والمساوئ ، وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في العمل ، فيلزم عليهنَّ أن يقتدينَّ بهم ، ويستضيئنَّ بنورهم.
2 ـ يعد النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) محوراً لطائفتين مجتمعتين حوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
الأُولى : أزواجه ونساؤه.
الثانية : ابنته وبعلها وبنوها.
فالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هو الرابط الذي تنتهي إليه هاتان الطائفتان ، فإذا نظرنا إلى كلّ طائفة مجرّدة عن الأُخرى ، فسوف ينقطع السياق.
ولكن لمّا كان المحور هو النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، واللّه سبحانه يتحدّث عمّن له صلة بالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فعند ذلك تتراءى الطائفتان كمجموعة واحدة ، فيعطي لكلّ منها حكمها ، فيتحدّث عن نساء النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بقوله : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزواجِكَ ) ، ( يا نِساءَ النَّبِيُّ مَنْ يَأْتِ ) ، ( يا نساءَ النبيّ لَسْتُنَّ ) الخ.
كما أنّه تعالى يتحدّث عن الطائفة الأُخرى وهم أهل البيت بقوله : ( إِنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرجسَ ).
فالباعث للجمع بين الطائفتين في ثنايا آية واحدة ، إنّما هو انتساب الجميع إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وحضورهما حوله ، وليس هناك أيّ مخالفة للسياق.
إكمال
أثبت ما قدّمنا من الأدلّة الناصعة انّ كتاب اللّه العزيز مصون من التحريف لم تمسّ كرامتَه يدُ التغيير ، كما ظهر ضعف ما استند إليه القائل به.
بقي الكلام فيما ورد في الصحاح والمسانيد من سقوط آيات من الكتاب وقد تبنّاها عمر بن الخطاب وعائشة ، ففي زعم الأوّل سقطت آيات أربع ، وعلى زعم الثانية
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 225 _
سقطت واحدة وهي آية الرضاع.
والعجب انّ أهل السنّة يتّهمون الشيعة بالقول بالتحريف ويشنّون الغارة عليهم ، وهم يروون أحاديثه في أصح صحاحهم ومسانيدهم.
والحقّ انّ أكابر الفريقين بريئون عن هذه الوصمة ، غير انّ لفيفاً من حشوية أهل السنّة ، وأخبارية الشيعة يدّعون التحريف وهم يستندون إلى روايات لا قيمة لها في سوق الاعتبار. ولنذكر ما رواه أهل السنّة في كتبهم.
الآيات غير المكتوبة
يرى ابن الخطاب انّ آيات أربع سقطت من القرآن وهي : آية الرجم ، وآية الفراش ، وآية الرغبة ، وآية الجهاد ، والعجب انّ الصحاح والمسانيد احتفلت بنقلها ، مع أنّ نصوصها تشهد على أنّها ليست من القرآن وإن كانت مضامينها مطابقة للشريعة ، وإليك الآيات الأربع المزعومة :
1 ـ آية الرجم
خطب عمر عند منصرفه من الحج وقال : إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم يقول قائل لا نجد حدّين في كتاب اللّه ، فقد رجم رسول اللّه ورجمنا ، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب اللّه تعالى لكتبتها : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) فإنّا قد قرأناها. (1)
ولفظها ينادي بأنّها ليست من القرآن ، والمضمون غير خال من الإشكال ، لأنّ الموضوع للرجم هو المحصن والمحصنة سواء كانا شابين أو شيخين أو مختلفين.
2 ـ آية الفراش
قال عمر بن الخطاب مخاطباً لأُبيَّ بن كعب : أو ليس كنّا نقرأ ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) فيما فقدنا من كتاب اللّه ، فقال أُبيّ : بلى. (1) واللفظ مع فصاحته أيضاً يأبى أن يكون من القرآن ، لكن الخليفة زعم انّ العبارة من القرآن.
3 ـ آية الرغبة
روى البخاري أنّ عمر قال : ( إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ). (2)
4 ـ آية الجهاد
روى السيوطي أنّ عمر قال لابن عوف : ألم تجد فيما أُنزل علينا وإن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرة ؟ قال : أُسقطت فيما أُسقط من القرآن ). (3)
5 ـ آية الرضعات
روى مالك ـ في الموطأ ـ عن عائشة كانت فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثمّ نسخن ب ( خمس معلومات ) فتوفّـي رسول اللّه وهنّ فيما يقرأ من القرآن. (4)
--------------------
(1) الدر المنثور : 1 / 106.
(2) البخاري : الصحيح : 8 / 208 ـ 211 ، مسلم : الصحيح : 4 / 167 و ج 5 / 116.
(3) ـالدر المنثور : 1 / 106.
(4) تنوير الحوالك : 2 / 118 ، آخر كتاب الرضاع.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 227 _
إنّ آيتها نظير آيات الخليفة تأبى أن تكون من صميم القرآن ، ولو كان لكتب في المصاحف ، ولا وجه لإسقاطها.
روايات التحريف في كتب الحديث
وقد جمعها المحدّث النوري في كتابه ( فصل الخطاب في تحريف الكتاب ) ، والاستدلال بهذه الروايات موهون من جهات :
الأُولى : أنّها ليست متواترة ، وليست الكثرة آية التواتر إلاّ إذا اشتركت في أحد المداليل الثلاثة من المطابقة ، والتضمّن ، والالتزام ، وهذه الروايات فاقدة لهذه الجهة ، ولا تهدف إلى جهة خاصة ، فتارة ناظرة إلى بيان تنزيلها ، وأُخرى إلى بيان تأويلها ، وثالثة إلى بيان قراءتها ، ورابعة إلى تفسيرها ، وهذا هو الكثير ، فحسب البعض انّه جزء من الآية ، مثلاً قال سبحانه : ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1) رواه في ( الكافي ) أنّه قال : وإن تلووا ( الأمر ) أو تعرضوا ( عمّا أُمرتم به ).
روى علي بن إبراهيم بسند صحيح عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : وقرأت عند أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ) (2) فقال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : خير أُمّة تقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي ( عليهم السَّلام ) ؟! فقال القارئ : جعلت فداك كيف ؟ قال : نزلت ( كُنْتُمْ خَيْرَ أئمَّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ) ألا ترى مدح اللّه لهم ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ).(3)
والاستدلال دلّ على أنّ المراد ليس كلّ الأُمّة بل بعضها بشهادة قوله
--------------------
(1) النساء : 135.
(2) آل عمران : 110.
