الاستاذ ضياء الدين زين الدين


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . مالك يَوْمِ الدِّينِ . والصلاة والسلام على خيرته من خلقه محمد وآله المنتجبين ، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
   ربنا هب لنا من أزواجنا ، وذرياتنا قرة أعين ، واجعلنا للمتقين إماما .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 2 ـ

الإهـــداء
بسم الله وله الحمد
   بنيتي الغالية . . . دمت لأبيك ذكرى وسلوى ، وأملاً متصاعداً نحو الكمال .
  سلام الله عليك ورحمة منه وبركات ، ودعاء إليه ـ جلت قدرته ـ ان يهبك من الصحة والتوفيق والهناء في حياتك الدنيا والآخرة ما يقرّ به عين أبيك ، إنه سميع الدعاء قريب مجيب . . .
  بنيتي الحبيبة . . .
  امتلكته حين كنت صغيرة ، حيث كنت له السعادة وابتسامة الحياة ، وملأت قلبه بالبهجة يوم كنت تملئين بصره بأبتسامتك العذبة ، وسمعه بضحكاتك المتهجدة وكلماتك المتقطعة ، كما تملئين فمه بسائل لعابك الحلو الممزوج بالبسكويت .
  ملأته حينها بعاطفة جياشه ، لم يكن يعلم عنها شيئاً . . . حتى أخبره الزمن أنها بواكير أبوّة بدأت تتحقق بها رجولته . .
  كان يرى الدنيا من خلالك ، ويفهم سعادتها وشقاءها من خلال سعادتك وشقائك ، ويحسّ راحتها وآلامها من خلال راحتك وآلامك ، ويرى افراحها وأتراحها من خلال ضحككِ وبكائك .
  كان يراكِ دنياه التي يعيشها . . أنت وحدك ، لا أحد آخر سواك . .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 3 ـ

  ومضى الزمن معكما ، ليدرك بمرور الأيام فضلك عليه ، حيث أفهمته أنك أنت التي ربيت هذا الجانب المهم من رجولته ، إذ أنضجت البعد الأبوي من كيانه ، كما صقلت عاطفته الخاصة ، واستقللت بتنميتها فيه ، دون أن تكلفيه شيئاً كثيراً من معاناة الآبار في تربية أبنائهم .
  وهكذا واكب أبوك نموك يوماً بعد آخر ، وأنت تصعدين سلّم الحياة ، وتتقدمين في مراحلها ، مرحلة بعد أخرى ، فيهنأ بسعادتك ، ويتألم لآلامك ويزهو بنجاحتك حين تنجحين ، ويحزن لفشلك حين تفشلين ، إذ كنت الجزء المهم من حياته ، وإن رُزق بعدك ببنين وبنات متعددين . .
  وأخيراً فاجأته بإعداد نفسك للدخول إلى بيت الزوجية . .
  نعم فاجأته ، وإن كان يعلم ان عمرك قد ذرّف على العشرين عاماً ، بل وكان أبوك هو أحد خاطبيك إلى زوجك الحبيب .
  أليس هذا عجيباً ؟ . .
  لا . لا . إن هذه هي مشكلة الآباء مع أبنائهم . .! إنهم لا يريدون أن يفهموا أن أبناءهم قد كبروا ، وأن رأوهم أمامهم يتسلمون زمام حياتهم ، ويستقلّون في إدارة أعمالهم ، بل ويرونهم وقد بلغوا من العمر مديداً . .
  لا يريدون أن تبتعد عنهم تلك الضحكات الطفولية الوضاءة ، والكلمات الغير مفهومة ، وحلاوة اللعاب المزوج بالحليب والبسكويت .
  تلك البنت هي أنت أيها الغالية . وهذا الأب هو أنا ، وهذا هو الواقع أو الحالة التي تفرض نفسها على الجميع . .
  إنك ستزفين بعد أيام الى زوجك الحبيب . .
  هذه هي الحقيقة التي يجب علي أن أسلّمها مهما كان حكم الذكريات ، ومهما أردت أن أهرب من الحقيقة ، فالواقع هو الحاكم ، وإن احتجت العاطفة ، وشطت التصورات . .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 4 ـ

  إنك ستزفين بعد أيام إلى زوجك . .
  إذن ، فمن الطبيعي أن تنتظري هديتك من أبيك . .
  ولكن ، ما عسى أن تكون هذه الهدية ؟ . .
  الواقع أنني ـ ومنذ أيام عديدة ـ كنت في حيرة من أمري معك ، فأنا ـ وكما تعلمين من أمري ـ لا أرغب أن تكون المادة شيئاً من الماديات عنواناً لمشاعري تجاه من أحبّ . .
  إذن فما الذي ينبغي أن يكون هو هديتي إليك ؟ .
  وأخيراً رأيت أن تكون هذه الهدية قطعة مني ، أكتبها إليك في وريقات أراها ضرورية لك في حياتك ، وأنت تبدئين خطواتك المباركات إلى بيت زوجك الأثير ، عسى أن أفي لك في بعض حقك ، بل وأفي لأبوتي لكِ ببعض حقوقها عليّ .
  وأقول : قطعة مني ، لأنني وإن كنت استظللت فيها بمنابع الهدى الإلهي ، ومصادر التشريع الإسلامي ، إلا أنني ـ في الوقت نفسه ـ لمست عطاءها وبركتها في تجربتي الشخصية كزوج ، وكرجل دين ، فرضت عليه الضروف الإجتماعية أن يخير الكثير من بيوت المجتمع ، ويطّلع على الكثير من منابع السعادة والشقاء فيها ، ويتخذ ـ من ثم ـ وجهة نظر خاصة حولها .
  فإليك يا بنيتي أهدي هذه البحوث القرآنية والوصايا في طبعتها هذه ، كما أهديتها إليك ـ من قبل ـ في رسالة خاصة ، آملاً من الله ( عز وجل ) أن يسعدك في حياتك الدنيا مع زوجك وعائلتك وبنيتك ، وفي حياتك الأخرى ، كما يسعد أخواتك المؤمنات وهن يستهدين أنوار هدى الله ـ جلت قدرته ـ ويتّبعن واضح بيّناته ، إنه سميع الدعاء قريب مجيب .

  وأسلمي لأبيك .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 5 ـ

مقدمـــة
  الأسرة هي اللبنة الأولى في كيان المجتمع ، وسلامة الأسرة هي الأساس في سلامة المجتمع كله ، كما أن أنهيارها ، ووهن العلاقات الأساسية فيها ، مما يسم المجتمع بطابع سلبي لا يمكن التخلص منه . .
  هذا مما أدركه المصلحون الاجتماعيون في جميع العصور ، حتى أصبح من المسلّمات الواضحة التي لا يناقش فيها أحد .
  ولهذا فقد كانت الأسرة موضع عناية علماء الأخلاق والتربيون وعلماء الاجتماع والنفس ، ورجال القانون والسياسيين ، وغيرهم ممن له ـ ولو ـ أدنى دور في مسيرة البنية الاجتماعية والإنسانية وتوجيهها .
  بل وكانت الأسرة موضع عناية الأديان السماوية منها وغير السماوية ، المستقيمة منها والمنحرفة ، فلكل منها رأيه ، ولكل منها كلمته .
  ومن هنا كثرت الدراسات حول الأسرة ، وتنوعت توجهاتها ، وتكاثرت الكتب والأحاديث والبحوث التي تناولتها ، كما تواترت وصايا المصلحين في توجيه مسيرتها ، ووضح الأسس من أجل سلامتها ، واستقامة العلاقات الاساسية فيها ، على صعيد الحياة الإجتماعية العامة ، فضلاً عن الحياة الخاصة لكل من الزوجين إذ أن كل محبّ لم يألُ جهداً في تنبيه من يحبه إلى مكامن السعاد والشقاء في هذه الحياة ، وإرشاده إلى مواقع الإيجابيات والسلبيات من المواقف . .
  وما أكثر ما حفلت كتب الأدب والتاريخ والاجتماع بمثل تلك الوصايا والتنبيهات .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 6 ـ

