الفهرس العام

    7 ـ تخاذل المسلمين وفرارهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
    بيعة المسلمين على عدم الفرار
    معركة بدر
    وقعة أحد
    معركة الأحزاب
    يوم حنين
    غزوة حنين ذات العبرة


      ويقول أيضاً (عليه السلام):
      اللّهم إن هذا المقام لخلفائك ، وأصفيائك ومواضع امنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزوها وأنت المقدر لذلك لا يغالب أمرُك ، ولا يُجاوز المحتوم من تدبيرك ، كيف شئت وأنّى شئت ، ولما أنت أعلم به ، غيرُ متهم على خلقك ولا لأرادتك ، حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين ، يرون حكمك مبّدلاً ، وكتابَك منبوذاً ، وفرائضك محُرّفةً عن جهات إشراعك، وسننَ نبيك متروكة ، اللّهم العن اعداءهم من الأولين والآخرين ومن رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم.(1)


      والمؤسف حقاً أنّه ما كانت هناك من معركة كبيرة إلاّ وفرّ فيها المسلمون أو تخاذلوا ونحن نتساءل : لماذا أورد الله تعالى حوادث فرارهم وتخاذلهم في كتابه المجيد، أما كان الأُولى في نظر الجاهل أن يستر الله عليهم ذلك ولا يفضحهم في كتاب كريم سيبقى صادحاً إلى قيام الساعة... ؟ وإذا كان قد ثبت فرارهم وهو ثابت ، فالسؤال هنا ، ما عقوبة الفرار من الزحف ؟ والجواب يأتيك في قوله تعالى :
      (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَال أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَة فَقَدْ بَاءَ

    ---------------------------
    (1) دعاؤه في يوم الأضحى والجمعة 295 ـ 296.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 137 _

      بِغَضَب مِنَ اللهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ)(1).
      وإنّه لمن الغريب على العقول والاسماع إدعاءهم في ابتداء الأمر في مكة ، واستباقاً لأمر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتال المشركين ، وكان الأمر ـ عكس ذلك ـ كما أخبر به الله تعالى وأثبتته الأيام والمحن ، فقد بان مقدار الشقة بين القول والفعل.
      (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَل قَرِيب قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً )(2).
      وقد كان الايسر من هذا التكليف شاقاً عليهم كما في آيتي النجوى ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(3).
      وقد نسخت ـ كما مرَّ ـ لأن من يملك الدرهم أو أكثر قد ظنَّ بدرهمه ، زهداً بمناجاة حبيب الرحمن ـ ولم يعمل بها إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام).
      (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَات فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(4).

    ---------------------------
    (1) الأنفال : 15 ـ 16.
    (2) النساء : 77.
    (3) مجادلة : 12.
    (4) المجادلة : 13.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 138 _

      وقد أخبرهم تعالى إن إقامة الصلاة وايتاء الزكاة هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه أفضل من قُصد بالمخاطبة في زمن الابتلاء.
      وتزداد الغرابة اذاعلمنا أنهم بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة على عدم الفرار كما رووا هم فيما يسمى (ببيعة الشجرة) وبعد أن عفا الله عنهم في بدر وأحد ، ثم نكثوا عهدهم وفروا في غزوه خيبر التي وقعت في السنة السابعة للهجرة ، وفروا في حنين في السنة الثامنة للهجرة ، ونكثوا من بعد بيعة الغدير (غدير خم) بعد أن صفقوا على يد علي (عليه السلام ) في السنة العاشرة للهجرة (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيًما)(1).
      ورد في الميزان في تفسير الآية :
      قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) إلى آخر الآية، البيعة نوع من الميثاق ببذل الطاعة قال في المفردات: وبايع السلطان إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له انتهى، والكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري فكأنهم كانوا يمثلون بذلك نقل الملك بنقل التصرفات التي يتحقق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق ، وبذلك سمي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة ومبايعة ، وحقيقة معناه إعطاء المبايع

    ---------------------------
    (1) الفتح : 10.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 139 _

