فهو المعبود حقّاً و إلاّفلا يكون مستحقّاً للعبادة.
والعجب ، أنّكلّ من ارتأى تعريف العبادة فإنّما نظر إلى العنصر الثاني (الخضوع) الذي لم يختلف فيه اثنان ، و لم يركز الكلام على العنصر الاَوّل (الاِعتقاد الخاصّ) ، مع أنّه الفيصل بين العبادة ، والتكريم.
وحاصل هذا البيان أنّه لا يصحّ أن ينظر إلى ظاهر الاَعمال بل يجب النظر في مبادئها و مناشئها فالعبادة لا تتحقق و لا يصدق عنوانها على شيء إلاّإذا اتّحد العمل مع عمل الموحدين أو المشركين فقد كان عمل الموحدين نابعاً عن الاعتقاد الخاص بأُلوهيته سبحانه وربوبيته كما كان عمل المشركين أيضاً نابعاًمن هذا المبدأ لكن في حقّ أصنامهم و أوثانهم.
نعم المشركون لم يكونوا معتقدين بخالقية معبوداتهم و لكنّهم كانوا معتقدين بأُلوهيتهم و ربوبيتهم و تصرّفاتهم في الكون و بكونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.
و على ضوء هذا فكلّ خضوع يتمتع بنفس هذا العنصر يُضفى عليه عنوانُ العبادة فإن أتى به للّه سبحانه يكون موحّداً و إن أتى به لغيره يكون مشركاً .
فلايصحّ لنا القضاء على ظاهر الاَعمال من دون التفتيش عن بواطنها.
و قد خرجنا ـ بالاِمعان في عقائد الموحّدين و المشركين و بالاِمعان في الآيات الحاثة على عبادة اللّه والنهي عن عبادة غيره بالنتيجة التالية :
إنّ العبادة ليست خضوعاً فارغاًمهما بلغ أعلاه بل خضوعاً نابعاًعن عقيدة خاصة وهي الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً ، أو إلهاً ، أو مصدراً للاَفعال الاِلهية فلذلك يصحّ تعريفها على أحد الوجوه التالية و يكون جامعاً لعامة أفرادها ، و دافعاً عن دخول غيرها في تعريفها :
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 59 _
1 ـ خضوع لفظي أو عملي ناشىَ من العقيدة بأُلوهية المخضوع له.
2 ـ العبادة هي الخضوع بين يدي من يعتبره (ربّاً) و بعبارة أُخرى ، هي الخضوع العملي أو القولي لمن يعتقد بربوبيته ، فالعبودية كلازم الاعتقاد بالربوبية.
3 ـ العبادة خضوع أمام من يُعْتبر إلهاً حقّاً أو مصدراً للاَعمال الاِلهية كتدبير شوَون العالم و الاِحياء والاِمامة و بسط الرزق بين الموجودات و غفران الذنوب.
ولك صبّ هذا المعنى في قالب رابع و خامس.
لقد وقفت ـ أخي العزيز ـ على معنى (العبادة) و مفهومها و حقيقتها في ضوء الكتاب والسنّة ، و لم يبق لك أيّ إبهام في معناها و لا أيّغموض في حقيقتها ، و الآن يجب عليك ـ بعد التعرّف على الضابطة الصحيحة في العبادة ـ أن تقيس الكثير من الاَعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى زماننا هذا لترى هل تزاحم التوحيد ، وتضاهي الشرك ، أو أنّها عكس ذلك توافق التوحيد ، و ليست من الشرك في شيء أبداً ؟
ولهذا نجري معك في هذا السبيل (أي عرض هذه الاَعمال على الضابطة التي حققناها في مسألة العبادة) جنباً إلى جنب فنقول : إنّ الاَعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن :
1 ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج
فهل هذا شرك أو لا ؟
يجب عليك أخي القارىَ أن تجيب على هذا السوَال بعد عرضه على الضابطة التي مرّت في تحديد معنى العبادة و مفهومها ، فهل المسلِم المتوسِّل بالاَنبياء والاَولياء يعتقد فيهم (أُلوهية) أو (ربوبية) و لو بأدنى مراتبهما و قد
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 60 _
عرفت معنى الاَُلوهية والربوبية بجميع مراتبهما و درجاتهما ، أو إنّه يعتقد بأنّهم عباد مكرمون عند اللّه تعالى تستجاب دعوتُهم ، و يجاب طلبهم بنص القرآن الكريم.
فإذا توسّل المتوسّل بالاَنبياء والاَولياء بالصورة الاَُولى كان عمله شركاً ، يخرجه عن ربقة الاِسلام.
و إذا توسّل بالعنوان الثاني لميفعل مايزاحم التوحيد ويضاهي الشرك أبداً.
و أمّا أنّ توسّله بهم مفيد أو لا ، محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير الشرك ؟ فالبحث فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد عن الشرك ، و بيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.
2 ـ طلب الشفاعة من الصالحين
هناك من ثبت قبول شفاعتهم بنصّالقرآن الكريم و السنّة الصحيحة.
ثمّ إنّ طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنّهم مالكون للشفاعة و أنّها حقّ مختصّ بهم ، و أنّ أمر الشفاعة بيدهم ، أو إنّه قد فُوِّض إليهم ذلك المقام ، فلا شكّ أنّ ذلك شرك و انحراف عن جادة التوحيد ، و اعتراف بأُلوهية الشفيع (المستَشْفع به) و ربوبيته ، ودعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى والقيد شرك لا محالة.
