قال : يا رسول الله ما أنا إلا من قومي . !
  قال : فاجمع لي قومك في الحظيرة ...
  قال : فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ...
  فجاءه رجال من المهاجرين ، فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم ، فلما اجتمعوا إليه أتاه سعد فقال :
  قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل .
  ثم قال : يا معشر الأنصار ما ـ قالة ـ بلغتني عنكم ؟
  وموجدة (1) وجدتموها في أنفسكم !؟
  ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة (2) فأغناكم الله ، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم .؟
  قالوا : بلى ـ لله ولرسوله المن والفضل ...
  فقال : إلا تجيبوني يا معشر الأنصار .؟
  قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ، لله ولرسوله المن والفضل ...
  قال : أما والله ، لو شئتم لقلتم : فصدقتم ولُصُدّقتم ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك ، ...
  وجدتم في انفسكم يا معشر الانصار في لعاعة (3) من الدنيا ، تألفت بها قلوب قومٍ ليسلموا ، ووكلتكم إلى اسلامكم !؟

*************************************************************************
(1) المعروف عند اهل اللغة ـ الموجدة اذا اردت الغضب .
(2) عالة : جمع عائل ... وهو الفقير .
(3) لعاعة : بالضم ... بقلة ناعمة ...

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 202 ـ

  أفلا ترضون يا معشر الأنصار ان يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله الى رحالكم .
  فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت إمرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً (1) وسلكت الأنصار شعباً ،لسلكت شعب الأنصار ... ثم قال :
  ( اللهمَّ ارحم الانصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار ) .
  قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا :
  ( رضينا برسول الله قسماً وحظاً ) ثم انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتفرقوا ) (2) .
  بقيت الزهراء ( عليها السلام ) إلى جانب أبيها بمكة حوالي شهرين وبعض الأيام ...
  فقد جاءت مع ابيها وزوجها وجيش المسلمين الى البلد الحرام ، في شهر رمضان من العام الثامن للهجرة ، وغادرتها مع ابيها وزوجها والأنصار الى المدينة المنورة في آخر شهر ذي الحجة من العام نفسه .
  لقد سعدت الزهراء ( عليها السلام ) عامين كاملين ، ونعمت بالهدوء والاستقرار ، تستجلي طلعة أبيها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الغدو والآصال تلك الطلعة البهية المشرقة .
  وقد ابتسمت لها الأيام ، فاستردت بعض قواها ، التي ذهبت بها الصدمات التي لاقتها في حياتها الأولى ، واستعادت نشاطها فعكفت توفر الراحة لزوجها الإمام علي ( عليه السلام ) وتبذل ما في وسعها لتربية أولادها ( أحفاد الرسول وأحبابه وذريته وامتداد نسله ) .

*********************************************************************************************************************************************
(1) الشعب : الطريق بين جبلين .
(2) كما ذكر هذه الرواية الطبري في تاريخه ، كذلك ذكرها ابن هشام في سيرته ، وغيرهما من أهل التاريخ والسير ...

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 203 ـ

  تاركة شؤون الدار وخدمته لجاريتها ( فضة ) التي جاء بها الإمام علي ( عليه السلام ) من الغنائم التي نالها في المعارك .

الزهراء ( عليها السلام ) واليقظة المروِّعة :
  امتد الحلم الهنيء ... وابتسمت الأيام ... وراحت ( فاطمة ) عليها السلام تنعم في غيبوبة من السعادة والحبور ...
  ثم أفاقت من حلمها على ما هز كيانها وكانت اليقظة المروعة .
  اشتكى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مرض ألَّم به في أواخر شهر صفر في السنة الحادية عشر للهجرة .
  وكان عليه وآله الصلاة والسلام قد جهز جيشاً لمحاربة الروم وأعدَّ لقيادة هذا الجيش العظيم ( اسامة بن زيد ) وكان في مطلع شبابه .
  أمر النبي جميع المهاجرين والأنصار ان ينضموا إليه ... وجعل يستحثهم على الخروج ... ويلح ... ويقول : ( نفذوا جيش اسامة ) .
  وظن اكثر المسلمين وبنو هاشم انها وعكة طارئة لا تلبث ان تزول ولم يفكر أحد أو يخطر على باله أنه مرض الموت .
  ويشتد المرض بالنبي العظيم ... يوماً بعد يوم ولكن سيدة النساء الزهراء لم تكد تسمع بشكوى أبيها ، حتى أجفلت وارتج قلبها ... وانهارت اعصابها ... وكأنها والموت على ميعاد .
  ألم تسمعه عليه وآله الصلاة والسلام وقد وقف بين أصحابه يعظهم ويقول : أوشك أن ادعى فأجيب .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 204 ـ

