وقالت طائفة بتحديد القدر المحرم وهؤلاء انقسموا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : لا تحرم المصة ولا المصتان وتحرم الثلاث وما فوقها وبه قال ابو عبيدة ، وابو ثور .
وقالت طائفة : المحرم خمس رضعات وبه قال الشافعي .
وقالت طائفة : عشر رضعات والسبب في اختلافهم في هذه المسألة معارضة عموم الكتاب للاحاديث الواردة في التحديد ، ومعارضة الاحاديث في ذلك بعضها بعضاً .
فأما عموم الكتاب فقوله تعالى :
( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) الآية وهذا يقتضي ما ينطبق عليه اسم الرضاع .
والاحاديث المتعارضة في ذلك راجعة الى حديثين في المعنى احدهما حديث عائشة وما في معناه انه قال : لا تحرم المصة ولا المصتان او الرضعة والرضعتان الى ان قال : والحديث الثاني حديث سهلة في سالم انه قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لها ارضعيه خمسة رضعات وحديث عائشة في هذا المعنى ايضاً
(1) .
ونقل الشيخ الطوسي ( قده ) في الخلاف مما يقرب نقل ابن رشد فراجع
(2) .
|
(1) بداية المجتهد 2 : 27 .
(2) الخلاف 5 : 92 ط مؤسسة النشر الاسلامي .
|
الرضاع في الفقه الاسلامي
ـ 37 ـ
اذا عرفت ذلك فالكلام يقع في مقامين : الاول : في اطلاق الآية الشريفة ، والثانية : في الروايات الدالة على التحديد .
اما المقام الاول: وهو التمسك بالاطلاق بالدعوى انه يكفي في صدق عنوان الرضاعة تحقق رضاعة واحدة كما هو الحال في صدق كل طبيعة بوجود فرد من افرادها .
ففيه اولاً : ان الآية واردة في مقام بيان تحريم بالرضاعة وليست في مقام بيان الكمية المعتبرة فيه ، وتقدم ان الاخذ بالاطلاق لا يمكن الا من الجهة الّتي ورد الدليل في مقام البيان منها دون سائر الجهات .
وثانياً : ان الاطلاق لو تم فلا بد من رفع اليد عنه فإنه بدائي يرتفع بعد التأمل فيما يناسب الحكم والموضوع ، فإن الام بحسب المفهوم عرفاً ولغة هو الاصل وما يتولد منه الشيء كما تقدمت الاشارة اليه ، فالرضاع ان لم يبلغ الى حد ايجاد الدم في الطفل وانبات اللحم وشد العظم لا يصدق عنوان الامومة الوارد في قوله تعالى
( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) وكثير من الاطلاقات ترفع اليد عنها بموجب المناسبات ، فمن باب المثال ورد في الاخبار في باب المطهرات ما اصابه المطر فقد طهر
(1) .
|
(1) الوسائل 1 : باب 6 من ابواب الماء المطلق .
|
الرضاع في الفقه الاسلامي
ـ 38 ـ
والفقهاء هم قد ذهبوا الى انه لا يكفي بمجرد اصابة المطر ولو بقطرات ، بل يعتبر اصابة مقدار ما يوجب الاستيعاب والجري من جزء من المتنجس الى جزء آخر منه ، مع ان الاطلاق شامل ، وليس ذلك الاّ بمناسبة ان زوال النجاسة يحتاج الى جريان الماء في الجملة ، فان المقصود هو عنوان الغسل والتطهير ، وهو لا يتحقق بمجرد صرف الوجود من الاصابة .
وثالثاً : لو تم اطلاق مقامي في مورد البحث فلا بد من رفع اليد عنه ، وذلك لورود روايات تدل على التحديد ، لا يبعد بلوغها حد الاستفاضة حسب ما وردت في المصادر من السنة والشيعة .