(3) آل عمران : 110.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 228 _
سبحانه : ( ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (1) وأراد الإمام تنبيه القارئ على أن لا يغتر بإطلاق الآية ، بل يتدبّر ويقف على مصاديقها الواقعية ، وانّ خير الأُمّة هم الأئمّة وهم الأُسوة ، وأولياء الدين ، والمخلصون من العلماء الأتقياء ، لا كلّ الأُمّة بشهادة أنّ كثيراً منهم ارتكبوا أعمالاً إجرامية مشهودة.
ويقرب من ذلك قوله سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) ، (2) فإنّ ظاهر الآية أنّ كلّ الأُمّة : هم الأُمّة الوسطى ، والشعب الأمثل ، مع أنّا نجد بين الأُمّة من لا تقبل شهادته على باقة بقل في الدنيا ، فكيف تقبل شهادته في الآخرة على سائر الأُمم ؟! وهذا يهدينا إلى أن نتأمل في الآية ، ونقف على أنّ الاسناد إلى الكل مجاز بعلاقة كونها راجعة إلى أصفياء الأُمّة وكامليها.
يقول الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) في هذا الشأن : ( فإن ظننت أنّ اللّه عنى بهذه الآية ، جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب اللّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة الأُمم الماضية ؟! كلا : لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه ). (3)
وأنت إذا تدبّرت كتاب ( فصل الخطاب ) الذي جمع هذه الروايات ، تقف على أنّ الأكثر فالأكثر من قبيل التفسير.
مثلاً روى العياشي عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) قال : ( نزل جبرئيل على رسول
--------------------
(1) آل عمران : 104.
(2) البقرة : 143.
(3) تفسير العياشي : 1 / 63 ويؤيد ذلك أنّه سبحانه قال في حقّ بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) ( المائدة / 20 ) مع أنّ بعضهم كانوا ملوكاً لا كلّهم.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 229 _
اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعرفات يوم الجمعة فقال له : يا محمد إنّ اللّه يقرؤك السلام ، ويقول لك : ( اَلْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ ـ بولاية علي بن أبي طالب ـ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً )(1) ، (2) فلا شكّ أنّه بيان لسبب إكمال الدين وإتمام النعمة لا أنّه جزء من القرآن.
مع أنّ قسماً كبيراً منها يرجع إلى الاختلاف في القراءة ، المنقولة إمّا من الأئمّة بالآحاد لا بالتواتر ، فلا حجية فيها أوّلاً ولا مساس لها بالتحريف ثانياً ، أو من غيرهم من القرّاء وقد أخذ قراءتهم المختلفة من مجمع البيان وهو أخذها من كتب أهل السنّة في القراءة ، وكلّها مراسيل أوّلاً ، و الاختلاف في القراءة غير التحريف ثانياً ، لما عرفت من أنّها على وجه ، غير موصولة إلى النبي ، وعلى فرض صحّة النسبة ، لا صلة لها بالقرآن.
وهناك روايات ناظرة إلى تأويلها وبيان مصاديقها الواقعية ، وهي أيضاً كثيرة ، أو ناظرة إلى بيان شأن نزولها ، إلى غير ذلك وبعد إخراج هذه الأقسام ، تبقى روايات آحاد لا تفيد العلم ولا العمل.
الثانية : أنّ أكثر هذه الروايات التي يبلغ عددها 1122حديثاً منقول من كتب ثلاثة :
1 ـ كتاب ( القراءات ) لأحمد بن محمد السياري ( المتوفّـى 286 هـ ) ، الذي اتّفق الرجاليون على فساد مذهبه.
قال الشيخ : أحمد بن محمد السياري الكاتب كان من كتاب آل طاهر ،
--------------------
(1) المائدة : 3.
(2) المصدر نفسه : 1 / 293 برقم 21.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 230 _
ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفو الرواية ، كثير المراسيل. (1)
2 ـ كتاب علي بن أحمد الكوفي ( المتوفّـى 352 هـ ) الذي نص الرجاليون بأنّه كذّاب مبطل.
قال النجاشي : رجل من أهل الكوفة كان يقول : إنّه من آل أبي طالب ، وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه وصنّف كتباً كثيرة ، أكثرها على الفساد ، ثمّ يقول : هذا الرجل ، تدّعي له الغلاة منازل عظيمة. (2)
3 ـ كتاب ( تفسير القمي ) الذي أوضحنا حاله في محلّه ، وقلنا : إنّه ليس للقمي ، بل قسم منه من إملاءاته على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن العلوي ، وقسم منه مأخوذ من تفسير أبي الجارود ، ضمه إليها تلميذه ، (3) وهو من المجاهيل ، لأنّ العباس بن محمد غير معنون في الكتب الرجالية فهو مجهول ، كما أنّ الراوي عنه في أوّل الكتاب يقول : ( حدّثني أبو الفضل بن العباس ، مجهول أيضاً ، وأسوأ حالاً منهما أبو الجارود المعروف ب ( زياد المنذر ) فهو زيدي بتري وردت الرواية في ذمّه في رجال الكشي ، (4) أفيمكن الاعتماد على روايات هذا الكتاب ؟!
وقس على ذلك ، سائر مصادره ومنابعه التي لا يعبأ ولا يعتمد عليه.
الثالثة : انّ هذه الروايات معارضة بأكثر منها وأوضح منها ، من حديث الثقلين وأخبار العرض وما عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( إذا التبست عليكم الفتن فعليكم
--------------------
(1) فهرست الشيخ : 47 برقم 70 ، رجال النجاشي : 1 / 211 برقم 190.
(2) رجال النجاشي : 2 / 96 برقم 689.
(3) لاحظ كتاب ( كليات في علم الرجال ) حول تقييم تفسير القمي.
(4) رجال الكشي : 199.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 231 _
بالقرآن فإنّه شافع مشفع ، وما حل مصدق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، و من جعله خلفه ساقه إلى النار ). (1)
وما في النهج (2) حول القرآن من كلمات بديعة لا تصدر إلاّ من سيد البشر أو وصيه ، وعند التعارض يؤخذ بالموافق لكتابه والمطابق للذكر الحكيم ، وهي الطائفة الثانية.
--------------------
(1) الكافي : 2 / 599.
