة : مَثَلُها مَثَلُ نوح ( عليه السَّلام ) ، وهو أوّل مبعوث و مرسل من قبل اللّه ـ لتطهير العباد من المعاصي والذنوب التي اقترفوها ، ووقعوا فيها من بعد آدم (ص) ، و هو أوّل ناطق من بعده ، وأوّلُ أُولي العزم من الرسل ، أصحاب الشرائع ، وجعلَ اللّه آياته التي جاء بها ، الماء ، الذي جعله للطهارة و سمّاه طهوراً.

--------------------
(1) المرويّ عن طرقنا : بني الإسلام على خمس.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 120 _
  والصلاة : مَثَلُها مَثَلُ إبراهيم (ص) وهو الذي بَنى البيتَ الحرام ، ونصبَ المقام ، فجعل اللّه البيت قبلة ، والمقامَ مصلّى.
  والزكاة : مثلها مثل موسى ، وهو أوّل من دعا إليها ، و أُرسل بها ، قال تعالى : ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ المُقَدَّسِ طُوى * اذْهَبْ إِلى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ). (1)
  والصوم : مَثَلُه مثل عيسى ( عليه السَّلام ) وهو (2) أوّل ما خاطب به أُمّه ، أن تقولَ لِمَنْ رأته من البشر ، وهو قوله الذي حكاه تعالى عنه لها : ( فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَومَ إِنْسِيّاً ). (3)
  وكان هو كذلك يصوم دهره ، و لم يكن يأتي النساء ، كما لا يَجوز للصائم أن يأتيهنّ في حال صومه.
  والحج : مَثَلُه مَثَلُ محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، و هو أوّل من أقام مناسك الحج ، و سنَّ سنته ، وكانت العرب و غيرها من الأُمم ، تحجّ البيت في الجاهليّة و لا تقيم شيئاً من مناسكه ، كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله : ( وما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً ). (4)
  وكانوا يطوفون به عُراة ، فكان أوّلُ شيء نهاهم عنه ذلك فقال ، في العُمرة التي اعتمرها ، قبل فتح مكة ، بعد أن وادعَ أهلَها ، وهم مشركون : ( لا يطوفنّ بعد هذا بالبيت عريان ، ولا عريانة ) ، وكانوا قد نصبوا حول البيت أصناماً لهم يعبدونها ، فلمّا فتح اللّهُ مكّة كسّرها ، وأزالها ، وسنَّ لهم سُنن الحجّ ، و مناسكه ، وأقام لهم بأمر اللّهِ معالمه. وافترض فرائضه ، و كان الحجّ خاتمة الأعمال المفروضة ، وكان

--------------------
(1) النازعات : 15 ـ 18.
(2) الظاهر أنّ ضمير الفاعل يرجع إلى روح الأمين.
(3) مريم : 26.
(4) الأنفال : 35.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 121 _
  هو ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم النبيين ، فلم يبق بعدَ الحجّ من دعائم الإسلام غير الجهاد ، وهو مثل سابع الأئمّة ، الذي يكون سابع اسبوعهم الأخير ، الذي هو صاحب القيامة. (1)
  مع الشهرستاني في كتابه ( مفاتيح الأسرار ) الرأي السائد في مذهب الشهرستاني ( 467 ـ 548 هـ ) هو انّه سنّي أشعري يدافع عن السنّة على ضوء المذهب الأشعري ، وقد قمنا بترجمة حياته في موسوعتنا ( بحوث في الملل والنحل على ضوء تأليفاته لا سيما كتابه المشهور ( الملل والنحل ) غير انّا وقفنا على كتابه في تفسير القرآن الكريم أسماه ( مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار ) الذي طبع عام 1409 هـ في طهران على نسخة وحيدة منه في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي. وقد تصفّحنا بعض فصوله ووقفنا على أنّه إسماعيلي يتستر بغطاء التسنّن ، ولكنّه إسماعيلي غير متطرف فيأخذ بظواهر القرآن وفي الوقت نفسه يطلب له تأويلاً تنسجم مع الفكر الإسماعيلي.
  يقول في مقدّمته : لقد كانت الصحابة ( رضي اللّه عنهم ) متّفقين على أنّ علم القرآن مخصوص بأهل البيت ( عليهم السَّلام ) ، إذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن ؟ وكان يقول : ( لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ بما في قراب سيفي هذا ).
  فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه ، تنزيله ، وتأويله مخصوص بهم ، ولقد كان حبر الأُمّة عبد اللّه بن عباس ( رضي اللّه عنه ) مصدر تفسير جميع المفسرين ، وقد دعا له سول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بأن قال : ( اللّهمّ فقّهه في الدين ، وعلّمه التأويل ) فتلمّذ لعلي ( عليه السَّلام ) حتى فقّهه في الدين وعلَّمه التأويل.