وأمّا إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنّهم عباد مأمورون من جانب اللّه سبحانه للشفاعة في من يأذن لهم اللّه بالشفاعة له ، ولا يشفعون لمن لم يأذن اللّه بالشفاعة له ، و إنّ الشفاعة بالتالي حقّ مختص باللّه بيد أنّه تعالى ، يجري فيضه على عباده عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.
فالطلب بهذا المعنى و بهذه الصورة لا يزاحم التوحيد ، ولا يضاهي الشرك ،
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 61 _
فهو طلب شيء من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة و مأموريته الخاصة.
وأمّا أنّه طلب مفيد أو لا ، أو أنّه محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد ؟ فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز ـ كما أسلفنا ـ على بيان التوحيد والشرك في العبادة.
3 ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم.
فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك ؟
الجواب هو أنّهذا العمل قد يكون توحيداًمن وجه ، و قد يكون شركاً من وجه آخر.
فإن كان التعظيم و التكريم ـ بأيّصورة كان ـ قد صدر عن الاَشخاص تجاه أُولئك الاَولياء بما أنّهوَلاء الاَولياء عِباد أبرار ، وقفوا حياتهم على الدعوة إلى اللّه ، و ضحّوا بأنفسهم و أهليهم و أموالهم في سبيل اللّه ، و بذلوا في هداية البشرية كلّ غالٍ و رخيص ، فانّ مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد ، لاَنّه تكريم عبدٍ من عباد اللّه لما أسداه من خدمة في سبيل اللّه ، مع الاعتراف بأنّه عبد لا يملك شيئاً إلاّ ما ملّكه اللّه ، و لا يقدر على عمل إلاّبما أقدره اللّه عليه.
انّ مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أيّشكّ.
وأمّا أنّه مفيد أو لا ، أو أنّه حلال أو حرام من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.
وأمّا إذا وقع التعظيم والتكريم للولي معتقداً بأنّه ـ حيّاً كان أو ميّتاً ـ مالك لواقعية الاَُلوهية أو درجة منها ، أو أنّه واجد لمعنى الربوبيّة أو مرتبة منها ، فانّه ـ و لا شكّ ـ شرك و خروج عن جادة التوحيد.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 62 _
4 ـ الاستعانة بالاَولياء :
فهل الاِستعانة بالاَولياء توافق التوحيد أم توافق الشرك ؟ إنّ الاِجابة على ذلك تتضح بعد عرض الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا ، فلو استعان أحد بولي ـ حياً كان أو ميتاً ـ على شيء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً ، و الميت حياً ، باعتقاد أنّ المستعان إله ، أو ربّ ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.
وأمّا إذا طلب منه كلّ ذلك أوبعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شيء إلاّ بما أقدره اللّه عليه ، وأعطاه و أنّه لا يفعل ما يفعل إلاّبإذن اللّه تعالى ، و إرادته ، فالاستعانة به و طلب العون منه حينئذٍ من صلب التوحيد ، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميّتاً ، و أن يكون العمل المطلوب منه عملاً عادياً أو خارقاً للعادة.
وأمّا أنّالمستعان قادر على الاِعانة أو لا ، أو أنّ هذه الاِستعانة مجدية أو لا ، و أنّ هذه الاستغاثة محلّلة أو محرمة ، من جهات أُخرى أو لا ؟ فكلّذلك خارج عن إطار هذا البحث.
وقس عليه سائر ما يرد عليك من الموضوعات التي يتشدد فيها الوهابيون من غير سند سوى التقليد لابن تيمية أو ابن عبد الوهاب ، و هم يعتمدون على أقوال الرجال مكان الاعتماد على النصوص في الكتاب و السنّة فترى انّ استدلالاتهم تدور حول أقوالهم
لقد حصحص الحقّ و بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها ولعلّه لم تبق لمجادل شبهة ، ولمرتاب ، شك ، غير أنّ هنا أُموراًربما تطرح بصورة السوَال أو تدور في خلد القارىَ الكريم فلنأت بها ، مع أجوبتها على وجه الايجاز.
السوَال الاَوّل
هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى ؟
الجواب
إنّهناك جماعة من المحقّقين من يفسر العبادة بنحو ما تقدم ، منهم الاَقطاب الاَربعة للعلم و الفضيلة من علماء النجف الاَشرف و الاَزهر الشريف ، و نذكرهم حسب تقدم تاريخ وفاتهم.
1 ـ الشيخ جعفر كاشف الغطا (1156 ـ 1228 )
قال في كتابه الذي ألّفه رداً على رسالة عبد العزيز بن سعود : لا ريب انّه لا يُراد بالعبادة (التي لا تكون إلاّ للّه ، و من أتى بها لغير اللّه ، فقد كفر) مطلقُ الخضوع والخشوع والانقياد ، كما يظهر من كلام أهل اللغة ، و إلاّ لزم كفر العبيد والاَُجراء و جميعُ الخدّام للاَُمراء ، بل كفر الاَنبياء في خضوعهم للآباء ، و جميع من تواضع للاخوان ، أو لاَحد من أصحاب الاِحسان.
وإنّما الباعث على الكفر ، إنقياد البعض لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الاَمر من الكريم المتعال ، و أنّ لهم تدبيراً و اختياراً.
