بحث في نقد النظرية الاجتماعية الغربية
وتطبيقاتها ، ومحاولة تقديم
نظرية اجتماعية اسلامية على ضوء مدرسة
أهل البيت ( عليهم السلام )


القسم الاول

النظام التعليمي
  التعليم في النظرية التوفيقية * نقد النظرية التوفيقية * التعليم في نظرية الصراع * نقد نظرية الصراع * ( المدرسة ) في النظام الرأسمالي : عرض للفكرة الامريكية ونقدها * المدرسة وانعدام العدالة الاجتماعية * التعليم وتكافؤ الفرص * من اسباب فشل النظام التعليمي الرأسمالي.

النظام التعليمي   ـ 7 ـ

التعليم في النظرية التوفيقية
  تعتقد النظرية التوفيقية ان الاهمية المتميزة للنظام التعليمي تكمن في الفكرة القائلة بان المدرسة تحفظ روحية النظام الاجتماعي الحضارية ، من خلال نقل معتقدات الاباء الى ابنائهم ، ونشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع ، وتطوير شخصيات الافراد ، وتأهيلهم للعمل التخصصي ، واثراء الثقافة الاجتماعية ، وتعليم الافراد اطاعة السلطة السياسية.
  فعلى صعيد نقل معتقدات الآباء الى ابنائهم ، فان هذه النظرية تعتقد بان المجتمع لا يمكن ان يحيا حياة اجتماعية طبيعية دون ان تنتقل الثقافة والمعرفة من الجيل السابق الى الجيل اللاحق ، فالمدارس تغذي افراد المجتمع بشتى انواع العلوم والمهارات والقيم ، التي يعتبرها النظام الاجتماعي من الاولويات الاساسية لبقائه ووجوده الحضاري ، فتعلم لغة الاقليم التي يتفاهم بها الفرد مع اقرانه ، وجغرافية الدولة التي يعيش فيها ، وتركيبتها السكانية والعرقية تعتبر من اهم مكاسب النظام التعليمي ، حيث تنعكس فوائدها على النظام الاجتماعي كلياً ، وربما يعتبر الدفاع عن الدولة والنظام السياسي من اهم ثمار شجرة التعليم.
  ولو تم هذا الانتقال الثقافي من ايادي الجيل القديم الى ايادي الجيل الجديد ، تحمل افراد الجيل الجديد مسؤولية تطوير نظامهم الاجتماعي لينقلونه بدورهم الى الجيل الثالث ، وهكذا تستمر هذه العملية التطورية التي تشابه عملية بناء صرح معماري عظيم ، حيث لا يكتمل انشاء مثل

النظام التعليمي   ـ 8 ـ

  ذلك الصرح الا بتضافر جهود الاجيال المتعاقبة ، باختصاصاتها المختلفة وابداعاتها المتنوعة في المساهمة في ذلك البناء.
  وعلى صعيد نشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع الفكرية ، فان المجتمعات الانسانية على الاغلب ، تتركب من اقليات عرقية ودينية متعددة تسكن ارضا واحدة ، فلا يمكن توحيد توجهات هذه الاقليات ما لم يتم صهرها تحت سقف نظام تعليمي واحد ، فقد نجح ، بادعاء النظرية التوفيقية ، النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة في بناء شعب متكامل يتكلم اللغة الانكليزية ، بسبب استخدامه اسلوب التعليم الاجباري لابناء المهاجرين وابناء الهنود الحمر منذ القرن الثامن عشر الميلادي ، ولكن النظام الطبقي في الهند فشل في فرض لغة اجبارية واحدة على النظام التعليمي ، لدولة تتكلم سبعمائة لغة مختلفة ، مع العلم انه لو نجحت الهند كما نجحت امريكا ، لاثمر ذلك في توحيد البلاد ثقافيا وسياسيا واجتماعيا .
  وعلى صعيد تطوير شخصية الفرد ، فان المدرسة تمنح الافراد فرصة تعلم المهارات المهنية التي تؤهلهم للاشتغال والاكتساب في مستقبل حياتهم ، حيث تساهم هذه المدرسة في منح الافراد فرصة استخدام ما منحهم الخالق عز وجل من نعمة التفكير وطاقة كامنة للابداع والتطوير ، ولكن المدرسة لا تضمن تخريج افرادا مثقفين بل انها تسعى لتفتيح عقولهم كما يساهم نسيم الربيع في تفتيح براعم الازهار، وذلك من خلال مساهمتها في تعريف الفرد بنفسه وبالعالم المحيط به .
  وعلى صعيد تأهيل الافراد للعمل التخصصي ، تساهم المدرسة في
النظام التعليمي   ـ 9 ـ

