قد ورد لفظ (الربّ) في الذكر الحكيم بصيغه المختلفة ، مفرداً و جمعاً ، مضافاً و غير مضاف 987 مرّة ، و لايقال الرّب لغير اللّه الاّ بالاِضافة.
ذكر أصحاب المعاجم للربّ معاني مختلفة قائلين بأنّ : ربُّ كلّشيء : مالكُه و مستحقّه و صاحبه.
ربَّ الاَمر : أصلحه.
الربُّ : المالك ، المصلح ، السيد (1)
وما يشابه هذه المعاني و يماثلها.
إنّالمفروض على كتب اللغة هو ضبط موارد استعمال الكلمة ، سواء أكان المستعمل فيه هو الّذي وضعت له اللفظة أم لا ، و لذلك جاءت المعاني المجازيّة في جنب المعاني اللغوية بحجة أنّالجميع مستعمل فيه ، و هذا نقص واضح و مشهود في كتب اللغة و معاجمها.
وهناك نقص آخر و هو ، أنّاللغوي ربما يعدّللكلمة معاني كثيرة على وجه يظنُّ القارىَ أنّها مشتركة وضعاً بين هذه المعاني ، و لكنّه سرعان ما يرجع بعد التمعّن بأنّها صور مختلفة لمعنى واحد و ليس اللفظ موضوعاً إلاّ لمعنى جامع ، و
---------------------------
(1) ابن فارس : مقاييس اللغة 2 : 381 ، الفيروز آبادي ، قاموس اللغة ، مادة رب ، و المنجد كذلك.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 16 _
من الصدف أنّ لفظة الرب تعاني من واجهت هذا المصير حتى أنّكاتباً كالمودوديّتصور أنّ لها خمسة معان في الاَصل و ذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم ولكنّه خفي عليه أنّها ليست معاني مختلفة و إنّما هي صور موسعة لمعنى واحد و إليك هذه الموارد والمصاديق :
1 ـ التربية ، مثل ربّ الولد ، ربّاه.
2 ـ الاِصلاح والرعاية مثل ربَّالضيعة.
3 ـ الحكومة والسياسة مثل فلان قد ربَّ قومَه أي ساسهم وجعلهم ينقادونله.
4 ـ المالك كما جاء في الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربُّ غنمٍ أم ربّإبل.
5 ـ الصاحب مثل قوله : ربّ الدار أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْت ) (قريش | 3).
لاريب أنّهذه المعاني قد أريدت من اللفظة في هذه الموارد و ما يشابهها و لكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل ، وما هذه المعاني إلاّمصاديق و صور مختلفة لذلك المعنى الاَصيل وماهي سوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي و هو ، من فوض إليه أمر الشيء المربّى من حيث الاصلاح و التدبير و التربية.
فإذا قيل لصاحب المزرعة أنّه ربّها ، فلاَجل أنّإصلاح أُمور المزرعة مرتبطة به و في قبضته.
وإذا أطلقنا على سائس القوم ، صفة الربّ ، فلاَنّ أُمور قومه مفوّضة إليه ، فهو قائدهم ، ومالك تدبيرهم و منظم شوَونهم.
وإذا أطلقنا على صاحبِ الدار و مالِكه اسمَ الربّ ، فلاَنّه فوض إليه أمر تلك الدار و إدارتها و التصرّف فيها كما يشاء.
فعلى هذا يكون المربي و المصلح و الرئيس و المالك و الصاحب و ما
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 17 _
يشابهها مصاديق و صور لمعنى واحد أصيل يوجد في كلّ هذه المعاني المذكورة ، و ينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة و مختلفة للفظة الربّ بل المعنى الحقيقي و الاَصيل للفظ هو : من بيده أمر التدبير و الاِدارة و التصرّف ، وهو مفهوم كلّي و متحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة ( أعني : التربية ، و الاِصلاح ، و الحاكمية و المالكية ، و الصاحبية).