إين حال المسلمين مِنْ حال مَنْ جعل الآلهة ثلاثة ، أو اثنين ، و اتخذ الملائكة أرباباً دون اللّه ، وبعض المخلوقين أنداداً و شركاء ، يعبدونها من دون اللّه أو
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 64 _
مع اللّه ، إمّا لاَهليتهم ، أو لترتب التقرب إلى اللّه زلفى ، من دون أمر اللّه لهم بذلك ، قال تعالى : ( وَ ما أنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (يوسف|40)
إعلم انّالاَلفاظ اللغوية والعرفية العامة ، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة ، فتلك لا تحتاج إلى بيان ، سواء وردت في السنة و القرآن أم لا.
وأمّا إذا انقلبت عن المعاني الاَوّلية إلى غيرها ، أو استعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية ، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان ، كلفظ الصلاة ، و الصيام ، و الحجّ ، فانّه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها ، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والاِمساك والقصد ، بل معنى جديد تتوقف معرفته على بيان و تحديد.
و من هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما ، فانّه لايراد بهما في لحوق الشرك بهما ، المعنى القديم ، و إلاّ لزم كفر الناس من يوم أدم إلى يومنا هذا ، لاَنّ العبادة بمعنى الطاعة ، و الدعاء بمعنى النداء والاستعانة بالمخلوق لايخلو منها أحد.
ومن أطوع من العبد لسيّده ، و الزوجة لزوجها ، و الرعية لملوكهم ، ولا زالو ينادونهم و يطلبونهم إعانتهم و مساعدتهم ، بل الروَسا ، لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم و يندبونهم.
فعلم انّه لا يراد بهذه المذكورات المعاني السابقات ، و تعينت إرادة المعاني الجديدة.
وقال في تحقيق الدعاء الذي هو مخّ العبادة : إن أُريد بدعوة غير اللّه والاستغاثة ، اسناد الاَمر إلى المخلوق على انّه الفاعل المختار ، الذي تنتهي إليه المنافع والمضار ، فذلك من أقوال الكفار ، و المسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة ، و من قائلها ، و ما أظن أنّ أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي ، ولاسمعناه من أحد إلى يومنا هذا.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 65 _
وإن أريد انّ المدعوّ و المستغاث به ، له اختيار وتصرّف في أمر اللّه ، فيحكم على اللّه ، فهذا أشدّ كفراً من الاَوّل.
وإن أُريد دعاوَه و الاستغاثة به ، للدعاء والشفاعة (أي ليدعوَ له أو يشفع له عند اللّه) ، فهذا من أعظم الطاعات ، و فيه محافظة على الآداب من كل ّالجهات.
وكون الدعاء عبادة إنّما يجري في قسم منه ، و هو الطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الاَشياء والنظائر ، ولو جعلت كلّ دعاء عبادة ، للزم أن يكون دعاء زيد لاصلاح بعض الاَُمور ، أو دفع بعض المحذور ، من قبيل الكفر (1)
2 ـ البلاغي النجفي (1284 ـ 1352 هـ)
إنّ العلاّمة الحجّة المحقّق ، الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي قد قام بتفسير العبادة في تفسيره الشريف المسمى بـ (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) بنفس التعريف الذي ذكرناه فقد أدى حقّ المقال و نقتبس منه ما يلي : لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رِسْلِهم و مجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر ، و يعرفون بذوقهم مجازه و وجه التجوز فيه ، و إنّالمحور الذي يدور عليه استعمالهم و تبادرهم هو أنّ العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالالهيّة ، أو بعنوان أنّه رمز أو مجسمة لمن يزعمه إلهاً ، تعالى اللّه عمّا يشركون ، و لكن الخطأ و الشرك أو البهتان و الزور أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة :
الاَوّل : الاِتيان بما تتحقّق به حقيقة العبادة لما ليس أهلاً لذلك بل هو مخلوق للّه كعبادة الاَوثان مثلاً.
---------------------------
(1) جعفر النجفي المعروف بكاشف الغطاء ، منهج الرشاد : 86 ـ 91 بتلخيص.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 66 _
الثاني : مقام البهتان والافتراء و خدمة الاَغراض الفاسدة لترويج التحزبات الاَثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الاِمام شيئاًمن الاحترام بعنوان أنّه عبد مخلوق للّه ، مقرّب عنده لاَنّه عبده و أطاعه ، أنّه عَبد ذلك المحترم وأشرك باللّه في عبادته ، ألا تدري لمن يبهتون بذلك ، يبهتون من يحترم النبي أو الاِمام تقرباًإلى اللّه ، لاَنّه اختاره و أكرمه بمقام الرسالة أو الاِمامة التي هي بجعل اللّه و عهده كما وعد اللّه بذلك إبراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة : ( وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قال َلا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ ) (البقرة | 124) و هذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه و لا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هوَلاء المتحزبين ، لملوكهم ، وزعمائهم ، وحكّامهم ، وخضوعهم لهم بالقول والعمل.
المقام الثالث : كثيراً ما فُسِّرت العبادة بأنّها ضرب من الشكر ، مع ضرب من الخضوع ، أو الطاعة وهل يخفى عليك أنّهذه التفاسير مبنيّة على التساهل بخصوصيات الاستعمال ، أو الارتباك في مقام التفسير ، وهل يخفى أن ّأغلب الاَفراد من كلّ واحد ممّا ذكروه لا يراه الناس عبادة و يغلطون من يسمّيها أو بعضها عبادة إلاّ على سبيل المجاز.
