الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد واله الطيبين الطاهرين الغر الميامين وبعد قد لاحظت شطراً مما كتبه فضيلة العلامة الجليل السيد منير السيد عدنان القطيفي حفظه الله ورعاه تقريراً لابحاثي الاصولية فوجدته وافياً بالمراد مستوعباً لما ذكرته في مجلس الدرس ببيان جميل وتعبير جزل واني لأسال المولى العلي القدير ان يبارك له في جهوده ويوفقه لمواصلة مسيرته العلمية انه ولي التوفيق والسلام عليه ورحمة الله و بركاته .
علي الحسيني السيستاني
21 ربيع الثاني 1414
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 7
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين .
إن هذه البحوث الأصولية المستفادة من نمير سيدنا الأستاذ السيد علي السيستاني ـ دام عطاؤه ـ تمثل الملامح العامة للفكر الأصولي ، من خلال عرض مسيرته التاريخية ومراحله التكاملية ، وتحليل علاقته بالعلوم الأخرى، وبيان محور أبحاثه ونظرياته ، وطرح بعض المسائل الشاهدة على مستواه عند المدرسة الإمامية في العمق والدقة وصفاء الذوق ، مع استعراض المناهج المقترحة في طريقة تنظيمه وتبويبه في اطار التناسب مع العلوم الأخرى وعلاقته بها .
وتتلخص هذه البحوث في عشرة هي :
الأول : أهمية علم الأصول في المدرسة الإمامية .
الثاني : الأدوار التطورية التي قطعها أثناء مسيرته الصاعدة .
الثالث : علاقته بعلم الفقه والأدب والفلسفة .
الرابع : المنهج المختار في طريقة تنظيمه وترتيبه .
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 8
الخامس : ألوان الاسناد الحقيقي والمجازي .
السادس : موضوع علم الأصول.
السابع : ميزان المسألة الأصولية .
الثامن : حقيقة الوضع .
التاسع : مسألة استعمال اللفظ في عدة معاني .
العاشر: المشتق .
وقد قمت بصياغتها وتحريرها بالأسلوب المنسجم ـ في اعتقادي ـ مع الاتجاه الأصولي المتجدد عند السيد الأستاذ دام فضله .
فما فيها من محاسن فهو غيض من فيض المعرفة لدى سماحته ، وما فيها من قصورـ والكمال لله وحده ـ فهو من سوء الصياغة والغفلة وزلل القلم .
أسال الله تعالى أن ينفع بها طلاب المعرفة وان يؤتينا ثواب الانتفاع بها انه جواد كريم .
السيد منير السيد عدنان القطيفي
17 | 3 | 1414 هـ
القطيف المحروسة
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 9
المبحث الأول
علم الأصول عند المدرسة الإمامية اختلفت المدرستان ـ مدرسة المحدثين ومدرسة الاصوليين ـ فى قيمة علم الأصول عند علماء الإمامية ومدى اهتمامهم به على مدى التاريخ الفقهي ، ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث بتمام فصوله ، لعدم ارتباطه بهدفنا وهو تقديم أطروحتنا العامة في علم الأصول ، ولكن من باب التمهيد للدخول في صميم البحوث الأصولية نستعرض بعض الجوانب المفيدة في تجلية واقع علم الأصول وأهميته التاريخية والفعلية بالنسبة للفقيه ، ونبدأ ذلك بعرض عبارات من كتاب هداية الأبرار للكركي نقلاً عن القطيفي (1) ـ أحد مشائخ صاحب الوسائل ـ قال : «فاعلم أن علم الأصول ملفق من علوم عدة ومسائل متفرقة بعضها حق وبعضها باطل ، وضعه العامة لقلة السنن عندهم الدالة على الأحكام » ، وقال : «ولم يكن للشيعة في أصول الفقه تأليف لعدم احتياجهم إليه ، لوجود كل ما لا بد منه من ضروريات الدين ونظرياته في الأصول المنقولة عن أئمة الهدى، إلى أن جاء ابن الجنيد فنظر في أصول العامة وأخذ عنهم وألف الكتب على ذلك المنوال حتى أنه عمل بالقياس » .
وهذا الكلام ينحل لثلاث دعاوى:
1 ـ إنكار استقلالية علم الأصول ، بل هو بنظره مجموعة من المسائل الملفقة.
2 ـ إن الواضع الأول لعلم الأصول هم العامة ، وأول من ألف فيه من
(1) هداية الابرار 233 و 234.
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 10
الشيعة ابن الجنيد حتى أنه عمل بالقياس .
3 ـ الإستغناء عن علم الأصول ، لوجود ضروريات الدين ونظرياته في أحاديث الأئمة عليهم السلام.
