وقام خطيبا بالمدينة حين ولي فقال : يا معشر المهاجرين والانصار يا معشر قريش اعلموا والله أني لا أرزؤكم من فيئكم شيئا ما قام لي عذق بيثرب (4) ، أفتروني مانعا نفسي و ولدي ومعطيكم ، ولاسوين بين الاسود والاحمر ؟ فقام إليه عقيل بن أبي طالب فقال : لتجعلني وأسودا من سودان المدينة واحدا ؟ فقال له : اجلس رحمك الله تعالى أما كان ههنا من يتكلم غيرك ؟ وما فضلك عليهم إلا بسابقة أو تقوى. ------------------------------------ (1) الدهر : 4 إلى 21. (2) الجنى : ما يجنى من الثمرة من جنى يجنى فهو جان. وخيار الشئ افضله. (3) اليعسوب : الرئيس الكبير ، يقال : هو يعسوب قومه اى رئيسهم. (4) رزأه ماله ـ كجعله ـ رزءا : اصاب منه شيئا ، والعذق ـ بالكسر ـ : كل غصن له شعب. الاختصاص![]() مقلى في بيته فنهض وهو يقول : في ذمة علي بن أبي طالب مقلى الكراكر ، قال : ففزع عياله وقالوا : يا أمير المؤمنين إنها امرأتك فلانة نحرت جزورا في حيها فأخذلها نصيب منها فأهدى أهلها إليها ، قال : فكلوا هنيئا مريئا ، قال : فيقال : إنه لم يشتك ألما إلا شكوى الموت وإنما خاف أن يكون هدية من بعض الرعية وقبول الهدية لوالي المسلمين خيانة للمسلمين. قال : قيل : فالصرامة ؟ قال : انصرف من حربه فعسكر في النخيلة ، وانصرف الناس إلى منازلهم واستأذنوه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين كلت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا (1) فإذن لنا ننصرف فنعيد بأحسن من عدتنا ، وأقام هو بالنخيلة وقال : إن صاحب الحرب الارق (2) الذي لا يتوجد من سهر ليله وظمأ نهاره ولا فقد نسائه وأولاده ، فلا الذي انصرف فعاد فرجع إليه ، ولا الذي أقام فثبت معه في عسكره أقام ، فملا رأى ذلك دخل الكوفة فصعد المنبر فقال : لله أنتم ! ما أنتم إلا أسد الشرى (3) في الدعة ، وثعالب رواغة ، ما أنتم بركن يصال به (4) ولا زوافر عز يفتقر إليها ، أيها المجتمعة أبدانهم والمختلفة أهواؤهم ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم (5) ، مع أي إمام بعدي تقاتلون ------------------------------------ (1) كان ذلك بعد منصرفه عليه السلام من نهروان ، والاسنة : جمع سنان. و ( نصلت اسنة رماحنا ) اى زال اثرها. (2) الارق : السهر بالليل ، وفى النهاية : رجل ـ ارق ككتف ـ : إذا سهر لعلة فان كان السهر من عادته قيل : ارق بضم الهمزة والراء ـ. (3) الشرى : موضع تنسب اليه الاسد ، وقيل : هو شرى الفرات وناحيته وبه غياض وآجام و مأسدة. والاسد : جمع أسد، والدعة : خفض العيش اى في وقت الدعة والخفض ، والرواغ : كثير الخداع والمكر ، يقال : هو ثعلب رواغ وهم ثعالب رواغة. (4) في النهج ( بركن يمال بكم ) اى يمال إلى العدو بقوتكم ، وفى تاريخ الطبرى والامامة والسياسة ( بركن يصال بكم ) ، وقوله ( زوافر عز يفتقر اليها ) في الطبرى والامامة ( ذى عز يعتصم إليه ). والزوافر جمع زافرة وهى من البناء : ركنه ومن الرجل : عشيرته وانصاره وخاصته وفى بعض خطب النهج ( ولا زوافر عز يعتصم اليها ). (5) ( المختلفة اهواؤهم ) في البيان والتبيين للجاحظ ج 2 ص 56 ( المختلفة اهواؤكم ) وهذا على الالتفات. يعنى المختلفة اراؤهم وميولهم وما تميل اليه قلوبهم. والعزة في الاصل الغلبة و القوة واسناد المنفى إلى الدعوة توسع والمراد ذلة من دعاهم لعدم الاجابة. وقوله : ) قاساكم ( في بعض النسخ [ ماشاكم ]. الاختصاص
![]() به ولقد سمعوه يوما وهو يقول : والله ما أتيتكم اختيارا ولكن أتيتكم سوقا (1) ، أما والله لتصيرن بعدي سبايا سبايا يغيرونكم ويتغاير بكم ، أما والله إن من ورائكم الادبر ، لا تبقى ولا تذر ، والنهاس الفراس القتال الجموح (2) ، يتوارثكم منهم عدة يستخرجون كنوزكم من حجالكم ليس الآخر بأرأف بكم من الاول ، ثم يهلك بينكم دينكم و دنياكم ، والله لقد بلغني أنكم تقولون : إني أكذب فعلى من أكذب أعلى الله ؟ ! فأنا أول من آمن بالله أم على رسوله ؟ ! فأنا أول من صدق به ، كلا والله أيها اللهجة عمتكم شمسها (3) ولم تكونوا من أهلها ، وويل لامه ، كيلا بغير ثمن ، لو أن له وعاء (4) ولتعلمن نبأه بعد حين ، إني لو حملتكم على المكروه الذي جعل الله عاقبته خيرا إذا كان فيه وله ، فإن استقمتم هديتم ، وإن تعوجتم أقمتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى التي لا تعلى ، ولكن بمن ؟ وإلى من ؟ ، اداويكم بكم واعاتبكم بكم (5) ، كناقش الشوكة بالشوكة أن ضلعها معها (6) ، يا ليت لي من بعد قومي قوما ، وليت أن أسبق يومي.