(2) نهج البلاغة : الخطبة 81 و 110 و 147.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 232 _
ختامه مسك
لمّا وقع كتاب ( فصل الخطاب ) ذريعة لكل من يحاول اتّـهام الشيعة الإمامية بالتحريف ، وهم منه بُرآء براءة يوسف مما اتُّهم به ، استدعيت من فضيلة شيخنا الجليل ( محمد هادي معرفة ) (1) أمدَّ اللّه في حياته الكريمة ، أن يوضِّح لنا واقع هذا الكتاب وقيمتـه في سوق العلم ، و المصـادر التي اعتمد المؤلّف عليها ، فتفضّل بمقال قيّم ننشره على صفحـات كتابنـا مشفوعاً بالشكر والتقدير.
مع المحدّث النوري في كتابه ( فصل الخطاب )
هو : الشيخ الحسين بن محمد تقي النوري. ولد في قرية ( نور ) من ضواحي بلدة ( آمل ) في مقاطعة ( مازندران ) ، في 18 ، شوال سنة 1254 ، وهاجر إلى العراق سنة 1278 ليواصل دراسته العلمية في حوزة النجف الأشرف حتى سنة 1284 فرجع إلى إيران ، ولم يلبث أن عاد إلى العراق عام 1286 وتشرّف بزيارة بيت اللّه الحرام ، وبعد مدّة ارتحل إلى سامّراء ، حيث كان محطّ رحل زعيم الأُمّة الميرزا محمد حسن الشيرازي ، الذي توفّي سنة 1312 وبعده بمدة وفي سنة 1314 قفل محدّثنا النوري من سامراء ، ليأخذ من النجف الأشرف مقرّه الأخير ، حتى
--------------------
(1) وشيخنا العلاّمة ( معرفة ) أحد العلماء المحقّقين في علوم القرآن تشهد بذلك موسوعته ( التمهيد في علوم القرآن ) وقد خرجت منها سبعة أجزاء ، وله كتاب ( التفسير والمفسّـرون ) ، نسأله سبحانه أن يمدَّ في حياته الكريمة.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 233 _
توفّاه اللّه سنة 1320 هـ ، ق.
كان محدّثنا النوري مولَعاً بجمع الأخبار وتتبّع الآثار ، وله في ذلك مواقف مشهودة ، ومصنّفاته في هذا الشأن معروفة.
غير أنّ شغفه بذلك ، ربّما حاد به عن منهج الإتقان في النقل والتحديث ، ممّا أوجب سلبَ الثقة به أحياناً و في بعض ما يرويه ، ولا سيّما عند أهل التحقيق وأرباب النظر من فقهائنا الأعلام والعلماء العظام.
يقول عنه الإمام الخميني ( قدَّس سرَّه ) : ( وهو ـ أي الشيخ النوري ـ شخص صالح متتبّع ، إلاّ أن اشتياقه بجمع الضعاف والغرائب و العجائب ، وما لا يقبله العقل السليم والرأي المستقيم ، أكثر من الكلام النافع ... ). (1)
ويقول عنه العلاّمة البلاغي ـ شيخ العَلَمَين السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان ، و الإمام الخوئي صاحب كتاب البيان ـ : ( وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ ... ). (2)
وتساهله هذا في جمع شوارد الأخبار ، قد حطّ من قيمة تتبّعاته الواسعة واضطلاعه بمعرفة أحاديث آل البيت ( عليهم السَّلام ) والتي كان مشغوفاً بها طيلة حياته العلميّة.
وقد غرّته ظواهر بعض النقول غير المعتمدة ، المأثورة عن طرق الفريقين ، مما حسبها تعني تحريفاً في كتاب اللّه العزيز الحميد ، فكان ذلك مما أثار رغبته في جمعها وترصيفها ، غير مكترث بضعف الأسانيد ، أو نكارة المتون ، على غِرار أهل الحشو في الحديث.
--------------------
(1) راجع : تعليقته الكريمة على كفاية الأُصول ( أنوار الهداية ) ، ج 1 ، ص 245.
(2) راجع : مقدمة تفسيره آلاء الرحمن ، ص 25.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 234 _
أضف إلى ذلك زعمه : أنّه لابدّ من تنويه الكتاب بشأن الولاية صريحاً ، التي هي أهم الفرائض متغافلاً عن تصريح الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) بأنّ ذلك قد تُرك إلى تبيين الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كما في سائر الفرائض وغيره من أحاديث تنفي وجود أيّ تصريح في كتاب اللّه باسم الأئمّة ( عليهم السَّلام ) (1).
لكن محدّثنا النوري لم يُعر سمعه لأمثال هذه الأحاديث المضيئة ، التي تنزّه ساحة قدس القرآن عن شبهة احتمال التحريف ، وذهب في غياهب أوهامه ، راكضاً وراء شوارد الأخبار وغرائب الآثار ، ناشداً عن وثائق تربطه بمزعومته الكاسدة.
وقد وصف الإمام البلاغي ، مساعي المحدث النوري هذه بأنّه جَهَد في جمع الروايات وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل وفي جملة ما أورده ما لا يتيسّـر احتمال صدقه ، ومنها ما يؤول إلى التنافي والتعارض ، وإنّ قسماً وافراً منها ترجع إلى عدة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم ، إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية ، وإمّا بأنّه مضطرب الحديث والمذهب ، يعرف حديثه وينكر و يروي عن الضعفاء ، وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا يستحل أن يُروى من تفسيره حديث و احد ، وربما كان معروفاً بالوقف شديد العداوة للإمام علي بن موسى الرضا عليمها السَّلام ، و إمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً ، و إمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه و من الكذابين ، وإمّا بأنّه فاسد الرواية يُرمى بالغلوّ.
قال ( رحمه الله ) : ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدى كثرتهم شيئاً. (2)
وهكذا تشبّث محدّثنا النوري بكل حشيش ، ونسج منواله نسجَ العنكبوت.
--------------------
(1) راجع صحيحة أبي بصير ( اصول الكافي : ج 1 ، ص 286 ).
(2) مقدّمة تفسيره ( آلاء الرحمن ) ، ج 1 ، ص 26.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 235 _
أمّا كتابه الذي جمع فيه هذه الشوارد والغرائب ، وأسماه : ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب ) ، فقد وضعه على مقدّمات ثلاث ، واثني عشر فصلاً ، وخاتمة.
ذكر في المقدّمة الأُولى ، ما ورد بشأن جمع القرآن و نظمه وتأليفه ، مما يشي ـ بزعمه ـ على ورود نقص أو تغيير في نصّه الكريم.
وفي الثانية : بيّن أنحاء التغيير الممكن حصوله في المصحف الشريف.
