ازيل ذلك منها بظهور دولة الهدى أنبتت نباتاً حسناً ، فلذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء ، وصار أفضل الخلق بعدهم من اتّبعهم بإحسان إلى يوم الصراط والميزان .
فإن قلت : حيث أمر باتّباعهما فكيف تخلّف علي رضي الله عنه عن البيعة ؟
قلت : كان لعذر ثم بايع .
وقد ثبت عنه الانقياد لأوامرهما ونواهيهما وإقامة الجمع والأعياد معهما والثناء عليهما حيّين وميّتين .
فإن قلت : هذا الحديث يعارض ما عليه أهل الاصول من أنّه لم ينصّ على خلافة أحد .
قلت : مرادهم لم ينصّ نصّاً صريحاً .
وهذا كما يحتمل الخلافة يحتمل الاقتداء بهم في الرأي والمشورة والصلاة وغير ذلك .
( حم ت ) في المناقب وحسّنه ( ه ) من حديث عبدالملك بن عمير عن ربعي ( عن حذيفة ) بن اليمان .
قال ابن حجر : اختلف فيه على عبدالملك ، وأعلّه أبو حاتم ، وقال البزّار كابن حزم : لا يصحّ ، لأنّ عبدالملك لم يسمعه من ربعي ، وربعي لم يسمعه من حذيفة ، لكن له شاهد ، وقد أحسن المصنّف حيث عقّبه بذكر شاهده فقال :
( اقتدوا باللذين ) بفتح الذال ( من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمّار ) بن ياسر ، أي سيروا واسترشدوا بإرشاده فإنّه ما عرض عليه أمران إلاّ اختار أرشدهما ، كما يأتي في حديث ( وتمسّكوا بعهد ابن مسعود ) عبدالله ، أي ما يوصيكم به .
قال التوربشتي : أشبه الأشياء بما يراد من عهده أمر الخلافة ، فإنّه أوّل من شهد بصحّتها وأشار إلى استقامتها قائلاً : ألا نرضى لدنيانا من رضيه لديننا بيننا ، كما يومئ إليه المناسبة بين مطلع الخبر وتمامه .
( ت ) وحسّنه ( عن ابن مسعود ، الروياني عن حذيفة ) قال : بينا نحن عند رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم إذ قال : لا أدري ما قدر بقائي فيكم ، ثم
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 396 _
ذكره ،( عد من أنس ) ، ورواه الحاكم عن ابن مسعود باللفظ المذكور قال الذهبي : وسنده واهٍ )
(1) .
ترجمته :
والمناويّ علاّمة محقّق كبير ، وكتابه ( فيض القدير ) من الكتب المفيدة وقد ترجم له وأثنى عليه العلاّمة المحبّي ووصفه بـ ( الإمام الكبير الحجّة ) وهذه عبارته :
( عبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين ، الملقّب بزين الدين ، الحدادي ثم المناوي ، القاهري ، الشافعي .
الإمام الكبير الحجّة ، الثبت القدوة ، صاحب التصانيف السائرة ، وأجلّ أهل عصره من غير ارتياب .
وكان إماماً فاضلاً ، زاهداً ، عابداً ، قانتاً لله خاشعاً له ، كثير النفع ، وكان متقرباً بحسن العمل ، مثابراً على التسبيح والأذكار ، صابراً صادقاً ، وكان يقتصر يومه وليلته على أكلةٍ واحدةٍ من الطعام .
وقد جمع من العلوم والمعارف ـ على اختلاف أنواعها وتباين أقسامها ـ ما لم يجتمع في أحدٍ ممّن عاصره ... )
(2) .
15 ـ ابن درويش الحوت :
وقال العلاّمة ابن درويش الحوت ـ المتوفّى سنة 1097 هـ ـ : ( خبر ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) .
رواه أحمد والترمذي وحسنّه ، وأعلّه أبو حاتم ، وقال البزّار كابن حزم : لا
---------------------------
(1) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 2 | 56 .
(2) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 2 | 412 ـ 416 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 397 _
يصحّ ، وفي رواية للترمذي وحسّنها : واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسّكوا بعهد ابن مسعود ، وقال الهيثمي : سندها واهٍ ) (1) .
---------------------------
(1) اسنى المطالب : 48 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 398 _
3 ـ تأمّلات في متن ودلالة حديث الاقتداء
قد أشرنا في المقدّمة إلى استدلال القوم بحديث الاقتداء في باب الخلافة والإمامة وفي الفقه والاصول في مسائل مهمّة ... فقد استدلّ به القاضي البيضاوي في كتابه الشهير ( طوالع الأنوار في علم الكلام ) وابن حجر المكّي في ( الصواعق المحرقة ) وابن تيميّة في ( منهاج السنّة ) وولي الله الدهلوي ـ صاحب : حجّة الله البالغة ـ في كتابه ( قرّة العينين في تفضيل الشيخين ) ... ومن الطريف جدّاً أنّ هذا الأخير ينسب رواية الحديث إلى البخاري ومسلم ... وهذه عبارته :
( قوله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .
فعن حذيفة : قال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : أقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، متّفق عليه .
وعن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسّكوا بعهد ابن مسعود ، أخرجه الترمذي ) (1) .
إذ لا يخفى أنّ النسبة كاذبة ... إلاّ أن يكون ( متّفق عليه ) اصطلاحاً خاصاً بالدهلوي ، يعني به اتّفاقهما على عدم الإخراج !! واستدلّ به الشيخ علي القاري ... ووقع فيما وقع فيه الدهلوي ...
---------------------------
(1) قرة العينين : 189 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 399 _
فقد جاء في ( شرح الفقه الأكبر ) : ( مذهب عثمان وعبدالرحمن بن عوف : أنّ المجتهد يجوز له أن يقلّد غيره إذا كان أعلم منه بطريق الدين ، وأن يترك اجتهاد نفسه ويتّبع اجتهاد غيره ، وهو المروي عن أبي حنيفة ، لا سيّما وقد ورد في بعموم هذا الحديث وظاهره ) .
ولعلّة يريد غير صحيحي البخاري ومسلم !! وإلاّ فقد نصّ الحاكم ـ كما عرفت ـ على أنّهما لم يخرجاه !! وهكذا فإنّك تجد حديث الاقتداء ... يذكر أو يستدلّ به في كتب الاصول المعتمدة ... فقد جاء في المختصر :
( مسألة : الإجماع لا ينعقد بأهل البيت وحدهم خلافاً للشيعة ، ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافاً لأحمد ، ولا يأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ عند الأكثرين ، قالوا : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، اقتدوا باللذين من بعدي ، قلنا : يدلّ على أهلية اتّباع المقلّد ، ومعارض بمثل : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، وخذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء ) .
قال شارحه العضد : ( أقول : لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم مع مخالفة غيرهم لهم ، أو عدم الموافقة والمخالفة ، خلافاً للشيعة ، ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافاً لأحمد ، ولا بأبي بكر وعمر عند الأكثرين خلافاً لبعضهم .
لنا : أنّ الأدّلة لا تتناولهم ، وقد تكرّر فلم يكرّر ، أمّا الشيعة فبنوا على أصلهم في العصمة ، وقد قرّر في الكلام فلم يتعرّض له ، وأمّا الآخرون فقالوا : قال عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، وقال : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .
الجواب : أنّهما إنّما يدلاّن على أهلية الأربعة أو الاثنين لتقليد المقلّد لهم ، لا على حجّية قولهم على المجتهد ، ثم إنّه معارض بقوله : أصحابي كالنجوم ... ) (1) .
---------------------------
(1) شرح المختصر في الاصول 2 | 36 .
الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية
_ 400 _
وفي المنهاج وشرحه : ( وذهب بعضهم إلى أنّ إجماع الشيخين وحدهما حجّة لقوله عليه السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والترمذي وقال : حسن ، وذكره ابن حبان في صحيحه .
وأجاب الإمام وغيره عن الخبرين بالمعارضة بقوله : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، وهو حديث ضعيف ، وأجاب الشيخ أبو إسحاق في ( شرح اللمع ) بأنّ ابن عبّاس خالف جميع الصحابة في خمس مسائل انفرد بها ، وابن مسعود انفرد بأربع مسائل ، ولم يحتجّ عليهما أحد بإجماع ... ) (1) .
وفي مسلّم الثبوت وشرحه : ( ولا ينعقد الإجماع بالشيخين أميري المؤمنين أبي بكر وعمر عند الأكثر ، خلافاً للبعض ، ولا ينعقد بالخلفاء الأربعة خلافاً لأحمد الإمام ولبعض الحنفية ... قالوا : كون اتّفاق الشيخين إجماعاً ، قالوا : قال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .
رواه أحمد ، فمخالفتهما حرام ... قلنا : هذا خطاب باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، رواه أحمد ، فمخالفتهما حرام ... قلنا : هذا خطاب للمقلّدين ، فلا يكون حجّة على المجتهدين ، وبيان لأهليّة الأتّباع ، لا حصر الاتّباع فيهم ، وعلى هذا فالأمر للإباحة أو للندب ، وأحد هذين التأويلين ضروري ، لأنّ المجتهدين كانوا يخالفونهم ، والمقلّدون كانوا قد يقلّدون غيرهم ولم ينكر عليهم أحد ، لا الخلفاء أنفسهم ولا غيرهم ، فعدم حجّية قولهم كان معتقدهم ، وبهذا اندفع ما قيل إنّ الإيجاب ينافي هذا التأويل ... ) (2) .
فهذه نماذج من إستدلال القوم بحديث الاقتداء بالشيخين ... في مسائل الفقه والاصولين ... لكنّ الذي يظهر من مجموع هذه الكلمات أنّ الأكثر على عدم حجّية أجماعهما ...
---------------------------
(1) الإبهاج في شرح المنهاج 2 | 367 .
(2) فواتح الرحموت في مسلّم الثبوت 2 | 231 .