  وسمعته في حجة الوداع على جبل عرفات وقد وقف بين المسلمين يقول لهم : ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) .
  ورأته مراراً يخرج الى زيارة القبور ويخاطبهم بكلمات تشعر بدنو أجله .
  وما ان سمعت شكواه حتى أسرعت وقلبها يرتجف وقد استولى عليها الحزن ... والخوف ، ولكنها كانت تتجلد صابرة .
  رأته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يجمع اصحابه ، ويوصيهم بأهل بيته خيراً بنصوص كثيرة وفي كتاب ظلال الوحي قوله :
  ( على ان حياة النبي كانت مفعمة بتلك النصوص ، منذ يوم الانذار في دار ابي طالب فما بعده من الأيام حتى سجي على فراش الموت والحجرة غاصة بأصحابه فقال :
  أيها الناس ، يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا وإني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض ) (1) .
  ورأته عليه الصلاة والسلام يطلب من أصحابه دواة وقرطاساً ، ويلح في طلبه ويكرر قائلاً : ( آتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي ابداً ...) .
  وخانها تجلدها واصطبارها ، وقد رأت اباها الرسول يتململ من شدة الألم ويأخذ الماء بيده الشريفة ليمسح به رأسه لعله يخفف وطأة الألم ، ثم يتأوه قائلاً : واكرباه ...

******************************************************************************
(1) عن كتاب في ظلال الوحي ـ للسيد علي فضل الله الحسني .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 205 ـ

  انكبت عليه ( الزهراء ) تشمه وتصيح ... واكربي بك يا أَبتاه واكربي لكربك يا ابتاه .
  وينظر إليها بكل عطف ... وحنان ... وإشفاق ، ينظر إليها نظرة مودع لهذه الدنيا الزائلة ، المليئة بالهموم والأحزان .
  ثم يقول : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، ويوصيها عليه السلام بالصبر وتقوى الله سبحانه ، وأسرَّ إليها أنه قد حان اجله وأنها أول اهل بيته لحوقاً به ، وقال لها : ( أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامة ، فتجلدي ... واصبري ).

الزهراء ( عليها السلام ) يوم وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
  نزل القضاء الذي لا مفر منه ، ولحق الرسول العظيم بالرفيق الأعلى ، وبقيت الزهراء عليها السلام حزينة كئيبة يتيمة ، لا تجد للسلوان منفداً إلي قلبها ، ولا تجد الى العزاء سبيلاً .
  وعلا الصراخ ... والعويل من البيت النبوي الشريف ، فعلم أهل المدينة بالمصاب الفادح الأليم ، وراحت الزهراء في غيبوبة أفقدتها الوعي .
  ولما أفاقت من غيبوبتها ، وجدت الناس كالبركان الثائر سكارى من وقع المصاب ، حيارى من أمرهم ، فقد انصرف جماعة من الصحابة ، الى ( سقيفة بني ساعدة ) حيث الانصار قد اجتمعوا يتداولون في امر الخلافة ، وذلك بعد ما تأكدوا ان المهاجرين قد اجتمعوا يبرمون الأمر حسب ميولهم وتخطيطهم ، ضد أصحاب الأمر الشرعيين ، الذين نصَّ عليهم الرسول الكريم ...
  وكان بين المهاجرين والأنصار حوار واسع وكلام كثير ، وأخذ ورد ، وكانت النتيجة لصالح ( أبي بكر ) .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 206 ـ

  وافتقدت الزهراء زوجها علياً عليه السلام ، وأين هو من هذا الخضم ؟ الذي تتعالى أمواجه ، وتتقاذف الناس من المسلمين حسب الأهواء ... والأغراض ...
  وإذا به عليه السلام قد انصرف مع جماعة ، من خيار الصحابة عن كل شيء ، ولم يعد من هم لهم إلا تجهيز النبي لمثواه الأخير .
  حدث كل هذا و( فاطمة ) يغشى عليها ساعة بعد ساعة ، لكنها أخيراً جمعت كيانها المشتت ... وتحاملت على نفسها ، وذهبت تسعى الى قبر الحبيب أبيها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  ويا له من منظر يفتت الأكباد ، ويتصدع له الصخر الأصم .
  ألقت بنفسها على القبر ، ووقعت مغشياً عليها ، ولما أفاقت من غشيتها صاحت من قلب كئيب :
  يا أبتاه ... أجاب ربا دعاه ... يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه .
  وفي طبقات ابن سعد : أن فاطمة قالت : يا أبتاه ، إن جبريل ينعاه ، يا أبتاه ، مِن ربه ما أدناه ، يا أبتاه من جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه ، أجاب رباً دعاه .
  وخنقتها العبرات ، فبكت عليها السلام ، حتى تقرحت أجفانها ، وبكى الناس لبكائها ، ثم استرجعت وقالت :
اغـبرَّ  آفاق السماء iiوكورت      شمس النهار وأظلم iiالعصران
فـالأرض من بعد النبي كئيبة      أسـفاً  عـليه كثيرة الرجفان
فـليبكه  شرق البلاد iiوغربها      ولـتبكه  مـضر وكل iiيماني
ولـيبكه الطود المعظم iiجوده      والـبيت ذو الأستار iiوالأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه      صـلى  عـليك منزل iiالقرآن

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 207 ـ

  واستعبرت باكية ، فبكى الناس رفقاً بها وتقطعت قلوبهم حزناً عليها ، وهم ينظرون اليها ، وهي تقلب التراب بين أناملها ، في حركة يائسة ، كمن فرغت من الدنيا ، ثم تأخذ حفنة من تراب القبر ، وتدنيها من عينيها اللتين قرحهما البكاء ثم راحت تشم ذلك التراب وهي تقول متفجعة :
ماذا على من شم تربة احمد      ألا  يشم مدى الزمان iiغواليا
صُبَّت  عليّ مصائب لو iiأنها      صبت  على الأيام عدن iiلياليا