  ولهذا فيمكن القول بأن أي كاتب أو متحدث لا يمكنه أن يأتي بأي جديد في هذا الجانب ، ولا سيما أن كثيراً من الدراسات والبحوث والأحاديث قد أمتاز بكثير من الواقعية والدقة ، كما تميّز بعمق كبير في النظرة والإستنتاج .
  إلا أننا ـ ومع سير سريع لتك الدراسات والبحوث المطروحة في الساحة الإنسانية ـ يمكننا نقسمها إلى قسمين اثنين :
  القسم الأول : ما لاحظ هذه الشريحة الإجتماعية ( الأسرة ) من خلال الرؤية الإنسانية خاصة ، حيث انطلق في دراستها كظاهرة فردية أو أجتماعية أو إنسانية نوعية ، لها جذورها النفسية والطبيعية ، ولها علاقاتها المتميزة ، ولها آثارها في غيرها من الشرائح الإنسانية الفردية والاجتماعية ، أو غيرها .
   ومثل هذه الدراسات ـ وإن امتاز أكثرها بالاستناد إلى الظواهر المشاهدة ، والتنظيم العلمي عادةً ، إلا أنها تبقى سطحية الأصول ، لا تنفذ الى الجذور الأولى التي بنيت عليها الأسرة ، جانبية لا تستوعب جميع آفاقها وشؤونها ، ناقصة المدارك لا يمكنها أن تدّعي الكمال الذي لا غناء للإنسان عنه .
  ومثل هذا النقص مما ينسحب على جميع الدراسات الإنسانية لجميع ظواهر الإنسان ، لنقص المدراك العلمية للإنسان نفسه ، ولجانبية نظرته في الحياة ، وأقتصارها على خصوص ما يقع أمامه من الظواهر .
  ولهذا السبب فمن غير الممكن تدارك هذا النقص ، بأي حال من الأحوال ، إلا حيث يسمو الإنسان في مداركه العلمية إلى درجة المطلق ، وتتكامل جميع الجهود والاستنتاجات في خبرته ودراساته ، وهي مرحلة لم يصلها الإنسان ـ بعد ـ ، وليس من المحتمل أن يصلها في يوم من الأيام ، إلا حيث يسمو على حدوده التي جبل عليها ، وهذا أمر مستحيل ، كما يتضح مع أدنى تدبر ـ .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 7 ـ

  وكما يصدق هذا على الدراسات ذات الصبغة العلمية للإنسان ، يصدق ذلك على جميع البحوث الأخلاقية والدينية ، التي كان للإنسان دور ما فيها ، سواء في إنشاءها ، أم في تحويرها ، وإن اتصلت في مبدئها بالسماء .
  القسم الثاني : الدراسات التي تستند إلى النظرية الإسلامية وتستظل بظلالها .
  ولا ريب أن هذه النظرية هي التي يمكنها أن تقدم الرؤية السليمة والشاملة للإنسان بجميع آفاقه وشرائحه ، بما فيها هذه ( الأسرة ) ـ موضوع الحديث ـ .
  كما أنها وحدها التي يمكنها أن تتدارك أي نقص يبرز في أي نظرية علمية ، أو منهجية ، أو فكرية تظهر في الساحة الإنسانية .
  فالنظرية الإسلامية ـ في نشأتها ، وكما نعلم ـ إلهية المبدأ ، لها كل ما لهذا المبدأ من عظمة ـ وكمال وسمو ، وما له من علم محيط بدقائق الأمور وحقائق الأشياء .
  وهي ـ في حقيقتها ـ فطرية الواقع ، تستوعب جذور التكوين الإنساني والوجودي ـ بشكل عام ـ ، سواء في الرؤية ، أم في المنهجة ، أم في القيم والأهداف .
  فطبيعي ـ والحال هذه ـ أن لا تخفى عليها حقيقة ، ولا تندّ عنها غاية ، ولا يغيب عن رؤيتها واقع .
  ولهذا فأن النظرية الإسلامية تبدأ في فكرتها مع الأسرة ـ موضوع الحديث ـ من أولى جذورها في الواقع الانساني والتكويني ، ومن رابطة الإنسان الوثقى بمبدأ وجوده وحياته : بالله ( تعالى ) بارىء خلقه ، ومدبّر أمره . .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 8 ـ

  كما تبدأ ـ في منهجتها ، ووضع تعاليمها ، وتحديد علاقاتها في هذه الشريحة ـ من خلال استقامة ذلك الواقع الإنساني في وجوده الذاتي ، ومن خلال انتظامه في علاقاته مع مختلف مظاهر الوجود وظواهره .
  كما تأخذ هذه النظرية ـ في أهدافها وغاياتها في الأسرة ـ جميع الغيات الكبرى التي تستهدفها حكمة الله ( جل شأنه ) في خلق الإنسان ، لتصل بها الى حيث أعده الله ـ سبحانه ـ لهذا الكائن الفريد ، من فضل وتكريم على كثير من المخلولقات .
  ولا ريب أن ذلك العمق في النظرية الإسلامية ، وهذا الإستيعاب في رؤيتها للقضايا ، وهذا التكامل في أصولها ، وما تتجلّى به هذه النظرية من مناهج وأحكام وتعاليم ، وما تتراءى به من استقامة حدية بين تلك الأصول والغايات في الحياة الفعلية للإنسان هو الذي جعل للنظرية الإسلامية ميزتها على غيرها من النظريات ، وجعل لها ضروراتها التي لا يمكن أن تستغني عنها حياة الإنسان بحال من الأحوال . .
  كما أنه هو الذي جعل دراسات الإسلامية الرائدة ، في أي جانب من جوانب الإنسان والكون والحياة ، أهميتها التي لا تضاهى ، ولا تتدارك بغيرها من الدراسات وإن كان لها صبغة علمية تجريبية .
  وهنا تبرز مسؤولية حملة الإيمان وحماة الإسلام تجاه أنفسهم ، وتجاه مجتمعهم ، وتجاه الإنسانية ـ بشكل عام ـ ، قبل أن تبرز مسؤوليتهم تجاه دينهم ، أو تجاه عطائه الكريم .
  إذ ـ من أجل الوصول الى السعادة والكمال ـ لا بد أن تصبح معالم النظرية الإسلامية ، وما تتجلى من مناهج وتعاليم وأحكام شواهد قائمة ، واضحة البرهان ، جلية الحدود ، واضحة المعالم أمام كل بصيرة ، فبهذا الوضوح ـ وحده ـ يستطيع الإسلام أن يأخذ بيد الإنسان إلى حيث يطمح من رفيع الأهداف .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 9 ـ

  وضمن هذه المسؤولية يرد حديثي في هذه الرسالة . .
  فمع أني لا أدعي بأني جئت فيها بشيء جديد لم تطرحه بحوث سابقة في مجال الأسرة ، إلا أنني ـ وبحكم تجربتي الشخصية كرجل دين شاءت له الظروف أن يطلع على كثير من الأسر عن كثب ـ أدركت الحاجة المستمرة لأبناء الإسلام عامة ، ـ وبناته منهم بالخصوص ـ إلى مثل هذه البحوث ، وبلغات مختلفة وأساليب متفاوتة ، تتناسب مع مختلف المستويات ، ولا سيما للشباب الذين يدخلون أعتاب هذه الحياة الزوجية .
  وهكذا كتبت هذه الرسالة أملاً أن يجد هؤلاء الأبناء والبنات بغيتهم من هدى الإسلام وبصائره في منهجة الحياة الزوجية ، والأخذ بها إلى حيث يطمحون من السعادة والكمال .
  وقد رتبت هذه الرسالة ضمن قسمين :
  القسم الأول : حيث تناولت فيه بعض الجوانب المهمة من الحياة الزوجية .
  وفي الباب الأول من هذا القسم ، وقفنا على الطبيعة العامة للحياة الزوجية في الإسلام .
  حيث تعرضنا في الفصل الأول منه إلى ما يراه الإسلام من وحدة النفس الإنسانية في الزوجين ، وما تعنيه هذه الوحدة ، وما تستوجبه في مسؤولية المؤمن تجاه نفسه ، وتجاه مجتمعه ، وبارئه .
  أما الفصل الثاني فقد خصصنا لبيان تكافؤ المسؤولية الإلهية بين الزوجين ، استناداً إلى قوله ( تعالى ) : ( ولهن مثل عليهن بالمعروف ) .
  وما يعنيه هذا المعروف بدأ من علاقة الإسلام بالإنسان ، وحتى آخر ما تقتضيه هذه العلاقة من أحكام .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 10 ـ