الدعوى الأولى ونقاشها : من الواضح ان كثيراً من المسائل المطروحة في علم الأصول لا مناسبة بينها وبين علم آخر، فبحث تعارض الأدلة الشرعية وطرق علاجه ، وبحوث حجية الطرق والأمارات كخبر الواحد والشهرة والإجماع ، وبحث الظن الإنسدادي ، وموارد الأصول اللفظية كبحث تعارض العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ ، كل هذه البحوث لا علاقة لها بعلم اللغة ولا بعلم الفقه ولا بعلم الرجال ولا غيرها من العلوم ، لأنها تتعلق بحجية الدليل الفقهي الذي هو مناط أصولية المسالة، فالمناسب لها هو علم الأصول .
ومجرد وجود بعض المسائل اللغوية في علم الأصول كبحث الوضع والاستعمال وعلامات الحقيقة والمجاز مما ذكر تمهيداً لبعض البحوث الأصولية ، وكذلك بعض البحوث الكلامية والفلسفية كبحث اتحاد الطلب والإرادة وبحث اعتبارات الماهية في المطلق والمقيد مما ذكر تمهيداً لبعض البحوث الأصولية أو استطراداً ، فهذه لا تخرج تلك المسائل السابقة عن كونها مسائل أصولية وكون العلم المشتمل عليها علماً مستقلاً برأسه ، ما دام مناط المسالة الأصولية موجوداً فيها كما سيأتي تحقيقه .
الدعوى الثانية وجوابها :
ونذكر هنا أمرين :
1 ـ إن أول مؤلف لمدرسة أهل السنة في علم الأصول هو رسالة الشافعي ، وفي تلك الفترة كتب الشيعة رسائل مختلفة في علم الأصول أيضاً ، فقد كتب ابن أبي عمير ـ المتوفى عام 217 هـ ـ ويونس بن عبدالرحمن ـ المتوفى عام 208 هـ ـ في علاج الحديثين المختلفين ، وكتبا أيضاً في العام والخاص
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 11
والناسخ والمنسوخ كما يلاحظ عند مراجعة تراجمهم في كتب الرجال ، وليس الشافعي أقدم منهما زماناً، فقد ولد عام 150 هـ بعد وفاة الصادق عليه السلام بينما يونس بن عبدالرحمن ادرك الصادق عليه السلام وتوفي الشافعي عام 502 هـ مقارباً لوقت وفاة يونس بن عبدالرحمن ، فلم يثبت أن الواضع الأول لعلم الأصول هو مدرسة أهل السنة، بل الشيعة كتبت في علم الأصول في نفس الفترة الزمنية لولادته عند أهل السنة، ثم جاء أبو سهل النوبختي وكتب رسالتين : احداهما في بطلان القياس والعمل بخبر الواحد ، والأخرى في مناقشة رسالة الشافعي ، ثم توسع علم الأصول على يد ابن الجنيد والمفيد والمرتضى في الذريعة والطوسي في العدة، وبذلك يتبين لنا أيضاً عدم كون ابن الجنيد هو أول مؤلف شيعي في علم الأصول .
2 ـ إن نسبة العمل بالقياس لابن الجنيد وردت فى عدة كتب ولكننا نحتمل أن تكون النسبة في غير محلها بمقتضى تتبعنا لاستعمال كلمة القياس ، فلعل المراد بهذه الكلمة هو ما نعبرعنه بالموافقة الروحية للكتاب والسنة .
بيان ذلك : إن معظم الأصوليين المتاخرين فسروا الأحاديث الآمرة بعرض الخبرعلى الكتاب والسنة نحو: «ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف فذروه» (1) بالموافقة والمخالفة النصية، بمعنى أن يعرض الخبر على آية قرانية معينة فإن كانت النسبة بينهما هي التباين أو العموم من وجه طرح الخبر، وإن كانت النسبة هي التساوي أو العموم المطلق أخذ، ولكننا نفهم أن المراد بالموافقة الموافقة الروحية أي توافق مضمون الحديث مع الأصول الإسلامية العامة المستفادة من الكتاب والسنة، فإذا كان الخبر مثلاً ظاهره الجبر فهو مرفوض لمخالفته قاعدة الأمر بين الأمرين المستفادة من الكتاب والسنة بدون
(1) البحار 2 : 235| 20، الوسائل 27 : 118 | 33362.
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 12
مقارنته مع آية معينة ، وهذا المفهوم الذي نطرحه هو الذي يعبر عنه علماء الحديث المتاخرون بالنقد الداخلي للخبر، أي مقارنة مضمونه مع الأصول العامة والأهداف الإسلامية، وهو المعبر عنه في النصوص بالقياس ، نحو: « فقسه على كتاب الله» (1)، إذن فمن المحتمل كون المراد من عمل ابن الجنيد بالقياس هو كونه من المدرسة المتشددة في قبول الحديث التي تلتزم بنظرية النقد الداخلي للحديث والموافقة الروحية فيه للكتاب والسنة، في مقابل مدرسة المحدثين التي تعتقد بقطعية صدور أكثر الأحاديث دون مقارنتها مع الأصول الإسلامية، ومما يؤيد ما ذكرناه نسبة العمل بالقياس لأعاظم الإمامية كما في رجال السيد بحر العلوم (2)،قال : « فقد ذكر السيد المرتضى في رسالة له في أخبار الأحاد أنه قد كان في رواتنا ونقلة أحاديثنا من يقول بالقياس ، كالفضل بن شاذان ويونس بن عبدالرحمن وجماعة معروفين» .
