4 ـ أبو عمرو البصري : هو زبان بن العلاء بن عمار المازني البصري ، ولد عام 68 هـ ، وتوفّي 154 ،
(1) تنتهي قراءته إلى أُبي ،
(2) وله راويان هما : الدوري والسوسي.
5 ـ حمزة الكوفي : ابن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي التميمي ، ولد عام 8 هـ ، توفّـي عام 56 هـ
(3) ، وتنتهي قراءته إلى علي وابن مسعود ،
(4) وله راويان هما : خلف بن هشام و خلاد بن خالد.
6 ـ نافع المدني : هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، قال ابن الجزري : أحد القُرّاء السبعة والأعلام ، ثقة صالح ، أصله من إصفهان ، توفّي عام 169 ،
(5) تنتهي قراءته إلى أُبي ،
(6) وله راويان هما : قالون وورش.
7 ـ الكسائي الكوفي : علي بن حمزة بن عبد اللّه الأسدي ، مولاهم ، من أولاد الفرس.
قال ابن الجزري : الإمام الذي انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيّات. توفّي سنة 189 هـ
(7) ، تنتهي قراءته إلى علي و ابن مسعود ،
(8) وله راويان هما : الليث بن خالد و حفص بن عمرو.
هؤلاء هم القرّاء السبعة ، ويليهم ثلاثة غير معروفين وهم :
8 ـ خلف بن هشام البزار : هو خلف بن هشام البزار ، وهو أبو محمد الأسدي البغدادي أحد القُرّاء العشرة ، كان يأخذ بمذهب حمزة إلاّ أنّه خالفه في مائة وعشرين حرفاً ، ولد سنة 150 هـ ، وتوفّي عام 229 هـ ،
(9) وله راويان هما :
--------------------
(1) طبقات القرّاء : 1 / 288.
(2) البرهان في علوم القرآن : 1 / 338.
(3) طبقات القرّاء : 1 / 261.
(4) البرهان في علوم القرآن : 1 / 238.
(5) طبقات القرّاء : 2 / 330.
(6) البرهان في علوم القرآن : 1 / 338.
(7) طبقات القرّاء : 1 / 535.
(8) البرهان في علوم القرآن : 1 / 338.
(9) طبقات القرّاء : 1 / 272.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 186 _
إسحاق وإدريس.
9 ـ يعقوب بن إسحاق : هو يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي ، مولاهم ، البصري.
قال ابن الجزري : أحد القرّاء العشرة ، مات في ذي الحجة سنة 205 هـ وله ثمان وثمانون سنة ، (1) وليعقوب راويان هما : رويس و روح.
10 ـ يزيد بن القعقاع : أبو جعفر المخزومي المدني ، قال ابن الجزري : أحد القرّاء العشرة ، مات بالمدينة عام 130 هـ ، (2) وله راويان هما : عيسى و ابن جماز.
هؤلاء هم القرّاء العشرة ، ذكرنا أسماءهم ومواليدهم ووفياتهم وأسماء الراوين عنهم على وجه موجز ، و من أراد التفصيل فليرجع إلى طبقات القرّاء.
وأمّا الكلام في تواتر قراءتهم ، فإجمال الكلام فيه :
إنّه ادّعى جمع من علماء السنّة تواترها عن النبي ، وانّ هذه القراءات الكثيرة كلّها ممّا صدرت عن النبي وقرأ بها.
ونقل الزرقاني في كتاب ( مناهل العرفان ) عن السبكي تواتر القراءات العشر ، وأضاف : إنّه أفرط بعضهم فزعم انّ من قال : إنّ القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله : كفر ، ونسب هذا الرأي إلى مفتي البلاد الأندلسية أبي سعيد فرج بن لب. (3)
أمّا إثبات تواترها عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فدون إثباته خرط القتاد ، فإنّ من طالع حياة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في الفترة المكية يقف على أنّ الظروف الحرجة في مكة لم تكن تسمح
--------------------
(1) طبقات القرّاء : 2 / 38.
(2) طبقات القرّاء : 2 / 382.
(3) مناهل العرفان : 428 ـ 433.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 187 _
له بتلاوة القرآن ونشره بين المسلمين ، فضلاًعن تعليم القراءات السبع لأخص أصحابه.
وأمّا الفترة المدنية ، فقد انشغل فيها النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالأُمور المهمة للغاية من غزواته وحروبه ، إلى بعث سرايا ، إلى عقد العهود والمواثيق مع رؤساء القبائل ، إلى تعليم الأحكام وتلاوة القرآن ، ومحاجّة أهل الكتاب والمنافقين وردّ كيدهم إلى نحورهم ، إلى العديد من الأُمور المهمّة التي تعوق النبي عن التفرّغ إلى بيان القراءات السبع أو العشر التي لو جمعت لعادت بكتاب ضخم.
وأمّا تواترها عن نفس القرّاء ، فقد مرّ انّ كلّ قارئ له راويان ، فكيف تكون قراءاتهم بالنسبة إلينا متواترة ؟!
والحقّ أن يقال : إنّ القرآن متواتر بهذه القراءة المعروفة الموجودة بين أيدينا التي يمارسها المسلمون عبر القرون ، وأمّا القراءات العشر أو السبع فليست بمتواترة لا عن النبي ولا عن القرّاء.
وأظهر دليل على عدم تواترها عن النبي هو انّ أصحاب القراءات السبع أو العشر يحتجون على قراءاتهم بوجوه أدبية ، فلو كانت القراءة متصلة بالنبي فما معنى إقامة الدليل على صحّة القراءة ؟ فلاحظ أنت كتب التفسير وأخص بالذكر ( مجمع البيان ) فقد ذكر لاختلاف القراءات حججها عنهم أو عن غيرهم ، وهذا يدل على أنّ القراءات كانت اجتهادات من جانب هؤلاء.
وقد ألّف غير واحد في توجيه القراءات وذكر عللها وحججها كتباً ، منها : ( الحجة ) لأبي علي الفارسي ، و ( المحتسب ) لابن جنّي ، و ( إملاء ما منّ به الرحمن ) لأبي البقاء ، و ( الكشف عن وجوه القراءات السبع ) لمكي بن طالب.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 188 _
نظرية أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) في القراءات السبع
وفي الختام نذكر ما رواه الفضيل بن يسار ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) حيث سأله عن اختلاف القراءات ؟ وقال : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف.
فقال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : ( كذبوا ـ أعداء اللّه ـ ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد ).
وروى عن (1) زرارة بسند صحيح عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) أنّه قال : ( إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة ). (2)
وما ذكره الإمام ( عليه السَّلام ) من أنّ الاختلاف جاء من قِبَلِ الرواة ، يعلم من دراسة أسباب نشوء اختلاف القراءات عبر السنين ، وهذا ما نذكره تالياً.
عوامل نشوء الاختلاف في القراءات (3)
عمد جماعة من كبار الصحابة بعد وفاة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى جمع القرآن في مصاحفهم الخاصة ، كعبد اللّه بن مسعود ، وأُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، والمقداد بن أسود وأضرابهم ، وهؤلاء قد اختلفوا في ثبت النص أو في كيفية قراءته ، ومن ثمّ اختلفت مصاحف الصحابة الأُولى ، وكان كلّ قطر من أقطار البلاد الإسلامية يقرأ حسب المصحف الذي جمعه الصحابي النازل عندهم.
كان أهل الكوفة يقرأون على قراءة ابن مسعود ، وأهل البصرة على قراءة أبي
--------------------
(1) الكافي : 2 ، كتاب نقل القرآن ، باب النوادر ، الحديث 13 و 12.
(2) الكافي : 2 ، كتاب نقل القرآن ، باب النوادر ، الحديث 13 و 12.
(3) صدرنا في هذا البحث عن كتاب ( التمهيد في علوم القرآن ) تأليف العلاّمة المحقّق محمد هادي معرفة ، و قد أغرق نزعاً في التحقيق ، فلم يبق في القوس منزعاً ( حيّاه اللّه وبيّاه ).
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 189 _
موسى الأشعري ، وأهل الشام على قراءة أُبي بن كعب ، وهكذا.
واستمر الحال إلى عهد عثمان حتى تفاقم أمر الاختلاف ، ففزع لذلك ثلّة من نُبهاء الأُمّة ـ أمثال الحذيفة بن اليمان ـ وأشاروا إلى عثمان أن يقوم بتوحيد المصاحف قبل أن يذهب كتاب اللّه عرضة الاختلاف.
ومن ثمّ أمر عثمان جماعة بنسخ مصاحف موحّدة ، وإرسالها إلى الأمصار وإلجاء المسلمين على قراءتها ونبذ ما سواها من مصاحف وقراءات أُخرى.
وقد بعث عثمان مع كلّ مصحف من يقرِّئ الناس على الثبت الموحد في تلك المصاحف ، فبعث مع مصحف المكي عبد اللّه بن سائب ، ومع الشامي المغيرة بن شهاب ، ومع الكوفي أبو عبد الرحمن السلمي ، ومع البصري عامر بن قيس ، وهكذا. (1)
وكان هؤلاء المبعوثون يُقرّئون الناس في كلّ قطر على حسب المصحف المرسل إليهم ، ولكن لم تحسن الغاية المتوخاة من إرسال تلك المصاحف ، لوجود اختلاف في ثبت تلكم المصاحف ، مضافاً إلى عوامل أُخرى ساعدت على هذا الاختلاف ، فكان أهل كلّ قطر يلتزمون بما في مصحفهم من ثبت ، ومن هنا نشأ اختلاف قراءة الأمصار ، مضافاً إلى اختلاف القرّاء الذي كان قبل ذاك ، فصار هناك عاملان لنشوء اختلاف القراءات :
1 ـ اختلاف القُرّاء ( الذين كانوا في الأمصار قبل وصول المصاحف ).
2 ـ وجود الاختلاف في نفس تلك المصاحف الموحّدة حسب الظاهر.
فكان الاختلاف ينسب تارة إلى اختلاف القرّاء ، وأُخرى إلى اختلاف الأمصار التي بعث إليها المصاحف.
--------------------
(1) تهذيب الأسماء للنووي : 1 / 257.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 190 _
قال ابن أبي هاشم : إنّ السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها انّ الجهات التي وُجِّهتْ إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة ، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل ، فثبّت أهل كلّ ناحية على ما كانوا تلقّوه سماعاً عن الصحابة بشرط موافقة الخط ، وتركوا ما يخالف الخط ... فمن ثمّ نشأ الاختلاف بين قرّاء الأمصار. (1)
كلّ ذلك صار سبب لاختلاف القراءات التي ليس لها منشأ سوى نفس القرّاء أو المصاحف الموحدة.
مضافاً إلى عوامل أُخرى ساعدت على هذا الاختلاف ، نذكر منها ما يلي :
1 ـ بداءة الخط
كان الخط عند العرب آنذاك في مرحلة بدائية ، ومن ثمّ لم تستحكم أُصوله ، ولم تتعرف العرب على فنونه والإتقان من رسمه وكتابته الصحيحة ، وكثيراً ما كانت الكلمة تكتب على غير قياس النطق بها ، ولا زال بقي شيء من ذلك في رسم الخط الراهن.
كانوا يكتبون الكلمة ، وفيها تشابه واحتمال وجوه ، فالنون الأخيرة كانت تكتب بشكل لا تفترق عن الراء ، وكذا الواو عن الياء ، وربما كتبوا الميم الأخيرة على شكل الواو ، والعين الوسط كالهاء ، كما ربما يفكّكون بين حروف كلمة واحدة فيكتبون الياء منفصلة عنها ، كما في ( يستحي ي ) و ( نحي ي ) و ( أُحي ي ) أو يحذفونها رأساً كما في ( إيلافهم ) كتبوها ( إلافهم ) بلا ياء ، ولذلك قرأ أبو جعفر وفق الرسم بلا ياء ، وربما رسموا التنوين نوناً في الكلمة ، كما في كلمة ( كأيّن ) في
--------------------
(1) البيان في تفسير القرآن : 165 ، نقلاً عن التبيان للجزائري : 86.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 191 _
قوله سبحانه : ( فَكَأَيِّن مِنْ قَرْيَة أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَة ) (1) ، كما كتب النون ألفاً في كثير من المواضع منها ( لَنَسْفَعاً بِالنّاصِيَة ) (2) ، ( ولَيَكُوناً مِنَ الصاغِرِين ) (3) وهاتان النونان نون تأكيد خفيفة كتبوها بألف التنوين ، وقوله : ( وَإِذاً لآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً ) (4) كتبوا ( إذاً ) بدل ( إذن ) تشبيهاً بالتنوين المنصوب.
كما رسموا ألفاً بعد كثير من واوات زعموا واو الجمع ، وعلى العكس حذفوا كثيراً من ألفات واو الجمع.
فمن الأوّل قوله : ( إنّما أَشكوا بَثّي ) و ( فلا يربوا ) و ( نبلوا أخباركم ) و ( ما تتلوا الشياطين ).
ومن الثاني قوله : ( فاءو ) و ( جاءو ) و ( فباؤ ) و ( تبوّءو الدار ) و ( سعو ) و ( عتو ) وغير ذلك كثير.
2 ـ الخلو من النقط
كان الحرف المعجم يكتب كالحرف المهمل بلا نقط مائزة بين الإعجام والإهمال ، فلا يفرّق بين السين والشين في الكتابة ، ولا بين العين والغين ، أو الراء والزاي ، والباء والتاء والثاء والياء ، أو الفاء عن القاف ، أو الجيم والحاء والخاء ، والدال عن الذال ، أو الصاد عن الضاد ، أو الطاء عن الظاء ، فكان على القارئ نفسه أن يميّز بحسب القرائن الموجودة أنّها باء أو ياء ، جيم أو حاء ، و هكذا.
من ذلك قراءة الكسائي : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فتثبتوا ) وقرأ الباقون : ( فتبيّنواد ؟ ). (5)
--------------------
(1) الحج : 45.
(2) العلق : 15.
(3) يوسف : 32.
(4) النساء : 67.
(5) الحجرات : 6.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 192 _
وقرأ ابن عامر والكوفيون ( ننشزها ) وقرأ الباقون ( ننشرها ). (1)
وقرأ ابن عامر وحفص : ( ويكفِّر عنكم ) و قرأ الباقون : ( نكفِّر ). (2)
وقرأ ابن السميفع : ( فاليوم ننحيك ببدنك ) والباقون ( ننجّيك ). (3)
وقرأ الكوفيون غير عاصم : ( لنثوينهم من الجنّة غُرفاً ) و الباقون ( لنبوِّئنّهم ) ، وأمثلة هذا النوع كثيرة جداً. (4)
3 ـ إسقاط الألفات
كان الخط العربي الكوفي منحدراًعن خط السريان ، وكانوا لا يكتبون الالفات الممدودة في ثنايا الكلم ، وقد كتبوا القرآن بالخط الكوفي على نفس المنهج ، فصار ذلك سبباً لاختلاف القراءات.
1 ـ قرأ الكوفيون ( أَلم نجعل الأَرض مهداً ) بدل مهاداً ، لأنّها كتبت في المصحف بلا ألف.
2 ـ قرأ حمزة والكسائي وشعبة ( وحرم ) بكسر الحاء وسكون الراء بدل ( وحرام على قرية ) (5) لأنّها كتبت في المصحف بلا ألف.
3 ـ قرأ أبو جعفر و البصريون ( وَإِذْ وعدنا موسى أربعين ليلة ) (6) بدل ( واعدنا ) ، لأنّها كتبت هكذا في القرآن ، وهكذا سائر الموارد التي نجم الاختلاف فيها من إسقاط الألف في الكتابة وقراءته في اللفظ.
--------------------
(1) البقرة : 259.
(2) البقرة : 271.
(3) يونس : 92.
(4) مجمع البيان : 8 / 290.
(5) الأنبياء : 59.
(6) البقرة : 51.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 193 _
4 ـ تأثير اللهجة
لا شكّ انّ كلّ أُمّة وإن كانت ذات لغة واحدة لكن لهجاتها تختلف حسب تعدّد القبائل والأفخاذ المنشعبة منها ، فهكذا كانت القبائل العربية تختلف بعضها في اللهجة وفي التعبير والأداء ، وقد سبّب ذلك اختلافاً في القراءة.
1 ـ اختلافهم في الحركات : مثل ( نستعين ) بفتح النون وهي لغة قيس وأسد ، وكسر النون لغة غيرهم ، ومثل ( معكم ) بفتح العين وكسره.
2 ـ اختلافهم في الهمزة والتليين : نحو ( مستهزؤن ) و ( مستهزون ).
3 ـ اختلافهم في التقديم والتأخير : تقول العرب صاعقة وصواعق وبه نزل القرآن ، وبنو تميم يقولوا : ( صاقعة ) و ( صواقع ).
4 ـ اختلافهم في الإثبات والحذف نحو ( استحيت ) و ( استحييت ).
5 ـ اختلافهم في النبر بالياء والواو أي تبدلهما همزة ، يقولون يا ( نبئ اللّه ) مكان ( يا نبي اللّه ) ، وكانت هذيل تقلب الواو المكسورة همزة ، فتقول : ( إعاء ) بدل ( وعاء ).
قال سيبويه : بلغنا انّ قوماً من الحجاز من أهل التحقيق يهمزون ( نبي ) و ( بريئة ) مكان نبي و بريّة.
ولماحجّ المهدي قدم المدينة ، فقدم الكسائي ليصلّي بالناس فهمز ، فأنكر عليه أهل المدينة وقالوا : إنّه ينبر في مسجد رسول اللّه بالقرآن.
إلى غير ذلك من موارد اختلاف اللهجة التي سبّبت اختلافاً في القراءة.
وهذا الاختلاف بين القبائل كان قد يعظم ويشتدّ ، كالخلاف بين القبائل
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 194 _
العدنانية في الحجاز ، والقبائل القحطانية في اليمن ، سواء في المفردات والتراكيب أم في اللهجات ، حتى قال أبو عمرو بن العلاء : ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ، ولا عربيّتهم بعربيّتنا.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 195 ـ
4 ـ صيانة القرآن من التحريف
القرآن هو المصدر الرئيسي والمنبع الأوّل للتشريع وعنه صدر المسلمون منذ نزوله إلى يومنا هذا ، وهو القول الفصل في الخلاف والجدال ، إلاّ أنّ هنا نكتة جديرة بالاهتمام ، و هي انّ استنباط المعارف والأحكام من الذكر الحكيم فرع عدم طروء التحريف إلى آياته بالزيادة والنقص ، وصيانته عنهما وإن كان أمراً مفروغاً منه عند جلّ طوائف المسلمين ، ولكن لأجل دحض بعض الشبه التي تثار في هذا الصدد ، نتناول موضوع صيانة القرآن بالبحث والدراسة على وجه الإيجاز ، فنقول :
التحريف لغة واصطلاحاً
التحريف لغة : تفسير الكلام على غير وجهه ، يقال : حرّف الشيء عن وجهه : حرّفه وأماله ، وبه يفسر قوله تعالى : ( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِه ). (1)
قال الطبرسي في تفسير الآية : يفسّرونها على غير ما أُنزلت ، والمراد من المواضع هي المعاني و المقاصد.
وأمّا اصطلاحاً ، فيطلق ويراد منه وجوه مختلفة :
1 ـ تحريف مدلول الكلام ، أي تفسيره على وجه يوافق رأي المفسِّر ، سواء
--------------------
(1) النساء : 46.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 196 _
أوافق الواقع أم لا ، والتفسير بهذا المعنى واقع في القرآن الكريم ، ولا يمسُّ بكرامته أبداً ، فإنّ الفرق الإسلامية ـ جمع اللّه شملهم ـ عامة يصدرون عن القرآن ويستندون إليه ، فكلّ صاحب هوى ، يتظاهر بالأخذ بالقرآن لكن بتفسير يُدْعِمُ عقيدته ، فهو يأخذ بعنان الآية ، ويميل بها إلى جانب هواه ، ومن أوضح مصاديق هذا النوع من التفسير ، تفاسير الباطنية حيث وضعوا من عند أنفسهم لكلّ ظاهر ، باطناً ، نسبته إلى الثاني ، كنسبة القشر إلى اللبّ وأنّ باطنه يؤدّي إلى ترك العمل بظاهره ، فقد فسّروا الاحتلام بإفشاء سرّ من أسرارهم ، والغسلَ بتجديد العهد لمن أفشاه من غير قصد ، والزكاة بتزكية النفس ، والصلاة بالرسول الناطق لقوله سبحانه : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَر ) (1). (2)
2 ـ النقص والزيادة في الحركة والحرف مع حفظ القرآن وصيانته ، مثاله قراءة ( يطهرن ) حيث قُرِئ بالتخفيف والتشديد ، فلو صحّ تواتر القراءات عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ـ و لن يصحَّ أبداً ـ وانّ النبي هو الذي قرأ القـرآن بها ، فيكون الجميع قرآناً بلا تحريف ، وإن قلنا : إنّه نزل برواية واحد ، فهي القرآن وغيرها كلّها تحريف اخترعتها عقول القرّاء وزيّنوا قرآنهم بالحجج التي ذكروها بعد كلّ قراءة ، وعلى هذا ينحصر القرآن بواحدة منها وغيرها لا صلة لها بالقرآن ، والدليل الواضح على أنّهما من اختراعات القرّاء إقامتهم الحجّة على قراءتهم ولو كان الجميع من صميم القرآن لما احتاجوا إلى إقامة الحجّة ، ويكفيهم ذكر سند القراءة إلى النبي.
ومع ذلك فالقرآن مصون عن هذا النوع من التحريف ، لأنّ القراءة المتواترة ، هي القراءة المتداولة في كلّ عصر ، أعني : قراءة عاصم برواية حفص ، القراءة الموصولة إلى علي ( عليه السَّلام ) وغيرها اجتهادات مبتدعة ، لم يكن منها أثر في عصر
--------------------
(1) العنكبوت : 45.
(2) المواقف : 8 / 390 ، وقد مرّ تفصيلاً ص : 117 ـ 124.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 197 _
النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، و لذاك صارت متروكة لا وجود لها إلاّ في بطون كتب القراءات ، وأحياناً في ألسن بعض القرّاء ، لغاية إظهار التبحّر فيها .
روى الكليني عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) قال : ( إنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة ) (1) ولذلك لا نجيز القراءة غير المعروفة منها في الصلاة.
3 ـ تبديل كلمة مكان كلمة مرادفة ، كوضع ( اسرعوا ) مكان ( امضوا ) في قوله سبحانه : ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ). (2)
وقد نسب ذلك إلى عبد اللّه بن مسعود وكان يقول : ليس الخطأ أن يقرأ مكان ( العليم ) ، ( الحكيم ).
لكن أُجلّ ذلك الصحابي الجليل عن هذه التهمة ، وأي غاية عقلائية يترتب على ذاك التبديل ؟!
4 ـ التحريف في لهجة التعبير ، انّ لهجات القبائل كانت تختلف عند النطق بالحرف أو الكلمة من حيث الحركات والأداء ، كما هو كذلك في سائر اللغات ، فإنّ ( قاف ) العربية ، يتلفّظ بها في إيران الإسلامية العزيزة على أربعة أوجه ، فكيف المفردات من حيث الحركات والحروف ؟! قال سبحانه : ( وَمَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ). (3)
فكان بعض القرّاء تبعاً لبعض اللهجات يقرأ ( وسعي ) بالياء مكان الألف.
وهذا النوع من التحريف لم يتطرّق إلى القرآن ، لأنّ المسلمين في عهد الخليفة
--------------------
(1) الكافي : 2 / 630 ، الحديث 12.
(2) الحجر : 65.
(3) الإسراء : 19.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 198 _
الثالث لمّا رأوا اختلاف المسلمين في التلفّظ ببعض الكلمات ، مثل ما ذكرناه ( أو تغيير بعضه ببعض مع عدم التغيّر في المعنى ، مثل امض ، عجل ، اسرع على فرض الصحة ) قاموا بتوحيد المصاحف وغسل غير ما جمعوه ، فارتفع بذلك التحريف بالمعنى المذكور فاتفقوا على لهجة قريش.
5 ـ التحريف بالزيادة لكنّه مجمع على خلافه ، نعم نسب إلى ابن مسعود أنّه قال : إنّ المعوذتين ليستا من القرآن ، انّـهما تعويذان ، و انّـهما ليستا من القرآن ، (1) كما نسب إلى العجاردة من الخوارج أنّهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن ، وكانوا يرون أنّها قصة عشق لا يجوز أن يكون من الوحي ، (2) ولكن النسبتين غير ثابتتين ، ولو صحّ ما ذكره ابن مسعود لبطل تحدّي القرآن بالسورة ، حيث أتى الإنسان غير الموحى إليه بسورتين مثل سور القرآن القصار.
6 ـ التحريف بالنقص والإسقاط عن عمد أو نسيان ، سواء كان الساقط حرفاً ، أو كلمة ، أو جملة ، أو آية ، أو سورة ، وهذا هو الذي دعانا إلى استعراض ذلك البحث فنقول : إنّ ادّعاء النقص في القرآن الكريم بالوجوه التي مرّ ذكرها أمر يكذبه العقل والنقل ، وإليك بيانهما :
1 ـ امتناع تطرّق التحريف إلى القرآن
إنّ القرآن الكريم كان موضع عناية المسلمين من أوّل يوم آمنوا به ، فقد كان المرجعَ الأوّل لهم ، فيهتمون به قراءة وحفظاً ، كتابة وضبطاً ، فتطرّق التحريف إلى مثل هذا الكتاب لا يمكن إلاّبقدرة قاهرة حتى تتلاعب بالقرآن بالنقص ، ولم يكن
--------------------
(1) فتح الباري بشرح البخاري : 8 / 571.
(2) الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 128.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 199 _
للأُمويّين ولا للعباسيين تلك القدرة القاهرة ، لأنّ انتشار القرآن بين القرّاء والحفّاظ ، وانتشار نسخه على صعيد هائل قد جعل هذه الأُمنية الخبيثة في عداد المحال.
إنّ للسيد الشريف المرتضى بياناً في المقام نأتي بنصِّه ، يقول : إنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه ( غيره ) فيما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية ، والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفُوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّـراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ؟!
قال : والعلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمُزَني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. (1)
وهناك نكتة أُخرى جديرة بالإشارة ، وهي إنّ تطرّق التحريف إلى المصحف الشريف يعدُّ من أفظع الجرائم التي لا يصحّ السكوت عنها ، فكيف سكت الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) وخاصّته نظير سلمان و المقداد وأبي ذر وغيرهم مع انّا نرى أنّ الإمام وريحانة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد اعترضا على غصب فدك مع أنّه لا يبلغ عُشْرَ ما
--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 15 ، قسم الفن الخامس ، طبعة صيدا.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 200 _
للقرآن من العظمة والأهمية ؟!
ويرشدك إلى صدق المقال أنّه قد اختلف أُبيّ بن كعب والخليفة الثالث في قراءة قوله سبحانه : ( والّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) (1) فأصرّ أُبيّ انّه سمع عن النبي ( بالواو ) وكان نظر الخليفة إلى انّه خال منها ، فتشاجرا عند كتابة المصحف الواحد وإرساله إلى العواصم ، فهدّده أُبيّ وقال : لابد وأن تكتب الآية بالواو وإلاّ لأضع سيفي على عاتقي فألحقوها. (2)
كما نجد أنّ الإمام ( عليه السَّلام ) أمر بردّ قطائع عثمان إلى بيت المال ، وقال : ( واللّه لو وجدته قد تُزوِّج به النساء ، ومُلِكَ به الإماء ، لرددته ، فإنّ في العدل سعة ، و من ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق ). (3)
فلو كان هناك تحريف كان ردّ الآيات المزعوم حذفها من القرآن إلى محالِّها أوجب وألزم.
نرى أنّ علياً ( عليه السَّلام ) بعدما تقلّد الخلافة الظاهرية اعترض على إقامة صلاة التراويح جماعة كما اعترض على قراءة البسملة سرّاً في الصلوات الجهرية إلى غير ذلك من البدع المحدثة ، فعارضها الإمام وشدّد النكير عليها بحماس ، فلو صدر أيّام الخلفاء شيء من هذا القبيل حول القرآن لقام الإمام بمواجهته ، وردّ ما حذف بلا واهمة.
والحاصل : من قرأ سيرة المسلمين في الصدر الأوّل يقف على أنّ نظرية التحريف بصورة النقص كان أمراً ممتنعاً عادة.
--------------------
(1) التوبة : 34.
(2) الدر المنثور : 4 / 179.
(3) نهج البلاغة : الخطبة 15 ، تحقيق صبحي الصالح.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 201 _
2 ـ شهادة القرآن على عدم تحريفه :
آية الحفظ
إنّ القرآن هو الكتاب النازل من عند اللّه سبحانه ، وهو سبحانه تكفّل صيانة القرآن وحفظه عن أيِّ تلاعب ، قال سبحانه : ( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقينَ * ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ * إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ). (1)
إنّ المراد من الذكر في كلا الموردين هو القرآن الكريم بقرينة ( نُزِّلَ ) و ( نَزَّلْنا ) والضمير في ( لَهُ ) يرجع إلى القرآن ، وقد أورد المشركون اعتراضات ثلاثة على النبي ، أشار إليها القرآن مع نقدها ، وهي :
1 ـ أنّ محمّداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يتلقّى القرآن من لدن شخص مجهول ، ويشير إلى هذا الاعتراض قولهم : ( يا أَيُّهَا الّذي نزّلَ عَلَيْهِ الذِكْر ) بصيغة المجهول.
2 ـ انّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مختل الحواس لا اعتبار بما يتلقّاه من القرآن وينقله ، فلا نُؤمن من تصرّف مخيّلته وعقليّته في القرآن.
3 ـ لو صحّ قوله : بأنّه ينزل عليه الملك ويأتي بالوحي ف : ( لَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقين ).
فقد أجاب الوحي عن الاعتراضات الثلاثة ، ونقدّم الجواب عن الثاني والثالث بوجه موجز ، ثمّ نعطف النظر إلى الاعتراض الأوّل لأهميته.
--------------------
(1) الحجر : 6 ـ 9.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 202 _
أمّا الثاني ، فقد ردّه بالتصريح بأنّه سبحانه هو المنزِّل دون غيره وقال : ( إِنّا نَحْنُ ).
كما رد الثالث بأنّ نزول الملائكة موجب لهلاكهم وإبادتهم ، وهو يخالف هدف البعثة ، حيث قال : ( وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرين ).
وأمّا الأوّل ، فقد صرّح سبحانه بأنّه الحافظ لذكره عن تطرق أيّ خلل وتحريف فيه ، وهو لا تُغلب إرادته.
وبذلك ظهر عدم تمامية بعض الاحتمالات في تفسير الحفظ حيث قالوا المراد :
1 ـ حفظه من قدح القادحين.
2 ـ حفظه في اللوح المحفوظ.
3 ـ حفظه في صدر النبي والإمام بعده.
فإنّ قدح القادحين ليس مطروحاً في الآية حتى تجيب عنه الآية ، كما أنّ حفظه في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يرتبط باعتراض المشركين ، فإنّ اعتراضهم كان مبنيّاً على اتهام النبي بالجنون الذي لا ينفك عن الخلط في إبلاغ الوحي ، فالإجابة بأنّه محفوظ في اللوح المحفوظ أو ما أشبهه لا يكون قالعاً للإشكال ، فالحقّ الذي لا ريب فيه انّه سبحانه يخبر عن تعهده بحفظ القرآن وصيانته في عامّة المراحل ، فالقول بالنقصان يضاد مع تعهده سبحانه.
فإن قلت : إنّ مدّعي التحريف يدّعي التحريف في نفس هذه الآية ، لأنّها بعض القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها صحيحاً ، لاستلزامه الدور الواضح.
قلت : إنّ مصبّ التحريف ـ على فرض طروئه ـ عبارة عن الآيات الراجعة إلى الخلافة والزعامة لأئمّة أهل البيت ، أو ما يرجع إلى آيات الأحكام ، كآية
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 203 _
الرجم ، وآية الرضعات ، وأمثالهما ، وأمّا هذه الآية ونحوها فلم يتطرّق التحريف إليها باتّفاق المسلمين.
آية نفي الباطل
يصف سبحانه كتابه بأنّه المقتدر الذي لا يُغْلَب ولا يأتيه الباطل من أي جانب ، قال : ( إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد ). (1)
ودلالة الآية رهن بيان أُمور :
الأوّل : المراد من الذكر هو القرآن ، ويشهد عليه قوله : ( وَإِنّهُ لَكتابٌ عَزيز ) مضافاً إلى إطلاقه على القرآن في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون ) ، (2) وقال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسْئَلُونَ ). (3)
الثاني : انّ خبر ( انّ ) محذوف مقدّر وهو : سوف نجزيهم وما شابهه.
الثالث : الباطل يقابل الحق ، فالحق ثابت لا يُغْلب ، والباطل له جولة ، لكنّه سوف يُغلب ، مثلهما كمثل الماء والزبد ، فالماء يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء ، قال سبحانه : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثال ). (4)
فالقرآن حقّ في مداليله ومفاهيمه ، وأحكامه خالدة ، ومعارفه وأُصوله مطابقة للفطرة ، وأخباره الغيبية حق لا زيغ فيه ، كما أنّه نزيه عن التناقض بين
--------------------
(1) فصلت : 41 ـ 42.
(2) الحجر : 6.
(3) الزخرف : 44.
(4) الرعد : 17.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 204 _
دساتيره وأخباره ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ). (1)
فكما أنّه حقّ من حيث المادة والمعنى ، حقّ من حيث الصورة واللفظ أيضاً ، فلا يتطرّق إليه التحريف ، ونعم ما قاله الطبرسي : لا تناقض في ألفاظه ، ولا كذب في أخباره ، ولا يعارض ، ولا يزداد ، ولا ينقص. (2)
ويؤيّده قوله قبل هذه الآيات : ( وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ) ، (3) ولعلّه إشارة إلى ما كان يدخله في نفسه من إمكان إبطال شريعته بعد مماته ، فأمره بالاستعاذة باللّه السميع العليم.
والحاصل أنّ تخصيص مفاد الآية ( نفي الباطل ) بطروء التناقض في أحكامه وتكاذب أخباره لا وجه له ، فالقرآن مصون عن أيّ باطل يبطله ، أو فاسد يفسده ، بل هو غضّ طريّ لا يُبْلى وَلا يُفنى.
آية الجمع
رُوي أنّه إذا نزل القرآن ، عجل النبي بقراءته ، حرصاً منه على ضبطه ، فوافاه الوحي ونهاه عنه ، وقال : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ علَيْنا بَيانَهُ ) ، (4) فعلى اللّه سبحانه الجمع والحفظ والبيان ، كما ضمن في آية أُخرى عدم نسيانه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) القرآن وقال : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَما يَخْفى ). (5)
هذا بعض ما يمكن أن يستدلّ به ، على صيانة القرآن من التحريف
--------------------
(1) النساء : 82.
(2) مجمع البيان : 9 / 15 ، ط صيدا .
(3) فصّلت : 36.
(4) القيامة : 16 ـ 19.
(5) الأعلى : 6 ـ 7.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 205 _
بالقرآن ، والاستثناء في الآية الأخيرة نظير الاستثناء في قوله : ( وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الأَْرضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ). (1)
و من المعلوم انّ أهل السعادة محكومون بالخلود في الجنة ويشهد له ذيل الآية ، أعني : قوله : ( عَطاءً غَيْر َمَجْذُوذ ) أي غير مقطوع ، ومع ذلك فليس التقدير على وجه يخرج الأمر من يده سبحانه ، فهو في كلّ حين قادر على نقض الخلود.
وأمّا الروايات الدالّة على كونه مصوناً منه ، فنقتصر منها بما يلي :
1 ـ أخبار العرض
قد تضافرت الروايات عن الأئمّة ( عليهم السَّلام ) بعرض الروايات على القرآن والأخذ بموافقه وردّ مخالفه ، وقد جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.
روى الكليني عن السكوني ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه ). (2)
وروى أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : ( ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ). (3)
--------------------
(1) هود : 108.
(2) الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 10.
(3) الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 ، 15 وغيرها.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 206 _
وفي رواية أيوب بن الحر ، قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) يقول : ( كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف ). (1)
وجه الدلالة من وجهين :
ألف ـ انّ المتبادر من أخبار العرض انّ القرآن مقياس سالم لم تنلـه يد التبديل و التحريف والتصرف ، والقول بالتحريف لا يلائم القول بسلامة المقيس عليه.
ب ـ انّ الإمعان في مجموع روايات العرض يثبت انّ الشرط اللازم هو عدم المخالفة ، لا وجود الموافقة ، وإلاّ لزم ردّأخبار كثيرة لعدم تعرض القرآن إليها بالإثبات والنفي ، ولا تعلم المخالفة وعدمها إلاّإذا كان المقيس ( القرآن ) بعامة سوره وأجزائه موجوداً عندنا ، وإلاّ فيمكن أن يكون الخبر مخالفاً لما سقط وحرّف.
2 ـ حديث الثقلين
إنّ حديث الثقلين يأمر بالتمسّك بالقرآن ، مثل التمسّك بأقوال العترة ، حيث قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ) ويستفاد منه عدم التحريف ، وذلك :
ألف ـ انّ الأمر بالتمسّك بالقرآن ، فرع وجود القرآن بين المتمسّكين.
ب ـ انّ القول بسقوط قسم من آياته وسُوَره ، يوجب عدم الاطمئنان فيما يستفاد من القرآن الموجود ، إذ من المحتمل أن يكون المحذوف قرينة على المراد من الموجود.
أهل البيت وصيانة القرآن
إنّ الإمعان في خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) وكلمات أوصيائه المعصومين ( عليهم السَّلام ) يعرب عن اعتبارهم القرآن الموجود بين ظهراني المسلمين ، هو
--------------------
(1) الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 ، 15 وغيرها.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 207 _
كتاب اللّه المنزل على رسوله بلا زيادة ولا نقيصة ، ويعرف ذلك من تصريحاتهم تارة ، وإشاراتهم أُخرى ، ونذكر شيئاً قليلاً من ذلك :
1 ـ قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : ( أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء ، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً ، حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه ). (1)
والخطبة صريحة في إكمال الدين تحت ظل كتابه ، فكيف يكون الدين كاملاً و مصدره محرّفاً غير كامل ؟! ويوضح ذلك انّ الإمام يحثّ على التمسّك بالدين الكامل بعد رحيل الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وهو فرع كمال مصدره وسنده.
2 ـ وقال ( عليه السَّلام ) : ( وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزٌّ لا تهزم أعوانه ). (2)
3 ـ وقال ( عليه السَّلام ) : ( كأنّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ). (3)
وفي رسالة الإمام الجواد إلى سعد الخير (4) : ( وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ). (5)
وفي هذا تصريح ببقاء القرآن بلفظه ، وانّ التحريف في تطبيقه على الحياة حيث لم يطبقوا أحكامه في حياتهم ، ومن أوضح مظاهره منع بنت المصطفى ( عليها السَّلام ) من إرث والدها مع أنّه سبحانه يقول : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَولادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
--------------------
(1) نهج البلاغة : الخطبة86.
(2) نهج البلاغة : الخطبة 133.
(3) نهج البلاغة : الخطبة : 147.
(4) هو من أولاد عمر بن عبد العزيز ، وقد بكى عند أبي جعفر الجواد لاعتقاده انّه من الشجرة الملعونة في القرآن ، فقال الإمام ( عليه السَّلام ) له : ( لست منهم وأنت منّا ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَمَنْ تَبعَني فَهُوَ مِنّي ).
( لاحظ قاموس الرجال : 5 / 35 ) ومنه يعلم وجه تسميته بالخير.
(5) الكافي : 8 / 53 ح 16.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 208 _
الأُنْثَيَيْنِ ). (1)
وقال سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داود ). (2)
وقال سبحانه عن لسان زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب ). (3)
ولعلّ فيما ذكرنا كفاية ، فلنستعرض كلمات علمائنا.
الشيعة وصيانة القرآن
إنّ التتبع في كلمات علمائنا الكبار الذين كانوا هم القدوة والأُسوة في جميع الأجيال ، يعرب عن أنّهم كانوا يتبرّأون من القول بالتحريف ، وينسبون فكرة التحريف إلى روايات الآحاد ، ولا يمكننا نقل كلمات علمائنا عبر القرون ، بل نشير إلى كلمات بعضهم :
1 ـ قال الشيخ الأجل الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ( المتوفّى 260 هـ ) ـ في ضمن نقده مذهب أهـل السنّـة ـ : إنّ عمر بن الخطاب قال : إنّي أخاف أن يقال زاد عمر في القرآن ثبتَ هذه الآية ، فانّا كنّا نقرؤها على عهد رسول اللّه : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من الشهوة نكالاً من اللّه واللّه عزيز حكيم . (4)
فلو كان التحريف من عقائد الشيعة ، لما كان له التحامل على السنّة بالقول بالتحريف لاشتراكهما في ذلك القول.
--------------------
(1) النساء : 11.
(2) النمل : 16.
(3) مريم : 5 ـ 6.
(4) الإيضاح : 217 ، روى البخاري آية الرجم في صحيحه : 8 / 208 باب رجم الحبلى.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 209 _
2 ـ قال أبو جعفر الصدوق ( المتوفّـى 381 هـ ) : اعتقادنا أنّه كلام اللّه ووحيه تنزيلاً ، وقوله في كتابه : ( إِنَّهُ لَكتابٌ عَزيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيم حَميد ) وانّه القصص الحق ، وانّه لحقّ فصل ، وما هو بالهزل ، وانّ اللّه تبارك و تعالى مُحْدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به . (1)
3 ـ قال الشيخ المفيد ( المتوفّـى 413 هـ ) : وقد قال جماعة من أهل الإمامة انّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) من تأويل وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وعندي انّ هذا القول أشبه بالحقّ من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل. (2)
وقال أيضاً في أجوبة ( المسائل السروية ) في جواب من احتج على التحريف بالروايات الواردة حيث ورد فيها ( كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس ) مكان ( أُمّة ) ، وورد كذلك ( جعلناكم أئمة وسطاً ) مكان ( أُمّة ) وورد ( يسألونك الأنفال ) مكان ( يسألونك عن الأنفال ) ، فأجاب : انّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على اللّه تعالى بصحتها ، فلذلك وقفنا فيها ، ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر. (3)
4 ـ قال الشريف المرتضى ( المتوفّى 436 هـ ) : مضافاً إلى من نقلنا عنه في الدليل الأوّل ، انّ جماعة من الصحابة ، مثل عبد اللّه بن مسعود و أُبّي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه
--------------------
(1) اعتقادات الصدوق : 93.
(2) أوائل المقالات : 53 ـ 54.
(3) مجموعة الرسائل للمفيد : 366.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 210 _
كان مجموعاً مرتباً غير مستور ولا مبثوث . (1)
5 ـ قال الشيخ الطوسي ( المتوفّـى 460 هـ ) : أمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصه فما لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر من الرواية ، ثمّ وصف الروايات المخالفة بالآحاد.
6 ـ قال أبو علي الطـبرسي ( المتـوفّـى 548 هـ ) الكلام في زيادة القـرآن ونقصانه ، أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه. (2)
7 ـ قال السيد علي بن طاووس الحلّي ( المتوفّى 664 هـ ) : إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف. (3)
8 ـ قال العلاّمة الحلّي ( المتوفّى 726 هـ ) في جواب السيد الجليل المهنّا : الحق انّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم ، وانّه لم يزد ولم يُنْقَص ، ونعوذ باللّه من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنّه يوجب تطرّق الشك إلى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر. (4)
9 ـ قال المحقّق الأردبيلي ( المتوفّى 993 هـ ) في مسألة لزوم تحصيل العلم : بأنّ ما يقرأه هو القرآن ، فينبغي تحصيله من التواتر الموجب للعلم ، وعدم جواز الاكتفاء بالسماع حتى من عدل واحد ـ إلى أن قال : ـ ولما ثبت تواتره فهو مأمون
--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 10 ، نقلاً عن جواب المسائل الطرابلسية للسيد المرتضى.
(2) مجمع البيان : 1 / 10.
(3) سعد السعود : 144.
(4) أجوبة المسائل المهنائية : 121.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 211 _
من الاختلال ... مع أنّه مضبوط في الكتب حتى أنّه معدود حرفاً حرفاً ، وحركة حركة ، وكذا طريق الكتابة وغيرها ممّا يفيد الظن الغالب بل العلم بعدم الزيادة على ذلك والنقص. (1)
10 ـ وقال القاضي السيد نور اللّه التستري ( المتوفّى 1029 هـ ) : ما نسب إلى الشيعة الإمامية من وقوع التحريف في القرآن ليس ممّا يقول به جمهور الإمامية ، إنّما قال به شر ذمة قليلة منهم لا اعتداد لهم فيما بينهم. (2)
ولو استقصينا كلمات علمائنا في هذا المجال لطال بنا الموقف ، إلى هنا ظهر الحقّ بأجلى مظاهره فلم يبق إلاّ دراسة بعض الشبهات ودحضها.
--------------------
(1) مجمع الفائدة والبرهان : 2 / 218 ، في محل النقاط كلمة ( لفسقه ) فتأمل.
(2) آلاء الرحمن : 1 / 25.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 212 _
شبهات مثارة حول صيانة القرآن
اعتمد بعض الأخباريين في قولهم بالتحريف بوجوه لا يصلح تسميتها بشيء سوى كونها شبهاً ، وإليك بعض شبهاتهم.
الشبهة الأُولى : وجود مصحف لعلي ( عليه السَّلام )
روى ابن النديم ( المتوفّى 385 هـ ) في ( فهرسته ) عن علي ( عليه السَّلام ) انّه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي ، فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن. (1)
روى اليعقوبي ( المتوفّى 290 هـ ) في ( تاريخه ) : روى بعضهم أنّ علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) كان جمعه ـ القرآن ـ لمّا قبض رسول اللّه ، وأتى وحمله على جمل ، فقال : هذا القرآن جمعته ، وكان قد جزّأه سبعة أجزاء ، ثمّ ذكر كلّ جزء ، والسور الواردة فيه .
يلاحظ عليه : أنّ الإمعان فيما ذكره اليعقوبي انّ مصحف علي لا يخالف المصحف الموجود في سوره وآياته ، وإنّما يختلف في ترتيب السور ، وهذا يثبت انّ ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة والجامعين ، بخلاف وضع الآيات
--------------------
(1) فهرست ابن النديم ، نقله الزنجاني في تاريخ القرآن : 76.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 213 _
وترتيبها ، فانّه كان بإشارة النبي ، وما ذكره ابن النديم يثبت انّ القرآن كان مكتوباً في عصر النبي كلّ سورة على حدة وكان فاقداً للترتيب الذي رتّبه الإمام على سبعة أجزاء ، وكلّ جزء يشتمل على سور ، وقد نقل المحقّق الزنجاني ترتيب سور مصحف الإمام في ضمن جداول تعرب عن أنّ مصحَف عليّ ( عليه السَّلام ) كان في سبعة أجزاء ، وكلّ جزء يحتوي على سور ، فالجزء الأوّل يسمّى بالبقرة وفيه سور ، والجزء الثاني يسمى جزء آل عمران وفيه سور ، والثالث جزء النساء وفيه سور ، والرابع جزء المائدة وفيه سور ، والخامس جزء الأنعام وفيه سور ، والسادس جزء الأعراف وفيه سور ، والسابع جزء الأنفال وفيه سور ، والظاهر منه انّ التنظيم لم يكن على نسق تقديم الطوال على القصار ولا على حسب النزول ، وإليك صورته :
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 214 _
ترتيب السور في مصحف علي ( عليه السَّلام )
الجزء الأوّل |
الجزء الثاني |
الجزء الثالث |
الجزء الرابع |
البقرة |
يوسف |
العنكبوت |
الروم |
لقمان |
حمّ السجدة |
الذاريات |
هل أتى على الإنسان |
ألم تنزيل |
السجدة |
النازعات |
إذا الشمس كورت |
إذا السماء انفطرت |
إذا السماء انشقت |
سبح اسم ربّك الأعلى |
لم يكن | |
آل عمران |
هود |
الحج |
الحجر |
الأحزاب |
الدُّخان |
الرحمن |
الحاقة |
سأل سائل |
عبس وتولى |
والشمس وضحيها |
إنا أنزلناه |
إذا زلزلت |
ويل لكل همزة |
ألم تر كيف |
لإيلاف قريش | |
النساء |
النحل |
المؤمنون |
يس |
حمعسق |
الواقعة |
تبارك ... الملك |
يا أيُّها المدثر |
أرأيت |
تبت |
قل هو الله أحد |
والعصر |
القارعة |
والسماء ذات البروج |
والتين والزيتون |
طس |
النمل | |
المائدة |
يونس |
مريم |
طسم |
الشعراء |
الزخرف |
الحجرات |
ق والقرآن المجيد |
اقتربت الساعة |
الممتحنة |
والسماء والطارق |
لا أُقسم بهذا البلد |
ألم نشرح لك |
والعاديات |
قل يا أيها الكافرون |
إنّا أعطيناك الكوثر | |
فذلك جزء البقرة |
فذلك جزء آل عمران |
فذلك جزء النساء |
فذلك جزء
المائدة |
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 215 _
الجزء الخامس |
الجزء السادس |
الجزء السابع |
الأنعام |
سبحان |
اقترب |
الفرقان |
موسى |
فرعون |
حم |
المؤمن |
المجادلة |
الحشر |
الجمعة |
المنافقون |
ن والقلم |
إنّا أرسلنا نوحاً |
قل أوحي إليّ |
المرسلات |
والضحى |
الهيكم | |
الأعراف |
إبراهيم |
الكهف |
النور |
ص |
الزمر |
الشريعة |
الّذين كفروا |
الحديد |
المزمل |
لا أُقسم بيوم القيامة |
عمّ يتساءلون |
الغاشية |
والفجر |
والليل إذا يغشى |
إذا جاء نصر الله |
... |
... | |
الأنفال |
براءة |
طه |
الملائكة |
الصافات |
الأحقاف |
الفتح |
الطور |
النّجم |
الصَّف |
>التغابن |
الطلاق |
المطففين |
المعوذتين |
... |
... |
... |
... | |
فذلك جزء الأنعام |
فذلك جزء الأعراف |
فذلك جزء الأنفال |
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 216 _
فالإمعان في هذا الجدول يثبت بأنّ السور الموجودة فيه ، هي نفس السور في المصحف وإنّما الاختلاف في ترتيبها ، وقد نقل الشهرستاني ـ حسب ما نقله المحقّق الزنجاني ترتيب السور في مصحف عبد اللّه بن عباس ، فترتيب السور فيها يخالف ترتيب المصحف ولكن السور ، نفسها.
وممّا يدل على أنّ الفرق بين مصحفه ( عليه السَّلام ) وسائر المصاحف كان منحصراً في كيفية ترتيب السور فقط ، ما رواه الشيخ المفيد عن أبي جعفر الباقر ( عليه السَّلام ) قال : ( إذا قام قائم آل محمد ( عليه السَّلام ) ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن ، على ما أنزل اللّه ـ جلّ جلاله ـ فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ، لأنّه يخالف فيه التأليف ). (1)
الشبهة الثانية : تشابه مصير الأُمّتين
روى الفريقان عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : ( والذي نفسي بيده لتركبن سنّة من قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقُذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ) (2) وقد حرّفت اليهود والنصارى كتبهم ، فيلزم وقوع مثله في الأُمّة الإسلامية.
يلاحظ عليه : مضافاً إلى أنّه خبر واحد لا يحتج به في العقائد ، بأنّ الاستدلال لا يتم إلاّ بتعيين وجه التشابه بين الأُمم السالفة والأُمّة الإسلامية ، فهناك احتمالان :
ألف : التشابه بين الأُمّتين ، في جوهر الحوادث وخصوصياتها ولبّها وكيفياتها.
--------------------
(1) الإرشاد للمفيد : 365.
(2) صحيح مسلم : 8 / 57 ، باب اتباع سنن اليهود والنصارى ؛ وصحيح البخاري : 9 / 102 ، كتاب الاعتصام ؛ وسنن الترمذي : 5 / 26 ، كتاب الإيمان.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 217 _
ب : التشابه في أُصولها وذاتياتها ، لا في ألوانها وصورها.
أمّا الأوّل ، فهو ممّا لا يمكن القول به ، إذ لم تواجه الأُمّة الإسلامية ، ما واجهت اليهود في حياتهم ، وذلك :
1 ـ انّهم عاندوا أنبياءهم فابتلوا بالتيه في وادي سيناء ، لمّا أمرهم موسى بدخول الأرض المقدّسة واعتذروا بأنّ فيها قوماً جبارين ، و انّهم لن يدخلوها حتى يخرجوا منها ، فوافاه الخطاب بأنّها ( مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَومِ الْفاسِقينَ ) ، (1) مع أنّ المسلمين لم يبتلوا بالتيه.
2 ـ انّهم عبدوا العجل في غياب موسى ـ اتّخذوه إلهاً ـ قال سبحانه : ( ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ). (2)
والمسلمون ـ بفضل اللّه سبحانه ـ استمروا على نهج التوحيد ولم يعبدوا وثناً ولا صنماً.
3 ـ عاش بنو إسرائيل في عصر عجّ بالحوادث ، أشار إليها القرآن ولم يُر أثر منها في حياة المسلمين ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ ليس المراد التشابه في الصور والخصوصيات.
مثلاً انّ بني إسرائيل ظُلّلوا بالغمام ونُزّل عليهم المنُّ والسلوى ، ولم يُر ذلك في المسلمين.
وأمّا الثاني ، فهو المراد ـ إذا صحّت هذه الأخبار ولم نقل انّها أخبار آحاد غير مروية في الكتب المعتبرة ولا يُحتج بخبر الواحد في باب العقائد ـ و يشهد التاريخ بابتلاء المسلمين بنفس ما ابتليت به الأُمم السالفة في الجوهر والذات.
ألف ـ فقد دبّ فيهم دبيبُ الاختلاف بعد رحيله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وتفرّقوا إلى فرق مختلفة كاختلاف الأُمم السالفة ، ولو انّهم افترقوا إلى إحدى وسبعين أو اثنين وسبعين
--------------------
(1) المائدة : 26.
(2) البقرة : 51.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 218 _
فرقة ، فالمسلمون افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة.
ب ـ ظهرت بين الأُمّة الإسلامية ظاهرة الارتداد ، مثلما ارتدّ بعض أصحاب المسيح ودلّ اليهودَ على مكانه ، وهذا هو البخاري يروي في حديث أنّ أصحاب النبي يُمنعون من الحوض ، ويقول النبي : لماذا يمنعون ، مع أنّهم أصحابي ، فيجاب أنّهم ليسوا من أصحابك ، انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، انّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (1)
ج ـ انّهم خصّوا العقوبات بالفقراء دون الأغنياء ، فإذا سرق الفقير منهم أجروا عليه الحد ، وإذا سرق الغني ، امتنعوا منه ـ على ما رواه مسلم في صحيحه (2) ـ فقد ابتلت الأُمّة بهذه الظاهرة منذ رحيل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فقد عُطِّلَت الحدود في خلافة عثمان ، كما نطق به التاريخ.
د ـ انّهم حرّفوا كتبهم ، بتفسيرها على غير وجهه ، ويكفي في التشابه هذا المقدار من التحريف ، وقد روي عن الإمام الجواد ( عليه السَّلام ) انّه قال : ( المسلمون : أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونَه ولا يرعونه ) (3).
فقد ورد في العهدين أوصاف النبي على وجه يعرفون بها النبي كما يعرفون أبناءهم قال سبحانه : ( الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) (4) وقال سبحانه : ( الّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوراةِ وَالإِنْجِيل ) (5) ومع ذلك كانوا يؤوّلون البشائر ويفسّـرونها على غير
--------------------
(1) جامع الأُصول : 11 / 119 ـ 121.
(2) صحيح مسلم ج 5 ، باب قطع السارق ص 114.
(3) الكافي : 8 / 53 ح 16.
(4) البقرة : 146.
(5) الأعراف : 157.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 219 _
واقعها ، ومن قرأ تاريخ النبي مع اليهود المعاصرين له يقف على أنّهم كيف كانوا يضلّلون الناس بتحريف كتبهم ، بتفسيرها على غير وجهها ؟
ولعلّ وجه التشابه ما أوردناه في الوجه الثاني ، ومعه لا يصحّ لأحد أن يقول : إنّ التشابه بين الفريقين ، هو انّ التحريف قد مس جوهر الكتاب المقدّس ، فإنّ ما بأيدي اليهود إنّما كُتب بعد رحيل موسى بخمسة قرون ، ومثلها الإنجيل فإنّه أشبه بكتاب روائيّ يتكفّل ببيان حياة المسيح إلى أن صُلِب وقُبر ، وأين هو من الكتاب السماوي ؟!
نعوذ باللّه من الزلل في الرأي والقول والعمل.
الشبهة الثالثة : عدم الانسجام بين الآيات والجمل
وهذه الشبهة أبدعها الملاحدة حول آيات القرآن الكريم ، واتّخذها القائلون بالتحريف ذريعة لعقيدتهم وقد كتب ( سايل الانكليزي ) كتاباً في هذا الصدد ، ونقله إلى العربية هاشم العربي ـ وكأنّ الاسم اسم مستعار ـ و ردّ عليه المحقّق البلاغي بكتاب أسماه ( الهدى إلى دين المصطفى ) ولنذكر نماذج :
1 ـ آية الكرسي وتقديم السنة على النوم
قال سبحانه : ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوم ) (1) مع أنّ الصحيح أن يقول لا تأخذه نوم ولا سنة ، فإنّ الرائج في هذه الموارد هو التدرّج من العالي إلى الداني كما يقال : لا يأخذني عند المطالعة ، نوم ولا سنة.
والجواب : إنّ الأخذ في الآية بمعنى الغلبة واللازم عندئذ هو التدرّج من الداني إلى العالي كما هو واضح ، والآية بصدد تنزيهه سبحانه عن كلّ ما يوجب
--------------------
(1) البقرة : 255.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 220 _
الغفلة ، مثلاً لو فرضنا انّ زيداً أشجع من عمرو وأراد المتكلِّم أن يصف شجاعته الفائقة يقول ما غلبني عمرو ولا زيد فيقدم الضعيف على الشجاع ، ولو عكس يكون مستهجناً ويكون ذكر الضعيف زائداً.
2 ـ آية الخوف عن إقامة القسط
قال سبحانه : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَة ). (1)
وجه الاستدلال : انّه لا صلة بين الشرط و الجزاء ، فكيف يترتّب الإذن في نكاح النساء ( مَثنى وثلاثَ وَ رُباع ) على الخوف من عدم إقامة القسط في اليتامى ؟
يلاحظ عليه : أنّ القرآن يعتمد في إفهام مقاصده على القرائن الحالية بلا إيجاز مخلّ ، وقد ذكر أمر اليتامى في نفس السورة في الآيات التالية :
1 ـ ( وَآتُوا اليَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطَّيِّبِ ). (2)
2 ـ ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ... ). (3)
3 ـ ( إِنَّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَموالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ). (4)
4 ـ ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النِّساءِ اللاّتي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِليَتامى بِالقِسْطِ ). (5)
--------------------
(1) النساء : 3.
(2) النساء : 2.
(3) النساء : 3.
(4)النساء : 10.
(5) النساء : 127.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 221 _
فقد بيّـن سبحانه في الآية الأخيرة أحكام موضوعات ثلاثة :
1 ـ النساء الكبار.
2 ـ يتامى النساء ، أي النساء اليتامى والصغار اللاتي لا يُؤتون ما كُتب لهن ويرغبون أن ينكحوهن.
3 ـ المستضعفون من الولدان ، أي الولدان الصغار.
فقد أفتى في النساء بما جاء في هذه السورة من الأحكام.
وأمّا البنات اليتامى والولدان الصغار فقد أفتى فيهم بقوله : ( وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْط ).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يظهر من الآية الرابعة انّ القوم كانوا راغبين في نكاح النساء اليتامى لجمالهن أو أموالهن أو لكليهما ، من دون أن يقوموا في حقّهم بالقسط ، فأمر سبحانه بإقامة القسط لهم حيث قال : ( وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ ).
وبذلك تظهر صلة الجزاء بالشرط حيث إنّ اللام في قوله : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ) للعهد ، إشارة إلى يتامى النساء اللاّتي لا يُؤتونَ ما كتب لهنّ ، ويرغبون أن ينكحوهنّ ، فحثّ على أنّهم إذا خافوا من عدم القيام بوظائفهم عند تزوجهن ، فعليهم تزويج غيرهنّ ، واللّه سبحانه إذا أقفل باباً ( تزويج النساء اليتامى ) ، يفتح باباً آخر ، وهو تزويج غيرهنّ ، فأي صلة أوضح من هذه الصلة ؟
3 ـ آية التطهير ومشكلة السياق
قوله سبحانه : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 222 _
تَطْهِيراً ). (1)
حيث وقعت بين قوله : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِية الأُولى وَأَقِمْنَ الصلاةَ وَآتينَ الزَّكاةَ وأَطِعنَ اللّهَ وَرَسُولَه ... ) (2) وقوله : ( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَالحِكْمَة ) (3) ، فهذا النوع من التعبير آية طروء التحريف على ترتيب الآيات.
يلاحظ عليه :
إنّ القول بنزول الآية في آل الكساء لا توجد أي مشكلة في سياقها ، شريطة الوقوف على أُسلوب البلغاء في كلامهم وعباراتهم ؛ فإنّ من عادتهم الانتقال من خطاب إلى غيره ثمّ العود إليه مرّة أُخرى.
قال صاحب المنار : إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثمّ يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة. (4)
وقد اعترف بعض أهل السنّة بهذه الحقيقة أيضاً عند بحثه في آية الولاية ، حيث قال ما هذا نصه :
الأصل عند أهل السنّة انّ الآية تعتبر جزءاً من سياقها إلاّ إذا وردت القرينة على أنّها جملة اعتراضية تتعلّق بموضوع آخر على سبيل الاستثناء وهو أُسلوب من أساليب البلاغة عند العرب جاءت في القرآن على مستوى الإعجاز.
وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) : ( إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء ). (5)
--------------------
(1) الأحزاب : 33 ـ 34.
(2) الأحزاب : 33 ـ 34.
(3) الأحزاب : 33 ـ 34.
(4) تفسير المنار : 2 / 451.
(5) الكاشف : 6 / 217.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 223 _
فعلى سبيل المثال ، انّه سبحانه يقول في سورة يوسف حاكياً عن العزيز انّه بعدما واجه الواقعة في بيته قال : ( إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئين ). (1)
ترى أنّ العزيز يخاطب زوجته بقوله : ( إِنّه مِنْ كَيدِكُنَّ ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها يخاطب يوسف بقوله : ( يُوسُفُُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ) ثمّ يرجع إلى الموضوع الأوّل ، ويخاطب زوجته بقوله : ( وَاسْتَغْفِري لِذَنْبِك ) فقوله : ( يُوسُفُُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ) جملة معترضة ، وقعت بين الخطابين ، والمسوِّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين وكانت له صلة تامة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.
والضابطة الكلية لهذا النوع من الخطاب هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني ثمّ منه إلى الأوّل ، وهي موجودة في الآية ، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبي بالعبارات التالية :
1 ـ ( يا نِساءَ النَّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة مُبَيِّنَة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ). (2)
2 ـ ( يا نِساءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدمِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيَتُنَّ ). (3)
3 ـ ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِليَّةِ الأُولى ). (4)
فعند ذلك صحّ أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وذلك لوجهين :
1 ـ تعريفهنّ بجماعة بلغوا القمة في الورع والتقى ، وفي النزاهة عن الرذائل
--------------------
(1) يوسف : 28 ـ 29.
(2) الأحزاب : 30 و 32 و 33.
(3) الأحزاب : 30 و 32 و 33.
(4) الأحزاب : 30 و 32 و 33.