  وفي الفصل الثالث ، تعرضنا إلى قوامة الرجل على المرأة التي يعنيها قوله ( تعالى ) : ( الرجال قوّامون على النساء ) ، وما الذي يقصده الإسلام بهذه القوامة ؟ ، مع بيان أن الأساس الذي يستند الإسلام في تشريعه لها ، إنما هو التكوين الذاتي الذي جبل عليه الرجل والمرأة معاً ، لتأتي الدراسات العلمية للإنسان كلها مؤيدة للإسلام في هذه النظرة الواقعية العميقة ، وإنتهينا إلى التعرض لذكر المسؤوليات التي تفرضها هذه القوامة على كل من الرجل والمرأة لاستقامة حياتهما كما يطمحان إليه .
  أما الباب الثاني ، فقد خصصنا لبيان مسؤولية الزوجية في البيت المسلم ، حيث لاحظنا ـ في الفصل الأول من فصوله ـ ، أساس هذه المسؤولية ، ودورها في المحافظة على كيان المجتمع الإسلامي وسلامته من الداخل ، حيث لخصت النصوص الإسلامية هذه المسؤولية بقولها : ( جهاد المرأة حسب التبعّل ) .
  وركزنا في هذا الفصل على نقطتين :   الأولى : ما الذي يعنيه الإسلام بكلمة الجهاد ـ في مفهومه الواسع ـ .
  والثانية : لماذا اعتبر الإسلام حسن التبعّل جهاداً بالنسبة الى المرأة ، ثم حدود هذا الجهاد منها .
  أما الفصل الثاني ، فقد وقفنا فيه عند ما يعنيه حسن التبعّل في نفسه ، وما الذي يعنيه هذا الحسن في تحقيق الغايات الإلهية الكبرى في المجتمع ، ليصبح ـ من ثم ـ مورداً من موارد تقوى الله ( جلت قدرته ) ، وميزاناً من موازين الكرامة لديه بالنسبة إلى المرأة .
  وفي الفصل الثالث تعرضنا إلى بعض أحكام المرأة في البيت المسلم تجاه قوامة الزوج ، وتجاه العلاقة الزوجية الخاصة ، وتربية أبنائها ، وإقامة بيتها كنموذج أسمى تطمح إليه الإنسانية في بيوتها سعادة وهناء وأخلاقاً وتهذيباً ، فضلاً عن استيفاء ترتيبه ونظافته وحسن مظهره .
  وفي خاتمة هذا الباب ، أشرنا إلى أحكام كل من الزوجين ـ في علاقتهما المباركة هذه ـ ، إنما هي بعض أحكام الله ( تعالى ) وحدوده في هذه الحياة ، ولا بد لكل إنسان من الإستجابة لها ، والوفاء بمسؤولياتها ، لأنها ـ في مبدئها ـ من مقتضيات حمكة الله ( تعالى ) في خلقه للإنسان ، وتدبيره لأمره ، كما أنها ـ في مظهرها ـ من مناهج الله وشريعته من أجل بلوغ غايات تلك الحكمة السامية في البيت المسلم .
  وهكذا كانت الاستجابة لتلك الأحكام والحدود من موازين التفاضل عند الله ( جل جلاله ) ، ومضماراً للاستباق إلى نيل رضوانه ( سبحانه ) .
  أما القسم الثاني ، فقد اتخذنا فيه أسلوب الوصايا السريعة في بعض الموضعات المهمة ، التي لا بد للفتاة المؤمنة من الاطلاع عليها ، واستذكارها بشكلها الصريح ، وهي في المرحلة المبتدئة من حياتها الزوجية ، بعيداً عن التشويش والإطالة والتعمق .
  واقتصرنا من مطالب الحياة الزوجية على خصوص ما هو ضروري منها ، لأن استيعابها أمر غير ممكن ـ كما هو معلوم ـ ، ولا سيما أن لكل حياة زوجية مقتضياتها ، ولكل حياة مستلزماتها الفرعية ، وهي تربو عن الحصر ، وهذا الوصايا هي :
  النجاح والفشل في الحياة الزوجية .
  تأثير النجاح والفشل على شريك الحياة .
  صفاء الحياة الزوجية من الدخائل .
  عدم الانفصال النفسي بين الزوجين .
  الوحدة العائلية والمجتمع .
  الثقة بين الزوجين .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 11 ـ

  قدسية مخدع الزوجية .
  أثر مخدع الزوجية في نزاهة المجتمع .
  دور الحب في الحياة الزوجية .
  المادة والحياة الزوجية .
  استجابة المرأة لعواطف زوجها .
  تبعية إرادة الزوجة لأمر زوجها .
  اعتزاز الزوج برجولته .
  خدمة كل من الزوجين للآخر .
  أمانة الزوجين .
  الزوجية سكن للزوجين .
  الحياة الزوجية والعلاقات العائلية .
  البيئة وبناء شخصيتي الزوجين .
  الحياة الاقتصادية للأسرة .
  الحياة الزوجية والأعلام .
  هذا ، ولأن هذه الرسالة قد وضعت ـ بالدرجة الأولى ـ للفتيات المؤمنات في مرحلة معينة من مراحل عمرهن ، مرحلة تمتاز عادة بالتشويش والصراع النفسي ، فقد توخيت فيها ـ قدر الإمكان ـ سهولة الأسلوب ، وبساطة العرض ، ووضوح البيان ، بما يتناسب والمستوى الثقافي العام لهذه المرحلة من جهة ، وحراجة الفترة التي تعيشها الفتاة في تلك الفترة ـ من جهة أخرة ـ ، وجعلتها بحيث لا تحتاج الفتاة ـ في فهم المراد منها ـ إلى كبير معاناة ، وراء التدبّر ، والقراءة المتأنيّة ، والمذاكرة البسيطة مع بعض من تثق به في فهم الحياة الزوجية .
  وأملي من الله العلي القدير أن ينفع بها بناتنا وأبنائنا ، وأن يوفق الجميع للسعادة في الدنيا ، ونيل رضاه في الدارين ، إنه أرحم الراحمين .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 12 ـ