--------------------
(1) تأويل الدعائم : 1 / 51 ـ 52.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 122 _
  ولقد كنت على حداثة سنّي أسمع تفسير القرآن من مشايخي سماعاً مجرداً حتى وُفقْتُ ، فعلّقته على أُستاذي ناصر السنّة أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري ( رضي اللّه عنهما ) تلقفاً ( كذا ).
  ثمّ أطلعتني مطالعات كلمات شريفة عن أهل البيت وأوليائهم ( رضي اللّه عنهم ) على أسرار دفينة وأُصول متينة في علم القرآن ، وناداني من هو في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الطيبة ( يا أَيُّها الَّذينَ آمنوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصّادِقين ) (1) فطلبت الصادقين طلبَ العاشقين ، فوجدت عبداً من عباد اللّه الصالحين كما طلب موسى ( عليه السَّلام ) مع فتاه ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً ) (2) فتعلّمت منه مناهج الخلق والأمر ، ومدارج التضاد والترتيب ، ووجهي العموم والخصوص ، وحكمي المفروغ والمستأنف ، فشبعت من هذا المِعَا الواحد ، دون الامعاء التي هي مآكل الضُّلاّل ومداخل الجُهّال ، وارتويت من شرب التسليم بكأس ، كان مزاجه من تسنيم فاهتديت إلى لسان القرآن : نظمه ، وترتيبه ، وبلاغته وجزالته ، وفصاحته ، وبراعته.
  ثمّ إنّه بعد ما يشير إلى أنّ القرآن بحر لا يدرك غوره ، ولا يدرك ساحله ، والسباحة في هذا البحر كان مقروناً بالخطر ، يقول : فوجدت الحبر العالم فاتّبعته على أن يعلِّمني ممّا عُلّم رُشداً ، وآنست ناراً ، فوجدت على النار هدى فنقلت القراءة والنحو واللغة ، والتفسير ، والمعاني من أصحابها على ما أوردوه في الكتب نقلاً صحيحاً ، من غير تصرّف فيها بزيادة أو نقصان ، سوى تفسير مجمل ، أو تقصير مطوّل ، وعقّبتُ كل آية بما سمعت فيها من الأسرار ، وتوسمتها من إشارات الأبرار ، ولقد مرّ على الخوض فيها فصول في علم القرآن هي مفاتيح العرفان ، وقد

--------------------
(1) التوبة : 119.
(2) الكهف : 65.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 123 _
  بلغت اثنا عشر فصلاً ، قد خلت عنها سائر التفاسير وسمّيت التفسير ب‍ ( مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار ) واستعيذ باللّه السميع العليم من القول فيها برأي واستبداد دون رواية واسناد ، والخوض في أسرارها ومعانيها جزافاً وإسرافاً دون العرض على ميزان الحقّ والباطل ، وإقامة الوزن بالقسط وتقرير الحقّ وتزييف الرأي المقابل له. (1)
  ثمّ إنّه ذكر في الفصل الثامن معنى التفسير والتأويل وبما انّ لأكثر كلامه مسحة من الحق نأتي به.
  يقول : ثمّ التأويل المذكور في القرآن على أقسام : منها : تأويل الرؤيا بمعنى التعبير ( هذا تَأْويلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْل ). (2)
  ومنها : تأويل الأحاديث ( وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْويلِ الأَحادِيثِ ). (3)
  ومنها : تأويل الأفعال ( ذلك تَأويلُ ما لَمْ تَسَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ). (4)
  ومنها : الرد إلى العاقبة والمال : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ ). (5)
  ومنها : الرد إلى اللّه والرسول ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). (6)
  ومنها : تأويل المتشابهات ( فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ). (7)
  وفي القرآن أحكام المفروغ ، وأحكام المستأنف ، وأحكام متقابلات على

--------------------
(1) مفاتيح الأسرار : 1 / 2.
(2) يوسف : 100.
(3) يوسف : 6.
(4) الكهف : 82.
(5) الأعراف : 53.
(6) النساء : 59.
(7) آل عمران : 7.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 124 _
  التضاد ، وأحكام متفاصلات على الترتب ، فرؤية المستأنف هو الظاهر والتنزيل والتفسير ، ورؤية حكم المفروغ هو الباطن والتأويل والمعنى والحقيقة ( وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الأَلْباب ) (1). (2)
  فهذا المقطع من كلامه يبيّن موقفه من تأويل القرآن ، فالأسرار التي يودعها في تفسيره إن كان مستنداً إلى نص معتبر فهو مقبول ، وإلاّ فيرجع إلى التفسير بالرأي ، ومن أراد أن يقف على منهج تفسيره وتأويله ، فلينظر إلى تفسير قوله سبحانه ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا الاّ إِبْليسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الكافِرِينَ ) (3) فلاحظ ص 117 ـ 121 من التفسير المذكور. (4)