  ضمان مستقبل الفرد المهني ، ورفد النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالمتخصصين في مختلف الحقول التي تحتاجها، فتضبط المدارس المتخصصة كالطب والتمريض والهندسة والكيمياء ونحوها ، عدد الطلبة الذين يحتاجهم المجتمع حتى لا يحصل الاضطراب بتراكم الطلبة على اختصاص دون غيره .
  وعلى صعيد اثراء الثقافة الاجتماعية والعملية ، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل اساسي في زيادة المعرفة البشرية حول الحياة والكون والانسان ، وتساعد الطالب على فهم تاريخه الانساني وحضارته ومجتمعه ، وتفتح باباً للنقاش العلمي والنقد البناء ، وتعطي الاساتذة والباحثين فرصا واسعة لانجاز مختلف البحوث العلمية في شتى المعارف البشرية، وتعتبر الجامعات اعمدة البحوث العلمية النظرية التي تساهم في وضع الفرضيات والنظريات وتقيم البراهين والادلة على صحة او فساد فرضيات او نظريات اخرى انشئها علماء طبيعيون آخرون، ولما كانت الفكرة الرأسمالية تؤمن بتطوير منتوجاتها الصناعية بشكل مستمر حتى تجد اسواقا دائمية لاستهلاكها ، اصبحت الجامعات التجريبية العقل الرئيسي للمؤسسة الصناعية الرأسمالية العملاقة ، بمعنى ان القيّم الرئيسي على البحوث التطبيقية من حيث التمويل والاستثمار ، هو الشركات الصناعية الكبيرة ومؤسسات البحوث العسكرية ، والمؤسسات الحكومية المتخصصة .
  وعلى صعيد حقن الافراد بافكار تمجد اهمية النظام والسلطة السياسية ، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل فعال في ترسيخ فكرة النظام الاجتماعي وضرورة احترامه ، واهمية اطاعة السلطة السياسية

النظام التعليمي   ـ 10 ـ

  واحترام القانون ، ووجوب الامتثال امام المحاكم القضائية اذا طلب ذلك ، وبالجملة ، فان المدرسة تنشئ اعتقادا لدى الفرد بان النظام السياسي انما صمم اساساً لخدمة افراد المجتمع جميعاً ، فلهم الحقوق التي أقرها القانون وعليهم الواجبات التي كلفهم بها النظام الاجتماعي .
  وللمؤسسات التعليمية في النظام الرأسمالي وظائف اخرى غير معلنة منها : تسهيل عملية التزاوج بين الذكور والاناث ، بسبب الاختلاط الاجباري في المدارس الاعدادية والجامعات اولاً ، واقتناع الجنسين بان التقارب الفكري يؤدي الى زواج ناجح ثانيا ، ومنها : تسهيل خروج الام للعمل خارج البيت ، حيث ان التعليم الاجباري الابتدائي والثانوي يدفع الام للبحث عن عمل لانتفاء وظيفة الامومة خلال فترة الدوام المدرسي .

النظام التعليمي   ـ 11 ـ

نقد النظرية التوفيقية
  وتتناول النظرية التوفيقية اهم اسس ( المدرسة ) الفكرية والفلسفية ، الاّ انها تتجاهل في الوقت نفسه ، الكثير من الحقائق التي تدين النظام التعليمي في الدولة الرأسمالية خصوصاً فيما يتعلق بطبقية التعليم وتصميم المناهج الدراسية ، فلا احد ينكر اهمية العلم والتعليم في النظام الاجتماعي ، ولا احد ينكر ان المدرسة توحد الامة وتحمي الدولة وتنشر القيم ، ولكن تجاهل النظرية التوفيقية لمحتوى القيم التي تدرسها المدرسة الرأسمالية ، طبقية كانت او غير طبقية ، عرقية كانت او غير عرقية ، دينية كانت او غير دينية ، يجعلنا نشكك بصلاح هذه النظرية وسلامتها من الاخطاء .
  فكيف تقبل هذه النظرية تدريس شرعية استعباد الزنوج من افريقيا في القرن التاسع عشر بواسطة المستوطنين البيض ، وتعتبره قيمة انسانية يفتخر بها الفرد الابيض ؟ وكيف تقبل تدريس قوانين المستوطنين البيض في الولايات المتحدة القائلة بحرمة تملك الهنود الحمر اراضي وطنهم في القرن الثامن عشر ، وتعتبرها قيما سليمة تستحق التدريس في المدارس الرأسمالية ؟ ولماذا تسكت النظرية التوفيقية عن ادانة المدارس الرأسمالية الطبقية التي تهدف اساساً ، خدمة ابناء الطبقة العليا ؟ بل لماذا تقسّم المدارس الرأسمالية ، التي تدعي النظرية التوفيقية انها توحد المجتمع ثقافياً وتاريخياً الى قسمين : قسم خاص لا يلتحق به الاّ ابناء الطبقة الرأسمالية ، وقسم عام لابناء الفقراء وابناء الطبقة المتوسطة ؟ ولماذا اختيرت اللغة الانكليزية للتدريس في حين ان الكثير من المستوطنين الاوائل كانوا يتكلمون الالمانية