الباب الأول
الحياة الزوجية في الإسلام

القسم الأول
بحوث في الحياة الزوجية

تمهيــد
  للحياة الزوجية في دين الله ( تعالى ) معان خاصة ، وأهداف كبرى ، يختلف فيها عن غيره من الإديان والمذاهب والتقاليد المعروفة ، وهي تتكامل مع تصوراته وأهدافه العامة في الإنسان والوجود .
  ومن خلال تلك المعاني والأهداف تنبثق أصوله وتعاليمه ومناهجه ، التي شرعها لتنظيم هذه الحياة ، والأخذ بزمامها ، كما تتبلور حقوقه وواجباته التي رسمها لكل طرف من أطرافها .
  وهذا مما يستدعي ضرورة أن يتعرف حملة الإيمان على تلك المعاني والأهداف ، كما يستوجب عليهم أن يتّبعو هذه الأصول والمناهج والأحكام ، وهم يطمحون الى السعادة بالتزام هذا الدين العظيم ، ويسعون إلى بلوغ غاياته الكبرى في الحياة بالاستمساك بهداه .
  ولإن الإسلام هو دين الفطرة التي جبل عليها الإنسان ، فمن الضروري أن يعلم المسلم أن تلك المعاني والأهداف ليست معاني وأهدافاً ذات صبغة فلسفّية تجريدية ، لا تمت إلى الواقع بصلة ، وإنما هي ـ قبل هذا ـ ركائز أولى للوجود الإنساني ذاته في هذه الأرض ، وأهداف عامة لحكمة الله ( تعالى ) في خلقه للإنسان . .
  ومن هنا تبرز أهمية تلك المعاني والأهداف ، كما تظهر ضرورة اتباع الإنسان لأحكام الإسلام فيها ، إذ لا بديل للإنسان عنها ، ولا غناء له بدونها .
  ولا بد من الالتفات إلى أن أهداف حكمة الله ( جلت قدرته ) في الخلق الإنساني تطّرد في البيت المؤمن كما تطّرد في الفرد المؤمن من قبل ، وفي الشرائح الاجتماعية الأخرى من بعد ، والمسيرة النوعية الإنسانية كلها ، على امتداد تاريخ الإنسان ، بل ومن تحديد الإسلام للمواقع المتبعة في البيت المؤمن ، وإحكامه للعلاقات القائمة فيه ، تنطلق هذه الحكومة في بناء كيان الإنساني الأوسع ، وتمنهج صلاته ، وتبني روابطه المختلفة .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 13 ـ

  فالبيت ـ وكما هو معلوم لكل أحد ـ هو أول الأرصدة التي يعتمدها المجتمع في تكوين بنيته ، وهو أول شريحة في إقامة هيكله ، بعد شخصيات أفراده ، الذين يتكون منهم هذا الهيكل في أساسه .
  ومن هنا تأتي أهمية البيت في تكوين البنية العامة للمجتمع . . .
  فالطبيعة العامة للبيت ، والاتجاه الذي يمضي به في حياته ، والسمة التي تهيمن عليه ، وعلى أخلاق أفراده وسلوكهم ، كلها مما ينعكس على مختلف المواقع الأخرى في المجتمع ، وأن بدا بعضها بعيداً كل البعد عن البيت وشؤونه ، إلا أن للبيت تأثيره الفعال الذي لا يمكن التخلص منه بأي حال من من الأحوال.
  فمن البيت تبدأ حياة الأفراد ، وفيه تجري تربياتهم الأولى ، ومن خلال مسيرته تتكامل شخصياتهم ، وبالصيغة التي أقيمت عليه أخلاقه وعلاقاته ، تنتظم قيمهم وأهدافهم الكبرى ، وتتجلى مثلهم العليا في أصعدة حياتهم العامة ، وجوانبها المختلفة .
  فالقوة أو الضعف في العلاقات الاجتماعية ، والانسجام أو التفكك بين الأفراد ، والاستقامة أو الأنحراف في الأخلاق ، والارتفاع أو الهبوط في القيم وغير ذلك من شؤون المجتمع وعلاقاته ، كلها إنما تتراءى ملامحها المبدئية في البيت ، فهو الذي تبنى فيه شخصيات الأفراد وتتكون ملامحها الأولى .
  فهو الأصل الذي يستمدّ منه المجتمع إفرازاته المختلفة حيث تنعكس على المجتمع معطيات البيت ، لتمتد تلك الإفرازات وهذه المعطيات إلى أبعد موقع يتراءى تأثيره فيه .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 14 ـ

  فمعروف أن الإنسان ووجوده وحياته كلها وحدة حيوية ، متكاملة الأجزاء والمواقع ، متبادلة الأدوار والتأثير ، وتستحيل التجزئة فيها ، أو التفكيك فيما بين أجزائها .
  ومن هذه النقطة نلتفت إلى أهمية البيت في التكوين الفردي للإنسان كذلك ، حتى قبل ملاحظة الجانب الاجتماعي فيه ، فتلك السمات والآثار تتجلى في كل فرد فرد ضمن بنيته الذاتية ، وفي أهدافه وطموحاته الشخصية ، قبل أن تنعكس على البنية الاجتماعية العامة .
  ومن الطبيعي أن لا تكون هذه النقطة المهمة بعيدة عن التصور الإسلامي للإنسان ، ولهذا كان لها دورها المناسب في اهتماماته ونظرياته ، ومهجته للحياة ، وفي أي موقع من مواقعها ، وأي أفق من آفاقها ، سواء على صعيد المجتمع ، أم فيما هو أوسع دائرة منهما .
  إذن فمنهجة الإسلام لبناء البيت المؤمن ـ في أسسه وتحديد علاقاته المختلفة ، وحقوقه وواجباته المقررة ـ ، إنما تنبثق من خلال هذا الإطار ، حيث تقتضيه حكمة الله ( تعالى ) فيه ، وحيث تستقيم فيه دلائل الحق وأصوله ـ كما هو شأن الإسلام في بناء أي كيان إنساني آخر ـ .
  فالتصورات الإسلامية الخاصة عن هذا البيت ، وقيمه وروابطه ، إنما تنسجم ـ بدورها ـ مع تصورات الإسلام وأهدافه العليا في الكيان الإنساني ككل ، كما تستقيم معها الأحكام والتعاليم والمناهج التي يشرعها الإسلام لبناء هذا البيت ، وتقويم مسيرته في الحياة ، فبذلك الإنسجام ، وهذه الإستقامة ، تتكامل البنية الإسلامية ذاتها ، وتتم وحدتها ، في أي صعيد من أصعدتها المختلفة .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 15 ـ

  وهذه الناحية ـ كما هو معلوم ـ من بدهيات الإسلام الأولى ، وأصوله المعروفة ، ولها في مصادر المعرفة الإسلامية موقعها الكبير ، الذي لا يمكن أن يغفله مثقف ، كما أنها ـ في نفسها كذلك ـ بعض أبعاد الإعجاز الإسلامي في التصور والمنهجة .
  ولا ريب أن العلقة الزوجية واحدة من أهم القواعد الأساسية في تكوين البيت ، فمن الطبيعي أن تتناسب فكرة الإسلام عنها مع أهميتها هذه ، كما تستقيم معها أحكامه ومناهجه في تنظيمتها ـ ليستكمل ـ بهذه العلقة المباركة فكرته العامة عن الإنسان ، وتمتد بها منهجته الواحدة للحياة .
  إذن ، فمن هذا المنطلق ـ بالذات ـ يجب أن تفهم فكرة الإسلام عن هذه العلقة المقدسة ، ـ وفي هذا الإطار ينبغي أن تلاحظ منهجته لها ، ومن خلاله ـ كذلك ـ يجب أن يتعامل مع أحكامه وتشريعاته فيها ، إذ بدون هذا المنطلق تبقى الرؤية ناقصة ، ويكون الفهم ساذجاً قاصراً ـ كما هو واضح ـ .