وقال في كشف القناع (3): «وحكى ـ الصدوق ـ في مواضع متفرقة عن جماعة من اساطينهم العمل بالقياس ، وفيهم من الأوائل مثل زرارة بن اعين وجميل بن دراج وعبدالله بن بكير » ، ولا يتصورفي حق هؤلاء الأعاظم العمل بالقياس الفقهي مما يشير إلى أن المقصود بالقياس هو التشدد في قبول الحديث بالعمل بنظرية النقد الداخلي ، ويؤيده ما حكاه المحقق (4) في المعارج ،قال : « المسالة السادسة : قال شيخنا المفيد : خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقرن بدليل يفضي بالنظر فيه إلى العلم ، وربما يكون ذلك إجماعاً أوشاهداً من عقل او حاكماً من قياس ».
(1) الوسائل 27 : 123 | 33381 ، البحار 2 : 244 | 52.
(2) رجال السيد بحر العلوم 3 : 215.
(3) كشف القناع : 83.
(4) معارج الاصول : 187.
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 13 الدعوى الثالثة وجوابها :
ونقدم هنا ملاحظتين :
أ ـ إن وجود القواعد الشرعية في روايات أهل بيت العصمة عليهم السلام لا يلغي علم الأصول ، فإن استفادة القاعدة والحكم من الحديث يتوقف على عدة عناصر أصولية، منها تحقيق الظهور من خلال مباحث الألفاظ المطروحة في علم الأصول كالبحث في الأوامر والنواهي والمفاهيم والعام والخاص والمطلق والمقيد، ومنها الإعتراف بكبرى حجية الظهور، ومنها الاعتراف بحجية خبر الثقة ، ومنها إجراء قواعد التعارض لو كان للنص معارض ، وهذه العناصر كلها مدونة في علم واحد هو علم الأصول ، فمجرد وجود القواعد والأحكام في النصوص المعصومية لا يلغي الحاجة لعلم الأصول .
ب ـ إن وجود القواعد الأصولية نفسها في النصوص والروايات ، كالروايات الدالة على حجية خبر الثقة ، وعدم حجية القياس ، وحجية أصالة البراءة والإستصحاب ، وقواعد التعارض ، لا يلغي قيمة علم الأصول بل يؤكد لنا انبثاق هذا العلم من منبعه الصافي وهم أهل البيت عليهم السلام لا من المدارس الأخرى كما ذكر بعض المحدثين .
فوجود هذه المسائل الأصولية فى النصوص كوجود بعض البحوث الأصولية في ضمن البحوث الفقهية، نحو ما ذكره الكليني في الكافي في كتاب الطلاق عن الفضل بن شاذان انه استدل على بطلان بعض صور الطلاق بان النهي يقتضي الفساد (1)، وهي قاعدة أصولية، كذلك ما صنعه صاحب الحدائق عندما بحث حجية الإجماع ضمن حديثه عن صلاة الجمعة (2)، كل ذلك لا يلغي أهمية علم الأصول واستقلاليته عن لغيره من
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 14
العلوم ، فإن ميزان المسألة الأصولية كونها باحثة عن حجية الدليل الفقهي ، سواءاً ذكرت بصورة مستقلة، ام في ضمن كتب الحديث ، او ضمن كتب الفقه ، ومن طبيعة كل علم تكامله على نحو التدريج لا الدفعة الواحدة، كما في علم المنطق حيث ذكر الشيخ الرئيس في الشفاء بان أرسطو ما وضع علم المنطق وإنما اكمل ما وصل إليه من هذا العلم (1) فكون بعض مسائل علم الأصول كانت متفرقة في علوم أخرى ثم اجتمعت بصورة تدريجية لاشتراكها في هدف واحد تحت علم واحد يسمى بعلم الأصول لا يضر باهمية العلم واستقلاليته .
(1) الشفاء 1 : المقولات : 6.
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 15
المبحث الثاني
أدوار الفكر الأصولي
مقدمة : إن معيار الدور بحسب تصورنا لا يرتبط بالمرحلة الزمنية للعلم ، إذ ربما تمر المرحلة الزمنية من دون حصول أي تطور وتجديد في مسيرة العلم وتكامله ، وإنما معيار الدور المتميز عن غيره من الأدوار هو ببروز النظريات المتطورة التي تدفع بمسيرة الفكر للإمام ، وهذا إنما يحدث عادة نتيجة التنافس العلمي والمبارزات الثقافية، فكما أن المجتمعات تترقى في سلم الحضارة نتيجة التنافس الاقتصادي والثقافي فيما بينها ، فكذلك تطور أي فكر كان يحتاج لنوع من الصراع الحاد بين أقطاب هذا الفكر ليساهم ذلك الصراع في بلورة النظريات وتجددها ، وعلى هذا الأساس ـ أي أساس صراع الأفكار ـ سنحدد أدوار الفكر الأصولي عند الشيعة الإمامية .