--------------------
(1) آل عمران : 7.
(2) مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار : 1 / 19.
(3) البقرة : 34.
(4) ونرفع آية الاعتذار إلى القرّاء الأعزاء لإطناب الكلام فيه ، وما ذلك إلاّ نتيجة الغموض الذي كان يكتنف بعض جوانب سيرة المؤلف ، حتى وقفنا على تفسيره فاطّلعنا على جانب من حياته ومذهبه الّذي كان مكتوماً حقبة طويلة من الزمن ، وإن كان في بعض الكلمات التي نقلناها في كتاب الملل والنحل إشارة إليه.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 125 _
  المنهج الأوّل / 6
التفسير حسب تأويلات الصوفية
  التفسير الصوفي قد تأثر إلى حد كبير بأفكار الباطنية ، واستخدم القرآن في تعقيب هدف خاص وهو دعم الأُسس العرفانية والفلسفية ، وفي الحقيقة انّهم لم يخدموا القرآن الكريم بشيء وانّما خدموا آرائهم وأفكارهم من خلال تطبيق الآيات على آرائهم.
  فالتفسير الصوفي شعبة من شعب التفسير الباطني في قالب معين كما أشرنا إليه.
  وهو ينقسم إلى : تفسير نظري ، وفيضي.
  أمّا الأوّل ، فهو التفسير المبني على أُصول فلسفية ورثوها من أصحابها ، فحاولوا تحميل نظرياتهم على القرآن الكريم.
  وأمّا التفسير الفيضي ، فهو تأويل الآيات على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات رمزية تظهر لأرباب السلوك من غير دعم بحجة أو برهان.
  بعبارة أُخرى : التفسير الفيضي يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل بها إلى درجة تنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف الإلهية.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 126 _
  وعلى كلّ تقدير فتفاسيرهم من غير فرق بين النظري والفيضي مبنية على حمل القرآن على ما يعتقدون به من الأُصول والقواعد من دون حجة وبرهان.
  وهانحن نذكر شيئاً من تفاسيرهم :
  1 ـ تفسير التستري
  ولعلّ أوّل تفسير ظهر هو تفسير أبي محمد سهل بن عبد اللّه التستري ( 200 ـ 283 هـ ) وقد طبع بمطبعة السعادة بمصر عام 1908 هـ ، جمعه أبو بكر محمد بن أحمد البلدي ، فهو يفسر البسملة بالشكل التالي :
  أ ـ الباء : بهاء اللّه ، والسين : سناء اللّه ، والميم : مجد اللّه ، واللّه : هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها ، وبين الألف واللام منه حرف مكنّى ، غيب من غيب إلى غيب ، وسر من سر إلى سر. (1)
  ب ـ من ذلك ما ذكره في تفسير الآية ( ولا تقربا هذه الشجرة ) (2)
  لم يرد اللّه معنى الأكل في الحقيقة ، وإنّما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره أي لا تهتم بشيء هو غيري ، قال : فآدم ( عليه السَّلام ) لم يعصم من الهمة والفعل في الجنة ، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك ، قال : وكذلك كلّ من ادّعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من اللّه مع ما جبلت عليه نفسه ، إلاّ أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها. (3)
  ج ـ ومنها ما ذكره في تفسير الآية 96 من سورة آل عمران : ( إِنّ أوّلَ بيت وُضِعَ لِلنّاسِ ... ) أوّل بيت وضع للناس بيت اللّه عزّوجلّ بمكة ، هذا هو الظاهر ، وباطنها الرسول يؤمن به من أثبت اللّه في قلبه التوحيد من الناس. (4)


--------------------
(1) تفسير التستري : 12.
(2) البقرة : 35.
(3) تفسير التستري : 16 ـ 17.
(4) تفسير التستري : 4.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 127 _
  د ـ ومنها ما ذكره في تفسير الآية 36 من سورة النساء ( وَالجارِ ذِي القُربى وَالجارِ الجُنُبِ وَالصاحِبِ بِالجَنْبِ وَابنِ السَّبِيل ... ) : وأمّا باطنها ، فالجار ذي القربى هو القلب ، والجار الجنب : هو الطبيعة ، والصاحب بالجنب : هو العقل المقتدى بالشريعة ، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة للّه. (1)
  2 ـ حقائق التفسير للسلمي
  إنّ ثاني تفاسير الصوفية التي ظهرت إلى الوجود ، هو تفسير أبي عبد الرحمن السلمي ( 330 ـ 412 هـ ) المسمّى ب‍ ( حقائق التفسير ) وكان شيخ الصوفية ورائدهم بخراسان ، وله اليد الطولى في التصوّف.
  أ ـ قال في تفسير الآية ( وَلَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ ). (2)
  قال محمد بن الفضل : اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها ، أو اخرجوا من دياركم ، أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم ما فعلوه إلاّ قليل منهم في العدد ، كثير في المعاني ، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة. (3)
  ب ـ وفي سورة الرعد عند قوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِي ). (4)
  يقول : قال بعضهم : هو الذي بسط الأرض ، وجعل فيها أوتاداً من أوليائه وسادة من عبيده فإليهم الملجأ وبهم النجاة ، فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ، ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر. (5)

--------------------
(1) تفسير التستري : 45.
(2) النساء : 66.
(3) تفسير السلمي : 49.
(4) الرعد : 3.
(5) تفسير السلمي : 138.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 128 _
  ج ـ وفي سورة الحجّ عند قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أنَّ اللّهَ أنزلَ من السَّماءِ ماءً فتُصبِحُ الأرضُ مُخْضَرّة ) (1)
  يقول : قال بعضهم : أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة وفتح إلى قلوب عباده عيوناً من ماء الرحمة ، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة ، وأثمرت الإيمان ، وأينعت التوحيد ، أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها ، واشتاقت إلى ربها فطارت بهمتها ، وأناخت بين يديه ، وعكفت فأقبلت عليه ، وانقطعت عن الأكوان أجمع. ذاك آواها الحق إليه ، وفتح لها خزائن أنواره ، وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ، ورياض الشوق والقدس. (2)
  د ـ وفي سورة الرحمن عند قوله تعالى : ( فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الأَكْمامِ ) (3) يقول : قال جعفر : جعل الحقّ تعالى في قلوب أوليائه رياض أنسه ، فغرس فيها أشجار المعرفة أُصولها ثابتة في أسرارهم ، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد ، فهم يجنون ثمار الأنس في كلّ أوان ، وهو قوله تعالى : ( فِيهافاكِهةٌ والنَّخلُ ذاتِ الأكمام ) أي ذات الألوان ، كلّ يجتني منه لوناً على قدر سعته ، وما كوشف له من بوادي المعرفة و آثار الولاية. (4)
  وهاهنا كتب أُخرى أُلّفت على هذا الغرار نظير :
  3 ـ لطائف الإشارات
  لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري ( 376 ـ 465 هـ ).