امتداد الفكرة الإسلامية في مسؤولية المؤمن
  ولا بد من التنبيه هنا ، إلى أن ما يعنينا ـ من فكرة الإسلام عن البيت ومنهجته للحياة الزوجية ـ في هذا الحديث ، إنما هو خصوص ما يعيننا على فهم الطبيعة العامة لهذه الفكرة ، وامتدادها في مسؤوليات الزوجين وخاصة الزوجة ، فهذه المسؤوليات ، وما ينبثق عنها من حدود ، هي مجال حديثنا في هذه الرسالة .
  ونحن نقف قليلاً عن ثلاث من آيات الكتاب العزيز أشارت ـ بدقة ووضوح ـ إلى ما يبتغيه الإسلام لهذه العلقة المقدسة من مفهوم وما يعتمده لها من أرصدة تكوينه في أعماق الإنسان ، وما يستهدفه لها من معان في تشريعه وأحكامه وحدوده .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 16 ـ

  ولهذا ، فلا بد أن تكون قراءتنا لتلك الآيات قراءة متأملة متدبّرة ، نستلهم كان ما يمكننا استلهامه من عطائها ، ونحاول أن نتّبين ما يمكننا تبيّنه من دلالات إشاراتها ، لبلوغ معانٍ أكمل وأدق مما نفهمه من قراءة سريعة عابرة . .
1 ـ قال ( تعالى ) في سورة الروم ـ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (1) ) .
2 ـ قال ( تعالى ) ـ في سورة البقرة ـ : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ . . (2) ) .
3 ـ وقال ( عز من قائل ) ـ في سورة النساء ـ : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ . . (3) ) .
  هذه آيات ثلاث من كتاب الله العزيز ، ويمكن القول بأنها قد استوعبت في دلالاتها المعطاء جميع حدود الموقف الإسلامي تجاه هذه العلقة المباركة ، كما أشارت إلى الأصول الفطرية في التكوين الإنساني لكل من الزوجين ، وإلى عنايات الله ـ سبحانه ـ بهذه العلقة ، وغايات حكمته فيها ، وفي بنائها ، والسبل الكفيلة التي يمكن للزوجين ـ معاً ـ أن يصلا بها إلى تلك الغايات الرفيعة ، وما تحويه من سعادة وهناء لهما في حياتهما الدنيا هذه ، وما يطمحان اليه من رضوان الله ( سبحانه ) ، وجميل ثوابه في الدار الأخرى ، وهما يسلمان أمرهما إلى الله ( سبحانه ) ، وإلى دينه القويم ، ويتبعان أحكامه حق الإتباع .
  ولأن البحث في أي من هذه الجوانب واسع ـ كل السعة ـ ، فلا يمكننا أن نحيط به في هذا الحديث ، ولهذا فنحن نختار نقاطاً ثلاثاً لها أهمية خاصة في مقصودنا هنا ، لما لها من إشاع مباشر على مسؤولية المؤمن والمؤمنة في هذه العلاقة المقدسة ، وهذه النقاط هي :
1 ـ وحدة الحياة الزوجية .
2 ـ تكافؤ المسؤولية .
3 ـ القواعد الزوجية .

**************************************************************
(1) الروم : 21 .
(2) البقرة : 228 .
(3) النساء : 34 .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 17 ـ

الفصل الأول
وحدة النفس الإنسانية في الزوجين

  النقطة الأولى : ما يشير إليه التعبير القرآني المقدس ، في النصّ السابق من سورة الروم من وحدة النفس بين الزوجين إذ قال : ( من أنفسكم ) .
  وقد ورد هذا التعبير في العديد من الآيات الكريمة ، ومن نصوص السنة الشريفة . .
  فمثلاً يقول ( تعالى ) في سورة النحل :
( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً . . (1) ) .
  وفي سورة الشورى يقول ( تعالى ) :
( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا . . (2) ) .
  وفي سياقات أخرى يؤكد القرآن على وحدة النفس الإنسانية في الزوجين ، وأنهما قد خلقا من نفس واحدة لا تعد فيها . . كما في سورة النساء ، إذ يقول ( جل شأنه ) :
  ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء . . (3) ) .

**************************************************************
(1) النحل : 72 .
(2) الشورى : 11 .
(3) النساء : 1 .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 18 ـ

  ومثله ما ورده في سورة الأعراف ، إذ قال ( تعالى ) :
  ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها . . (1) ) .
  وفي سورة ( يس ) يقول ( عز من قائل ) ـ وهو في مقام بيان العظمة الإلهية في الخلق ، والإمتنان الرباني على العباد ـ :
  ( فسبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ، ومن أنفسهم ومما لا يعلمون . (2) ) .
  إلى غير ذلك مما ورد في هذا المضمون .

عظمة الإسلام في تصوره للوحدة بين الزوجين
  والذي يستوقف الإنتباه في هذه الآيات الكريمة وأشباهها أن التصور الإسلامي لهذه الوحدة في النفس الإنسانية عامة ، ووحدة النفس ما بين الزوجين خاصة ، إنما ينطلق من خلال ما لهذه الوحدة من أعماق ثابتة ، ومكينة في الفطرة الإنسانية ، التي جبل عليها تكوين الإنسان ، قبل أن يعتمدها ـ بعد ذلك ـ كأصل ثابت ، يمتد الى مختلف جوانب الرؤية الإسلامية للإنسان ، وكأساس في بناء جميع الغايات التي يستهدفها الإسلام في الحياة الإنسانية ، تلك الغايات التي تشير السياقات السابقة إلى بعضها ، دون أدنى خلل أو وهن فيها .
  ولا ريب أن هذا العمق في النظرة ، وهذا التكامل ما بين الواقع الفعلي

**************************************************************
(1) الاعراف : 189 .
(2) يس : 36 .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 19 ـ

القائم للإنسان ، والتصور الإسلامي له ، والغايات التي يستهدفها هذا التصور في حياة الإنسان ، ثم إقامته للمناهج والحدود التي يشرعها لتنظيم هذه الحياة ، إنما هي بعض جوانب الإعجاز القرآني والإسلامي ، وبعض آفاق السمو في التصور والتشريع الإسلاميين ، ويجب أن تؤخذ هذه السمة بالحسبان في أي ملاحظة متدبرة ، وفي أي موقف يتخذه اللبيب إزاء هذا الجانب المهم من دين الله العظيم ، حين يريد لنفسه أن يستقيم مع الواقع ، ويستنير بدلائله في الحياة .
  فالله الواحد القاهر الحكيم فاطر السماوات والأرض ، هو الذي ( خلقكم من نفس واحدة وخلقكم منها زوجها ) . .
  وحين تكون الوحدة في النفس بين الزوجين قائمة على هذا الأساس العميق ، الذي يمتد إلى أصل الخلق ، وإلى جذور الفطرة التي جبل عليها الإنسان ، فمن الطبيعي أن تمتد إلى جميع أبعاد التكوين النفسي والعقلي للأفراد ، ومنهما إلى مختلف المشاعر والأحاسيس ، قبل أن تنعكس لدى كل الأطراف تناغماً في السلوك ، ووحدة في الاتجاهات والقيم والأخلاق : ( وجعل بينكم مودة ورحمة ) .
  ومن الطبيعي كذلك أن لا تكون في نفس أي من الأفراد طمأنينة ، أو سكون ، إلا حيث تكتمل في شريك حياته وتتوحد به : ( لتسكنوا إليها ) .
  ومن الطبيعي حينئذ أن تتجلى تلك الوحدة ، وهذه الحاجة الى الاكتمال لدى كل واحدة من النفوس البشرية من أزواج المخلوقات ـ عظمة خالق الإنسان ، ومنشىء الكون ، كما يتجلى تفرده وغناءه عن أي شيء سواه : ( ومن آياته أن خلق لكم . . . ) . . ( فسبحان الذي خلق الأزواج . . . ) .
  كما تتجلى عظمة التشريع الإسلامي ، الذي بني على أساس هذه الواقعية في الرؤية والتصور والمنهجية .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 20 ـ

  وهكذا . .

أصول الوحدة بين الزوجين
  ويقول ( سيد قطب ) ـ في استظلاله بالآية السابقة من سورة النساء ـ :
( اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ، فهي الوحدة في الرب والخالق ، والوحدة في الإنسانية التي بدأت ( مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ) ، وهكذا ( مِّن نَّفْسٍ ) ، والنفس هي قوام الجنس ، وهي أعمق ما في هذا الكيان ، وهي أرق ما في هذه البشرية ، وهي مكمن المشاعر والوجدانات ، والروابط والصلات .
  ( فإذا كان الناس جميعاً يلتقون في هذه النفس الواحدة ، التي تلتقي في الخالق الواحد ، فهي ـ إذن ـ صلة عميقة الجذور ، بعيدة الأصول ، وهي ـ إذن ـ صلة لا تنفصم ولا تنقطع ، وهي ـ إذن ـ صلة عزيزة كريمة ، تستجاش بها الضمائر ، وتلمس بها الوجدانات .
  ( خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ) ، وإن وكان المقصود هو وحدة الطبيعة الإنسانية في الزوجين ( الذكر والأنثى ) ـ لأن الحديث كان عن النفس ـ ، فنوع الصلة مشتق من خصائص النفس ، ولكن تصورها هكذا محسوسة ، ـ يلقي ظلاً أعمق ، وشعوراً أقوى بعمق الصلة وتوثقها . . (1) ) .
  ويقول السيد الطباطبائي ـ في تفسيره لآية الروم من كتاب ( الميزان ) ـ :
  قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا . . إلخ ) الآية ، قال الراغب : يقال لكل واحدة من القرينين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة : زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها : زوج قال تعالى : ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ) ، وقال : ( وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) ، وزوجة لغة رديئة ، وجمعها زوجات ، إلى أن قال : وجمع الزوج : أزواج . أنتهى .