      يده للسلطان مثلا ليعمل به ما يشاء .
      فقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) تنزيل بيعته (صلى الله عليه وآله وسلم) منزلة بيعته تعالى بدعوى أنها هي فما يواجهونه (صلى الله عليه وآله وسلم) به من بذل الطاعة لا يواجهون به إلاّ الله سبحانه لأن طاعته طاعة الله ثم قرره زيادة تقرير وتأكيد بقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) حيث جعل يده (صلى الله عليه وآله وسلم) يد الله كما جعل رميه (صلى الله عليه وآله وسلم) رمى نفسه في قوله : (وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اللهَ رَمَى)(1).
      وفي نسبة ما له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشأن إلى نفسه تعالى آيات كثيرة كقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ)(2) وقوله: (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَ لَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(3)، وقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء) (4).
      وقوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) النكث نقض العهد والبيعة ، والجملة تفريع على قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) والمعنى : فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله ولا يتضرر بذلك إلاّ نفسه كما لا ينتفع بالإيفاء إلاّ نفسه لأن الله غني عن العالمين.

    ---------------------------
    (1) الأنفال : 17.
    (2) النساء : 80.
    (3) الأنعام : 33.
    (4) آل عمران : 128.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 140 _

      وقوله : (وَ مَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيًما) وعد جميل على حفظ العهد والإيفاء به.
      والآية لا تخلو من إيماء إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عند البيعة يضع يده على أيديهم فكانت يده على أيديهم لا بالعكس ... انتهى(1).
      وقد رُويت بيعة الصحابة على عدم الفرار في كتب العامة، والمؤسف أن الأمر بالنسبة لقسم من الصحابة لا يعدو كونه مزحة أو استهزاءاً... أو نفاقاً .


      حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال فحدثني عبدالله بن أبي بكر أن رسول الله حين بلغه أن عثمان قد قتل قال لا نبرح حتّى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة حدثني ابن عمارة الأسدي قال حدثني عبيدالله بن موسى عن موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة قال قال سلمة بن الأكوع بينما نحن قافلون من الحديبية نادى منادي النبي أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس قال فسرنا إلى رسول الله وهو تحت شجرة سمرة قال فبايعناه قال وذلك قول الله تعالى (لَقَدْ رَضِىَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(2)(3).
      3937 حدثني أحمد بن إشكاب حدثنا محمد بن فضيل عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال ثم لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما فقلت طوبى

    ---------------------------
    (1) الميزان : 18/274 ـ 275.
    (2) الفتح : 18.
    (3) تاريخ الطبري : 2/121.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 141 _

      لك صحبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعته تحت الشجرة فقال يابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده .(1)
      عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله أنهم كانوا يوم الحديبية أربعة عشر ومائة قال فبايعنا رسول الله وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه غير الجد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره قال جابر بايعنا رسول الله على ألا نفر ولم نبايعه على الموت وقد قيل في ذلك ما حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبر أبو عامر قال أخبرنا عكرمة اليمامي عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه أن النبي دعا الناس للبيعة في أصل الشجرة فبايعته في أول الناس ثم بايع وبايع حتّى إذا كان في وسط من الناس قال بايع يا سلمة قال قلت قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس قال وأيضاً ورآني النبي أعزل فأعطاني حجفة أو درقة قال ثم إن رسول الله بايع الناس حتّى إذا كان في آخرهم قال ألا تبايع يا سلمة قلت يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم قال وأيضاً قال فبايعته الثالثة فقال رسول الله فأين الدرقة والحجفة التي أعطيتك قلت لقيني عمي عامر أعزل فأعطيته إياها فضحك رسول الله وقال إنك كالذي قال الأوّل اللهم ابغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال فبايع رسول الله الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلاّ الجد بن قيس أخو بني سلمة قال كان جابر بن عبدالله يقول لكأني أنظر إليه لاصقا

    ---------------------------
    (1) صحيح البخاري : 4/1529.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 142 _

      بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس ثم أتى رسول الله أن الذي كان من أمر عثمان باطل (1).
      وسنحاول بأذن الله تعالى أن نلقي نظرةً سريعةً على البعض من بعض المعارك والغزوات ونستعرض أدوار الصحابة فيها.