------------------------------------ (1) في بعض نسخ النهج ( والله ما اتيتكم اختيارا ولا جئت اليكم شوقا ). (2) النهاس : الاسد والذئب وبمعنى النهاش ، والفراس : الاسد، والجموح معرب (جموش) ، وفى الاحتجاج والارشاد ( النهاس الفراس الجموع المنوع ). (3) كذا وفى النهج [ كلا والله ولكنها لهجة غبتم عنها ]، وفى الاحتجاج للطبرسى ( كلا ولكنها لهجة خدعة كنتم عنها اغنياء )، وهكذا في الارشاد ولعل ما في الكتاب تصحيف. (4) في النهج ( ويلمه كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء ) ويلمه مخفف ( ويل لامه ). (5) في النهج ( اريد أن اداوى بكم وانتم دائى ). (6) الضلع ـ بفتح الضاد وسكون اللام ـ : الميل وهو مثل يضرب لمن يستعان به على خصم و كان ميله وهواه مع الخصم ، وفى الاصل ( لا تنقش الشوكة بالشوكة فان ضلعها معها ) ونقش الشوكة اخراجها من العضو تدخل فيه. (7) قال الشريف الرضى في النهج ذيل خطبة 26 : الارمية جمع رمى وهو السحاب والحميم ههنا وقت الصيف ، وانما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لانه اشد جفولا واسرع خفوفا ، لانه لا ماء فيه وانما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء وذلك لا يكون في الاكثر إلا زمان الشتاء ، وانما اراد الشاعر وصفهم بالسرعة اذا دعوا والاغاثة اذا استغيثوا ، والدليل على ذلك قوله : ( هنالك لو دعوت اتاك منهم ) انتهى، اقول : قوله : ( خفوفا ) مصدر غريب لخف بمعنى انتقل وارتحل مسرعا والمصدر المعروف الخف. الاختصاص![]() وأما غناه عن الناس فإنه لم يوجد على باب أحد قط يسأله عن كلمة ولا يستفيد منه حرفا. ثم الدفع عن المظلوم وإغاثة الملهوف ، قال : ذكر الكوفيون ان سعيد بن القيس الهمداني رآه يوما في شدة الحر في فناء حائط فقال : يا أمير المؤمنين بهذه الساعة ؟ قال : ما خرجت إلا لاعين مظلوما أو اغيث ملهوفا ، فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قلبها ، لا تدري أين تأخذ من الدنيا حتى وقفت عليه ، فقالت : يا أمير المؤمنين ظلمني زوجي وتعدى علي وحلف ليضربني فاذهب معي إليه ، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول : لا والله حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع (1) وأين منزلك ؟ قالت : في موضع كذا وكذا ، فانطلق معها حتى انتهت إلى منزلها ، فقالت : هذا منزلي ، قال : فسلم فخرج شاب عليه إزار ملونة فقال : اتق الله فقد أخفت زوجتك ، فقال : وماأنت وذاك والله لاحرقنها بالنار لكلامك ، قال : وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدرة بيده والسيف معلق تحت يده فمن حل عليه حكم بالدرة ضربه ومن حل عليه حكم بالسيف عاجله ، فلم يعلم الشاب إلا وقد أصلت السيف وقال له : آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وترد المعروف تب وإلا قتلتك ، قال : وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين عليه السلام حتى وقفوا عليه قال : فاسقط في يد الشاب (2) وقال : يا أمير المؤمنين اعف عني عفا الله عنك والله لاكونن أرضا تطأني ، فأمرها بالدخول إلى منزلها وانكفأ وهو يقول : ( لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) الحمد لله الذي أصلح بي بين مرأة وزوجها ، يقول الله تبارك وتعالى : ( لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) (3). ثم المروءة وعفة البطن والفرج وإصلاح المال ، فهل رأيتم أحدا ضرب الجبال بالمعاول