النظام التعليمي   ـ 12 ـ

  والفرنسية والاسبانية ؟ واذا كان الدين منفصل عن السياسة فلماذا تحتفل المدارس بالاعياد الدينية ، أليس هذا تدخلاً في شؤون الدولة التي تعتبر المدرسة ممولها الرئيسي من العقول والادمغة ؟
  واذا سلمنا بان المناهج المدرسية المقررة في النظام الرأسمالي تنطبق على النظام نفسه ، فلماذا تعمم الحالات الجزئية الرأسمالية الى حالات كلية ، بحيث تجعل الطالب لا يرى الحياة والعالم الاّ من خلال هذه المناهج ، بمعنى ان العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الرأسمالي لها خصوصية معينة تختلف عن تلك في المجتمع الاسلامي مثلا. فكيف تستطيع المدرسة ان تقول لطلبتها ان النظرة الرأسمالية للعلاقة بين الذكر والانثى هي النظرة الطبيعية الاساسية وما سواها استثناء لا يؤخذ به ؟ فكيف تستطيع المدرسة اذن ، توحيد توجهات الطلبة الدينية والثقافية ، بزعم النظرية التوفيقية ، اذا كانت نظرتها الى الامور والقضايا منطلقة من نظرة ضيقة لا تخدم المصلحة الاجتماعية الكلية ؟

النظام التعليمي   ـ 13 ـ

التعليم في نظرية الصراع
  وتركز نظرية الصراع على الطرق التي تستخدمها الطبقات الاجتماعية العليا لاستخدام النظام التعليمي كمطية لتيسير مسك زمام السلطة ، وكسب الثروة ، وتحقيق الرفعة الاجتماعية ، فالتعليم عنصر مهم في وضع الفرد الطبقي ، لان الفرد المتعلم يسستطيع ان يحتل موقعاً اعلى في السلم الاجتماعي من خلال وظيفته التي تحتاج الى كمية معينة من العلوم ، فالطبيب والمهندس مثلاً ، يحتلان موقعاً اجتماعياً ارفع من ذلك الذي يحتله العامل غير الماهر.
  ولا شك ان الاباء الاغنياء من الطبقة الرأسمالية ينظرون الى مستقبل ابنائهم نظرة خاصة تضمن لهم الوصول الى الطبقة المسيطرة ، ولذلك ، فانهم يمهدون لهم طرقاً خاصة لتحقيق احلامهم ، ففي النظام التعليمي البريطاني مثلاً ، يدخل ابناء الطبقة الرأسمالية المدارس الخاصة المعدودة التي تضمن لخريجيها مستقبلاً سياسياً مشرقاً وعضوية دائمة في الطبقة الثرية ، وفي روسيا يدخل ابناء الوزراء واعضاء الحزب الشيوعي المسيطرين على النظام السياسي لفترة قريبة ، مدارس خاصة بابناء الطبقة العليا ، وفي النظام الرأسمالي الامريكي يدخل ابناء الطبقة الرأسمالية المدارس الخاصة بالطبقة اولاً ، بينما يدخل ابناء الطبقة الوسطى المدارس الحكومية المنتشرة في ضواحي المدن الكبيرة ثانياً ، ويدخل ابناء الطبقة الفقيرة المدارس الحكومية المنتشرة داخل المحلات المكتظة بالسكان في مراكز المدن الكبيرة ، ثالثاً ، ولا شك ان مستوى التعليم في المدارس الرأسمالية ، خصوصا