      تأمل في الآية التالية الّتي تصف حال معظم المسلمين قبل معركة بدر :
    (وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَي الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)(2).
      والجلي أن حبَّ الدنياوالسلامة كان مقدماً عندهم على الاهداف العالية للإسلام.
      وإذا أردنا فهم الصورة كاملة فلابد أن نستعرض الآيتين السابقتين ثمّ آية لاحقة والجميع مع الآية موضع البحث بيان ساطع على اعتراض المسلمين على اللهورسوله فهم كانوا يجادلون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )ليحرفوه عن حق كرره الله تعالى في الآيات الأربع : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ

    ---------------------------
    (1) تاريخ الطبري : 2/122.
    (2) الأنفال : 7.

    معركة بدر _ 143 _

      وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَي الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُونَ)(1).
      النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) يستشير في أمر الحرب: لما كان المسلمون قرب بدر ، وعرفوا بجمع قريش ، ومجيئها ، خافوا وجزعوا من ذلك ، فاستشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أصحابه في الحرب، أو طلب العير، فقام أبو بكر ، فقال : يا رسول ، إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلت منذ عزت ، ولم تخرج على هيئة الحرب، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اجلس فجلس ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أشيروا عليّ.
      فقام عمر ، فقال مثل مقالة أبي بكر ، فأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجلوس ، فجلس ، ونسب الواقدي والحلبي الكلام المتقدم لعمر، وقالا عن أبي بكر : إنّه قال فأحسن (2)، ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، والله لو أمرتنا: أن نخوض جمر الغضا (نوع من الشجر صلب) ، وشوك الهراس لخضناه معك ، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : (اذْهَبْ أَنْتَ

    ---------------------------
    (1) الأنفال : 5 ـ 8.
    (2) راجع مغازي الواقدي : 1/48 ، والسيرة الحلبية : 2/150 ، والدر المنثور : 3/166 ، ودلائل النبوة للبهيقي ، والبحار : 19/247 ، وتفسير القمي : 1/258.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 144 _

      وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ )(1)، ولكنا نقول : إذهب أنت وربك ، فقاتلا ، إنا معكم مقاتلون ، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك ، ولو خضت بحرا لخضناه معك ، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتبعناك ،(2) فأشرق وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعا له ، وسر لذلك ، وضحك كما يذكره المؤرخون (3).
      فيلاحظ : أن الكلام كله قد كان من المهاجرين، وقد ظهر منهم : أنهم لا يريدون حرب قريش ، وهم يتفادون ذلك بأي ثمن كان ، غير أن المقداد قد رد عليهم مقالتهم ، وخالفهم في موقفهم، ثم توجه النبي إلى الانصار، حيث يقول النص التاريخي: ثم قال : أشيروا علي ـ وإنّما يريد الانصار، لان أكثر الناس منهم ، ولانه كان يخشى أن يكونوا يرون : أن عليهم نصرته في المدينة، إن دهمه عدو ، لا في خارجها ، فقام سعد بن معاذ ـ وقيل ابن عبادة وهو وهم ، لانه لم يشهد بدرا ، لانه كان قد لدغ ، فلم يمكنه الخروج (4) .
      فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كأنك أردتنا ؟ قال : نعم ، فقال : فلعلك قد خرجت على أمر قد أمرت بغيره ؟ قال : نعم ، قال : بأبي أنت وأمي يا

    ---------------------------
    (1) المائدة : 24.
    (2) برك الغماد : يعني مدينة الحبشة كما في تاريخ الخميس : 1/373 وموضع من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر وهو على ثمان ليالمن مكة الى اليمن ، راجع مغازي الواقدي : 1/48.
    (3) تاريخ الخميس : 1/372 ، والسيرة الحلبية : 2/150 عن الكشاف ومغازي الواقدي : 1/48.
    (4) السيرة الحلبية : 2/150.

    معركة بدر _ 145 _

       رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت، إلى أن قال : والله، لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر خضناه معك ، ولعل الله يريك ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله، فسر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمرهم بالمسير ، وأخبرهم بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين، (وَ لَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ)(1) ، ثم قال : والله، لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة إلخ... وسار حتّى نزل بدرا ، ويظهر من بعض النصوص: أن الصحابة كانوا ـ في أكثرهم ـ يميلون إلى طلب العير، وترك النفير(2) (3) .