فخرج منها مثل أعناق الجزر كلما خرجت عنق قال : بشر الوارث ثم يبدو له فيجعلها صدقة ------------------------------------ (1) تعتعه : حركه بعنف وقلقلة ، وتعتع في الكلام : تردد فيه من عى. (2) اسقط في يده ـ على المجهول ـ اى ندم على فعله. (3) النساء : 114. الاختصاص![]() ألف جراحة من قرنه إلى قدمه صلوات الله عليه. ثم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : خطب الناس وقال : أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرب أجلا ولا يؤخر رزقا ، وذكروا أنه توضأ مع الناس في ميضأة المسجد (1) فزحمه رجل فرمى به فأخذ الدرة فضربه به ثم قال له : ليس هذا لما صنعت بي ولكن يجيئ من هو أضعف مني فتفعل به مثل هذا فتضمن ، قال : واستظل يوما في حانوت من المطر فنحاه صاحب الحانوت. ثم إقامة الحدود ولو على نفسه وولده ، أحجم الناس (2) عن غير واحد من أهل الشرف والنباهة وأقدم هو عليهم بإقامة الحدود فهل سمع أحد أن شريفا أقام عليه أحد حدا غيره منهم عبيدالله بن عمر بن الخطاب ومنهم قدامة بن مظعون ومنهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط شربوا الخمر فأحجم الناس عنهم وانصرفوا وضربهم بيده حيث خشي أن تعطل الحدود. ثم ترك الكتمان على ابنته ام كلثوم أهدى لها بعض الامراء عنبرا فصعد المنبر فقال : أيها الناس إن ام كلثوم بنت علي خانتكم عنبرا وأيم الله لو كانت سرقته لقطعتها من حيث أقطع نساءكم. ثم القرآن وما يوجد فيه من مغازي النبي صلى الله عليه وآله مما نزل من القرآن وفضائله وما يحدث الناس مما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله من مناقبه التي لا تحصى. ثم أجمعوا أنه لم يرد على رسول الله صلى الله عليه وآله كلمة قط ولم يكع عن موضع بعثه وكان يخدمه في أسفاره ويملا رواياه وقربه ويضرب خباءه ويقوم على رأسه بالسيف حتى يأمره بالقعود والانصراف ، ولقد بعث غير واحد في استعذاب ماء من الجحفة وغلظ عليه الماء فانصرفوا ولم يأتوا بشئ ، ثم توجه هو بالرواية فأتاه بماء مثل الزلال واستقبله أرواح فأعلم بذاك النبي صلى الله عليه وآله فقال : ذلك جبرئيل في ألف وميكائيل في ألف ويتلوه إسرافيل في ألف فقال السيد الشاعر : (3)
------------------------------------ (1) الميضأة ـ بكسر الميم وسكون الياء وفتح الضاد ـ ، موضع يتوضأ فيه. (2) أحجم عن الشئ : كف او نكس هيبة. (3) أراد به السيد اسماعيل الحميرى المعروف مادح اهل البيت عليهم السلام. الاختصاص
![]() الديالم والاكراد ، ويقتلون الناس قتالا شديدا ويشتد الامر عليهم من الخوف والحزن وترتفع السفلة شأنهم ، وتغير طبائع الناس كلهم ، ويذهب عنهم الحياء والانسانية ويطمع كل واحد في آخره ، ويزيد فيهم كثرة الفساد خاصة في النساء وإسقاط الوالدات أولاد الحرام ، وإهراق الدماء ، والقتل ، والجوع. وإذا اجتمع المشتري وعطارد أصاب الارض طاعون ، ويقع فيما بين الناس العداوة والبغض ، وإذا ركب القمر فوق زحل ذهب ملك ملك. وإذا اجتمع بهرام وعطارد في العقرب فذلك آية قتل ملك بابل. وإذا اجتمع المشتري والزهرة في العقرب فذلك آية فزع ومرض بأرض بابل. وإذا اجتمعت الشمس في شولة العقرب فذلك آية اختلاف الروم وقتل ملكهم. وإذا اجتمع المريخ وعطارد في شولة العقرب فذلك آية خراب بيت ملك بابل[ وفارس ]. وإذا اجتمعت الشمس والقمر في شولة العقرب وبهرام في السرطان فإن استطعت أن تتخذ سربا لتدخل فيه فافعل. وإذا اجتمعت الزهرة والمشتري فإن النساء يخشين أزواجهن عداوة. وإذا نزل كيوان الطرفة أو الدبران وقع الطاعون بالعراق ومات كثير من الناس. وإذا نزل الطرفة على آخره يكون في أرض العراق قتال وفتنة. وإذا نزل النثرة بدلت أعمال العراق ولقوا بلاء وشدة. وإذا نزل كيوان الغفر يكون بأرض العراق قتال وفتنة وإذا نزل كيوان جبهةوقع الموت في البقر والسباع والوحش. وإذا نزل كيوان والمشتري الاكليل والقلب والشولة يقع في المشرق والمغرب طاعون شديد ، ويموت من الناس اناس كثيرة ويقع