فإذا أطلق يوسف الصديق (عليه السلام) لفظ الربّ على عزيز مصر ، و قال :
( إنّه رَبّي أحسنَ مَثْوايَ ) (يوسف | 23).
فلاَجل أنّيوسف تربّىفي بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفلاً لتربيته الظاهرية وقائماً بشوَونه.
و إذا وصف يوسف عزيزَ مصر بكونه ربّاً لصاحبه في السجن ، و قال : ( أمّا أحَدُكُما فَيَسقي ربَّهُ خَمراً ) (يوسف | 41).
فلاَنّعزيز مصر كان سيّدَمصر و زعيمها و مدبّر أُمورها و متصرّفاً في شوَونها و مالكاً لزمامها.
وإذا وصف القرآن اليهود و النصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً إذ يقول : ( اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (التوبة | 31).
فلاَجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة و قدرة فيما يختص باللّه.
وإذا وصف اللّه نفسه بأنّه (ربّالبيت) فلاَنّإليه أُمور هذا البيت مادّيها و معنويها ، ولا حقّلاَحد في التصرّف فيه سواه.
وإذا وصف القرآن (اللّه) بأنّه : ( رَبُّ السَّمواتِ وَ الاََرْضِ ) (الصافات | 5).
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 18 _
وانّه : ( ربُّ الشِّعْرى ) (النجم | 49).
وما شابه ذلك ، فلاَجل أنّه تعالى مدبّرها و المتصرف فيها و مصلح شوَونها والقائم عليها.
وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب ، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.
إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى:
1 ـ التوحيد في الربوبية.
2 ـ التوحيد في الاَُلوهية.
قائلين بأنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة.
وأمّا التوحيد في الاَُلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى اللّه ، و قد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الاَمر (1)
والحقّ أنّاتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك ، و لكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ و اشتباه.
وذلك لانّ معنى (الربوبية) ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق ، بل هو ـ كما أوضحنا و بينا سلفاً ـ ما يفيد التدبير و إدارة العالم ، و تصريف شوَونه و لميكن هذا ـ كما نبيّن ـ موضع اتّفاق بين جميع المشركين و الوثنيين في عهد الرسالة
---------------------------
(1) محمّدبن عبدالوهّاب ، تسع رسائل : الرسالة الثالثة | 57 ـ 58.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 19 _
كما ادعى هذا الفريق (1)
نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبّر سوى اللّه و لكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممن يعتقدون بتعدد المدبر والتدبير ، و هي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر التاريخيّة.
و هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية ، بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية حتى يتضح لهم أنّالدعوة إلى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة إلى (التوحيد في المدبّرية) والتصرف ، و قد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً من التوحيد الربوبي ، و يعتقد بتعدد المدبِّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.
و لايمكن ـ أبداً ـ أن نفسر الربّفي هذه الآيات بالخالق والموجد ، و إليك بعض هذه الآيات.
أ : ( بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرض الّذي فَطرهنّ ) (الاَنبياء | 56).
فلو كان المقصود من الربّهنا هو الخالق و الموجد ، لكانت جملة ( الّذي فطرهن ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الربّ في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذٍ ـ إلى الجملة المذكورة (أعني : (الذي فطرهن).
بخلاف ما إذا فسّـر الربّ بالمدبّر و المتصرّف ، ففي هذه الصورة تكون الجملة الاَخيرة مطلوبة ، لاَنّها تكون ـ حينئذٍ ـ علّة للجملة الاَُولى ، فتعني هكذا : إنّخالق الكون ، هو المتصرف فيه و هو المالك لتدبيره و القائم بإدارته ، لاشخص آخر فلماذا فرقتم بين الخالق والربّو لماذا حصرتم الخالقية في اللّه سبحانه ، و أعطيتم الربوبية لغيره.
ب : ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذي خَلَقَكُمْ ) (البقرة | 21).