      والآيات الكريمة التالية تصف لك مشاهد من معركة أُحد:
      (وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَ تَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَ اللهُ ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَد وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمّ لِكَىْ لاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا

    ---------------------------
    (1) الحج : 47.
    (2) الدر المنثور : 3/163 و 169 عن ابن جرير ، وأبي الشيخ ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وعبد بن حميد والبداية والنهاية : 3/263.
    (3) الصحيح من السيرة ، السيد جعفر مرتضى : 5/21 ـ 23.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 146 _

      فَاتَكُمْ وَ لاَ مَا أَصَابَكُمْ وَ اللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَي طَائِفَةً مِنْكُمْ وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيء قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيء مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(1).
      ورد في التفسير أن تصعدون أي تذهبون وتبعدون في الأرض وبمصطلح أبسط : تفرون ، وكان صوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصل إلى آخر الفارين فما رجع الأوّل ولا الآخر ، فتركوه فراراً خوف القتل باستثناء الأربعة، كما أشرنا سابقاً.
      ولقد علمتَ ما تظنُّ وما تقول طائفة منهم، فهم إنما كانوا يريدون من الله تعالى كما يريد أهل الجاهلية ، فإذا كان في الدنيا ربح وفوز كانوا من اتباعه الظاهرين وإذا مُحّصوا ببلاء شككوا في حقيقة الدين، فهو نفاق يدل عليه قوله تعالى يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ، وهذا واقع أمر من فر منهم ،

    ---------------------------
    (1) آل عمران : 152 ـ 155.

    معركة بدر _ 147 _

      فهم قد أنكروا الحق والدين قلباً وجرى على ألسنتهم ظاهراً .
      2874 حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما يحدث قال ثم جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبدالله بن جبير فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبدالله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبدالله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا والله لتأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول فى أخراهم فلم يبق مع النبي اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً(1).
      3839 حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال ثم جاء رجل حج البيت فرأى جلوسا فقال من هؤلاء القعود قالوا هؤلاء قريش قال من الشيخ قالوا بن عمر فأتاه فقال إني سائلك عن شيء اتحدثني قال أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد قال نعم قال فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها قال نعم قال فتعلم أنّه تخلف

    ---------------------------
    (1) صحيح البخاري : 3/1105.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 148 _

      عن بيعة الرضوان فلم يشهدها قال نعم فكبر(1).
      3840 حدثني عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال ثم جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الرجالة يوم أحد عبدالله بن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول فى أخراهم(2).
      روى الواقدي قال لما صاح إبليس أن محمدا قد قتل تفرق الناس فمنهم من ورد المدينة فكان أوّل من وردها يخبر أن محمداً قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة ثم ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم حتى جعل النساء يقلن أعن رسول الله تفرون ويقول لهم ابن أم مكتوم أعن رسول الله تفرون يؤنب بهم وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلفه بالمدينة يصلي بالناس ثم قال دلوني على الطريق يعني طريق أحد فدلوه فجعل يستخبر كل من لقي فى الطريق حتى لحق القوم فعلم بسلامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم رجع وكان ممن ولى عمر وعثمان والحارث بن حاطب وثعلبة بن حاطب وسواد بن غزية وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان وخارجة بن عمر بلغ ملل وأوس بن قيظى في نفر من بني حارثة بلغوا الشقرة ولقيتهم أم أيمن تحثي في وجوههم التراب وتقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به وهلم واحتج من قال بفرار عمر بما رواه الواقدي في كتاب المغازي في قصة الحديبية قال قال عمر يومئذ يا

    ---------------------------
    (1) صحيح البخاري : 4/1491 باب قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) آل عمران : 155.
    (2) صحيح البخاري : 4/1492.

    معركة الأحزاب _ 149 _

      رسول الله ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) أقلت لكم في سفركم هذا قال عمر لا قال أما إنكم ستدخلونه وآخذ مفتاح الكعبة وأحلق رأسي ورؤوسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين ثم أقبل على عمر وقال أنسيتم يوم أحد إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَد وأنا أدعوكم في أخراكم أنسيتم يوم الأحزاب إذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوقْكِمْ وَمِن أَسْفَلَ مِنْكُمْ وإذْ زاغَتِ الأَبْصارُ وَبَلَغَتِ القْلُوبُ الحَناجِرَ أنسيتم يوم كذا وجعل يذكرهم أُموراً أنسيتم يوم كذا فقال المسلمون صدق الله ورسوله أنت يا رسول الله أعلم بالله منا فلما دخل عام القضية وحلق رأسه قال هذا الذي كنت وعدتكم به فلما كان يوم الفتح وأخذ الكعبة قال ادعوا إلي عمر بن الخطاب فجاء فقال هذا الذي كنت قلت لكم قالوا فلو لم يكن فر يوم أحد لما قال له أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون(1)(2).


