احتجاج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على جماعة من المشركين
إحتجاجه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم على اليهود في جواز نسخ الشرائع وفي غير ذلك
عن أبي محمد الحسن العسكري عليهما السلام أنه قال : قلت لأبي علي بن محمد ( عليه السلام ) هل كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم ؟ قال : بلى مرارا كثيرة ، منها ما حكى الله من قولهم : ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك ) إلى قوله ( رجلا مسحورا ) (1) وقالوا:
( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) (2) وقوله عز وجل:
( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) إلى قوله ( كتابا نقرؤه ) (3) ثم قيل له في آخر ذلك: لو كنت نبيا كموسى أنزلت علينا كسفا من السماء ونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسى لموسى ( عليه السلام ) .
قال : وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وأبو البختري ابن هشام وأبو جهل والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن أبي أمية المخزومي، وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه .
فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه ، فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم ، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه ، فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر.
قال أبو جهل : فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته ؟ قال عبد الله بن أبي أمية
---------------------------
(1) الفرقان: 7 ـ 8
(2) الزخرف: 31.
(3) الإسراء: 90 ـ 93
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 27 _
المخزومي: أنا إلى ذلك ، أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا ؟ قال أبو جهل بلى ، فأتوه بأجمعهم فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال : يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا ، زعمت أنك رسول الله رب العالمين، وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي ، فهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده ، ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ، ما أنت يا محمد إلا رجل مسحورا ولست بنبي .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هل بقي من كلامك شئ؟ قال: بلى، لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا أكثره مالا وأحسنه حالا، فهلا أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم أما الوليد بن المغيرة بمكة وأما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هل بقي من كلامك شئ يا عبد الله ؟ فقال : بلى لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه، فإنها ذات أحجار وعروة وجبال ، تكسح أرضها (1) وتحفرها وتجرى فيها العيون، فإننا إلى ذلك محتاجون أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنا فتفجر الأنهار خلالها خلال تلك النخيل والأعناب تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا (2) فإنك قلت لنا ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ) (3) فلعلنا نقول ذلك.
ثم قال : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، تأتي به وبهم وهم لنا مقابلون ، أو
---------------------------
(1) نكسح أرضها : تقشرها من التراب .
(2) كسفا : قطعا قد ركب بعضها على بعض .
(3) الطور : 44 ، والمركوم : المتراكم الذي يجعل بعضه على بعض .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 28 _
يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه وتغنينا به فلعلنا نطغى ، وأنك قلت لنا : ( كلا إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ) (1).
ثم قال : أو ترقى في السماء أي تصعد في السماء ولن نؤمن لرقيك أي لصعودك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فإنه رسولي وصدقوه في مقالة أنه من عندي ، ثم لا أدري يا محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لا أؤمن بك ، بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا إنما سكرت أبصارنا (2) وسحرتنا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا عبد الله أبقي شئ من كلامك ؟ قال : يا محمد أوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ ، ما بقي شئ فقل ما بدا لك وافصح عن نفسك إن كان لك حجة وأتنا بما سألناك به .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شئ تعلم ما قاله عبادك ، فأنزل الله عليه : يا محمد ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ) إلى قوله ( رجلا مسحورا ) (3) ثم قال الله تعالى : ( أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) (4) ثم قال : يا محمد ( تبارك الذي أنشأ جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ) (5) وانزل عليه : يا محمد ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) (6) الآية وأنزل الله عليه : يا محمد ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ) إلى قوله ( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) (7).
---------------------------
(1) العلق: 6 ـ 7
(2) سكرت أبصارنا: غطيت وغشيت عن النظر.
(3) الفرقان: 7 ـ 8.
(4) الإسراء: 48.
(5) الفرقان: 10.
(6) هود : 12.
(7) الأنعام: 8 ـ 9.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 29 _
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا عبد الله أما ذكرت من أني آكل الطعام كما تأكلون وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولا فإنما الأمر لله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو محمود وليس لك ولا لأحد الاعتراض عليه بلم وكيف ، ألا ترى أن الله كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا وأعز بعضا وأذل بعضا وأصح بعضا وأسقم بعضا وشرف بعضا ووضع بعضا ، وكلهم ممن يأكل الطعام، ثم ليس للفقراء أن يقولوا ( لم أفقرتنا وأغنيتهم ) ولا للوضعاء أن يقولوا ( لم وضعتنا وشرفتهم ) ولا للزمنى (1) والضعفاء أن يقولوا ( لم أزمنتنا وأضعفتنا وصححتهم ) ولا للأذلاء أن يقولوا ( لم أذللتنا وأعززتهم ) ولا لقباح الصور أن يقولوا ( لم قبحتنا وجملتهم ) بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين وله في أحكامه منازعين وبه كافرين ، ولكان جوابه لهم : أنا الملك الخافض الرافع المغني المفقر المعز المذل المصحح المسقم وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي والانقياد لحكمي ، فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين وإن أبيتم كنتم بي كافرين وبعقوباتي من الهالكين.
ثم أنزل الله عليه : يا محمد ( قل إنما أنا بشر مثلكم ) يعني آكل الطعام ( ويوحى إلي إنما إلهكم إله واحد ) (2) يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة [ دونكم ].