--------------------
(1) الحج : 63.
(2) تفسير السلمي : 212.
(3) الرحمن : 11.
(4) تفسير السلمي : 344.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 129 _
  4 ـ تفسير الخواجه لعبد اللّه الأنصاري ( المتوفّى 480 هـ ).
  5 ـ كشف الأسرار وعدّة الأبرار لأبي الفضل رشيد الدين الميبدي ، وهو بسط وتوضيح لمباني تفسير الخواجه عبد اللّه الأنصاري.
  6 ـ تفسير ابن عربي هو لأبي بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بابن عربي ( 560 ـ 638 هـ ).
  يقول في تفسير الآية 19 ـ 20 من سورة الرحمن : ( مَرجَ البَحرين يَلتقيان * بَينَهُما بَرزخٌ لا يَبغيان ) بأنّ مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأُجاج ، وبحر الروح المجرد هو العذب الفرات ، يلتقيان في الموجود الإنساني ، وإنّ بين الهيولى الجسمانية والروح المجردة ، برزخ هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها ، ولا في كثرة الأجساد الهيولائية وكثافتها ، ولكن مع ذلك لا يبغيان ، أي لا يتجاوز أحدهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته ، فلا الروح المجردة تجرد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه ، ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً (1).
  7 ـ عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد روزبهان بن أبي نصر البقلي الشيرازي ( المتوفّى 666 هـ ).


--------------------
(1) تفسير ابن عربي : 2 / 280.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 130 _
  8 ـ التأويلات النجمية لأبي بكر عبد اللّه الرازي المعروف ب‍ ( داية ) ( المتوفىّ 654 هـ ). إلى غير ذلك من التفاسير. (1)
  وفي الختام نكتفي بما ذكره الذهبي حول هذه التفاسير ، وقال : نحن لا ننكر على ابن عربي ان ثم أفهاماً يلقيها اللّه في قلوب أصفيائه وأحبائه ، ويخصهم بها دون غيرهم ، على تفاوت بينهم في ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت في درجات السلوك ومراتب الوصول ، كما لا ننكر عليه أن تكون هذه الأفهام تفسيراً للقرآن وبياناً لمراد اللّه من كلامه ، ولكن بشرط : أن تكون هذه الأفهام يمكن أن تدخل تحت مدلول اللفظ العربي القرآني ، وأن يكون لها شاهد شرعي يؤيدها ، أمّا أن تكون هذه الأفهام خارجة عن مدلول اللفظ القرآني وليس لها من الشرع ما يؤيدها فذلك ما لا يمكن أن نقبله على أنّه تفسير للآية وبيان لمراد اللّه تعالى ، لأنّ القرآن عربي قبل كلّ شيء كما قلنا ، واللّه سبحانه و تعالى يقول في شأنه : ( كتابٌ فُصِّلت آياتُهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لقوم يَعْلَمُون ) (2) وحاشا للّه أن يلغز في آياته أو يعمى على عباده طريق النظر في كتابه ، وهو يقول : ( وَلَقَد يَسَّرنا القُرآنَ للذِّكْرِ فَهَل مِنْ مُدّكِر ) (3). (4)

التفسير الإشاري بين القبول والرفض
  هناك منهج اصطلحوا عليه بالتفسير الإشاري وهو نفس التفسير الصوفي ، وعرّفوه بأنّ نصوص القرآن محمولة على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى

--------------------
(1) وقد رصدرنا في تحرير هذا الموضوع عن كتاب التفسير والمفسرون ، للمحقّق الأُستاذ محمد هادي معرفة ( دامظله ).
(2) فصلت : 3.
(3) القمر : 17.
(4) التفسير والمفسرون : 2 / 374.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 131 _
  دقائق تنكشف على أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة. (1)
  وبعبارة أُخرى : ما يظهر من الآيات بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها و بين الظواهر المرادة.
  وبعبارة ثالثة : القائل بالتفسير الإشاري لا ينكر كون الظاهر مراداً ، ولكن يقول بأنّ في هذه الظواهر ، إشارات إلى معان خفية تفهمه عدّة من أرباب السلوك وأولو العقل والنهى ، وبذاك يمتاز عن تفسير الباطنية فانّهم يرفضون كون الظواهر مرادة ويأخذون بالبواطن ، هذا هو حاصل التفسير الإشاري.
  واستدلّ القائلون بالتفسير الإشاري بوجهين :
  الأوّل : انّ القرآن يدعو إلى التدبّر والتفكّر فيه ، ومعنى ذلك هو انّ القرآن يحتوي على معاني وحقائق لا تدرك بالنظر الأُولى ، بل لابدّ من التأمّل والتعمّق حتى يقف الإنسان على إشاراته ورموزه ، يقول سبحانه : ( فَما لهؤلاءِ القومِ لا يكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ). (2)
  وقوله تعالى : ( أَفَلا يَتَدبّرونَ القُرآنَ ولَو كانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللّهِ لوجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ). (3)
  وقوله تعالى : ( أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقفالُها ). (4)
  فهذه الآيات تصف الكافرين بأنّهم لا يكادون يفقهون حديثاً لا يريد بذلك أنّهم لا يفهمون نفس الكلام ، لأنّ القوم كانوا عرباً والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره بلا شك ، وإنّما أراد بذلك أنّهم لا يفهمون مراده من الخطاب ، فحضّهم على أن يتدبّروا في آياته حتى يقفوا على مقصود اللّه ومراده ،