وفي الثالثة : في سرد أقوال العلماء في ذلك ، إثباتاً أو رفضاً.
أمّا الفصول الاثنا عشر ، فقد جعلها دلائل على وقوع التحريف ، بالترتيب التالي :
1 ـ قد وقع التحريف في كتب السالفين ، فلابدّ أن يقع مثله في الإسلام ، حيث تشابه الأحداث في الغابر والحاضر.
2 ـ إنّ أساليب جمع القرآن في عهد متأخر عن حياة الرسول ، لتستدعي بطبيعة الحال أن يقع تغيير في نصّه الشريف.
3 ـ محاولة علماء السنَّة توجيه روايات التحريف لديهم ، بالإنساء أو نسخ التلاوة غير سديدة.
4 ـ مغايرة مصحف الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) مع المصحف الحاضر.
5 ـ مغايرة مصحف الصحابي عبد اللّه بن مسعود مع المصحف الراهن.
6 ـ مغايرة مصحف الصحابي أُبيّ بن كعب مع المصحف الرائج.
7 ـ تلاعب عثمان بنصوص الآيات عند جمع المصاحف وتوحيدها.
8 ـ روايات عامّيّة رواها أهل الحشو من محدثي العامّة ، ناصّة على التحريف.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 236 _
9 ـ إنّ أسامي أوصياء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كانت مذكورة في التوراة ـ على ما رواه كعب الأحبار اليهودي ـ فلابدّ أنّها كانت مذكورة في القرآن ، لمسيس الحاجة إلى ذكرها في القرآن ، أكثر مما في كتب السالفين.
10 ـ إنّ اختلاف القراءات ، خير شاهد على التلاعب بنصوص الكتاب.
11 ـ روايات خاصّة ، تدل دلالة بالعموم على وقوع التحريف.
12 ـ روايات ناصّة على مواضع التحريف في الكتاب.
أمّا الخاتمة ، فجعلها ردّاً على دلائل القائلين بصيانة القرآن من التحريف.
أمّا الرّوايات الخاصة ، والتي استند إليها لإثبات التحريف ، سواء أكانت دالّة بالعموم على وقوع التحريف ، أم ناصّة على مواضع التحريف ، فهي تربو على الألف ومائة حديث ، ( 1122 ). منها ( 61 ) رواية دالة بالعموم. و ( 1061 ) ناصة بالخصوص ، حسبما زعمه.
لكن أكثريّتها الساحقة نقلها من أُصول لا إسناد لها ولا اعتبار ، من كتب و رسائل ، إمّا مجهولة أو مبتورة أو هي موضوعة لا أساس لها رأساً.
والمنقول من هذه الكتب تربو على الثمانمائة حديث ( 815 ) وبقي الباقي ( 307 ). وكثرة من هذا العدد ، ترجع إلى اختلاف القراءات ، مما لا مساس لها بمسألة التحريف ، وهي ( 107 ) روايات ، و البقية الباقية ( 200 ) رواية ، رواها من كتب معتمدة ، وهي صالحة للتأويل إلى وجه مقبول ، أو هي غير دالة على التحريف ، وإنّما أقحمها النوري إقحاماً في أدلة التحريف.
وقد عالجنا هذه الروايات بالذات في كتابنا ( صيانة القرآن من التحريف ) فراجع.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 237 _
وقد تمّ تأليف ( فصل الخطاب ) على يد مؤلفه النوري سنة 1292 ، وطبع سنة 1298 ، و قد وَجَدَ المحدّث النوري ـ منذ نشر كتابه ـ نفسه في وحشة العزلة و في ضوضاء من نفرة العلماء والطلبة في حوزة سامراء العلمية آنذاك. وقد قامت ضدّه نعرات ، تتبعها شتائم و سبّات من نبهاء الأُمّة في جميع أرجاء البلاد الشيعيّة ، ونهض في وجهه أصحاب الأقلام من ذوي الحميّة على الإسلام ، ولا يزال في متناوش أهل الإيمان ، يسلقونه بألسنة حداد ، على ما جاء في وصف العلاّمة السيد هبة الدين الشهرستاني ، عن موضع هذا الكتاب ومؤلفه و ناشره ، يوم كان طالباً شابّاً في حوزة سامراء.
يقول في رسالة بعثها تقريظاً على رسالة ( البرهان ) التي كتبها الميرزا مهدي البروجردي بقم المقدّسة 1373 هـ.
يقول فيها : كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف ، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف. تلك العقيدة الصحيحة التي آنستُ بها منذ الصغر أيّام مكوثي في سامرّاء ، مسقط رأسي ، حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير ، فكنت أراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النوري ، بشأن تأليفه كتاب ( فصل الخطاب ) فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلاّ ونسمع الضجّة والعجّة ضدّ الكتاب و مؤلّفه وناشره ، يسلقونه بألسنة حداد ... (1)
وهكذا هبّ أرباب القلم يسارعون في الردّ عليه ونقض كتابه بأقسى كلمات وأعنف تعابير لاذعة ، لم يدعوا لبثّ آرائه ونشر عقائده مجالاً ولا قيد شعرة.
وممّن كتب في الردّ عليه من معاصريه ، الفقيه المحقّق الشيخ محمود بن أبي
--------------------
(1) البرهان ، ص 143 ـ 144.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 238 ـ
القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني ( المتوفّـى 1313 هـ ) في رسالة قيّمة أسماها ( كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب ) فرغ منها في ( 17ج 2 ـ 1302 هـ ) تقرب من أربعة آلاف بيت في 300 صفحة ، وفيها من الاستدلالات المتينة والبراهين القاطعة ، ما ألجأ الشيخ النوري إلى التراجع عن رأيه بعض الشيء ، وتأثّر كثيراً بهذا الكتاب.
