|
الإمام العسكري ـ القائد الحكيم
وكان الإمام القائد لطلائع الأمة في ذلك العصر هو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت الإمام الحسن بن علي العسكري ، والذي فرضت عليه السلطة إقامة جبرية في عاصمة الخلافة العباسية آنذاك (سامراء).
ولكنه ورغم ضغوط السلطة ورقابتها الدقيقة التي كانت تلاحق الإمام حتى في فترات سجنه ومعتقلاته ، رغم ذلك كان يمارس دوره في توجيه الأمة وتزريق جماهيرها بالوعي وقيادة طلائعها المؤمنة.
فكانت الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات ترد على الإمام العسكري بصورة سرية رائعة ، عبر أحد وكلائه الثقاة : عثمان بن سعيد العمري والذي كان من كبار العلماء ، ولكن الإمام دفعه للاتجار بالسمن (الزيت) ليصنع من ذلك تغطية ظاهرية لدوره الهام في إيصال الأموال إلى الإمام بسرية كافية ... فباعتباره بيّاعاً للمسن كان يملأ بعض أجربة السمن بالأموال المتوفرة لديه من الحقوق الشرعية ثم يبعثها إلى بيت الإمام العسكري وظاهرها ملطخ بالسمن ، وطبعاً لا يثير شبهة الجواسيس دخول جراب سمن لبيت الإمام ! (1)
كما عهد الإمام العسكري إلى أحد أصحابه وهو محمد بن مسعود العياشي أن يقوم بمهمة جمع تراث الأئمة من أهل البيت بعد أن فرقته ظروف الكبت والإرهاب ، فأنفق العياشي ثروة أبيه الضخمة على ذلك حتى كانت داره كالمسجد تجمع العشرات ما بين ناسخ ومقابل وقارئ ومعلق ... فاجتمع لديه نتيجة ذلك النشاط العظيم ما يزيد على مائتين كتاب تحوي أحاديث أهل البيت وتعاليمهم في مختلف المجالات (2).
---------------------------
(1) الغيبة الصغرى ، للسيد محمد الصدر ، ص 227.
(2) سيرة الأئمة وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 26 _
إذن فقد كان النشاط على أشده في صفوف الجماهير المسلمة بيد أن الشيء الذي يقلق طلائع الإيمان والوعي هو مستقبل هذا النشاط ومصير حركة الوعي الديني السليم بعد الإمام الحسن العسكري ، والذي لابد وأن تصادر السلطة حياته كما صادرات حياة آبائه من قبل ، فمن هو القائد بعد ذلك ؟ ومن هو الإمام الذي سيتحمل مسؤولية الرسالة ويقوم بقيادة طلائع الأمة ؟
وتثور الأسئلة ملحة في أذهان المؤمنين وتفرض نفسها على خواطرهم ... وما أسرع أن يتذكروا الأحاديث المؤكدة المتواترة عن رسول اللَّه محمد صلى اللَّه عليه وآله والتي تنص بصراحة ووضوح على أن اللَّه تعالى قد أعد لهذه الأمة اثني عشر إماماً ينذرون أنفسهم لحماية الشريعة ونشر الرسالة الإسلامية العظيمة.
ففي صحيح البخاري (الجزء الرابع ، ص 175 ، طبعة مصر سنة 1355) عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله أنه قال : (( يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش )) .
ومثله في صحيح مسلم والترمذي وجميع كتب الحديث (1).
ومن هؤلاء الأئمة القادة الاثني عشر عاصرت الأمة عشرة أئمة وها هي في ظل الإمام الحادي عشر ... فيا ترى من هو الإمام الثاني عشر والذي اختارته السماء ليكون خاتم أوصياء محمد وآخر قادة أمة الإسلام ؟
إن الإمام العسكري لم يولد له ولد لحد الآن ، والسلطة حذرة جداً ومتشائمة من الإمام الثاني عشر الذي بشرت به الأحاديث ووعدت أن يكون على يديه استئصال شأفة الظلم وقلع جذور الطغيان وإقامة حكم الأمن والإيمان.
---------------------------
(1) جمع العلامة الصافي في كتابه القيم (( منتخب الأثر )) ما يزيد على ثلاثمائة حديث تدل على أن الأئمة بعد الرسول صلى اللَّه عليه وآله اثنا عشر ... من مختلف صحاح الحديث ومجاميعه ومسانيده.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 27 _
تباشير الفجر
وجاءت سنة 255 هجرية لتعطي الإجابة الحاسمة على كل هذه التساؤلات ... فالإمام العسكري تزوج من جارية شريفة تنحدر من أسرة قيصر ملك الروم وتنتمي إلى وصي المسيح شمعون ... وشاء اللَّه أن تكون هذه الجارية (التي أطنبت الروايات في وصف عفتها ومعرفتها وإيمانها) أُمًّا لخاتم أوصيائه ومنقذ عباده ومظهر دينه الإمام الحجة الثاني عشر.
وحملت بالإمام المنتظر في عهد المعتز ا لعباسي والذي كان شديد القسوة على الإمام العسكري ومهتماً جداً بالقضاء على الإمام قبل أن يجب القائد المنتظر ... ولكن أنى له ذلك ما دام اللَّه يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، فكان الحمل مستوراً لا يظهر له أي أثر في بطن أمه التي كانت مراقبة من السلطة كسائر نساء الإمام العسكري.
