ومن الطرائف العجيبة ما تجددت على فاطمة (عليها السلام) بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيهم من الأذى والظلم وكسر حرمتها وحرمة أبيها والاستخفاف بتعظيمه لها وتزكيتها كما تقدمت رواياتهم عنه في حقها من الشهادة بطهارتها وجلالتها وشرفها على سائر النساء وأنها سيدة نساء أهل الجنة فذكر أصحاب التواريخ في ذلك رسالة طويلة تتضمن صورة الحال أمر المأمون الخليفة العباسي بإنشائها وقراءتها في موسم الحج وقد ذكرها صاحب التاريخ المعروف بالعباسي وأشار الروحي الفقيه صاحب التاريخ إلى ذلك في حوادث سنة ثماني عشرة ومائتين، جملتها أن جماعة من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام ) رفعوا قصة إلى المأمون الخليفة العباسي من بني العباس يذكرون أن فدك والعوالي كانت لأمهم فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيهم وأن أبا بكر أخرج يدها عنها بغير حق وسألوا المأمون إنصافهم وكشف ظلامتهم فأحضر المأمون مائتي رجل من علماء الحجاز والعراق وغيرهم وهو يؤكد عليهم في أداء الأمانة واتباع الصدق وعرفهم ما ذكره ورثة فاطمة في قضيتهم وسألهم عما عندهم من الحديث الصحيح في ذلك. فروى غير واحد منهم عن بشير بن الوليد والواقدي وبشر بن عتاب في أحاديث يرفعونها إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيهم لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهود فنزل عليه جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)(1) فقال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ذو القربى وما
---------------------------
(1) الأسراء : 26 .
بحث في الصحبة والصحابة
_ 236 _
حقه قال فاطمة (عليها السلام ) تدفع إليها فدك فدفع إليها فدك ثم أعطاها العوالي بعد ذلك فاستغلتها حتّى توفي أبوها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما بويع أبو بكر منعها أبو بكر منها فكلمته فاطمة (عليها السلام) في رد فدك والعوالي عليها وقالت له إنها لي وإن أبي دفعها إلي فقال أبو بكر ولا أمنعك ما دفع إليك أبوك فأراد أن يكتب لها كتابا فاستوقفه عمر بن الخطاب وقال إنها امرأة فادعها بالبينة على ما ادعت فأمر أبو بكر أن تفعل فجاءت بأم أيمن وأسماء بنت عميس مع علي بن أبي طالب (عليه السلام ) فشهدوا لها جميعاً بذلك فكتب لها أبو بكر فبلغ ذلك عمر فأتاه فأخبره أبو بكر الخبر فأخذ الصحيفة فمحاها فقال إن فاطمة امراة وعلي بن أبي طالب زوجها وهو جار إلى نفسه ولا يكون بشهادة امرأتين دون رجل فأرسل أبو بكر إلى فاطمة (عليها السلام ) فأعلمها بذلك فحلفت بالله الذي لا إله إلاّ هو أنهم ما شهدوا إلاّ بالحق فقال أبو بكر فلعل أن تكوني صادقة ولكن أحضري شاهدا لا يجر إلى نفسه فقالت فاطمة ألم تسمعا من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول أسماء بنت عميس وأم أيمن من أهل الجنة فقالا بلى فقالت امرأتان من الجنة تشهدان بباطل فانصرفت صارخة تنادي أباها وتقول قد أخبرني أبي بأني أول من يلحق به فوالله لأشكونهما فلم تلبث أن مرضت فأوصت عليا أن لا يصليا عليها وهجرتهما فلم تكلمهما حتّى ماتت فدفنها علي (عليه السلام) والعباس ليلاً ، فدفع المأمون الجماعة عن مجلسه ذلك اليوم ثم أحضر في اليوم الآخر ألف رجل من أهل الفقه والعلم وشرح لهم الحال وأمرهم بتقوى الله ومراقبته فتناظروا واستظهروا ثم افترقوا فرقتين فقالت
بحث في الصحبة والصحابة
_ 237 _
طائفة منهم الزوج عندنا جار إلى نفسه فلا شهادة له ولكنا نرى يمين فاطمة قد أوجبت لها ما ادعت مع شهادة الامرأتين وقالت طائفة نرى اليمين مع الشهادة لا توجب حكما ولكن شهادة الزوج عندنا جائزة ولانراه جارا إلى نفسه فقد وجب بشهادته مع شهادة الامرأتين لفاطمة (عليها السلام ) ما ادعت فكان اختلاف الطائفتين إجماعا منهما على استحقاق فاطمة (عليها السلام) فدك والعوالي، فسألهم المأمون بعد ذلك عن فضائل لعلي بن أبي طالب (عليه السلام ) فذكروا منها طرفاً جليلة قد تضمنه رسالة المأمون وسألهم عن فاطمة (عليها السلام ) فرووا لها عن أبيها فضائل جميلة وسألهم عن أم أيمن وأسماء بنت عميس فرووا عن نبيهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهما من أهل الجنة فقال المأمون أيجوز أن يقال أو يعتقد أن علي بن أبي طالب مع ورعه وزهده يشهد لفاطمة بغير حق وقد شهد الله تعالى ورسوله بهذه الفضائل له أو يجوز مع علمه وفضله أن يقال إنّه يمشي في شهادة وهو يجهل الحكم فيها وهل يجوز أن يقال إن فاطمة مع طهارتها وعصمتها وأنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة كما رويتم تطلب شيئا ليس لها تظلم فيه جميع المسلمين وتقسم عليه بالله الذي لا إله إلاّ هو أو يجوز أن يقال عن أم أيمن وأسماء بنت عميس أنهما شهدتا بالزور وهما من أهل الجنة إن الطعن على فاطمة وشهودها طعن على كتاب الله وإلحاد في دين الله حاشا الله أن يكون ذلك كذلك ، ثم عارضهم المأمون بحديث رووه أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أقام مناديا بعد وفاة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيهم ينادي من كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) دين أو عدة فليحضر فحضر
