الفهرس العام

احتجاج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الغدير على الخلق كلهم وفي غيره من الأيام بولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ومن بعده من ولده من الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.



  والبيان منهم : يا محمد إنك تهجونا وتدعي على قلوبنا ما الله يعلم منها خلافه ، إن فيها خيرا كثيرا نصوم ونتصدق ونواسي الفقراء.
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنما الخير ما أريد به وجه الله وعمل على ما أمر الله تعالى ، وأما ما أريد به الرياء والسمعة ومعاندة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإظهار الغنى له والتمالك والتشرف عليه فليس بخير بل هو الشر الخالص ووبال على صاحبه ويعذبه الله به أشد العذاب.
  فقالوا له : يا محمد أنت تقول هذا ونحن نقول بل ما نلفقه إلا لإبطال أمرك ودفع رياستك ولتفريق أصحابك عنك وهو الجهاد الأعظم نأمل به من الله الثواب الأجل العظيم، فأقل أحوالنا إنك تساوينا في الدعاوى فأي فضل لك علينا ؟
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا إخوة اليهود إن الدعاوى يتساوى فيها المحقون والمبطلون ، ولكن حجج الله ودلائله تفرق بينهم فتكشف عن تمويه المبطلين وتبين عن حقائق المحقين ، ورسول الله محمد لا يغتم بجهلكم ولا يكلفكم التسليم له بغير حجة ، ولكن يقيم عليكم حجة الله التي لا يمكنكم دفاعها ولا تطيقون الامتناع عن موجبها ، ولو ذهب محمد ويريكم آية من عنده لشككتم وقلتم إنه متكلف مصنوع محتال فيه معمول أو متواطئ عليه ، وإذا اقترحتم أنتم فأراكم ما تقترحون لم يكن لكم أن تقولوا معمول أو متواطأ عليه أو متأت بحيلة أو مقدمات ، فما الذي تقترحون فهذا رب العالمين قد وعدني أن يظهر لكم ما تقترحون ليقطع معاذير الكافرين منكم ويزيد في بصائر المؤمنين منكم .
  قالوا : قد أنصفتنا يا محمد فإن وفيت بما وعدت من نفسك من الإنصاف فأنت أول راجع عن دعواك للنبوة وداخل في غمار الأمة ومسلم لحكم التوراة لعجزك عما نقترحه عليك وظهور باطل دعواك فيما ترومه من حجتك .
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الصدق ينبئ عنكم لا الوعيد ، اقترحوا ما تقترحون ليقطع معاذيركم فيما تسألون ، فقالوا له : يا محمد زعمت أنه ما في قلوبنا شئ من مواساة الفقراء ومعاونة الضعفاء والنفقة في إبطال الباطل وإحقاق

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 52 _

  الحق وأن الأحجار ألين من قلوبنا وأطوع لله منا ، وهذه الجبال بحضرتنا فهلم بنا إليها أو إلى بعضها فاستشهدها على تصديقك وتكذيبنا ، فإن نطقت بتصديقك فأنت المحق يلزمنا اتباعك وإن نطقت بتكذيبك أو صمتت فلم ترد جوابك فاعلم بأنك المبطل في دعواك المعاند لهواك .
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم هلموا بنا إلى أيما جبل شئتم استشهدوه ليشهد لي عليكم، فخرجوا إلى أوعر جبل رأوه فقالوا : يا محمد هذا الجبل فاستشهده .
  فقال رسول الله للجبل : إني أسألك بجاه محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم خفف الله العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه وهم خلق كثير لا يعرف عددهم غير الله عز وجل ، وبحق محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم تاب الله على آدم وغفر خطيئته وأعاده إلى مرتبته ، وبحق محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم وسؤال الله بهم رفع إدريس في الجنة مكانا عليا لما شهدت لمحمد بما أودعك الله بتصديقه على هؤلاء اليهود في ذكر قساوة قلوبهم وتكذيبهم في جحدهم لقول محمد رسول الله.
  فتحرك الجبل وتزلزل وفاض عنه الماء ونادى : يا محمد أشهد أنك رسول رب العالمين وسيد الخلق أجمعين، وأشهد أن قلوب هؤلاء اليهود كما وصفت أقسى من الحجارة لا يخرج منها خير كما قد يخرج من الحجارة الماء سيلا أو تفجرا ، وأشهد أن هؤلاء كاذبون عليك فيما به يقرفونك من الفرية على رب العالمين.
  ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وأسألك أيها الجبل أمرك الله بطاعتي فيما ألتمسه منك بجاه محمد وآله الطيبين الذين بهم نجى الله نوحا من الكرب العظيم وبرد الله النار على إبراهيم وجعلها عليه بردا وسلاما ومكنه في جوف النار على سرير وفراش وثير لم ير تلك الطاغية مثله لأحد من ملوك الأرض أجمعين، وأنبت حواليه من الأشجار الخضرة النظرة النزهة وعما حوله من أنواع التور مما لا يوجد إلا في فصول أربعة من جميع السنة ؟
  قال الجبل: بلى أشهد لك يا محمد بذلك ، وأشهد أنك لو اقترحت على

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 53 _

  ربك أن يجعل رجال الدنيا قرودا وخنازير لفعل ، أو يجعلهم ملائكة لفعل ، أو يقلب النيران جليدا أو الجليد نيرانا لفعل أو يهبط السماء إلى الأرض أو يرفع الأرض إلى السماء لفعل ، أو يصير أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلها صرة كصرة الكيس لفعل ، وأنه قد جعل الأرض والسماء طوعك ، والجبال والبحار تتصرف بأمرك ، وسائر ما خلق من الرياح والصواعق وجوارح الإنسان وأعضاء الحيوان لك مطيعة وما أمرتها به من شئ ائتمرت .
  فقالت اليهود: يا محمد علينا تلتبس وتشبه ، قد أجلست مردة من أصحابك خلف صخور من هذا الجبل فهم ينطقون بهذا الكلام ونحن لا ندري أنسمع من الرجال أم من الجبل، لا يغتر بمثل هذا إلا ضعفاؤك الذين تبجبج في عقولهم (1) فإن كنت صادقا فتنح عن موضعك هذا إلى ذلك القرار وأمر هذا الجبل أن ينقلع من أصله فيسير إليك إلى هناك ، فإذا حضرك ونحن نشاهده فأمره أن ينقطع نصفين من ارتفاع سمكه ثم يرتفع السفلى من قطعيته فوق العليا وتنخفض العليا تحت السفلى، فإذا تجعل أصل الجبل قلته وقلته أصله لنعلم أنه من الله، لا يتفق مثله بمواطأة ولا بمعاونة مموهين متمردين .
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ وأشار إلى حجر فيه قدر خمسة أرطال ـ فقال :
  يا أيها الحجر تدحرج ، فتدحرج ثم قال لمخاطبة : خذه وقربه من أذنك فسيعيد عليك ما سمعت ، فإن هذا جزء من ذلك الجبل، فأخذه الرجل فأدناه إلى إذنه فنطق الحجر بمثل ما نطق به الجبل أولا من تصديق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيما ذكره عن قلوب اليهود ومما غبر به (2) من أن نفقاتهم في دفع أمر محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باطل ووبال عليهم.
  فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أسمعت هذا أخلف هذا الحجر أحد يكلمك ويوهمك أن الحجر يكلمك ؟ قال : فأتني بما اقترحت في الجبل فتباعد رسول الله

---------------------------
(1) تبجبج في عقولهم: تلعب فيها ، يقال ( بجبج الصبي ) إذا لاعبه وسكنه عند المناغاة .
(2) غبر به : مضى به وذهب .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 54 _

  ( صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضاء واسع ثم نادى الجبل وقال: يا أيها الجبل بحق محمد وآله الطيبين بجاههم ومسائلة عباد الله بهم أرسل الله على قوم عاد ريحا صرصرا عاتية لنزع الناس كأنهم أعجاز نخل خاوية ، وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة هائلة في قوم صالح حتى صاروا كهشيم المحتضر لما انفصلت من مكانك بإذن الله وجئت إلى حضرته هذه ـ ووضع يده على الأرض بين يديه .
  فتزلزل الجبل وصار كالفارع الهملاج (1) حتى دنى من إصبعه أصله فلزق بها ووقف ونادى : ها أنا سامع لك مطيع يا رسول رب العالمين وإن رغمت أنوف هؤلاء المعاندين مرني بأمرك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن هؤلاء اقترحوا على أن آمرك أن تنقلع من أصلك فتصير نصفين ثم ينحط أعلاك ويرتفع أسفلك فتصير ذروتك أصلك وأصلك ذروتك ، فقال الجبل : أتأمرني بذلك يا رسول رب العالمين ؟ قال : بلى فانقطع نصفين وانحط أعلاه إلى الأرض وارتفع أسفله فوق أعلاه فصار فرعه أصله وأصله فرعه ، ثم نادى الجبل: يا معاشر اليهود هذا الذي ترون دون معجزات موسى الذين تزعمون أنكم به مؤمنون ؟ .
  فنظر اليهود بعضهم إلى البعض، فقال بعضهم : ما عن هذا محيص ، وقال آخرون منهم : هذا رجل منجوت مؤتى له ما يريد ـ والمنجوت يتأتى له العجائب ـ فلا يغرنك ما تشاهدون ، فناداهم الجبل: يا أعداء الله قد أبطلتم بما تقولون نبوة موسى ، هلا قلتم لموسى إن قلب العصا ثعبانا وانفلاق البحر طرقا ووقوف الجبل كالظلة فوقكم إنما تأتي لك لأنك مؤتى لك يأتيك جدك بالعجائب فلا يغرنا ما نشاهده ، فألقمتهم الجبال بمقالتها والصخور ولزمتهم حجة رب العالمين.
  وعن معمر بن راشد قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : أتى يهودي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال : يا يهودي ما حاجتك ؟
  فقال : أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله عز وجل وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وظله بالغمام ؟

---------------------------
(1) الفارع: الصاعد المرتفع، والهملاج: السريع السير.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 55 _

  فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول : إن آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال ( اللهم إني سألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي ) فغفرها الله له ، وإن نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال ( اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لم أنجيتني من الغرق ) فأنجاه الله عز وجل ، وإن إبراهيم لما ألقي في النار قال ( اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أمنتني ) فجعلها بردا وسلاما ، وأن موسى لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال ( اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني ) قال الله تعالى ، لا تخف إنك أنت الأعلى.
  يا يهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئا ولا نفعته النبوة ، يا يهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم عليه السلام لنصرته فقدمه ويصلي خلفه.
  وعن ابن عباس قال : خرج من المدينة أربعون رجلا من اليهود قالوا :
  انطلقوا بنا إلى هذا الكاهن الكذاب حتى نوبخه في وجهه ونكذبه ، فإنه يقول ، أنا رسول رب العالمين، وكيف يكون رسولا وآدم خير منه ونوح خير منه ـ وذكروا الأنبياء ( عليهم السلام ) ـ فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعبد الله بن سلام : التوراة بيني وبينكم فرضيت اليهود بالتوراة فقال اليهود: آدم خير منك لأن الله عز وجل خلقه بيده ونفخ فيه من روحه.
  فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : آدم النبي أبي وقد أعطيت أنا أفضل مما أعطي آدم.
  قال اليهود: وما ذاك ؟ قال : إن المنادي ينادي كل يوم خمس مرات ( أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) ولم يقل آدم رسول الله، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة وليس بيد آدم ، فقال اليهود: صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة ، قال : هذه واحدة .
  قالت اليهود: موسى خير منك ، آلاف كلمة ولم يكلمك بشئ ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك ، قالوا : وما ذاك ؟ قال : هو قوله عز وجل ( سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 56 _

  باركنا حوله ) (1) وحملت على جناح جبرائيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ، حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش ( إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤف الرحيم ) ورأيته بقلبي وما رأيته بعيني ، فهذا أفضل من ذلك قالت اليهود: صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هذه اثنتان.
  قالوا : نوح أفضل منك ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ولم ذاك ؟ قالوا : لأنه ركب السفينة فجرت على الجودي ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك ، قالوا : وما ذاك ؟ قال : إن الله عز وجل أعطاني نهرا في السماء مجرية من العرش وعليه ألف ألف قصر لبنة من ذهب ولبنة من فضة حشيشها الزعفران ورضراضها (2) الدر والياقوت وأرضها المسك الأبيض، فذلك خير لي ولأمتي ، وذلك قوله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر ) (3) قالوا : صدقت يا محمد هو مكتوب في التوراة وهذا خير من ذلك ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه الثلاثة.
  قالوا : إبراهيم خير منك ، قال : ولم ذاك ؟ قالوا : لأن الله اتخذه خليلا ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن كان إبراهيم خليله فأنا حبيبه محمد .
  قالوا : ولم سميت محمدا ؟ قال : سماني الله محمدا وشق اسمى من اسمه هو المحمود وأنا محمد وأمتي الحامدون على كل حال ، فقالت اليهود: صدقت يا محمد هذا خير من ذلك ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه أربعة.
  قالت اليهود: عيسى خير منك ، قال : ولم ذاك ؟ قالوا : إن عيسى بن مريم كان ذات يوم بعقبة بيت المقدس فجاءه الشياطين ليحملوه فأمر الله جبرائيل أن اضرب بجناحك الأيمن وجوه الشياطين والقهم في النار ، فضرب بأجنحته وجوههم وألقاهم في النار ، فقال رسول الله: لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك .

---------------------------
(1) الإسراء: 1.
(2) الرضراض: ما دق من الحصى.
(3) الكوثر: 1.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 57 _

  قالوا : وما هو ؟ قال : أقبلت يوم بدر من قتال المشركين وأنا جائع شديد الجوع، فلما وردت المدينة استقبلتني امرأة يهودية وعلى رأسها جفنة وفي الجفنة جدي مشوي وفي كمها شئ من سكر فقالت : الحمد لله الذي منحك السلامة وأعطاك النصر والظفر على الأعداء، وإني قد كنت نذرت لله نذرا إن أقبلت سالما غانما من غزاة بدر لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فنزلت عن بغلتي الشهباء فضربت بيدي إلى الجدي لآكله فاستنطق الله الجدي فاستوى على أربع قوائم وقال : يا محمد لا تأكلني فإني مسموم ، قالوا :
  صدقت يا محمد هذا خير من ذلك ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هذه خمسة .
  قالوا : بقيت واحدة ثم نقوم من عندك ، قال : هاتوا ، قالوا : سليمان خير منك ، قال : ولم ذاك ؟ قالوا : لأن الله عز وجل سخر له الشياطين والإنس والجن والطير والرياح والسباع ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فقد سخر الله لي البراق وهو خير من الدنيا بحذافيرها ، وهي دابة من دواب الجنة وجهها مثل وجه آدمي وحوافرها مثل حوافر الخيل وذنبها مثل ذنب البقر وفوق الحمار ودون البغل، وسرجه من ياقوتة حمراء وركابه من درة بيضاء ، مزمومة بألف زمام من ذهب عليه جناحان مكللان بالدر والياقوت والزبرجد ، مكتوب بين عينيه ( لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله ) .
  قالت اليهود: صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة وهذا خير من ذلك .
  يا محمد نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لقد أقام نوح في قومه ودعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم وصفهم الله عز وجل فقللهم فقال ( وما آمن معه إلا قليل ) (1) ولقد تبعني في سنيي القليلة وعمري اليسير ما لم تتبع نوحا في طول عمره وكبر سنة ، وأن في الجنة عشرين ومائة صف أمتي منها ثمانون صفا ، وأن الله عز وجل جعل كتابي المهيمن على كتبهم الناسخ لها ، ولقد جئت بتحليل ما حرموا وبتحريم بعض ما أحلوا ، من ذلك أن موسى جاء بتحريم

---------------------------
(1) هود: 40.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 58 _

  صيد الحيتان يوم السبت حتى أن الله تعالى قال من اعتدى منهم في صيدها يوم السبت ( كونوا قردة خاسئين ) (1) فكانوا ، ولقد جئت بتحليل صيدها حتى صار صيدها حلالا ، قال الله تعالى ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ) (2) وجئت بتحليل الشحوم كلها وكنتم لا تأكلونها .
  ثم إن الله عز وجل صلى علي في كتابه العزيز ، قال الله عز وجل ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) (3) ثم وصفني الله عزو جل بالرأفة والرحمة وذكر في كتابه ( لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ) (4) وأنزل الله تعالى أن لا يكلموني حتى يتصدقوا بصدقة وما كان ذلك لنبي قط ، قال الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) (5) ثم وضعها عنهم بعد أن افترضها عليهم برحمته ومنه .
  وعن ثوبان قال : إن يهوديا جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا محمد أسألك فتخبرني ، فركض ثوبان برجله وقال: قل يا رسول الله، فقال : لا أدعوه إلا بما سماه أهله، فقال : أرأيت قوله عز وجل ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) (6) أين الناس يومئذ ؟ فقال : في الظلمة دون المحشر ، فقال : فما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوها ؟ قال : كبد الحوت ، قال : فما طعامهم على أثر ذلك ؟ قال :
  كبد الثور ، قال : فما شرابهم على أثر ذلك ؟ قال : السلسبيل ، قال : صدقت أفلا أسألك عن شئ لا يعلمه إلا نبي ؟ قال : وما هو ؟ قال : عن شبه الولد أباه وأمه .
  قال : ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر دقيق ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله تعالى ومن تشبه أباه قبل ذلك يكون الشبه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل خرج الولد أنثى بإذن الله عز وجل ومن تشبه أمه

---------------------------
(1) البقرة: 65.
(2) المائدة: 96.
(3) الأحزاب: 56.
(4) التوبة: 128.
(5) المجادلة: 12.
(6) إبراهيم: 48.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 59 _

  قبل ذلك يكون الشبه.
  ثم قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : والذي نفسي بيده ما كان عندي شئ مما سألتني عنه حتى انبأنيه الله عز وجل في مجلسي هذا على لسان أخي جبرئيل .
  ذكر ما جرى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاحتجاج على المنافقين في طريق تبوك وغير ذلك من كيدهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على العقبة بالليل .
  قال أبو محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على العقبة (1)، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فما قدروا على مغالبة ربهم ، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في علي عليه السلام لما فخم من أمره وعظم من شأنه : من ذلك أنه لما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له : إن جبرئيل أتاني وقال لي : يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو تقيم أنت ويخرج علي لا بد من ذلك ، فإن عليا قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري ، فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا : مله وسئمه وكره صحبته ، فتبعه علي عليه السلام حتى لحقه وقد وجد غما شديدا عما قالوا فيه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أشخصك يا علي عن مركزك ؟ فقال :
  بلغني عن الناس كذا وكذا ، فقال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ فانصرف علي إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا ثم غطوها بخص رقاق ونثروا فوقها يسيرا من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص، وكان

---------------------------
(1) عقبة بالتحريك : هو الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه ، وهو طويل صعب إلى صعود الجبل ، والعقبة منزل في طريق مكة بعد واقصة وقبل القاع لمن يريد مكة ، وهو ماء لبني عكرمة من بكر بن وائل ، مراصد الإطلاع 2 ـ 948.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 60 _

  ذلك على طريق علي الذي لا بد له من سلوكه ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها ، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.
  فلما بلغ علي ( عليه السلام ) قرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت جحفلته (1) أذنيه وقال: يا أمير المؤمنين قد حفر لك هيهنا ودبر عليك الحتف وأنت أعلم لا تمر فيه ، فقال له علي ( عليه السلام ) : جزاك الله من ناصح خيرا كما تدبر تدبيري وإن الله عز وجل لا يخليك من صنعه الجميل، وسار حتى شارف المكان فوقف الفرس خوفا من المرور على المكان، فقال علي ( عليه السلام ) : سر بإذن الله سالما سويا عجيبا شأنك بديعا أمرك، فتبادرت الدابة فإن الله عز وجل قد متن الأرض (2) وصلبها ( ولام (3) حفرها ) كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض، فلما جاوزها علي ( عليه السلام ) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال : ما أكرمك على رب العالمين أجازك على هذا المكان الخاوي (4)، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : جازاك الله بهذه السلامة عن نصيحتك التي نصحتني بها .
  ثم قلب وجه الدابة إلى ما يلي كفلها والقوم معه بعضهم أمامه وبعضهم خلفه وقال، اكشفوا عن هذا المكان فكشفوا فإذا هو خاو لا يسير عليه أحد إلا وقع في الحفرة، فأظهر القوم الفزع والتعجب مما رأوا منه ، فقال علي ( عليه السلام ) للقوم : أتدرون من عمل هذا ؟ قالوا : لا ندري ، قال عليه السلام: لكن فرسي هذا يدري ، يا أيها الفرس كيف هذا ومن دبر هذا ؟ فقال الفرس: يا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إذا كان الله عز وجل يبرم ما يروم جهال القوم نقضه أو كان ينقض ما يروم جهال الخلق إبرامه فالله

---------------------------
(1) الجحفلة لذي الحافر كالشفة للانسان .
(2) متن الأرض: صلب متنه وقواه .
(3) لام حفرها: جمع حفرها ، كأن الحفيرة ملئت وأرجعت إلى ما كانت عليه قبل ذلك .
(4) الخاوي: الخالي، القفر

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 61 _

  هو الغالب والخلق هم المغلوبون، فعل هذا يا أمير المؤمنين فلان وفلان إلى أن ذكر العشرة بمواطأة من أربعة وعشرين هم مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في طريقه ثم دبروا رأيهم على أن يقتلوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على العقبة والله عز وجل من وراء حياطة رسول الله وولي الله لا يغلبه الكافرون.
  فأشار بعض أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأن يكاتب رسول الله بذلك ويبعث رسولا مسرعا ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن رسول الله إلى محمد رسوله أسرع وكتابه إليه أسبق، فلا يهمنكم هذا إليه، فلما قرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من العقبة التي بأزائها فضائح المنافقين والكافرين نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم : هذا جبرئيل الروح الأيمن يخبرني أن عليا دبر عليه كذا وكذا، فدفع الله عز وجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا، ثم إنه صلب الأرض تحت حافر دابته وأرجل أصحابه، ثم انقلب على ذلك الموضع علي وكشف عنه فرأيت الحفيرة، ثم إن الله عز وجل لامها كما كانت لكرامته عليه ، وأنه قيل له كاتب بهذا وارسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : رسول الله إلى رسول الله أسرع وكتابه إليه أسبق.
  ثم لم يخبرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما قال علي عليه السلام على باب المدينة ( إن مع رسول الله منافقين سيكيدونه ويدفع الله عنه ) ، فلما سمع الأربعة والعشرون أصحاب العقبة ما قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أمر علي عليه السلام قال بعضهم لبعض : ما أمهر محمدا بالمخرقة (1) وإن فيجا (2) مسرعا أتاه أو طيرا من المدينة من بعض أهله وقع عليه أن عليا قتل بحيلة كذا وكذا وهو الذي واطأنا عليه أصحابنا، فهو الآن لما بلغه كتم الخبر وقلبه إلى ضده يريد أن يسكن من معه لئلا يمدوا أيديهم عليه ، وهيهات والله ما لبث عليا بالمدينة إلا حينه ولا خرج محمدا إلى هيهنا إلا حينه ، وقد هلك علي وهو هيهنا هالك لا محالة ، ولكن تعالوا حتى نذهب إليه ونظهر له السرور بأمر علي ليكون أسكن لقلبه إلينا إلى أن نمضي فيه تدبيرنا ،

---------------------------
(1) خرق الكذب: صنعه ، ومعنى هذه الجملة: ما أمهر محمدا بصنع الكذب ووضعه.
(2) الفيج: السريع السير الذي يأتي بالأخبار.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 62 _

  فحضروه وهنوه على سلامة علي من الورطة التي رامها أعداؤه.
  ثم قالوا له: يا رسول الله أخبرنا عن علي ( عليه السلام ) أهو أفضل أم ملائكة الله المقربون ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وهل شرفت الملائكة إلا بحبها لمحمد وعلي وقبولها لولايتهما ، وأنه لا أحد من محبي علي قد نظف قلبه من قذر الغش والدغل ونجاسات الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة، وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم أنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوا عنها إلا ـ وهم يعنون أنفسهم ـ أفضل منه في الدين فضلا وأعلم بالله وبدينه علما ، فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطأوا في ظنونهم واعتقاداتهم ، فخلق آدم وعلمه الأسماء كلها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها ، فأمر آدم ( عليه السلام ) أن ينبأهم بها وعرفهم فضله في العلم عليهم ، ثم أخرج من صلب آدم ذريته منهم الأنبياء والرسل والخيار من عباد الله أفضلهم محمد ثم آل محمد والخيار الفاضلين منهم أصحاب محمد وخيار أمة محمد وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إذا احتملوا ما حملوه من الأثقال وقاسوا ماهم فيه بعرض يعرض من أعوان الشياطين ومجاهدة النفوس واحتمال أذى ثقل العيال والاجتهاد في طلب الحلال ومعاناة مخاطرة الخوف من الأعداء من لصوص مخوفين ومن سلاطين جورة قاهرين وصعوبة في المسالك في المضائق والمخاوف والأجراع (1) والجبال والتلاع (2) لتحصيل أقوات الأنفس والعيال من الطيب الحلال، فعرفهم الله عز وجل أن خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا ويتخلصون منها ويحاربون الشياطين ويهزمونهم ويجاهدون أنفسهم بدفها عن شهواتها ويغلبونها مع ما ركب فيهم من شهوات الفحولة وحب اللباس والطعام والعز والرئاسة والفخر والخيلاء ومقاساة العناء والبلاء من إبليس وعفاريته وخواطرهم وإغوائهم واستهوائهم ودفع ما يكابدونه من أليم الصبر على سماعهم الطعن من أعداء الله وسماع الملاهي

---------------------------
(1) الجرعة: رملة مستوية لا تنبت شيئا .
(2) التلاع: جمع التلعة ، وهو ما علا من الأرض وما سفل ، وفي بعض النسخ ( الطلاع ) وهو جمع الطلع بكسر الطاء: المكان المشرف الذي يطلع منه .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 63 _

  والشتم لأولياء الله، ومع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم والهرب من أعداء دينهم، أو الطلب لمن يأملون معاملته من مخالفيهم في دينهم .
  قال الله عز وجل : يا ملائكتي وأنتم من جميع ذلك بمعزل لا شهوات الفحولة تزعجكم ولا شهوة الطعام تحفزكم (1) ولا خوف من أعداء دينكم ودنياكم تنحب (2) في قلوبكم ولا لإبليس في ملكوت سماواتي وأرضي شغل على إغواء ملائكتي الذين قد عصمتهم منهم ، يا ملائكتي فمن أطاعني منهم وسلم دينه من هذه الآفات والنكبات فقد احتمل في جنب محبتي ما لم تحتملوا واكتسب من القربات إلى ما لم تكتسبوا .
  فلما عرف الله ملائكته فضل خيار أمة محمد وشيعة علي وخلفائه عليهم السلام واحتمالهم في جنب محبة ربهم ما لا تحتمله الملائكة أبان بني آدم الخيار المتقين بالفضل عليهم ، ثم قال : فلذلك فاسجدوا لآدم لما كان مشتملا على أنوار هذه الخلائق الأفضلين ، ولم يكن سجودهم لآدم إنما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عز وجل ، وكان بذلك معظما له مبجلا ، ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ويخضع له خضوعه لله ويعظم بالسجود له كتعظيمه لله ، ولو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير الله لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلفين من شيعتنا أن يسجدوا لمن توسط في علوم علي وصي رسول الله ومحض وداد خير خلق الله علي بعد محمد رسول الله واحتمل المكاره والبلايا في التصريح بإظهار حقوق الله ولم ينكر على حقا أرقبه عليه (3) قد كان جهله أو غفله.
  ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عصى الله إبليس فهلك لما كان معصيته بالكبر على آدم، وعصى آدم الله بأكل الشجرة فسلم ولم يهلك لما لم يقارن بمعصيته التكبر

---------------------------
(1) الحفز: الدفع من الخلف، والحفز بالرمح: الطعن به.
(2) النحب: السير السريع، وفي بعض النسخ ( تنخب ) ومعناه تجبن قلوبكم وتجعلكم بلا فؤاد ، يقال ( رجل نخب ) أي الجبان الذي لا فؤاد له.
(3) أرقبه عليه : انتظره منه .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 64 _

  على محمد وآله الطيبين، وذلك إن الله تعالى قال له : يا آدم عصاني فيك إبليس وتكبر عليك فهلك ولو تواضع لك بأمري وعظم عز جلالي لأفلح كل الفلاح كما أفلحت، وأنت عصيتني بأكل الشجرة وعظمتني بالتواضع لمحمد وآل محمد فتفلح كل الفلاح وتزول عنك وصمة الزلة فادعني بمحمد وآله الطيبين لذلك ، فدعا بهم فأفلح كل الفلاح لما تمسك بعروتنا أهل البيت.
  ثم إن رسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر بالرحيل في أول نصف الليل الأخير ، وأمر مناديه فنادى : ألا لا يسبقن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحد إلى العقبة ولا يطأها حتى يجاوزها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمر بها ويخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان رسول الله أمره أن يتشبه بحجر ، فقال حذيفة يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه القوم من رؤساء عسكرك ، وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي ويكشف عني فيعرفني ويعرف موضعي من نصيحتك فيتهمني ويخافني فيقتلني .
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنك إذا بلغت أصل العقبة فاقصد أكبر صخرة هناك إلى جانب أصل العقبة وقل لها : إن رسول الله يأمرك أن تنفرجي لي حتى أدخل جوفك ثم يأمرك أن تثقبي فيك ثقبة أبصر منها المارين وتدخل علي منها الروح لئلا أكون من الهالكين ، فإنها تصير إلى ما تقول لها بإذن الله رب العالمين.
  فأدى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة وجاء الأربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم لبعض : من رأيتموه هنا كائنا من كان فاقتلوه لأن لا يخبروا محمدا أنهم قد رأونا هيهنا فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة إلا نهارا فيبطل تدبيرنا عليه ، وسمعها حذيفة واستقصوا فلم يجدوا أحدا، وكان الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم ، فتفرقوا فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن الطريق المسلوك ، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال وهم يقولون الآن ترون حين محمد كيف أغراه بأن يمنع الناس عن صعود العقبة حتى يقطعها هو لنخلوا به هيهنا فنمضي فيه تدبيرنا وأصحابه عنه بمعزل ، وكل ذلك يوصله الله تعالى

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 65 _

  من قريب أو بعيد إلى أذن حذيفة ويعيه حذيفة ، فلما تمكن القوم على الجبل حيث أرادوا كلمت الصخرة حذيفة وقالت له : انطلق الآن إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأخبره بما رأيت وبما سمعت ، قال حذيفة : كيف أخرج عنك وإن رآني القوم قتلوني مخافة على أنفسهم من نميمتي عليهم ؟ قالت الصخرة: إن الذي مكنك من جوفي وأوصل إليك الروح من الثقبة التي أحدثها في هو الذي يوصلك إلى نبي الله وينقذك من أعداء الله.
  فنهض حذيفة ليخرج فانفرجت الصخرة بقدرة الله تعالى ، فحوله الله طائرا فطار في الهواء محلقا حتى انقض بين يدي رسول الله، ثم أعيد على صورته فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما رأى وسمع ، فقال رسول الله: أو عرفتهم بوجوههم ؟ فقال:
  يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم ، فلما فتشوا المواضع فلم يجدوا أحدا أحدروا اللثام فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم فلان وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا حذيفة إذا كان الله يثبت محمدا لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه ، إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ولو كره الكافرون.
  ثم قال : يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار وتوكلوا على الله، فإذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتبعونا ، فصعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها والآخر خلفها يسوقها ، وعمار إلى جانبها ، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويقع به في المهوى الذي يهول الناظر إليه من بعده ، فلما قربت الدباب من ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أذن الله لها فارتفعت ارتفاعا عظيما فجاوزت ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم سقطت في جانب المهوى ولم يبق منها شئ إلا صار كذلك وناقة رسول الله كأنها لا تحس بشئ من تلك القعقعات التي كانت للدباب .
  ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمار : اصعد إلى الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 66 _

  رواحلهم فارم بها ، ففعل ذلك عمار فنفرت بهم رواحلهم وسقط بعضهم فانكسر عضده ومنهم من انكسرت رجله ومنهم من انكسر جنبه واشتدت لذلك أوجاعهم، فلما انجبرت واندملت بقيت عليهم آثار الكسر إلى أن ماتوا ، ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حذيفة وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنهما أعلم الناس بالمنافقين ) لقعوده في أصل الجبل ومشاهدته من مر سابقا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وكفى الله رسوله أمر من قصد له ، وعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة سالما فكسى الله الذل والعار من كان قعد عنه ، وألبس الخزي من كان دبر عليه وعلى علي ما دفع الله عنه ( عليه السلام ) .
  حدثني السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي ابن أبي حرب الحسيني المرعشي رضي الله عنه (1) قال أخبرنا الشيخ أبو علي الحسن بن الشيخ السعيد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (2) رضي الله عنه، قال أخبرني الشيخ السعيد الوالد أبو جعفر (3) قدس الله روحه ، قال أخبرني جماعة عن أبي محمد هارون بن موسى

---------------------------
(1) مضت ترجمته في هذا الكتاب ص 6 .
(2) الشيخ أبو على الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، كان عالما فاضلا فقيها محدثا جليلا ثقة ، له كتاب الأمالي وشرح النهاية، قرأ على والده جميع تصانيفه وإليه ينتهي أكثر الإجازات عن الشيخ الطوسي تنقيح المقال 1 ـ 36
(3) شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ولد في شهر رمضان سنة 385 وقدم العراق سنة 408 وبقي في بغداد مدة ثم هاجر إلى النجف الأشرف وبقي فيها حتى وفاته سنة 406 ، كان جهبذة من جهابذة الإسلام وعظيما من عظماء أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم )، صنف في علوم عصره فكانت مصنفاته هي الأم والمراجع ، ولم يجرؤ
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 67 _

  التلعكبري (1) ، قال أخبرنا أبو علي محمد بن همام ، (2) قال أخبرنا علي السوري (3) ، قال أخبرنا أبو محمد العلوي (4) من ولد الأفطس ـ وكان من عباد الله الصالحين ـ قال حدثنا محمد بن موسى الهمداني (5) ، قال حدثنا محمد بن خالد الطيالسي (6) ، قال حدثنا سيف بن عميرة (7) وصالح بن عقبة (8) جميعا

---------------------------
<=
على الافتاء بعده أحد من علماء الشيعة إلى سنين متمادية لقوته في الفقه واضطلاعه في العلوم الإسلامية والكنى والألباب 2 / 357 ـ 359 .
(1) أبو محمد هارون بن موسى الشيباني ثقة جليل القدر عظيم المنزلة واسع الرواية عديم النظير وجه أصحابنا معتمد عليه لا يطعن عليه في شئ توفي سنة 385 .
الكنى والألقاب 2 / 108
(2) أبو على محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب الإسكافي شيخ أصحابنا ومتقدمهم ، له منزلة عظيمة ، كثير الحديث، ولد يوم الاثنين 6 ذي الحجة سنة 258 وتوفي يوم الخميس 19 جمادى الثانية سنة 336 رجال النجاشي ص 294 .
(3) لم نقف على ترجمة له ـ فليراجع
(4) يحيى المكنى أبا محمد العلوي من بني زبارة علوي سيد متكلم فقيه من أهل نيشابور له كتب كثيرة ، منها كتاب في المسح على الرجلين في إبطال القياس وكتاب في التوحيد ، رجال النجاشي ص 345 .
(5) محمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر الهمداني السمان، ضعفه القميون بالغلو له كتاب ما روي في أيام الأسبوع وكتاب الرد على الغلاة ، رجال النجاشي ص 260 وأقول : كيف يقال في محمد هذا إنه غال مع العلم أن من مؤلفاته كتاب الرد على الغلاة ـ فلاحظ
(6) أبو عبد الله محمد بن خالد الطيالسي التميمي كان يسكن بالكوفة في صحراء جرم ، له كتاب نوادر ، مات ليلة الأربعاء 27 جمادى الثانية سنة 259 وهو ابن 97 سنة ، تنقيح المقال 3 / 114
(7) سيف بن عميرة النخعي عربي ثقة كوفي ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام له كتاب يرويه جماعات من أصحابنا، رجال النجاشي ص 143 .
(8) صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قيل إنه روى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، له كتاب يرويه جماعة منتهى =>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 68 _

  عن قيس بن سمعان (1) عن علقمة بن محمد الحضرمي (2) عن أبي جعفر محمد ابن علي عليه السلام أنه قال : حج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة وقد بلغ جميع الشرايع قومه غير الحج والولاية ، فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال له : يا محمد إن الله جل اسمه يقرئك السلام ويقول لك : إني لم أقبض نبيا من أنبيائي ولا رسولا من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي ، وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج أن تبلغهما قومك : فريضة الحج، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك ، فإني لم أخل أرضي من حجة ولن أخليها أبدا، فإن الله جل ثناؤه يأمرك أن تبلغ قومك الحج وتحج ويحج معك من استطاع إليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف والأعراب وتعلمهم من معالم حجهم مثل ما علمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وتوقفهم من ذلك علي مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرائع.
  فنادي منادي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الناس: ألا إن رسول الله يريد الحج وأن يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرائع دينكم ويوقفكم من ذاك على ما أوقفكم عليه من غيره ، فخرج ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخرج معه الناس واصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله ، فحج بهم وبلغ من حج مع رسول الله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون فنكثوا واتبعوا العجل والسامري ، وكذلك أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) البيعة لعلي بالخلافة على عدد أصحاب موسى فنكثوا البيعة واتبعوا العجل والسامري سنة بسنة ومثلا بمثل ، واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة (3)

---------------------------
<=
المقال ص 163.
(1) لم تقف على ترجمته.
(2) علقمة بن محمد الحضرمي هو أخو عبد الله بن محمد الحضرمي ، رجال الكشي ص 354.
(3) ذكر العلامة الحجة الثبت الأميني في كتابه القيم ( الغدير ) حديث الغدير بتفاصيله في الجزء الأول، وعد الراوين لحديث الغدير، فكانوا من الصحابة 110
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 69 _

  فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل فقال : يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك : إنه قد دنى أجلك ومدتك وأنا مستقدمك على ما لا بد منه ولا عنه محيص ، فاعهد عهدك وقدم وصيتك واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء، فسلمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب عليه السلام، فأقمه للناس علما وجدد عهده وميثاقه وبيعته ، وذكرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية وليي ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فإني لم أقبض نبيا من الأنبياء إلا من بعد إكمال ديني وحجتي وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي ، وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتباع وليي وطاعته ، وذلك أني لا أترك أرضي بغير ولي ولا قيم ليكون حجة لي على خلقي ، فاليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا بولاية وليي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي عبدي ووصي نبي والخليفة من بعده وحجتي البالغة على خلقي ، مقرون طاعته بطاعة محمد نبيي ومقرون طاعته مع طاعة محمد بطاعتي ، من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني ، جعلته علما بيني وبين خلقي ، من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن أشرك بيعته كان مشركا ومن لقيني بولايته دخل الجنة، ومن لقيني بعداوته دخل النار، فأقم يا محمد عليا علما وخذ عليهم البيعة وجدد عهدي وميثاقي لهم الذي واثقتهم عليه ، فإني قابضك إلي ومستقدمك علي .
  فخشى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرقوا ويرجعوا إلى جاهلية لما عرف من عداوتهم ولما ينطوي عليه أنفسهم لعلي من العداوة والبغضاء

---------------------------
<=
شخصا ، ومن التابعين 84 شخصا ، ومن الرواة من العلماء ابتداءا من القرن الثاني حتى القرن الرابع عشر 360 شخصا ، وذكر من المؤلفين في حديث الغدير خصيصا 26 شخصا ، انظر الجزء الأول من الكتاب ص 14 ـ 157.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 70 _

  وسأل جبرئيل أن يسأل ربه العصمة من الناس وانتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة من الناس عن الله جل اسمه، فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف (1)، فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) في مسجد الخيف فأمره بأن يعهد عهده ويقيم عليا علما للناس يهتدون به ، ولم يأته بالعصمة من الله جل جلاله بالذي أراد حتى بلغ كراع الغميم (2) بين مكة والمدينة ، فأتاه جبرئيل وأمره بالذي أتاه فيه من قبل الله ولم يأته بالعصمة ، فقال: جبرئيل إني أخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا قولي في علي عليه السلام [ فسأل جبرئيل كما سأل بنزول آية العصمة فأخره ذلك ] فرحل فلما بلغ غدير خم (3) قبل الجحفة (4) بثلاثة أميال أتاه جبرئيل عليه السلام على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس فقال : يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ( في علي ) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) (5).
  وكان أوائلهم قريب من الجحفة ، فأمر بأن يرد من تقدم منهم ويحبس تأخر

---------------------------
(1) الخيف هو المنحدر من غلظ الجبل قد ارتفع عن مسيل أتاه فليس شرفا ولا حضيضا ، وخيف منى هو الموضع الذي ينسب إليه مسجد الخيف ، مراصد الإطلاع 1 / 495 .
(2) كراع الغميم: موضع بالحجاز بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال وهذا الكراع جبل أسود في طرف الجرة يمتد إليه، مراصد الإطلاع 3 ـ 1153 .
(3) غدير : ما غودر من ماء المطر في مستنقع صغير أو كبير غير أنه لا يبقى في القيظ ، وخم : قيل رجل، وقيل غيظة ، وقيل موضع تصب فيه عين ، وقيل بئر قريب من المبثب حفرها مرة بن كعب ، نسب إلى ذلك غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة ، قيل على ثلاثة أميال من الجحفة، وقيل على ميل ، وهناك مسجد للنبي مراصد الإطلاع 1 ـ 482 ، 2 ـ 985.
(4) الجحفة: كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق مكة على أربع مراحل .
وكان اسمها مهيعة وسميت الجحفة لأن السيل جحفها ، وبينها وبين البحر ستة أميال مراصد الإطلاع 1 ـ 315.
(5) المائدة: 67.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 71 _

  عنهم في ذلك المكان ليقيم عليا علماء للناس ويبلغهم ما أنزل الله تعالى في علي وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس، فأمر رسول الله عندما جاءته العصمة مناديا ينادي في الناس بالصلاة جامعة ويرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر وتنحى عن يمين الطريق إلى جنب مسجد الغدير أمره بذلك جبرئيل عن الله عز وجل ، وكان في الموضع سلمات (1) فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقم ما تحتهن (2) وينصب له حجارة كهيئة المنبر ليشرف على الناس، فتراجع الناس واحتبس أواخرهم في ذلك المكان لا يزالون ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فوق تلك الأحجار ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه فقال :
  الحمد لله الذي علا في توحده ، ودنا في تفرده ، وجل في سلطانه، وعظم في أركانه، وأحاط بكل شئ علما وهو في مكانه ، وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه مجيدا لم يزل محمودا لا يزال ، بارئ المسموكات (3) وداحي المدحوات وجبار الأرضين والسماوات ، قدوس سبوح رب الملائكة والروح، متفضل على جميع من برأه متطول على جميع من أنشأه، يلحظ كل عين والعيون لا تراه ، كريم حليم ذو أناة، قد وسع كل شئ رحمته ومن عليهم بنعمته ، لا يعجل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما استحقوا من عذابه ، قد فهم السرائر وعلم الضمائر، ولم تخف عليه المكنونات، ولا اشتبهت عليه الخفيات، له الإحاطة بكل شئ والغلبة على كل شئ والقوة في كل شئ والقدرة على كل شئ وليس مثله شئ ، وهو منشئ الشئ حين لا شئ ، دائم قائم بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، جل عن أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، لا يلحق أحد وصفه من معاينة ، ولا يجد أحد كيف هو من سر وعلانية إلا بما دل عز وجل على نفسه .
  وأشهد أنه الله الذي ملأ الدهر قدسه ، والذي يغشى الأبد نوره ، والذي ينفذ

---------------------------
(1) سلمات : أشجار.
(2) أي يكنس ما تحتهن .
(3) السمك السقف ، أو من أعلى البيت إلى أسفله، والغاية من كل شئ ، والمقصود هنا السماوات وما فيها .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 72 _

  أمره بلا مشاورة مشير ولا معه شريك في تقدير ولا تفاوت في تدبير ، صور ما أبدع على غير مثال وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف ولا احتيال، أنشأها فكانت وبرأها فبانت ، فهو الله الذي لا إله إلا هو المتقن الصنعة الحسن الصنيعة العدل الذي لا يجور والإكرم الذي ترجع إليه الأمور.
  وأشهد أنه الذي تواضع كل شئ لقدرته وخضع كل شئ لهيبته ملك الأملاك ومفلك الأفلاك ومسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، يكور الليل على النهار (1) ويكور النهار على الليل يطلبه حثيثا ، قاسم كل جبار عنيد ومهلك كل شيطان مريد ، لم يكن معه ضد ولا ند ، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، إله واحد ورب ماجد يشاء فيمضي ويريد فيقضي ويعلم فيحصي ويميت ويحيي ويفقر ويغني ويضحك ويبكي ويمنع ويعطي ، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير ، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل لا إله إلا هو العزيز الغفار، مجيب الدعاء ومجزل العطاء، محصي الأنفاس ورب الجنة والناس ، لا يشكل عليه شئ ولا يضجره صراخ المستصرخين ولا يبرمه إلحاح الملحين ، العاصم للصالحين والموفق للمفلحين ومولى العالمين، الذي استحق من كل من خلق أن يشكره ويحمده ، أحمده على السراء والضراء والشدة والرخاء ، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله ، أسمع أمره وأطيع وأبادر إلى كل ما يرضاه واستسلم لقضائه رغبة في طاعته وخوفا من عقوبته ، لأنه الله الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف جوره ، وأقر له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية وأؤدي ما أوحي إلى حذرا من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعة (2) لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته لا إله إلا هو ، لأنه قد أعلمني أني إن لم أبلغ ما أنزل إلي فما بلغت رسالته

---------------------------
(1) كور الشئ: أدارته، ضم بعضه إلى بعض ككور العمامة، ويكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل: إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازدياد هما .
(2) القارعة: الداهية والنكبة المهلكة.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 73 _

  وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة ، وهو الله الكافي الكريم، فأوحي إلي: بسم الله الرحمن الرحيم ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) في علي [ يعني في الخلافة لعلي بن أبي طالب عليه السلام ] ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) .
  ( معاشر الناس ) ما قصرت في تبليغ ما أنزل الله تعالى إلى، وأنا مبين لكم سبب نزول هذه الآية: إن جبرئيل ( عليه السلام ) هبط إلي مرارا ثلاثا يأمرني عن السلام ربي وهو السلام أن أقوم في هذا المشهد فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب عليه السلام أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي ، الذي محله مني محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهو وليكم من بعد الله ورسوله ، وقد أنزل الله تبارك وتعالى على بذلك آية من كتابه ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (1) وعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع يريد الله عز وجل في كل حال.
  وسألت جبرئيل أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين وإدغال (2) الآثمين وختل (3) المستهزئين بالإسلام الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، وكثرة إذا هم لي في غير مرة حتى سموني إذنا (4).
  وزعموا أني كذلك لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه، حتى أنزل الله عز وجل في ذلك قرآنا ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن ) على الذين يزعمون أنه أذن ( خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ) الآية (5).
  ولو شئت أن أسمي بأسمائهم لسميت وأن أومى إليهم بأعيانهم لأومأت وأن

---------------------------
(1) المائدة: 55 .
(2) الأدغال: الخالفة والخيانة ، وأدغل في الأمر: أدخل فيه ما يفسده .
(3) الختل: الخديعة.
(4) الأذن بضمتين: الرجل المستمع لما يقال له .
(5) التوبة: 61 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 74 _

  أدل عليهم لدللت ، ولكني والله في أمورهم قد تكرمت ، وكل ذلك لا يرضى الله مني إلا أن أبلغ ما أنزل إلي، ثم تلى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) في على ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ).
  فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم وليا وإماما مفترضا طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادي والحاضر وعلى الأعجمي والعربي والحر والمملوك والصغير والكبير وعلى الأبيض والأسود وعلى كل موحد ماض حكمه جائز قوله نافذ أمره، ملعون من خالفه مرحوم من تبعه مؤمن من صدقه ، فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له.
  (معاشر الناس) إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر ربكم ، فإن الله عز وجل هو مولاكم وإلهكم ثم من دونه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وليكم القائم المخاطب لكم ، ثم من بعدي علي وليكم وإمامكم بأمر ربكم ، ثم الإمامة في ذريتي من ولده إلى يوم تلقون الله ورسوله ، لا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله، عرفني الحلال والحرام وأنا أفضيت بما علمني ربي من كتابه وحلاله وحرامه إليه.
  ( معاشر الناس ) ما من علم إلا وقد أحصاه الله في ، وكل علم علمت فقد أحصيته في إمام المتقين، وما من علم إلا علمته عليا، وهو الإمام المبين.
  ( معاشر الناس ) لا تضلوا عنه ولا تنفروا منه ولا تستكبروا [ ولا تستنكفوا خ ل ] من ولايته ، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به ويزهق الباطل وينهى عنه ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ثم إنه أول من آمن بالله ورسوله ، وهو الذي فدى رسوله بنفسه وهو الذي كان مع رسول الله ولا أحد يعبد الله مع رسوله من الرجال غيره.
  ( معاشر الناس ) فضلوه فقد فضله الله، واقبلوه فقد نصبه الله.
  ( معاشر الناس ) إنه إمام من الله ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته ، ولن يغفر الله له ، حتما على الله أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه وأن يعذبه عذابا

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 75 _

  شديدا نكرا أبد الآباد ودهر الدهور، فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين .
  ( أيها الناس ) بي والله بشر الأولون من النبيين والمرسلين ، وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين ، فمن شك في ذلك فهو كافر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شئ من قولي هذا فقد شك في الكل منه ، والشاك في ذلك فله النار.
  ( معاشر الناس ) حباني الله بهذه الفضيلة منا منه علي وإحسانا منه إلي، ولا إله إلا هو ، له الحمد مني أبد الآبدين ودهر الداهرين على كل حال.
  ( معاشر الناس ) فضلوا عليا فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى ، بنا أنزل الله الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون مغضوب مغضوب من رد على قولي هذا ولم يوافقه ، ألا إن جبرئيل خبرني عن الله تعالى بذلك ويقول : ( من عادى عليا ولم يتوله فعليه لعنتي وغضبي ) فلتنظر نفس ما قدمت لغد ، واتقوا الله أن تخالفوه فتزل قدم بعد ثبوتها إن الله خبير بما تعملون .
  ( معاشر الناس ) إنه جنب الله الذي ذكر في كتابه فقال تعالى : ( إن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ) (1).
  ( معاشر الناس ) تدبروا القرآن وافهموا آياته وانظروا إلى محكماته ولا تتبعوا متشابهه ، فوالله لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إلى ـ وشائل بعضده ـ ومعلمكم إن من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام أخي ووصيي ، وموالاته من الله عز وجل أنزلها على .
  ( معاشر الناس ) إن عليا والطيبين من ولدي هم الثقل الأصغر ، والقرآن الثقل الأكبر، فكل واحد منبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتى يردا على الحوض، هم أمناء الله في خلقه وحكماؤه في أرضه ، ألا وقد أديت ، ألا وقد بلغت

---------------------------
(1) الزمر: 56.