النظام التعليمي   ـ 14 ـ

  في القسم الثالث ، يعتبر من ادنى المستويات من الناحية العلمية ، حيث لا يتمكن غالبية طلبتها من اكمال المراحل الدراسية المقررة ، وبذلك يحرمون من التخرج من المدارس الاعدادية ، ويحرمون لاحقاً من الدخول الى الجامعات .
  وتتهم نظرية الصراع ، الطبقة الرأسمالية بتكريس النظام التعليمي الطبقي للحفاظ على مصالحها الحيوية في السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي ، وتقدم دليلاً على ذلك ، وهو ان الطبقة الرأسمالية تحصل دائماً على اعلى مستويات التعليم ، لان الاباء يصرفون جزءاً كبيراً من اموالهم على وسائل التعليم الخاصة بالطبقة الغنية ، وان الابناء متفرغون للدرس والتحصيل ولا يشغلهم شاغل مادي او نفسي ، ولكن الفقراء غالباً ما يفشلون في منتصف الطريق لان وضعهم الاقتصادي والنفسي لا يساعدهم على مواصلة التحصيل ، وهكذا يمتص النظام الاجتماعي ابناء الطبقة الفقيرة كعمال ، بينما يستوعب ابناء الطبقة الرأسمالية كافراد يحظون باهمية عظمى في السلم الاجتماعي .
  واخيراً فان النظام التعليمي في المجتمع الرأسمالي لا يحافظ على الوضع الطبقي فحسب ، بل يجعل الطبقية مسألة شرعية ، لان النظرة الرأسمالية ترى ان من حق الطبقة العليا السيطرة على النظام الاجتماعي لانها تملك الثروة ووسائل الانتاج الاقتصادي ، واذا نجحت المؤسسة التعليمية في اقناع الفقراء بان حقوق الطبقة الرأسمالية في الثراء وما يترتب عليها انما هي حقوق عادلة ، لان اموالهم قد جاءت عن طريق الجهد وعرق الجبين ، وان الفرص متاحة لكل من اراد الثراء ، نجح عندئذ الرأسماليون في السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بكل ما فيه من خيرات ، الى امد غير محدود .

النظام التعليمي   ـ 15 ـ

نقد نظرية الصراع
  ولا شك ان فكرة نظرية الصراع بخصوص ربط التعليم بالنظام الطبقي صحيحة يثبتها الواقع العملي في الانظمة الرأسمالية المعاصرة ، ولكن النظرية لا تخلو من خلل واضح ، فاهم نقد تتناوله نظرية الصراع في حقل التعليم ، هو اعتبار التعليم المهني في النظام الراسمالي مرتبط بالنظام الطبقي ، فاهل الخبرة من الاطباء والمهندسين يسعون الى جعل مهنتهم محصورة ضمن عدد محدود من الافراد حتى يتسنى لهم الحصول على اكبر كمية من الاجور ، وهذا لا يتم حتماً ، الاّ عن طريقين ، الاول : تحديد عدد الداخلين في كليات الطب والهندسة حتى يبقى نظام الاجور عالياً ، والثاني : منح شهادات للاختصاصات المختلفة حتى يتميز هؤلاء الخبراء عن غيرهم من ادعياء الفن مما يضمن لهؤلاء الخبراء منزلة اجتماعية عليا ، واستقلالاً ذاتياً ، وقوة نقدية يحسب لها حساب .
  ومع ان هذا التحليل سليم بطبيعته الا انه يحاول تحليل المشكلة من طرف واحد ويترك اطرافاً اخرى دون تفسير. ذلك ان ازياد عدد الاطباء والمهندسين يوجب ايجاد رمز معين يثبت خبرة الخبير في الطب والهندسة ونحوها ، بشكل رسمي ، والشهادة الجامعية تمثل هذا الرمز ، ولولاها لادعى الكثير من الافراد خبرته في تلك العلوم ، ومع ان الشهادة لا تعكس الواقع العلمي للخبير ، الا انها تمثل الحد الادنى من المعارف الواجب تحصيلها في مجال الاختصاص .
  اما انحصار عدد الاطباء والمهندسين بنسبة محددة من الافراد في

النظام التعليمي   ـ 16 ـ

  النظام الاجتماعي ، فذلك ينسجم مع الفكرة الاسلامية القائلة بالتسخير ، حيث تؤمن بان الافراد مسخرون لخدمة بعضهم البعض ، فاذا ازدادت نسبة الاطباء والمهندسين عن النسبة المقررة لنظام التسخير اختل النظام الاجتماعي ، لان المجتمع لا يحتاج الى فيض غير محدود من الاطباء والمهندسين ، بل ان تنويع الاختصاصات امر حيوي لبقاء النظام الاجتماعي وديمومته .
د   ولذلك فان الافراد مسخرون بشكل من الاشكال لخدمة بعضهم البعض ، ولا يتكامل هذا التسخير الاّ بتوزيع الاختصاصات بين الافراد جميعاً ، حتى تتم اشباع حاجات النظام الاجتماعي المختلفة ، وعلى ضوء ذلك فان نظرية الصراع في تحليلها للنظام التعليمي الرأسمالي ، اخذت بتفسير قضية الاجور ، وما يتعلق بها من ظلم اجتماعي ، وتركت قضية التسخير دون تفسير ; وهو بلا شك خلل ملحوظ في منهجها الفلسفي المزعوم .