      ثم ينطق القرآن مستجلياً بأروع الصور البيانية دواخل النفوس في معركة لو لم ينصر الله تعالى فيها الإسلام بعلي (عليه السلام )والريح لما وصل الينا حتى اسمه ، والآيات الكريمة التالية تغنيك عن أي كلام .

    ---------------------------
    (1) شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد المعتزلي : ج 15/24 ـ 25.
    (2) صحيح البخاري : 4/1492 ، باب (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) آل عمران : 153 ، تصعدون تذهبون أصعد و صعد فوق البيت.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 150 _

      (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِي الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِىَ بِعَوْرَة إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَ مَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذًا لاَ تُمَتَعُّونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة حِدَاد أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَ لَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً)(1).

    ---------------------------
    (1) الأحزاب : 10 ـ 20.

    بحث في الصحبة والصحابة _ 151 _

      ورد في الميزان في تفسير الآيات ما بعضه .
      زيغ الابصار وبلوغ القلوب الحناجر كنايتان عن كمال غشيان الخوف لهم حتّى حوّلهم إلى حال المحتضر الّذي يزيغ بصره وتبلغ روحه الحلقوم.
      وقال السيد الطباطبائي (رحمه الله) : ولو دخل جنود المشركين بيوتهم من جوانبها وهم فيها ثم طلبوا منهم أن يرتدّوا عن الدين لأعطوهم مسؤولهم وما تاخروا بالردِّ إلاّ يسيراً بمقدار الطلب والسؤال ، أي أنهم يقيمون على الدين ما دام الرخاء فاِذا هجمت عليهم الشدة والبأس لم يلبثوا دون أن يرجعوا ... انتهى.
      فقد حوصرت المدينة من قبل المشركين وقد تحالف معهم اليهود، وكان عدد المسلمين يومئذ سبعمائة، حفروا خندقاً يقيهم صولة الأحزاب ولم يعبر من المشركين الخندق سوى أربعة على رأسهم عمر بن ود العامري الّذي كان يعرف بفارس يليل ، وقد دعا المسلمين للنزال فلم يجبه أحد غير علي ، وفي كل مرة يطلب علي (عليه السلام) الأذن من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يأذن له حتى الثالثة ، وعمرو يرتجز قائلاً :

ولـقد بححت من iiالنداء      بجمعكم  هل من iiمبارز
ووقفت إذ جبن iiالمشجع      مـوقف  القرن iiالمناجز
وكـذلك  أنـي لم iiأزل      مـتسرعاً نحو iiالهزاهز
اِن الـشجاعة في iiالفتى      والجود من خير الغرائز
 عندها برز أمير المؤمنين (عليه السلام )مرتجزاً :

بحث في الصحبة والصحابة _ 152 _

لاتـعـجلنَّ  فـقـد iiأتــا      ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نــيـة iiوبـصـيـرة      يـرجو  بـذاك نـجاة iiفائز
إنــي  لأرجـو ان iiأقـيم      عـلـيك  نـائحة الـجنائز
مــن  ضـربـة iiنـجلاء      يـبقى  ذكرها عند iiالهزاهز
  والقصة معروفة لآخرها، وفيها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
  برز الإيمان كله للشرك كله .
  وها نحن ننقل اليك بالحرف الواحد ما جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري بخصوص وقعة الخندق.
  4327 حدثنا لؤلؤ بن عبدالله المقتدري في قصر الخليفة ببغداد حدثنا أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبدالوهاب العصري بدمشق حدثنا أحمد بن عيسى الخشاب بتنيس حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا سفيان الثوري عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جحده قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة.(1)
  4329 حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبدالجبار حدثنا يونس بن بكير عن بن إسحاق قال ثم كان عمرو بن عبد ود ثالث قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة ولم يشهد أحدا فلما كان

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين : 3/34.