وأيضاً كتب في الردّ عليه معاصره العلاّمة السيد محمد حسين الشهرستاني ( المتوفّـى 1315 هـ ) في رسالة أسماها ( حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف ) ، و قد أحسن الكلام في الدلالة على صيانة القرآن عن التحريف و ردّ شبهات المخالف ببيان واف شاف. والرسالة في واقعها ردّ على فصل الخطاب ، ولكن في أُسلوب ظريف بعيد عن التعسّف و التحمّس المقيت. (1)
وهكذا كتب في الردّ عليه كلّ من كتب في شؤون القرآن أو في التفسير ، كالحجّة البلاغي ( المتوفّـى 1352 هـ ) في مقدّمة تفسيره ( آلاء الرحمن ) قال تشنيعاً عليه : وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ وإنّه ليعدّ هذا المنقول من ( دبستان المذاهب ) ضالّته المنشودة ، مع اعترافه بأنّه لم يجد لهذا المنقول أثراً في كتب الشيعة. (2)
5 ـ النسخ في القرآن الكريم
النسخ في اللغة : إبطال شيء وإقامة آخر مقامه ، وفي التنزيل ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْر مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (1) والآية الثانية ناسخة والأُولى منسوخة. (2)
وفي الاصطلاح : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكاد سائداً. (3)
والفرق بين النسخ والتخصيص هو انّ الأوّل تخصيص في الأزمان ، أي مانع من استمرار الحكم بعد النسخ لا عن ثبوته قبله ، بخلاف التخصيص ، فانّه مانع عن شمول الحكم لبعض الأفراد من أوّل الأمر.
ولذلك يشترط في التخصيص وروده قبل حضور العمل بالحكم ، بخلاف النسخ فيشترط فيه وروده بعد حضور العمل به فترة قصيرة أو طويلة.
وإليك توضيحه ضمن مثالين : قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون * أَيّاماً مَعْدُودات فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى
--------------------
(1) البقرة : 106.
(2) لسان العرب : 14 ، مادة نسخ.
(3) القوانين : 2 / 91.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 240 _
سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَر وَعَلَى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فديةٌ طَعامُ مِسْكِين ).(1)
فالآية الأُولى تفرض على المؤمنين عامّة ، صيام الشهر ، سواء أكان سليماً أم سقيماً ، حاضراً أم مسافراً ، مطيقاً أم غير مطيق ، غير انّه سبحانه في الآية الثانية يخرج أصنافاً ثلاثة من تحت الحكم ، أعني : المريض والمسافر والمطيق ، ويفرض عليهم أحكاماً خاصة.
وأمّا النسخ فقد عرفت أنّه تخصيص في الأزمان ومانع من استمرار الحكم ، يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ).(2)
فرض اللّه سبحانه على المؤمنين إذا حاولوا أن يناجوا الرسول أن يقدِّموا قبل المناجاة صدقة ، فلمّا نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا ، ضَنّ كثير من الناس من تقديم الصدقة ، فكفّوا عن المسألة فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ، ثمّ نسخت الآية بما بعدها : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقات فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ )(3) ، أي لما بخلتم وخفتم الفاقة بالصدقة بين يدي نجواكم ، تاب اللّه على تقصيركم فيه.
هذا هو النسخ وذلك هو التخصيص.
وبذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ ورود الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ومرور فترة من تشريع الحكم.
وأمّا التخصيص ، فهو إخراج فرد أو عنوان عن كونه محكوماً بحكم العام فيشترط وروده ، قبل حضور وقت العمل بالعام ، لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت
الحاجة ، فهو تخصيص في الأفراد ، مقابل النسخ الذي هو تخصيص في الأزمان.
إذا عرفت ذلك فلنبحث في أُمور :
الأوّل : في إمكان النسخ
اختلفت كلمة المليّين في إمكان النسخ وامتناعه ، فالمسلمون عامّة على إمكانه ووقوعه ، وأدلّ دليل على إمكانه وقوعه في الشريعة الإسلامية الغرّاء ، وحكي عن اليهود امتناعه ، واستدلّوا عليه بوجوه نذكر أهمها :
الأوّل : لو جاز النسخ يلزم صيرورة الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، لأنّ الأمر به آية الحسن ورفعه آية القبح.
يلاحظ عليه : بأنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، فانّ لازم ما ذكر امتناع تطرّق النسخ إلى الحسن والقبيح بالذات ، كحسن العدل وقبح الظلم ، أو حسن الوفاء بالعهد وقبح نقضه ، وأمّا الأُمور التي ليست في حدّ ذاتها حسنة أو قبيحة وإنّما تختلف بالوجوه والاعتبارات فلا مانع من تطرّق النسخ إليها ، مثلاً :
كانت المصلحة مقتضية لئن تعتد المرأة المتوفّى عنها زوجها حولاً كاملاً ويُنفق عليها من مال زوجها ما لم تخرج من البيت كما كان عليه العرب قبل الإسلام ، وقد أمضاه القرآن الكريم في آية مباركة ، لما قال : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيّةً لأزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْراج ).(1)
فانّ تعريف الحول باللام إشارة إلى الحَوْل الرائج بين العرب قبل الإسلام.
قال المحقّق القمي : الآية دالّة على وجوب الإنفاق عليها في حول وهو عدّتها ما لم تخرج ، فإن خرجت فتنقضي عدّتها ولا شيء لها. (2)
ولكن نسخت الآية بقوله : ( وَالّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزواج يَتَربَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَربَعةَ أَشْهُر وَعَشْراً ).(1)
الثاني : انّ شريعة الكليم مؤبّدة مادامت السماوات والأرض ، بشهادة قوله : ( تمسّكوا بالسبت أبداً ).
يلاحظ عليه : أنّ ما ادّعوه من التأبيد معارض بنبوة المسيح أوّلاً حيث قال : ( وَمُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوراةِ وَلاُِحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بآيَة مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُون )(2) ، وعلى ضوء هذا فالتأبيد على فرض صدوره من الكليم محمول على طول الزمان.
الثالث : انّ النسخ في التشريع كالبداء في التكوين مستحيل بشأنه تعالى ، لأنّهما عبارة عن نشأة رأي جديد ، وعثور على مصلحة كانت خافية في بدء الأمر ، والحال انّ علمه تعالى أزليّ ، لا يتبدّل له رأي ولا يتجدّد له علم. فلا يعقل وقوفه تعالى على خطأ في تشريع قديم لينسخه بتشريع جديد.
يلاحظ عليه : أنّ النسخ في الأحكام العرفية يلازم البداء غالباً ، أي ظهور ما خفي لهم من المصالح والمفاسد ، بخلاف النسخ في الأحكام الشرعية فإنّ علمه سبحانه محيط لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهو سبحانه يعلم أمد الحكم وغايته ، غير أنّ المصلحة تستدعي إظهار الحكم بلا غاية ، ولكنّه في الواقع مغيّى ، فالنسخ في الأحكام العرفية رفع للحكم ، ولكنّه في الأحكام الإلهية دفع له وبيان للأمد الذي كان مغيّى منذ تشريعه ولا مانع من إظهار الحكم غير مغيّى وهو في الواقع محدّد ، بعد وجود قرينة عامة في التشريع من عدم لزوم كون كلّ حكم مستمراً باقياً.
