الفهرس العام

إحتجاجه ( عليه السلام ) على من قال بالرأي في الشرع والاختلاف في الفتوى وأن يتعرض للحكم بين الناس من ليس لذلك بأهل وذكر الوجه لاختلاف من أختلف في الدين والرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).


جواب مسائل الخضر ( عليه السلام ) للحسن بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بحضرة أبيه ( عليه السلام ).
جوابه عن مسائل جاءت من الروم ثم من الشام الجاري مجرى الاحتجاج بحضرة أبيه ( عليهما السلام ) .


  يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ) تعريفا للخليقة قربهم ، ألا ترى أنك تقول : ( فلان إلى جنب فلان ) إذا أردت أن تصف قربه منه .
  وإنما جعل الله تبارك وتعالى في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره ، وغير أنبيائه وحججه في أرضه، لعلمه بما يحدثه في كتابه المبدلون، من : إسقاط أسماء حججه منه ، وتلبيسهم ذلك على الأمة ليعينوهم على باطلهم ، فأثبت به الرموز، وأعمى قلوبهم وأبصارهم ، لما عليهم في تركها وترك غيرها ، من الخطاب الدال على ما أحدثوه فيه ، وجعل أهل الكتاب المقيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه من :
  شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، أي: يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، وجعل أعدائها، أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم ، فأبي الله إلا أن يتم نوره ، ولو علم المنافقون لعنهم الله: ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بينت لك تأويلها ، لأسقطوها مع ما أسقطوا منه ، ولكن الله تبارك اسمه ماض حكمه بإيجاب الحجة على خلقه ، كما قال الله تعالى ، ( فلله الحجة البالغة ) أغشى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة عن تأمل ذلك ، فتركوه بحاله ، وحجبوا عن تأكيد الملتبس بإبطاله ، فالسعداء ينهون عليه ، والأشقياء يعمون عنه ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
  ثم إن الله جل ذكره لسعة رحمته ، ورأفته بخلقه ، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه ، قسم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه : يعرفه العالم والجاهل وقسما : لا يعرفه إلا من صفى ذهنه ، ولطف حسه ، وصح تميزه ، ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما : لا يعرفه إلا الله، وأمناؤه ، والراسخون في العلم ، وإنما فعل الله ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه أمرهم فاستكبروا عن طاعته ، تعزرا (1) وافتراء على الله عز وجل ، واغترارا بكثرة من ظاهرهم ، وعاونهم ، وعاند الله عز وجل ورسوله.

---------------------------
(1) أي: تمنعا وتمردا .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 377 _

  فأما ما علمه الجاهل والعالم ، فمن فضل رسول الله في كتاب الله، فهو قول الله عز وجل : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) وقوله : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) ولهذه الآية ظاهر وباطن فالظاهر قوله : ( صلوا عليه ) والباطن قوله : ( وسلموا تسليما ) أي سلموا لمن وصاه واستخلفه ، وفضله عليكم ، وما عهد به إليه تسليما ، وهذا مما أخبرتك: أنه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه ، وصفى ذهنه ، وصح تمييزه ، وكذلك قوله :
  ( سلام على آل يس ) لأن الله سمى به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث قال: ( يس والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين ) لعلمه بأنهم يسقطون قول الله: سلام على آل محمد كما أسقطوا غيره، وما زال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتألفهم ، ويقربهم ، ويجلسهم عن يمينه وشماله ، حتى أذن الله عز وجل في إبعادهم بقوله : ( واهجرهم هجرا جميلا ) وبقوله ، ( فما للذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرء منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون ) وكذلك قول الله عز وجل : ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) ولم يسم بأسمائهم. وأسماء آبائهم وأمهاتهم .
  وأما قوله : ( كل شئ هالك إلا وجهه ) فإنما أنزلت كل شئ هالك إلا دينه ، لأنه من المحال أن يهلك منه كل شئ ويبقى الوجه، هو أجل وأكرم وأعظم من ذلك ، إنما يهلك من ليس منه ، ألا ترى أنه قال : ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) ففصل بين خلقه ووجهه .
  وأما ظهورك على تناكر قوله : ( فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء ) وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء ، ولا كل النساء أيتام ، فهو : مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن وهذا وما أشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل ، ووجد المعطلون وأهل الملل المخالفة للإسلام مساغا إلى القدح في القرآن ، ولو شرحت لك كلما أسقط

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 378 _

  وحرف وبدل مما يجري هذا المجري لطال، وظهر ما تخطر التقية إظهاره من مناقب الأولياء، ومثالب الأعداء (1).

