أول من أظهر الإسلام بمكة ـ ما عدا بني هاشم ـ سبعة أشخاص ، أبو بكر ـ وبلال ـ وخباب ـ وصهيب ـ وياسر ـ وعمار وسمية .
فأما أبو بكر منعه قومه وعشيرته ، وأما الآخرون فألبسوا أدراع الحديد ، ثم صهروا في الشمس .
وفي رواية ابن عبد البر : أن عماراً جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بلغ منّا ـ أو بلغ منها العذاب ( أي سمية ) كل مبلغ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صبراً أبا اليقظان ، الَّلهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار ...
ثم مرَّ أبو جهل يوماً بسمية وهي في العذاب ، فأغلظت له القول ، فطعنها بحربة في قلبها فماتت . وذلك قبل الهجرة .
وروي أنه لما قتل أبو جهل يوم بدر قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمار : ( قتل الله قاتل أمك ) .
كانت سمية أم عمار رضي الله عنها ذات إيمان قوي بالله ، أسلمت وحسن إسلامها ، فكانت من السابقين الذين موعدهم الجنة .
تحملت العذاب وصبرت على الأذى صبر الكريم ، فلم تصبأ ، او تهن عزيمتها ، او يضعف إيمانها الذي رفعها الى مستوى الأبطال الخالدين .
وهناك سيدة أخرى هي ( زنيرة ) التي أصيب بصرها وهي في العذاب ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات ... والعزى . فقالت : كذبوا وبيت الله ، ما تضر اللات ... والعزى وما تنفعان ، ولكن هذا أمر من السماء ، وربي قادر على رد بصري ... فأصبحت من الغد وقد ردَّ الله تعالى بصرها .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 147 ـ
ونحن عندما نذكر بعض اللواتي تحملن الأذى من سادات قريش وجبابرتها ، وصبرن على العذاب لا ننسى النهدية ... وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار ، فكانت تعذبهما وتقول : والله لا أدعكما إلا أن تكفرا بمحمد .
وام عبيس : وهي أمة لبني زهرة ، فكان الأسود ابن عبد يغوث يعذبها
(1) وغيرهن كثيرات ، مما يضيق المجال عن الإحاطة بهن .
موقف المرأة المسلمة في بدء الدعوة :
الواقع أن الانقلاب الذي أحدثه محمد صلى عليه وآله وسلم بإبلاغ التعاليم السماوية والنظم الإسلامية لبني البشر ، والانتقال فجأة من طور ... إلى طور ... كان شبه المستحيل .
ورغم أن التقاليد التي صاغتها العصور والعادات التي فرضتها الأجيال ، والتي يتوارثها الأبناء عن الآباء ، لا يمكن أن تزول دفعة واحدة ، ولا تندثر أو تتبدل إلا بمدة طويلة من الزمن .
لكن التعاليم الإسلامية الجديدة ، قلبت نظام المجتمع العربي ، وأسرعت إلى قلوب المسلمين ، واحتلت الصدارة في نفوس المؤمنين ، فإذا بأولئك الرجال الذين كانوا بالأمس القريب ، يعتبرون المرأة مخلوقاً وضيعاً لا تصلح إلا للخدمة أو للمتعة ، نجدهم ينقلبون فجأة وبسرعة مدهشة ، إلى اعتبار النساء وإكرامهن حسب التعاليم النبوية وتوجيه الرسول الكريم .
******************************************************************************************************************
(1) سيرة ابن هشام ج ـ 1 ـ ص 340 ـ والكامل في التاريخ لابن الاثير ج ـ 2 ص 46 .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 148 ـ
وكذلك نجدهم يعاملوهن بالمودة والرحمة أسوة بالنبي العظيم الذي كان يعامل المملوكة الرقيقة المؤمنة ، معاملة الحرة الرفيقة الكريمة .
ونتج عن هذا التبدل ـ التطور ـ ان المرأة شعرت بمنزلتها ، وحفظ كرامتها فقمن النسوة بواجباتهن منتعشات الأرواح نشيطات الأجسام .
والفين في امتثال الرجال لأوامر الدين ونواهيه طريقاً واسعاً للانطلاق من مجال القول الى مجال العمل .
نرى بذور الخير ، وقفزات واسعة ، ونشاطاً ظاهراً للمرأة المسلمة ، التي وقفت جنباً إلى جنب تشارك الرجل في جميع المراحل ... والميادين .
فقد ابتليت بما ابتلى به المسلمون من التعذيب والاضطهاد والأذى من قريش وطواغيتها .
أجل لقد جاهدت وضحت بكل غالٍ ورخيص في سبيل عقيدتها ثابتة على إيمانها .
هاجرت إلى الحبشة فراراً بدينها مع من هاجر من المسلمين .
نعم هاجرت المرأة الهجرتين . وصلت إلى القبلتين ، وثبتت على إيمانها حين دعا داعي الحق .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 149 ـ
إشارة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على اصحابه بالهجرة :
لما كثر المسلمون وظهر الإيمان ، ثار ناس كثيرون من كفار قريش على من آمن من قبائلهم ، فعذبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تفرقوا في الأرض .
قالوا : أين نذهب يا رسول الله ؟
قال : ها هنا وأشار إلى أرض الحبشة ، وكانت أحب الارض إليه ، فهاجر ناس ذوو عدد من المسلمين ، منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه ، فخرجوا متسللين سراً وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، حتى انتهوا الى الشعيبة ، منهم الراكب والماشي .
ووفق الله للمسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار ، حملوهم الى ارض الحبشة بنصف دينار . وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة للنبوة .
وخرجت قريش في آثارهم ، حتى جاؤوا البحر حيث ركب المسلمون فلم يدركوا منهم أحداً
(1) .
ويقول ابن الأثير في تاريخه : ( وكان عليهم عثمان بن مظعون فهو رئيس المهاجرين في الهجرة الاولى ، ليشرف على شؤونهم ويراقب أعمالهم ، كي لا تتفرق كلمتهم ، ومن هنا نعلم أن المسلمين يجب أن لا يخرجوا عن النظام الإسلامي الذي
******************************************************************************
(1) طبقات ابن سعد الكبرى ـ مجلد ـ 1 ـ 2 ـ صفحة 136 .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 150 ـ
وضعه لهم النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لهم قائد يدير أمورهم ، وإن كانوا قليلين ، وإنَّ ترك المسلمين القيادة وانصراف كل حسب رأيه ، وميله ، وهواه ، لجعلهم كالغنم الشاردة فصاروا طعمة للمستعمرين ) .
ولو أنهم اتبعوا دينهم العظيم ، وجعلوا لهم من وسطهم غيوراً على مصالحهم يكافح عنهم ، حسب التعاليم الإسلامية ( لا تأخذه في الله لومة لائم ) فيناضل الأعداء ، لتلافي النقصان ، وإصلاح الخلل ...
عندها تنهض الأمة الى السعادة والشرف .
الهجرة الثانية :
وبعد نقض الصحيفة ، وتضييق المشركين على المسلمين ... في حديث يطول شرحه لا مجال لذكره ... خرج المسلمون فراراً بدينهم الى أرض الحبشة ، فكانت الهجرة الثانية .
كان أمير القوم هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه ومعه امرأته أسماء بنت عميس .
تتابع المسلمون الى أرض الحبشة منهم من هاجر بأهله ، ومنهم من هاجر بنفسه كما ذكرنا في الهجرة الاولى .
فكان جميع من هاجر من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً ـ أو ولدوا في ارض الحبشة ـ كانوا ثمانين رجلاً وسبع عشرة امرأة أو ما يزيد والله أعلم .