  ورجعت عليها السلام ، مع بعض النسوة الى البيت ، والناس تتبعها بعيون دامعة ، وقلوب متصدعة ، حتى إذا بلغت دارها ، استأذن عليها أنس بن مالك وراح يسألها الصبر والعزاء ، فقالت له معاتبة :
  يا أنس ، كيف طابت نفوسكم ، أن تحثوا التراب على رسول الله ؟؟
  ثم قالت وقد شرقت بدمعها :
إِنـا  فـقدناك فقد الأرض iiوابلها      وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب
فـليت  قـبلك كان الموت صادفنا      لـما  نـعيت وحالت دونك iiالكثب

  قال ابن شهر اشوب في مناقبه : إن الزهراء عليها السلام ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة : تقول لولديها : أين ابوكما (1) الذي كان يكرمكما ويحملكما ؟ أين ابوكما الذي كان من أشد الناس حباً لكما وشفقة عليكما !!

******************************************************************************************************************
(1) ابوكما : تعني جدهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كان يحبهما كثيراً وكان لهما بمنزلة الاب ، و كان يقول : ولداي هذان سيدا شباب اهل الجنة

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 208 ـ

  ولا تزال تعدد معاملته لهما ، وموافقه منهما ، حتى يغشى عليها .
  جاء في كتاب الأمالي ( للصدوق ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : قال : البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ويوسف ، وفاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) .
  فأما آدم : فإنه بكى خوفاً من ربه لما خرج من الجنة .
  وأما يعقوب : فإنه بكى على ولده يوسف حتى ذهب بصره ، وقيل له : ( قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) (1) .
  وأما يوسف : فإنه بكى على ابيه حتى تأذى منه من كان معه في السجن .
  وأما فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد بكت على ابيها حتى تأذى منها أهل المدينة ، وقالوا لها : لقد آذيتنا بكثرة بكائك .
  فكانت تخرج الى المقابر ، فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تعود الى بيتها .
  وأما علي بن الحسين : فقد بكى على ابيه عشرين عاماً ـ وقيل اربعين عاماً ـ وما قُدم له من طعام وشراب ، إلا اشتد بكاؤه ، فيقال له : ألا تأكل ؟ فيقول : كيف آكل ، وأبو عبد الله مات جائعاً ، وكيف أشرب ، وأبو عبد الله مات عطشاناً ... الخ .

بيت الأحزان :
  وقد روى كثير من المؤرخين أن الإمام علي عليه السلام ، لما تضايق أهل المدينة من كثرة بكاء فاطمة ، بنى لها بيتاً في البقيع ، كانت تأوي إليه في

**********************************
(1) سورة يوسف آية 85 .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 209 ـ

  ساعات من الليل والنهار ، تبكي اباها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما شاء لها ، وسمي هذا البيت بيت الأحزان .
  وفي كتاب ( أهل البيت ) (1) ان بيت الأحزان ، هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة ، من جهة قبة مشهد الحسن ، والعباس ، الى أن يقول : وإليه أشار ابن جبير بقوله : ( ويلي القبة العباسية بيت فاطمة الزهراء بنت الرسول ، ويعرف ببيت الأحزان ويقال انه هو البيت الذي آوت إليه والتزمت الحزن فيه ، منذ وفاة ابيها الى ان لحقت به ) .
  وجاء بنو هاشم وخيار الصحابة الى الزهراء عليها السلام ، يسألونها الصبر ... والعزاء ومن أين لها بالصبر والعزاء ... وكيف ؟!
  ( وكل مصاب بعد مصابها لمم !! )
  وجلس بنو هاشم والصحابة الأخيار ، يتحدثون مع علي والزهراء وما كان من أمر البيعة ... وكيف تمت لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة .
  ولم يكد يمضي على وفاة الرسول إلا يوم وساعات ، وأهله مشغولون عن كل شيء وهم منصرفون لتجهيزه لمقره الأخير ، ونسمع علياً عليه السلام يقول : وفي نبرات صوته حزن عميق ، وألم دفين : ( أفكنت ادع رسول الله في بيته مسجى ... بلا غسل (2) ... ولا تكفين ، ... وأخرج أنازع القوم الخلافة ) .
  أليست الخلافة هي حق شرعي لي على ما نصه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟

***********************************************************************************************************************************************
(1) تراجم اهل البيت ـ توفيق ابو علم .
(2) ذكر ابن سعد في طبقاته ـ ج ـ 2 ص ـ 60 كان علي رضي الله عنه ، هو الذي تولى غسل الجسد الشريف .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 210 ـ