النظام التعليمي   ـ 17 ـ

( المدرسة ) في النظام الرأسمالي :
عرض للفكرة الامريكية ونقدها
  ويتميز النظام التعليمي في الرأسمالية الامريكية عن غيره من الانظمة الرأسمالية الغربية ، بعدة عناصر مهمة ، منها : اجبارية التعليم في المرحلتين الابتدائية والاعدادية ، ومساهمة المؤسسة التعليمية في حل المشاكل الاجتماعية على قاعدة ( ان التعليم شفاء لكل داء ) ، وادارة المدرسة من قبل الادارة المحلية لا الحكومية المركزية .
  فعلى صعيد التعليم الاجباري ، تعتقد الفكرة الرأسمالية بان لكل فرد حق مشروع في التعليم ، وعلى اساس ذلك ، فقد الزمت الحكومة المحلية والفيدرالية بتصميم نظام تعليمي مجاني للجميع ابتداءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاءاً بالمرحلة الاعدادية الثانوية ، وهذه الفكرة الرأسمالية العظيمة التي نادت بمنح حق التعليم لكل فرد ، لم تكن في الواقع الا خدعة كبيرة من قبل اصحاب الرأسمال ، لان الاصل فيها كان تعليم افراد الطبقة العليا والمتوسطة فقط ، وحرمان الطبقة الفقيرة .
  والدليل على ذلك ان الزنوج حرموا من نعمة التعليم في المدارس العامة في اوروبا وامريكا ، خلال انتشار الرق في القرن الثامن عشر ولحد منتصف القرن العشرين ، بل ان الحكومة الرأسمالية لم تبذل دولاراً واحداً في تلك الفترة على تعليم هؤلاء الفقراء المستضعفين ، مع انهم كانوا يشكلون عصب الطبقة العاملة المنتجة في النظام الاجتماعي ، ومع ان النظام التعليمي اليوم قد تبدل عما كان عليه بالامس ، الا ان الاصل في التمييز العنصري والطبقي لا زال موجودا ، لان التمييز في التعليم هو

النظام التعليمي   ـ 18 ـ

  الاساس في تثبيت سيطرة الطبقة الرأسمالية على النظام الاجتماعي .
  ولا شك ان برنامج التعليم الامريكي ، المتمثل في التعليم الاجباري العام دون النظر الى قابليات الطلبة في استيعاب المناهج التعليمية ، ادى الى سلبيات تعليمية خطيرة ، منها اولا : حرمان الطلبة من الدخول في المدرس المهنية مبكراً ، وثانياً : انحدار المستوى العلمي للمدارس الثانوية العامة عموماً ، وهذا الفشل في تكامل النظام التعليمي في الولايات المتحدة ، يعكس توجه النظام السياسي نحو المحافظة على الفجوة التعليمية الكائنة بين الفقراء والاغنياء ، وليس النظام التعليمي الامريكي يتيما في هذا التوجه الطبقي ، فالنظام البريطاني يشجع الطلبة الاقل فهما للمواد العلمية بالدخول الى المدارس الاعدادية المهنية ، والتلاميذ ذوي القابليات العلمية بالدخول الى المدارس الاعدادية النظرية وابناء الطبقة الثرية بالدخول الى مدارس اعدادية راقية معدودة اسماها بمدارس ( القواعد النحوية ) التي تهيء الطالب الدخول في الجامعات ذات المستوى العلمي المشهود ، وبالنتيجة ، اصبح التعليم وسيلة مهمة من وسائل المحافظة على النظام الطبقي الرأسمالي .
  وعلى صعيد الاعتقاد بان التعليم يساهم في حل المشاكل الاجتماعية على قاعدة انه شفاء لكل داء ، فان رواد النظام الرأسمالي يزعمون بان التعليم يجب ان يخدم النظام السياسي الرأسمالي على اكمل وجه ، فهذا ( توماس جفرسون ) احد منقّحي لائحة الاستقلال الامريكي سنة 1776 م يقول : ( ان مدارسنا يجب ان تضمن نجاح النظام الديمقراطي ، فاذا عم الجهل بين الناخبين ، فان تجربتنا السياسية ستكون محكومة

