الفهرس العام

رسالة
في المتعتين


الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 401 _

  وإذا ضممنا إلى ذلك أنّ الأكثر ـ أيضاً ـ على أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ينصّ على خلافة أحدٍ من بعده ... كما جاء في المواقف وشرحها ( والإمام الحقّ بعد النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : أبوبكر ثبتت إمامته بالإجماع ، وإن توقّف فيه بعضهم ... ولم ينصّ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم على أحدٍ خلافاً للبكرية ، فإنّهم زعموا النصّ على أبي بكر ، وللشيعة فإنّهم يزعمون النصّ نفيهما ) (1) .
   وقال المناوي بشرحه : ( فإن قلت : هذا الحديث يعارض ما عليه أهل الأصول من أنّه لم ينصّ على خلافة أحدٍ .
   قلت : مرادهم : لم ينصّ نصّاً صريحاً ، وهذا كما يحتمل الخلافة يحتمل الاقتداء بهم في الرأي والمشورة والصلاة ونحو ذلك (2) .
   علمنا أنّ المستدلّين بهذا الحديث في جميع المجالات ـ ابتداءً بباب الإمامة والخلافة ، وانتهاءً بباب الاجتهاد والإجماع ـ هم ( البكرية ) وأتباعهم ... إذن ... فالأكثر يعرضون عن مدلول هذا الحديث ومفاده ... وإنّ المستدلّين به قوم متعصّبون لأبي بكر وإمامته ... وهذا وجه آخر من وجوه وضعه واختلاقه ... قال الحافظ ابن الجوزي : ( قد تعصّب قوم لا خلاق لهم يدّعون التمسّك بالسنّة فوضعوا لأبي بكر فضائل ... ) (3) .
لكن من هم ؟
   هم ( البكرية أنفسهم !!

---------------------------
(1) شرح المواقف ـ مباحث الإمامة .
(2) فيض القدير 2 | 56 .
(3) الموضوعات 1 | 303 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 402 _

قال العلاّمة المعتزلي : ( فلمّا رأت البكرية ما صنعت الشيعه (1) ، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث ، نحو : ( لو كانت متّخذاً خليلاً ) فإنّهم وضعوه في مقابلة ( حديث الإخاء ) .
  ونحو ( سدّ الأبواب ) فإنّه كان لعلي عليه السلام ، فقلبته البكرية إلى أبي بكر .
  ونحو : ( إيتوني بدواةٍ وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه إثنان ) ثم قال : ( يأبي الله والمسلمون إلاّ أبابكر ) فإنّهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه : ( إبتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم ما لا تضلّون بعده أبداً .
  فاختلفوا عنده وقال قوم منهم : لقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ) ونحو حديث : ( أنا راضٍ عنك ، فهل أنت عنّي راض ؟ ) ونحو ذلك ) (2) .
   وبعد ، فما مدلول هذا الحديث ونحن نتكلّم هنا عن هذه الجهة وبغضّ النظر عن السند ؟
   يقول المناوي : ( أمره بمطاوعتهما يتضمّن الثناء عليهما ، ليكونا أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه ... ) .
   لكنّ أوّل شيء يعترض عليه به تخلّف أمير المؤمنين عليه السلام ومن تبعه عن البيعة مع أمرها به ، ولذا قال :
   ( فإن قلت : حيث أمر باتّباعهما فكيف تخلّف علي رضي الله عنه عن البيعة ؟
   قلت : كان لعذر ثم بايع ، وقد ثبت عنه الانقياد لأوامراهما ونواهيهما ... ) (3) .
   أقول : لقد وقع القوم ـ بعد إنكار النصّ وحصر دليل الخلافة في الإجماع ـ في مأزق كبير وإشكال شديد ، وذلك لأنّهم قرّروا في علم الاصول أنّه إذا خالف

---------------------------
(1) الذي صنعته الشيعة أنّها استدلّت بالأحاديث التي رواها أهل السنّة في فضل أمير المؤمنين عليه السلام باعتبار أنّها نصوص جليّة أو خفيّة على امامته كما ذكر صاحب ( شرح المواقف ) وغيره .
(2) شرح نهج البلاغة 11 | 49 .
(3) فيض القدير 2 | 56 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 403 _

واحد من الامّة أو اثنان لم ينعقد الإجماع .
   قال الغزّالي : ( إذا خالف واحد من الامّة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه ، فلو مات لم تصر المسألة إجماعاً ، خلافاً لبعضهم ، ودليلنا : أنّ المحرّم مخالفة الامّة كافّة ... ) (1) .
  وفي مسلّم الثبوت وشرحه : ( قيل : إجماع الأكثر مع ندرة المخالف بأن يكون واحداً أو أثنين إجماع ... والمختار أنّه ليس بإجماع لانتفاء الكلّ الذي هو مناط العصمة ، ثم اختلفوا فقيل : ليس بحجّةٍ أصلاً كما أنّه ليس بإجماع ، وقيل : بل حجّة ظنّية غير الإجماع ، لأنّ الظاهر إصابة السواد الأعظم ... قيل : ربّما كان الحقّ مع الأقل وليس فيه بعد ... ) .
   فقال المكتفون بإجماع الأكثر : ( صحّ خلافة أبي بكر مع خلاف علي وسعد ابن عبادة وسلمان ) .
   فأجيب : ( ويدفع بأنّ الإجماع بعد رجوعهم إلى بيعته ، هذا واضح في أمير المؤمنين علي ) .
   فلو سلّمنا ما ذكروه من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، فما الجواب عن تخلّف سعد بن عبادة )؟!
   أمّا المناوي فلم يتعرّض لهذه المشكلة ... وتعرّض لها شارح مسلّم الثبوت فقال بعدما تقدّم : ( لكنّ رجوع سعد بن عبادة فيه خفاء ، فإنّه تخلّف ولم يبايع وخرج عن المدينة ، ولم ينصرف إلى أن مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مضتا من خلافة أمير المؤمنين عمر ، وقيل : مات سنة إحدى عشرة في خلافة أمير المؤمنين الصدّيق الأكبر ، كذا في الاستيعاب وغيره ، فالجواب الصحيح عن تخلّفه : أنّ تخلّفه لم يكن عن اجتهاد ، فإنّ أكثر الخزرج قالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، لئلاّ تفوت رئاستهم ... ولم يبايع سعد لما كان له حبّ السيادة ، وإذا لم