إلى هنا تمّ بعض الشبهات حول النسخ. وبقيت هناك شبهات أُخرى ساقطة جدّاً لا جدوى للتعرّض لها.
الثاني : جواز النسخ قبل حضور وقت العمل
هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل أو لا ؟
والمراد من الحكم هو ما يعبر عن تعلّق الإرادة الجدية بالشيء وكان الغرض من إنشائه هو بلوغه مرتبة التنجّز ، ومن المعلوم أنّ نسخ مثل هذا الحكم غير جائز ، فإذا فرضنا وحدة متعلّق الناسخ والمنسوخ ووحدة زمان امتثالهما ، فكيف يمكن أن يكون شيء واحد في زمان واحد متعلّقاً للأمر ورفعه ؟! فانّ تعلّق الأمر يكشف عن وجود المصلحة ، ورفعه يكشف عن فقدانه المصلحة الملزمة ، فلو كان الحكمان صادقين يلزم التناقض وإلاّ استلزم جهل المشرِّع بوضع الفعل ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وبذلك ظهر عدم صحّة النسخ قبل حضور وقت العمل.
وبما ذكرنا من أنّ محط البحث عبارة عمّا إذا تعلّقت الإرادة الجدية بتطبيق العمل على الحكم ، ظهر خروج موردين عن محط البحث.
1 ـ إذا كانت المصلحة قائمة بنفس الإنشاء فقط ، كما إذا أمر الأمير أحد حواشيه بشيء معلناً بذلك أنّ المأمور بعدُ مطيع غير متمرّد ، وإذا قام بالعمل يرفع عنه التكليف بنحو لا يفوت الغرض من إنشاء الأمر.
2 ـ الأوامر الاختبارية : والمقصود منها هي الأوامر الشرعية التي تصدر لإخراج كمال بالقوة للعبد إلى حيّز الفعل ، وهو المراد من اختباره سبحانه خليله إبراهيم لمّا أمره بذبح ولده إسماعيل ، بغية إظهار الخليل ما في مكنونه من الكمال
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 244 _
إلى الظهور دون أن تكون الغاية هي العلم بعاقبة الأمر ، فانّه سبحانه يحيط علمه كلّ شيء ، يعلم عواقب الأُمور وأوائلها.
وإلى ما ذكرنا يشير الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) حيث قال في تفسير قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة ) (1) قال : ( ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ، ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحقّ الثواب والعقاب ). (2)
وأمّا خروج هذا القسم عن محطّ البحث ، فلما عرفت من أنّ النزاع فيما إذا تعلّقت الإرادة الجدية بنفس الفعل دون مقدّماته وهي في الأوامر الاختبارية تعلّقت بها دونه.
ولأجل ذلك لمّا حصلت الغاية بتوطين النفس على ذبح إسماعيل بإلقائه على المذبح ، وافاه النداء ( قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزي المُحْسِنين * إِنّ هذا لَهُوَ البَلاءُ المُبين ).(3)
الثالث : الفرق بين النسخ والبداء
إنّ النسخ في التشريع كالبداء في التكوين ، فهما صنوان على أصل واحد ، وقد عرفت واقع النسخ ، وإليك كلمة موجزة عن واقع البداء ، فنقول :
إنّ البداء يبحث فيه تارة في مقام الثبوت ، وأُخرى في مقام الإثبات.
أمّا الأوّل ، فهو عبارة عن تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ، وحقيقته ترجع إلى أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والتدبير ، بل هو قائم بها دائماً
--------------------
(1) الأنفال : 28.
(2) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، رقم 93.
(3) الصافّات : 105 ـ 106.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 245 _
وكلّ يوم هو في شأن ، ومن شُعَبِ ذلك الأمر هو انّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما ، وينزل الرحمة والبركة كما ينزل البلاء والنقمة ، لا جزافاًً واعتباطاً ، بل حسب ما يقتضيه حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها ، فربما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء ثمّ يُمحى فيكتب في السعداء ، أو على العكس ، وما هذا إلاّ لما يقوم به من أعمال جديدة وإليه يشير اللّه سبحانه : ( يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتاب )(1) ، فاللّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين فيحيي ويميت ، كذلك يمحو مصير العبد ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه فعله وعمله ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ).(2)
هذا هو البداء في مقام الثبوت ، وأمّا البداء في مقام الإثبات ، فربما يتصل النبي بلوح المحو والإثبات فيقف على المقتضي من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شيء ولكن ربما لا يتحقّق ، لأجل عدم تحقّق شرطه أو تحقّق مانعه ، وذلك هو البداء في عالم الإثبات.
وفي القرآن الكريم تلميحات للبداء بهذا المعنى ، نذكر منها مورداً واحداً.
أنذر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا سوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيّام. (3)
وما كان قوله تخرّصاً أو تخويفاً ، بل كان يخبر عن حقيقة يعلم بها ، إلاّ أنّ هذا الأمر لم يقع ، وما ذلك إلاّ لأنّه وقف على المقتضي ولم يقف على المانع ، وهو انّ القوم سيتوبون قبل رؤية العذاب توبة صادقة يعلمها اللّه تعالى لا خوفاً من العذاب فيرفع عنهم العذاب الذي وُعدوا به ، كما يشير إليه قوله سبحانه : ( فَلَولا
كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قومَ يُونس لَمّا آمنوا كَشَفْنا عَنْهُْمْ عَذاب الخِزي فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حين ). (1)
ثمّ إنّ عدم اطّلاع يونس على واقع الأمر لا يلازم عدم علمه سبحانه به ، بل هو كان يعلم أنّ ما أخبر به يونس لا يقع إمّا لفقدان الشرط أو لوجود المانع ، ولكن علمه سبحانه بالواقع لا يمنع عن إخبار يونس بما وقف عليه.
وبذلك يظهر انّ البداء من اللّه تعالى إبداء لما خفي على عبده وإن كان بالنسبة إلى نبيّه ظهوراً لما خفي عليه ، فالنبي المخبر بوقوع العذاب ظهر ما خفي عليه ولكن سبحانه أبدى ما خفي على نبيه وسائر الناس ، فنسبة البداء إلى اللّه تعالى من باب المشاكلة لا من باب الحقيقة ، قال سبحانه : ( نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنافِقينَ هُمُ الفاسِقُون ). (2)
ومن الواضح امتناع تطرّق النسيان إلى ذاته وإنّما عبر عن جزائهم بأعمالهم بالنسيان لأجل المشاكلة. فكان النسيان من جانب المنافقين حقيقياً و من جانبه سبحانه من باب المشاكلة.