---------------------------
(1) سيوافيك عقائد المشركين في ربوبيّة الآلهة في الفصل الآتي.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 20 _
فانّ لفظة الربّ في هذه الآية ليست بمعنى (الخالق) و ذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدمة المشابهة لما نحن فيه ، إذ لو كان الربّ بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة (الّذي خلقكم) وجه ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّالربّ يعني المدبّر فتكون جملة : (الّذي خلقكم) علّة للتوحيد في الربوبية إذ يكون المعنى حينئذٍ هو : انّالّذي خلقكم ، هو مدبّركم.
ج : (قُلْ أَغَيْرَاللّهِ أَبْغي رَبّاً وَ هُوَ رَبُّ كُلّ شَيْءٍ) (الاَنعام | 164).
وهذه الآية حاكية عن أنّمشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة الربوبية على نحو من الاَنحاء وانّالنبي الاَعظم كان مكلّفاً بأن يُفنّد رأيهم و يبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللّه ربّاً على خلاف ما كانوا عليه ، و من المحتّمأنّخلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة (التوحيد في الخالقية) بدليل أنّالآيات السابقة تشهد من غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى ، و لذلك فلا مناص من الاِذعان بأنّالخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية ، و ليس هو إلاّمسألة تدبير الكون ، بعضه أو كلّه.
د : ( أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلينَ ) (الاَعراف | 172).
فقد أخذ اللّه في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الاِقرار بالتوحيد الربوبي و كانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول : ( أوْ تَقُولُوا إنَّما أشركَ آباوَنا مِنْ قبلُ وَ كُنّا ذُريّةً من بعدِهمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (الاَعراف | 173).
إذا تبيّن هذا فنقول : إنّنزولَ هذه الآية في بيئة مشركة ، دليل ـ و لا شكّ ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق ، فإذا كانت
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 21 _
الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبيّ في الخالقية، و لكن الفرض هو عدم وجود أيّ اختلاف في مسألة (توحيد الخالقية) في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليُعتبروا مخالفين للميثاق المذكور، فلا محيص ـ حينئذٍ ـ من أنّالخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم و إدارة الكون.
و بهذا التقرير يكون معنى الربّ في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.
هـ : ( أتقتلُونَ رجُلاً أنْ يقوَل ربِّي اللّهُ و قد جاءكُمْ بالبيِّنات منْ ربِّكُمْ ) (غافر | 28).
تتعلق هذه الآية بموَمن آل فرعون الّذي كان يدافع عن النبي ّموسى عليه السَّلام وراء قناع النصيحة و الصداقة لآل فرعون ويسعى تحتَ ستار الموافقة لهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبيّ العظيم ، وأمّا دلالتها على كون الربّ بمعنى المدبّر فواضحة ، لاَنّ فرعون ما كان يدّعي انّه خالق الاَرض و السماء ولا الشركة مع اللّه سبحانه فيخلق العالم و إيجاده ، و هذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً ، و في هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبيّ موسى بقوله : ربّي اللّه ، هو حصر (التدبير) في اللّه سبحانه لا مسألة الخلق ، ولو كانت تتعلق بمسألة الخلق والاِيجاد لما كان بينه و بين فرعون أيّخلاف و نزاع ، إذ المفروض أنّ فرعون كان يعترف بخالقية اللّه ـ كما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أنّاللّه تعالى يقول في الآية السابقة لهذه الآية.
و : ( ذَرُوني أقتلْ مُوسى و لْـيَدعُ ربَّهُ إنّي أخافُ أنْ يبدِّلَ دينَكُمْ ) (غافر | 26).
فانّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لاَيّ تبدّل و تبديل.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 22 _
و من هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون : (أنَا ربُّكُمُ الاَعلى) (النازعات | 24).
ز : ( فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دونهِ إلهاً ) (الكهف | 14).