الدور الأول : وهو عبارة عن موقف علماء الشيعة من المدارس الفكرية الأخرى ومن العلماء الشيعة المتاثرين بهذه المدارس .
بيان ذلك . إن هناك مدرستين متصارعتين في مجال تحديد الحكم الشرعي ، وهما : مدرسة الرأي ومدرسة الحديث ، فمدرسة الرأي بدأت شرارتها من بعض الصحابة والخلفاء الذين منعوا من تدوين السنة لأهداف سياسية معينة وأخذوا بآرائهم وتصوارتهم الشخصية فيما يناسب المصلحة العامة، وامتدت هذه المدرسة للقرن الثاني حيث كانت هي الطابع العام للعراقيين أتباع أبي حنيفة الذين قالوا بحجية القياس والاستحسان والتزموا بالنقد الداخلي للأحاديث بمقارنتها مع الأصول العامة في الإسلام ، وأما مدرسة
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 16
الحديث التي نشأت كرد فعل لامتداد مدرسة الرأي وتجسدت في المذهب الحنبلي والمالكي أكثر من بقية المذاهب فقد أفرطت في الاعتماد على الحديث بمجرد كونه خبر ثقة من دون ملاحظة القواعد العامة، وقد تأثر بكل واحدة من المدرستين بعض علماء الشيعة كما حكي عن ابن الجنيد في قوله بالقياس إن صح ذلك وحكي عن بعض اخر ما يناسب أقوال الحشوية ، لذلك ومن هذا المنطلق خاض علماء الشيعة الفكر الأصولي وبدأ الدور الأول من مسيرته في مواجهة مدرسة الرأي ومدرسة الحديث ومن تأثر بهما من علماء الإمامية ، فكتبت رسائل في عدم حجية القياس وفي الحديثين المختلفين من بعض بني نوبخت وغيرهم كما يلاحظ في كتب الرجال ، وذكر الشيخ الطوسي في الفهرست والسيد المرتضى في الانتصار معارضات حادة لمنهج ابن الجنيد (1) ،كما كتب (2) الشيخ المفيد رسالة في بطلان القياس وكتاب مقابيس الأنوار فى الرد على أهل الأخبار، وهذه الرسائل اعطت الفكر الأصولي نضجاً وتطوراً ملحوظاً كما في عدة الشيخ الطوسي ، ثم استمر الفكر الأصولي بعد رحيل الطوسي بين تطور وتوقف ، ففي عصر الديالمة تقدم بعض الخطوات لوجود التنافس الفكري ولكنه توقف عن حركة التطور في عصر السلاجقة لوجود الضغط والتضييق ، ورجع للتفوق بعد غزو التتار لانفتاح آفاق الحرية الفكرية آنذاك فقد أبرز المحقق والعلامة في التذكرة والمعتبر مدى عمق الفكر الأصولي في الفقه المقارن ، وهذه الفترة الزمنية وإن كانت قصيرة إلا أنها وضعت بصماتها حتى على فكر بعض علماء المذاهب الأخرى، فقد ذكر أبو زهرة في كتابه (ابن تيمية) أن ابن تيمية تأثر بالفقه الشيعي المعاصر له ، كما يظهر من بعض مسائل الطلاق في فقهه ، وبعد
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 17
انتهاء هذه الفترة رجع الفكر الأصولي والفقه الخلافي للركود فلا يلاحظ في كتب الشهيد الأول إشارة للفقه المقارن ومواطن إبداع الإمامية في الفكر الأصولي ، بل ذكر الشهيد الثاني في كتاب القضاء أنه يكفي للطالب دراسة مختصر ابن الحاجب في المنطق والأصول (1)، مع أن هذا الكتاب لا يمثل الإبداع الإمامي .
الدور الثاني : وهو عبارة عن الصراع الفكري بين المدرسة الأصولية والأخبارية .
بيان ذلك : أن الشيعة بعد استقرارهم السياسي في عهد الصفوية في أوائل القرن العاشر برزت فيهم المدرسة الأخبارية المتمثلة في الملا أحمد أمين الاسترابادي ومن تاثر به كالمجلسيين والفيض الكاشاني والحر العاملي والشيخ يوسف البحراني ، وكان من عوامل بروز هذه المدرسة تصور بعض علماء الشيعة أن القواعد الأصولية المساهمة في استنباط الحكم الشرعي تعتمد على الفكر الكلامي والفلسفي مما أدى لابتعاد الحكم الشرعي عن مصادره الصافية وهي روايات أهل البيت عليهم السلام ، ومن هنا بدأ الصراع الفكري الحاد بين المدرستين واستفاد الفكر الأصولي تطوراً كبيراً من هذا الصراع وتقدم تقدماً عجيباً على يد الوحيد البهبهاني والمحقق القمي وصاحب الفصول والعلامة الأنصاري .