وقبيل الولادة تلبدت سماء سياسة الدولة بالغيوم الموسمية التي تغشى أجواء السلطة كلما ثارت شهوة الحكم والسيادة عند أحد أفراد الأسرة العباسية الحاكمة ... فيتآمر مع قادة الجيش للإطاحة بالخليفة الحاكم حتى يتسنم مقامه ... وهذا ما حصل بالفعل في 27 رجب سنة 255 هجرية حيث تآمر محمد المهتدي العباسي على ابن عمه المعتز بن المتوكل العباسي وبتشجيع من قادة الجيش الأتراك ، وخلع ابن عمه المعتز وبويع للمهتدي بالخلافة ، وكان من الطبيعي أن يترك هذا الحادث ذيولاً سياسية تجعل الخليفة الجديد مشغولاً بمعالجتها فترة من الوقت مما يؤمن فترة من الهدوء النسبي لبيت الإمام العسكري عليه السلام ريثما تتم ولادة الإمام المنتظر ، وفعلاً تمت الولادة وبشكل هادئ جداً في ليلة النصف من شعبان ، وبعد ثمانية عشر ليلة من استيلاء المهتدي على السلطة.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 28 _
وأشرق النور
وكانت للولادة قصة طريفة نحرص على نقلها للقراء : تتحدث (حكيمة) بنت الإمام محمد الجواد ، أخت الإمام علي الهادي عمة الإمام الحسن العسكري عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام ـ عن تلك المناسبة السعيدة فتقول : بعث إليَّ أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.
فقال : يا عمة اجعلي إفطارك عندنا هذه الليلة فإنها الليلة النصف من شعبان ... فإن اللَّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة ، وهو حجته في أرضه.
قالت : فقلت له : ومن أمه ؟
قال لي : نرجس.
قلت له : جعلني اللَّه فداك واللّه ما بها أثر !!
فقال الإمام : هو ما أقول لك.
قالت : فجئت فلما سلمت وجلست ، فجاءت نرجس تنزع خفي ! وقالت لي : يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت ؟
فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
قالت : فأنكرت قولي ، وقالت : ما هذا يا عمة ؟
فقلت لها : يا بنية إن اللَّه تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة ... فخجلت واستحيت.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 29 _
فلما فرغت من صلاة العشاء الآخرة ، أفطرت وأخذت مضجعي فلما أن كان في جوف الليلة ، قمت إلى الصلاة وفرغت من صلواتي وهي نائمة ليس بها حادثة !! ثم جلست معقبة ثم اضطجعت ، ثم انتبهت فزعة وهي نائمة.
وقامت نرجس وصلَّت نوافل الليل ثم نامت.
قالت حكيمة : وخرجت أتفقد الفجر ، فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان ، وهي نائمة ! فدخلني الشك ، فصاح بين أبو محمد عليه السلام من المجلس : لا تعجلي يا عمة فهناك الأمر قد قرب !
فجلست وقرأت ألم السجدة ويس ، فبينما أنا كذلك ، انتبهت نرجس فزعة ، فوثبت إليها وقلت له :
بسم اللَّه عليك ، أتحسين شيئا ً؟
قالت : نعم يا عمة.
قلت لها : اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.
قالت حكيمة : وأخذتني فترة ، وأخذتها هي أيضاً فترة ... وانتبهت بحس سيدي الإمام المنتظر !
فكشفت عنها فإذا أنا به عليه السلام ساجداً يتلقى الأرض بمساجده ، فضممته ، فإذا أنا به نظيف منظف !
فصاح بي أبو محمد الحسن عليه السلام : هلمي إليَّ بابني يا عمة.
فجئت به غليه ، فوضع يديه تحت إليته وظهره ووضع قدمه في صدره ، ثم أدلى لسانه في فيه ، وأَمَرَّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 30 _
وبعد أ أجرى عليه مراسيماً خاصة ، قال لعمته حكيمة : يا عمة اذهبي إلى أمه ثم ائتني به.
ثم قال : يا عمة إذا كان يوم السابع فأتينا.
قالت حكيمة : فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام وكشفت الستر لأتفقد المنتظر فلم أره.
فقلت : جعلت فداك ما فعل سيدي ؟
قال الإمام العسكري : يا عمة استودعناه الذي استودعت أم موسى ! (1)
وهكذا تمت ولادة الإمام القائد المنتظر في جو من السرية والهدوء والأمن النسبي الذي أتاحته التغيرات السياسية.
---------------------------
(1) منتخب الأثر ، ص 322.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 31 _
إعلام هادئ
وإذا كانت الظروف الأمنية تفرض اختفاء الإمام المهدي أثناء حمله ، وفي أول يوم من ولادته حتى عن عمته حكيمة التي شهدت لحظات الولادة ... فكيف إذن تطمئن الجماهير المؤمنة التي يشغلها التفكير في مستقبل الرسالة ويسودها القلق على مصير حركة التوعية والتغيير الخطيرة.
وهي تتلهف وتحترق شوقاً لقدوم الإمام الثاني عشر الذي أكدت عليه الأحاديث وبشرت به الرسالات السماوية.
لقد كان على الإمام الحسن العسكري عليه السلام أن يوفق بين الأمرين المهمين : كتمام الأمر وإخفائه عن السلطة وعيونها وإعلام الجماهير المؤمنة بولادة قائدها المنتظر.