---------------------------
(1) في ج 1 ص 15 من تفسير مجمع البيان للطبرسي قال : ومن ذلك: الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فإنه لا يليق بالتفسير ، فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه ، وأما النقصان منه ، فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة: أن في القرآن تغييرا ونقصانا ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه وهو الذي نصره المرتضى ( قدس الله روحه ) واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء، في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع : أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم :
بالبلدان ، والحوادث الكبار، ولوقايع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه ، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية ، والأحكام الدينية... إلى أن قال : وذكر أيضا رضي الله عنه: إن القرآن كان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك: بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنه : كان يعرض على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتلى عليه ، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عدة ختمات ، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا ، مرتبا ، غير مبتور ، ولا مبثوث ، وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم ، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته .
وقال الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتاب ( أصل الشيعة وأصولها ) وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للاعجاز والتحدي ، ولتعليم الأحكام ، وتمييز الحلال من الحرام ، وأنه لا نقص فيه ، ولا تحريف ، ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم ، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين: إلى وجود نقص فيه ، أو تحريف ، فهو مخطئ ، يرده نص الكتاب العظيم ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم ، الظاهرة
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 379 _

  وأما قوله : ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) فهو تبارك اسمه أجل وأعظم من أن يظلم ، ولكن قرن أمناءه على خلقه بنفسه ، وعرف الخليقة جلالة قدرهم عنده ، وأن ظلمهم ظلمه ، بقوله ، ( وما ظلمونا ) ببغضهم أولياءنا ومعونة أعدائهم عليهم ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) إذ حرموها الجنة ، وأوجبوا عليها خلود النار.
  وأما قوله : ( إنما أعظكم بواحدة ) فإن الله جل ذكره نزل عزائم الشرائع وآيات الفرائض ، في أوقات مختلفة ، كما خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقها في أقل من لمح البصر، ولكنه جعل الأناة والمداراة أمثالا لأمنائه وإيجابا للحجة على خلقه ، فكان أول ما قيدهم به : الإقرار بالوحدانية والربوبية والشهادة بأن لا إله إلا الله، فلما أقروا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالنبوة والشهادة له بالرسالة ، فلما انقادوا ذلك فرض عليهم الصلاة ، ثم الصوم، ثم الحج ثم الجهاد ، ثم الزكاة، ثم الصدقات، وما يجري مجراها من مال الفيئ ، فقال المنافقون: هل بقي لربك علينا بعد الذي فرضه شئ آخر يفترضه ، فتذكره لتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره ، فأنزل الله في ذلك: ( قل إنما أعظكم بواحدة ) يعني : الولاية ، وأنزل ، ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) وليس بين الأمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ أحد وهو راكع غير رجل ، ولو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط من معناها المحرفون فيبلغ إليك وإلى أمثالك، وعند ذلك قال الله: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .
  وأما قوله للنبي : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وأنك ترى أهل الملل المخالفة للإيمان ومن يجري مجراهم من الكفار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية

---------------------------
<=
في نقصه أو تحريفه ، ضعيفة شاذة ، وأخبار آحاد ، لا تفيد علما ولا عملا ، فإما أن تأول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها عرض الجدار.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 380 _