--------------------
(1) سعد الدين التفتازاني : شرح العقائد النسفية : 142.
(2) النساء : 78.
(3) النساء : 82.
(4) محمد : 24.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 132 _
  وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم. (1)
  يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الاستدلال بهذه الآيات من الضعف بمكان ، فانّها تدعو إلى التدبّر في نفس المفاهيم المستفاد من ظاهر الآيات وكون القرآن عربياً ، وكون القوم عُرباً لا يكفي في فهم القرآن الكريم من دون التدبّر والإمعان ، فهل يكفي كون القوم عرباً في فهم مغزى قوله سبحانه : ( هُوَ الأَوّل وَالآخر وَالظّاهر وَالباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَليم ) (2) ؟
  أو في فهم قوله سبحانه : ( لو كانَ فِيهما آلهة إِلاّ اللّه لَفَسدَتا فسُبحان اللّه ربّ العرش عَمّا يَصِفُون ) (3) ؟
  أو في فهم قوله سبحانه : ( وما َ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِماخَلَقَ وَلَعَلا بَعْضهُم عَلى بَعْض سُبْحانَ اللّه عَمّا يَصِفُون ) (4) ؟
  فالدعوة إلى التدبّر لا يدلّ على أنّ للقرآن وراء ما تفيده ظواهره بطناً.
  وثانياً : انّه يمكن أن يكون الأمر بالتدبّر هو تطبيق العمل على ما يفهمونه من القرآن ، فربّ ناصح يدلي بكلام فيه نصيحة الأهل والولد ، ولكنّهم إذا لم يطبقوا عملهم على قول ناصحهم ، يعود الناصح إليهم ، ويقول : لماذا لا تتدبّرون في كلامي ؟ لماذا لا تعقلون ؟ مشعراً بذلك أنّكم ما وصلتم إلى ما أدعوكم إليه وإلاّ لتركتم أعمالكم القبيحة وصرتم عاملين بما أدعو إليه.
  الثاني : ما دلّ من الروايات على أنّ للقرآن ظهراً وبطناً ، ظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق. (5)

--------------------
(1) التفسير والمفسرون ، نقلاً عن الموافقات : 3 / 382 ـ 383.
(2) الحديد : 3.
(3) الأنبياء : 22.
(4) المؤمنون : 91.
(5) الكافي : 2 / 598 الحديث 2.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 133 _
  يلاحظ عليه : أنّ ما روي عن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بأنّ للقرآن بطناً وظهراً فالحديث فيه ذو شجون ، وسيوافيك الكلام فيه في خاتمة الكتاب وأنّه يحتمل وجوهاً على نحو مانعة الخلو :
  1 ـ المقصود من البطن هو أنّ ما ورد في القرآن حول الأقوام والأُمم من القصص ، وما أصابهم من النعم والنقم ، لا ينحصر على أُولئك الأقوام ، بل هؤلاء مظاهر لكلامه سبحانه وهو يعم غيرهم ممّن يأتون في الأجيال فقوله سبحانه : ( وضَربَ اللّهُ مَثَلاً قَريةً كانَت آمنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيها رِزقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكان فَكَفَرت بِأنعُمِ اللّهِ فَأذَاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِما كانُوا يَصنَعونَ * وَلَقد جاءَهُمْ رَسولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ فَأخَذهُمُ العَذابُ وَهُم ظالِمون ) (1) وإن كان وارداً في قوم خاص ، لكنّها قاعدة كلية مضروبة على الأُمم جمعاء.
  2 ـ المراد من بطـن القرآن هو الاهتـداء إلى المصاديـق الخفيـة التي يحتاج الوصول إليها إلى التدبّر ، أو تنصيص من الإمام ، ولأجل ذلك نرى أنّ علياً ( عليه السَّلام ) يقول في تفسير قوله سبحانه : ( وإن نَكَثُوا أيْمانَهُم مِن بَعدِ عَهدِهِم وطَعَنُوا في دِينِكُم فَقاتِلُوا أئمَّةَ الكُفْرِ إنّهُم لا أيْمانَ لَهُم لَعَلّهُم يَنتَهُون ) (2) : ( إنّه ما قوتل أهلها منذ نزلت حتى اليوم ).
  وفي رواية أُخرى قال علي ( عليه السَّلام ) : ( عذرني اللّه من طلحة والزبير بايعاني طائعين ، غير مكرهين ، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ) ثم تلا هذه الآية (3).
  وسيوافيك الكلام فيه عند البحث في التأويل مقابل التنزيل.
  3 ـ وهناك احتمال ثالث للبطن ، وهو حمل الآية على مراتب مفهومها وسعة