---------------------------
(1) المستصفى 1 | 203 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 404 _

تكن مخالفته عن الاجتهاد فلا يضرّ الإجماع ... فإن قلت : فحينئذٍ قد مات هو رضي الله عنه شاقّ عصا المسلمين مفارق الجماعة وقد قال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وأصحابه وسلّم : لم يفارق الجماعة أحد ومات إلاّ مات ميتة الجاهلية ، رواه البخاري ، والصحابة لا سيّما مثل سعد برآء عن موت الجاهلية .
   قلت : هب أنّ مخالفة الإجماع كذلك ، إلاّ أنّ سعداً شهد بدراً على ما في صحيح مسلم ، والبدريّون غير مؤاخذين بذنب ، مثلهم كمثل التائب وإن عظمت المصيبة ، لما أعطاهم الله تعالى من المنزلة الرفيعة برحمته الخاصة بهم .
  وأيضاً : هو عقبي ممّن بايع في العقبة ، وقد وعدهم رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وأصحابه وسلّم الجنّة والمغفرة ، فإيّاك وسوء الظنّ بهذا الصنيع ، فاحفظ الأدب ... ) (1) .
   ولو تنزّلنا عن قضية سعد بن عبادة ، فما الجواب عن تخلّف الصدّيقة الزهراء عليها السلام ؟ ! وهي من الصحابة ، بل بضعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم .
   فإذا كان الصحابة ـ لا سيّما مثل سعد ـ برآء عن موت الجاهلية ، فما ظنّك بالزهراء التي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني ) (2) وقال : ( فاطمة بضعة منّي ، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها ) (3) .
  وقال : ( فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة إلاّ مريم بنت عمران ) (4) هذه الأحاديث التي استدلّ بها الحافظ السهيلي وغيره من الحفّاظ على أنّها أفضل من الشيخين فضلاً عن غيرهما (5) .

---------------------------
(1) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت 2 | 223 ـ 224 .
(2) فيض القدير 4 | 421 عن البخاري في المناقب .
(3) فيض القدير 4 | 421 .
(4) فيض القدير 4 | 421 .
(5) فيض القدير 4 | 421 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 405 _

... فإنّ من ضروريّات التاريخ أنّ الزهراء عليها السلام فارقت الدنيا ولم تبايع أبابكر ... وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يأمرها بالمبادرة إلى البيعة ، وهو يعلم أنّه ( لم يفارق الجماعة أحد ومات إلاّ مات ميتة الجاهليّة )!!
أقول :
   إذن ... لا يدلّ هذا الحديث علي شيء ممّا زعموه أو أرادوا له الاستدلال به فما هو واقع الحال ؟
   سنذكر له وجهاً على شبيل الاحتمال في نهاية المقال ... ثمّ إنّ ممّا يبطل هذا الحديث من حيث الدلالة والمعنى وجوهاً اخر .

1 ـ إنّ أبابكر وعمر اختلفا في كثير من الأحكام ، والأفعال ، واتّباع المختلفين متعذّر غير ممكن ... فمثلاً : أقرّ أبوبكر جواز المتعة ومنعها عمر ، وأنّ عمر منع أن يورّث أحداً من الأعاجم إلاّ واحداً ولد في العرب ... فبمن يكون الاقتداء ؟!
   ثم جاء عثمان فخالف الشيخين في كثير من أقواله وأفعاله وأحكامه ... وهو عندهم ثالث الخلفاء الراشدين ... وكان في الصّحابة من خالف الشيخين أو الثلاثة كلّهم في الأحكام الشرعية والآداب الدينيّة ... وكلّ ذلك مذكور في مظانّه من الفقه والاصول ... ولو كان واقع هذا الحديث كما يقتضيه لفظه لوجب الحكم بضلالة كلّ هؤلاء!!
2 ـ إنّ المعروف من الشيخين الجهل بكثير من المسائل الإسلاميّة ممّا يتعلّق

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 406 _

بالاصول والفروع ، وحتّى في معاني بعض الألفاظ العربية في القرآن الكريم ... فهل يأمر النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم بالاقتداء المطلق لمن هذه حاله ويأمر بالرجوع إليه والانقياد له في أوامره نواهيه كلّها ؟!
3 ـ إنّ هذا الحديث بهذا اللفظ يقتضي عصمة أبي بكر وعمر والمنع من جواز الخطأ عليهما ، وليس هذا بقول أحدٍ من المسلمين فيهما ، لأنّ إيجاب الاقتداء بمن ليس بمعصوم إيجاب لما لا يؤمن من كونه قبيحاً ...
4 ـ ولو كان هذا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله لا حتجّ به أبوبكر نفسه يوم السقيفة ... ولكن لم نجد في واحدٍ من كتب الحديث والتاريخ أنّه احتجّ به على القوم ... فلو كان لنقل واشتهر ، كما نقل خبر السقيفة وما وقع فيها من النزاع والمغالبة ... بل لم نجد احتجاجاً له به في وقتٍ من الأوقات .
5 ـ بل وجدناه في السقيفة يخاطب الحاضرين بقوله : ( بايعوا أيّ الرجلين شئتم ) يعني : أبا عبيدة وعمر بن الخطّاب (1) .