  وأنه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا ونجوا من عذاب السعير، فإن الله تبارك وتعالى إنما عنى بذلك : أنه جعله سببا لأنظار أهل هذه الدار لأن الأنبياء قبله بعثوا بالتصريح لا بالتعريض ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منهم إذا صدع بأمر الله وأجابه قومه سلموا وسلم أهل دارهم من سائر الخليقة، وإن خالفوه هلكوا وهلك أهل دارهم بالآفة التي كان نبيهم يتوعدهم بها ، ويخوفهم حلولها ونزولها بساحتهم ، من :
  خسف ، أو قذف ، أو رجف ، أو زلزلة، أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الأمم الخالية .
  وأن الله علم من نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن الحجج في الأرض: الصبر على ما لم يطق من تقدمهم من الأنبياء الصبر على مثله ، فبعثه ، فبعثه الله بالتعريض لا بالتصريح ، وأثبت حجة الله تعريضا لا تصريحا بقوله ـ في وصيه ـ : ( من كنت مولاه فهذا مولاه ) .
  و ( هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) وليس من خليقة النبي ولا من النبوة أن يقول قولا لا معنى له ، فلزم الأمة أن تعلم : أنه لما كانت النبوة والأخوة موجودتين في خلقة هارون ، ومعدومتين فيمن جعله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمنزلته أنه قد استخلفه على أمته كما استخلف موسى هارون ، حيث قال له:
  ( أخلفني في قومي ) ولو قال لهم : لا تقلدوا الإمامة إلا فلانا بعينه وإلا نزل بكم العذاب ، لأتاهم العذاب وزال باب الإنظار والإمهال .
  وبما أمر بسد باب الجميع وترك بابه ، ثم قال : ما سددت ولا تركت ولكني أمرت فأطعت، فقالوا سددت بابنا وتركت لأحدثنا سنا .
  فأما ما ذكروه من حداثة سنه ، فإن الله لم يستصغر يوشع بن نون حيث أمر موسى أن يعهد بالوصية إليه ، وهو في سن ابن سبع سنين ، ولا استصغر يحيى وعيسى لما استودعهما عزائمه وبراهين حكمته ، وإنما جعل ذلك جل ذكره لعلمه بعاقبة الأمور، وأن وصيه لا يرجع بعده ضالا ولا كافرا .
  وبأن عمد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى سورة براءة ، فدفعها إلى من علم أن الأمة تؤثره على وصيه ، وأمره بقرائتها على أهل مكة ، فلما ولى من بين يديه أتبعه بوصيه

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 381 _

  وأمر بارتجاعها منه، والنفوذ إلى مكة ليقرأها على أهلها ، وقال : ( إن الله جل جلاله أوحى إلي أن لا يؤدي عني إلا رجل مني ) دلالة منه على خيانة من علم أن الأمة اختارته على وصيه .
  ثم شفع ذلك بضم الرجل الذي ارتجع سورة براءة منه، ومن يوازره في تقدم المحل عند الأمة ، إلى علم النفاق ( عمرو بن العاص ) في غزاة ذات السلاسل، ولاهما عمرو: حرس عسكره .
  وختم أمرهما بأن : ضمهما عند وفاته إلى مولاه أسامة بن زيد ، وأمرهما بطاعته ، والتصريف بين أمره ونهيه ، وكان آخر ما عهد به في أمر أمته قوله :
  ( أنفذوا جيش أسامة ) يكرر ذلك على أسماعهم ، إيجابا للحجة عليهم في إيثار المنافقين على الصادقين.
  ولو عددت كلما كان من أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في إظهار معائب المستولين على تراثه لطال ، وأن السابق منهم إلى تقلد ما ليس له بأهل قام هاتفا على المنبر لعجزه عن القيام بأمر الأمة ، ومستقيلا (1) مما قلدوه لقصور معرفته على تأويل ما كان يسأل عنه ، وجهله بما يأتي ويذر .
  ثم أقام على ظلمه ، ولم يرض باحتقاب عظيم الوزر في ذلك حتى عقد الأمر من بعده لغيره، فأتى التالي بتسفيه رأيه ، والقدح والطعن على أحكامه ، ورفع السيف عمن كان صاحبه وضعه عليه ، ورد النساء اللاتي كان سباهن إلى أزواجهن وبعضهن حوامل ، (2) وقوله : ( قد نهيته عن قتال أهل القبلة فقال لي : إنك لحدب على أهل الكفر وكان هو في ظلمه لهم أولى باسم الكفر منهم ) .
  ولم يزل يخطئه ، ويظهر الأرزاء عليه ، ويقول على المنبر : ( كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى الله شرها ، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه ) وكان يقول : قبل

---------------------------
(1) إشارة إلى قول أبي بكر ( أقيلوني فلست بخيركم ) .
(2) راجع قصة مالك بن نويرة في ترجمة خالد بن الوليد في هامش ص 124 من هذا الكتاب ،