و إنّلفظ العبادة و ما يشتق منه كَعَبَدَو يَعْبُد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلا ّفيما ذكرناه من معاملة الاِنسان لمن يتخذه إلهاً معاملة الاِله ، المستحق لذلك بمقامه في الآلهية (1)
3 ـ القضاعي العزامي الشافعي (1284 ـ 1358 هـ)
قد ألف العلاّمة المدقق الشيخ سلامة القضاعي العزامي المصري كتاباً أسماه (فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الاَكوان) ، و طُبع في مقدمة
---------------------------
(1) البلاغي : آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1 : 57 ـ 58.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 67 _
الاَسماء و الصفات للبيهقي وهو من أنفس ما كتب في هذا الموضوع ، و قداشتمل بإيجازه على عقائد ابن تيمية و نقده بالعرض على الكتاب والسنّة غير أنّأنصار الحشوية ، عمدوا في الآونة الاَخيرة إلى إبعاد الكتاب عن متناول الطالبين فطبعوا كتاب البيهقي مجرّداًعن هذا التقديم ، مع أنّه لايقلّ عن ذيه لولم نقل إنّه يزيد عليه وزناًو قيمة.
فقد أفاض الكلام في معنى العبادة على وجه دقيق نقتبس منه مايلي : إنّ الغلط في تفسير العبادة ، المزلقةُ الكبرى والمزلَّة العظمى ، التي أُستحِلت بها دماءُ لا تحصى ، وانتهكت بها أعراض لا تعد ، وتقاطعت فيها أرحام أمر اللّه بها أن توصل ، عياذاً باللّه من المزالق والفتن ، ولاسيما فتن الشبهات ، فاعلم أنّهم فسروا العبادة بالاِتيان بأقصى غاية الخضوع ، و أرادوا بذلك المعنى اللغوي ، أمّا معناها الشرعي فهو أخصّ من هذا كما يظهر للمحقّق الصبّار على البحث من استقراء مواردها في الشرع ، فانّه الاِتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً ، باعتقاد ربوبية المخضوع له ، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً ، في كثير ولا قليل مهما كان المأتي به و لو سجوداً.
ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع و الضرّ ، و كنفوذ المشيئة لا محالة و لو بطريق الشفاعة لعابده عند الربّ الّذي هو أكبر من هذا المعبود ، و إنّما كفر المشركون بسجودهم لاَوثانهم و دعائهم إيّاهم ، وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقّق هذا القيد فيهم ، و هو اعتقادهم ربوبية ما خضعوا له ، أو خاصة من خواصها كما سيأتيك تفصيله ، و لا يصحّ أن يكون السجود لغير اللّه فضلاً عمّا دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد ، عبادة شرعاً (كسجود الملائكة لآدم) ، فانّه حينئذٍ يكون كفراً و ما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع ، ولا يأمر اللّه عزّ وجلّ به ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (الاَعراف | 28) ( وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْر ) (الزمر | 7) و ذلك ظاهر إن شاء اللّه.
و ها أنت ذا تسمع اللّه تعالى قد قال للملائكة : ( اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 68 _
إِلاّ ابلِْيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ ) (البقرة | 34) و قال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) (الاَعراف | 12) وقال : ( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلْقْتَ طِيناً ) (الاِسراء | 61) والقول بأنّ آدم كان قبلة قول لا يرضاه التحقيق و يرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم.
فإن تعسّر عليك فهم هذا و هوليس بعسير إن شاء اللّه تعالى ، فانظر إلى نفسك فانّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك و احترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه ، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها ، و لا يكون ذلك منك عبادة له ، لماذا لاَنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شيء من خصائص الربوبية فيه ، و تقف في الصلاة قدر الفاتحة و تجلس فيها قدر التشهد و هو قدر دقيقة أو دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيتَ له ، و سرّ ذلك هو أنّهذا الخضوع الممثّل في قيامك و قعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعتَ له عزّوجل.
وتدعو رئيسك في عمل من الاَعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك و أنت معتقد فيه انّه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر ، و لكن اللّه جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلاً منه سبحانه ، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعوّ ، و أنت على ما وصفنا ، فإن دعوتَه و أنت تعتقد فيه أنّه مستقل بالنفع ، أو الضرّ ، أو نافذ المشيئة مع اللّه لا محالة ، كنت له بذلك الدعاء عابداً ، و بهذه العبادة أشركته مع اللّه عزّوجلّ ، لاَنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية ، فانّالاستقلال بالجلب أو الدفع و نفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية ، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لاَصنامهم و نحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع ، أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لامحالة مع اللّه تعالى ، و لو على سبيل الشفاعة عنده ، فانّهم يعتبرونه الربّ الاَكبر و لمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته ، و بمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 69 _
المشيئة معه لا محالة.