إن ّالفتية الّذين فرّوا من ذلك الجوّ الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان ، كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بأُلوهية غير اللّه ، و لكن أُلوهية غير اللّه ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن بصورة تعدد الخالق ، خاصة أنّواقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية و أفكارها قد تقدمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقى بمقدار معتد به ، و لم يكن يعقل ـ في ظلّهذا الرقي الفكري ـ وجودُمجتمعٍ منكرٍ لخالقية اللّه ، أو مشرك فيها فلابدّ أن يقال إنّشركهم يرجع إلى أمر آخر و هو الاعتقاد بتعدد المدبر.
ح: إنّالبرهان الواضح على أنّمقام الربوبية هو مقام المدبرية و ليس الخالقيّة كما يتوهم ، هو الآية المتكررة في سورة (الرحمن).
( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان ) .
فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة و جاءت لفظة (ربّ) جنباً إلى جنب مع لفظة ( آلاء ) التي تعني النعَم و غير خفي أنّ التذكير باسباغ النعم مرّة بعد أُخرى يناسب مقام التربية و التدبير فإرداف ذكرها ، بذكر الربشاهد على أنّ اللفظ بمعنى المدبّر والمدير والمربّي والمصلح ، لا الخالق والموجد.
و إن شئت قلت : إنّذكر النعم (التي هي من شعب التربية الاِلهية التي يُوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم و إدامة الاِفاضة.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 23 _
ط : لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الربّ في خمسة موارد في القرآن الكريم ، و الشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الاِنسانية و دوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد ، و ليست حقيقة تدبير الاِنسان إلاّإدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.
و إليك هذه الموارد : ( وَ إِذْ تَأَذَّن رَبّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَََزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَديد ) (إبراهيم | 7).
( وَ قالَ رَبِّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ) (النمل | 19).
( قالَهذا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَني ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُوَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِِ ) (النمل | 40).
( قالَرَبّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ) (الاَحقاف | 15).
( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وربٌّ غَفور ) (سبأ | 15).
ي : وممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه : ( فَقُلْتُ استغفِرُوا رَبَّكُمْ إنّهُ كانَغَفّاراً * يُرْسِلِ السّماءَعَلَيْكُمْ مِدراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْلَكُمْ أَنْهاراً ) (نوح | 10 ـ 12).
و مثله قوله سبحانه في سورة هود الآية 52.
يلاحظ القارىَ الكريم كيف جعلت إدارة الكون و تدبير شوَونه تفسيراً للرب : فهو الذي يرسل المطر ، و هو الذي يُمْدد بالاَموال والبنين ، و هو الّذي
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 24 _
يجعل الجنات ، و هو الّذي يجعل الاَنهار ، وكلّهذه الاَُمور جوانب و صور من التدبير .
إنّ الحوار الدائر بين النبي إبراهيم و طاغوت عصره نمرود يكشف القناع عن معنى الربّ و الربوبية فالآية التالية تتضمن مضمون الحوار و إليك نصّها قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاه اللّهُ الملك إِذْ قالَ إِبْراهيم رَبّي الّذي يحي و َيُميت قالَ أَنَ أُحْيى و َ أُميت قالَ إِبْراهيم فانّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرق فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذي كَفَرَوَ اللّهُ لا يَهْدِي القوم الظّالمين ) (البقرة | 258).
فكأنّ نمرود كان يدعى أنّه ربّ من يسوسهم بدليل انّإبراهيم إبتدأ كلامه بقوله : ( ربّي الّذي يحيى و يميت ) ومعناه لو كنت صادقاً في ادعاء الربوبية فعليك القيام بشوَون الربوبية كالاحياء و الاماتة و لما فوجىَ بهذا البرهان الدامغ المبطل لاِدعائه السخيف حاول أن يفسر كلام إبراهيم بشكل خاطىَ قال أنا أيضاً أملك الموت والحياة فأقتل من أشاء و أحقن دم من أُريد ، فعندئذٍ عدل إبراهيم إلى حجّة أُخرى ليقطع الطريق عليه و لايكون في وسع نمرود أن يعارضها فقال : أنّ ربّي له سلطان على الشّمس في طلوعها و غروبها فلو صحّ انّك ربّ فقم بهذا العمل (فأنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب) فلما سمع نمرود هذا الدليل القاطع و أيقن انّه ليس في وسعه المعارضة سكت و لم ينبس ببنت شفه يقول سبحانه ( فَبُهِتَ الّذي كَفَرَ ) .