**************************************************************
(1) في ظلال القرآن ـ سيد قطب ـ ج : 4 ـ ص 82 ـ ط : 2 ـ ن : دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 21 ـ

  فقوله ( أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ) أي خلق لأجلكم ، أو لنفعكم ، من جنسكم قرائن ، وذلك أن كلاً من الرجل والمرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزاً يتم فعله بمقارنة الآخر ، ويتم بمجموعهما أمر التوالد والتناسل ، فكل واحد منهما ناقص في نفسه ، مفتقر إلى الآخر ، ويحصل من المجموع واحد تام ، له أن يلد وينسل ، ولهذا النقص والأفتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر ، حتى إذ أتصل به سكن إليه ، لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله ، وكل مفتقر مائل الى ما يزيل فقره ، وهذا هو الشبق المودع في كل هذين القرينين .
   وقوله : ( وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ) ، المودة : كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل ، فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع ، الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة والكبرياء ، والرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال ، وحاجته إلى رفع نقيصته ، يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان ، ورفع نقصه .
  ( ومن أجلى موارد المودة والرحمة : المجتمع المنزلي ، فإن الزوجين يتلازمان بالمودة والمحبة ، وهما معاً ـ وخاصة الزوجة ـ يرحمان الصغار من الأولاد ، لما يريان ضعفهم وعجزهم من القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية ، فيقومان بواجب العمل في حفظهم ، وحراستهم ، وتغذيتهم ، وكسوتهم ، وإيوائهم ، وتربيتهم لولا هذه الرحمة لا نقطع النسل ، ولم يعش النوع . . (1) ) .

**************************************************************
(1) الميزان في تفسير القرآن ـ السيد محمد حسين الطباطبائي ـ ج 16 ـ ص 173 ـ 174 ـ ن : دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ سنة : 1388 هـ .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 22 ـ

  ويمضي الكتّاب والمفسرون في استلهام العطاء القرآني والإسلامي من هذا التعبير المبارك ، واستجلاء بعض آفاقه ، ودلالاته في العقيدة والشريعة ، وآثاره في الحياة الإنسانية ، كلُّ حسب اختصاصه ، وكل حسب منطلقة في دارسة تلك النصوص .
  وهكذا ركّز بعضهم على ما يعنيه هذا التعبير في الفكرة الإسلامية العامة ، وفي نظرية الإسلام في الإنسان ، والأصول الواقعية التي تعتمدها هذه النظرية في كيانه . .
  بينما وقف آخرون عند الجواب النفسية ، والمشاعر النبيلة التي تأتى من هذه الوحدة النفسية ، وانعكاساتها على موقف كل من الجنسين تجاه الآخر . . ودوره في تكامل شخصيته . .
  أما غيرهم فقد ركز على سلامة السبل التي تتأتى من هذه الوحدة ، والتي طرحها الإسلام للتقريب ما بين النفوس ، وإحكام العواطف النبيلة ، ولا سيما فيما بين الزوجين . .
  في حين أن آخرين حاولوا استشفاف دور هذه الوحدة في تكوين الطبيعة الاجتماعية للإنسان ، وأثرها في تكامل المجتمع الإنساني ، وتنظيم مسيرته الحضارية المتصاعدة ، وضرورة استقامتها في خصوص المناهج الإسلامية ، التي أعدتها حكمة التشريع في هذه المضمار . .
  وهكذا . . ولا أطيل في هذه الناحية أكثر من هذا ، فهي باب واسع قد يستوجب دخولنا فيه خروجاً منا المصب الأول للحديث .

الوحدة الإنسانية ومسؤولية المؤمن
  أما نحن في هذا الحديث ، فالذي يعنينا من هذه الرؤية الإسلامية هو خصوص ما تمليه هذه الوحدة الإنسانية من عطاء في تحديد مسؤولية المؤمن إزاء شريكه في العلقة الزوجية .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 23 ـ

  فهذه المسؤولية هي الأساس الذي يعتمده الإسلام في استكمال هذه الوحدة لشرائطها في حياة المجتمع المؤمن ، وفي تجسيد المعاني الرفيعة التي تتأتى منها في كيانه ، وبلوغه لأهدافه ، باعتبارها بعض أصول نظريته حوله ، وأساس تشريعاته فيه ـ .
  فمعروف أن الإسلام إنما يعتمد ـ في إقامة أمره في واقع الإنسان ، واتباع البشرية لشريعته ـ على عنصر الأختيار والإرادة ، وعلى المسؤولية الإختيارية ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) بعد أن تبيّن الرشد من الغيّ .
  نعم ، ومن خلال تلك الأعماق التي يعتمدها الإسلام لهذه الوحدة في النفس البشرية ، وما يتبلور من ملامحها في الأسرة المسلمة ، ومما وضعته الشريعة لها من أحكام ومناهج تحدّد هذه المسؤولية الإنسانية أيضاً ، كما تتبلور ملامحها ، وتتضح حدودها المقررة ، ليبلغ المؤمن الحق غايات الإسلام فيها ـ حين يريد ، وكما يريده الله ( تعالى ) له ، وبما وضعه له من المناهج والسبل ، التي تكفل له ذلك البلوغ ، حين يستقيم من التزامه بدينه ، ويسلم قياده إليه .
  فكما أن كل واحد من الزوجين جزء من نفس الآخر ، في الواقع ، وحيث يقرره دين الله ( جل شأنه ) ، به يستقيم وجوده ، ويتحقق استكماله ، وتنتظم خطواته نحو الغايات الإلهيه في خلقه وإنشائه ، فلا بد أن ينعكس هذا الواقع على شعورهما معاً ، ليلحظ كل منهما شريكه كأفق من آفاق مسؤولية الشخصية تجاه نفسه ، وتجاه دينه ، وتجاه بارئه . .
  مما يعني ضرورة أن تتسع المسؤولية الشخصية لكل من الزوجين تجاه نفسه ، لتستوعب زوجه كجزء لا يتجزأ من كيانه الذاتي الموحدة ، قبل أن تعتبر هذه المسؤولية تجاه طرف آخر ، خارج عن ذلك الكيان .

**************************************************************
(1) البقرة : 256 .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 24 ـ

  بمعنى أن يكون كل من الزوجين جزءً من مسؤولية شريكه تجاه نفسه ، قبل أن تكون جزءً من مسؤولية تجاه غيره من الناس ، وعلى أساس من هذه الجزئية العميقة تمضي حياتهما المشتركة في وجودها ، وفي أدائهما في دورهما في إقامة المجتمع المؤمن .