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 382 _

  ذلك قولا ظاهرا ليته حسنة من حسناته ، ويود أنه كان شعرة في صدره ، وغير ذلك من القول المتناقض المؤكد لحجج الدافعين لدين الإسلام.
  وأتى من أمر الشورى وتأكيده بها : عقد الظلم والإلحاد ، والغي والفساد ، حتى تقرر على إرادته ما لم يخف ـ على ذي لب موضع ضرره ـ .
  ولم تطق الأمة الصبر على ما أظهره الثالث من سوء الفعل ، فعاجلته بالقتل فاتسع بما جنوه من ذلك لمن وافقهم على ظلمهم وكفرهم ونفاقهم: محاولة مثل ما أتوه من الاستيلاء على أمر الأمة .
  كل ذلك لتتم النظرة التي أوحاها الله تعالى لعدوه إبليس ، إلى أن يبلغ الكتاب أجله، ويحق القول على الكافرين، ويقترب الوعد الحق ، الذي بينه في كتابه بقوله : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لنستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " (1) وذلك : إذا لم يبق من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه ، وغاب صاحب الأمر بإيضاح الغدر له في ذلك ، لاشتمال الفتنة على القلوب حتى يكون أقرب الناس إليه أشدهم عدواة له .
  وعند ذلك يؤيده الله بجنود لم تروها ، ويظهر دين نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ على يديه ـ على الدين كله ولو كره المشركون .
  وأما ما ذكرته من الخطاب الدال على تهجين النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والأرزاء به ، والتأنيب له ، مع ما أظهره الله تعالى في كتابه من تفضيله إياه على سائر أنبيائه فإن الله عز وجل جعل لكل نبي عدوا من المشركين ، كما قال في كتابه، وبحسب جلالة منزلة نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند ربه ، كذلك عظم محنته لعدوه الذي عاد منه في شقاقه ونفاقه كل أذى ومشقة لدفع نبوته ، وتكذيبه إياه ، وسعيه في مكارهه ، وقصده لنقض كل ما أبرمه، واجتهاده ومن مالأه على كفره ، وعناده ، ونفاقه ، وإلحاده في إبطال دعواه ، وتغيير ملته ، ومخالفته سنته ، ولم ير شيئا أبلغ في تمام كيده من تنفيرهم من موالاة وصيه ، وإيحاشهم منه ، وصدهم عنه ، وإغرائهم بعداوته ،

---------------------------
(1) النور: 55.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 383 _

  والقصد لتغيير الكتاب الذي جاء به ، وإسقاط ما فيه من فضل ذوي الفضل ، وكفر ذوي الكفر ، منه وممن وافقه على ظلمه ، وبغيه ، وشركه ، ولقد علم الله ذلك منهم فقال : ( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ) وقال : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ولقد أحضروا الكتاب كملا مشتملا على التأويل، والتنزيل .
  والمحكم ، والمتشابه ، والناسخ ، والمنسوخ ، لم يسقط منه : حرف ألف ولا لام، فلما وقفوا على ما بينه الله من: أسماء أهل الحق والباطل ، وأن ذلك إن أظهر نقص ما عهدوه قالوا : لا حاجة لنا فيه ، نحن مستغنون عنه بما عندنا ، وكذلك قال : ( فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) .
  دفعهم الاضطرار بورود المسائل عليهم عما لا يعلمون تأويله ، إلى جمعه ، وتأليفه ، وتضمينه من تلقائهم ما يقيمون به دعائم كفرهم ، فصرخ مناديهم : من كان عنده شئ من القرآن فليأتنا به ، ووكلوا تأليفه ونظمه إلى بعض من وافقهم على معادات أولياء الله، فألفه على اختيارهم ، وما يدل للمتأمل له على اختلال تمييزهم ، وافترائهم ، وتركوا منه ما قدروا أنه لهم ، وهو عليهم ، وزادوا فيه ما ظهر تناكره وتنافره ، وعلم الله أن ذلك يظهر ويبين ، فقال ، ( ذلك مبلغهم من العلم ) وانكشف لأهل الاستبصار عوارهم ، وافترائهم.
  والذي بدا في الكتاب من الازراء على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فرقة الملحدين ولذلك قال : ( ويقولون منكرا من القول وزورا ) ويذكر جل ذكره لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يحدثه عدوه في كتابه من بعده بقوله : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته ) يعني : أنه ما من نبي تمنى مفارقة ما يعاينه من نفاق قومه، وعقوقهم ، والانتقال عنهم إلى دار الإقامة ، إلا ألقى الشيطان المعرض لعداوته عند فقده في الكتاب الذي أنزل عليه ، ذمه ، والقدح فيه ، والطعن عليه ، فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله ، ولا تصغي إليه غير قلوب المنافقين، والجاهلين ، ويحكم الله آياته بأن :
  يحمي أوليائه من الضلال والعدوان ، ومشايعة أهل الكفر والطغيان ، الذين لم يرض