ويدل لما قلنا آيات كثيرة كقوله تعالى : ( أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُركُمْ مِنْ دُونِ الرَّحمنِ إِنِ الْكافِرونَ إِلاّ في غُرُورٍ ) (الملك | 20) و قوله : ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنْها يَصْحَبُونَ ) (الاَنبياء | 43) و الاستفهام في الآيتين إنكاري على سبيل التوبيخ لهم على ما اعتقدوه. وحكى اللّه عن قوم هود قولهم له (عليه السلام) : ( إِنْنَقُولُ إِلاّاعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ) (هود|54) وقوله لهم : ( فَكِيدُوني جَميعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنّي تَوَكَلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ... ) (هود | 55 ـ 56) و كقوله تعالى موبخاً لهم يوم القيامة على ما اعتقدوه لها من الاستقلال بالنفع ووجوب نفوذ مشيئتها : ( أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) (الشعراء | 92 ـ 93) و قولهم و هم في النار يختصمون يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية و خصائصها : ( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِذْنُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ ) (الشعراء | 97 ـ 98) فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب ، ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم ، فانّالتسوية المذكورة إن كانت في إثبات شيء من صفات الربوبية فهو المطلوب ، و من هذه الحيثية شركهم و كفرهم ، لاَنّصفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها في سواه عزّ وجلّ ، و إن كانت التسوية في استحقاقها للعبادة فهو يستلزم اعتقاد الاشتراك فيما به الاستحقاق ، و هو صفات الاَُلوهية أو بعضها ، و إن كانت في العبادة نفسها فهي لا تكون من العاقل إلاّلمن يعتقد استحقاقه لها كربّ العالمين ، تعالى اللّه عمّا يشركون.
وكيف يُنفى عنهم اعتقاد الربوبية بآلهتهم وقد اتّخذوها أنداداً و أحبوها كحبّاللّه كما قال تعالى فيهم : ( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) (البقرة | 165) و الاَنداد جمع (ند) و هو على ما قاله أهل التفسير واللغة : المثل المساوى ، فهذا ينادي عليهم انّهم اعتقدوا فيها ضرباً من المساواة
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 70 _
للحقّ تعالى عمّا يقولون (1)
4 ـ فقيه العصر السيد الخوئي (1317 ـ 1412 هـ)
إن ّللسيد الفقيه المحقّق السيد أبي القاسم الخوئي قدَّس سرَّه كلاماً في العبادة في تفسير قوله سبحانه : ( إيّاك نعبد و إيّاك نستعين ) نأتي به : قال : إنّ حقيقة العبادة خضوع العبد لربّه بما أنّه ربّه و القائم بأمره ، و الربوبية تقتضي حضورَ الربّ لتربية مربوبه ، و تدبير شوَونه ، وكذلك الحال في الاستعانة فانّحاجة الاِنسان إلى إعانة ربّه و عدم استغنائه عنه في عبادته ، تقتضي حضورَ المعبود لتتحقّق منه الاِعانة ، فلهذين الاَمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربّه غير غائب عنه.
مما لا يرتاب فيه مسلم أنّالعبادة بمعنى التألّه ، تختص باللّه سبحانه وحده ، وقد قلنا : إنّهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ العبادة عند الاِطلاق ، و هذا هو التوحيد الذي أُرسلت به الرسل ، و أُنزلت لاَجله الكتب : ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً وَلايَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران | 64).
فالاِيمان باللّه تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره ، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق ، و إنكار التوحيد في الذات ، أم نشأت عن الاعتقاد بأنّالخلق معزولون عن اللّه فلا يصل إليه دعاوَهم ، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة أُخرى تكون وسائط بينهم و بين اللّه يقربونهم إليه ، و شأنه في ذلك شأن الملوك و حفدتهم ، فانّالملك لما كان بعيداً عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم ، و يجيبون دعواتهم.
---------------------------
(1) القضاعي العزامي المصريّ ، فرقان القرآن : 111 ـ 114 .
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 71 _
وقد أبطل اللّه سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز ، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدتا ) (الاَنبياء | 22) ( وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ) (الموَمنون | 91).
وأمّا الاعتقاد الثاني ـ و هو إنّما ينشأ عن مقايسته بالملوك و الزعماء من البشر ـ فقد أبطله اللّه بوجوه من البيان : فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى ، و انّها ممّا لم يدل عليه دليل ، فقال : ( ءَإِلهٌ مَعَ اللّهِ قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (النمل | 64) ( قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظِلُّ لَها عاكِفينَ * قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعونَ * او يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضلُّون * قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) (الشعراء 71 ـ 74).
و أُخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أنّما يعبدونه لا يملك لهم ضرّاًو لا نفعاً ، والّذي لا يملك شيئاًمن النفع والضرّ ، والقبض والبسط ، و الاِماتة و الاِحياء ، لا يكون إلاّمخلوقاً ضعيفاً ، ولا ينبغي أن يتخذ إلهاً معبوداً.
( قالَ أَفَتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَفٍلا تَعْقِلُونَ ) (الاَنبياء | 66 ـ 67) ، ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لا نَفْعاً ) (المائدة | 76) ( أَلَمْ يَرَوا أَنّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيِهِمْ سَبيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمينَ ) (الاَعراف | 148) (1)
---------------------------
(1) السيدا لخوئي : البيان في تفسير القرآن : 455 ـ 462.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 72 _
السوَال الثاني
ما هو المراد من العبادة في هذه الآيات ؟
إذا كانت العبادةُ هي الخضوع أمام موجود بما أنّه إله أو ربّ أو من بيده مصير الاِنسان أو بيده أفعاله من شفاعة و مغفرة ، فما هو المراد منها في الآيات التالية التي لايصحُّ تفسير العبادة فيها بالمعنى المذكور ؟
قال سبحانه حاكياً عن الخليل (عليه السلام) : ( يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيطانَ كانَ للرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (مريم | 44).
ومن المعلوم أنّمخاطَبَ الخليل ، لم يكن يعبد الشيطان بالمعنى المذكور إذ لميتخذه إلهاً و رباً ، و إنّما كان يعبد التماثيل والاَصنام بما أنّها آلهة و أرباب و هذا إن دلّعلى شيء ، فإنّما يدل على أنّه يصحّ استعمالها في مورد لم يكن المخضوع له إلهاً ولا ربّاً لدى الخاضع.