---------------------------
(1) انظر : صحيح البخاري ـ باب فضل أبي بكر ، مسند أحمد 1 | 56 ، تاريخ الطبري 3 | 209 ، السيرة الحلبية 3 | 386 ، وغيرها .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 407 _

   ويلتفت إلى أبي عبيدة الجرّاح قائلاً : ( أمدد يدك ابايعك ) (1) .
6 ـ ثمّ لمّا بويع بالخلافة قال :
   ( أقيلوني ، أقيلوني ، فلست بخيركم ... ) (2) .
7 ـ ثمّ لمّا حضرته الوفاة قال :
   ( وددت أنّي سألت رسول الله لمن هذا الأمر ، فلا ينازعه أحد ، وددت أني كنت سألت : هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ) (3) .
8 ـ وجاء عمر يقول :
   ( كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى المسلمين شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ) (4) .

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 3 | 128 ، مسند أحمد 1 | 35 ، السيرة الحلبية 3 | 386 .
(2) الإمامة والسياسة 1 | 14 ، الصواعق المحرفة : 30 ، الرياض النضرة 1 | 175 ، كنز العمّال 3 | 132 .
(3) تاريخ الطبري 3 | 431 ، العقد الفريد 2 | 254 ، الإمامة والسياسة 1 | 18 ، مروج الذهب 2 | 302 .
(4) صحيح البخاري 5 | 208 ، الصواعق المحرقة : 5 ، تاريخ الخلفاء : 67 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 408 _

وبعد :
  فما هو متن الحديث ؟ وما هو مدلوله ؟
   قد عرفت سقوط هذا الحديث معنىً على فرض صدوره ... وعلى الفرض المذكور ... فلا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا وقوع التحريف في لفظه ، وإمّا صدوره في قضيّة خاصّة ... أمّا الأوّل فيشهد به : أنّه قد روي هذا الخبر بالنصب ، أي جاء بلفظ ( أبابكر وعمر ) بدلاً عن ( أبي بكر وعمر ) وجعل أبوبكر وعمر مناديين مأمورين بالاقتداء ... (1) .
   فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمر المسلمين عامةً بقوله ( اقتدوا ) ـ مع تخصيصٍ لأبي بكر وعمر بالخطاب ـ ( باللذين من بعده ) وهما ( الكتاب والعترة ) ، وهما ثقلاه اللذان طالما أمر بالاقتداء والتمسّك والاعتصام بهما (2) .
   وأمّا الثاني ... فهو ما قيل : من أن سبب هذا الخبر : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان سالكاً بعض الطرق ، وكان أبوبكر وعمر متأخّرين عنه ، جائيين على عقبه ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله لبعض من سأله عن الطريق الذي سلكه في اتّباعه واللحوق به : ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) وعني في سلوك الطريق دون غيره (3) .
   وعلى هذا فليس الحديث على إطلاقه ، بل كانت تحفّه قرائن تخصّه بمورده ، فأسقط الرّاوي القرائن عن عمدٍ أو سهو ، فبدا بظاهره أمراً مطلقاً بالاقتداء بالرجلين ... وكم لهذه القضية من نظير في الأخبار والأحاديث الفقهية والتفسيريّة

---------------------------
(1) تلخيص الشافي 3 | 35 .
(2) راجع حديث الثقلين بألفاظه وطرقه ودلالاته في الأجزاء الثلاثة الأولى من ( خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار ) بقلم علي الحسيني الميلاني .
(3) تلخيص الشافي 3 | 38 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 409 _

والتاريخيّة ... ومن ذلك ... ما في ذيل ( حديث الاقتداء ) نفسه في بعض طرقه ... وهذا ما نتكلّم عليه بإيجاز ... ليظهر لك أنّ هذا الحديث ـ لو كان صادراً ـ ليس حديثاً واحداً ، بل أحاديث متعدّدة صدر كلّ منها في موردٍ خاصّ لا علاقة له بغيره ...
تكملة :
لقد جاء في بعض طرق هذا الحديث :
   ( اقتدوا باللذين ... واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسكوا بعهد ابن أمّ عبد : أو : إذا حدّثكم ابن أمّ عبدٍ فصدّقوه ، أو : ما حدّثكم ابن مسعود فصدّقوه ) .
   فالحديث مشتمل على ثلاث فقرات ، الاولى تخصّ الشيخين ، والثانية عمّار ابن ياسر ، والثالثة عبدالله بن مسعود .
   أمّا الفقرة الاولى فكانت موضوع بحثنا ، فلذا أشبعنا فيها الكلام سنداً ودلالة ... وظهر عدم جواز الاستدلال بها والأخذ بظاهر لفظها ، وأنّ من المحتمل قويّاً وقوع التحريف في لفظها أو لدى النقل لها بإسقاط القرائن الحافّة بها الموجب لخروج الكلام من التقييد إلى الإطلاق ، فإنّه نوع من أنواع التحريف ، بل من أقبحها وأشنعها كما هو معلوم لدى أهل العلم .
   وأمّا الفقرتان الاخريان فلا نتعرّض لهما إلاّ من ناحية المدلول والمفاد لئلا يطول بنا المقام ... وإن ذكرا في فضائل الرجلين ، وربّما استدلّ بهما بعضهم في مقابلة بعض فضائل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ... فنقول :
   قوله : ( اهتدوا بهدي عمار ) معناه : ( سيروا بسيرته واسترشدوا بإرشاده ) .
   فكيف كانت سيرة عمار ؟ وما كان إرشاده ؟
   وهل سار القوم بسيرته واسترشدوا بإرشاده ؟!!