النظام التعليمي   ـ 19 ـ

بالفشل ) (1) ، ومنذ القرن التاسع عشر سعى الرأسماليون الى ربط المدرسة بعجلة النظام السياسي والاجتماعي لحل المشاكل الاجتماعية التي يواجهها الافراد في القارة الجديدة ، فسعت المدرسة الى صهر الجاليات المهاجرة عن طريق تركيز اسس ومفاهيم القومية الجديدة للعالم الجديد ، وهي اللغة والتاريخ ، وتركت تعليم الدين للكنيسة ، وسعت ايضاً الى تعليم ابناء الهنود الحمر اللغة الانكليزية ولكنها تركت تنصيرهم للكنيسة ايضاً اما العبيد فقد تولت الكنيسة تنصيرهم لاحقاً ، ولكن المدرسة لم تبذل جهداً في تعليمهم لان النظام الرأسمالي كان يستشعر خطرا كامناً في تعليم الزنوج باعتبار ان العلم قد يحرر الانسان من قيود العبودية .
  وفي منتصف القرن العشرين بدأ النظام السياسي حملته ضد الفقر عن طريق المدارس ، مدعياً ان تبديل نظرة الفقراء السلبية تجاه الدولة والمجتمع والثقافة ستحل مشكلة الفقر في النظام الرأسمالي ، ولكن بعد اقل من نصف قرن من الزمان ، اقر النظام بفشل الحملة المدرسية لمكافحة الفقر ، ملمّحاً الى ان قضية الفقر تتعلق بالعدالة الاجتماعية في النظام الرأسمالي اكثر من تعلقها بالنظام التعليمي .
  وفي محاولة منها لربط المدرسة بالمشاكل الاجتماعية ، قامت المؤسسة التعليمية الرأسمالية ايضاً بتغيير المناهج المدرسية بشكل مستمر ، بهدف المساهمة في حل المشاكل الاجتماعية ، فعندما واجه المجتمع الرأسمالي ثورة الشباب للتعبير الصريح عن الشهوة الحيوانية بين الجنسين في العقد السادس

**************************************************************
(1) المذاكرات الشخصية ص 150 .

النظام التعليمي   ـ 20 ـ

  من القرن العشرين ، اضطر النظام التعليمي الى تغيير مناهجه التعليمية وذلك بوضع دروس جديدة سميت بثقافة التغشي بين الذكور والاناث ، كان هدفها التقليل من الآثار الاجتماعية الخطيرة التي سببها النظام الاباحي بين الطلبة ، وبعدها بعقدين اضطر النظام ادخال دروس جديدة اخرى حول الادمان على المخدرات والكحول وضررها على المجتمع .
  وقد فشلت هذه الحملات الاصلاحية المتوالية ، لتلك الفترة الطويلة ، لاسباب مختلفة منها : ان هذه الاجراءات لم يرد منها اصلا حل المشكلة الاجتماعية بل انما فرضت لاسباب انتخابية وسياسية بحتة ، لان مجالس ادارات المدارس الحكومية ، وهي الهيئات المسؤلة عن المناهج الدراسية ، يتم تشكيلها عن طريق الانتخابات ، ومنها : ان مشكلة التعليم مرتبطة بمشكلة انعدام العدالة الاجتماعية ، فلو افترضنا جدلا صدق القائمين على حل مشكلة التعليم ، أليس من الواضح لكل ذي بصيرة ان هذه الحلول الجزئية المفترضة ، تعجز عن معالجة المشكلة الاساسية ، فكيف ينفع الاصلاح اليسير لجدار متصدع ما لم يهدم وينشأ بدله جدار جديد قوي ؟ ومنها : ان استقلال النظام التعليمي عن النظام الاخلاقي الديني ، جعل المدرسة مسرحا لمختلف الاتجاهات الفكرية البعيدة عن الاعراف الخلقية المتفق عليها اجتماعيا .
  وعلى صعيد سيطرة الادارة المحلية على توجيه شؤون المدرسة فان النظام الرأسمالي الامريكي تميز عن غيره من الانظمة التعليمية بهذه الخصلة ، باعتبار ان المدرسة ومشاكلها تهمّ المحلة وابنائها بشكل اساسي مباشر ، وان المدرسة انما اسست لخدمة افراد المحلة وادارتها ، وعلى هذا