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 384 _

  الله أن يجعلهم كالأنعام حتى قال : ( بل هم أضل سبيلا ).
  فافهم هذا واعلمه ، واعمل به ، واعلم أنك ما قد تركت مما يجب عليك السؤال عنه أكثر مما سألت عنه ، وأني قد اقتصرت على تفسير يسير من كثير لعدم حملة العلم ، وقلة الراغبين في التماسه، وفي دون ما بينت لك بلاغ لذوي الألباب.
  قال السائل: حسبي ما سمعت يا أمير المؤمنين، شكرا لله لك على استنقاذي من عماية الشرك، وطخية الإفك، وأجزل على ذلك مثوبتك ، إنه على كل شئ قدير ، وصلى الله أولا وآخرا على أنوار الهدايات، وأعلام البريات ، محمد وآله أصحاب الدلالات الواضحات، وسلم تسليما كثيرا .
  عن الأصبغ بن نباتة قال : لما بويع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لابسا بردته ، منتعلا بنعل رسول الله، ومتقلدا بسيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فصعد المنبر، فجلس متمكنا ، ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ، ثم قال :
  يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني : وهذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، هذا ما زقني رسول الله زقا زقا ، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين .
  أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم ، حتى ينطق كل كتاب من كتب الله فيقول : ( صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل الله في ) وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم : ما أنزل الله فيه ، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم : بما كان ، وما يكون ، وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) (1).
  ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي فلق الحبة وبرئ النسمة ، لو سألتموني عن : آية آية في ليل نزلت أم في نهار نزلت ، مكيها ومدنيها ، سفريها

---------------------------
(1) الرعد ـ 93 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 385 _

  وحضريها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأنبأتكم .
  فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟
  فأجابه بما تقدم ذكرنا إياه (1).
  قال : فسلوني قبل أن تفقدوني .
  فقام إليه رجل من أقصي المجلس فقال : يا أمير المؤمنين دلني على عمل ينجيني الله به من النار ، ويدخلني الجنة !
  قال : اسمع ، ثم افهم ، ثم استيقن ، قامت الدنيا بثلاث : بعالم ناطق مستعمل لعلمه ، وبغني لا يبخل بماله على أهل دين الله، وبفقير صابر .
  فإذا كتم العالم علمه ، وبخل الغني بماله ، ولم يصبر الفقير على فقره، فعندها الويل والثبور ، وكادت الأرض أن ترجع إلى الكفر بعد الإيمان.
  أيها السائل لا تغترن بكثرة المساجد ، وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم متفرقة، فإنما الناس ثلاث : زاهد ، وراغب ، وصابر.
  أما الزاهد فلا يفرح بالدنيا إذا أتته ، ولا يحزن عليها إذا فاتته.
  وأما الصابر فيتمناها بقلبه ، فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لعلمه بسوء العاقبة.
  وأما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم من حرام .
  ثم قال : يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان ؟
  قال ينظر إلى ولي الله فيتولاه ، وإلي عدو الله فيتبرأ منه وإن كان حميما قريبا .
  قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ثم غاب فلم ير .
  فقال : هذا أخي الخضر ( عليه السلام ) تمام الخبر.
  وعن الأصبغ بن نباتة قال : خطبنا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على منبر الكوفة فحمد الله وأثني عليه ، ثم قال :

---------------------------
(1) مر جوابه ( عليه السلام ) لسائل سأله السؤال نفسه فقال : ( لم أك بالذي أعبد من لم أره ... الخ ) فراجعه .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 386 _