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 410 _

   وراجع : وفيات الأعيان 2 | 459 ، تاريخ بغداد 12 | 34 ، النجوم الزاهرة    هذه كتب السير والتواريخ بين يديك !!
وهذه نقاط من ( سيرته ) و ( إرشاده ) :
   تخلّف عن بيعة أبي بكر (1) وقال لعبد الرحمن بن عوف ـ حينما قال للناس في قصة الشورى : أشيروا عليّ ـ ( إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّاً ) (2) .
   وقال : بعد أن بويع عثمان ـ : ( يا معشر قريش ، أمّا إذ صدفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم هاهنا مرّةً هاهنا مرّةً ، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله ) (3) وكان مع علي عليه السلام منذ اليوم الأول حتى استشهد معه بصفّين وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( عمار تقتله الفئة الباغية ) (4) و( من عادى عمّاراً عاداه الله ) (5) .
   ثم لماذا أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله بالاهتداء بهدي عمّار والسير على سيرته ؟ لأنّه قال له من قبل : ( يا عمّار ، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس كلّهم وادياً غيره فاسلك مع علي ، فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى ... يا عمار : إنّ طاعة علي من طاعتي ، وطاعتي من طاعة الله عزّ وجلّ (6) .
   وقوله : ( وتمسّكوا بعهد ابن أمّ عبد ) أو ( إذا حدّثكم ابن أمّ عبد فصدّقوه ) ما معناه ؟
   إن كان ( الحديث ) فهل يصدّق في كلّ ما حدّث ؟
   هذا لا يقول به أحد ... وقد وجدناهم على خلافه ... فقد منعوه من

---------------------------
(1) المختصر في أخبار البشر 1 | 156 ، تتمّة المختصر 1 | 187 .
(2) تاريخ الطبري 3 | 297 ، الكامل 3 | 37 ، العقد الفريد 2 | 182 .
(3) مروج الذهب 2 | 342 .
(4) المسند 2 | 164 ، تاريخ الطبري 4 | 2 و 4 | 28 ، طبقات ابن سعد 3 | 253 ، الخصائص : 133 ، المستدرك 3 | 378 ، عمدة القاري 24 | 1992 ، كنز العمّال 16 | 143 .
(5) الاستيعاب 3 | 1138 ، الإصابة 2 | 506 ، كنز العمال 13 | 298 ، إنسان العيون 2 | 265 .
(6) تاريخ بغداد 13 | 186 ، كنز العمّال 12 | 212 ، فرائد السمطين 1 | 178 ، المناقب ـ للخوارزمي ـ : 57 و 124 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 411 _

الحديث ، بل كذّبوه ، بل ضربوه ... فراجع ما رووه ونقلوه ... (1) .
   وإن كان ( العهد ) فأيّ عهدٍ هذا ؟
   لابدّ أن يكون إشارةً إلى أمر خاصّ ... صدر في موردٍ خاصّ ... لم تنقله الرواة ... لقد رووا في حقّ ابن مسعود حديثاً آخر ـ جعلوه من فضائله ـ بلفظ : ( رضيت لكم ما رضي به ابن امّ عبد ) (2) ... ولكن ما هو ؟
   لابدّ أن يكون صادراً في موردٍ خاصّ ... بالنسبة إلى أمرٍ خاصّ ... لم ننقله الرواة ... إنّه ـ فيما رواه الحاكم ـ كما يلي :
   ( قال النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم لعبد الله بن مسعود : إقرأ .
   قال : اقرأ وعليك انزل ؟!
   قال : إنّي أحبّ أن أسمع من غيري .
   قال : فافتتح سورة النساء حتى بلغ : ( فكيف إذا جئنا من كلّ امّةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) فاستعبر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، وكفّ عبدالله .
   فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : تكلّم .
   فحمد الله في أول كلامه وأثنى على الله وصلّى على النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وشهد شهادة الحقّ ، وقال :
   رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً ، ورضيت لكم ما رضي الله ورسوله .
   فقال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : رضيت لكم ما رضي لكم ابن أمّ عبد .

---------------------------
(1) مسند الدارمي 1 | 61 ، طبقات ابن سعد 2 | 336 ، تذكرة الحفّاظ 1 | 5 ـ 8 ، المعارف : 194 ، الرياض النضرة 2 | 163 ، تاريخ الخلفاء 158 ، اسد الغابة 3 | 259 .
(2) هكذا رووه في كتب الحديث ... انظر : فيض القدير 4 | 33 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 412 _

هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) (1) .
  فانظر كيف تلاعبوا بأقوال النبي صلّى الله عليه وآله وتصرّوا في السنّة الشريفة ... فضلّوا وأضلّوا ... !!
   ونعود فنقول : إنّ السنّة الكريمة بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تحقيق وتمحيص ، لا سيّما في القضايا التي لها صلة وثيقة بأساس الدين الحنيف ، تبنى عليها أصول العقائد ، وتتفرّع منها الأحكام الشرعيّة .
   والله نسأل أن يوفقنا لتحقيق الحقّ وقبول ما هو به جدير ، إنّه سميع مجيب وهو على كلّ شيء قدير .