--------------------
(1) النحل : 112 ـ 113.
(2) التوبة : 12.
(3) البرهان في تفسير القرآن : 1 / 105.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 134 _
  معناها واختلاف الناس في الاستفادة منها حسب استعداداتهم وقابلياتهم ، لاحظ قوله سبحانه : ( أنزَلَ مِن السّماءِ ماءً فَسالت أو ديةٌ بِقَدَرِها فاحتَملَ السَّيلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيهِ في النّارِ ابتغاءَ حِلية أو متاع زَبَدٌ مِثلُهُ كَذلِكَ يَضربُ اللّهُ الحَقَّ والباطِلَ فأمّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيمكُثُ فِي الأرضِ كَذلِكَ يَضرِبُ اللّهُ الأمثال ). (1)
  إنّ للآية مراتب ودرجات من التفسير كل يستفيد منها حسب قابليته والكل يستمد من الظاهر ، ونظيرها آية النور ، (2) فقد خاض المفسرون في تفسير الآية وتطبيقها على موارد مختلفة وكل استفاد من نورها حسب مؤهّلاته وكفاءاته.
  وحاصل القول في التفسير الإشاري : إنّ ما يفهمه المفسّر من المعاني الدقيقة إن كان لها صلة بالظاهر ، فهو مقبول ، سواء سمّي تفسيراً على حسب الظاهر أو تفسيراً إشارياً ، وعلى كل تقدير فالمفسّر على حجّة من ربّه في حمل الآية على ما أدرك ، وأمّا إذا كان مقطوع الصلة عن الظاهر ، المتبادر إلى الأذهان ، فلايصح له حمل القرآن عليه إلاّ إذا حصل له القطع بأنّه المراد ، وعندئذ يكون القطع حجّة له لا لغيره وإن كان مخالفاً للواقع ، ولإيضاح الحال نأتي بأمثلة : يخاطب سبحانه أُمّ المسيح بقوله : ( وهُزّي إلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُساقِطْ عَلَيكِ رُطباً جَنيّاً ). (3)
  فلو قال أحد : إنّه سبحانه هيّأ مقدّمات الولادة ومؤخّراتها لأُمّ المسيح ، حتى الرطب في غير فصله من الشجرة اليابسة ، ومع ذلك أمرها أن تهُزَّ بجذع النخلة مع أنّ في وسع المولى سبحانه أن يرزقها الرطب بلا حاجة إلى الهز ، ـ أمرها

--------------------
(1) الرعد : 17.
(2) النور : 35.
(3) مريم : 25.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 135 _
  بالهزّ ـ هذا لتفهيمها أنّها مسؤولة في حياتها عن معاشها ، وأنّه سبحانه لو هيّأ كل المقدّمات فلا تغني عن سعيها وحركتها ولو بالهز بجذع النخلة.
  هذا ما ربما يعلق بذهن بعض المفسّرين ، ولا بأس به ، لأنّ له صلة بالظاهر.
  روي أنّه بعدما نزل قوله سبحانه : ( اليومَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتمَمتُ عَليكُمْ نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسلامَ ديناً ) (1) فرحَ الصحابة وبكى بعضهم فقال : الآية تنعي إلينا برحلة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) (2).
  وكأنّه فهم الملازمة بين إكمال الدين ورحلة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
  نعم هناك تفاسير باسم التفسير الإشاري لا يصح إسناده إلى اللّه سبحانه ، كتفسير ( الم ) بأنّ الألف إشارة إلى اللّه واللام إلى جبرئيل والميم إلى محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فإنّه أشبه بالتفسير بالرأي إلاّ إذا كان هناك نصّ من المعصوم.
  ولو صحّ هذا التفسير ، فيمكن تفسيره بوجوه كثيرة بأنّ يقال الألف إشارة إلى ألف الوحدانية ، واللام إلى لام اللطف ، والميم إشارة إلى الملك ، فمعنى الكلمة : من وحّدني تلطفت له فجزيته بالملك الأعلى.
  وأسوأ من ذلك تفسير قوله سبحانه : ( والجارِ ذِي القُربَى والجارِ الجُنُبِ وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ وابنِ السّبِيل ) (3) بأن يقال : ( والجار ذي القربى ) هو القلب ، ( والجار الجنب ) هو الطبيعة ، ( والصاحب بالجنب ) هو العقل المقتدي بالشريعة ، ( وابن السبيل ) هو الجوارح المطيعة للّه.
  فمثل هذا النوع من التفسير يلتحق بتفاسير الباطنية التي مضى البحث فيها.

--------------------
(1) المائدة : 3.
(2) الآلوسي : روح المعاني : 6 / 60.
(3) الرعد : 17.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 137 _
  المنهج الثاني
التفسير بالنقل
  وصوره :
  1 ـ تفسير القرآن بالقرآن
  2 ـ التفسير البياني للقرآن
  3 ـ تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية
  4 ـ تفسير القرآن بالمأثور عن النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والأئمّة ( عليهم السَّلام )
  وإليك بيان هذه الأقسام :

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 139 _
  المنهج الثاني / 1
تفسير القرآن بالقرآن
  إنّ هذا المنهج من أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية كيف وقد قال سبحانه : ( وَنَزّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلِّ شَيء ). (1)
  فإذا كان القرآن موضحاً لكل شيء ، فهو موضح لنفسه أيضاً ، كيف والقرآن كلّه ( هدى ) و ( بيّنة ) و ( فرقان ) و ( نور ) كما في قوله سبحانه : ( شَهرُ رَمضانَ الّذي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبيِّنات مِنَ الهُدى والفُرقان ). (2)
  وقال سبحانه : ( وأنزَلنا إلَيكُمْ نُوراً مُبيناً ). (3)
  وعن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( إنّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً ).
  وقال علي ( عليه السَّلام ) في كلام له يصف فيه القرآن : ( كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في اللّه ولا يخالف بمصاحبه عن اللّه ) (4).
  وهذا نظير تفسير المطر الوارد في قوله سبحانه : ( وأمطَرنا عَلَيهِمْ مَطَراً فَساءَ