لم يكن النزاع بين النبي إبراهيم و نمرود في خالقيته إذ لا يدعيها إلاّ المصاب بعقله بل في ربوبيته لمن كان يسوسهم فكان إبراهيم يدعي انّه لا ربّ إلاّ ربّ واحد و أنّ الكون بأجمعه مربوب للّه و لم يكن هناك أي تقسيم للربوبية و لكن نمرود كان يعتقد بربوبية نفسه و كانت حجّته أنّه ذا سلطة و ملك كما يحكى عنه قوله سبحانه : (إن آتاه اللّه الملك) فجعل ذلك دليلاً على ربوبيّته لمن كانوا
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 25 _
يعيشون في ملكه و زعم انّأمرهم وحياتهم و مماتهم و كلّتشريع يرجع إليه وبيده.
فالحوار بمضمونه يفسر لنا معنى الربّوالربوبية و هو المتصرف المالك لشوَون المربوب في آجله فإذا كان الاحياء والاماتة وا لسلطة على طلوع الشمس من آثار الربوبية فهي غير الخالقية ، و بالتالي يرجع معناها إلى كون الرب مالكاً لحياته و موته ، و لاصلاحه و افساده.
نتيجة هذا البحث : من هذا البحث الموسع يمكن أن نستنتج أمرين :
1 ـ إنّربوبية اللّه عبارة عن مدبريته تعالى للعالم و ليس معناها خالقيته.
2 ـ دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّمسألة (التوحيد في التدبير) لم تكن موضع اتّفاق بخلاف مسألة (التوحيد في الخالقية) و أنّه كان ثمة فريق يعتقد بمدبرية غير اللّه للكون كلّه أو بعضه ، و كانوا يخضعون أمامه باعتقاد أنّهربّ.
و بما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض الفرق موحِّداً في الثاني ومشركاً في القسم الاَوّل ، فاليهود و النصارى تورطوا في (الشرك الربوبي) التشريعي لاَنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الاَحبار و الرهبان و جعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنّه فُوِّض أمر التشريع إليهم !!! ، و من المعلوم أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.
فها هو القرآن يقول عنهم : ( اتَّخَذوا أحبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (التوبة | 31).
( وَ لا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران | 64).
في حين أنّالشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 26 _
بل يتمثل في إسناد تدبير بعض جوانب الكون ، و شوَون العالم إلى الملائكة و الجنّ والاَرواح المقدسة ، أو الاَجرام السماوية ، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزي تدبير (كل) جوانب الكون إلى غير اللّه ، و لكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الاَغلبشبه تدبير (بعض) الاَُمور الكونية إلى بعض خيار العباد وبعض المخلوقات.
إذا تعرّفت على مفهوم (الاِله) و (الرب) فاعلم إنّللتوحيد مراتب قد بيّنها علماء الاِسلام في كتبهم العقائدية و برهنوا عليها من الكتاب والسنة والعقل الصريح ، و بما أنّبحثنا في الاَمر الثالث مركّز على التوحيد في العبادة والشرك فيها ، نذكر مراتب التوحيد بايجاز ، ثمّنتكلم عن القسم الاَخير بالتفصيل ، و في فصل خاص.