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3 | 319 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 415 _

بسم الله الرحمن الرحيم
  الحمدلله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين .
   وبعد ... فإنّ البحث عن المتعتين قديم جدّاً ، وكتابات السلف والخلف عنهما من النواحي المختلفة كثيرة جدّاً أيضاً ، وهذه رسالة وجيزة كتبتها بمناسبة أحاديث رووها في أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي حرّم متعة النساء ، وعمدتها ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ... منها أنّه قال لابن عبّاس ـ وقد بلغه أنّه يقول خيبر ، وهي .
  أحاديث موضوعة مختلفة ، يعترف بذلك كلّ من ينظر في أسانيدها ومداليلها وينصف ، والله هو الموفّق .
تمهيد :
   لا خلاف بين المسلمين في نزول القرآن المبين بالمتعتين ... أمّا متعة الحجّ ، فقد قال عزّ وجلّ :
   ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي )

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 416 _

المسجد الحرام ) (1) .
   وأمّا متعة النساء ، فقد قال عزّ وجلّ : ( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ آجورهنّ فريضة ) (2) .
   وكان على ذلك عمل المسلمين ... حتّى قال عمر بعد شطرٍ من خلافته :
   ( متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ) .
  فوقع الخلاف ... وحار التابعون له ، الجاعلون قوله أصلاً من الأصول ، كيف يوجّهونه وهو صريح : قال الله ... وأقول ... ؟!


   ومتعة الحجّ : أن ينشئ الإنسان بالمتعة إحرامه في أشهر الحجّ من الميقات ، فيأتي مكّة ، ويطوف بالبيت ، ثمّ يسعى ، ثمّ يقصرّ ، ويحلّ من إحرامه ، حتّى ينشئ في نفس تلك السفرة إحراماً آخر للحجّ من مكّة ، والأفضل من المسجد الحرام ، ويخرج إلى عرفات ، ثمّ المشعر ... إلى آخر أعمال الحج ... فيكون متمتّعاً بالعمرة إلى الحجّ .
   وإنّما سمّي بهذا الاسم لما فيه من المتعة ، أي اللذّة بإجابة محظورات الإحرام ، في تلك المدّة المتخلّلة بين الإحرامين ... وهذا ما حرّمه عمر وتبعه عليه عثمان ومعاوية وغيرهما ...
موقف علي وكبار الصحابة من تحريمها :
   وكان في المقابل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الحافظ للشريعة المطهّرة

---------------------------
(1) سورة البقرة 2 : 196 .
(2) سورة النساء 4 : 24 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 417 _

والذابّ عن السنّة المكرّمة .
   أخرج أحمد ومسلم عن شقيق قال ـ واللفظ للأوّل ـ : ( كان عثمان ينهى عن المتعة ، وكان عليّ يأمر بها ، فقال عثمان لعليّ : إنّك كذا وكذا ، ثمّ قال (1) علي : لقد علمت أنّا تمتّعنا مع رسول الله عليه ( وآله ) وسلّم ؟ فقال : أجل ) (2) .
   وعن سعيد بن المسيّب ، قال : ( اجتمع علي وعثمان بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة والعمرة ، فقال له علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم تنهى عنه ؟! فقال عثمان : دعنا عنك ! فقال علي : إنّي لا أستطيع أن أدعك ) (3) .
   وعن مروان بن الحكم ، قال : ( شهدت عثمان وعليّاً ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما .
فلمّا رأى علي ذلك أهلّ بهما : لبيّك بعمرةٍ وحجّةٍ معاً ، قال : ما كنت لأدع سنّة النبّي لقول أحد ) (4) .
   وعلى ذلك كان أعلام الصحابة ... * كابن عبّاس ... فقد أخرج أحمد أنّه قال : ( تمتّع النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، فقال عروة بن الزبير : نهى أبوبكر وعمر بن المتعة ، فقال ابن عبّاس : ما يقول عريّة (5) !! قال : يقول : نهى أبوبكر وعمر بن المتعة .
   فقال : ابن عبّاس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي ؛ ويقولون : نهى أبوبكر وعمر ! ) (6) .

---------------------------
(1) لقد أبهم الرواة ما قاله خليفتهم عثمان لعليّ عليه السلام ، كما أبهموا جواب الإمام عليه السلام على كلمات عثمان ... وفي بعض المصادر : ( فقال عثمان لعلّي كلمة ) .
(2) مسند أحمد 1 | 97 .
(3) مسند أحمد 1 | 136 .
ورواه البخاري ومسلم في باب التمتّع .
(4) مسند أحمد 1 | 95 .
ورواه البخاري أيضاً وجماعة .
(5) تصغير ( عروة ) تحقيراً له .
(6) مسند أحمد 1 | 337 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 418 _