الفساد والبلايا في الارض كلها ، ويكون الاختصاص![]() كتاب محنة أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان قاعدا في المسجد وعنده جماعة ، فقالوا له : حدثنا يا أمير المؤمنين ، فقال لهم : ويحكم إن كلامي صعب مستصعب ، لا يعقله إلا العالمون ، قالوا : لا بد من أن تحدثنا ، قال : قوموا بنا فدخل الدار ، فقال : أنا الذي علوت فقهرت ، أنا الذي أحيي واميت ، أنا الاول والآخر و الظاهر والباطن ، فغضبوا وقالوا : كفر وقاموا ، فقال علي صلوات الله عليه وآله للباب : يا باب استمسك عليهم ، فاستمسك عليهم الباب ، فقال : ألم أقل لكم : إن كلامي صعب مستصعب لا يعقله إلا العالمون ؟ تعالوا افسر لكم. أما قولي : أنا الذي علوت فقهرت ، فأنا الذي علوتكم بهذا السيف فقهرتكم حتى آمنتم بالله ورسوله. وأما قولي : أنا احيي واميت ، فأنا احيي السنة واميت البدعة. وأما قولي : أنا الاول ، فأنا أول من آمن بالله وأسلم. وأما قولي : أنا الآخر ، فأنا آخر من سجى على النبى ثوبه ودفنه. وأما قولي : أنا الظاهر والباطن فأنا عندي علم الظاهر والباطن. قالوا : فرجت عنا فرج الله عنك (1) . جعفر بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، عن ------------------------------------ (1) نقله المجلسى في البحار ج 9 ص 645 من الكتاب. الاختصاص![]() ذكره امتحنني في حياة نبينا صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن ـ من غير تزكية لنفسي بنعمة الله ـ له مطيعا ، قال : فيم وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : أما أولهن فإن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبينا صلى الله عليه وآله بالنبوة وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سنا ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبدالمطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه وجحدوه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس معصية له وخلافا عليه (1) واستعظاما لما أورد عليهم مما لم يحتمله قلوبهم ولم تدركه عقولهم ، وأجبت رسول الله صلى الله عليه وآله وحدي إلى ما دعا إليه ، مسرعا مطيعا موقنا ، لم تتخالجني في ذلك الاخاليج ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج ، ليس على ظهر الارض خلق يصلي ويشهد لرسول الله صلى الله عليه وآله بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد ـ رحمها الله ـ. ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين. وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله حتى إذا كان آخر يوم اجتمعت فيه في دار الندوة وإبليس الملعون لحاضر في صورة أعور ثقيف فلم يزل يضرب أمرها ظهورا وبطونا حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ، ثم يأتوا النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه فيضربوه بأسيافهم جميعا ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمه فيمضي دمه هدرا ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون له فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار وأنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله بالخبر وأمرني أن أضطجع مضجعه وأن أقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا به ولنفسي على أن افتك موطنا ، فمضى عليه السلام لوجهه واضطجعت مضجعه وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها بقتل النبي صلى الله عليه وآله فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه نهضت بسيفي ، فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الناس. ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين. ------------------------------------ (1) في الخصال ( وسائر الناس مقصين له ومخالفين عليه ). الاختصاص![]() ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة (1) واثقة في أنفسها بما توجهت ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه الخبر فخندق على نفسه وعلى من معه من المهاجرين والانصار ، فقدمت قريش وأقامت على الخندق محاصرة ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف تبرق وترعد ، ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوها ويناشدها القرابة والرحم فتأبى ، ولا يزيدها ذلك إلا عتوا ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود ، يهدر كالبعير المغتلم (2) يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ولا يطمع فيه طامع لا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه فأنهضني إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقا علي من ابن عبد ود العامري ، فقتله الله بيدي ، والعرب لا تعد لها فارسا غيره وضربني هذه الضربة ـ وأومأ بيده إلى هامته ـ فهزم الله قريشا والعرب بذلك و بما كان مني فيهم من النكاية (3) . ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين. وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم استحاشوا من يليهم (4) من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ويوم الخندق فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه ذلك فتأهب النبي صلى الله عليه وآله لهم وعسكر بأصحابه في سفح احد (5) وأقبل المشركون إلينا بحملة رجل واحد فاستشهد من المسلمين من استشهد وكان ممن بقي منهم ما كان من الهزيمة عفا الله عنهم وبقيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومضى المهاجرون ------------------------------------ (1) الحد من السيف : مقطعه ومن الانسان : بأسه ومعنى الاخير انسب والحديد من السيف : القاطع ويقال : رجل حديد اى ذو حدة في الفهم او الغضب، وأناخ الابل : أبركها. (2) اغتلم البعير : هاج من شهوة الضراب، (القاموس) (3) قال الجزرى : نكيت في العدو أنكى نكاية فأنا ناك اذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك وقد يهمز لعة فيه. (4) حاش الصيد : جاءه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة كأحاشه وأحوشه ، وحاش الابل جمعها وساقها والتحويش : التجميع وحاوشته عليه : حرضته. (5) في بعض النسخ [ في سد احد ] وهكذا في الخصال ايضا ولعله الاصح. الاختصاص![]() جبل إربا لفعل ولو ببذل ماله ونفسه وأهله وولده ، فبلغتهم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وقرأت عليهم كتابه فكل تلقاني بالتهدد والوعيد ويبدى البغضاء ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم وكان مني في ذلك ما قد رأيتم. ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين. قال : يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيهن ربي مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، فوجدني فيهن كلها بمنه مطيعا ، ليس لاحد فيها مثل الذي لي ولو وصفت ذلك لاتسع لي فيه القول ولكن الله نهى عن التزكية. فقالوا : صدقت يا أمير المؤمنين فوالله لقد أعطاك الله الفضيلة بالقرابة من نبينا صلى الله عليه وآله وأسعدك بأن جعلك أخاه ، تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها ، والاهوال التي ركبتها ، وذخرك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره مما ليس لاحد من المسلمين مثله ، يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ومن شهدك منا بعده فأخبرنا يا أمير المؤمنين بما امتحنك الله بعد نبينا صلى الله عليه وآله فاحتملته وصبرت عليه ، فإنا لو شئنا أن نصف ذلك لك لوصفناه علما منا به وظهورا عليه إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه. قال : يا أخا اليهود إن الله تبارك وتعالى امتحنني بعد وفاة نبيه صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه ونعمته صبورا. أما أولهن فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحدا آنس به ولا أعتمد عليه ولا أستنيم إليه (1) ولا أتقرب إلى الله