--------------------
(1) النحل : 89.
(2) البقرة : 185.
(3) النساء : 174.
(4) نهج البلاغة : الخطبة 129.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 140 _
  مَطَرُ المُنذَرين ) (1) بالحجارة الواردة في آية أُخرى في هذا الشأن قال : ( وأمطَرنا عَلَيهِم حِجارَةً مِن سِجِّيل ). (2)
  وفي الروايات المأثورة عن أهل البيت نماذج كثيرة من هذا المنهج يقف عليها المتتبع في الآثار الواردة عنهم عند الاستدلال بالآيات على كثير من الأحكام الشرعية الفرعية وغيرها.
  وقد قام أحد الفضلاء باستقصاء جميع هذا النوع من الأحاديث المتضمّنة لهذا النمط من التفسير.
  ولنذكر بعض النماذج من هذا المنهج.
  1 ـ سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر ( عليه السَّلام ) عن وجوب القصر في الصلاة في السفر مع أنّه سبحانه يقول : ( وَلَيْسَ عَلَيكُم جُناح ) (3) ولم يقل افعلوا ؟
  فأجاب الإمام ( عليه السَّلام ) بقوله : ( أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة : ( فَمَن حَجَّ البَيتَ أوِ اعتَمرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِما ) (4) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ) (5).
  2 ـ روى المفيد في إرشاده : أنّ عمر أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمَّ برجمها فقال له أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : ( إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك ، إنّ اللّه تعالى يقول : ( وَحَملُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً ) (6) ، ويقول : ( وَالوالِداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَن أراد أن يُتِمَّ الرّضاعَة ). (7)

--------------------
(1) الشعراء : 173.
(2) الحجر : 74.
(3) الأحزاب : 5.
(4) البقرة : 158.
(5) الوسائل : 5 ، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 2.
(6) الأحقاف : 15.
(7) البقرة : 233.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 141 _
  فإذا تم ، أتمّت المرأة الرضاع لسنتين ، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان الحمل منها ستة أشهر ) ، فخلّى عمر سبيل المرأة. (1)
  3 ـ يقول سبحانه : ( حم * والكِتاب المُبين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة ). (2)
  فالآية تدل على أنّ القرآن نزل في ليلة مباركة ، وامّا أيّة ليلة تلك ، وفي أي شهر فيستفاد من ضم آيتين أُخريين ، يقول سبحانه : ( إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة القَدْر ) (3) وقوله سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضان الَّذي أُنْزلَ فيهِ القُرآن ) (4) فمن ضم هذه الآيات الثلاثة يستفاد انّ القرآن في ليلة مباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان.
  4 ـ يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ وَلِلرَّسُول إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْييكُمْ وَاعْلَمُوا انَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ). (5)
  غير انّ حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه يعلوه إبهام يفسره ، قوله سبحانه : ( وَلا تَكُونُوا كَالّذينَ نَسُوا اللّه فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون ). (6)
  فإنساء الذات الذي هو فعله تعالى عبارة عن حيلولته بين المرء وقلبه ، ومن نسي ذاته فقد أهلك نفسه.
  5 ـ يقول سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَرَوا انّا نَأْتِي الأَرْض نَنْقُصها مِنْ أَطْرافِها وَاللّه يَحْكُمُ لا مُعقِّب لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَريعُ الحِساب ) (7) ولا شكّ انّ الأرض لا تنقص بل ربما تزيد كالسماء في قوله سبحانه : ( وَالسَّماء بَنَيْناها بِأَيْد وَانّا لَمُوسِعُون ) (8)

--------------------
(1) نور الثقلين : 5 / 14 ، الدر المنثور للسيوطي : 7 / 441 ، طبع دار الفكر بيروت.
(2) الدخان : 1 ـ 3.
(3) القدر : 1.
(4) البقرة : 185.
(5) الأنفال : 24.
(6) الحشر : 19.
(7) الرعد : 41.
(8) الذاريات : 47.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 142 _
  ولكن يرتفع الإبهام بآية أُخرى حيث أطلق وأُريد منها البلد العامر ، يقول : ( إِنّمّا جَزاءُ الّذينَ يُحارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَونَ في الأَرْض فَساداً أَنْ يُقتَّلُوا أَو يُصلّبوا أَو تقطّع أَيديهِمْ وَأَرْجُلهُمْ مِنْ خِلاف أَو ينفوا من الأَرض ذلكَ لَهُمْ خِزي فِي الدُّنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذابٌ عَظيم ) (1) فانّ المراد من الأرض هو البلد العامر الذي يقطن فيها المحارب فينفى منها ليعيش بين البراري والقفار.
  وأمّا النقص فتفسره السنّة ، كما في ما ورد عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) حيث قال : ( فقد العلماء ، وموت علمائها ). (2)
  6 ـ يقول سبحانه : ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيديَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزيزٌ حَكيم ). (3)
  فقد أطلق اليد وأبهم المراد منه حيث إنّها تطلق على خصوص الأصابع ، على خصوص الكف وعليه إلى المرافق ، وإلى الكتف ، فيرفع الإبهام بقوله سبحانه : ( وَانّ المساجِدَ للّه فَلا تَدْعُوا مَع اللّه أَحداً ) (4) حيث إنّ المستفاد منه على أنّ مواضع السجود للّه ، وراحة الكف من مواضع السجود ، وما كان للّه لا يقطع.
  7 ـ يقول سبحانه : ( إِنّا عَرَضْنا الأَمانَة عَلى السَّموات وَالأَرْض وَالجِبال فَأَبين أَنْ يَحْمِلْنها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَها الإِنْسان إِنّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (5) ، فالآية تدلّ على كرامة الإنسان ، بحيث أُهل لحمل الأمانة.
  وأمّا ما هو المراد من تلك الأمانة فيفسرها قوله سبحانه : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ

--------------------
(1) المائدة : 33.
(2) البرهان : 2 / 302 ، رقم الحديث : 54.
(3) المائدة : 38.
(4) الجن : 18.
(5) الأحزاب : 71.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 143 _
  لْمَلائِكة انّي جاعِلٌ في الأَرْض خَليفَة ) (1) ، فخلافة الإنسان عن اللّه سبحانه هي الأمانة التي وصفها اللّه سبحانه على عاتق الإنسان ، فبما انّه خليفة للّه سبحانه يجب أن يكون بصفاته وأفعاله مظهراً لصفات اللّه وأسمائه وأفعاله.
  إلى غير ذلك من الآيات التي يفسر بعضها بعضاً من دون رأي مسبق.
  أقول : هذا النمط من التفسير كما يتحقّق بالتفسير الموضوعي ، أي تفسير القرآن حسب الموضوعات ، يتحقّق بالتفسير التجزيئي ، أي حسب السور ، سورة بعد سورة ، وهذا هو تفسير ( الميزان ) كتب على نمط تفسير القرآن بالقرآن ، لكن على حسب السور ، دون الموضوعات ، فبيّن إبهام الآية بآية أُختها.
  ولكن الصورة الكاملة لهذا النمط من التفسير يستدعي الإحاطة بالقرآن الكريم ، وجمع الآيات الواردة في موضوع واحد ، حتى تتجلّـى الحقيقة من ضمِّ بعضها إلى بعض ، واستنطاق بعضها ببعض ، فيجب على القائم بهذا النمط ، تفسير القرآن على حسب الموضوعات ، وهو نمط جليل يحتاج إلى عناء كثير ، وقد قام العلامة

--------------------
(1) البقرة : 30.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 144 _
  المجلسي برفع بعض مشاكل هذا النمط فجمع الآيات الواردة في كل موضوع حسب الأبواب.
  ولو انتشر هذا القسم من البحار في جزء مستقل ربّما يكون مفتاحاً للتفسير الموضوعي فهو ( قدَّس سرَّه ) قد استخرج الآيات حسب الموضوعات ، وشرحها بوجه إجمالي.
  ولكن النمط الأوسط منه هو قراءة القرآن من أوّله إلى آخره ، والدقة في مقاصد الآيات ، ثم تصنيف الآيات حسب ما ورد فيها من الأبحاث والموضوعات ، ففي هذا النوع من التفسير تستخرج الموضوعات من الآيات ثم تصنّف الآيات حسب الموضوعات المستخرجة ، وهذا بخلاف ما قام به العلامة المجلسي ، فهو صنّف الآيات حسب الموضوعات على ضوء ما جادت بها فكرته ، أو جاءت في كتب الأحاديث والأخبار.
  وهذا النمط من التفسير لا يعني قول القائل : ( حسبنا كتاب اللّه ) المجمع على بطلانه عند عامة المسلمين ، لاهتمامهم بالسنّة مثل اهتمامهم بالقرآن ، وإنّما يعني أنّ مشاكل القرآن ومبهماته ترتفع من ذلك الجانب.
  وأمّا أنّه كاف لرفع جميع المبهمات حتى مجملات الآية ومطلقاتها فلا ، إذ لا شك أنّ المجملات كالصلاة والزكاة تبيّن بالسنّة والعمومات تخصّص بها ، والمطلقات تقيّد بالأخبار ، إلى غير ذلك من موارد الحاجة إلى السنّة.
  هذا بعض الكلام في هذا المنهج ، وقد وقع مورد العناية في هذا العصر ، فقد أخذنا هذا النمط في تفسيرنا للذكر الحكيم ، فخرج منه باللغة العربية أجزاء عشرة باسم ( مفاهيم القرآن ) ، وباللغة الفارسية أربعة عشر جزءاً وانتشر باسم ( منشور جاويد ) ، ولا ننكر أنّ هذا العبء الثقيل يحتاج إلى لجنة تحضيرية أوّلاً ، وتحريرية ثانياً ، وإشراف من الأساتذة ثالثاً ، رزقنا اللّه تحقيق هذه الأُمنية.
  وإنّ تفسير ابن كثير يستمد من هذا النمط أي تفسير الآيات بالآيات بين الحين والآخر ، كما أنّ الشيخ محمد عبده في تفسيره الذي حرر بقلم تلميذه اتّبع هذا المنهج في بعض الأحايين.
  والأكمل من التفسيرين في اتّباع هذا المنهج هو تفسير السيد العلامة الطباطبائي فقد بنى تفسيره ( الميزان ) على تفسير الآية بالآية.
  غير أنّ هذه التفاسير الثلاثة كما عرفت كتبت على نحو التفسير التجزيئي ، أي تفسير القرآن سورة بعد سورة لا على تفسيره حسب الموضوعات.
  وعلى كل تقدير فتفسير القرآن بالقرآن يتحقّق على النمط الموضوعي كما يتحقّق على النمط التجزيئي غير أنّ الأكمل هو اقتفاء النمط الأوّل.