  وسعد بن أبي وقّاص ... فقد أخرج الترمذي : ( عن محمد بن عبدالله ابن الحارث بن نوفل أنّه سمع سعد بن أبي وقاص الضحّاك بن قيس ـ وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ـ فقال الضحّاك بن قيس : لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله تعالى .
فقال سعد : بئسما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وصنعناها معه ، هذا حديث صحيح ) (1) .
  وأبي موسى الأشعري ... فقد أخرج أحمد : ( أنّه كان يفتى بالمتعة فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ! حتى لقيه أبو موسى بعد فسأله عن ذلك ، فقال عمر ، قد علمت أنّ النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم قد فعله هو وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا بهنّ معرّسين في الأراك ، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم ) (2) .
  وجابر بن عبدالله ... فقد أخرج مسلم وغيره عن أبي نضرة ، قال : ( كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال فذكرت ذلك لجابر ابن عبدالله ، فقال : علي يدي دار الحديث ، تمتّعنا مع رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم فلمّا قال عمر (3) قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء وإن القرآن قد نزل منازله ، فافصلوا حجّكم من عمرتكم ، وأبتوا (4) نكاح هذه النساء فلن أوتى برجلٍ نكح امرأةً إلى أجلٍ إلاّ رجمته بالحجارة ) (5) .

---------------------------
(1) صحيح الترمذي 4 | 38 .
(2) مسند أحمد 1 | 50 .
(3) أي بأمر الخلافة .
(4) أي : اقطعوا ، اتركوا .
(5) صحيح مسلم ، باب جواز التمتع .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 419 _

  وعبدالله بن عمر ... فقد أخرج الترمذي : ( أنّ عبدالله بن عمر سئل عن متعة الحجّ ، فقال : هي حلال .
فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها ، فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أمر أبي نتّبع أم أمر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ؟‍ فقال الرجل : بل أمر رسول الله ، قال : فقد صنعها رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ) (1) .
  وعمران بن حصين (2) ـ وكان شديد الإنكار لذلك حتّى في مرض موته ـ فقد أخرج مسلم : ( عن مطرف قال : بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفّي فيه فقال : إنّي محدّثك بأحاديث ، لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي ، فإن عشت فاكتم علي (3) وإن متّ فحدّث بها إن شئت ، إنّه قد سلّم عليّ ، واعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم قد جمع بين حجّ وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب الله ، ولم ينه عنها نبيّ الله ، فقال رجل برأيه فيها ما شاء ) (4) .
   قال النووي بشرح أخبار إنكاره : ( وهذه الروايات كلّها متّفقة على أنّ مراد عمران أنّ التمتّع بالعمرة إلى الحجّ جائز ، وكذلك القران ، وفيه التصريح بإنكاره على عمر بن الخطّاب منع التمتّع ) .


   وذكر شيخ إسلامهم ابن تيميّة في الدفاع عن عمر وجوهاً ، كقوله : ( إنّما

---------------------------
(1) صحيح الترمذي 4 | 38 .
(2) ذكر كلّ من ابن عبدالبرّ في الاستيعاب وابن حجر في الإصابة أنّه كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم ، بل نصّ ابن القيّم في زاد المعاد على كونه أعظم من عثمان ، وذكروا أنّه كان يرى الملائكة وتسلّم عليه وهو ما أشار إليه في الحديث يقوله : ( قد سلّم عليّ ) توفّي سنة 52 بالبصرة .
(3) لاحظ إلى أين بلغت التقيّة !!
(4) صحيح مسلم باب جواز التمتّع ، وفي الباب من صحيح البخاري وسنن ابن ماجة ، وهو عند = .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 420 _

  كان مراد عمر أن يأمر بما هو أفضل ) واستشهد له بما رواه عن ابنه من أنّه ( كان عبدالله بن عمر يأمر بالمتعة ، فيقولون له : إنّ أباك نهى عنها ، فيقول : إنّ أبي لم يرد ما تقولون ) وحاصل كلامه ما صرّح به في آخره حيث قال : ( فكان نهيه عن المتعة على وجه الاختيار ، لا على وجه التحريم ، وهو لم يقل : ( أنا أحرّمهما ) .
   قلت : أمّا أنّ مراده كان الأمر بما هو أفضل ، فتأويل باطل ، وأمّا ما حكاه عن ابن عمر فتحريف لما ثبت عنه في الكتب المعتبرة ، وقال ابن كثير : ( كان ابنه عبدالله يخالفه فيقال له : إنّ أباك كان ينهى عنها ! فيقول : خشيت أن يقع عليكم حجارة من السماء ! قد فعل رسول الله ، أفسنّة رسول الله نتّبع أم سنّة عمر بن الخطّاب؟! ) (1) .
   والعمدة إنكاره قول عمر : ( وأنا احرمّهما ) ، وسنذكر جمعاً ممّن رواه !
هذا ، وكأنّ ابن تيميّة يعلم بأن فائدة فيما تكلّفه في توجيه تحريم عمر والدفاع عنه ، فاضطرّ إلى أن يقول :
   ( أهل السنّة متّفقون على أنّ كلّ واحدٍ من الناس يؤخذ بقوله ويترك إلاّ رسول الله ، وإنّ عمر أخطأ ، فهم لا ينزّهون عن الإقرار على الخطأ إلاّ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ) (2) .
   لكنّه ليس ( خطأ ) من عمر ، بل هو ( إحداث ) كما جاء في الحديث المتقدّم عن أبي موسى الأشعري ... وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
   ( أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثم ليختلجنّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي ! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ! ) (3) .