بطاعته ولا أنهج به في السراء ولا أستريح إليه في الضراء غير رسول الله صلى الله عليه وآله وهو رباني صغيرا وبوأني كبيرا وكفاني العيلة وجبرني من اليتم و أغناني عن الطلب ووقاني المكسب وعال لي النفس والاهل والولد هذا في تصاريف أمر الدنيا مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله (2) فنزل بي ------------------------------------ (1) استنام الرجل : نام وطلب النوم وتظاهر بالنوم كذبا ، واستنام اليه : سكن اليه سكون النائم ، واستنام إلى الشئ : استأنس به. (2) الحظوة ـ بالضم والكسر ـ : المكانة والمنزلة عند الناس. الاختصاص![]() بأمر رعيته وامته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر امته أن يمضي جيش اسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن انهض معه وتقدم في ذلك الجيش أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الايعاز وأكد فيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلا برجال ممن بعث مع اسامة وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم في ملازمة أميرهم والمسير معه تحت لوائه ينفذ لوجهه الذي نفذه إليه فخلفوا أميرهم مقيما في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الحيل ركضا إلى حل عقدة عقدها الله لي ورسوله صلى الله عليه وآله في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهد الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لانفسهم عقدا ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لاحد منا بني عبدالمطلب ، أو مشاركة في رأي أو استقامة لما في أعناقهم من بيعتي فعلوا ذلك وأنا برسول الله صلى الله عليه وآله مشغول وبتجهيزه عن سائر الاشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكانت هذه يا أخا اليهود أفدح (1) ما يرد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية ، ومفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف له إلا الله ، فصبرت عليها إذ أتت بعد اختها على تقاربها وسرعة اتصالها. ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين. وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذرا في كل أيامه ويلزم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله فكنت أقول تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفوا هينا (2) من غير أن أحدث في الاسلام مع حدثه وقرب عهده بالجاهلية حدثنا في طلب حقي بمنازعة ، لعل قائلا يقول فيها : نعم وقائلا يقول : لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب رسول الله أعرفهم بالنصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله ولكتابه ودينه ، الاسلام. يأتونني عودا وبدءا ، وعلانية وسرا فيدعونني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك حق بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا وصبرا قليلا لعل الله أن يأتيني بذلك عفوا بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وطمع في الامر بعده من ليس له ------------------------------------ (1) أى أثقل. (2) العفو : السهل المتيسر. الاختصاص![]() ولاهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولى بالامر من بعده من غيرهم في جميع الخصال. ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين. وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الامور ويصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها (1) فيمضيها على رأيي ، لا أعلم أحدا ولا يعلم أصحابي يناظره في ذلك غيري (2) ولا يطمع في الامر بعده سواي ، فلما أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه ، لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها والعاقبة التي كنت ألتمسها وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت ، وكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوما أنا