ثمّ إنّ كثيراً من أهل السنّة حكموا بامتناع البداء ظناً منهم بأنّ المراد هو ظهور ما خفي على اللّه سبحانه ، فطعنوا بالشيعة غافلين عن حقيقة البداء عند الشيعة ، ولو انّهم وقفوا على معتقد الشيعة في هذا المجال لوقفوا على أنّ البداء من المعارف الإلهية التي أصفق عليها علماء الإسلام ، وانّ البداء الممتنع ممتنع عند الجميع والجائز جائز عندهم ، ومن حاول أن يقف على الروايات المفسرة للبداء بالمعنى الصحيح فليرجع إلى الدر المنثور : 4 / 660 في تفسير قوله سبحانه : ( يَمْحوا اللّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب ).(3)
الرابع : في أقسام النسخ
قد قسّم المختصون بعلوم القرآن النسخ إلى أقسام ثلاثة :
1 ـ نسخ الحكم دون التلاوة.
2 ـ نسخ التلاوة دون الحكم.
3 ـ نسخ الحكم والتلاوة.
وإليك دراسة جميع الأقسام :
1 ـ نسخ الحكم دون التلاوة
انّ القدر المتيقّن من النسخ هو ذاك القسم ، وقد أصفق على جوازه علماء الإسلام ، والمراد منه بقاء الآية ثابتة في الكتاب مقروءة عبْر العصور سوى انّ مضمونها قد نسخ ، فلا يجوز العمل به بعد مجيء الناسخ.
وقد اهتمّ المفسّرون بهذا النوع من النسخ وألّفوا حوله كتباً كثيرة يقف عليها من سبر المعاجم. و ألّف غير واحد من أصحابنا في هذا المضمار بما يبلغ عشرين كتاباً ، وقد ذكرنا فهرس تآليفهم في ذلك المضمار في كتابنا ( مفاهيم القرآن ). (1)
وأمّا عدد الآيات التي ورد عليها النسخ فهناك قولان بين الإفراط والتفريط.
فأنهاها أبو جعفر النحاس ( المتوفّى عام 338 هـ ) إلى 180 آية في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) المطبوع ، كما قام بعضهم بإنكار أصل النسخ في القرآن الكريم فبحث عن 36 آية ، وخرج بحصيلة هي إنكار النسخ في القرآن الكريم.
والحقّ هو القول الوسط ، وهو وجود النسخ في القرآن الكريم بمقدار
--------------------
(1) لاحظ مفاهيم القرآن : 10 / 365 ـ 368.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 248 _
ضئيل للغاية ، منها آية النجوى ، وآية التربّص إلى الحول.
والنوع المعروف من هذا القسم هو نسخ آية بآية أُخرى ، وأمّا نسخ آية بخبر متواتر أو مستفيض أو خبر الواحد ، فقد اختلفت فيه كلمة المفسرين ، والحقّ جواز نسخ القرآن بدليل قطعي لا يتطرّق إليه الشك ، وهو الخبر المتواتر في كلّ قرن وعصر ، وأمّا المستفيض وخبر الواحد فلا ينسخ بها القرآن ، لأنّ رفع اليد عن القطعي بدليل غير قطعي أمر غير معقول.
هذا كلّه حول القسم الأوّل ، وإليك دراسة سائر الأقسام.
2 ـ نسخ التلاوة دون الحكم
والمراد منه هو سقوط آية من القرآن الكريم كانت تقرأ وكانت ذات حكم تشريعي ثمّ نسيت ومحيت عن صفحة الوجود وبقي حكمها مستمراً غير منسوخ.
وقد ذهب إلى جواز هذا القسم فريق من أهل السنّة.
قال الزرقاني : أمّا نسخ التلاوة دون الحكم ، فيدلّ على وقوعه ما صحت رواية عن عمر بن الخطاب وأُبي بن كعب ، انّهما قالا : وكان فيما أنزل من القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة. (1)
ثمّ يقول : وأنت تعلم أنّ هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفّتي المصحف ولا على ألسنة القرّاء مع أنّ حكمها باق على أحكامه لم ينسخ.
ويدلّ على وقوعه أيضاً ما صحّ عن أبي موسى الأشعري انّهم كانوا يقرأون سورة على عهد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في طول سورة البراءة ، وانّها نسيت إلاّ آية منها
--------------------
(1) رواه أبو داود في الحدود : 16 ، وابن ماجة في الحدود : 9 ومالك في الحدود : 10 وأحمد بن حنبل في مسنده : 5 / 183.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 249 _
وهي : ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ويتوب اللّه على من تاب ). (1)
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من الروايات أخبار آحاد لا يثبت به كون الآية قرآنية باقية حكمها منسوخة تلاوتها.
مضافاً إلى أنّ ما ذكره من وجود سورة على عهد رسول اللّه بطول سورة براءة من قبيل القسم الثالث ، أي نسخ الحكم والتلاوة ، لا الثاني ، ولا أقل من احتمال كونه منه إذ ليس بأيدينا شيء حتّى يحكم عليه بشيء من القسمين وانّها هل بقيت أحكامها أو لا ، ولعلّها من قبيل ما نسخت أحكامها وتلاوتها معاً.
قال الإمام الخوئي : أجمع المسلمون على أنّ النسخ لا يثبت بخبر الواحد ، كما أنّ القرآن لا يثبت به. وذلك لأنّ الأُمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس وانتشار الخبر عنها ، لا تثبت بخبر الواحد ، فانّ اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطائه.
وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد انّ آية الرجم من القرآن و انّها نسخت ؟! نعم جاء عمر بآية الرجم وادّعى انّها من القرآن ، لكنّ المسلمين لم يقبلوا منه ، لأنّ نقلها كان منحصراً به ، فلم يثبتوها في المصاحف ، لكن المتأخّرين التزموا بأنّها كانت آية منسوخة التلاوة باقية الحكم. (2)
والعجب انّ الشيخ الزرقاني يستدلّ على جوازه بالوقوع ويقول : ( لأنّ الوقوع أعظم دليل على الجواز ) وما أتفه هذا الدليل ، فانّ مجرد ذكره في كتب الحديث هل يعد دليلاً على الوقوع ؟!