واما المقام الثاني : ففي ذكر الروايات الواردة في مقام التحديد ، وهي على انواع :
النوع الاول: ما يدل على اعتبار انبات اللحم وشد العظم مثل صحيح حماد بن عثمان عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لا يحرم من الرضاع الاّ ما انبت اللحم والدم
(1) .
ومثل صحيح عبد الله بن سنان قال : سمعت ابا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : لا يحرم من الرضاع الاّ ما انبت اللحم وشد العظم
(2) .
|
(1) الوسائل 14 : باب 3 من ابواب ما يحرم بالرضاع ج 1 .
(2) الوسائل 14 : باب 3 من ابواب ما يحرم بالرضاع ج 2 .
|
الرضاع في الفقه الاسلامي
ـ 39 ـ
ومثل صحيح علي بن رئاب عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : قلت ما يحرم من الرضاع ؟ قال : ما انبت اللحم وشد العظم ، قلت : فيحرم عشر رضعات ؟ قال : لا ، لانه لا تنبت اللحم ولا تشد العظم عشر رضعات
(1) .
ومثل معتبرة عبيد بن زرارة قال : قلت لابي عبد الله انا اهل بيت كبير فربما كان الفرح والحزن والذي يجتمع في الرجال والنساء فربما استخفت المرأة ان تكشف رأسها عند الرجل الذي بينهما وبينه رضاع ، وربما استخف الرجل ان ينظر الى ذلك فما الذي يحرم من الرضاع ؟
فقال : ما انبت اللحم والدم .
فقلت : وما الذي ينبت اللحم والدم ؟
فقال : كان يقال عشر رضعات .
فقلت : هل تحرم عشر رضعات ؟
فقال: دع ذا
(2) .
|
(1) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ج 2 .
(2) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ج 18 .
|
الرضاع في الفقه الاسلامي
ـ 40 ـ
النوع الثاني : ما يدل على الارضاع يوماً وليلة او خمس عشرة رضعة ، مثل معتبرة زياد بن سوقة قال : قلت لابي جعفر ( عليه السلام ) : هل للرضاع حد يأخذ به ؟ فقال : لا يحرم الرضاع اقل من يوم وليلة ، او خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينهما رضعة إمرأة غيرها ، فلو ان امرأة ارضعت غلاماً او جارية عشر رضعات لم يحرم نكاحهما
(1) ، وبهذا المضمون مرسل المقنع قال : وسأل الصادق ( عليه السلام ) هل لذلك حد ؟ فقال : لا يحرم من الرضاع الاّ رضاع يوم وليلة ، او خمسة عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن
(2) .
النوع الثالث : ما يدل على كفاية عشر رضعات مثل رواية فضيل بن يسار عن ابي جعفر ( عليه السلام ) قال : لا يحرم من الرضاع الاّ المخبورة او خادم او ظئر ، ثم يرضع عشر رضعات يروى الصبي وينام
(3) .
قال الشيخ يوسف البحراني ( قده ) : الاول : لا يخفى ان لفظ المجبورة في رواية الفضيل بن يسار لا يخلو من اشتباه ، ونقل في الوافي ان المجبورة في بعض نسخ الفقيه بالمهملة قال : وكأن الجيم هو الاصح كما في نسخة اخرى منه .
|
(1) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ج 1 .
(2) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ج 14 .
(3) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ج 11 .
|
الرضاع في الفقه الاسلامي
ـ 41 ـ
وقال في كتاب مجمع البحرين في مادة حبر بالحاء المهملة بعد ذكر الحديث : وقد اضطربت النسخ في ذلك ، ففي بعضها بالحاء المهملة كما ذكرناه ، وفي بعضها بالجيم كما تقدم ، وفي بعضها بالخاء المعجمة ، ولعله الصواب ، ويكون المخبور بمعنى المعلوم انتهى
(1) .
وقال
(2) في مادة جبر بالجيم والباء الموحدة بعد نقل الخبر المذكور : قال في شرح الشرائع : المجبور وجدتها مضبوطة بخط الصدوق ( رحمه الله ) بالجيم والباء في كتابه المقنع فانه عندي بخطه انتهى
(3) .
اقول : الظاهر انه اراد بشرح الشرائع هو كتاب المسالك الاّ اني لم اقف عليه في الكتاب المذكور ، ثم اني وجدت في بعض الفوائد المنسوبة الى الشيخ الفاضل الفقيه الاوحد الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي ( قدس الله روحيهما ) ما صورته : المجبورة في الجيم فكان كلاً منهما باعتبار المحبة ، او الاجرة ، او الرقية ، مجبور في الارضاع الدائمي
(4) .
|
(1) اي كلام الوافي .
(2) اي كلام الوافي .
(3) اي كلام الوافي .
(4) الحدائق 23 : 353 ط مؤسسة النشر الاسلامي .
|
الرضاع في الفقه الاسلامي
ـ 42 ـ
ومثل رواية عمر بن يزيد قال : سألت ابا عبد الله ( عليه السلام ) عن الغلام يرضع الرضعة والثنتين ، فقال : لا يحرم فعددت عليه حتى اكملت عشر رضعات ، فقال : اذا كانت متفرقة فلا
(1) .
تدل بالمفهوم على كفاية عشر رضعات اذا كانت متواليات .
ومثل صحيح مسعدة بن زياد العبدي عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لا يحرم من الرضاع الاّ ما شد العظم وانبت اللحم .
فاما الرضعة والثنتان والثلاث حتى بلغ العشر اذا كن متفرقات فلا بأس
(2) .
يدل بالمفهوم على كفاية عشر رضعات متواليات .
النوع الرابع : ما يدل على كفاية طبيعي الرضاع ، مثل رواية زيد بن علي عن آبائه عن علي ( عليه السلام ) قال : الرضعة الواحدة كالمئة رضعة لا تحل له ابداً
(3) .
ومثل رواية علي بن مهزيار عن ابي الحسن ( عليه السلام ) انه كتب اليه يسأله عما يحرم من الرضاع ، فكتب ( عليه السلام ) قليلة وكثيرة حرام
(4) .
|
(1) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ح 5 .
(2) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ح 9 .
(3) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ح 12 .
(4) الوسائل 14 : باب 2 من ابواب ما يحرم بالرضاع ح 10 .
|
الرضاع في الفقه الاسلامي
ـ 43 ـ
النوع الخامس : ما يدل على اعتبار خمسة عشر يوماً ، او سنة او حولين ، التي لا بد من حملها على بعض الوجوه ، ولم يعمل بها احد ، ولذا لم نرى وجهاً لذكرها .
هذا معظم ما روته الخاصة عن أئمة اهل البيت ( عليهم السلام ) في مقام تحديد الرضاع المحرم .
وأما ما رواه الجمهور في مقام التحديد : فمنه حديث سهلة في سالم انه قال لها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ارضعيه خمس رضعات ، وحديث عائشة في هذا المعنى ايضاً ، قالت كان في ما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهن مما يقرأ من القرآن فمن رجح ظاهر القرآن على هذه الاحاديث قال : تحرم المصة والمصتان ، ومن جعل الاحاديث مفسرة للآية وجمع بينها وبين الآية ورجح مفهوم دليل الخطاب في قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تحرم المصة ولا المصتان على مفهوم دليل الخطاب في حديث سالم قال : الثلاثة فما فوقها هي التي تحرّم وذلك ان دليل الخطاب في قوله لا تحرم المصة ولا المصتان يقتضي ان ما فوقها يحرم ، ودليل الخطاب في قوله : ارضعيه خمس رضعات يقتضي ان ما دونها لا يحرم والنظر في ترجيح احد دليلي الخطاب
(1) .
|
(1) بداية المجتهد 2 : 27 ط دار الفكر .
|