وقال سبحانه : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ ) (يس | 60) و ليس الشيطان عند الكفّار والعصاة إلهاً ولا ربّاً ، مع أنّه وصف الانقياد له بالعبادة.
وقال سبحانه : ( فَقالُوا أَنُوَْمِنُ لِبَشَرينِ مِثْلِنا وَقَومُهُما لَنا عابِدُونَ ) (الموَمنون | 47) و لميكن بنو إسرائيل عبدةً لفرعونَ و قومه بالمعنى المطلوب وإنّما كانوا أذلاّء بأيديهم.
الجواب
أمّا الآية الاَُولى ، فقد استعيرت العبادة فيها ، للطاعة العمياء ، للشيطان
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 73 _
على الدوام ، فكان اتباعهم الشيطان في كل ما يأمر و ينهى يمثِّل أنّهم اتّخذوه إلهاً و ربّاً فأطاعوه كإطاعة الموَمنين للّه على بصيرة من أمرهم بما انّه إلههم و ربّهم ، فكأنّ الخليل يخاطب آزر و يقول له : يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الاَصنام لاَنّالشيطان عصِـيّ مقيم على معصية اللّه الّذي هو مصدر كلّرحمة و نعمة ، فهو لا يأمر إلاّ بما فيه معصيته و الحرمان من رحمته.
ومثلها الآية الثانية ، فالمراد هوالطاعة فاستعيرت لها العبادة تبييناً لاَمرها والمراد منها التبعيّة المطلقة العشوائية التي نهيت عنها في عدّة آيات بهذه اللفظة قال سبحانه : ( كُلُوا مِمّا فِي الاََرْضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (البقرة | 168) و قال تعالى : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً وَ لا تَبَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (البقرة | 208) و قال عزّمن قائل : ( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُفِي اللّهِ بِغَيْرِعِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَريدٍ ) (الحجّ | 3).
و بالجملة : تبعيتهم للشيطان أو إطاعتهم للهوى و الميول النفسانية ، يمثّل اتّخاذهم لها إلهاً ، أو ربّاً قال سبحانه : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (الفرقان | 43).
وقال عزّ من قائل : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (الجاثية | 23) أي (انقاد لهواه كانقياده لاِلهه ، فيرتكب ما يدعوه إليه ، نعم انّهم لم يتخذوا هواهم إلهاً حقيقة لكنّهم لمّا إنقادوا حيثما قادهم الهوى ، فكأنّه صار إلهاً لهم.
ومثله قوله سبحانه : ( أَنُوَْمِنُ لِبَشَرَيْنِ وَ قَوْمَهُما لَنا عابدون ) و المراد هو المعنى اللغوى المحض أي خاضعون ، متذللون ، و منه أيضاً إطلاق المعبّد على الطريق الذي يكثر المرور عليه ، والآية نظير قوله : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ ) (الشعراء | 22) أي جعلتهم أذلاّء تَذْبَح أبناءهم و تستحيي
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 74 _
نساءهم.
وحصيلة البحث : أنّ استعمال العبادة في مورد الشيطان ، أو الاِله في مورد الهوى من باب مجاز الاستعارة ، والغاية هو بيان فرط خضوعهم للشيطان أو الميول النفسانية ، وأمّا استعمالها في قوم موسى فالمقصود هو المعنى اللغوي.
و ممّا ذكرنا تقف على مفاد العبادة في الحديث المعروف : من أصغى إلى ناطق فقدعبده ، فإن نطق عن اللّه فقد عبد اللّه ، و إن نطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان (1)
فقد استعيرت العبادة في الحديث للطاعة المطلقة التي نعبر عنها بالاستسلام المطلق فيتقبل السامع كلّما يلقيه فيكون مطيعاً في أوامره و نواهيه ، وفي مثل هذا الموقف بما أنّ الناطق مبلِّغ عن غيره فكأنّه مطيع للغير محقّاً كان أو مبطلاً.
السوَال الثالث
ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟
قد تعرفت ـ فيما مضى ـ أنّ التوحيد في الطاعة من مراتب التوحيد وانّه لا مطاع إلاّاللّه سبحانه فيقع الكلام في إطاعة غيره فنقول هي على أقسام :
الاَوّل : أن تكون طاعتُه بأمر من اللّه سبحانه كما هو الحال في إطاعة الرسول و خلفائه الطاهرين و هي في الحقيقة اطاعة للّه ، قال سبحانه : ( وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ ) (النساء | 80) وقال عزّمن قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلا ّلِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (النساء | 64).
الثاني : أن تكون طاعته منهيّاً عنها كإطاعة الشيطان و من يأمر بالعصيان
قال سبحانه : ( يا أَيهَا النَبِيُّ اتَّقِ اللّهِ وَلا تُطِعِ الْكافِرينَ وَالْمُنافِقينَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيماً ) (الاَحزاب | 1) وقال عزّ من قائل : ( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) (لقمان | 15)
الثالث : أن لا يتعلّق بها أمر و لا نهي في الشرع فتكون حينئذٍ جائزة غير واجبة ولا محرّمة كإطاعة الجندي لآمره ، و العامل لربّ عمل ، وهكذا إطاعة كلّ مروَوس لرئيسه في أيّ تجمع كان ، إذا لم يأمر بالحرام.
إنّكلّتجمع سواء كان عسكرياً أو مدنياً ، يتشكّل من أعضاء ذوي مراتب مختلفة و لايصل إلى الغاية المنشودة إلاّإذا كانت بين الاَعضاء درجات في مستويات الاِمرة ، ففي مثل هذا التجمع تلزم الطاعة من العناصر المقومة للوصول إلى الغاية ، و لاتعد تلك الطاعة شركاً منافياً لحصر الطاعة في اللّه و ذلك لاَنّ الشارع أعطى حرية التعامل بين هذه المستويات بشرط أن لا يكون فيه تجاوز عن الحدود ، و الطاعة بين المروَوس و رئيسه من لوازم انجاز الاَعمال وتحقيق الغاية ضمن عقد اجتماعي ، وأين هي من طاعة اللّه سبحانه بما أنّه إله ، خالق ، ربّ.
وأمّا الخضوع للغير فهو على أقسام :
أحدها : الخضوع لمخلوق من دون أن يكون بينه و بين خالقه ، إضافة خاصة كخضوع الولد لوالده ، و الخادم لسيده و المتعلم لمعلّمه و غير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس ، و هذا الفرع من الخضوع جائز مالم يرد فيه نهي كالسجود لغير اللّه قال سبحانه : ( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغيراً ) (الاِسراء | 24).
ثانيها : الخضوع للمخلوق باعتقاد أنّ له إضافة خاصة إلى اللّه يستحقّمن أجلها ، الخضوع له ، مع كون العقيدة خاطئة ، باطلة كخضوع أهل المذاهب
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 76 _
الفاسدة لروَسائهم ، فلا شكّ في أنّها حرام لكونها تشريعاً و إدخالاً في الدين لما ليس منه قال سبحانه : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً ) (الكهف | 15).
ثالثها : الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده ، كما في الخضوع للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة ، كالمسجد الحرام ، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية ، و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى : ( فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ ) (المائدة | 54).
بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه ، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه ، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده ، ثمّاعتقد بأنّالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الاَنبياء | 26 ـ 27) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم ، لم يخرج بذلك عن حدّ الاِيمان ، ولم يعبد غير اللّه.
ولقد علم كلّ مسلم أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقبّل الحجر الاَسود ، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره (1)
---------------------------
(1) السيد الخوئي : البيان : 468 ـ 469.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 77 _
السوَال الرابع
دواعي العبادة للّه سبحانه
العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها ؟
الجواب : العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَُمور الثلاثة التالية :
1 و 2 ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه
وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة من الآيات : قال سبحانه : ( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً ) (السجدة | 16) وقال عزّمن قائل : ( وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ ) (الاَعراف | 56).
وقال عزّمن قائل : ( أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَه ُوَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) (الاِسراء | 57).
ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين ، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي ، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته ، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.
لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات ، و لكنّها
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 78 _
غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده ، و أين تلك الاَُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير ، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.
وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام : قال أمير الموَمنين (عليه السلام) : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار ، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد ، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار (1)
وقال الاِمام الصادق (عليه السلام) : العبادة ثلاثة ، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَُجراء ، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار ، وهي أفضل العبادة (2)
3 ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة
أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد ، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال ، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية ، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية ، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده ، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس : ( وَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر | 19 ـ 40) قال سيد الموحدين علي (عليه السلام) : (ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك (3)
---------------------------
(1) نهج البلاغة ، قسم الحكم برقم 237.
(2) الحر العاملي : وسائل الشيعة ج 1 | 44 ، ب 8 من أبواب المقدمة ، الحديث 8.
(3) المجلسي : مرآة العقول ، ج 8 ، ص 89 : باب النيّة.
لقد ترك الاِهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً ، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الاِمام و المأموم فنرى أنّإمام الحنابلة أحمد بن حنبل (164 ـ 241 هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللّه بن أحمد ، و قال : سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتبرّك بمسِّه ، و يُقَبّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك ، يريد بذلك التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ ؟ فقال : (لا بأس بذلك) (1)
هذه هي فتوى الاِمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية ، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ و لم ير بأساً بذلك ، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع ، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الاَجسام و الجمادات عبادة ، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء ، باعتبار أنّه إله أو ربّ ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله ، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد ، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف ، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة ، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الاَشياء.
---------------------------
(1) أحمد بن حنبل ، العلل و معرفة الرجال 2 : 492 ، برقم : 3243 ، تحقيق الدكتور وصي اللّه عباس ، ط بيروت 1408.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 80 _
و لمّا كانت فتوى الاِمام ثقيلة على محقّق الكتاب ، أو من علق عليه لاَنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية ، و من لفَّ لفَّه ، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الاِمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر ، فقال : (أمّا مسّمنبر النبيّ فقد أثبت الاِمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص 41) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة ، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (4 | 121) عن زيد بن الحباب قال : حدّثني أبو مودود قال : حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال : رأيت نفراً من أصحاب النبيّإذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها ، ودعوا قال : و رأيت يزيد يفعل ذلك.
وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف ، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به).
ويلاحظ على هذا الكلام : بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّبابن عمر ، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر :
أوّلاً : لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الاِمام المفتي أن يذكر القيدَ ، ولا يُطلق كلامَه ، حتى ولو افترضنا أنّالمنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الاَكرم ، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي ، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد ، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك ، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.