الدور الثالث: وهو عبارة عن المرحلة الفعلية التي نعيشها .
بيان ذلك : أن الفترة التي نعيشها الان بمقتضى العوامل الاقتصادية والسياسية تمثل الصراع الحاد بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى على مختلف الأصعدة، فلا بد من تطوير علم الأصول وصياغته بالمستوى المناسب للوضع الحضاري المعاش .
وقد ركزنا في بحوثنا على بعض الشذرات الفكرية
(1) شرح اللمعة 3 : 65.
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 18
التي تلتقي مع حركة التطوير لعلم الاصول من خلال الاستفادة من العلوم المختلفة قديمها وحديثها كالفلسفة وعلم القانون وعلم النفس وعلم الاجتماع ومن خلال محاولة التجديد على مستوى المنهجية وعلى مستوى النظريات الكبروية استمداداً من كلمات الأعلام (قدهم) في عدة حقول .
الحقل الفلسفي : هناك عدة نظريات فلسفية ذكرناها في علم الأصول ورتبنا عليها بعض الأفكار الأصولية ، منها نظرية التكثر الإدراكي والتي تعني أن الذهن البشري ليس صندوقاً أميناً في استقبال المعلومات الخارجية كما كان يذكر قدماء الفلاسفة بان الذهن البشري كصفحة المرآة يرتسم فيها صور المحسوسات بلا تغيير ولا تبديل ، بل الذهن قد يتلقى بعض الصور بعدة وجوه وأشكال لحكومة العوامل الخارجية والنفسية على الذهن أثناء تصوره كما تتحرك القوة المتخيلة لإدراك الشيء على عدة أنحاء، فقد نتصور الإنسان بصورة إجمالية بسيطة ونعبرعنها بالإنسان أو البشر وقد نتصوره بصورة تفصيلية مركبة ونعبر عنه بالحيوان الناطق مع أنه حقيقة واحدة ، وهذا دليل على الفعالية الذهنية في كثرة مدركاتها .
ومما رتبناه على هذه النظرية الفلسفية تحليل مفهوم الوجود الرابط الذي يعتقد أغلب الفلاسفة أنه وجود واقعي حقيقته عين الربط والتعلق بطرفيه وهما الجوهر والعرض وأنه يتحقق في الذهن كذلك ، فكما يوجد في الخارج مثلا زيد وقيام وربط واقعي بينهما فكذلك في الذهن ، لكننا نعتقد ان الوجود الرابط مجرد عمل إبداعي ذهني يرتبط بهذه النظرية وهي نظرية التكثر الإدراكي فالخارج لا يحوي غير وجودين جوهري وعرضي كزيد والقيام بلا حاجة للربط بينهما، فإن عرضية العرض متقومة بكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره من دون حاجة لوجود رابط وراء ذلك ، والذهن عندما يتلقى صورة القيام وزيد مثلاً يتلقاها على نحوين بمقتضى نظرية التكثر الادراكي :
1 ـ الهوهوية والاتحاد بين الوجودين وكأنهما وجود واحد، وهذا لون من
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 19
ألوان الوجود الرابط .
2 ـ ثبوت شيء لشيء آخر فيحتاج الذهن حينئذٍ لعمل إبداعي وهو الدمج والربط بينهما ، وهذا لون اخر من ألوان الوجود الرابط الذي طرحه الأصوليون في بحث المعنى الحرفي ، وبحث بساطة المشتق وتركيبه ، وفي بحث اجتماع الأمر والنهي ، وفي بحث استصحاب العدم الأزلي ، ومما رتبناه على نظرية التكثر الادراكي أيضاً نظرية تحليل المعنى الحرفي الذي وقع النزاع عند علماء الأصول في الفارق بينه وبين المعنى الاسمي على قولين :
1 ـ أن الفارق بينهما فارق ذاتي ، وهو الذي ذهب له معظم الأصوليين حيث قالوا بأن الفرق بين مفهوم لفظة ـ في ـ ومفهوم لفظة ـ الظرفية ـ أن الثاني يعبر عن الوجود النفسي للحلول والظرفية، بينما الأول يعبر عن الوجود الاندكاكي في الطرفين الذي لا مفهوم له أصلاً حتى مفهوم التعلق بالطرفين فإنه مفهوم اسمي لا حرفي .
2 ـ أن الفارق لحاظي ، وذهب له صاحب الكفاية ، وقال : بأن حقيقة المعنى واحدة ومشتركة وهي حقيقة الظرفية ـ مثلاً ـ إلا أن الذهن تارة يتصور هذا المعنى على نحو الاستقلالية ويعبر عنه بالمعنى الاسمي وتارة يتصوره بنحو الآلية أو المرآتية ـ على اختلاف في تحليل مطلب الكفاية ـ ويعبرعنه بالمعنى الحرفي (1)، وهذا التفنن في التصور هو ما نعبر عنه بنظرية التكثر الإدراكي الذهني ، ونحن قد اخترنا القول الثاني أيضاً ، لكننا ذهبنا لكون الفارق اللحاظي بين المعنيين ليس هو الاستقلالية والآلية بل هو الخفاء والوضوح ، بمعنى أن هناك معنى واحداً وهو حقيقة الحلول ـ مثلاً ـ ولكننا تارة نتصور هذا المعنى بصورة تفصيلية واضحة ونعبرعنه بالظرفية فهذه الكلمة تعكس مفهوم
(1) الكفاية : 12 .