سادسهم ولم يساورني بواحد منهم ولا ذكر مني حالا في وراثة الرسول صلى الله عليه وآله ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ولا كان لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا : وصير ابنه فيها حاكما علينا ، وأمره أن يصرب أعناق النفر الستة الذين صير الامر فيهم إن لم ينفذوا أمره ، وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطبها لنفسه وأنا ممسك ، فإذا سألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما جهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لي إليهم وتأكيده ما أكد من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الامارة وبسط الايدي والالسن في الامر والنهي والركون إلى الدنيا بالاقتداء بالماضين إلى تناول مالم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد منهم بعد الواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه ، التمس مني شرطا بطائفة الدنيا أصيرها له ، فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على الكتاب ووصية الرسول صلى الله عليه وآله من إعطاء كل امرئ منهم ما جعل الله له ومنعه مما لم يجعل الله له شد من القوم ------------------------------------ (1) في بعض النسخ [ يناظرنى في كوارثها ]. (2) في بعض النسخ [فيمضيها على رأى لا اعلم أحدا ولا يعلمه أصحابى مناظرة في ذلك عندى ]. وفى الخصال [فيمضيها عن رأيى لا أعلم أحدا ولا يعلمه أصحابى يناظره في ذلك غيرى ]. الاختصاص![]() بدلوا تبديلا (1) ( فمن قضى نحبه حمزة وعبيدة وجعفر وأنا المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا. وما سكتني عن ابن عفان (2) وحثني عن الامساك عنه إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه مالم يدعه حتى يستدعي الاباعد إلى قتله وخلعه فضلا عن الاقارب وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك لم أنطق فيه بحرف من ( لا ) ولا ( نعم ) ثم أتاني القوم وأنا ـ علم الله ـ كاره لمعرفتي ما تطاعموا (3) به من اعتقال الاموال (4) والمرح في الارض وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي وشديد [ ولهم ] عادة منتزعة (5) ، فلما لم يجدوها عندي تعللوا الاعاليل. ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين. وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المبايعين لما لم يطمعوا في ذلك مني وثبوا بامرأة علي وأنا ولي أمرها والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال وأقبلوا بها تخبط الفيافي (6) وتقطع البراري وتنبح عليها كلاب الحوأب وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعلى كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله حتى أتت أهل بلدة ، قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم ، عازبة آراؤهم جيران بدو ووراد بحر فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم بغير علم ، يرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ، إن كففت لم يرجعوا ولم يصلوا وإن أقمت كنت قد صرت إلى الذي كرهت ، (7) فقدمت الحجة بالاعذار و ------------------------------------ (1) الاحزاب : 23. (2) في بعض النسخ [ما أسكننى ]. (3) وفى بعض النسخ والخصال ( يطمعون ). (4) اى بما أوصل كل منهم إلى صاحبه في دولة الباطل طعمه ولذته ، وقوله : ( من اعتقال الاموال ) اى اكتسابها وضبطها من قولهم : ( عقل البعير واعتقله ) اذا شد يديه ، (قاله المجلسى) (5) كذا في النسخ وفى بعض نسخ الخصال [وشديد ولهم عادة مسرعة ]. (6) خبط البعير الارض بيده خبطا : ضربها ، ومنه قيل : خبط عشواء وهى الناقة التى في بصرها ضعف اذا مشت لا تتوقى شيئا ، وخبطه : ضربه شديدا ، والقوم بسيفه : جلدهم ، والشجر : شدها ثم نفض ورقها ، والفيافى جمع الفيفى والفيفاء والفيفاة وهى المفازة لا ماء فيها والمكان المستوى. (7) في الخصال [ إلى التى كرهت ]. ![]() |