بحث في الصحبة والصحابة
_ 238 _
جماعة فأعطاهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما ذكروه بغير بينة وإن أبا بكر أمر مناديا ينادي بمثل ذلك فحضر جرير بن عبدالله وادعى على نبيهم عدة فأعطاها أبو بكر بغير بينة وحضر جابر بن عبدالله وذكر أن نبيهم وعده أن يحثو له ثلاث حثوات من مال البحرين فلما قدم مال البحرين بعد وفاة نبيهم أعطاه أبو بكر الثلاث الحثوات بدعواه بغير بينة ، قال عبدالمحمود وقد ذكر الحميدي هذا الحديث في الجمع بين الصحيحين في الحديث التاسع من إفراد مسلم من مسند جابر وأن جابرا قال فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال أبو بكر خذ مثليها ، قال رواة رسالة المأمون فتعجب المأمون من ذلك وقال أما كانت فاطمة وشهودها يجرون مجرى جرير بن عبدالله وجابر بن عبدالله ثم تقدم بسطر الرسالة المشار إليها وأمر أن تقرأ بالموسم على رؤوس الأشهاد وجعل فدك والعوالي في يد محمد بن يحيى بن الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعمرها ويستغلها ويقسم دخلها بين ورثة فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيهم ، ومن طرائف صحيح الأجوبة في ترك علي بن أبي طالب (عليه السلام)لاستعادة فدك لما بويع له بالخلافة ما ذكره ابن بابويه في أوائل كتاب العلل في باب العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) فدك لما ولي الناس بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) يعني جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال قلت له لم لم يأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) فدك لما ولي الناس ولأي علة تركها فقال لأن الظالم والمظلومة قد كانا قدما على الله عزوجل وأثاب الله المظلومة وعاقب الظالم فكره أن يسترجع شيئا قد عاقب الله عليه غاصبه وأثاب عليه المغصوبة وذكر أيضاً في الباب المذكور جواباً آخر
بحث في الصحبة والصحابة
_ 239 _
ورواه بإسناده إلى إبراهيم الكرخي قال سألت أبا عبدالله (عليه السلام ) فقلت له لأي علة ترك أمير المؤمنين فدك لما ولي الناس فقال للاقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكة وقد باع عقيل بن أبي طالب داره فقيل له يا رسول الله ألا ترجع إلى دارك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) وهل ترك عقيل لنا دارا إنا أهل بيت لا نسترجع شيئا يؤخذ منا ظلما فلذلك لم يسترجع فدك لما ولي وذكر أيضاً في الباب المذكور جوابا ثالثا بإسناده إلى علي بن فضال عن أبيه عن أبي الحسن يعني موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام ) قال سألته عن أمير المؤمنين لم لم يسترجع فدك لما ولي الناس فقال لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلاّ هو يعني إلاّ الله ونحن أولياء المؤمنين إنّما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم ولا نأخذ لأنفسنا .
قال عبدالمحمود ما زلت أسمع علماء أهل البيت( عليهم السلام ) يتألمون من أبي بكر وعمر بأخذ فدك من أمهم وقد وقفت على كتب لهم وروايات كثيرة عن سلفهم حتّى أنهم يراعون حفظ حدود فدك كما يراعي المظلوم حفظ حدود ضيعته وملكه إذا غصب منه.
قال عبدالمحمود ومن طريف ما رأيت من المناقضة في ذلك أن أبا بكر وعمر يردان شهادة علي بن أبي طالب (عليه السلام ) ويقولان إنّه يجر إلى نفسه وقد عرف أهل الملل والعارفون بأحوال الإسلام أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما كان طالبا للدنياولا راغبا فيها ولا متكلا عليها كما فعل أبو بكر وعمر حتّى يقال أنّه يجر إلى نفسه ، ومن طريف ذلك أن يكون الله العالم بالسرائر يشهد لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) على لسان رسولهم على ما ذكروه في صحاحهم وقد
بحث في الصحبة والصحابة
_ 240 _
تقدم بعضه أن علي بن أبي طالب (عليه السلام )ممدوح مزكى في الحياة وبعد الوفاة وأنّه أفضل الصحابة فإن جاز الشك في علي (عليه السلام) الموصوف بتلك الصفات فإنّما هو شك فيمن أسندوا إليه تلك الروايات وتكذيب لأنفسهم فيما صححوه ونقص للإسلام الذي مدحوه ومن طريف ذلك أن تسقط شهادة علي (عليه السلام ) بدعوى أنّه يجر إلى نفسه ويشهد أبو بكر أن ميراث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) للمسلمين فإذا كان أبو بكر من المسلمين فله في ميراثه حصة ولكل من وافقه في الشهادة بذلك فكيف لا يكونون جارين إلى أنفسهم وكيف لا يبطل شهادة أبي بكر وهو في تلك الحال يزعم أنّه وكيل المسلمين وشاهد لهم وشاهد لنفسه ومدع لثبوت يده على فدك والعوالي ولا يكون بعض هذه الأُمور الفادحة في الشهادات مبطلا لشهادته ولا جارا إلى نفسه ولا مسقطا لروايته إن ذلك من طرائف ما ادعاه المسلمون وعجائب السلف الماضين.