فنقول : للتوحيد مراتبَ عديدة وهي :
الاَُولى : التوحيد في الذات
والمراد منه أنّه سبحانه واحد لا نظير له ، فرد لا مثيل له ، و يدلّ عليه مضافاً إلى البراهين العقلية قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصير ) (الشورى | 11).
وقوله سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ*وَلَمْ يُولَد * وَ لَمْ يَكُن ْلَه كُفواً أَحَد ) (الاخلاص | 1 ـ 4).
وقوله سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ ) ( الزمر | 4).
وقوله سبحانه : ( وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ ) (الرعد | 16).
إلى غيرها من الآيات الدالة على أنّه واحد لا نظير له ، و لا مثيل ولا ثانٍ له و لا عديل.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 27 _
وأمّا البراهين العقلية في هذا المجال و إبطال (الثنوية) و (التثليث) فموكول إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.
إنّهناك معنى آخر للتوحيد في الذات وهو انّه سبحانه بسيط لا جزء له ، فرد ليس بمركب من أجزاء ، و لعلّقوله سبحانه : (في سورة الاِخلاص) ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد ) يعني هذا القسم من التوحيد كما أنّ الآية الاَخيرة أعني قوله : ( وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد ) تهدف إلى معنى التوحيد في الذات بالمعنى الاَوّل ، وبهذا يندفع إشكال التكرار فيها.
الثانية : التوحيد في الخالقية
والمراد منه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق غير اللّه ، ولا فاعل سواه ، و أنّكلّ ما يوجد في صفحة الوجود من فواعل و أسباب فإنّما هي غير مستقلات في التأثيرات و إنّما توَثر بإذنه سبحانه وأمره ، فجميع الاَسباب والمسببات مخلوقة للّه بمعنى أنّها تنتهي إليه.
و يدل على التوحيد بهذا المعنى ( قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ القَهّار ) (الرعد | 16).
و قوله سبحانه : ( اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيٍءٍ وَهُوَ عَلى كلِّ شيّءٍ وَكيل ) (الزمر | 62).
وقوله سبحانه : ( ذلِكُمُ اللّهُ ربّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلهَ إِلاّ هُوَ ) (الموَمن | 62) (1)
---------------------------
(1) ولاحظ في هذا الموضوع سور الاَنعام 101 و 102 ، الحشر | 14 ، فاطر | 3 ، و الاَعراف | 54.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 28 _
الثالثة : التوحيد في الربوبية و التدبير
والمراد منه أنّ للكون مدبّراً و متصرفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شيء فهو سبحانه المدبّر للعالم ، و أنّتدبير الملائكة وسائر الاَسباب إنّما هو بأمره سبحانه ، و هذا على خلاف ما ذهب إليه أكثر المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ ما يرتبط باللّه سبحانه و تعالى هو الخلق والاِيجاد و الاِبداع و أمّا تدبير الاَنواع و الكائنات الاَرضية فقد فوّض إلى الاَجرام السماوية والملائكة والجنّ و سائر الموجودات الروحية وغير ذلك ممّا تحكي عنه الاَصنام المعبودة ، و ليس للّه سبحانه أيّ مدخلية في أمر تدبير الكون و إرادته و تصريف شوَونه.
إنّ القرآن الكريم ينص ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّاللّه هو المدبر للعالم و ينفي أيّتدبير لغيره و إذا كان هناك مدبر سواه فإنّما هو جندي من جنوده ، مأمور بالعمل بأمر منه سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الّذي خَلَق السَّمواتِ وَالاََرض في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى علَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُالاََمْر ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُأَفَلا تَذَكَّرون ) (يونس | 3).
وقال سبحانه : ( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِعَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استوىعلَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَكُلٌّ يَجْري لاَجلٍ مُسمًّى يُدبِّرُ الاَمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعلّكُمْ بِلِقاءِ ربّكُمْ تُوقِنونَ ) (الرعد | 2).
فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه : ( فالمدبّرات أمْراً ) (النازعات | 5) و قوله سبحانه : ( وَ هُوَ القاهِرُفَوقَ عِبادِهِ وَ يُرسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظةً ) (الاَنعام | 61) ، إنّهوَلاء مدبرات بأمره ، و حفظة للاِنسان و إرادته فلا ينافي ذلك انحصار التدبير باللّه.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 29 _
الرابعة : التوحيد في التشريع و التقنين
لا شكّ أنّ حياة الاِنسان الاِجتماعية رهن قانون ينظم أحوال المجتمع البشري و يقوده إلى الكمال و هو لا يتحقّق إلاّفي ظلّقانون يحقّق السعادة الاِنسانية ، فبما أنّ خالق الاِنسان أعرف بخصوصيات المخلوق و ما يصلحه و يفسده فهو أولى بالتشريع و التقنين بل هو المتعين له ، قال سبحانه : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبير ) (الملك | 14).
إنّالقرآن الكريم لم يعترف بتشريع سوى تشريعه سبحانه ، ولا بقانون سوى قانونه فهو ، يرى اللّه سبحانه هو المشرع المحيط الذي يحقّ له التقنين خاصة ، وأمّا وظيفة غيره فهو تنفيذ القانون الاِلهي.
قال سبحانه : ( إنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إلاّإيّاه ) (يوسف | 40)
والمراد من الحكم في قوله : ( إنِ الْحُكْم ) هو الحكم التشريعي بقرينة قوله ( أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّإيّاه ذلك الدِّينُ القيّمُ ) .
وقال سبحانه : ( أَفَحُكْم الْجاهِلِيةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنونَ ) (المائدة | 50).
إنّ هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين : إلهي ، وجاهليّ ، وبما أنّما كان من صقع الفكر البشرى ليس إلهياً فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.
وقال سبحانه : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (المائدة | 44).
وقال سبحانه : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (المائدة | 45).
و قال : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُونَ )
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 30 _
(المائدة | 47)
فهذه المقاطع الثلاثة توضح أنّالتقنين أوّلاً و الحكم ثانياً حقّمخصوص للّه لم يفوضه إلى أحد من خلقه و لاَجل ذلك يصف من يعدل عنه بالكفر تارة و الظلم أُخرى و بالفسق ثالثة.
فهم كافرون لاَنّهم يخالفون التشريع الاِلهي بالردّ و الاِنكار والجحود.
وهم ظالمون لاَنّهم يسلِّمون حقّالتقنين الّذي هو خاصّباللّه إلى غيره.
وهم فاسقون لاَنّهم خرجوا بهذا العمل عن طاعة اللّه.
وأمّا عمل الفقهاء و المجتهدين فهو إمّا استخراج الاَحكام الشرعية من الكتاب والسنّة و الاستخراج غير التشريع ، وإمّا تخطيط لكلّ مايحتاج إليه المجتمع في إطار القوانين الاِلهية ، و التخطيط غير التشريع.
الخامسة : التوحيد في الطاعة
والمراد أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّاللّه تعالى فهو وحده الّذي يجب أن يطاع و أمّا طاعة غيره فإنّما تجب بإذنه و أمره.
قال سبحانه : ( وما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ ) (البيّنة | 5) و الدين في الآية بمعنى الطاعة أي مخلصين الطاعة له لا لسواه.
وعلى ذلك فكلّمن افترض اللّه طاعته و الانقياد لاَوامره و الانتهاء عن مناهيه فبإذنه سبحانه و أمره ، قال سبحانه : ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (النساء|64).
وبالجملة فهنا مطاع بالذات وهو اللّهسبحانه وغيره مطاع بالعرض و بأمره.
السادسة : التوحيد في الحاكمية
إنّالحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام بعد التشريع و
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 31 _
التقنين ، و وظيفة الحكومة تعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ووظائفهم و مالهم و ما عليهم من حقوق ، ثمّتحقيقها و تجسيدها.