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 20
الحلول بنحو تفصيلي واضح السمات ، وتارة نتصوره بصورة مجملة داكنة ونعبر عنه بلفظ ـ في ـ الذي يعكس المعنى نفسه بنحو من الإجمال والخفاء لعوامل متعددة يأتي عرضها في بحث المعنى الحرفي .
ومن النظريات الفلسفية التي نهتم بها كثيراً في بحوثنا الأصولية نظرية وحدة الموجود .
بيان ذلك : أن النظرية المشهورة في الفلسفة التقليدية هي تعدد الموجود لجوهر وعرض ، وأن الوجود الجوهري ما كان موجودا لا في موضوع والوجود العرضي ما كان وجوده في الموضوع ، واختلف أصحاب هذه النظرية في كون التركيب بينهما إذا اجتمعا هل هو تركيب اتحادي أم تركيب انضمامي كانضمام الحجر للحديد في بناء الدار مثلاً ، ولكننا نختار ما طرحه بعض فلاسفة الغرب كالفيلسوف الفرنسي ـ روسوا ـ وبعض فلاسفة الشرق وهو آقا علي مدرسي من اتحاد هذين المفهومين وهما الجوهر والعرض وجوداً، وذلك لأن الموجود لشيء واحد في الخارج إلا أنه يعيش حركة تطورية تكاملية والأعراض ما هي إلا أنحاء وجوده التطوري وألوان حركته التكاملية المتجددة لا أنها وجودات محمولية أخرى ترتبط بوجوده وتنضم إليه ، وقد رتبنا على هذه النظرية كثيراً من البحوث الفلسفية ، منها عدم الحاجة لدعوى واقعية الوجود الرابط خارجاً كما هو المشهور في الفلسفة ، باعتبار أننا إنما نحتاج للقول بالوجود الرابط نتيجة تعدد الموجود ولكن مع وحدته لا نرى حاجة لوجود رابط متعلق بطرفين إذ لا يوجد طرفان في الخارج أصلاً، كذلك بعض البحوث الأصولية التي ترتبط بهذه النظرية ، فمثلاً بحث اجتماع الأمر والنهي قد ربطه المحقق النائيني بنظرية تعدد الموجود حيث قال في مثال اجتماع الصلاة والغصب في صورة واحدة في الأرض المغصوبة : باننا إن قلنا في مثال اجتماع الصلاة والغصب أن حيثية الغصب والصلاة حيثيتان تقييديتان ، بمعنى أن الصلاة عمل يرتبط بمقولة الوضع والغصب
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 21
حركة ترتبط بمقولة الأين والأعراض اجناس عالية متباينة بتمام الذات ، فالحركتا اجتمعتا على نحو التركيب الانضمامي لا الاتحادي ، وبالتالي لا مانع من اجتماع الأمر والنهي لتعدد المتعلق ، وإن قلنا بأن الحيثيتين تعليليتان ومجتمعتان في هوية واحدة فالتركيب بينهما اتحادي ـ بحسب نظره ـ وبالتالي نقول بامتناع الاجتماع ، ودخول بحث اجتماع الأمر والنهي في بحث التعارض لا بحث التزاحم ، لأن التنافي بينهما ثبوتي في نفس مرحلة الجعل لاستحالة اجتماعهما في هوية واحدة ووجود فارد (1).
أما نحن فنقول في هذا البحث بان الأعراض ما هي إلا ألوان الوجود التطوري للجوهر، فلا نقول بوجود أجناس عالية متباينة بتمام الذات وأنه لا يلتقي الأين والوضع في وجود واحد؛ إذ كل ذلك لا وجه له بناءً على نظرية وحدة الموجود الامكاني فليس هناك الا موجود واحد ينتزع منه مفهومان : مفهوم الصلاة ومفهوم الغصب ، فلا اساس للبحث المطروح وهو أن الحيثيتين تقييديتان أو تعليليتان وأن التركيب بينهما اتحادي أو انضمامي ، لأن كل ذلك فرع تعدد الموجود ولا تعدد له ، ومع ذلك فنحن من القائلين بجواز الاجتماع ، لأن المبنى الصحيح عندنا تعلق الأحكام بالعناوين الاعتبارية الموجودة في وعاء الجعل الاعتباري نفسه لا بالمعنونات الخارجية أصلاً سواءاً اتحد المعنون أم تعدد ، وبما أن العناوين متعددة في نفسها فذلك كاف في القول بجواز الاجتماع ، غاية الأمر أن وحدة العمل خارجاً تدخل بحث الاجتماع في باب التزاحم لا باب التعارض .