عمق مسؤولية المؤمن
  ولا بد من الإلتفات هنا إلى أن هذه الفكرة الإسلامية الخاصة في تحديد المسؤولية الإنسانية ، لا تختص بخصوص العلاقة الزوجية فحسب ، وإنما هي وارادة أيضاً مسؤولية المؤمن إزاء مجتمع الإيمان بشكل عام ، بمقتضى ولاية الإيمان ، قال ( تعالى ) :
  ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ . . (1) ) .
  وبمقتضى أخوة الإيمان أيضاً : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ . . ) (2) ) .
  وبمقتضى التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتضامن والتكافل الإجتماعيين ، في مختلف ابعادهما ، وصورهما ، وإقامة الحدود والمناهج الإسلامية . . وهكذا . .
  ( إن أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا . . (3) ) .
  فمسؤولية المؤمن تجاه أي من هذه الأمور إنما تنبع ـ في مبدئها ـ من مسؤوليته تجاه نفسه ، إذ هي من شرائط إيمانه ، واتباعه لدلائل دين الله ( تعالى ) ، والقيادة لحجته ، إذ لم يؤخذ ـ في هذه الشروط والدلائل والحجة ـ سوى التزام الإنسان بها ، وإطاعته لأمر الله ( تعالى ) ونهية فيها .
  هذا إضافة إلى جوانب أخرى تقتضي ـ بدورها ـ كذلك ، تأكيد هذا العمق لمسؤوليات المؤمن كافّة ، واعتبار اي مسؤولية فردية أو أجتماعية له ، أو حتى نوعية أو كونية ـ بملاحظة علاقة الإنسان بنوعه أو بما يحيط به من موجودات الكون ـ ، إنما تنبع ـ في مبدئها ـ من مسؤوليته تجاه ذاته ، وتجاه دينه ، قبل أي مرحلة أخرى تتبعها .

**************************************************************
(1) التوبة : 71 .
(2) الحجرات : 10 .
(3) الاسراء : 7 .


الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 25 ـ

  فهناك مسؤولية المؤمن بأن يكون القدوة الصالحة ، والمثل الرفيع ، لقيام أنوار الهدى الرباني في صعيد الفرد والمجتمع ، وتشخص عظمته في الوجود الإنساني ، وعلى مر التاريخ .
  وهناك مسؤولية المؤمن في علاقته بالموجودات الكونية العامة ، إذ أعدته الحكمة الإلهية لأن يجسد كمالها الأسمى ، في خلافته لله ( سبحانه ) في هذه الأرض ، وتسخيره للموجودات ، والإفادة منها ، لتحقيق هذا الدور العظيم . . . إلى غير ذلك .
  وحتى لو أقتصرنا في الملاحظة عند حدود الحياة الفعلية للإنسان ، وقطعنا النظر عن الإعتبار الديني والأخلاقي ، أو غير ذلك ، فإن القضية لا تخرج عن هذا الإطار أيضاً .
  فإن مسؤولية الفرد تجاه المجتمع ، أو النوع الإنساني ، أو تجاه غيره من مخلوقات الكون ، إنما تتبلور من خلال مسؤليته تجاه ذاته ، قبل أن تلحظ من خلال المجتمع ، أو ما سواه ، أو من خلال مسؤوليته تجاه تلك الكائنات الأخرى .
  لأن ذلك المجتمع ، أو تلك الكائنات التي تملأ حياة الإنسان وتحيط به ، إنما هي الوسط أو البيئة التي يستجيب فيها المؤمن لأمر الله ونهيه ـ أولاً ـ .
  وهي ـ في الوقت نفسه ـ البيئة التي يعيش فيها كفرد وكنوع ، ولا ريب أن كل إيجابية تحدث في ذلك الوسط وكل سلبية ترد عليه ، مما ينعكس بدوره على ذلك المؤمن وعلى حياته .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 26 ـ

  كما أن هذا الوسط نفسه ـ من ناحية ثالثة ـ مجال لفاعلية الإنسان ، فطبيعي أن تكون لمشاركة كل فرد فيه آثارها في صياغة هذا الوسط أو توجهاته ، وفي النتائج التي ستنعكس على الحياة بشكل عام ، إيجابية كانت هذه النتائج أم سلبية مما يعني أن مسؤولية كل فرد في هذه المشاركة إنما هي بعد من ، أبعاد مسؤوليته تجاه النوع الإنساني برمته ـ بما فيه نفسه ـ ، وتجاه الحياة ـ بما فيها حياته الشخصية ـ ، وتجاه الكون ـ بما فيه تكوينه الذاتي ـ .
  وأيضاً فإن انتظام كل فرد في موقعه المناسب في المجتمع ، وقيامه بدوره القيام الأمثل ، ضمن علاقاته المترابطة ، مما يستوجب تكامل ذلك المجتمع ككلّ ، واستقامة حياته ، ولا ريب ان تكامل المجتمع واستقامة حياته وسعادته إنما هي في حقيقتها تكامل أفراده واستقامة حياتهم وسعادتهم ، كما أن ذلك الأنتظام يستوجب ـ بالتالي ـ تكامل الحياة الإنسانية ، في دائرتها الواسعة ، واستقامة الوجود والحياة في هذه الأرض ـ بشكلها الأوسع ـ .
  وهذه مسأله مما لاحظه الإسلام ، وأكد عليه في العديد من نصوصه ، كما لاحظها الباحثون الإنسانيون في مختلف أصعدة الحياة النفسية والإجتماعية ، وكذلك المصلحون الإجتماعيون على مر التاريخ .
  ومن الشواهد السريعة ، التي يمكن اقتباسها من كلمات العلماء النفسيين ما كتبه ( أوسفلد شفارتس ) في كتاب ( علم النفس الجنسي ) ، حيث يقول :
.

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 27 ـ

  ( لإن الإنسانية أكثر من مجرد أكداس من قطعة منفصلة ، بل يجد كل فرد من نفسه داخل مجتمعات أهمها العائلة والقبيلة والأمة ، والدولة ، والطائفة الدينية ، إذا ما تغاضينا عن الإنتماء لنادٍ من النوادي أو الإنتساب لنقابة من نقابات المهن ، ولا يرجع سبب اتحاد هذه الجماعات إلى تأثير عوامل بيولوجية قانونية ، أو عرفية ، لا ننتسب من الخارج إلى هذه الجماعات الحية ، بل نحن جزء مكون لها . ) (1)   وبعد ، فلا اعتقد ان في هذه الناحية مجالاً لريب أحد من الناس ، ولهذا فلا داعي للإطالة بذكر شواهدها من نصوص الإسلام ، ولا من كلمات العلماء والمصلحين ، ويمكن للمتتبع أن يراها في أكثر مجالات الحياة .

تعاظم مسؤولية الإنسان
  نعم ، لا بد من ملاحظة تعاظم المسؤولية الإنسانية ، مع تنامي درجات أهمية الحالة التي يمر بها الإنسان ، أو دوره في الشريحة الإجتماعية التي ينتمي إليها ، ومع أهمية هذه الشريحة في حياته ، وشدة ارتباطها بتكوينه .
  إذ لا ريب أنه كما عظمت تلك الأهمية ، وتسامى ذلك الدور ، ازدادت مسؤولية الإنسان معها . . وهذا مما تقتضيه الموازين العقلائية ، قبل أن يؤكدها الإسلام ـ بدوره ـ ويجري عليها في منهجته وتشريعه .
  فمسؤوليتي اتجاه عائلتي ، وتجاه أولادي الذي لا كافل ولا مرّبي لهم غيري ، لا شك أنها أعظم من مسؤوليتي تجاه جيراني ، أو أقاربي الذين يستلقون عني في المعيشة والتربية .
  ومسؤوليتي تجاه هذا الجار أو القريب ، أعظم ـ ولا ريب ـ من مسؤوليتي تجاه من لا أعرفهم من الناس ، وإن كانت هناك عوامل مشتركة بيني وبينهم . . وهكذا .
  ومن هنا ندرك عظم المسؤولية التي ألقاها الإسلام على كاهل كلا الزوجين ، حين جعل بينهما هذه الوحدة العميقة في النفس ، إذ أن هذه الوحدة تعني من قوة الربط والأهمية ، مالا ترقى إليه علقة اجتماعية أخرى ، كما أنها تستوجب من عمق الآثار ، وتكامل النتائج في حياتهما ، مالا يتأتى من أي صلة اجتماعية غيرها . .