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وأما قولك ( هذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده ( فإن الله له التدبير والحكم لا يفعل على ظنك وحسبانك ولا باقتراحك بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو محمود ، يا عبد الله إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ويكد (3)
---------------------------
(1) الزمنى: الذين ألم بهم المرض، المرضى.
(2) الكهف: 110.
(3) الكد: الالحاح والشدة في الطلب.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 30 _
نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره ، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها وعبيد وخدم يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ ، أو ما ترى الملوك إذا احتجوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون به ولا يشعرون.
يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر لرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالاته ، فهذا بين في قدرته وفي عجزكم وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا ، ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وأما قولك لي : ( لو كنت نبيا لكان معك ملك صدقك ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا ) فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لاعيان منه ، ولو شاهدتموه ـ بأن يزاد في قوى أبصاركم ـ لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر ، لأنه إنما كان يظهر لكم صورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا خطابه ومراده ، فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأن ما يقوله حق ، بل إنما بعث الله بشرا وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة وأن ذلك شهادة من الله بالصدق له ، ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما [ تعجزون عنه و ] يعجز عنه [ جميع ] البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزا ، ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأن لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها ، ولو أن آدميا طار كطيرانها كان ذلك معجزا ، فإن الله عز وجل سهل عليكم الأمر وجعله بحيث تقوم عليكم حجته وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وأما قولك ( ما أنت إلا رجل مسحور ) فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التميز والعقل فوقكم ، فهل جربتم علي
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 31 _
منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية (1) أو زلة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي، أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته ، وذلك ما قال الله ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجة أكثر من دعاويهم الباطلة التي تبين عليك تحصيل بطلانها .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وأما قولك ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة [ بن مسعود الثقفي ] بالطائف ) فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه وليس هو عز وجل ممن يخاف أحد كما تخافه أنت لما له وحاله فعرفته بالنبوة لذلك ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فتخصه بالنبوة لذلك ، ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم وإنما معاملته بالعدل ، فلا يؤثر إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله إلا الأفضل في طاعته والأجد في خدمته ، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهم تباطأ عن طاعته ، وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال بل هذا المال والحال من تفضله ، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب (2)، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا إلزامه تفضلا لأنه تفضل قبله بنعمه .
ألا تري يا عبد الله كيف أغني واحدا وقبح صورته ، وكيف حسن صورة واحد وأفقره ، وكيف شرف واحدا وأفقره ، وكيف أغنى واحدا ووضعه ، ثم ليس لهذا الغني أن يقول ( هلا أضيف إلى يساري جمال فلان ) ولا للجميل أن
---------------------------
(1) وفي بعض النسخ ( خربة ) وهي العيب والعورة والذلة
(2) الضريبة: التي تؤخذ في الجزية ونحوها ، واللازب : اللازم الشديد اللزوم.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 32 _
يقول ( هلا أضيف إلى جمالي مال فلان ) ، ولا للشريف أن يقول ( هلا أضيف إلى شرفي مال فلان ) ولا للوضيع أن يقول ( هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان ) ، ولكن الحكم لله يقسم كيف يشاء ويفعل كما يشاء ، وهو حكيم في أفعاله محمود في أعماله وذلك قوله تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) قال الله تعالى ( أهم يقسمون رحمة ربك ) يا محمد ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ) (1) فأحوجنا بعضا إلى بعض ، أحوج هذا إلى مال ذلك ، وأحوج ذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته ، فترى أجل الملوك وأغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب: إما سلعة معه ليست معه ، وإما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به ، وإما باب من العلوم والحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير، فهذا الفقير يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني ، وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته .
ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير، ولا للفقير أن يقول هلا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني ، ثم قال الله: ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) ثم قال : يا محمد قل لهم ( ورحمة ربك خير مما يجمعون ) (2) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وأما قولك ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) إلى آخر قلته ، فإنك قد اقترحت على محمد رسول الله أشياء: منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوته ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه ، ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك ، وإنما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها ، فإنما اقترحت هلاكك ورب العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما تقترحون ، ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع
معاذيرك ويضيق عليك سبيل مخالفته ، ويلجئك بحجج الله إلى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد ولا محيص ، ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند متمرد لا تقبل حجة ولا تصغي إلى برهان ، ومن كان كذلك فدواؤه عذاب الله النازل من سمائه أو في جحيمه أو بسيوف أوليائه.
فأما قولك يا عبد الله ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه فإنها ذات أحجار وصخور وجبال تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون فإننا إلى ذلك محتاجون ) فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله، يا عبد الله أرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبيا ؟ قال : لا ، قال رسول الله: أرأيت الطائف التي لك فيها بساتين أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتها وكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها ؟ قال : بلى ، قال : وهل لك في هذا نظراء ؟ قال : بلى ، قال : فصرت أنت وهم بذلك أنبياء ؟ قال : لا ، قال :
فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد لو فعله على نبوته ، فما هو إلا كقولك: لن نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض كما يمشي الناس أو حتى تأكل الطعام كما يأكل الناس.
وأما قولك يا عبد الله ( أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنا وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) أو ليس لك ولأصحابك جنات من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيرا ، أفصرتم أنبياء بهذا ؟ قال : لا ، قال : فما بال اقتراحكم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلت على صدقه ، بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبه لأنه يحتج بما لا حجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم ، ورسول رب العالمين يجل ويرتفع عن هذا.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا عبد الله وأما قولك ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) فإنك قلت وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ، فإن في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم ، فإنما تريد بهذا من
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 34 _
رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم من ذلك ، لا يهلكك ولكنه يقيم عليك حجج الله، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب اقتراح عباده ، لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه من الفساد ، وقد يختلف اقتراحهم ويتضاد حتى يستحيل وقوعه ، والله عز وجل طبيبكم لا يجري تدبيره على ما يلزم به المحال.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم ، وإنما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبه العليل أو كرهه ، فأنتم المرضى والله طبيبكم ، فإن انقدتم لدوائه شفاكم وإن تمردتم عليه أسقمكم.
وبعد فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بينة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه ، إذا ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولاحق ، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين صادق وكاذب فرق .
ثم قال رسول الله: يا عبد الله وأما قولك ( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا يقابلوننا ونعاينهم ) فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به ، وأن ربنا عز وجل ليس كالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرك ويقابل شيئا حتى يؤتى به ، فقد سألتم بهذا المحال، وإنما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم ولا تغني عنكم شيئا ولا عن أحد.
يا عبد الله أو ليس لك ضياع وجنان بالطائف وعقار بمكة وقوام عليها ؟
قال : بلى ، قال أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك ؟
قال : بسفراء ، قال : أرأيت لو قال معاملوك وأكرتك (1) وخدمك لسفرائك لا نصدقكم في هذه السفارة إلا أن تأتونا بعبد الله بن أبي أمية لنشاهده فنسمع ما تقولون عنه شفاها ، كنت تسوغهم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك ؟ قال : لا .
قال : فما الذي يجب على سفرائك أليس أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم
على صدقهم يجب عليهم أن يصدقوهم ؟ قال : بلى ، قال : يا عبد الله أرأيت سفيرك لو أنه لما سمع منهم هذا عاد إليك وقال لك قم معي فإنهم قد اقترحوا على مجيئك معي أليس يكون هذا لك مخالفا وتقول له إنما أنت رسول لا مشير ولا آمر ؟
قال : بلى ، قال : فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوغ لأكرتك ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم ، وكيف أردت من رسول رب العالمين أن يستذم إلى ربه بأن يأمر عليه وينهى وأنت لا تسوغ مثل هذا على رسولك إلى أكرتك وقوامك ، هذه حجة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كل ما اقترحته يا عبد الله.
وأما قولك يا عبد الله ( أو يكون لك بيت من زخرف ـ وهو الذهب ـ ) أما بلغك أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف ؟ قال : بلى ، قال : أفصار بذلك نبيا ؟
قال : لا ، قال : فكذلك لا يوجب لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبوة لو كان له بيوت ، ومحمد لا يغتنم جهلك بحجج الله.
وأما قولك يا عبد الله ( أو ترقى في السماء ) ثم قلت ( ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها ، وإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول، ثم قلت ( حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من بعد ذلك ثم لا أدري أؤمن بك أو لا أؤمن بك ) فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك ، فلا دواء لك إلا تأديبه لك على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية، وقد أنزل الله علي حكمة بالغة جامعة لبطلان كل ما اقترحته فقال عز وجل : ( قل ) يا محمد ( سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) (1) ما أبعد ربي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال مما يجوز ومما لا يجوز ، وهل كنت إلا بشرا رسولا لا يلزمني إلا إقامة حجة الله التي أعطاني ، وليس لي أن آمر على ربي ولا أنهى ولا أشير فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه.
---------------------------
(1) الإسراء: 93
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 36 _
فقال أبو جهل : يا محمد هاهنا واحدة ألست زعمت أن قوم موسى احترقوا بالصاعقة لما سألوه أن يريهم الله جهرة ؟ قال : بلى ، قال : فلو كنت نبيا لاحترقنا نحن أيضا، فقد سألنا أشد مما سأل قوم موسى ، لأنهم كما زعمت قالوا ( أرنا الله جهرة ) ونحن نقول : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا نعاينهم .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا جهل أما علمت قصة إبراهيم الخليل لما رفع في الملكوت، وذلك قول ربي ، ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) (1) قوي الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين ، فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما فأوحى الله إليه : يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فإني أنا الغفور الرحيم الجبار الحليم لا يضرني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم ، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك ، فاكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فإنما أنت عبد نذير لا شريك في الملك ولا مهيمن علي ولا عبادي ، وعبادي معي بين خلال ثلاث : إما تابوا إلي فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم ، وإما كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريات مؤمنون فارفق بالآباء الكافرين وأتأني بالأمهات الكافرات وارفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من أصلابهم فإذا تزايلوا حل بهم عذابي وحاق بهم بلائي ، وإن لم يكن هذا ولا هذا فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم مما تريده بهم ، فإن عذابي لعبادي على حسب جلالي وكبريائي ، يا إبراهيم خل بيني وبين عبادي فأنا أرحم بهم منك ، وخل بيني وبين عبادي فإني أنا الجبار الحليم العلام الحكيم أدبرهم بعلمي وأنفذ فيهم قضائي وقدري .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا جهل إنما دفع عنك العذاب لعلمه بأنه سيخرج من صلبك ذرية طيبة عكرمة ابنك ، وسيلي من أمور المسلمين ما إن أطاع
---------------------------
(1) الأنعام: 75.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 37 _
الله ورسوله فيه كان عند الله جليلا وإلا فالعذاب نازل عليك، وكذلك سائر قريش السائلين لما سألوا من هذا إنما أمهلوا لأن الله علم أن بعضهم سيؤمن بمحمد وينال به السعادة ، فهو لا يقطعه عن تلك السعادة ولا يبخل بها عليه ، أو من يولد منه مؤمن فهو ينظر أباه لإيصال ابنه إلى السعادة، ولولا ذلك لنزل العذاب بكافتكم ، فانظر إلى السماء ، فنظر فإذا أبوابها مفتحة وإذا النيران نازلة منها مسامتة لرؤوس القوم (1) تدنو منهم حتى وجدوا حرها بين أكتافهم، فارتعدت فرائص (2) أبي جهل والجماعة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لاتروعنكم فإن الله لا يهلككم بها وإنما أظهرها عبرة ، ثم نظروا إلى السماء وإذا قد خرج من ظهور الجماعة أنوار قابلتها ورفعتها ودفعتها حتى أعادتها في السماء كما جاءت منها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن بعض هذه الأنوار أنوار من قد علم الله أنه سيسعده بالإيمان بي منكم من بعد، وبعضها أنوار ذرية طيبة ستخرج من بعضكم ممن لا يؤمن وهم يؤمنون.
وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال : قيل لأمير المؤمنين يا أمير المؤمنين هل كان لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) آية مثل آية موسى في رفعه الجبل فوق رؤوس الممتنعين عن قبول ما أمروا به ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أي والذي بعثه الله بالحق نبيا ما من آية كانت لأحد من الأنبياء من لدن آدم إلى أن انتهى إلى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا وقد كان لمحمد مثلها أو أفضل منها ، ولقد كان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نظير هذه الآية إلى آيات آخر ظهرت له ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما أظهر بمكة دعوته وأبان عن الله تعالى مراده رمته العرب عن قسي عداوتها بضروب مكائدهم ، ولقد قصدته يوما لأني كنت أول الناس إسلاما، بعث يوم الاثنين وصليت معه يوم الثلاثاء، وبقيت معه أصلي سبع سنين حتى دخل نفر في الإسلام وأيد الله تعالى دينه من بعد ، فجاء قوم من المشركين فقالوا له : يا محمد تزعم
---------------------------
(1) مسامتة لرؤوس القوم: محاذية لرؤوسهم .
(2) الفرائص جمع الفريصة، وهي لحمة بين الثدي والكتف ترعد عند الفزع
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 38 _
أنك رسول رب العالمين، ثم إنك لا ترضى بذلك حتى تزعم أنك سيدهم وأفضلهم ، فلئن كنت نبيا فأتنا بآية كما تذكره من الأنبياء قبلك : مثل نوح الذي جاء بالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين ، وإبراهيم الذي ذكرت أن النار جعلت عليه بردا وسلاما ، وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رؤوس أصحابه حتى انقادوا لما دعاهم إليه صاغرين داخرين ، وعيسى الذي كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، وصار هؤلاء المشركين فرقا أربعة : هذه تقول أظهر لنا آية نوح ، وهذه تقول أظهر لنا آية موسى ، وهذه تقول أظهر لنا آية إبراهيم، وهذه تقول أظهر لنا آية عيسى .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنما أنا نذير [ وبشير ] مبين أتيتكم بآية مبينة هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم ، فهو حجة بينة عليكم ، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربي وما على الرسول إلا البلاغ المبين إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه ، وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون الذين لا يعلمون هل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون .
فجاء جبرئيل فقال: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم ، ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك ، فقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح عليه السلام: امضوا إلى جبل أبي قبيس ، فإذا بلغتم سفحه فسترون آية نوح ، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه ، وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم ( عليه السلام ) امضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة ، فسترون آية إبراهيم في النار، فإذا غشيكم النار فسترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار، وقل للفريق الثالث [ المقترحين لآية موسى : امضوا إلى ظل الكعبة ] فسترون آية موسى ، وسينجيكم هناك عمي حمزة ، وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل :
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 39 _
وأنت يا أبا جهل فاثبت عندي ليتصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاث، فإن الآية التي اقترحتها تكون بحضرتي .
فقال أبو جهل للفرق الثلاث: قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس والثاني إلى صحراء ملساء والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مؤمنين ، وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الإيمان بالله فاستمهل أبو جهل إلى أن يجيء الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسوم بمفاخر الفاطمية تركنا ذكره هاهنا طلبا للايجاز والاختصار.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدوا عيانا وهم مؤمنين بالله وبرسوله قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأبي جهل:
هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتك بما شاهدت ، فقال أبو جهل : لا أدري أصدق هؤلاء أم كذبوا أم حقق لهم ذلك أم خيل إليهم، فإن رأيت أنا ما اقترحته عليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك وإلا فليس يلزمني تصديق هؤلاء على كثرتهم.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ أسلاف أعدائك ، وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها ، وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر من شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه إلا إذا كان بأزائهم من يكذبهم ويخبر بضد أخبارهم، ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا ، وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده .
ثم أخبره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكل وادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بما فعل بها أبو جهل وغير ذلك على ما جاء به في هذا الخبر، فلم يصدقه أبو جهل
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 40 _
في ذلك كله بل كان يكذبه وينكر جميع ما كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخبره به من ذلك ، إلى أن قال النبي لأبي جهل: أما كفاك ما شاهدت أم تكون آمنا من عذاب الله.
قال أبو جهل : إني لأظن أن هذا تخييل وإيهام ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فهل تفرق بين مشاهدتك لها وسماعك لكلامها ـ يعني الدجاجة المشوية التي أنطقها الله له ـ وبين مشاهدتك لنفسك ولسائر قريش والعرب وسماعك كلامهم ؟ قال أبو جهل : لا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فما يدريك إذا أن جميع ما تشاهد وتحس بحواسك تخييل ، قال أبو جهل : ما هو تخييل ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ولا هذا تخييل ، وإلا فكيف تصحح أنك ترى في العالم شيئا أوثق منه - تمام الخبر.
رسالة لأبي جهل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما هاجر إلى المدينة والجواب عنها بالرواية عن أبي محمد الحسن العسكري ( عليه السلام )
وهي أن قال : يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة ورمت بك إلى يثرب ، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك إلى أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار جهنم وتعديك طورك ، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك ودفع ضرك وبلائك ، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك ، فيلجئه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك ، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك ، واصطلموهم (1) باصطلامهم لك وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب كما يأتون على أموالك وعيالك ، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح.
وأديت هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل ، وهكذا أمر الرسول ليجبن المؤمنين ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للرسول : قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك ؟ قال : بلى ، قال : فاسمع الجواب ، إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني ، وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق، لن يضر محمدا من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه، قل له : يا أبا جهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن، إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوما ، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي، وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان ـ وذكر عددا من قريش ـ في قليب بدر مقتولين أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين وأحملهم على الفداء الثقيل.
ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الاخلاط: ألا تحبون أن أريكم [ مصارع هؤلاء المذكورين و ] مصرح كل واحد منهم [ قالوا :
بلى ، قال : ] هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر وهناك البلاء الأكبر لأضع قدمي على مواضع مصارعهم ، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة ولا قليلا ولا كثيرا فلم يخف ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وحده قال : نعم بسم الله، فقال الباقون: نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ولا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لسائر اليهود: فأنتم ماذا تقولون ؟
فقالوا : نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل (1) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا نصب لكم في المسير إلى هناك اخطوا خطوة واحدة فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى
---------------------------
(1) المحال من الكلام: ما عدل عن وجهه.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 42 _
هناك ، قال المسلمون: صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلنشرف بهذه الآية، وقال الكافرون والمنافقون : سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد ويصير دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه .
قال : فخطا القوم خطوة ثم الثانية فإذا هم عند بئر بدر ، فتعجبوا فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : اجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراع ، فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها قال : هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري ويجهز عليه عبد الله بن مسعود أضعف أصحابي.
ثم قال : اذرعوا من البئر من جانب آخر ثم من جانب آخر ثم من جانب آخر كذا وكذا ذراعا وذراعا وذكر أعداد الأذرع مختلفة ، فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هذا مصرع عتبة ، وهذا مصرع شيبة ، وذاك مصرع الوليد ، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم [ وأسماء آبائهم ]، وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم ونسب الموالي منهم إلى مواليهم .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أوقفتم على ما أخبرتكم به ؟ قالوا : بلى ، قال :
إن ذلك [ من الله ] لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوما في اليوم التاسع والعشرين وعدا من الله مفعولا وقضاءا حتما لازما ـ تمام الخبر.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم ، فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الكتابة أذكر لكم ، فقالوا : يا رسول الله فأين الدواة والكتف ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ذلك للملائكة ، ثم قال : يا ملائكة ربي اكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفا من ذلك .
ثم قال : يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها واخرجوها واقرأوها ،
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 43 _
فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة قرأوها وإذا فيها ذكر ما قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذلك سواء لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر ، فقال :
أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم وشرفا للمؤمنين منكم وحجة على أعدائكم فكانت معهم ، فلما كان يوم بدر جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يزيد ولا ينقص ، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبها الملائكة لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر ، فقبل المسلمون ظاهرهم ووكلوا باطنهم إلى خالقهم .
قال أبو محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : لما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمكة أمره الله تعالى أن يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة ، فلما كان بالمدينة وكان متعبدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا ، وجعل قوم من مردة اليهود يقولون : والله ما درى محمد كيف يصلي حتى صار يتوجه إلى قبلتنا ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا ، فاشتد ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما اتصل به عنهم وكره قبلتهم وأحب الكعبة فجاءه جبرئيل عليه السلام فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا جبرئيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلتهم ، فقال جبرئيل عليه السلام: فاسأل ربك أن يحولك إليها فإنه لا يردك عن طلبتك ولا يخيبك من بغيتك ، فلما استتم ؟
دعاءه صعد جبرئيل ثم عاد من ساعته فقال: اقرأ يا محمد ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) (1) الآيات.
---------------------------
(1) البقرة
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 44 _
فقال اليهود عند ذلك: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأجابهم الله أحسن جواب فقال ( قل لله المشرق والمغرب ) وهو يملكهما وتكليفه التحويل إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) (1) وهو أعلم بمصلحتهم وتؤديهم طاعتهم إلى جنات النعيم.
قال أبو محمد ( عليه السلام ) : وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالوا :
يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربعة عشر سنة ثم تركتها الآن، أفحقا كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق باطل ، أو باطلا كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل ؟
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : بل ذلك كان حقا وهذا حق ، يقول الله ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) إذا عرف صلاحكم أيها العباد في استقبالكم المشرق أمركم به ، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به ، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به ، فلا تنكروا تدبير الله في عباده وقصده إلى مصالحكم .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لقد تركتم العمل يوم السبت ثم عملتم بعده سائر الأيام، ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده ، أفتركتم الحق إلى الباطل أو الباطل إلى الحق أو الباطل إلى الباطل أو الحق إلى الحق ؟ قولوا كيف شئتم فهو قول محمد وجوابه لكم ، قالوا : بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق ثم قبلة الكعبة في وقته حق .
فقالوا له : يا محمد أفبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حتى نقلك إلى الكعبة ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما بدا له عن ذلك فإنه العالم بالعواقب والقادر على المصالح لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم جل عن ذلك ، ولا يقع عليه أيضا مانع يمنعه من مرادة ، وليس يبدو
---------------------------
(1) البقرة: 142.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 45 _
إلا لمن كان هذا وصفه ، وهو عز وجل يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا .
ثم قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أيها اليهود أخبروني عن الله أليس يمرض ثم يصح ويصح ثم يمرض أبدا له في ذلك ، أليس يحيي ويميت أبدا له في كل واحد من ذلك ؟ قالوا : لا ، قال : فكذلك الله تعبد نبيه محمدا بالصلاة إلى الكعبة بعد أن كان تعبده بالصلاة إلى بيت المقدس وما بدا له في الأول.
ثم قال : أليس الله يأتي بالشتاء في أثر الصيف والصيف في أثر الشتاء، أبدا له في كل واحد من ذلك ؟ قالوا : لا ، قل : فكذلك لم يبدله في القبلة.
قال : ثم قال أليس قد ألزمكم في الشتاء أن تحترزوا من البرد بالثياب الغليظة ، وألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحر، أفبدا له في الصيف حين أمركم بخلاف ما كان أمركم به في الشتاء ؟ قالوا : لا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فكذلكم الله تعبدكم في وقت لصلاح يعلمه بشئ ثم تعبدكم في وقت آخر لصلاح يعلمه بشئ آخر فإذا أطعتم الله في الحالتين استحققتم ثوابه ، فأنزل الله تعالى ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) (1) يعني إذا توجهتم بأمره فثم الوجه الذي تقصدون منه الله وتأملون ثوابه .
ثم قال رسول الله: يا عباد الله أنتم كالمرضى والله رب العالمين كالطبيب ، فصلاح المرضى فيما يعمله الطبيب ويدبره به لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه .
ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين.
فقيل : يا بن رسول الله فلم أمر بالقبلة الأولى ؟ فقال : لما قال الله تعالى ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) وهي بيت المقدس ( إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) (2) إلا لنعلم ذلك منه وجودا بعد أن علمناه سيوجد ، وذلك إن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبعي محمد ممن خالفه باتباع القبلة التي كرهها ومحمد يأمر بها ، ولما كان هوى أهل المدينة
في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يوافق محمدا فيما يكرهه ، فهو مصدقه وموافقه .
ثم قال : ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) إن كان التوجه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت لكبيرة إلا على من يهدي الله، فعرف أن لله أن يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلي طاعته في مخالفة هواه.
وقال أبو محمد ( عليه السلام ) : قال جابر بن عبد الله الأنصاري: سأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبد الله بن صوريا غلام يهودي أعور تزعم اليهود أنه أعلم يهودي بكتاب الله وعلوم أنبيائه عن مسائل كثيرة يعنته فيها (1) فأجابه عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما لم يجد إلى إنكار شئ منه سبيلا .
فقال له : يا محمد من يأتيك بهذه الأخبار عن الله ؟ قال : جبرئيل ، قال : لو كان غيره يأتيك بها لآمنت بك ولكن جبرئيل عدونا من بين الملائكة، فلو كان ميكائيل أو غيره سوى جبرئيل يأتيك لآمنت بك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لم أتخذتم جبرئيل عدوا ؟ قال: لأنه ينزل البلاء والشدة على بني إسرائيل ، ودفع دانيال عن قتل بخت نصر (2) حتى قوى أمره وأهلك بني إسرائيل، وكذلك كل بأس وشدة لا ينزلها إلا جبرئيل، وميكائيل يأتينا بالرحمة .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ويحك أجهلت أمر الله وما ذنب جبرئيل إلا أن أطاع الله فيما يريده بكم ؟ أرأيتم ملك الموت هل هو عدوكم وقد وكله الله بقبض أرواح الخلق ، أرأيتم الآباء والأمهات إذا أوجروا الأولاد (3) الدواء
---------------------------
(1) يعنته فيها : يطلب زلته ويشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه
(2) بخت أصله بوخت وهو بمعنى ابن، نصر اسم صنم كان قد وجد عنده ولم يعرف له أب فنسب إليه ، وخرب بيت المقدس وقتل من اليهود مقتلة عظيمة عندما أصبح ملكا .
(3) أوجره: جعل الوجور في فيه ، والوجور : الدواء يجعل في وسط الفم.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 47 _
الكريهة لمصالحهم أيجب أن يتخذهم أولادهم أعداء من أجل ذلك ، لا ولكنكم بالله جاهلون وعن حكمه غافلون ، أشهد أن جبرئيل وميكائيل بأمر الله عاملان وله مطيعان ، وأنه لا يعادي أحدهما إلا من عادى الآخر، وأن من زعم أنه يحب أحدهما ويبغض الآخر فقد كفر وكذب ، وكذلك محمد رسول الله وعلي أخوان كما أن جبرئيل وميكائيل إخوان فمن أحبهما فهو من أولياء الله ومن أبغضهما فهو من أعداء الله، ومن أبغض أحدهما وزعم أنه يحب الآخر فقد كذب وهما منه بريئان والله تعالى وملائكته وخيار خلقه منه برآء .
وقال أبو محمد ( عليه السلام ) : كان سبب نزول قوله تعالى : ( قل من كان عدوا لجبرئيل ) الآيتين (1) ما كان من اليهود أعداء الله من قول سئ في جبرئيل وميكائيل ، ومن كان من أعداء الله النصاب من قول أسوأ منه في الله وفي جبرئيل وميكائيل وسائر ملائكة الله، أما ما كان من النصاب فهو أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما كان لا يزال يقول في علي ( عليه السلام ) الفضائل التي خصه الله عز وجل بها والشرف الذي نحله الله (2) تعالى وكان في كل ذلك يقول أخبرني به جبرئيل عليه السلام عن الله، ويقول في بعض ذلك جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ويفتخر جبرئيل على ميكائيل في أنه عن يمين علي عليه السلام الذي هو أفضل من اليسار كما يفتخر نديم ملك عظيم في الدنيا يجلسه الملك عن يمينه على النديم الآخر الذي يجلسه على يساره ، ويفتخران على إسرافيل الذي خلفه بالخدمة وملك الموت الذي أقامه بالخدمة ، وأن اليمين واليسار أشرف من ذلك ، كافتخار حاشية الملك على زيادة قرب محلهم من ملكهم .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول في بعض أحاديثه: إن الملائكة أشرفها عند الله أشدها لعلي بن أبي طالب عليه السلام حبا ، وأنه قسم الملائكة فيما بينها والذي شرف
---------------------------
(1) البقرة: 97 ـ 98
(2) نحله الله: وهب له الله، وفي بعض النسخ ( أهله الله ) ومعناه : رآه أهلا لذلك .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 48 _
عليا على جميع الورى بعد محمد المصطفى ، ويقول مرة : إن ملائكة السماوات والحجب ليشتاقون إلى رؤية علي بن أبي طالب عليه السلام كما تشتاق الوالدة الشفيقة إلى ولدها البار الشفيق آخر من بقي عليها بعد عشرة دفنتهم ، فكان هؤلاء النصاب يقولون : إلى متى يقول محمد جبرئيل وميكائيل والملائكة كل ذلك تفخيم لعلي وتعظيم لشأنه ، ويقول الله تعالى لعلي خاص من دون سائر الخلق برئنا من رب ومن ملائكة ومن جبرئيل ومن ميكائيل هم لعلي بعد محمد مفضلون وبرئنا من رسل الله الذين هم لعلي بعد محمد مفضلون .
وأما ما قاله اليهود فهو إن اليهود أعداء الله، لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة أتوه بعبد الله بن صوريا فقال: يا محمد كيف نومك فإنا قد أخبرنا عن نوم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي يأتي في آخر الزمان ؟ فقال : تنام عيني وقلبي يقظان .
قال : صدقت يا محمد .
ثم قال : فاخبرني يا محمد الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والشعر فمن المرأة ، قال : صدقت يا محمد.
ثم قال : يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شئ ويشبه أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أيهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له ، قال : صدقت يا محمد ، فاخبرني عمن لا يولد له ومن يولد له ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا مغرت النطفة لم يولد له ـ أي إذا حمرت وكدرت ـ فإذا كانت صافية ولد له .
فقال : أخبرني عن ربك ما هو ؟ فنزلت ( قل هو الله أحد ) إلى آخرها.
فقال ابن صوريا : صدقت خصلة بقيت لي إن قلتها آمنت بك واتبعتك : أي ملك يأتيك بما تقوله عن الله ؟ قال : جبرئيل ، قال ابن صوريا : ذاك عدونا من بين الملائكة ينزل بالقتل والشدة والحرب ورسولنا ميكائيل يأتي بالسرور والرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك لأن ميكائيل كان مسدد ملكنا
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 49 _
وجبرئيل كان مهلك ملكنا ، فهو عدونا لذلك .
فقال له سلمان الفارسي رضي الله عنه : وما بدء عداوته لكم ؟ قال : نعم يا سلمان عادانا مرارا كثيرة ، وكان من أشد ذلك علينا أن الله أنزل على أنبيائه أن بيت المقدس يخرب على يد رجل يقال ( بخت نصر ) وفي زمانه ، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه ، والله يحدث الأمر بعد الأمر فيمحو ما يشاء ويثبت ، فلما بلغنا ذلك الخبر الذي يكون فيه هلاك بيت المقدس بعث أوائلنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل وأفاضلهم نبيا كان يعد من أنبيائهم يقال له ( دانيال ) في طلب بخت نصر ، ليقتله فحمل معه وقر مال (1) لينفقه في ذلك ، فلما انطلق في طلبه لقيه ببابل غلاما ضعيفا مسكينا ليس له قوة ولا منعة ، فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبرائيل وقال لصاحبنا : إن كان ربكم هو الذي أمر بهلاككم فإن الله لا يسلطك عليه وإن لم يكن هذا فعلى أي شئ تقتله ، فصدقه صاحبنا وتركه ورجع إلينا فأخبرنا بذلك ، وقوى بخت نصر وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوا وميكائيل عدو لجبرئيل .
فقال سلمان : يا بن صوريا فبهذا العقل المسلوك به غير سبيله ظلمتم ، أرأيتم أوائلكم كيف بعثوا من يقتل بخت نصر وقد أخبر الله تعالى في كتبه على ألسنة رسله أنه يملك ويخرب بيت المقدس أرادوا تكذيب أنبياء الله في إخبارهم أو اتهموهم في أخبارهم أو صدقوهم في الخبر عن الله ومع ذلك أرادوا مغالبة الله، هل كان هؤلاء ومن وجهوه إلا كفارا بالله ، وآي عداوة يجوز أن يعتقد لجبرئيل وهو يصده عن مغالبة الله عز وجل وينهى عن تكذيب خبر الله تعالى.
فقال ابن صوريا : قد كان الله تعالى أخبر بذلك على ألسن أنبيائه ولكنه يمحو ما يشاء ويثبت ، قال سلمان : فإذا لا تثقون بشئ مما في التوراة من الأخبار عما مضى وما يستأنف فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت ، وإذا لعل الله قد كان عزل موسى وهارون عن النبوة وأبطلا في دعواهما لأن الله يمحو ما يشاء ويثبت ، ولعل
كلما أخبراكم به عن الله أنه يكون لا يكون وما أخبراكم به أنه لا يكون لعله يكون ، وكذلك ما أخبراكم أنه لم يكن لعله كان ، ولعل ما وعده من الثواب يمحوه ولعل ما توعد به من العقاب يمحوه فإنه يمحو ما يشاء ويثبت ، إنكم جهلتم معنى يمحو الله ما يشاء ويثبت فلذلك أنتم بالله كافرون ولأخباره عن الغيوب مكذبون وعن دين الله منسلخون .
ثم قال سلمان : فإني أشهد أنه من كان عدوا لجبرئيل فإنه عدو لميكائيل وأنهما جميعا عدوان لمن عاداهما مسالمان لمن سالمهما ، فأنزل الله تعالى عند ذلك موافقا لقول سلمان : ( قل من كان عدوا لجبريل ) في مظاهرته لأولياء الله على أعداء الله ونزوله بفضائل علي ( عليه السلام ) ولي الله من عند الله ( فإنه نزله ) فإن جبرئيل نزل هذا القرآن ( على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) من سائر كتب الله ( وهدى ) من الضلالة ( وبشرى للمؤمنين ) (1) بنبوة محمد وولاية علي عليه السلام ومن بعده من الأئمة [ الاثنى عشر ] بأنهم أولياء الله حقا إذا ماتوا على موالاتهم لمحمد وعلي وآلهما الطيبين.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا سلمان إن الله صدق قيلك ووافق رأيك ، وإن جبرئيل عن الله تعالى يقول : يا محمد سلمان والمقداد أخوان متصافيان في ودادك ووداد علي أخيك ووصيك وصفيك ، وهما في أصحابك كجبرائيل وميكائيل في الملائكة عدوان لمن أبغض أحدهما وليان لمن والى محمدا وعليا عدوان لمن عادى محمدا وعليا وأولياء هما ، ولو أحب أهل الأرض سلمان والمقداد كما تحبهما ملائكة السماوات والحجب والكرسي والعرش لمحض ودادهما لمحمد وعلي وموالاتهما لأوليائهما ومعاداتهما لأعدائهما لما عذب الله أحدا منهم بعذاب البتة.
وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: لما نزلت هذه الآية ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) (2) في حق اليهود والنواصب فغلظ على اليهود ما وبخهم به رسول الله، فقال جماعة من رؤسائهم وذوي الألسن