ما ذكره المسمى صدر الأئمة عندهم فخر خوارزم موفق بن أحمد المكي في كتابه قال ما هذا لفظه وممّا سمعت في المقادير بإسنادي عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا علي إن الله تعالى زوجك فاطمة وجعل صداقها الأرض فمن مشى عليها مبغضا لها مشى حراما.
قال عبدالمحمود فإذا كان الأمر كما قالوه وإن الأرض صداقها أفما كان يحسن أن تعطى من جملة صداقها فدكا وهل رواياتهم لمثل هذا إلاّ زيادة في الحجة عليهم فإن من قد شهدتم أن الأرض صداقها فكيف جاز أن
بحث في الصحبة والصحابة
_ 241 _
تكذب وتمنع من فدك إن هذا من عجائب ما نقلوه ومناقض ما قالوه. ومن طريف مناقضتهم أيضاً ما رواه أبو بكر بن مردويه في كتابه بإسناده قال نابت أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) نائبة فجمعهم عمر فقال لعلي (عليه السلام ) تكلم فأنت خيرهم وأعلمهم هذا لفظ الحديث، ومن طريف مناقضتهم أيضاً في ذلك روايتهم في صحاحهم بأن علياً أقضاهم وأعلمهم.
وقد ذكر الحميدي في كتاب الجمع بين الصحيحين في الحديث الأوّل من إفراد البخاري في مسند أبي بن كعب طرفا من ذلك ورووا في كتبهم كان عمر يقول لا عاش عمر لمعضلة ليس لها أبو الحسن يعني علياً (عليه السلام ) وأن لولا علي لهلك عمر.
فكيف يقال عن علي (عليه السلام) وهو بهذا العلم وهذه الأوصاف وقد بلغ من الأمانة والورع والزهادة إلى الغايات بأنه يترك زوجته المعظمة في الإسلام تطلب حكما وشيئاً لا يثبت لها ولا تقبل فيه شهادة شهودها وأنّه ممن لا يقبل شهادته في ذلك ثم يشهد لها ثم يوافقها ويعاضدها في الحياة ويزكيها بعد الوفاة، ومن طريف الأُمور الدالة على تهوينهم بفاطمة بنت نبيهم وبوصايا أبيها فيها وعدم طلبهم لمراضيها أنها تبقى ستة أشهر على ما تقدمت الرواية عنهم في صحاحهم هاجرة لأبي بكر فلا يقع توصل في رضاها وقد كان يمكن أبو بكر إذا عجز عن كل شيء أن يهب لها ما يخصها من الحصة التي ادعاها بشهادة في ميراث أبيها ويستوهب لها باقي فدك والعوالي من المسلمين أو يشتري ذلك منهم أفما كان لحق أبيها وحقها ما
بحث في الصحبة والصحابة
_ 242 _
يوجب عليه وعلى المسلمين أن يؤثروها بذلك أو يبعثوا من يشتري لها ذلك.
ومن طريف ما رأيت من اعتذارهم لأبي بكر في ظلم فاطمة (عليه السلام) بنت نبيهم أن محموداً الخوارزمي ذكر في كتاب الفائق في الأُصول لما استدلوا عليه بأن فاطمة صادقة وأنها من أهل الجنة فكيف يجوز الشك في دعواها لفدك وكيف يجوز أن يقال عنها أنها أرادت ظلم جميع المسلمين وأصرت على ذلك إلى الوفاة فقال الخوارزمي ما هذا لفظه إن كون فاطمة صادقة في دعواها وأنها من أهل الجنة لا توجب العمل بما تدعيه إلاّ ببينة ، قال الخوارزمي وإن أصحابه يقولون لا يكون حالها أعلى من حال نبيهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو ادعى نبيهم محمد مالا على ذمي وحكم حكما ما كان للحكم أن يحكم له لنبوته وكونه من أهل الجنة إلاّ ببينة ، قال عبدالمحمود أما تضحك العقول الصحيحة من هذا الكلام كيف يعدّون هؤلاء من أهل الإسلام ويزعمون أنهم قد صدقوا نبيهم في التحريم والتحليل والعطاء والمنع وكل شيء ذكره لنفسه أو لغيره ويكذبونه اويشكون في صدقه في الدعوى على ذمي حتّى يقوم ببينة إن هذا عقل ضعيف ودين سخيف ، ومن طريف ذلك أن البينة ما عرفوا ثبوتها وصحة العمل بها إلاّ من نبيهم ويكون ثبوت صدقه الآن في الدعوى على الذمي بالبينة ، ومن طريف ما تجدد في هذا المعنى أن فاطمة بنت نبيهم المشهود لها بالفضائل وأنها سيدة نساء أهل الجنة يكذبونها ويكذبون شهودها ويطعنون فيهم وفيها مع ما تقدم في رواياتهم من مدائح الله ورسوله لهم ويدعي بنوصهيب مولى بني جزعان
بحث في الصحبة والصحابة
_ 243 _
ببيتين وحجرة من بيوت نبيهم وحجراته ويطلبون ذلك بعد وفاته بمدة طويلة تقتضي أن لو كان لهم حق فيما ادعوه لظهر فيعطون ذلك بشهادة عبدالله بن عمر وحده ولا ينكر ذلك مسلم منهم ولايجري عند هؤلاء الأربعة المذاهب حال فاطمة وشهودها مجرى عبدالله بن عمر وحده وقد روى الحديث في ذلك جماعة.
وقال عبد المحمود كيف يقبل العقول ويقتضي العوائد أن نبيهم يعلم أنّه لا يورث ويكتم ذلك عن وراثه ونسائه وخاصته إن ذلك دليل واضح على أنّه قد كان موروثا على اليقين وأنهم دفعوافاطمة (عليها السلام ) ووارثه بالمحال الذي لا يخفى على أهل البصائر والدين، ومن طريف ذلك أن يكون بنو هاشم وأزواجه وابنته مشاركين لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيهم في سره وجهره ومطلعين على أحواله ويستر عنهم أنهم لا يستحقون ميراثه ويعلم ذلك أبو بكر ومن وافقه من الأباعد وليس لهم ما لبني هاشم من الاختصاص به والمخالطة له ليلا ونهاراً وسراً وجهرا إن ذلك من طرائف ما يقال عن هؤلاء القوم من ارتكاب المحال، ومن طريف ذلك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيهم يبلغ الغايات من الشفقة على الأباعد وقد تضمن كتابهم
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )(1) فيصفه الله بهذه الرأفة والرحمة ويشهدون بتصديق ذلك فكيف يقال عن هذا الشفيق الرؤوف الرحيم أنّه ترك الشفقة على مثل ابنته وعمه وأزواجه وبني هاشم ولم
---------------------------
(1) التوبة : 128 .
بحث في الصحبة والصحابة
_ 244 _
يعرفهم أنهم لا يستحقون ميراثه ويعرف بذلك الأباعد حتّى يجري ما جرى إن ذلك من عجيب المناقضات وطريف المقالات ، ومن طريف ذلك أن أبا بكر قد أقسم في الحديثين المذكورين أنّه لايغير ما كان من ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولأجل استجلاء الحقائق أكثر ننقل عدّة صفحات من كتاب الإمامة والسياسة لأبن قتيبة ، وقد حاول هذا الرجل جاهداً إخفاء أو تغيير التاريخ ولكن ظهر في كتابه ما يغنينا عن البحث في كتب الشيعة، على الأقل في ظلامة أمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) ، فقد كتب تحت عنوان: كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
قال : وانّ أبا بكر تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار علي ، فأبوا ان يخرجوا فدعا بالحطب ، وقال : والّذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة ؟ فقال : وإن.
فخرجوا فبايعوا إلاّ علياً فأنّه زعم أنّه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن.
فوقفت فاطمة ـ رض ـ على بابها ، فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا اسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازة بين ايدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردّوا لنا حقاً.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 245 _
فأتى عمر أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة ؟ فقال أبو بكر : لقنفذ وهو مولى له : إذهب فادع لي علياً ، قال : فذهب إلى علي فقال له : ما حاجتك ؟ فقال يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي : لسريع ما كذبتم على رسول الله... فرجع فأبلغ الرسالة، فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه ، فقل له : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فأدّى ما أمر به ، فرفع علي صوته فقال : سبحان الله، لقد ادّعى ما ليس له ، فرجع قنفذ ، فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلاً ، ثم قام عمر، فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة ، فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم، نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله: ماذا لقينا بعدك من إبن الخطاب وابن أبي قحافة ، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها ، إنصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم تنصدع ، وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا علياً فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : اذاً والله الّذي لا اله إلاّ هو نضرب عنقك ، فقال : إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أمّا عبد الله فنعم ، وأمّا أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ، فقال له عمر : الا تأمر فيه بأمرك ؟ فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق علي بقبر رسوله الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصيح ويبكي ، وينادي :
(ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي).
(1)
فقال أبو بكر لعمر: انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها فانطلقا جميعاً ، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما فأتيا علياً فكلماه ، فأدخلهما
---------------------------
(1) الأعراف : 150 .
بحث في الصحبة والصحابة
_ 246 _
عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط فسلمّا عليها فلم ترد عليهما السلام .
فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله: والله إنَّ قرابة رسول الله أحب اليّ من قرابتي وإنّك لأحب إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت ، ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إلاّ أني سمعت اباك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا نورّث ما تركناه فهو صدقة .
فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعرفانه وتفعلان به ؟
قالا : نعم.
فقالت : نشدتكما الله الم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد ارضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟
قالا : نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قالت : فاَني اشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه.
فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونَّ الله عليك في كل صلاة أصليها ... انتهى.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 247 _
إنظر إلى وجه المقارنة بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وهارون (عليه السلام) عند رجوع موسى (عليه السلام) بعد أخذ الالواح، وعبادة قومه لعجل السامري ـ مضامين هذه المقارنة عالية توضح لك انقلاب الناس وارتدادهم على أعقابهم بعدما أسرّوها في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وههنا إقرار منه بأنهم قد أغضبوا الزهراء وهم عالمون حق العلم ما معنى إغضاب الزهراء ،
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَ الأخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً)(1).
ولماذا عدم الأذن لهما ، وقد أذنت لهما لاحقاً وهي عالمة بذلك ، وقد قال الله تعالى :
( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ) (2) ، وقد ورد في الحديث: (من لم يقبل العذر من متنصل فقد خرج من ولايتنا).
ولماذا لم ترد عليهما السلام ، وردُّ السلام على المسلم واجب على الجميع ، البر والفاجر ، والله تعالى يقول :
(وَإِذَا حُيْيِتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيء حَسِيباً) (3).
وهل خفي على سيدة النساء :
(إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيء حَسِيباً) .
ولماذا البكاء إلى حد ازهاق النفس ، ومفاتيح الحل واضحة.
ولو كان الغضب عادياً ، لدعت الزهراء (عليها السلام) عليه مرة واحدة ، ولكنها
---------------------------
(1) الأحزاب : 57.
(2) التوبة : 6.
(3) النساء : 86.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 248 _
وحسب ظاهر الرواية آلت على نفسها الدعاء عليه في الصلوات الواجبة والنوافل والمستحبات!!
وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام ) بعدما جهز فاطمة (عليه السلام) وأودعها في قبرها ، وقد هاج به الحزن يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً : وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فاحفها السؤال واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر .
(1)
وبالرجوع إلى الإمامة والسياسية نحاول أن نستكمل الصورة الأُولى لأباية علي (عليه السلام )بيعة أبي بكر : ثم أنَّ علياً كرم الله وجهه أُتيَ به إلى أبي بكر وهو يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقيل له بايع أبا بكر ، فقال : أنا احق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للانصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم ، فأعطونا المقادة ، وسلموا إلينا الامارة وإنما أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار ، نحن أولى برسول الله حياً وميتاً فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال له عمر : أنت لست متروكاً حتى تبايع.
فقال له علي : إحلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يرده عليك غداً .
---------------------------
(1) نهج البلاغة : خطبة 202.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 249 _
ثم قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه
(1).
وذلك عين قوله (عليه السلام ) في خطبة الشقشقية المعروفة في نهج البلاغة :
أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانّه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ... إلى قوله ... فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدَّ ما تشطّرا ضرعيها فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها والأعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم ... انتهى.
ـ وقد يشكك البعض بإن الخطبة من وضع الشريف الرضي ... والحق أنّها تنقل عن الحسن عبد الله بن مسعود بن العسكري من أهل السنة في كتاب معاني الاخبار باسناده إلى ابن عباس وقال ابن الحديد في الشرح : 1 / 69 : لقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر ، قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ... إلى آخر ما قال ـ .
ثم نتابع أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت 276 في كتابه الإمامة والسياسة / طبعة بيروت ص 29 ... قال : وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على دابة ليلاً في مجالس الانصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله، قد سبقت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول
---------------------------
(1) الأمامة والسياسة : 1/28 ـ 29.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 250 _
علي كرم الله وجهه : أفكنت اَدَعُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم ... انتهى.
والكلام فيما تعرض له أهل بيت النبوة من أبي بكر وأشياعه أكبر واكثر مأساوية من أن تضمه وتصفه صفحات قليلة ، فقد امتد حتى شمل الزمن كله إلى قيام الساعة... راجع البلاذري ت 279 هـ / أنساب الاشراف ـ ط ـ مصر تحت عنوان أمر السقيفة : 1 / 586 ، الحديث 1184 ، المدائني : عن سلمة بن محارب، عن سليمان التميمي وعن ابن عون : إنَّ أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة فلم يبايع فجاء عمر ومعه فتيلة فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة : يابن الخطاب: أتراك محرقاً عليّ بابي ؟! قال : نعم وذلك أقوى فيما جاء به أبوك.
كذلك في ص 587 ، الحديث 1188 : وحدثني بكر بن الهيثم ، ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : وبعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي (رضي الله عنه) حين قعد عن بيعته ، وقال : ائتني به باعنف العنف ، فقال : إحلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلاّ ليؤثرك غداً.
كذلك الطبراني في كتابه المعجم الكبير ط 2 مج 1 ص 62 رقم 43 .
إبن عبد البر بن عاصم النحوي القرطبي/ الاستيعاب في معرفة الأصحاب .
بحث في الصحبة والصحابة
_ 251 _
أبو الفتح محمد بن أبي القاسم الشهرستاني الاشعري / الملل والنحل.
النويري في نهاية الأرب في فنون الأدب مج 19 / ص 40.
أبو الفداء / المختصر في أخبار البشر مج 1 / ص 156.
ابن شحنة / روضة المناظر في أخبار علم الاوائل والأواخر مج 7 / ص 164 .
الذهبي / تاريخ الإسلام ط 1 ص 117 ـ 118 .
الصفدي / الوافي بالوفيات.
ابن حجر العسقلاني / لسان الميزان.
المتقي الهندي / كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال.
هذه كلها سجلّت وقائع هجوم عمر وأصحابه بأمر من أبي بكر على بيت فاطمة، ولا يخفى عليك أن هؤلاء جميعاً لم يكونوا من الرافضة، بل إن البعض منهم لا يخفي أنيابه عند الكلام عن أهل بيت النبوة.
ورحم الله الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر وهو يقول في محاضراته المجموعة فيما كان يسمى : (الأئمة (عليهم السلام ) وحدة هدف وتنوع ادوار) وحالياً تحت مسمى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة ، ص 103 ـ 104 ، بعد تفصيل في بيان انحراف المتصدين لأُمور المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ما نص بعضه : كل هذا الانحراف وقع بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وتمثل في أن صحابة من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يرتضوا علياً المنصوص عليه من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلافة ، فتصدى بعضهم لها ، ومارس هؤلاء
بحث في الصحبة والصحابة
_ 252 _
المرشحون الحكم ، وقيادة التجربة الإسلامية ومارس أبو بكر ذلك ، ومن بعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ، هؤلاء الصحابة تارةً ننظر اليهم بمنظار شيعي خاص ، وهذا المنظار لا نريد أن نتحدث عنه ، ولكننا ننظر إلى هؤلاء بقطع النظر عن هذا المنظار الخاص ، فنقول : أن تسلم هؤلاء لزعامة التجربة الإسلامية كان يشكل بداية الانحراف ، وكان سبباً حتمياً لتأرجح التجربة بين الحق والباطل واستبطانها شيئاً من الباطل واتساع دائرة الباطل بالتدريج ... انتهى .
ونحن نقول أن الله تعالى يقول في كتابه .
(وَ إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
(1).
نقول إنَّ مائة وأربعة وعشرين الف نبيٍّ أخذ ميثاقهم على بعضهم وأخذ ميثاق الجميع على الايمان والنصرة لرسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) وتهيئة اُممهم لذلك ، وشهد الله تعالى معهم ، والملائكة في بعض التفاسير ، وأعقبه الباري ـ بفسق من تولى عن هذا الأمر، ثم هُدد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بإبلاغ ما انزل الله إليه .
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
---------------------------
(1) آل عمران : 81 ـ 82.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 253 _
رِسَالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
(1).
وأنّه إن لم يصرح بإسم علي (عليه السلام )وتوليته فكأنه لم يبلغ الرسالة...
أترى أن الرسالة كانت رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الّتي كانت في ثلاث وعشرين سنة ، أم أن رسالته هي الرسالة الممتدة عبر الأنبياء أجمعين ، أفلا ينبئك كتاب الله بذلك :
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجًا وَ لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
(2).
والواقع أن ما حدث في سقيفة بني ساعدة إنما هو مصادرة لجهود مائة وأربعة وعشرين ألف نبي وأضعاف مضاعفة من الاوصياء والصالحين وكل قطرة دم وعرق وتأوه وصرخة ألم، وكل عمل صغير كان أو كبير لتشييد صرح الإسلام من زمن آدم إلى ظهور المهدي الموعود (عليه السلام) وربّما أبعد وأكثر .
ومن حسنات الأقدار أن معاوية بن أبي سفيان وإن كان من الضالين الغاوين قد نطق بالحق في جوابه لكتاب محمد بن أبي بكر ، إذ يقول:
من معاوية بن أبي سفيان هذا إلى الرازي على أبيه محمد بن أبي بكر، سلام على أهل طاعة الله: أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله
---------------------------
(1) المائدة : 67.
(2) المائدة : 48.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 254 _
في قدرته وسلطانه مع كلام ألّفته ورفعته لرأيك فيه ، ذكرت حق عليّ ، وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ونصرته ومواساته أياه في كل خوف وهول ، وتفضيلك علياً وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فالحمد لله الّذي صرف ذلك عنك وجعله لغيرك ، قد كنا أنا وأبوك معنا في زمن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) نرى حق علي ـ لازماً لنا ـ وسبقه مبرزاً علينا ، فلما اختار الله لنبيه ما عنده ، وأتم له ما وعده ، قبضه الله إليه ، وكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه ، وخالفه على ذلك ، واتفقا ثم دعواه إلى انفسهما فأبطأ عليهما فهمّا به الهموم ، وأرادوا به العظيم ، فبايع وسلّم لأمرهما ، لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قضى الله من أمرهما ما قضى.
ثم قام بعدهما ثالثهما يهدي بهداهما ، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت واصحابك حتى طمع فيه الاقاصي من أهل المعاصي ، حتى بلغتما منه مناكما ، أبوك مهدّ مهاده ، فإن يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك أوله ، وإن يكن جوراً فأبوك سنّه ، ونحن شركاؤه وبهديه اهتدينا، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا علياً ، ولسّلمنا له ، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك فأخذنا مثاله ، فعب أباك أو دعه والسلام على من تاب وأناب .
(1)
ولا شبهة أن الأمر أكثر من سنّة ، والكل يرى ما وصل إليه حال الأُمة الّتي افترقت إلى ثلاث وسبعين فرقة ، فمن أسس لهذا الافتراق ؟ الم تكن
---------------------------
(1) وقعة الصفين لأبن مزاحم : 118 ، انساب الأشراف : 2/393 ، مروج الذهب : 3/11، الأحتجاج : 1/436.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 255 _
شياطين الانس والجن مسؤولة، ألا ترى أن الله الّذي خلقنا على الفطرة وكل البعض إلى نفسه فاستحبوا العمى على الهدى، وإذا كان الله تعالى يقول في كتابه :
(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(1).
فكم أحصى هذا الرقيب وسيحصي ما ترتب أثره إلى يوم القيامة ، ولعمري أن العجب كل العجب في عدم فساد البر والبحر فساداً يؤول إلى العدم بما كسبت أيدي الناس.
لعل من المناسب الرد على القائل بأن كتاب الله المنزل قد سجل واقعة صحبة أبي بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مزينةً بهالة من المجد والفخار كتاباً صادحاً إلى يوم القيامة ، فلنقف قليلاً نناقش بعلمية هذه المنقبة.
(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَ كَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(2).
1 ـ الهاء في تنصروه ، نصره ، أخرجه ، عليه ، وأيّده ـ ضمير المفرد الغائب تعود لشخص واحد هو شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبالنتيجة فإن سكينته التي
---------------------------
(1) ق : 18.
(2) التوبة : 40.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 256 _
سبقها الفاعل ـ الله عزوجل ـ قد أنزلت على صاحب ضمير المفرد الغائب الّذي سبق القول أنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي أن السكينة قد نزلت على شخص واحد في الغار هو بلاشك كما اسلفنا شخص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
2 ـ هل أن جملة ثاني اثنين تدل على أن الثاني من جنس الأوّل وبالتالي فهي منقبة ، الواقع أنّه لا دليل على ذلك ، فقد عدّ الله تعالى ذاته المقدسة رابعة وسادسة مع المؤمن والمنافق والكافر .
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لاَ أَدْنى مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ)(1).
وأنت عالم أن مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجمع المؤمن والمنافق وحتى الكافر :
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الَْيمِينِ وَ عَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ )(2).
ورحم الله القائل أن سفينة نوح (عليه السلام) قد جمعت النبي والشيطان، والبهيمة والكلب .
3 ـ هل كلمة ـ صاحبه ـ تدل على سمو مقام صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
لا دليل على ذلك لأن الصاحب قد يكون كافراً إنظر الآيات الكريمة التالية:
---------------------------
(1) المجادلة : 7.
(2) المعارج : 36 ـ 37.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 257 _
(وَ اعْبُدُوا اللهَ وَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَ بِذِي الْقُرْبي وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينَ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبي وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا)(1).
(يَا صَاحِبَىِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )(2).
(يَا صَاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِىَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)(3).
(وَ كَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَ أَعَزُّ نَفَرًا)(4).
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)(5).
والعرب تقول في شعرها:
إن الـحمار مع الحمير iiمطية فاذا خلوت به فبئس الصاحب |
وتقول في السيف:
زرت هنداً وكان غير اختيان ومـعي صاحب كتوم iiاللسان |
وكذا يقول الشريف الرضي :
---------------------------
(1) النساء : 36.
(2) يوسف : 39.
(3) يوسف : 41.
(4) الكهف : 34.
(5) الكهف : 37.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 258 _
وكم صاحب كالرمح زاغت كعوبه أبـى بـعد طول الغمز ان iiيتقوما |
والصاحب في لسان العرب تدل على الصحبة والمصاحبة والرفقة ليس إلاّ .
وقد سمّى الله تعالى رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم ) صاحباً لقومه المكذبين في سورة سبأ والنجم والتكوير.
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّة إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَاب شَدِيد)(1).
(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)(2).
(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون)(3).
4 ـ لا في اللغة العربية إذا دخلت على الفعل إمّا أن تكون ناهية أو نافية ، ولا يختلف عربيان اثنان هنا أنها ناهية ، والسؤال هنا : هل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان ينهى عن معروف ؟ وحاشاه عن ذلك.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَ الإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأَغْلاَلَ الَّتِي
---------------------------
(1) سبأ : 46.
(2) النجم : 2.
(3) تكوير : 22.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 259 _
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1).
فلا مناص من أنّه كان ينهى عن منكر.
5 ـ الحزن: هل إنّ نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) لأبي بكر عن الحزن كان نهياً عن معروف ، وقد أثبتنا عدمه ، والسؤال هنا لماذا الحزن ممن كان بمعية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وممن يقولون بأنّه صدّيق ؟ والصديقون هم أعظم درجة من الاولياء.
(وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (2).
والقرآن ينفي الحزن والخوف عن أولياء الله تعالى لانهم مبشرون بالجنة .
(أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(3).
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ التي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(4).
---------------------------
(1) الأعراف : 157.
(2) النساء : 69.
(3) يونس : 62 ـ 64.
(4) فصلت : 30.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 260 _
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(1).
وكذلك ينفي الحزن عن كل من يتبع هدى الله :
(فَمَنْ تَبِعَ هُدَاي فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )(2).
وغير خاف عنك إن اتباع هدى الله تعالى يجعل العبد في مصاف المتعلقة قلوبهم بعرش الله المنقطعين له ، فلا معنى للخوف اوالحزن عندهم إلاّ بما يتعلق بالعبودية والوصول إلى رضوان الله تبارك وتعالى وهذا هو مقام الخوف والرجاء.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )(3).