**************************************************************
(1) علم النفس الجنسي ـ تأليف : أوسفلد شفارتس ـ ترجمة شعبان بركات ـ 257 .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 28 ـ

  فهي ـ أقرب في تصوراتها ، وكما علمناه سابقاً ـ تعني أن هناك كياناً واحداً متكامل الأدوار والمواقع ، متناغم السلوك والأهداف والإتجاهات ، موحد السبل مع التطلعات والغايات الفردية لكل من الزوجين ـ من جهة ـ ، ومع الغايات العامة للمجتمع ـ من جهة أخرى ـ .
  كما تعني أن مسؤولية كل طرف من طرفي هذا الكيان ( الذي تعنيه العلقة الزوجية ) إتجاه الطرف الآخر ، إنما هي بعد من أبعاد مسؤوليته تجاه نفسه ، قبل أن يتجلى كمسؤولية له إتجاه فرد آخر مستقل عنه في الوجود .
   والإسلام في كل هذا ـ وكما قلت سابقاً ـ ، إنما يقرر الواقع التكويني للإنسان ، ويبين حاجاته وضروراته .
   وتأتي الدراسات النفسية والإجتماعية والإنسانية بشكل عام ، لتؤكد هذا التقرير أيضاً ، كما أكدته ـ قبل هذا ـ الدراسات الفسيولوجية والحيوية لكلا الجنسين .
   ويقول الدكتور ( شفارتس ) في هذا الشأن :
  ( وتتحد في الزواج حياتان ، ليكونا حياة واحدة ، كما يكون الجسدان جسداً واحداً ، فلا مجال للفصل بينهما باسم ( الحياء ) و ( الخجل ) ، كما أن جميع وظائف الجسد ، تتغير طبيعتها بسحر ساحر ، كما تتغير أهميتها ومغزاها . . ) (1) .
  ويقول ـ في مجال آخر ـ :
   ( بل يعتمد الزواج على تجربة من نوع آخر . .

**************************************************************
(1) ن . م ـ ص 259 .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 29 ـ

   ( والمهم هو الشعور بالإنتساب بالشخص الآخر بواسطة روابط أوثق ، وأكثر من من روابط العلاقات الأخرى ، في العلاقات الإنسانية ، والإحساس بالمحبة مع الآخر في اتحاد ( الفريقين ) والموهبة على التحدث ، بصيغة ( نحن ) ، فقد اتحد نصفا الأسطورة اتحاداً لا انفصام له ، وتحوّل الشريكان حتى في أعمق أعماق شخصية كل منهما ، وهو تحوّل لا مردّ عند الرجل والمرأة ، حتى إذا ما أصبح الرجل زوجاً ، عجز نهائياً عن الرجوع الى الطبيعته السابقة ، ولو انحل عقد الزواج بتأثير القانون ، أو لموت زوجته . . هذا الواقع النفسي هو الذي يسمح للكاثوليك بالحديث عن طبيعة الزواج المقدّسة ، وهكذا يصبح الزواج ـ من الناحية النفسية والروحية ـ أبدياً ، لا انفاك منه . . ) (2) .
  إذن ، فالزوجان وحدة متكاملة في فطرتهما ، وفي حياتهما . . وهما وحدة متكاملة في التصور الإسلامي ، ووحدة متكاملة في تحقيق غايات الحكمة الإلهية في ( الاسرة ) المؤمنة . . وهي اللبنة الاولى في البنية الإجتماعية المسلمة .
   فهذه الوحدة تستوجب ـ بدورها ، ومن ناحية المسؤولية التي نتحدث عنها ـ أن يتحمّل كل من الزوجين مسؤولية الزوج الآخر كجزء من مسؤولية إتجاه نفسه ، من أجل تحقيق المعاني والأهداف العليا ، التي يريدها الله ( تعالى ) لهذه الأسرة التي يريدها ، دون أدنى تجزئة ، أو تجاوز .
  وحين تصبح مسؤولية كل من الزوجين المؤمنين تجاه الآخر بعض مسؤولية تجاه نفسه ، فإن تقصيره في القيام بشيء من أمر شريكه لا يعلو كونه تقصيراً في وفائه بتلك المسؤولية الكبرى ، وتقصيراً في إستجابته لأمر الله ( تعالى ) ، بالنهوض بهذه العلقة المباركة ، والبلوغ بها إلى الغايات العليا التي جبل الإنسان عليها ، وأعدّ حياته من أجل تحقيقها .
  هذا في وقت كان يجب عليهما أن يسعيا إلى تلك الغايات ـ معاً ـ في كل عمل يقومان به ، وفي كل حالة يكونان عليها ، وفي كل موقف يصدر منهما ، إذ يفترض أنهما قد التزما دين الله ـ جلت قدرته ـ سبيلاً لهما في الحياة ، وإرتضياه أساساً للاشراك في علقتهما المقدسة ، وتحمّل أعبائها .

**************************************************************
(1) ن . م .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 30 ـ

  بمعنى أن أي تقصير يصدر ، من أي منهما في هذا المجال ، إنما هو تقصير إزاء نفسه ، وهو وهن في وفائه بمسؤوليته إتجاه بارئه ، قبل أن يكون تقصيراً إتجاه الطرف الآخر ، أو وهناً في وفائه بشيء من أمر علاقته به ، أو وهناً بهذه العلاقة نفسها ، فمعلوم ان محافظة كل فرد من طاقم الطائرة السفينة على حياة زملائه ـ وهي تطير في أجواء الفضاء ، أو تمخر عباب البحر ـ إنما جزء من محافظة على نفسه ، وأن مسؤوليته إتجاه أي فرد منهم ليست إلا جانباً من مسؤوليته تجاه نفسه ، وأن أي تقصير منهم تجاه أي منهم ستعود سلبياته عليه بالذات ، كما تعود على الآخرين الذي معه عل متن تلك الطائرة أو السفينة .
  ويمكن لكل واحد من الزوجين أن يستشعر هذه الناحية في نفسه ، ويعد نفسه للوفاء بمسؤولياته من خلال هذا العمق بالذات قبل أي عمق آخر ، وبذلك الشعور ، وهذا الإعداد سيجد من طيب الثمار والسعادة ما لا يجده من منطلقات أخرى ، ولا سيما مع الإستجابة لأمر الله ( تعالى ) ، واتباع مناهجه .

الى الفتاة على أعتاب الزوجية   ـ 31 ـ

الفصل الثاني
تكافؤ المسؤولية بين الزوجين

   النقطة الثانية : ما يشير إليه قوله ( تعالى ) ـ في آية سورة البقرة ـ : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) من تكافؤ الحقوق والواجبات بين الزوجين ، والتوازن الكامل في الأخذ والعطاء في هذه العلقة المباركة ، الا حيث تقتضيه وحدة البيت في هذه العلقة ، والا حيث تقتضيه استقامة مسيرته نحو غاياته الألهية الكبرى ، إذ لا بد أن تكون هناك قيادة رشيدة تأخذ بزمام هذه المسيرة ، وتتوحد بها كلمتها ، وينتظم بها قراراها ، ويبتّ فيها بالأمور . . ( وهذا ما سنعود إليه ـ بعون الله ( تعالى ) ـ بشيء من التفصيل فيما بعد ) .
  أما ما سوى هذا فليس هناك إلا التكافؤ ، والتوازن ، والإستقامة في الطريق الإلهي القويم .
  والأساس الذي يعتمده القرآن في تحديد الحقوق والواجبات إنما هو المعروف ) . .
  فالمعروف هو القاعدة التي ينهض عليها كيان هذه العلقة برمته ، ومنها تستمد جذورها وعطائها فلا قهر ، ولا تسلط ، ولا تجبّر ، ولا استغلال ، وإنما هو المعروف ، والمعروف وحده . . فمنه تبدأ المسيرة ، وبه تمضي مجرياتها ، وإليه تنتهي غاياتها . .
  و ( المعروف ) هو السمة العامة التي يطبع الإسلام بها جميع حقائقه ، ويقيم عليها كل مناهجه وأحكامه التي شرعها لتنظيم حياة الإنسان .