وثانياً : أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه ، وذلك لاَنّ معناه أنّلجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به ، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا موَثّر في الكون إلاّاللّه سبحانه ، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 81 _
الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.
ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والتبرك به ، ومنعهما و قال في وجهه : (وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الاِمام ، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص 31) : اتّفق الاَئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله ، وهذا كلّه محافظة على التوحيد ، فإنّ من أُصول الشرك باللّه اتّخاذ القبور مساجد) (1)
لكن يلاحظ عليه : كيف يقول : لم أجد أحداً نقله عن الاِمام ، أو ليس ولده أبو عبد اللّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.
وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الاَوّل نفس التوحيد ، و الثاني أساس الشرك ، فمن غرائب الاَُمور ، لاَنّ الاَمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللّه سبحانه ، فلو كان هذا محور الشرك ، فالموضوعان سيّان ، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ ، ينتفع بالاَوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الاَوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الاَوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لاَجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى.
و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه ، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين ، و لاَجل إيقاف القارىَ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك :
1 ـ إنّفاطمة الزهراءعليها السَّلام ـ سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ـ حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول :
ما ذا على من شمّتربة أحمد ألاّيـشمّ مدى الزمان غوالياً
---------------------------
(1) تعليقة المحقّق ، نفس الصفحة.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 82 _
صُـبَّتْ عـليَّ مـصائب لو iiأنّها صُبَّتْ على الاَيّام صِرنَ ليالياً (1)
إنّهذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومةعليها السَّلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.
2 ـ إنّ بلالاً ـ موَّذّن رسول اللّه ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يقول : (ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال ؟).
فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً ، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن و الحسين عليمها السَّلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما ... إلى آخر الخبر (2)
والحقّ انّالاِختلاف بين السلف الصالح ، و الخلف !! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد ، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي :
1 ـ قال ابن حبّان : (في شأن الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام : (قد زرته مراراً ، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه و عليه ، و دعوت اللّه ازالتها عني إلاّ استجيب و زالت عني تلك الشدة ، و هذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك (3)
2 ـ نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال : (سمعت أبا بكر محمد بن الموَمل بن الحسن بن عيسى يقول : خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة ، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك
---------------------------
(1) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من الموَرخين ، منهم السمهودي في وفاء الوفا 2 : 444 ـ و الخالدي في صلح الاخوان : 57 ، و غيرهما.
(2) ابن ا لاَثير : أُسد الغابة 1 : 28 ، و غيره من المصادر.
(3) ابن حبان : كتاب الثقات ، ج 8 ، ص 457.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 83 _
متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليمها السَّلام بطوس قال : فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا) (1)
3 ـ وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام 914 في كتابه القيم : (المعيار المعرب) سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّ (عليه السلام) وبغيره من الاَنبياء صلوات اللّه على جميعهم ، و يتوسل بالاَولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين ، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللّه في حوائجه بالولي على التعيين ؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا ؟
فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين ، وقد توسل عمر بالعباس رضي اللّه عنهما ، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين ، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم ، ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه ، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهوَلاء السادات نفعنا اللّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم ، و ورد في بعض الاَخبار انّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل : اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة ، فقال الاِمام الاَوحد عزّ الدين بن عبد السّلام : هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لانّه سيّد ولد آدم ، ولا يُقسم على اللّه تعالى بغيره من الاَنبياء والملائكة والاَولياء ، لانّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على علوّ درجته و مرتبته انتهى (2)
ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الاَُمور ، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة ، غيرمخالفة للتوحيد ، بينما الوهابيين يدّعون انّهذه الاَُمور ، تنافي التوحيد و تقارن
---------------------------
(1) ابن حجر : تهذيب التهذيب ، ج 7 | 388.
(2) المعيار المعرب عن فتاوى علماء افريقية والاَندلس والمغرب ، ج 1|317 ـ 322.
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 84 _
الشرك ، من دون أن يقيموا دليلاً على مخالفتها للتوحيد ، إلاّ الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح ، فهم مقلده أقوال الرجال ، و قدسيطرت على عقولهم ، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.
أن ّموقف الكاتب أبي الاَعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه (المصطلحات الاَربعة) فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادىَ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الاَربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن (لاوعى) كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال : (و صفوة القول أنّ التصور الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة).
هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلاّ عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله ، لاَجل أنّهم عباد صالحون ( لا يعصون اللّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون) فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلاّذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لاَنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
تصور خاطىَ : انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود ، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلاّاعتقاد المتوسل أن ّللنبي مثلاً نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم
الأسماء الثلاثة الاِله ، الربّ ، والعبادة _ 85 _
وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلاّما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون فلا يبعثه عليه إلاّاعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الاَُلوهية (1)
أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون ، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشوَون الاِلهية و لا أقلّسلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا ـ والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه : ( وَ لَو اَنّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاوَُكَ فَاسْتغفَروا اللّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدوا اللّهَ تَواباً رَحِيماً ) (النساء | 64) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لاَجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه : ( وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَووا رُوَسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون ) (المنافقون | 5).
و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم ، و اختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال ، لانّالهدف هو انّالداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.
انّ الكاتب المودودي أخذ البرىء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلاّ قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.
---------------------------
(1) المودودي : المصطلحات الاَربعة | 18 ـ 19.