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(4).
وقد تبين أن الايمان وعمل الصالحات أيضاً يفترض بهما إذهاب الحزن أو آثاره.
6 ـ السكينة: وردت السكينة بالاضافة لهذه الآية في سورة البقرة / التوبة / الفتح :
---------------------------
(1) الأحقاف : 13.
(2) البقرة : 38.
(3) البقرة : 277.
(4) الأنعام : 48.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 261 _
(وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(1).
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (2).
(هُوَ الذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَ للهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ كَانَ اللهُ عَلِيًما حَكِيًما )(3).
(لَقَدْ رَضِىَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)(4).
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا وَ كَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيماً )(5).
والسكينة لا تنزل إلاّ على نبي أو مؤمن ، أنظر للآيات الآنفة بدقة وليسأل كل منا نفسه ، لماذا نزلت السكينة في الغار على شخص واحد ، وهو شخص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم ) بدليل عائدية ضمير المفرد الغائب ، وقد ثبت أن
---------------------------
(1) البقرة : 248.
(2) التوبة : 25.
(3) الفتح : 4.
(4) الفتح : 18.
(5) الفتح : 26.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 262 _
الضمير في (عليه) هو نفسه في (تنصروه) ، (نصره) ، (أخرجه) ، (أيده) وقد ورد في الكافي : عن صفي بن البختري وهشام بن سالم وغيرهما عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل
(هُوَ الذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) قال : هو الايمان .
قال صاحب الميزان : لا يبعد ان يراد بها ـ السكينة ـ روح الايمان التي تأمر بالتقوى كما قال تعالى :
(أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ )(1).
وقد أطلق الله الكلمة على الروح في قوله :
(وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ)(2)(3).
وقال صاحب مواهب الرحمان في تفسير القرآن:
السكينة من السكون، ويراد منها ما تسكن إليه النفس فقد تكون موهبة ربانية كالحكمة توجب سكون النفس وقوة العزيمة تنبث على الجوارح والجوانح فتصدر الأفعال والأعمال وفق الحكمة والشريعة.
وقد تكون السكينة مكتسبة ممّا أنزله الله تعالى من الأحكام والمعارف ، لأنها توافق الفطرة فتطمئن النفس إليها وتبتعد عن الاضطراب والشكوك والأوهام.
---------------------------
(1) المجادلة : 22.
(2) النساء : 171.
(3) الميزان : 18/290.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 263 _
ولا ريب أن هذه السكينة بأي معنى أخذت تشتمل على لطيفة ربانية هي معجزة ، فتكون بمنزلة الروح بالنسبة للأجساد كما يسمى القرآن والوحي السماوي روحاً ، قال تعالى :
(وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا )(1).
(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)(2).
وإدراك هذه الروح يختص بمن كان مؤمناً له الأهلية لذلك.
(3)
7 ـ وأما قوله تعالى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
(إِنَّ اللهَ مَعَنَا) فالله تعالى حاضر غير غائب .
(وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ )(4).
(هُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(5).
ويمكن أن يكنى المفرد بالجمع : وأضرابها كثير في كتاب الله :
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
---------------------------
(1) الشورى : 52.
(2) غافر : 15.
(3) مواهب الرحمان في تفسير القرآن : 4/150 ـ 151.
(4) الواقعة : 85.
(5) الحديد : 4.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 264 _
إِيمَانًا وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ)(1) وقد كان شخصاً واحداً ، على ما قيل هو نعيم بن مسعود الاشجعي
(2).
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك وَ هُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَك وَ إِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَ نِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللهُ بِكُلِّ شَيءْ عَلِيمٌ)(3).
نزلت في جابر بن عبدالله الانصاري.
(4).
(يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيءْ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيءْ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لُِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(5).
القائل هو عبدالله بن أبي سلول أو معتب بن قشير
(6).
---------------------------
(1) آل عمران : 173.
(2) ابن كثير : 1/430، القرطبي : 4/279.
(3) النساء : 176.
(4) تفسير القرطبي : تفسير الأية.
(5) آل عمران : 154.
(6) ابن كثير : 1/430 ، القرطبي : 4/262.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 265 _
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا )(1).
قيل أنها نزلت في مرثد بن زيد الغطفاني.
(2)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواآمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْم آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْىٌ وَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(3).
نزلت في عبدالله بن صوريا
(4).
( وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(5).
أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل العامري
(6).
( وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَ آخَرَ سَيِّئًا عَسَى
---------------------------
(1) النساء : 10.
(2) تفسير القرطبي : 5/53،الأصابة : 2/397.
(3) المائدة : 41.
(4) القرطبي : 6/177 ، الأصابة : 2/326.
(5) النحل : 41.
(6) القرطبي : 10/107 ، تاريخ أبن عساكر : 7/133.
بحث في الصحبة والصحابة
_ 266 _
اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(1).
قيل أنها نزلت في أبي لبابة الانصاري.
(وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ )(2).
باطلاً روى القوم أنها نزلت في أبي طالب (رضي الله عنه).
هذا جزء يسير أكتفينا بذكره من آيات كثيرة كنّي عن المفرد بالجمع، والله تعالى هو العالم بحقائق الأُمور.
---------------------------
(1) التوبة : 102.
(2) الأنعام: 26.