---------------------------
   = أحمد في المسند 4 | 434 .
(1) تاريخ ابن كثير 5 | 141 .
(2) منهاج السنّة 2 | 154 .
(3) أخرجه البخاري وغيره في باب الحوض .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 421 _

   ولقائل أن يقول : إنّ الغرض الأصلي من التحريم هو إحياء سنّة الجاهليّة ، فإنّهم ( كانوا يرون العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض ) (1) .
   قال البيهقي : ( ما أعمر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم عائشة في ذي الحجّة إلاّ ليقطع بذلك أمر الشرك ) (2) .
   ولذا صحّ عنه صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أنّ معي لأحللت ، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله هي لنا أو للأبد ؟ فقال : لا ، بل للأبد ) ، أخرجه أرباب الصحاح كافّة ، وعقد له البخاري في صحيحة باباً .


   وهي أن تزوجّ المرأة الحرّة الكاملة نفسها من الرجل المسلم بمهرٍ مسمّىّ إلى أجلٍ مسمّىً ، فيقبل الرجل ذلك ، فهذا نكاح المتعة ، أو الزواج الموقّت ، ويعتبر فيه جميع ما يعتبر في النكاح الدائم ، من كون العقد جامعاً لجميع شرائط الصحّة ، وعدم وجود المانع من نسبٍ أو سببٍ وغيرهما ، ويجوز فيه الوكالة كما تجوز في الدائم ، ويلحق الولد بالأب كما يلحق به فيه ، وتترتّب عليه سائر الاثار المترتّبة على النكاح الدائم ، من الحرمة والمحرمية والعدّة ... إلاّ أنّ الافتراق بينهما يكون لا بالطلاق بل بانقضاء المدّة أو هبتها من قبل الزوج ، وأنّ العدّة ـ إن لم تكن في سنّ اليأس الشرعي ـ قرءان إن كانت تحيض ، وإلاّ خمسة وأربعون يوماً ، وأنّه لا توارث بينهما ، ولا نفقة لها عليه وهذه أحكام دلّت عليها الأدلّة الخاصّة ، ولا تقتضي أن يكون متعة النساء شيئاً في مقابل النكاح مثل ملك اليمين .

---------------------------
(1) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما في أبواب التمتّع والعمرة .
(2) سنن البيهقي 4 | 345 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 422 _

ثبوتها بالكتاب والسنّة والإجماع :
وقد دلّ على مشروعيّة هذا النكاح وثبوته في الإسلام :
   1 ـ الكتاب ، في قوله عزّ وجلّ : ( فما استمتعتم به منهنّ ... ) (1) وقد روي عن جماعة من كبار الصحابة والتابعين ، المرجوع إليهم في قراءة القرآن واحكامه التصريح بنزول هذه الآية المباركة في المتعة ، حتّى أنّهم كانوا يقرأونها : ( فما استمتعتم به منهنّ إلى أجلّ ... )، وكانوا قد كتبوها كذلك في مصاحفهم ، فهي ـ حينئذٍ ـ نصّ في المتعة ، ومن هؤلاء :
   عبدالله بن عبّاس ، واُبي بن كعب ، وعبدالله بن مسعود ، وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والسدّي ، وقتادة (2) .
   بل ذكروا عن ابن عبّاس قوله : ( والله لأنزلها الله كذلك ـ ثلاث مرّات ) .
   وعنه وعن أبي التصريح بكونها غير منسوخة .
   بل نصّ القرطبي على أنّ دلالتها على نكاح المتعة هو قول الجمهور ، وهذه عبارته : ( وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الاسلام ) (3) .
   2 ـ السنّة : وفي السنّة أحاديث كثيرة دالّة على ذلك ، نكتفي منها بواحدٍ ممّا أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم عن عبدالله بن مسعود قال :
   ( كنّا نغزو مع رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى اجل ، ثمّ قرأ عبدالله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ

---------------------------
(1) سورة النساء : 24 .
(2) راجع التفاسير : الطبري والقرطبي وابن كثير والكشّاف والدرّ المنثور ، كلّها بتفسير الآية ، وراجع أيضاً : أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 2 | 147 ، سنن البيهقي 7 | 205 ، شرح مسلم ـ النووي ـ 6 | 127 ، المغني لابن قدامة 7 | 571 .
(3) تفسير القرطبي 5 | 130 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 423 _

إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (1) .
   ولا يخفى ما يقصده ابن مسعود من قراءة الآية المذكورة بعد نقل الحديث ، فإنّه كان ممّن أنكر على حرّم المتعة .
   3 ـ الإجماع : فإنّه لا خلاف بين المسلمين في أنّ ( المتعة ) نكاح ، نصّ على ذلك القرطبي ، وذكر طائفةً من أحكامها ، حيث قال :
   ( لم يختلف العلماء من السلف والخلف أنّ المتعة نكاح إلى أجل ، لا ميراث فيه ، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق ) ثمّ نقل عن ابن عطيّة كيفيّة هذا النكاح وأحكامه (2) .
   وكذا الطبري ، فنقل عن السدّي ، ( هذه هي المتعة ، الرجل ينكح المرأة بشرطٍ إلى أجل مسمّى ) (3) .
   وعن ابن عبدالبّر في ( التمهيد ) : ( أجمعوا على أنّ التعة نكاح ، لا إشهاد فيه ، وأنّه نكاح إلى أجلٍ يقع فيه الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما ) .