لذلك فقد قام الإمام العسكري عليه السلام بدور الإعلام الهادئ الحكيم ... وذلك حسب الوسائل التالية :
1 ـ كلف أحد أصحابه الثقاة بتوزيع كمية كبيرة من الخبز واللحم على شخصيات بني هاشم ووجهاء الفئة المؤمنة وبطريقة عير مثيرة ، وذلك للاستبشار بمولد الإمام المنتظر.
فقد ورد عن أبي جعفر العمري قال : لما ولد السيد (إشارة إلى الإمام المهدي) قال أبو محمد العسكري : ابعثوا إلى أبي عمرو فبعث غليه فصار إلى الإمام.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 32 _
فقال له الإمام العسكري عليه السلام : اشتر عشرة آلاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم وفرقه حسبة على بني هاشم وعقّ عنه بكذا وكذا شاة (1).
وعن محمد بن إبراهيم الكوفي : أن أبا محمد الحسن العسكري بعث إلى بعض من سماه لي شاة مذبوحة وقال : هذه من عقيقة ابني محمد (2).
وعن الحسن بن المنذر عن حمزة بن أبي الفتح قال : كان يوماً جالساً فقال لي : البشارة ولد البارحة مولود لأبي محمد عليه السلام وأمر بكتمانه ، وأمر أن يعقّ عنه ثلاثمائة شاة ، فقلت : وما اسمه ؟ فقال : يسمى محمد (3).
ويتحدث إبراهيم صاحب الإمام العسكري عليه السلام فيقول : وجّه إليَّ مولاي أبو محمد بأربعة أكبش وكتب إليّ : (( بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، هذه عن ابني محمد المهدي ، وكُلْ هنيئاً وأطعم من وجدتَ من شيعتنا )) (4).
2 ـ أخبر بعض أصحابه الموثوقين شفوياً بولادة الإمام المهدي ، فقد أعلم أبا هاشم الجعفري ، كما أخبر أبا طاهر البلالي ، وصرّح أما أحمد بن إسحاق بن سعد بقوله : الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي ، أشبه الناس برسول اللَّه ، خُلقاً وخَلقاً ، يحفظه اللَّه في غيبته ، ويظهره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلماً (5).
---------------------------
(1) منتخب الأثر ، ص 341.
(2) المصدر نفسه ، ص 343.
(3) المصدر نفسه ، ص 343.
(4) الإمام المهدي ، ص 126.
(5) منتخب الأثر ، ص 342.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 33 _
3 ـ كتب عليه السلام رسائل إلى زعماء المجتمعات الإسلامية التي تدين بالولاء لأهل البيت يخبرهم بولادة الإمام المنتظر ، بمختلف بلدانهم ومناطقهم.
فقد كتب رسالة إلى موسى بن جعفر بن وهب البغدادي جاء فيها : (( زعموا أنهم يريدون قتلي فيقطعون هذا النسل ، وقد كذّب اللَّه عزّ وجلّ قولهم والحمد للّه )) (1).
وبعث عليه السلام رسالة إلى كبير علماء قم ـ إيران ـ أحمد بن إسحاق قال له فيها : (( ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً ، وعن جميع الناس مكتوماً ، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته ، أحببنا إعلامك ليَسُرَّك اللَّه به مثل ما سرَّنا به ، والسلام )) (2).
وعن علي بن بلال : خرج إليَّ مرة من أبي محمد الحسن بن علي العسكري قبل مضيه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده ، ثم أخرج إليَّ مرة قبل مضيه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف من بعده )) (3).
كما كتب عليه السلام إلى أمه يعلمها بولادة القائم (4).
---------------------------
(1) المصدر السابق ، ص 342.
(2) المصدر السابق ، ص 344.
(3) الإمام المهدي ، ص 127.
(4) المصدر السابق ، ص 127.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 34 _
4 ـ كان عليه السلام يغتنم فرصة تواجد خواص أتباعه أو يتعمد جمعهم في مجلسه ليعرّفهم على الإمام المهدي مباشرة ويؤكد لهم أنه هو إمامهم الثاني عشر.
يقول معاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب بن نوح ومحمد بن عثمان العمري ، قالوا : عرض علينا أبو محمد الحسن بن علبي عليه السلام ولده ونحن في منزله وكنا أربعين رجلاً ، فقال : هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم ، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم لتهلكوا أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا.
قالوا : فخرجنا من عنده فما مضت إلا أيام قلائل حتى مضى أبو محمد (1).
وعن عمر الأهوازي قال : أراني أبو محمد بابنه وقال : هذا إمامكم من بعدي (2).
ويتحدث أبو غانم الخادم عن أحد هذه المواقف فيقول : ولد لأبي محمد عليه السلام مولود فسمّاه محمداً ، فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال : هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم ، وهو القائم الذي تمتد عليه الأعناق بالانتظار ، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً (3).
وهكذا انتشر الخبر في صفوف الجماهير المؤمنة ليزرع الأمل في قلوبها بمستقبل الرسالة المشرق على يد الإمام الثاني عشر ، وليبدد غيوم القلق والتشكيك من نفوسها.
---------------------------
(1) منتخب الأثر ، ص 355.
(2) المصدر السابق ، ص 356.
(3) الإمام المهدي ، ص 132.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 35 _
عمره الآن 1143 سنة ؟
يتاح للإنسان أن يعيش في هذه الحياة فترة محدودة ، يغادر الدنيا بعدها ، وينتقل عبر جسر الموت إلى عالم آخر.
ومتوسط عمر الفترة التي يقضيها أي إنسان في هذه الدار الدنيا يتراوح ما بين ستين إلى سبعين سنة ، وفي بعض الحالات القليلة قد يتجاوزها إلى المائة سنة ، أما إذا تخطّى المائة سنة وبدأ يصارع عقود المائة الثانية فهذا يعتبر حالة استثنائية نادرة قد يسجلها التاريخ تحت عنوان : المعمرين.
بناءً على ذلك كيف صح لنا إذن أن نؤمن بوجود الإمام القائد المهدي الذي ولد سنة 255 هـ ونحن الآن في سنة 1397 هـ فيكون عمره الشريف 1143 سنة ، فهل يمكن للإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل ؟
في الواقع لكي نستطيع التعرف على إمكانية هذه الحياة الطويلة يجب أن نتساءل ونبحث عن سبب الموت ، فلماذا الموت ؟
(( هناك ما يقرب من مائتي إجابة عن هذا السؤال الخطير الذي كثيراً ما يطرح في المجالس العلمية ، منها : (فقدان الجسم لفاعليته) ، (انتهاء عملية الأجزاء التركيبية) ، (تجمد الأنسجة العصبية) ، (حلول المواد الزلالية القليلة الحركة ، محل الكثرة الحركة منها) ، (ضعف الأنسجة الرابطة) ، (انتشار سموم بكتريا الأمعاء في الجسم) ... وما إلى ذلك من الإجابات التي تتردد كثيراً ظاهرة الموت.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 36 _
إن القول بفقدان الجسم لفاعليته جذاب للعقل ... فإن الآلات الحديدية والأحذية والأقمشة كلها تفقد فاعليتها بعد أجل محدود ، فأجسامنا أيضاً تبلى وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء.
ولكن العلم الحديث لا يؤيدنا ، لأن المشاهدة العلمية للجسم الإنساني تؤكد : أنه ليس كالجلود الحيوانية والآلات الحديدية ، وليس كالجبال ... وإن أقرب شيء يمكن تشبيهه به هو ذلك (النهر) الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض ، فمن ذا الذي يستطيع القول بأن النهر الجاري يبلى ويهن ويعجز ؟ أبناء على هذا الأساس يعتقد الدكتور (( لنس بالنج )) (وهو حائز على جائزة نوبل للعلوم) : إن الإنسان أبدي إلى حد كبير ، نظرياً ، فإن خلايا جسمه تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائياً ! وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت ، ولا تزال علل هذه الظاهرة أسراراً تحير العلماء.
إن جسمنا هذا في تجدد دائم ، وإن المواد الزلالية التي توجد في خلايا دمائنا تتلف كذلك ثم تتجدد ، ومثلها جميع خلايا الجسم ، تموت وتحل مكانها خلايا جديدة ، اللهم إلا الخلايا العصبية ، وتفيد البحوث العلمية إن دم الإنسان يتجدد تجدداً كلياً خلال ما يقرب من أربع سنوات كما تتغير جميع ذرات الجسم الإنساني في بضع سنين ، ونخرج من هذا بأن الجسم الإنساني ليس كهيكل ، وإنما كالنهر الجاري ، أي أنه (( عمل مستمر )) ومن ثم تبطل جميع النظريات القائلة بأن علة الموت هي وهن الجسم أيام الطفولة أو الشباب قد خرجت من الجسم منذ زمن طويل ، ولا معنى لأن نجعلها سبب الموت ، فسبب الموت موجود في مكان آخر ، وليس في الأمعاء والأنسجة البدنية والقلب.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 37 _
ويدعي بعض العلماء أن الأنسجة العصبية هي سبب الموت لأنها تبقي في الجسم إلى آخر الحياة ولا تتجدد ، ولو صح هذا التفسير القائل بأن النظام العصبي هو نقطة الضعف في الجسم الإنساني فمن الممكن أن نزعم أن أي جسم خال من (النظام العصبي) لابد أن يحيا عمراً أطول من الأجسام ذات النظام العصبي ، ولكن المشاهدة العلمية لا تؤيدنا ، فإن هذا النظام لا يوجد مثلاً في الأشجار ، وبعضها يعيش لأطول مدة ، ولكن شجرة القمح التي لا يوجد بها هذا النظام العصبي لا تعيش أكثر من سنة ، وليس في كائن (( الأميبا )) أكثر من نصف ساعة ، ومقتضى هذا التفسير أيضاً أن تلك الحيوانات التي تعد من (نسل أعلى) والتي تتمتع بنظام عصبي أكمل وأجود ، لابد أن تعيش مدة أطول من تلك التي هي أحقر نسلاً وأضعف نظاماً ولكن الحقائق لا تؤيدنا في هذا أيضاً ، فإن السلحفاة والتمساح وسمكة (( باتيك )) أطول عمراً من أي حيوان آخر ، وكلها من النوع الثاني حقير النسل ضعيف النظام )) (1).
وما دام في جسم الإنسان استعداداً للبقاء والخلود ، وليس فيه أي مكمن مبدئياً للموت ، وما دام الإنسان أبدياً على الصعيد النظري والعلمي ، فلماذا يموت الإنسان السليم الذي لا يعترضه عارض خارجي يسبب له الموت والفناء ؟
إن الجواب الوحيد والواقعي هو أن الموت يأتي بقرار من اللَّه خالق الإنسان والذي يحدد للإنسان أجله وإقامته في الحياة {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا} (2).
---------------------------
(1) الإسلام يتحدى ، ص 80.
(2) سورة المنافقون ، الآية 11.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 38 _
ولما كانت مسألة الموت متعلقة بقرار اللَّه سبحانه وتعالى ومشيئته ، فإن حكمته هي التي تحدد مسافة عمر كل فرد حسب الحكمة والمصلحة.
فقد تقتضي حكمة اللَّه تعالى مصادرة حياة شخص وإنهاء إقامته في الدنيا وهو في عهد الطفولة أو ريعان الشباب ... وقد تقتضي حكمته جلّ وعلا استمرار حياة شخص ما لمئات السنين والأعوام ... كما يتحدث القرآن عن حياة نبي اللَّه نوح عليه السلام فيقول : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} (1) أي 950 سنة.
من هنا تبدو لنا قضية الإمام المهدي بعيدة عن الغرابة والاستنكار منسجمة مع النظرة العلمية مؤيدة بشواهد التاريخ.
وحتى لو لم تسعفنا النظرية العلمية بأدلة مقنعة ، أو لم يقدم لنا التاريخ نماذج مشابهة ، فيمكننا أن نلجأ في تفسير هذه الظاهرة (إطالة عمر الإمام المهدي) إلى قانون الإعجاز الإلهي والذي تنسحب أمامه جميع القوانين الطبيعية المألوفة ونترك له المجال ليتصرف بحرية لإنجاز أي قضية تتعلق بها حكمة السماء وتصطدم معها سنن الحياة المعروفة.
وهذه حقيقة لا يناقش فيها المؤمن بشرائع السماء فحماية إبراهيم الخليل من النار المضطرمة التي أُلقي في أتونها ، وولادة مريم بعيسى ، وتصلب ماء البحر لموسى لها قضايا تؤكد الكتب السماوية حدوثها مع تعارضها المبدئي للقوانين الثابتة.
---------------------------
(1) سورة العنكبوت ، الآية 14.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 39 _
إلى متى ؟
كلما أوجعت الإنسان سياط الظلم ، وأرهقته عهود الجور والطغيان ، وسلبت كرامته ظروف الفساد والانحراف ... شحّ بصره واشرأب عنقه تجاه الإمام المنقذ صاحب العصر والزمان ... وتوجه إليه من أعماق نفسه ، وأطلق آهات الاستغاثة ... ورفع أنات الشكوى وآهات الألم ... يستعجل ظهور الإمام المنقذ ...
وكلما شاهد المؤمن مظاهر الكفر والنفاق ، ورأى تكاتف أنظمة الجور على سحق مبادئ الإسلام ، وأزعجته
معاملة الكبت والإرهاب التي يعيشها المؤمنون المخلصون في ظل سلطات الانحراف ... كلما حدث ذلك التجأ المؤمن إلى اللَّه يدعوه ويطلب إليه الإسراع في خروج أمل الإنسانية وإمام الحق صاحب
العصر والزمان ... فتارة تكون آهات الاستغاثة على شكل دعاء يتوجه به المؤمن إلى ربه الحكيم جلّ وعلا لينجز وعده بإظهار دين الحق والعدل وخروج إمام العصر والزمن : (( اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا ـ صلواتك عليه وعلى آله ـ وغيبة إمامنا ، وكثرة عدونا ، وقلة عددنا ، وشدة الفتن بنا ، وتظاهر الزمان علينا ، فصلِّ على محمد وآله محمد ، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله ، وضرّ تكشفه ، ونصر تعزه ، وسلطان حق تظهره ، ورحمة منك تجللناها ، وعافية منك تلبسناها برحمتك يا ارحم الراحمين )) (1).
---------------------------
(1) دعاء الافتتاح.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 40 _
وفي دعاء آخر تمتزج فيه مآسي الواقع بآمال المستقبل المشرق ويختلط فيه الطلب من اللَّه بالاستثارة المباشرة للإمام المنتظر ...
(( هل إليك يا بن أحمد سبيل فتلقى ؟
هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى ؟
متى نرد مناهلك الروية فنروى ؟
متى ننتجع من عذب مائك فقد طال الصدى ؟
متى نغاديك ونراوحك فتقرّ منا عيوننا ؟
متى ترانا ونراك وقد نشرت لواء النصر ؟
أترانا نحف بك وأنت تؤم الملأ وقد ملأت الأرض عدلاً وأذقت أعداءك هواناً وعقاباً ، وأبرت العتاة وجحدة الحق وقطعت دابر المتكبرين واجتثثت أصول الظالمين ، ونحن نقول الحمد للّه رب العالمين ...
اللهم أنت كشّاف الكرب والبلوى ، وإليك أستعدي فعندك العدوى ، وأنت رب الآخرة والأولى ، فأغث يا غياث المستغيثين عبيدك المبتلى ، وأره سيده يا شديد القوى ، وأزل عنه به الأسى والجوى ، وبرّد غليله يا من على العرش استوى ، ومن إليه الرجعى والمنتهى.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 41 _
اللهم ونحن عبيدك التائقون إلى وليك ، المذكر بك وبنبيك خلقته لنا عصمة وملاذاً ، وأقمته قواماً ومعاذاً وجعلته للمؤمنين منا إماماً ، فبلغه منا تحية وسلاماً )) (1).
وتارة تنفجر أحاسيس الألم ، في قلب المؤمن ، فتتدفق في قنوات الشعر الحماسي المثير ، الذي يتقاطر شوقاً وتلهفاً لظهور دولة العدل والأمان التي ينتقم اللَّه فيها من جبابرة الأرض ، وطغاة التاريخ ويمن بها على المستضعفين والمحرومين والمؤمنين ، فهذا أحدهم يقول :
(( يا صاحب العصر أدركنا فليس لنا وردٌ هنيءٌ ولا عيش لنا رغد طالت علينا ليالي الانتظار فهل
يا بن الزكي لليل الانتظار غد ؟
فاكحل بطلعتك الغرا منا مقلاً يكاد يأتي على إنسانها الرمد ها نحن مرمى لنبل النائبات وهل
يغني اصطبار وهي من درعة الزرد كم ذا يؤلف شمل الظالمين لكم وشملكم بيدي أعدائك بدد فانهض فدتك بقايا أنفس ظفرت بها النوائب لما خانها الجلد (2)
---------------------------
(1) دعاء الندبة.
(2) للسيد رضا الهندي.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 42 _
وهذا آخر يستغيث الإمام المهدي ويستحثه الخروج باسم العدالة والدين والإنسانية فقد حزّ في قلبه أن يتحكم في مصير الشعوب مجموعة من الخمارين الذين سلبوا حرية رعاياهم وكرامتهم :
(( يا صاحب العصر أترضى رحى عصارة الخمر علينا تدار قد ذهب العدل وركن الهدى قد هدّ والجور على الدين جار أغث رعاك اللَّه من ناصر رعيةً ضاق عليها القفار فهاك قلبها قلوب الورى إذا بها الوجد من الانتظار
متى تسل البيض من غمدها وتشرع السمر وتحمى الذما ؟ )) (1)
---------------------------
(1) للسيد صالح الحلي.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 43 _
وتارة أخرى : يعرب الإنسان عن تضايقه من واقع الطغيان والانحراف ، وتلهفه لحياة السعادة والأمان بتساؤله عن سبب تأخر ظهور الإمام المهدي إلى آخر الزمان ؟ فلماذا لم يخرج حتى الآن ؟ أما يكفي ما عاشته الإنسانية من مشاكل وآلام عبر التاريخ ؟ أما آن بوضع حد لمعاناة هذا الإنسان المحروم ؟
وسنحاول الآن الإجابة على هذه الأسئلة الحائرة التي تنبع من ضمير الإنسان وتفرضها معاناته.
(1) إنما خلق اللَّه الحياة لتكون مسرح ابتلاء ، وقاعة امتحان للإنسان عن طريق احتدام معركة الصداع بين الخير والشر ، بين الحق والباطل ، يقول تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (1).
{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (2).
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (3).
---------------------------
(1) سورة الملك ، الآية 1 ـ 2.
(2) سورة الإنسان ، الآية 2 ـ 3.
(3) سورة الأنبياء ، الآية 35.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 44 _
وما دامت الحياة دار ابتلاء ، وامتحان ، وميدان معركة وصراع ، فقد منح اللَّه الإنسان حريته الكاملة في اختيار الجبهة التي يناضل ضمن خطوطها في ميدان الحياة ... واقتصر دور السماء على توجيه الإنسان وتوعيته بحقيقة الجبهتين العريضتين في الحياة ... ودعوة الإنسان للانضمام إلى جبهة الحق ومقاومة إغراءات الباطل وجحافل الشر.
ودارت رحى المعركة الخطيرة بين دواعي الخير ونوازع الشر في الحياة منذ نعومة أظفار الإنسان وبداية وجوده ولا تزال مستمرة ... تمر على كل جيل من أجيال البشرية فتفرز عناصره وتكشف عن اتجاهات أفرادنا ، وتميز بين رواد الحق وأتباع الباطل ... وقد شاء اللَّه تعالى أن تكون المعركة أبدية ترافق استمرار الإنسان في الحياة {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (1) ، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (2) من جميع الأجيال وكل العصور.
وقد كشفت هذه المعركة الدائمة عن سقوط الأغلبية الساحقة من الناس في أوحال الباطل ومزالق الشر ، وثبوت أقلية مؤمنة صمدت في مواقع الخير ، وأصرّت على مواقف الحق ... لذلك ان النصر غالباً وفي أكثر فترات التاريخ ، ومناطقه حليف جبهة الباطل وعصابات الشر..
---------------------------
(1) سورة الأنفال ، الآية 37.
(2) سورة العنكبوت ، الآية 3.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 45 _
وقد توعد اللَّه الباطل بهزيمة نكراء ، ينتقم بها للحق وأتباعه من الباطل وفلوله ، وذلك في معركة حاسمة لا تبقى للباطل بعدها باقية ... ولكن هل يصح أن يكون توقيت تلك المعركة الحاسمة أثناء مسيرة الحياة وفي وسط طريقها ؟
كلا! لأن ذلك يعني حينئذٍ إنهاء معركة الصراع وتوقف فرصة الابتلاء والامتحان ... حينما يتوارى ظلام الجور والكفر في العالم وتشرق شمس الهداية والخير على الحياة ... حينما يولي الظالم مدحوراً لا يجد له مقراً في الأرض التي سيملؤها القسط والعدل.
إذن فلابد أن تؤجل تلك المعركة الحاسمة الفاصلة إلى أواخر مسيرة الحياة وخاتمة مطاف الدنيا ... عند اقتراب الساعة وقبيل مجيء القيامة ... وقد اختارت مشيئة اللَّه الأمام المهدي ليكون قائد تلك المعركة الحاسمة ... وبطل تلك الجولة الأخيرة في ميدان الصراع بين الحق والباطل.
فكان لابد وأن يتأخر خروجه إلى نهاية الحياة ليتاح للإنسان أن يمارس امتحانه بظروف طبيعية وبحريته الكاملة.
لذلك تحرص أكثر الأحاديث الإسلامية التي تتحدث عن ظهوره عليه السلام بالتأكيد على أن ظهوره لا يكون إلا في آخر الزمان ... وآخر يوم من الدنيا ... وقبيل قيام الساعة كقوله صلى اللَّه عليه وآله : (( أبشروا بالمهدي فإنه يأتي في آخر الزمان على شدة وزلزال يسع اللَّه له الأرض عدلاً وقسطاً )) (1).
---------------------------
(29) الإمام المهدي ، ص 104.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 46 _
(( ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول للَّه ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي ...)) (1).
(( لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت قبله جوراً )) (2).
(2) المشكلة الرئيسية في تاريخ الإنسان هي مشكلة إيجاد النظام الأفضل للحياة الاجتماعية ... فالإنسان إنما كان يعاني من اعتداء بعضه على بعض ، لتعارض المصالح وتناقض الحقوق ، وضياع الحدود فيما بين أفراد المجتمع البشري.
ولكن هل يستطيع الإنسان أن يوفر لنفسه النظام الصالح للحياة ، والذي يضمن لكل فرد حقوقه ويحمي مصالحه ويرسم له حدوده ؟
لقد أثبت الواقع الإنساني بتجاربه التاريخية الكثير عجز الإنسان عن توفير النظام الاجتماعي الأصلح لحياته.
---------------------------
(1) الإمام المهدي ، ص 69.
(2) المصدر السابق ، ص 106.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 47 _
وذلك لمحدودية معارف الإنسان وقوة أنانيته وشهواته واختلاف مداركه ومستوياته ، بيد أن السماء لم تترك الإنسان يتخبط في صحراء الجهل والظلام ، بل تحملت عنه المهمة وكفته المسؤولية فأعدت له خير نظام يوفر له السعادة ، ويعالج كل قضاياه ومشاكله بأفضل طريقة وخير أسلوب.
غير أن الإنسان قد ضلله الغرور ، واستهوته الإغراءات والشهوات ، فلم يخضع لرسالة السماء والنظام الأفضل الذي وضعته لحياته ، وطفق يبحث يميناً وشمالاً ، ويفتش شرقاً وغرباً ، ويحاول بوحي من غروره وشهواته أن يوفر لنفسه بديلاً آخر يغنيه عن رسالة السماء ويضمن له السعادة بشكل أفضل !
ورغم المآسي التي أعقبت تجاربه القاسية والمضاعفات التي أنتجتها محاولاته الفاشلة ، إلا أنه لا يزال سادراً في غيه ممعناً في غروره وتمرده ... ظاناً أنه يمكنه العثور على نظام أفضل للحياة الاجتماعية بعيداً عن تعاليم السماء ورسالتها.
ولابد وأن يتيح اللَّه للإنسان الفرصة الكاملة ليجرب كل محاولاته في هذا المجال ، وليطبق كل أفكاره وأوهامه.
إلى أن يصل الإنسان إلى طريق مسدود ويستسلم لليأس ، ويفقد الأمل ويعترف على نفسه بالعجز والفشل ، حينئذٍ تكون الأجواء مهيأة جداً لظهور شريعة الإسلام وتطبيق رسالة السماء وذلك على يد الإمام القائد المنتظر.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 48 _
من هذا المنطلق كان من الطبيعي أن يتأخر خروج الإمام المهدي إلى أن يستفيد الإنسان كل ما في جعبته من الأطروحات والإيديولوجيات والأنظمة والقوانين ، و {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} (1).
هنالك يخرج الإمام القائد ليسعد الإنسانية بتطبيق شريعة اللَّه وتنفيذ رسالته.
ولهذا الأمر يشير الإمام الصادق سلام اللَّه عليه في قوله : (( ما يكون هذا الأمر ـ يعني دولة المهدي ـ حتى لا يبقى صنف من الناس إلاّ وقد ولوا من الناس ، حتى لا يقول قائل : إنا لو ولينا لعدلنا ، ثم يقوم القائم بالحق والعدل )) (2).
وفي حديث آخر قال عليه السلام : (( إن دولتنا آخر الدول ، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا ، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا : لو ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء )) (3).
---------------------------
(1) سورة التوبة ، الآية 118.
(2) تاريخ الغيبة الكبرى ، ص 389.
(3) المصدر السابق.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 49 _
(3) أيُّ مهمة تنتظر الإمام المهدي عند خروجه ؟ إنها مهمة خطيرة لم يتحمل نقلها ولم يستوعبها تاريخ الإنسان على امتداده وسعته ، ولم يتأت لها التحقيق في تاريخ البشرية.
إنها إقامة دولة عالمية تخضع لها جميع الشعوب والمجتمعات حيث يصبح البشر كلهم رعية لقائد واحدة ، وفي ظل حكومة مركزية واحدة ، ويسود العالم نظام واحد هو النظام الإسلامي.
يقول الإمام الصادق عليه السلام وهو يتحدث عن عالمية دولة الإمام المنتظر : (( إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها بشهادة لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه )) (1).
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام : (( المهدي وأصحابه يُمَلِّكهم اللَّه مشارق الأرض ومغاربها ، ويظهر الدين ويميت اللَّه عزّ وجلّ به وبأصحابه البدع والباطل ، كما أمات السفهة الحق حتى لا يرى أثر من الظلم )) (2).
وقد مرت علينا بعض الأحاديث التي تؤكد على أنه يملأ الأرض ـ كلها ـ قسطاً وعدلاً ، ولكن كيف يستطيع قائد واحد أن يتحمل مسؤولية رعاية جميع أقطار العالم وشعوبه ومجتمعاته وأفراده ؟ وهل تتمكن حكومة واحدة أن تلبي متطلبات وحوائج كل أفراد العالم ؟
---------------------------
(1) في انتظار الإمام ، ص 66.
(2) منتخب الأثر ، ص 47.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 50 _
وكيف يمكن تطبيق شريعة واحدة على عالم مختلف القوميات والعادات والمشاكل ؟
صحيح أن خضوع العالم وتسلميه سيجعل المهمة سهلة ، ولكن هناك مشاكل طبيعية يجب أن نحسب لها حساباً في تصورنا لذلك المستقبل السعيد ... منها اختلاف اللغات وبعد المسافات ، وكثرة متطلبات الحياة ، وصعوبة اتصال الجميع بقائد واحدة وتعقيد قضايا الحياة ... وقد يبادر البعض إلى إلقاء المسؤولية على الإعجاز ، فالإمام مؤيد من قبل اللَّه ويمكنه أن يستعين بالمعجزة لعلاج كل هذه المشاكل! ولكنها حينئذ ستكون دولة يحكمها الغيب ، وتديرها المعجزة ... مع أن الغيب لا يتدخل في قضايا الحياة إلا عبر السنن والقوانين الطبيعية اللهم إلا في بعض الحالات الاستثنائية المؤقتة حيث يحدث هناك التدخل المباشر وتكون المعجزة.
أما أن تتحول المعجزة إلى قانون يحكم العالم كله ، فهذا خلاف سنة اللَّه التي لن تجد لها تحويلاً ولن تجد لها تبديلاً.
إذن فيجب أن نعتقد أن الدولة ستدار وتحكم بشكل مركزي وطبيعي ـ وليس عن طريق المعجز ـ من قبل الإمام المهدي ، وإذا كان كذلك فيجب أن تتوفر كل الوسائل اللازمة التي تمكّن حكومة واحدة من إدارة العالم كله ... والنصوص الإسلامية التي بين أيدينا تلمح إلى توفر هذه الوسائل في عصر الإمام المهدي ، فالصعوبات كلها ستكون سهلة ، وثروات الكون تكتشف وتتفجر جميعها ، والمسافات ستصبح قريبة وتنتهي مشكلة المواصلات ، والاتصال بالإمام أو بأي مسؤول في حكومته أمر ممكن لتوفر الوسائل المساعدة.
يقول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام : (( الثاني عشر منا ، يسهِّل اللَّه تعالى له كل عسر ، ويذلل كل صعب ، ويظهر له كنوز الأرض ، ويقرّب عليه كل بعيد )) (1).
---------------------------
(1) منتخب الأثر ، ص 239.
الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب _ 51 _
وعن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن أبيه سلام اللَّه عليه : (( يبعث اللَّه رجلاً في آخر الزمان ، وكلب من الدهر ، وجهل من الناس ، يؤيده اللَّه بملائكة ويعصم أنصاره ، وينصره بآياته ، ويظهره على أهل الأرض حتى يدينوا طوعاً أو كرهاً ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً وبرهاناً ، يدين له عرض البلاد
وطولها ، لا يبقى كافر إلا آمن ، ولا طالح إلا صلح ، وتصطلح في ملكه السباع ، وتخرج الأرض نبتها ، وتنزل
السماء بركتها ، وتظهر له الكنوز )) (1).
وعن الإمام الرضا عليه السلام : (( هو الذي ستطوى له الأرض )) (2).
أما الإمام الصادق عليه فيقول : (( إن قائمنا إذا قام مدّ اللَّه لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم ، حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد ، يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه )) (3).
وقال أيضاً : (( إن المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب ، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق )) (4).
إن هذه الظروف المساعدة على نجاح مهمة الإمام المهدي إذا كانت لا تعتمد كلها على المعجزة ، ويكون تحققها بشكل طبيعي فلابد وأن تكون بفضل الخبرات والمكاسب البشرية التي تمكن الإنسان من توفير تلك الوسائل.
---------------------------
(1) المصدر السابق ، ص 487.
(2) المصدر السابق ، ص 220.
(3) المصدر السابق ، ص 483.
(4) المصدر السابق ، ص 483.
|