إنّ أعمال الحكومة والحاكمية في المجتمع لاتنفك عن التصرف في النفوس و الاَموال و تنظيم الحريّات و تحديدها أحياناً والتسلّط عليها ولا يقوم بذلك إلاّ من كانت له الولاية على الناس و لولا ذلك لعُدّ التصرف عدواناً ، وبما أنّجميع الناس سواسيه أمام اللّه و الكلّ مخلوق له بلا تمييز فلا ولاية لاَحد على أحد بالذات بل الولاية للّه المالك الحقيقي للاِنسان والكون ، والواهب له الوجود والحياة ، فلا يصحّ لاَحد الاِمرة على العبادة إلاّبإذنه.
فالاَنبياء والعلماء والموَمنون مأذونون من قبله سبحانه في أن يتولوا الاَمر من قبله و يمارسوا الحكومة على الناس من ناحيته ، فالحكومة حقّمختصّ باللّه سبحانه و الاَمارة ممنوحة من قبله.
قال سبحانه : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَخَيْرُ الْفاصِلينَ ) (الاَنعام | 57).
وقال سبحانه : ( أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَأَسْرَعُ الْحاسِبينَ ) (الاَنعام | 62).
نعم إنّاختصاص حقّالحاكمية باللّه سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصياً بممارسة الاِمرة ، بل المراد أنّ من قام بالاِمرة في المجتمع البشري ، يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لاِدارة الاَُمور ، والتصرّف في النفوس و الاَموال.
ولذلك نرى أنّه سبحانه : يمنح لبعض حقّ الحكومة بين الناس ، إذ يقول :
( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الاََرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (ص | 26) و على ضوء ذلك فلا محيص عن كون الحكومة في المجتمع الاِسلامي مأذوناً بها من قبل اللّه سبحانه : ممضاة من جانبه ، و إلاّ كانت حكم الطاغوت ، الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 32 _
السابعة : التوحيد في العبادة
والمراد منه حصر العبادة في اللّه سبحانه ، و هذا هو الاَصل المتّفق عليه بين جميع المسلمين بلا أيّاختلاف فيهم قديماً أو حديثاً فلا يكون الرجل مسلماً ولا داخلاً في زمرة المسلمين إلاّ إذا اعترف بحصر العبادة في اللّه ، أخذاً بقوله سبحانه : ( إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعين ) (الفاتحة | 5) و ليس أصل بين المسلمين أبين و أظهر من هذا الاَصل ، فقد اتّفقوا على العنوان العام جميعهم و من تفوّه بجواز عبادة غيره فقد خرج عن حظيرة الاِسلام.
نعم وقع الاختلاف في المصاديق والجزئيات لهذا العنوان ، فهل هي عبادة غير اللّه أو أنّها تكريم و احترام و إكبار وتبجيل.
والهدف في الفصل الآتي هو تمييز الجزئيات بعضها عن بعض ، بوضع تعريف منطقي للعبادة حتى يقف القارىَ على مصاديق العبادة ومصاديق التكريم عن كثب و لا يختلط بعضها بالبعض الآخر.
إنّالوهابيين جعلوا الشرك في العبادة ذريعة لتكفير المسلمين و جعلهم في عداد المشركين في العبادة و هم ربما يتلون قوله سبحانه : ( وَ ما يُوَْمِنُ أَكْثرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (يوسف | 106) و يفسرونه بإيمان المسلمين ، و لكن ما هو الدليل على هذا التطبيق ، و لماذا لا ينطبق هذا عليهم.
إنّالمسلم الواعي لا ينسب شيئاً إلى إنسان إلاّإذا كان مقروناً بالبرهان والدليل ، معتمداً على قوله سبحانه : ( قُلْ هاتُوا بُرهانكُمْ إِنْكُنْتُمْ صادِقينَ ) (البقرة | 111) ، فلا يتهم المسلم بالشرك إلاّبالدليل ، ولا يضفي عليه عنوان التوحيد إلاّكذلك.