بحث في الصحبة والصحابة _ 153 _

  يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده فلما وقف هو وخيله قال له علي يا عمرو قد كنت تعاهد الله لقريش أن لا يدعو رجل إلى خلتين إلاّ قبلت منه أحدهما فقال عمرو أجل فقال له علي (رضي الله عنه ) فإني أدعوك إلى الله عزوجل وإلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام فقال لا حاجة لي في ذلك قال فإني أدعوك إلى البراز قال يا بن أخي لم فوالله ما أحب أن أقتلك فقال علي لكني أحب أن أقتلك فحمي عمرو فاقتحم عن فرسه فعقره ثم أقبل فجاء إلى علي وقال من يبارز فقام علي وهو مقنع في الحديد فقال أنا له يا نبي الله فقال إنّه عمرو بن عبد ود اجلس فنادى عمرو ألا رجل فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمشى إليه علي (رضي الله عنه ) يقول :
لا  تـعجلن فـقد iiأتـاك      مجيب صوتك غير عاجز
ذو نـبـهة iiوبـصـيرة      والـصدق  منجا كل فائز
أنـي  لأرجـو أن اقـيم      عـليك نـائحة iiالـجنائز
مـن  ضربة نجلاء iiيبقى      ذكـرها  ثـم iiالـهزاهز
  فقال له عمرو من أنت قال أنا علي قال بن من قال بن عبد مناف أنا علي بن أبي طالب فقال عندك يابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فانصرف فإني أكره أن أهريق دمك فقال علي لكني والله ما أكره أن أهريق دمك فغضب فنزل فسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضبا واستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي (رضي الله عنه) على حبل العاتق فسقط وثار العجاج

بحث في الصحبة والصحابة _ 154 _

  فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التكبير فعرف أن عليا قتله فثم يقول علي (رضي الله عنه) :
أعـلي  يقتحم الفوارس iiهكذا      عني  وعنهم أخروا iiأصحابي
اليوم  يمنعني الفرار iiحفيظتي      ومصمم في الرأس ليس بنابي
إلاّ  بـن عـبد حين شد iiإليه      وحـلفت فاستمعوا من الكتاب
أنـي لأصدق من يهلل بالتقى      رجلان  يضربان كل iiضراب
فـصدرت حين تركته متجدلا      كـالجذع  بين دكادك وروابي
وعـففت عن أثوابه ولو أنني      كـنت الـمقطر بزني iiأثوابي
عبد  الحجارة من سفاهة iiعقله      وعـبدت ربَّ محمد iiبصواب
  ثم أقبل علي (رضي الله عنه) نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل فقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) هلا أسلبته درعه فليس للعرب درعا خيرا منها فقال ضربته فاتقاني بسوءته واستحييت بن عمي أن أستلبه وخرجت خيله منهزمة حتّى أقحمت من الخندق.(1)
  4330 حدثنا أبو بكر بن دارم الحفاظ حدثنا المنذر بن محمد اللخمي حدثنا أبي حدثنا يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ عن محمد بن إسحاق بن يسار قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال ثم لما قتل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عمرو بن عبد ود أنشأت أخته عمرة بنت عبد ود ترثيه فقالت :
لـو كان قاتل عمر غير iiقاتله
بكيته ما قام الروح في جسدي

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين : 3/34.

بحث في الصحبة والصحابة _ 155 _

لـكن قـاتله مـن لا يـعاب iiبه
وكان يدعى قديما أبوه بيضة البلد (1)

يوم حنين

  واما بالنسبة لحنين فاِليك القول الحق :
  (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة وَ يَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(2).
  في المجمع: ذكر أهل التفسير وأصحاب السير ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكّة خرج منها متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوال في سنة ثمان من الهجرة وقد عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواءه الأكبر ودفعه إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان عدد من خرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اثني عشر ألف رجل ، ولما صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باصحابه الغداة انحدر في وادي حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كل ناحية وانهزمت بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم ما وراءهم وخلّى الله بينهم وبين عدوهم لاعجابهم بكثرتهم وبقي علي (عليه السلام) ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل ومرَّ المنهزمون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يلوون على شيء وكان العباس بن عبد المطلب آخذاً بلجام بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والفضل عن يمينه وأبو سفيان بن

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين : 3/35.
(2) التوبة : 25.

بحث في الصحبة والصحابة _ 156 _

  الحارث بن عبد المطلب عن يساره ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم وعاشرهم ايمن بن أم ايمن وفي ذلك يقول العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة      وقـد  فـرَّ من قد فرَّ عنه iiفاقشعوا
وقـولي  إذا مـا الفضل كرّ بسيفه      عـلى القوم اخرى يا بنيَّ iiليرجعوا
وعـاشرنا  لاقـى الـحمام iiبنفسه      لـمـا نـاله فـي الله لا iiيـتوجع
  وهذه صفحات قليلة من الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، تحكي عن يوم حنين :

غزوة حنين ذات العبرة

  (حنين) منطقة قريبة من الطائف، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سمّيت باسم المنطقة ذاتها ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ (يوم حنين) ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن أيضاً .
  أمّا تسميتها بأوطاس ، فلأن (أوطاس) أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن ، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى بهوازن.
  أمّا كيف حدثت هذه الغزوة ، فبناء على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة ، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله : من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة ، فقالوا : من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.

بحث في الصحبة والصحابة _ 157 _

  فلما بلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر المسلمين أن يتوجهوا إلى أرض هوازن (1).
  وبالرغم من عدم الاختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها ، إلاّ أنّ في جزئياتها روايا متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر ، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي ، بناء على روايته القائلة : إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.
  فعقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لواءه ، وسلمّه عليّاً (عليه السلام ) وأمر حملة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إلى حنين ، واطّلع النّبي أن صفوان بن أمية لديه دروع كثيرة ، فأرسل النبي إليه أن أعرنا مائة درع ، فقال صفوان : أتريدونها عارية أم غصبا ؟ فقال النبي : بل عارية نضمنها ونعيدها سالمة إليك ، فأعطى صفوان النبي مائة درع على أنّها عارية ، وتحرك مع النبي بنفسه إلى حنين.
  وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة ، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة ، وصاروا حوالي اثني عشر ألفا ، وتحركوا نحو حنين .

---------------------------
(1) راجع الكامل لأبن الأثير : 2/261 ، نقلنا القصة بشئ من الأختصار.

بحث في الصحبة والصحابة _ 158 _

  فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئا شهما ـ لقبيلته : اكسروا أغماد سيوفكم ، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار، واكمنوا لجيش الإسلام، فإذا جاءوكم الغداة (عتمة) فاحملوا عليهم وأبيدوهم.
  ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا : إن محمّدا لم يواجه حتّى الآن رجال حرب شجعانا ، ليذوق مرارة الهزيمة!! فلما صلّى النبي صلاة الغداة (الصبح) بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين ، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب ، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم ، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش ، فكان أن ذهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.
  فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو ، وترك الجيشين على حالهما ، ولم يحم المسلمين لغرورهم ـ مؤقتا ـ حتّى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.
  إلاّ أن عليّا حامل لواء النبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم ، وفيهم عمه العباس ، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.
  فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النبي فأمر النبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فورا : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، إلى أين تفروّن ؟ هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

بحث في الصحبة والصحابة _ 159 _

  فلمّا سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا: لبيّك لبيّك ، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة ، وتقدّموا بأذن الله ونصره ، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة ، والمسلمون مازالوا يحملون عليها ، فقتل حوالي مائة شخص من هوازن ، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم (1).
  وتقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النبي وأعلنوا إسلامهم ، وأبدى لهم النبي صفحه وحبّه ، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة ، فردّ النبي عليه أموال قبيلته وأسراه ، وصيّره رئيس المسلمين في قبيلته أيضاً .
  والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين بادئ الأمرـ بالإضافة إلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثا وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعا ، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النبي لأخذ الغنائم ، وجماعة منهم كانوا بلا هدف ، فأثر فرار هؤلاء في بقية الجيش.
  أمّا السرّ في انتصارهم النهائي فهو وقوف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام ) وجماعة قليلة من الأصحاب ، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إلى لطفه الخاص ونصره .

---------------------------
(1) مجمع البيان : 5/17 ـ 19.