وثانياً : أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه ، متّحد بفصاحته وبلاغته ، وقد
--------------------
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن : 2 / 233.
(2) البيان : 285.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 250 _
أدهشت فصاحة ألفاظه وجمال عباراته ، وبلاغة معانيه وسموها ، وروعة نظمه وتأليفه وبداعة أُسلوبه عقول البلغاء.
وما زعم من الآيات التي بقي حكمها ليست إلاّ عبارات لا تداني آيات القرآن في الفصاحة والبلاغة ، والروعة والجمال ، وقد نسج قوله الشيخ والشيخة على منوال قوله سبحانه : ( الزّانيةُ وَالزّاني فاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنهُما مِائةَ جَلْدة ولا تأْخُذُكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللّه ).(1)
وأمّا الآية المزعومة الثانية فأين أُسلوبها من اسلوب القرآن الخلاّب للعقول ؟! وإنّما هي عبارة متداولة على ألسنة الناس.
وثالثاً : أنّ هذا القول هو نفس القول بالتحريف ، ومن اخترع هذا المصطلح فقد حاول أن يبرر هذا النوع من التحريف.
ومن العجب انّ القوم يجوزون هذا النوع من النسخ الذي هو عبارة عن نوع من التحريف ثمّ يتهمون الشيعة بالتحريف مع أنّ ما ينسب إلى الشيعة من الآيات المزورة فالجميع من هذا القبيل.
ما هكذا تورد يا سعد الابل.
3 ـ نسخ الحكم والتلاوة
قد جوّزه جماعة من أهل السنّة ، ومثّلوا له بالرواية التالية :
روى عمرة ، عن عائشة انّها قالت :
كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثمّ نسخن بخمس معلومات ، فتوفّي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهن فيما يقرأ من القرآن. (2)
--------------------
(1) النور : 2.
(2) صحيح مسلم : 4 / 167.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 251 _
قال الزرقاني : أمّا نسخ الحكم والتلاوة جميعاً ، فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين ، ويدلّ على وقوعه سمعاً ما ورد عن عائشة أنّها قالت :
( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثمّ نسخن بخمس معلومات ، وتوفّي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهن فيما يقرأ من القرآن ).
وهو حديث صحيح وإذا كان موقوفاً على عائشة فانّ له حكم المرفوع ، لأنّ مثله لا يقال بالرأي ، بل لابدّ فيه من توقيف.
وأنت خبير بأنّ جملة ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ليس لها وجود في المصحف حتى تتلى ، وليس العمل بما تفيده من الحكم باقياً ، وإذن يثبت وقوع نسخ التلاوة والحكم جميعاً ، وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه ، لأنّ الوقوع أدلّ دليل على الجواز ، وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعاً ، كأبي مسلم وأضرابه. (1)
أقول : وقد أفتى بمضمونها الشافعي حسب ما رواه السرخسي في أُصوله ، فنقل عنه أنّه استدلّ بما هو قريب من هذا في عدد الرضاعات ، وكذلك أفتى بمضمونها ابن حزم في محلاّه. (2)
وكفانا في الردّ على ذلك ما ذكره السرخسي في أُصوله وقال : والدليل على بطلان هذا القول ، قوله تعالى : ( إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون )، ومعلوم أنّه ليس المراد الحفظ لديه تعالى ، فانّه يتعالى من أن يوصف بالغفلة أو النسيان فعرفنا أنّ المراد الحفظ لدينا ، وقد ثبت أنّه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولو جوّزنا هذا في بعض ما أوحي إليه ، لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه ، فيؤدّي ذلك إلى القول بأن لا يبقى شيء ممّا ثبت بالوحي بين الناس
في حال بقاء التكليف ، وأيّ قول أقبح من هذا ؟! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما بأيدينا اليوم أو كلّه مخالفاً لشريعة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بأن نسخ اللّه ذلك بعده ، وألف بين قلوب الناس على أن ألهمهم ما هو خلاف شريعته ، فلصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر اللّه تعالى أنّه هو الحافظ لما أنزله على رسوله ، وبه يتبيّن انّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته ، وما ينقل من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصحّ شيء منها.
قال : وحديث عائشة لا يكاد يصحّ ، لأنّه ( أي الراوي ) قال في ذلك الحديث : وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فدخل داجن البيت فأكله ، ومعلوم أنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أُخرى ، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث. (1)
ومما يندى له الجبين ما تضافر نقله عن عائشة انّها قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول اللّه مائتي آية ، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها إلاّ على ما هي الآن.
قال أبو بكر : فمعنى هذا من قول أُمّ المؤمنين عائشة انّ اللّه تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا. (2)
ونقل القرطبي أيضاً انّ هذه السورة ( الأحزاب ) كانت تعدل سورة البقرة.
ولعمر الحقّ انّ هذا نفس القول بالتحريف الذي اجمعت الأُمّة على بطلانه وأخذ اللّه على نفسه أن يحفظه وقال : ( إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون )(3)
--------------------
(1) أُصول السرخسي : 2 / 78 ـ 80.
(2) الجامع لأحكام القرآن : 14 / 113 ، تفسير سورة الأحزاب.
(3) الحجر : 9.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 253 _
وتفسير هذا النوع من التحريف بنسخ التلاوة والحكم تلاعب بالألفاظ وتعبير آخر للتحريف ، وقد عرفت أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه ، فما معنى رفع هذا الحجم الهائل من الآيات القرآنية ؟ أكان هناك نقص في لفظه ومنطوقه أو نقص في حكمه ومعناه ؟! نعوذ باللّه من التفوّه بذلك.
ثمّ إنّ هذا النوع من النسخ باطل عند علماء الشيعة الإمامية وما ربما يرمى به الشيخ الطوسي من أنّه قال بنسخ التلاوة والحكم فهو افتراء عليه ، وإنّما ذكره عن جانب القائلين به حيث قال : والثالث ما نسخ لفظه وحكمه ، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة انّه كان فيما أنزل اللّه عشر رضعات (1) ، فمن قال بهذا النوع من النسخ فقد غفل عمّا يترتب عليه من المضاعفات.
ولنعم ما قال الشيخ المظفر : إنّ نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلى القول بالتحريف. (2)
تمّ الكلام في النسخ وبه تمت الرسالة في يوم الجمعة الموافق 24 صفر المظفر من شهور عام 1422 هـ
جعفر السبحاني
قم ، مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السَّلام )