النظام التعليمي   ـ 21 ـ

  الاساس ، فان مجلس ادارة المدرسة يجب ان ينتخب من ابناء المحلة بالتصويت المباشر ، وعند اكتمال تشكيل مجلس الادارة ، يقوم عندئذ بكل امور التوجيه والاشراف على الحياة المدرسية والنشاط التعليمي ، ابتداءاً من تعيين المعلمين وانتهاءاً بانتقاء وشراء الكتب التي توضع في مكتبة المدرسة ، وتختلف المناهج الدراسية من مدرسة الى اُخرى حسب رأي وقرار مجلس الادارة، ففي المناطق المحافظة ، المتمسكة بالدين ، يمنع مجلس ادارة المدرسة تدريس الثقافة الجنسية ونظرية التطور ، بينما يسمح بتدريس هذه المواد الدراسية في مناطق اخرى ، ويرجع تحديد كل ذلك الى مجلس ادارة المدرسة ، وعلى المستوى المالي ، فان المدارس مرتبطة بالادارة المحلية وحكومة الولاية ، فتدفع حكومة الولاية نصف مصاريف المدرسة وتدفع الادارة المحلية النصف الآخر ، مع نسبة ضئيلة تدفعها الحكومة الفيدرالية .
  واقحام المحلة ومؤسستها المالية والسياسية في ادارة المدرسة ليس وليد صدفة ، بل انه ينبع من صميم الفكرة الرأسمالية، فبدلا من قيام الحكومة الفيدرالية بالصرف المالي على المدارس المنتشرة في مختلف المناطق بشكل عادل ، تقوم المحلة الغنية بدفع نسبة اعلى من الضرائب المخصصة للمدارس المتواجدة ضمن حدودها ، وعندها تتمتع المدارس في المناطق الغنية باكمل الخدمات ، ويستفيد الطلبة الاغنياء من النظام التعليمي بافضل وجه ، اما المدارس في المناطق الفقيرة فان مجالس اداراتها لا تستطيع النهوض بمهام النظام التعليمي كما يحصل في المناطق الغنية لقلة المخصصات المالية الواردة من ضرائب الفقراء ، وبذلك يتضرر الطلبة من العوائل الفقيرة ، وهذا ، كما ترى ، ظلم واضح بحق الفقراء من الطلبة الذين يعيشون

النظام التعليمي   ـ 22 ـ

  على نفس الارض ويدافعون عن نفس الدولة ويحتمون بنفس النظام ، وكما ان الاقتصاد الرأسمالي يشجع الافراد على المنافسة الاقتصادية باعتبار ان مردودها ينفع الفرد والمجتمع على حد سواء ، كذلك يشجع على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي، فاستخدام نظام الدرجات يشجع الطلبة على التنافس من اجل الحصول على اعلى المستويات الاكاديمية، حيث يفوز المنتصر في عملية التنافس بجائزته النهائية ، وهي موقع متميز في النظام الاجتماعي ، بينما ينحرف الخاسر تدريجيا عن سير النظام التعليمي ، ليلتحق باقرانه من الخاسرين من افراد الطبقة العاملة الفقيرة !
  واذا كانت المنافسة تساعد الطالب على نيل اعلى الدرجات في النظام التعليمي الرأسمالي ، فان التعاون بين الطلبة لحل المسائل المعقدة يعتبر نوعاً من الغش ، لان الطالب ، حسب النظرة الرأسمالية ، يجب ان يتحمل المسؤولية الفردية في التعليم والتحصيل وحل المشاكل وفهم مستعصيات العلوم ، ومسؤولية المدرس تبيين وتوضيح وتحديد الخط الذي ينبغي ان يسير عليه الطالب ، وما وراء ذلك فهو مسؤولية التلميذ الشخصية .
  وهذا التركيز على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي لم يأت اعتباطا ، بل ان رواد الفكرة الرأسمالية يرون ان تعليم الاطفال وتدريبهم على المنافسة في المجال التعليمي سيؤهلهم لاحقاً للمنافسة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي ، ولكن هذه المنافسة من اجل الحصول على درجات جيدة تدل على خلل اساسي في النظام التعليمي الرأسمالي ، ذلك ان المدرسة هدفها غرس العلم في اذهان التلاميذ ، وليس الحصول على الدرجات ، لان الدرجات لا تمثل الا رمزاً متعارفاً لكمية فهم الموضوع ، ولو كان الاصل من