  أيها الناس سلوني فإن بين جوانحي علما جما.
  فقام إليه ابن الكوا فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا ؟
  قال : الرياح.
  قال : فما الحاملات وقرا ؟
  قال : السحاب.
  قال : فما الجاريات يسرا ؟
  قال : السفن.
  قال : فما المقسمات أمرا.
  قال : الملائكة.
  قال : يا أمير المؤمنين وجدت كتاب الله ينقض بعضه بعضا.
  قال : ثكلتك أمك يا بن الكوا كتاب الله يصدق بعضه بعضا ، ولا ينقض بعضه بعضا، فسل عما بدا لك .
  قال : يا أمير المؤمنين سمعته يقول : ( رب المشارق والمغارب ) وقال في آية أخرى: ( رب المشرقين ورب المغربين ) وقال في آية أخرى : ( رب المشرق والمغرب ) .
  قال : ثكلتك أمك يا بن الكوا، هذا المشرق وهذا المغرب ، وأما قوله: رب المشرقين ورب المغربين ، فإن مشرق الشتاء على حدة ، ومشرق الصيف على حدة أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها ؟ وأما قوله : رب المشارق والمغارب ، فإن لها ثلثمائة وستين برجا ، تطلع كل يوم من برج ، وتغيب في آخر ، فلا تعود إليه إلا من قابل في ذلك اليوم.
  قال : يا أمير المؤمنين كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك ؟
  قال : ثكلتك أمك يا بن الكوا سل متعلما ، ولا تسأل متعنتا ، من موضع قدمي إلى عرش ربي أن يقول قائل مخلصا : ( لا إله إلا الله ) .
  قال : يا أمير المؤمنين فما ثواب من قال : لا إله إلا الله ؟
  قال : من قال لا إله إلا الله مخلصا طمست ذنوبه ، كما يطمس الحرف

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 387 _

  الأسود من الرق الأبيض ، فإن قال ثانية لا إله إلا الله مخلصا خرقت أبواب السماوات وصفوف الملائكة حتى يقول الملائكة بعضها لبعض : اخشعوا لعظمة الله فإذا قال ثالثة لا إله إلا الله مخلصا ، تنته دون العرش ، فيقول الجليل: ( اسكني فوعزتي وجلالي لأغفرن لقائلك بما كان فيه ) ثم تلا هذه الآية : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) يعني إذا كان عمله صالحا ارتفع قوله وكلامه .
  قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن قوس قزح .
  قال : ثكلتك أمك لا تقل: قوس قزح فإن قزحا اسم شيطان ، ولكن قل:
  قوس الله، إذا بدت يبدو الخصب والريف .
  قال : أخبرني يا أمير المؤمنين عن المجرة التي تكون في السماء.
  قال : هي شرج في السماء، وأمان لأهل الأرض من الغرق ، ومنه غرق الله قوم نوح بماء منهمر قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن المحو الذي يكون في القمر.
  قال : ( عليه السلام ) : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، رجل أعمى يسأل عن مسألة عمياء ، أما سمعت الله تعالى يقول : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) (1).
  قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  قال : عن أي أصحاب رسول الله تسألني ؟
  قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن أبي ذر الغفاري.
  قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ) .
  قال : يا أمير المؤمنين فاخبرني عن سلمان الفارسي.
  قال : بخ بخ سلمان منا أهل البيت ، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم، علم علم الأول والآخر.

---------------------------
(1) الإسراء ـ 12.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 388 _

  قال يا أمير المؤمنين أخبرني عن حذيفة بن اليماني.
  قال : ذاك امرء علم أسماء المنافقين ، أن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالما.
  قال : يا أمير المؤمنين فاخبرني عن عمار بن ياسر .
  قال : ذاك امرء حرم الله لحمه ودمه على النار أن تمس شيئا منها.
  قال : يا أمير المؤمنين فاخبرني عن نفسك .
  قال : كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدئت.
  قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول الله عز وجل: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) الآية.
  قال : كفرة أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
  ثم نزل عن المنبر وضرب بيده على منكب ابن الكوا .
  ثم قال : يا بن الكوا وما أهل النهروان منهم ببعيد .
  فقال : يا أمير المؤمنين ما أريد غيرك ، ولا أسأل سواك .
  قال : فرأينا ابن الكوا يوم النهروان فقيل له : ثكلتك أمك، بالأمس تسأل أمير المؤمنين عما سألته ، وأنت اليوم تقاتله فرأينا رجلا حمل عليه فطعنه فقتله وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن علي ( عليه السلام ) قال : سلوني عن كتاب الله عز وجل ، فوالله ما نزلت آية من كتاب الله في ليل ونهار ، ولا مسير ولا مقام ، إلا وقد أقرأنيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعلمني تأويلها .
  فقام إليه ابن الكوا فقال : يا أمير المؤمنين فما كان ينزل عليه وأنت غائب عنه ؟
  قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كان ينزل عليه من القرآن وأنا غائب عنه حتى أقدم عليه ، فيقرأنيه ويقول لي : يا علي أنزل الله علي بعدك كذا وكذا ، وتأويله كذا وكذا فيعلمني تنزيله وتأويله .
  وجاء في الآثار : أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يخطب فقال في خطبته : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله لا تسألوني عن فتنة تضل مائة وتهدي مائة إلا أنبأتكم

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 389 _

  ناعقها ، وسائقها إلى يوم القيامة .
  فقام إليه رجل (1) فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر .
  فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله لقد حدثني خليلي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما سألت عنه ، وإن على كل طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك ، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطانا يستفزك ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله، ذلك مصداق ما أخبرتك به ولولا أن الذي سألت يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن آية ذلك ما نبأتك به من لعنك ، وسخلك الملعون، وكان ابنه في ذلك الوقت صبيا صغيرا يحبو فلما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان تولي قتله ، وكان الأمر كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
  روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال : ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا ، وإلههم واحد ، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد ، أفأمرهم الله سبحانه بالإختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) (2) ( وفيه تبيان كل شئ ) وذكر أن الكتاب يصدق بعضه

---------------------------
(1) هو الأشعث بن قيس لعنه الله.
(2) الأنعام ـ 38.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 390 _

  بعضا ، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) وأن القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفني عجائبه ، ولا تنقي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به .
  وروي أنه ( عليه السلام ) قال : إن أبغض الخلايق إلى الله تعالى رجلان :
  رجل وكله الله إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل، سائر بغير علم ولا دليل ، مشعوف بكلام بدعة ، (1) ودعاء ضلالة ، فهو : فتنة لمن افتتن به ، ضال عن هدي من كان قبله ، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمال خطايا غيره ، رهن بخطيئته .
  ورجل قمش جهلا ، فوضع في جهال الأمة، غار في أغباش الفتنة، قد لهج منها بالصوم والصلاة ، عمي في عقد الهدنة ، سماه الله: عاريا منسلخا ، وسماه أشباه الناس: عالما وليس به ، ولما يغن في العلم يوما ، سالما بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن ، وأكثر من غير طائل جلس بين الناس مفتيا ، قاضيا ، ضامنا لتلخيص ما التبس على غيره ، إن خالف من سبقه : لم يأمن من نقض حكمه من يأتي من بعده ، كفعله بمن كان قبله فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ، ثم قطع به فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت ، خباط جهالات ، وركاب عشوات ، ومفتاح شبهات ، فهو لا يدري أصاب الحق أم أخطأ ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، فهو من رأيه في مثل نسج غزل العنكبوت الذي إذا مرت به النار لم يعلم بها ، لم يعض على العلم بضرس قاطع ، فيغنم بذري الروايات إذراء الريح الهشيم ، لأملي والله بإصدار ما ورد عليه ، لا يحسب العلم في شئ مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما ذهب فيه مذهب ناطق ما بلغ منه مذهبا لغيره ، وإن قاس شيئا بشئ لم يكذب رأيه ، كيلا يقال له : لا يعلم شيئا ، وإن خالف قاضيا سبقه لم يؤمن فضيحته حين خالفه ، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما

---------------------------
(1) المشعوف : المجنون الوله.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 391 _