  وهنا تكلمت فاطمة عليها السلام وقالت : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ان يصنع ... ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم .
  تقول الدكتورة بنت الشاطئ : وأخذ الجمع يتذاكرون بلاء علي في نصرة الإسلام ، ومكانه من رسول الله : لقد شهد علي مع الرسول مشاهده كلها :
  كان يحمل لواء المهاجرين يوم أحد ، ولواء الرسول يوم غزوة بني قريظة ، وحمراء الاسد ، ويوم حنين .
  وحمل يوم خيبر ، اول راية في الإسلام ... وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قد اتخذها من برد لزوجه ( عائشة ) ام المؤمنين وقال : ( لأدفعنَّ الراية الى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ويفتح عليه ... ).
  فتطاول عمر بن الخطاب لها واستشرف ، رجاء أن يدفعها الرسول اليه ، فلما كان الغد ، دعا الرسول ( علياً ) ودفعها له .
  ويوم الفتح كانت الراية مع ( سعد بن عبادة ) فقال الرسول لـ (علي) (ادركه فخذ الراية منه ، فكن انت الذي تدخل بها ) .
  وقاد سرايا الرسول الى ( فدك ) في شعبان من السنة السادسة للهجرة . والى ( الفلس : صنم طئ ) في السنة التاسعة .
  والى اليمن في السنة العاشرة ... وعاد منه جميعاً مظفراً منصوراً ...
  وعلى ( القصواء ) ناقة الرسول المباركة ، خرج ( علي ) الى الحج بعد الفتح بعام ...
  ويوم آخى بين المهاجرين والانصار ، اصطفى ( علياً ) اخاً له ...
  ويوم خرج الى ( بدر ) غازياً ، ومعه أصحابه ، كل ثلاثة على جمل ، اختار

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 211 ـ

  علياً وأبا لبابة زميلين ، وقد عرضا عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يمشيا ليستريح في مركبه ، فأبى وقال :
  ( ما أنتما أقوى على المشي مني ، وما أنا أغنى عن الأجر منكما ) .
  وتذاكر القوم أحاديث الرسول لعلي وفي علي :
  ( أنت مني بمنزلة هرون من موسى ) .
  ( أنت مني وأنا منك ) .
  ( أنت ولي كل مؤمن بعدي ) .
  ( من كنت مولاه ، فعلي مولاه ) .
  ( لا يحبه إِلا مؤمن ، ولا يبغضه إِلا منافق ) .
  أهناك من هو أحق بالخلافة من ( علي ) ربيب النبي ، وابن عمه أبي طالب ، وزوج ابنته الزهراء وأبي الحسنين ريحانتي الرسول ، وأول الناس إِسلاماً ، وأطولهم في الجهاد باعاً ، وفتى قريش شجاعة ... وعلماً ...؟؟
  وأمسكت الزهراء صامتة لا تعقب ، ومضت أيام وهي في عزلة عن الناس ، لا تنشط للنضال عن ميراثها الذي أباه عليها ابو بكر ... وهل أبقى لها الحزن من قوة تسعفها على نضال ...؟
  وكانت بحيث تظل منطوية على جراحها وحزنها ، لو لم يدعها الواجب ، أن تؤدي حق زوجها وولديها عليها ، فتسعى في رد الأمر الى أهل بيت الرسول ... (1) .

*********************************************************************************************************************************************************
(1) نقلت الدكتورة بنت الشاطئ عن طبقات ابن سعد والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن حنبل هذا الحديث .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 212 ـ

كلام الزهراء لنساء المهاجرين والأنصار :
  مرضت الزهراء ( عليه السلام ) ، ولم يتحمل جسمها النحيل الكوارث التي المَّت بها بعد وفاة ابيها .
  وما أن فشا الخبر بالوعكة التي اصابتها ، حتى سارع حشد من نساء المهاجرين   والأنصار لعيادتها ، وتوافدن للاطمئنان عن صحتها .
  التفتت عليها السلام وقالت لهن معاتبة ، وذلك عندما قلن لها : كيف اصبحت من علتك يابنت رسول الله ؟
  ذكر الاستاذ عمر رضا كحالة كلام الزهراء ( عليها السلام ) لمن اتين لعيادتها من النساء قالت : (1)   ( اصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد ان عجمتهم ، وشنأتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحد ، وخور القنا أو كسره ، وخطل الرأي ، وبئسما قدمت لهم انفسهم أن سخط الله عليهم ، ... إلى أن تقول :
  لا جرم لقد قلدتهم ربقتها ، وشنت عليهم عارها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين .
  ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين ... الطبن (2) بامور الدنيا والدين .
  ألا ذلك هو الخسران المبين .

*******************************************************************
(1) اعلام النساء للاستاذ عمر رضا كحالة .
(2) ألطبن : لغة الفطين والطبنة : الفطنة جمع طِبن .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 213 ـ

  وما الذي نقموه من أبي الحسن ، نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله .
  وبالله لو تكافؤا على زمام نبذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لسار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه .
  ولأوردهم منهلاً روياً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولأصدرهم بطاناً قد تحرى بهم الري غير منحل منهم بطائل بعمله الباهر ، وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون .
  ألا هلممن ... فاسمعن ... وما عشتن أراك الدهر عجباً ... الى أي لجأ لجأوا ! واسندوا ، وبأي عروة تمسكوا ، ولبئس المولى ، ولبئس العشير ... الخ الى أن تقول :
  والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على خاتم النبيين وسيد المرسلين ) .
  إن الزهراء عليها السلام لم تكن تطالب ببقعة من أرض ... أو بأرث مادي وهي الزاهدة العابدة ، المنصرفة عن ملذات الدنيا وطيبات الحياة .
  بل كانت تطالب ( بالحق ) وإرجاعه الى أهله الشرعيين ، فقد جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخلافة في علي بن ابي طالب ( زوجها ) .
  لقد عرفنا ما كانت عليه الزهراء ( عليها السلام ) من خشونة الحياة وشظف العيش ، وكانت الدنيا في عينيها أحقر من ذبابة طفيلية تنظر اليها باشمئزاز ، ولهذا كانت أكبر من أن تنازع ، أو تخاصم أحداً لأجل الأرث المادي وغيره من متاع الدنيا ، فهي تعلم علم اليقين بأن حياتها قصيرة لا تبقى بعد أبيها إِلا أياماً معدودات ، كما أخبرها النبي بذلك .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 214 ـ

  أمضت الزهراء ( عليها السلام ) حياتها القصيرة ، المشحونة بالشجن والآلام ، وشظف العيش ، وخشونة الحياة ، المقرونة بالزهد والتقشف .
  فكانت في ظل أب لم يشبع مرة واحدة من طعامه ... ثم انتقلت الى بيت زوج كان أكثر أدامه الملح ... والخل ... والزيت ، والدنيا في عينيه لا تساوي شسع نعل .
  ومما لا شك فيه ، ولا يتمكن المؤرخون من إنكاره ، وإن وضع بعضهم غشاوة على بعض النواحي لكن لا بد من القول ( الواقع يفرض نفسه ) .
  فقد أثبت جميع المؤرخين ، وأهل السير ، أن الزهراء سلام الله عليها لم تكن تهمها ( فدكا ) ولا غيرها مما تركه والدها الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ...
  بل المقصود من تصرفاتها ، ومطالبتها ( إثبات الخلافة لأصحابها الشرعيين ) وإحقاق الحق ، والحفاظ على الإسلام .
  فالزهراء وزوجها عليّ بن أبي طالب ( عليها السلام ) كانت الدنيا في حسابهما أوهي من بيت العنكبوت ، وأهون من عفصة قعرة ( أي مرة ) .
  ولنسمع علياً يقول عندما كانت خيرات الدولة الإسلامية على سعتها ، تحت تصرفه ... لا بل تحت قدميه : ( فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا اذخرت من غنائمها وفراً ، وما أعددت لبالي ثوبي طمراً ولا حزت من ارضها شبراً ... الخ .

خطبة الزهراء ( عليها السلام ) في المسجد النبوي الشريف :
  إن الزهراء ( عليها السلام ) كانت من طينة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحاطها الله سبحانه بهالة من

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 215 ـ

  الجلال ... والمهابة ... وعصمها من شطط القول والفعل ... وجموح الخيال .
  نراها في محنتها ، ومصابها بموت أبيها ، والضوضاء والفوضى التي أعقبت الوفاة ، تستنكر ما حدث من المفاجآت ، والنبي لا يزال جثة هامدة مسجى في بيته لم يوارى الثرى .
  فسيدة النساءالعاقلة الحكيمة ، التي هي باعتراف الجميع ذات العلم والعقل والفصاحة والبلاغة ، لم يوجد مثلها في النساء .
  قالت السيدة عائشة : ( ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فاطمة ، وقالت أيضاً ما رأيت قط أحداً أفضل من فاطمة غير ابيها ) (1) .
  لقد كانت الزهراء ( عليها السلام ) حريصة على تضامن المسلمين ، وإعلاء كلمة الدين ، لهذا نراها ( عليها السلام ) تقف ذلك الموقف المتصلب ، وتبين للناس حق علي بالخلافة ، وتزيل الغشاوة عن اعين بعض المسلمين السابحين في لجج الضوضاء .
  انها ترى خلافة علي التي نص عليها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هي امتداداً لرسالة أبيها المقدسة وتقول بعض الروايات أن انتزاع ( فدك ... والعوالي ) وسهم ذوي القربى من يد الزهراء ، وحرمانها من ميراث أبيها لم يكن داخلاً في حساب القوم لولا موقفها الحازم المتشدد من الخلافة .
  اولاً : انما حرموها فدكا وغيرها ، حتى لا توفر على عليّ قسطاً من المال يعينه على المضي في موقفه المناوئ لهم .
  ثانياً : إذا اعترف القوم للزهراء بالأرث وسلموا أمره لها ، يؤدي بهم الى

*****************************************************
(1) اعلام النساء للاستاذ عمر رضا كحالة .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 216 ـ

  الاعتراف بأمر الخلافة لزوجها ( علي بن أبي طالب ) صاحب الحق الشرعي علاوة على حجتها البالغة عليهم .
  جاء في بلاغات النساء لابن طيفور قال : لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليها ( فدك )و بلغ ذلك فاطمة ( عليها السلام ) لاثت خمارها على رأسها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم من مشية ابيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئاً ، حتى دخلت على ابي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار ، فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنَّت أنة ، أجهش القوم لها بالبكاء ، وارتج المجلس فأمهلت حتى سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، فافتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعاد القوم في بكائهم ، فلما أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت :
  لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تعرفوه تجدوه ابي دون آبائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، فبلغ النذارة صادعاً بالرسالة ، مائلاً على مدرجة المشركين ضارباً لثبجهم ، آخذاً بكظمهم ، يهشم الأصنام ، وينكث الهام ، حتى هزم الجمع ، وولوا الدبر ، وتفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين .
  وكنتم عل حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقاتون الورق ، أذلة خاشعين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله برسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد اللتيا والتي ، وبعدما مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ـ ومردة أهل الكتاب .
  كلما حشوا ناراً للحرب أطفأها ، ونجم قرن للضلال وفغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخصمه ، ويخمد

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 217 ـ

  لهبها بحده ، مكدوداً في ذات الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، وأنتم في بلهنية وادعون ... آمنون .
  حتى اختار الله لنبيه دار انبيائه ، وظهرت خلة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الآفلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مفرزه صارخاً بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين فاستنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأجمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير ابلكم ، وأوردتموها غير شربكم .
  هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل بدار زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ...
  فهيهات منكم ، وأنى بكم ، وأنى تؤفكون ، وهذا كتاب الله بين اظهركم ، وزواجره بينة ، وشواهده لائحة وأوامره واضحة .
  أرغبة عنه تدبرون ، أم بغيره تحكمون ، بئس للظالمين بدلاً ، ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
  ثم لم تتريثوا إلا ريث ان تسكن نفرتها ، تشربون حسواً ، وتسرون في إرتقاء ، ونصبر منكم على مثل حز المدى .
  وأنتم الآن تزعمون أن لا أرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون !؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون .
  ويا معشر المهاجرين ، أأبتز إرث ابي ، أفي الكتاب أن ترث أباك ؟ ولا أرث ابي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً .
  فدونها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 218 ـ

  محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون ، ثم انحرفت إلى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي تقول :
قـد  كـان بعدك أنباء iiوهنبثة      لو كنت شاهدها لم تكثر iiالخطب
إنـا  فقدناك فقد الأرض iiوابلها      واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

  قال : فما رأينا يوماً أكثر باكياً ، ولا باكية منا ذلك اليوم ) (1) .
  إن خطبة الزهراء عليها السلام ، وما تحتويه من جميل المعاني ، وعظيم الحكم ، وما تتضمنه من حسن البيان وبلاغة الكلام ، جديرة بأن تستجيب لها القلوب ، وتتفهمها الأفئدة قبل الألسن .
  فلا غرابة في هذا ، فهي صادرة عن سيدة النساء ، ابنة سيد البشر ، وزوجة سيد البلغاء بعد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وهنا نقف نتساءل ... لماذا وقف القوم من الزهراء وزوجها هذا الموقف !؟ مع علمهم بأنها بضعة الرسول ، يغضبه ما يغضبها ، ويرضيه ما يرضيها .
  واحسب أنهم لو حاولوا معالجة الامور بالتعقل والروية ، لمواجهة موضوع الميراث وغيره لاستطاعوا الوصول إلى نتائج أعمق ، وأبعد من الحالة التي وصلوا اليها ارتجالاً من أقرب الطرق ، وربما اتيح لهم الربط بين أطراف المسلمين ، وَلم أشتات الفوضى العارمة .
  ولكن شاء القدر ، وحكمت الأيام ، أن يلتوي تاريخ الإسلام ، في أيديهم ، ويأخذ شكلاً آخر ، ويصطبغ بصبغة ثانية .
  لا نلومهم عليها ، وهم غير معصومين ... بشر لا يبرأون ... ونحن ايضاً

***********************************************************************************************
(1) خطبة الزهراء عليها السلام ذكرها ابن طيفور كذلك ذكرها اكثر المؤرخين .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 219 ـ

  بشر لا نبرَّأ ... من ضعف وميول ، وهوى ، وإن كنا في الوقت نفسه ، نأسف لما ضاع على المسلمين من جهود وأتعاب ، وفرص لا تعوض ، وما يضيع على العلماء ، من صبر على البحث ، ودأب على الدرس وثبات على التحقيق ، كانت هذه الاتعاب جديرة بأن تؤتي أحسن الثمر ، لو برئ الإنسان من شوائب الضعف البشري ... وهيهات ...
  ومما لا شك فيه ، أن حرص الزهراء على مصلحة المسلمين ، واجتماع كلمتهم ، وتفانيها في خدمة الرسالة المقدسة . مما جعلها تذهب الى المهاجرين ، تخاطبهم بمنطقها البليغ ، الذي يشبه منطق الرسول ( وذكر ان نفعت الذكرى ... ) .
  ثم تتوجه عليها السلام ، نحو الأنصار ... وتؤنبهم ، وقد اجتمعوا في المسجد الشريف حيث قالت :
  يا معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الإسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي ؟ والونية عن معونتي ، والغمزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي ، أما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول :
  ( المرء يحفظ في ولده ) سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ما أتيتم ، الآن مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أمتم ... دينه ... !!
  ها ان موته لعمري خطب جليل ، استوسع وهنه ، واستبهم فتقه ، وفقد راتقه ، وبعد وقته ، وأظلمت الأرض له ، وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال ، وأضيع بعده الحريم ، وهتكت الحرمة ، وتلك نازلة أعلن عنها كتاب الله قبل موته ، وأنبأكم بها قبل وفاته فقال : ( و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 220 ـ

  أيها بني قيلة ...؟ اهتضم تراث ابي وأنتم بمرأى ومسمع ، تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت ، وفيكم العدة ... والعدد ... والأداة ... والقوة وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار .
  باديتم العرب ، وبادهتم الأمور ، وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام ، ودر حلبه ، وخبت نيران الحرب ، وسكنت قوة الشرك ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين ، فتأخرتم بعد الإقدام ونكصتم بعد الشدة وجبنتم بعد الشجاعة ، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم (1) الى أن قالت : ألا وقد قلت ما قلت لكم على معرفة منِّي بالخذلة ، التي خامرتكم وخور القناة وضعف اليقين .
  فدونكموها ، فاحتووها ، مدبرة الظهر ، ناقبة الخف ، باقية العار ، موسومة الشعار ، موصولة بنار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تعملون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .
  إن سيدة النساء فاطمة الزهراء ، كانت لا تهمها الجهة المادية ( وهي الزاهدة العابدة ) من الأرث ، بقدر ما كان يهمها من سير الدعوة الاسلامية ، ووصول الحق الى أهله . وهي ترى أن مصلحة الاسلام العليا تقتضي خلافة ( علي ) التي هي امتداد لصالح الاسلام ... والمسلمين .
  ومما يدل على أن مصلحة الاسلام ، ونشر الرسالة المقدسة ، وتركيز دعائم الدين ، كل هذه الأشياء كانت في نظر الزهراء فوق كل شيء .
  ذلك ما جاء في كثير من الروايات من سيرة علي وفاطمة عليهما السلام كشرح

**************************************************************************************************************
(1) إشارة الى ان النبي عليه الصلاة والسلام ، اخذ العهد من المسلمين بالبيعة والخلافة لعلي عليه السلام وذلك في حجة الوداع ـ في مكان يقال له غدير خم .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 221 ـ

  النهج وغيره ، بما مضمونه ومعناه :
  أن الزهراء عليها السلام عندما رجعت من المسجد الشريف الى منزلها ، مهضومة الحق ... كسيرة القلب ، حزينة ، وذلك بعدما خاطبت المهاجرين والأنصار ولم تجد تجاوباً منهم ، لم تتمالك من أن توجه اللوم الى زوجها ابي الحسن علي عليه السلام ، بكلام تبدو عليه ... القسوة ... والشدة ... والملامة .
  وفيما هي تحدثه وتخاطبه لائمة إِياه على تقاعده وسكوته عن حقه الشرعي والمطالبة به وإِذا بصوت المؤذن يتعالى :
  ( الله أكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... وأشهد أن محمداً رسول الله ) .
  عندها قام علي الى السيف ... واستله من غمده ، والتفت الى الزهراء قائلاً : ما معناه ...
  يا بنت رسول الله ؟ لو نازعت القوم في طلب حقي ... وحاربتهم عليه وطالبتهم بحقك من الأرث ، لثارت ثائرتهم ، وذهبوا أشتاتاً ، ولم يبق للإسلام إسم ... ولا رسم ، واختفى هذا الصوت الذي يتعالى في الأجواء مردداً :
  ( الله اكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... أشهد أن محمداً رسول الله ) .
  عندها هدأت ثورة الزهراء وسكنت ، وتعلًّقت بالإمام عليه السلام ، ودموعها تنساب على خديها وهي تقول : بل اصبر يا ابن عم ... حسبي ... وغايتي ... بقاء هذا الصوت والحفاظ على بقاء رسالة ابي ... وتركيز دعائم الاسلام ونشره .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 222 ـ

وفاة الزهراء ( عليها السلام )
  يذكر المؤرخون ان الزهراء ( عليها السلام ) استسلمت للحزن فلم ترى قط منذ وفاة والدها النبي ( صلى الله عليه آله وسلم ) إلا باكية العين كسيرة الفؤآد .   الزهراء رافقت دعوة أبيها منذ بدايتها ، وتأصلت في نفسها أركان الرسالة حتى أصبحت وكأنها جزء من حياتها وقاعدة عظيمة من كيانها ، تمدها بالثبات على الحق ، والدفاع عن المظلومين والضعفاء والمحرومين والمعذبين .
  تضحي بكل ما لديها لإسعاد البشر ، وإقامة العدل ولا تتواني مها كان الثمن غالياً .
  وكانت عليها السلام تتمثل دائماً بابيات من الشعر تتذكر بها أيام أبيها فتقول :
صـبت علي مصائب لو أنها      صبت  على الأيام عدن iiلياليا
قد كنت أرتع تحت ظل محمد      لا اختشي ضيماً وكان جماليا
واليوم  اخضع للذليل iiواتقي      ضيمي وادفع ظالمي iiبردائيا

  واخيراً مرضت الزهراء ( عليها السلام ) ، وساء حالها ، فبادرت نساء المسلمين لعيادتها ...
  نظرت اليهن ثم أشاحت بوجهها عنهن قائلة :

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 223 ـ

  اجدني كارهة لدنياكن مسرورة بفراقكم ، وسأشكوا إلى الله ورسوله ما لقيت من بعده ... فما حفظ لي حق ، فخرجن من عندها كسيرات ، يتلاومن ... وقد ادهشن ما سمعن ورأين .

وصية الزهراء ( عليها السلام )
  ذكر أصحاب التاريخ وأهل السير وصية الزهراء ( عليها السلام ) على عدة أوجه ، ففي رواية : انها لما احست عليها السلام بدنو أجلها ، استدعت اليها زوجها ( عليا ) امير المؤمنين ( عليه السلام ) فاوصته وصيتها ، وطلبت منه ... وألحت عليه ان يواري جثمانها في غسق الليل ، حتى لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها ، وجحدوا حقها ، وان يعفى موضع قبرها .
  واوصته أيضاً أن يتزوج ابنة اختها ( امامة ) لتقوم على رعاية ابنائها ، قالت له :
  ( يا ابن عم لا بد للرجال من النساء ، فإذا أنا مت ، فعليك بابنة اختي ( امامة ) فانها تكون لأولادي ... مثلي ...
  يقول ابن سعد في طبقاته : ( ان فاطمة احبت ان يصنع لها نعشاً يواري جثمانها ، لأن الناس كانوا يومذاك يضعون الميت على سرير مكشوف لا يستر ، فكرهت ذلك ، واحبت ان لا ينظر جثمانها أحد وهي محمولة على أكتاف الرجال .
  فاستدعت ( أسماء بنت عميس ) وشكت اليها نحول جسمها وقالت لها : اتستطيعين ان تواريني بشيء ؟
  قالت اسماء اني رأيت الحبشة يعملون السرير للمرأة ، ويشدون النعش

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 224 ـ

  بقوائم السرير ، فأمرتهم بذلك وعمل لها نعش قبل وفاتها ، ولما نظرت اليه قالت :
  ( سترتموني ستركم الله ) .
  وفي رواية : لما نظرت اليه ابتسمت ، وكانت هذه أول ابتسامة لها بعد وفاة ابيها ) .
  والذي وعاه التاريخ ، ان الزهراء ( عليها السلام ) ، كان يبدو عليها الارتياح في اليوم الاخير من حياتها ، فقامت من فراشها ونادت أولادها ، فعانقتهم طويلاً وقبلتهم ثم أمرتهم بالخروج إلى زيارة قبر جدهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وكانت أسماء بنت عميس تتولى خدمتها وتمريضها (1) فطلبت منها بصوت واه ضعيف ، ان تهيء لها ماء لتغتسل .
  وبكل ارتياح ، بادرت أسماء إلى احضار طلبها ، فاغتسلت ( عليها السلام ) ولبست أحسن ثيابها وبدا عليها الحبور ، فظنت أسماء انها تماثلت للشفاء .
  ولكن تبددت ظنونها عندما طلبت منها ان تنقل لها الفراش إلى وسط البيت ، وقفت أسماء والدهشة بادية على وجهها ، وقد ساورها قلق شديد عندما رأت الزهراء قد اضطجعت على الفراش واستقبلت القبلة ، ثم التفتت اليها قائلة :
  ( اني مقبوضة الآن وراحلة عن هذه الدنيا ، إلى جوار رب رحيم ، لاحقة بأبي الرسول الكريم ... )

*************************************************************************************************************************************************
(1) وفي رواية ثانية أن أم رافع مولاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي كانت تسهر عليها ، وتتولي تمريضها .

المرأة في ظلّ الإسلام  ـ 225 ـ

  وتسمرت أسماء في مكانها وقد عقدت الدهشة لسانها لما رأت وسمعت ...
  لقد اذهلها الخطب العظيم ، واستبد بها القلق والجزع والخوف على الزهراء وما هي إلا دقائق معدودات حتى حم القضاء وعلت صفرة الموت وجه سيدة النساء .
  صاحت أسماء وناحت ، و علا الصراخ، فاسرعت زينب والحسنان لاستفسار الخبر ، فوجدوا أمهم قد فارقت الحياة ...
  واجتمع الناس على صوت البكاء والعويل ، واحاطوا بدار علي بن أبي طالب وهم بين باك وباكية ، ومتفجع ومتفجعة وقد اشتد بهم الحزن والاسى على بضعة الرسول فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .
  وعن ينابيع المودة عن أم سلمة ( رضي الله عنها ) قالت :   اشتكت فاطمة في وجعها ، فخرج ( علي ) لبعض حاجته فقالت لي فاطمة :
  يا اماه اسكبي لي ماء ، فسكبت لها ماء ، فاغتسلت أحسن غسل ، ثم قالت : يا اماه ناوليني ثيابي الجدد ، فناولتها ثم قالت : قدمي فراشي وسط البيت ، فاضطجعت ووضعت يدها اليمنى تحت نحرها ، واستقبلت القبلة ثم قالت : يا اماه اني مقبوضة الآن ، فلا يكشفني أحد ، ولا يغسلني أحد .
  قالت أم سلمة : فقبضت مكانها صلوات الله وسلامه عليها .
  قالت: ودخل ( علي ) فاخبرته بالذي قالت ، فقال علي : والله لا يكشفها