الحقل الاجتماعي : لقد طرحنا عند بحثنا حول بناء العقلاء وسيرة المتشرعة عدة نظريات مهمة في هذا المجال كالتفريق بين العادات والأعراف
(1) أجود التقريرات 1 : 354 .
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 22
والتقاليد ، وبيان أقسام العرف ، والمناشىء النفسية والإجتماعية لبناء العقلاء وارتكازاتهم ، وبيان الفرق بين رجوع الأصولي لبناء العقلاء للاستدلال به وبين رجوع الفقيه للعرف من أجل تشخيص الموضوع .
الحقل المنطقي : إننا اعتمدنا على الدليل الرياضي المعروف وهو دليل حساب الاحتمالات الذي هو عبارة عن تراكم الاحتمالات حول محور معين في عدة نظريات أصولية، منها تحليل مفهوم الشبهة المحصورة وغير المحصورة حيث إن درجة الاحتمال إذا تضاءلت في أطراف العلم الإجمالي إلى مستوى عدم الباعثية والمحركية فالشبهة غير محصورة وأما إذا كانت درجة الاحتمال محتفظة بقوتها وباعثيتها فالشبهة محصورة ، ومنها شرح معنى التواتر وأقسامه المعنوي واللفظي والإجمالي الذي يعتمد قوامه على تراكم الاحتمالات ، ومنها ما ذكرناه في بحث القطع من الفرق بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي فإن اليقين الذاتي هو الناشىء عن العوامل النفسية والمزاجية والمحيطية وهذا لا قيمة له في المنجزية والمعذرية بحسب نظرنا وإن ذهب الأعلام إلى كون حجية القطع ذاتية مطلقاً ، واليقين الموضوعي هو النابع عن مقدمات علمية وقرائن موثوقة بالاعتماد على دليل حساب الاحتمالات وتمركزها حول محور معين .
الحقل اللغوي : لقد طرحنا في بعض البحوث بعض النظريات الأدبية المساهمة في تحليل المفاهيم الأصولية، ومن جملتها نظرية التورية وانقسامها للتورية البديعية والتورية العرفية ، فالتورية البديعية تعني إطلاق لفظ له معنيان : قريب وبعيد مع إرادتهما جداً ، وقد استفدنا من هذه النظرية في بحث استعمال اللفظ في أكثرمن معنى حيث ذهب كثيرمن علماء الأصول لعدم جواز الاستعمال في المعاني المتعددة ، وذهبنا لجواز ذلك استناداً لوقوعه في شعر العرب وخطبهم والوقوع خير دليل على الإمكان ومن شواهد الوقوع هو التورية البديعية كقول الشاعر:
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 23
أي المكان تروم ثم من الذي * تمضي إليه أجبته المعشوقا
والتورية العرفية هي الستر على المراد الجدي الواقعي بعدة أساليب ، وقد ذكرنا في بحث علل اختلاف الأحاديث في باب تعارض الأدلة الشرعية أن من أسباب اختلاف الحديث الصادر عنهم عليهم السلام هو استخدامهم عليهم السلام للتورية العرفية كما ورد عنهم عليهم السلام : «إن كلامنا لينصرف إلى سبعين وجها لنا منها المخرج» (1).
ومما يرتبط بالنظريات الأدبية بيان الفارق بين الاعتبار القانوني والاعتبار الأدبي، وقد شرحنا ذلك مفصلاً في هذا الكتاب في بحث علاقة علم الأصول بالعلوم الأدبية، لكننا نذكر في المقام مثالاً أصولياً مترتباً على ذلك هو مثال الحكومة التي هي عبارة عن تصرف دليل في دليل اخر تصرفاً موضوعياً كما إذا قال المولى أكرم العلماء ثم قال زيد ليس بعالم مع أنه عالم حقيقة، وقد وقع النزاع في ملاك تقديم الدليل الحكم على المحكوم فقال بعض المعاصرين (2) : بأن الملاك هو القرينية فالحاكم يعد قرينة شخصية على المحكوم كما أن المخصص قرينة نوعية على العام ، «والمقصود بالقرينية الشخصية» هو النظر أي أن الحاكم ناظر للدليل المحكوم ومتصرف في موضوعه سعة وضيقاً (3) ، ونحن نقول بأن الحكومة لون من الوان الاعتبار الأدبي لأنها تحتوي على التنزيل سواءاً في صورة التوسعة أم في صورة التضييق ، والاعتبار الأدبي يحتاج لمصحح والمصحح عدم الاصطدام المباشر مع مرتكزات العرف ، فمثلاً في الحكومة التضييقية إذا قال أكرم العلماء ثم قال زيد ليس بعالم فهنا المراد الجدي هو إخراج زيد من الأمر إخراجاً حكمياً ، وهذا المراد الجدي مشترك بين الحكومة والتخصيص ثبوتاً وإنما الفارق
(1) معاني الاخبار : 2، نوادر الاخبار : 50.
(2) لعل المقصود به السيد الصدر في ـ تعارض الادلة الشرعية ـ : 166.
(3) تعرضنا لهذا البحث فى صفحة : 142 .
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 24
بينهما إثباتي في مقام الصياغة الأدبية فقط ، فالتخصيص هو تعبير صريح عن المراد الجدي بينما الحكومة وهي قولنا زيد ليس بعالم تعبير غير مباشر عن المراد الجدي ، والمصحح له أن المرتكز الإجتماعي قائم على شمول الحكم الوارد على الطبيعة للأفراد فإذا قال ولا تكرم زيداً العالم فهذا بيان يصطدم مع الارتكاز الاجتماعي المذكور للتصريح فيه بعدم الشمول لذلك الفرد ، فيتجنب المقنن هذا الأسلوب محافظة على عدم إثارة الارتكاز العام ضد القانون ويقول زيد ليس بعالم فيخرجه عن الحكم بلسان إخراجه عن الموضوع حتى لا يقع الاصطدام، فالمصحح لتقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو رفع الترابط بين حكم الطبيعة والفرد بما لا يصطدم مع مشاعر الجمهور ومرتكزاته لا النظر والقرينية الشخصية فهذا مثال من أمثلة الاعتبار الأدبي في الأصول .
ومما يرتبط بالأدب أننا عندما تحدثنا عن حجية قول اللغوي في مبحثه المخصص له تناولنا بالبحث تاريخ تدوين اللغة، وتاريخ علماء اللغة ومعرفة طريقة التدوين ، ووصلنا إلى نتيجة مهمة وهي أن من عوامل عدم الاعتماد على قول اللغوي هو أن اللغويين يتأثرون بمذاهبهم الفكرية في تفسيراتهم اللغوية ، فبعض اللغويين من المتكلمين وبعضهم من الفقهاء مثلاً فينعكس أتجاهه المذهبي في تفسيره وشرحه للمفردات اللغوية فلا يكون كلامه تعبيراً عن الفهم العربي الصافي .
الحقل الروائي : قد بحثنا في باب حجية خبر الواحد عن المسلك العقلائي في الأمارات واخترنا أن المعتمد عليه عند العقلاء هو الوثوق الناشىء عن مقدمات عقلائية ، ومن هذه المقدمات كون الخبر صادراً من ثقة أو كون المضمون مشهوراً أو مجمعاً عليه ، فهذه العناوين وهي خبر الثقة والشهرة والإجماع لا موضوعية لها عند العقلاء وإنما هي مقدمات للوثوق الذي هو الحجة الواقعية ، ومن مقدمات الوثوق أيضاً الموافقة الروحية بمعنى أن مضمون
الـرافـــد فـي عــلـم الاصـول 25
الخبر موافق للأصول الإسلامية والقواعد العقلية والشرعية ، وهذا معنى قولهم عليهم السلام : «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه» (1) ، هذا مسلكنا في مقابل المسلك التجزيئي وهو اعتبار خبر الثقة حجة مستقلة وكذلك الشهرة والإجماع المنقول حجتان مستقلتان لو قيل بحجيتهما لا أن هذه الأمور مقدمات تكوينية للحجة الواقعية كما يراه المسلك الأول ، وبناءاً على مسلك الوثوق فقد طرحنا بحثاً في تاريخ تدوين الحديث وكيفيته لنتعرف من خلاله على الكتب الحديثية عند الشيعة والسنة ومدى كفاءة مؤلفيها في الاعتماد على نقلهم وطريقة التأليف والجمع عندهم ، وهذا يفيدنا معرفة قيمة أحاديث الشيعة وقيمة كتب الحديث بالمقارنة من حيث الضبط والدقة بين الكتب الأربعة ويفيدنا أوثقية أحاديثنا بالنسبة لأحاديث الصحاح الستة، لأنه قد يدعى عكس ذلك بحجة أن أحاديثهم أقرب لعصر الرسالة لكن الاطلاع على تاريخ تدوين الحديث عند أهل السنة وطريقة تأليفهم يفيد الإنسان بصيرة بضعف أكثر الأسناد وعدم الضبط في نقلها وتدوينها .
ومما يبتني على مسلك الوثوق أيضا بحث أسباب اختلاف الحديث فإنه بحث لم يطرح في كتب علم الأصول عند السابقين وطرحه بعض المتأخرين طرحاً مختزلاً بدون شواهد حديثية وروائية على البحث ، ونحن نرى ان أهم بحوث تعارض الأدلة هو بحث أسباب اختلاف الحديث فإن الفقيه إذا احاط بهذه الأسباب استطاع الجمع بين الأحاديث المختلفة جمعاً عرفياً من خلال خبرته باسباب الخلاف من دون حاجة للرجوع إلى روايات العلاج ، فإنها بين ما هو غير تام دلالة وما هو غير تام سنداً حتى حملها صاحب الكفاية على الاستحباب ، ونحن قد فصلنا هذا البحث وملأناه بالشواهد التاريخية والحديثية