   وكانت متعة النساء ـ كمتعة الحجّ ـ حتّى وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وزمن أبي بكر ، وفي شطرٍ من خلافة عمر بن الخطّاب ، حتّى قال :
   ( متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ) وقد وردت قولته هذه في كتب الفقه والحديث والتفسير والكلام أنظر منها : تفسير الرازي 2 | 167 ، شرح معاني الاثار 374 ، سنن البيهقي 7 | 207 ، بداية المجتهد 1 | 346 المحلّى 7 | 107 ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 1 | 279 ، شرح التجريد

---------------------------
(1) صحيح البخاري | في كتاب النكاح وفي تفسير سورة المائدة ، صحيح مسلم كتاب النكاح ، مسند أحمد 1 | 420 .
(2) تفسير القرطبي 5 | 132 .
(3) تفسير الطبري بتفسير الآية .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 424 _

للقوشجي الأشعري ، تفسير القرطبي 2 | 370 ، المغني 7 | 527 ، زاد المعاد في هدي خير العباد 2 | 205 ، الدرّ المنثور 2 | 141 ، كنز العمّال 8 | 293 ، وفيات الأعيان 5 | 197 .
   ومنهم من نصّ على صحّته كالسرخسي ، ومنهم من نصّ على ثبوته كابن قيّم الجوزية ، وفي المحاضرات للراغب الأصبهاني : ( قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة : بمن اقتديت في جواز المتعة ؟ قال : بعمر بن الخطّاب ، فقال : كيف هذا وعمر كان أشدّ الناس فيها ؟ ! قال : لأنّ الخبر الصحيح قد أتى أنّه صعد المنبر فقال : إنّ الله ورسوله أحلاّ لكم متعتين وإنّي أحرمهما عليكم وأعاقب عليهما ؛ فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه ) .
   وفي بعض الروايات : أنّ النهي كان عن المتعتين وحيّ على خير العمل (1) .
   وعن عطاء ، عن جابر بن عبدالله : ( استمتعنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وأبي بكر وعمر ، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حديث بامرأة ـ سمّاها جابر فنسيتها ـ فحملت المرأة ، فبلغ ذلك عمر ، فدعاها فسألها فقالت : نعم ، قال من أشهد ؟ قال عطاء : لا أدري قال : أمّي أم وليّها ، قال فهلاً غيرها ؟! فذلك حين نهى عنها ) (2) .
   ومثله أخبار أخرى ، وفي بعضها التهديد بالرجم (3) .
   فالذي نهى عن المتعة هو عمر بن الخطّاب ...
   وفي خبرٍ : أنّ رجلاً قدم بن الشام ، فمكث مع امرأةٍ إلى ما شاء الله أن

---------------------------
(1) كذا في شرح التجريد للقوشجي ، بحث خلافة عمر .
(2) صحيح مسلم باب نكاح المتعة 6 | 127 بشرح النووي هامش القسطلاني ، مسند أحمد 3 | 304 ، سنن البيهقي 7 | 237 ، والقصّة هذه في المصنّف لعبد الرزّاق 7 | 469 .
(3) بل عنه أنّه قال : ( لا أؤتى برجلٍ تزوّج امرأةً إلى أجلٍ إلاّ رجمته ولو أدركته ميّتاً لرجمت قبره! ) المبسوط ـ للسرخسي ـ 5 | 153 .

الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية _ 425 _

يمكث ، ثمّ إنّه خرج ، فأخبر بذلك عمر بن الخطّاب ، فأرسل إليه فقال : ما حملك على الذي فعلته ؟ قال : فعلته مع رسول الله ، ثمّ لم ينهانا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهانا حتى قبضه الله ، ثمّ معك ، فلم تحدث لنا فيه نهياً ، فقال عمر : أم والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهيٍ لرجمتك ) (1) .
   ومن هنا ترى أنّه في جميع الأخبار ينسبون النهي إلى عمر ، يقولون : ( فلمّا كان عمر نهانا عنهما ) و( نهى عنها عمر ) و ( قال رجل برأيه ما شاء ) ونحو ذلك ، ولو كان ثمّة نهي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان لنسبة النهي وما ترتّب عليه من الآثار الفاسدة إلى عمر وجه كما هو واضح ، وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : ( لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي ) (2) وعن ابن عبّاس : ( ما كانت المتعة إلاّ رحتً من الله تعالى رحم بها عباده ، ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلاّ شقي ) (3) .
   ومن هنا جعل تحريم المتعة من أوّليّات عمر بن الخطّاب (4) .
   بل إنّ عمر نفسه يقول : ( كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أنهى عنهما ) فلا يخبر عن نهي لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل ينسب النهي إلى نفسه ويتوعّد بالعقاب ، بل إنّه لم يكذّب الرجل الشامي لمّا أجابه بما سمعت ، بل لمّا قال له : ( ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهياً ) اعترف بعدم النهي مطلقاً حتى تلك الساعة ولا يخفى ما تدلّ عليه كلمة ( تحدثّ ) .

---------------------------
(1) كنز العمّال 8 | 294 .
(2) المصنّف ـ لعبد الرزّاق بن همام ـ 7 | 500 ، تفسير الطبري 5 | 17 ، الدرّ المنثور 2 | 40 ، تفسير الرازي 3 | 200 .
(3) تفسير القرطبي 5 | 130 ، ومنهم من رواه بلفظ ( شفا ) أي قليل ، أنظر : النهاية وتاج العروس وغيرهما من كتب اللغة .
(4) تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ .