سبحانه فحاولوا إخضاع الآيات لنظريتهم ، وإليك نموذجاً واحداً ، يقول سبحانه :
( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيء فَاعبدُوهُ وَهوَ عَلى كُلِّ شَيء وَكيلٌ * لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وَهُو يُدرِكُ الأبصارَ وَهوَ اللَّطيفُ الخَبير ) (1).
ومن المعلوم أنّ الإدراك مفهوم عام لا يتعيّن في البصري أو السمعي أو العقلي إلاّ بالإضافة إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه السماع ، هذا هو ظاهر الآية ، وهي تنفي إمكان الإدراك بالبصر على الإطلاق.
ولمّا وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو صريحها لا يوافق أصله الكلامي ، لأنّها ظاهرة في نفي الإدراك بالبصر ، قال : إنّ أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في الآخرة ، وذلك لوجوه :
1 ـ أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله :
( لا تدركه الأبصار ) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصح رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا تصح رؤية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها ( لا تدركه الأبصار ) فثبت أنّ قوله :
( لا تدركه الأبصار ) يفيد المدح ، إلاّ إذا صحت الرؤية.
والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل فقط ، أعني :
( لا تدركه الأبصار ) ، بل المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية كأنّه سبحانه يقول : واللّه جلّت عظمته يدرك أبصاركم ، ولكن لا تدركه أبصاركم ، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأُولى.
--------------------
(1) الأنعام : 102 ـ 103.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 100 _
2 ـ أنّ لفظ ( الأبصار ) صيغة جمـع دخل عليها الألـف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لا يدركه جميع الأبصار ، وهذا لا ينافي أن يدركه بعض الأبصار.
(1)
يلاحظ عليه : أنّ الآية تفيد عموم السلب لاسلب العموم ، بقرينة كونه في مقام بيان رفعة ذاته ، وشموخ مقامه.
كأنّه سبحانه يقول : ( لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ولكنّه تعالى يدركهم ، وهذا نظير قوله سبحانه :
( كَذلِكَ يَطبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلبِ مُتَكبِّر جَبّار ) (2) ، وقوله :
( إنَّ اللّهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُختال فَخُور ) (3).
إلى غير ذلك من الوجوه الواهية التي ما ساقه إلى ذكرها إلاّ ليُخضِعَ الآيةَ ، لمعتقده.
--------------------
(1) تفسير الرازي : 13 / 125.
(2) غافر : 35.
(3) لقمان : 18.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 101 _
المنهج الأوّل / 3
التفسير على ضوء السنن الاجتماعية
إنّ النظرة الفاحصة في التفاسير التي ألّفت قبل القرن الرابع عشر يعرب عن أنّ الطابعَ العام لها هو تفسير الآيات القرآنية ، وتبيين مفرداتها ، وتوضيح جملها ، وكشف مفاهيمها بمعزل عن المجتمع ومسائله ومشاكله ، من دون أن يستنطقوا القرآن من أجل وضع الحلول المناسبة لمعاناتهم مع أنّ الواجب على المسلمين الرجوع إلى القرآن لمعالجة دائهم ، كما يقول الإمام علي ( عليه السَّلام ) : ( ذلك القرآن فاستنطقوه ، ولن ينطق ، ولكن أُخبركم عنه : ألا إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم ).
(1)
فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم ، فالحقّ انّ القدامى لم يولوا العناية بهذا الجانب من التفسير إلاّ شيئاً يسيراً ، وأوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه هو السيد جمال الدين الأسد آبادي ، فقد وجه أنظار المسلمين إلى الجانب الاجتماعي من التفسير ، فقال في خطبته المعروفة : عليكم بذكر اللّه الأعظم ، وبرهانه الأقوم ، فانّه نوره المشرق ، الذي به يخرج من ظلمات الهواجس ، ويتخلّص من عتمة الوسواس ، وهو مصباح النجاة ، من
--------------------
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 158.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 102 _
اهتدى بها نجا ، ومن تخلّف عنه هلك ، وهو صراط اللّه القويم ، من سلكه هُدي ، ومن أهمله غوى.
وتبعه تلميذه ومن تربى في أحضانه ، الإمام الشيخ محمد عبده ، فأبدع منهجاً خاصاً للتفسير له ميزاته التالية :
1 ـ التحرر من قيود التقليد وإعمال العقل في الأقوال والآراء المروية في الآيات ، وفهم كتاب اللّه من دون نظر إلى مذهب إمام دون إمام على وجه يكون القرآن هو المتبع دون مذهب الإمام.
2 ـ الاهتمام ببيان نظم الاجتماع ومشاكل الأُمّة الإسلامية خاصة ، ومشاكل الأُمم عامة ، وبيان علاجها بما أرشد إليه القرآن من أُصول وتعاليم.
3 ـ التوفيق بين القرآن والنظريات العلمية على وجه لا يكون القرآن مخالفاً للعلم.
فلنأت لكلّ ميزة بمثال.
أمّا الميزة الأُولى فيكفي الامهال فيما ذكره حول آية الوصية للوالدين.
الوصية للوالدين ليست منسوخة
يقول سبحانه :
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصيةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلى الْمُتَّقين ).
(1)
قال الشيخ الطوسي : تصح الوصية للوارث مثل الابن والأبوين وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : لا وصية للوارث.
(2)
--------------------
(1) البقرة : 180.
(2) الخلاف : 2 / 41 ، كتاب الوصية ، المسألة 1.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 103 _