النظام التعليمي   ـ 23 ـ

  التعليم الحصول على درجات جيدة لانتفت موجبات التحصيل من الاصل ، لان دوافع الحصول على مجرد الدرجات يؤدي بالطلبة الى ارتكاب عملية الغش ، وحفظ المواد الدراسية دون فهم ، وقراءة المواد المحتمل ورودها في الامتحان فقط دون غيرها ، ونسيان المواد الدراسية بعد انتهاء الامتحان ، والبحث عن الجامعات الاقل من ناحية المستوى العلمي ولكنها ايسر من ناحية الحصول على الدرجات ، وتفضيل الدراسة عند استاذ ضعيف من الناحية العلمية ولكنه مبسوط اليد في الدرجات على استاذ عالم متشدد في منح الدرجات، وهذا كله يؤدي الى انخفاض المستوى العلمي للطلبة ، ناهيك عن التأثير النفسي الذي يتركه صراع من هذا النوع على نفسيات الخاسرين في عملية التنافس للحصول على أعلى الدرجات .
  وتصبح نتيجة المنافسة المدرسية ، فشلاً كانت او نجاحاً ، جزءاً من الشهادة العلمية للفرد ، وعلى اساسها يُقيّم في المجتمع ، وعلى ضوئها يحدد معاشه وراتبه واسلوب حياته ، فاذا كانت درجاته المدرسية المسجلة في الشهادة الجامعية مثلاً عالية ، اصبح مؤهلا للدخول بقوة الى مجال العمل الاجتماعي او البحث العلمي ، حتى لو كانت هذه الدرجات الرمزية لا تمثل فهمه الواقعي للعلم الذي درسه ، وبالاجمال ، فان تصنيف الطلبة تحت سقف وجود الذكاء او عدمه استناداً على نسبة الدرجات في الشهادة المدرسية لا يساعد الطلبة بالمرة على التحصيل العلمي الجاد .
  ولما كان النظام التعليمي الرأسمالي يشجع الاغنياء على ارسال ابنائهم الى المدارس الخاصة التي لا يدخلها الا الخواص ، فان الكثرة الغالبة من الطلبة تشعر بان المردودات الاجتماعية والاقتصادية المستقبلية سوف

النظام التعليمي   ـ 24 ـ

  تذهب حتما الى القلة من الافراد ، وهذه القلة هي التي ستحوز على قصب السبق ، وستقتطف النصيب الاكبر من الجوائز الاجتماعية ، وبالتحديد : السلطة والثروة والمن زلة الاجتماعية ، اما الجد ، والجهد ، والاجتهاد ، والذكاء ، فهي لا تضمن للطلبة الفقراء او من الطبقة المتوسطة مقعدا في الطبقة الرأسمالية ، اضف الى ذلك ان الاستسلام لهذا الواقع من قبل الفقراء والطبقة المتوسطة يخلق جوا يساعد الطبقة الرأسمالية على البقاء في مواقعها ، والاحتفاظ بمصالحها الاجتماعية والاقتصادية المتميزة .
  واهم مساعدة يقدمها النظام التعليمي الرأسمالي للطبقة الرأسمالية العليا هو القاء مسؤولية الفشل الاكاديمي على الطالب وحده وليس على النظام الاجتماعي الذي وضع الغني في موقع متميز منذ نعومة اظفاره ، وهيأ له اسباب النجاح والتفوق دون الطالب الفقير ، وهكذا تصبح الفكرة الرأسمالية القائلة بـ ( ان لكل فرد فرصة متساوية مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي ) نظرية خادعة ، لا تحمل معها اي معنى تطبيقي في مفهوم العدالة الاجتماعية .

النظام التعليمي   ـ 25 ـ

المدرسة وانعدام العدالة الاجتماعية
  وكما ذكرنا سابقاً ، فان الافراد في المجتمع الرأسمالي لا يملكون فرصاً متساوية للتحصيل ، على خلاف ما يدعيه انصار النظام الرأسمالي ، بل ان الطبقة الاجتماعية التي يولد فيها الفرد تحدد نوعية التعليم الذي سيحصل عليه لاحقاً ، وكما ان الثروة تتراكم بايدي القلة من افراد الطبقة العليا ، كذلك التعليم ، فان درجته الاكاديمية ومستواه الفكري مرتبط بالثروة ، والقوة ، والمنزلة الاجتماعية.
  فابناء الطبقة الرأسمالية يحصلون في مجال التعليم على ميزتين اساسيتين ، الاولى : ان اغلبهم يقضي سنوات اكثر في التحصيل مقارنة باقرانهم من ابناء الطبقة الفقيرة ، وثانياً : انهم يحجزون المقاعد الدراسية في الجامعات العريقة ذات المستوى الرفيع امثال جامعة هارفرد واكسفورد وكامبرج وبرنستون وييل وكولومبيا وغيرها من الجامعات الراقية ، علماً بان شهادات هذه الجامعات تترجم مستقبلاً الى منافع اقتصادية واجتماعية عظيمة لهؤلاء الافراد .
  وعلى عكس ما تدعيه النظرية الرأسمالية ، من ان لكل فرد الحق في التحصيل والتعليم ودخول ارقى الجامعات ، فان الذكاء لا يلعب دوراً حاسماً في قبول الطلبة في هذه الجامعات ، بل ان الاجور الدراسية وقابلية الفرد على دفعها هي المقياس ، حيث ينصرف الكثير من اذكياء الطبقة المتوسطة والفقيرة الى الدخول في الجامعات المتواضعة او الانخراط في الاعمال التجارية او الاشغال الحرة ، لانهم لا يستطيعون دخول الجامعات العريقة