  يعلم من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعج منه المواريث ، إلى الله أشكو معشرا يعيشون جهالا ، ويموتون ضلالا ، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ، وتولول منه الفتيا ، وتبكي منه المواريث ، ويحلل بقضائه الفرج الحرام ، ويحرم بقضائه الفرج الحلال ، ويأخذ المال من أهله فيدفعه إلى غير أهله.
  وروي أنه صلوات الله عليه قال ـ بعد ذلك ـ :
  أيها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعتذرون بجهالته، فإن العلم الذي هبط به آدم وجميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيين في عترة نبيكم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأنى يتاه بكم ؟! بل أين تذهبون ؟! يا من نسخ من أصلاب أصحاب السفينة !
  هذه مثلها فيكم فاركبوها، فكما نجى في هاتيك من نجى فكذلك ينجو في هذه من دخلها، أنا رهين بذلك قسما حقا وما أنا من المتكلفين، والويل لمن تخلف ثم الويل لمن تخلف، أما بلغكم ما قال فيكم نبيكم حيث يقول ـ في حجة الوداع ـ :
  ( إني تارك فيكم الثقلين ، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) ألا هذا عذب فرات فاشربوا منه ، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا .
  وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال ـ لرأس اليهود ـ : على كم افترقتم ؟
  فقال على كذا وكذا فرقة .
  فقال علي ( عليه السلام ) : كذبت ثم أقبل على الناس فقال:
  والله لو ثنيت لي الوسادة : لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل القرآن بقرآنهم .
  افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، سبعون منها في النار وواحدة ناجية في الجنة ، وهي : التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى ( عليه السلام ) .
  وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة ، إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة بالجنة ، وهي : التي اتبعت شمعون الصفا وصي عيسى ( عليه السلام ) .
  وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 392 _

  وواحدة في الجنة ، وهي التي اتبعت وصي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وضرب بيده على صدره ثم قال :
  ثلاثة عشر فرقة من الثلاث وسبعين فرقة كلها تنتحل مودتي، وحبي، واحدة منها في الجنة ، وهي : النمط الأوسط واثنتا عشرة في النار.
  عن مسعدة بن صدقة ، (1) عن جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال:
  سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( كيف أنتم إذا لبستم الفتنة ، ينشؤ فيها الوليد ، ويهرم فيها الكبير ، ويجري الناس عليها حتى يتخذونها سنة ، فإذا غير منها شئ قيل أتى الناس بمنكر ، غيرت السنة، ثم تشتد البلية ، وتنشؤ فيها الذرية وتدقهم الفتن كما تدق النار الحطب ، وكما تدق الرحا بثقالها ، يتفقه الناس لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ) .
  ثم أقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومعه ناس من أهل بيته ، وخاص من شيعته، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم قال :
  لقد عمل الولاة قبلي بأمور عظيمة خالفوا فيها رسول الله متعمدين لذلك ، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها التي كانت عليها على عهد رسول الله لتفرق عني جندي ، حتى أبقى وحدي إلا قليلا من شيعتي ، الذين عرفوا فضلي وإمامتي من كتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة سلام الله عليها ، ورددت صاع رسول الله ومده إلى ما كان ، وأمضيت إلى قطايع كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أقطعها للناس سنين ، ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته ، وهدمتها وأخرجتها من المسجد ، ورددت الخمس إلى أهله ، ورددت قضاء كل من قضى بجور ، ورددت سبي ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض

---------------------------
(1) مستعدة بن صدقة : عده الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى من أصحاب الباقر والصادق ( عليهما السلام ) ، وذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 260 فقال :
مسعدة بن صدقة: قال الشيخ رحمه الله: إنه عامي ، وقال الكشي إنه بتري .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 393 _

  خيبر، ومحوت ديوان العطاء، وأعطيت كما كان يعطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء.
  والله لقد أمرت الناس : أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة ، فنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل وسيفه معي : ( أنعى الإسلام وأهله غيرت سنة عمر ) ونهى أن يصلى في شهر رمضان في جماعة ، حتى خفت أن يثور في ناحية عسكري على ما لقيت ، ولقيت هذه الأمة من أئمة الضلالة ، والدعاة إلى النار.
  وأعظم من ذلك سهم ذوي القربى، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه ( واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) (1) وذلك لنا خاصة إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ، نحن والله عنى بذوي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه ، ولم يجعل لنا في الصدقة نصيبا، أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ أيدي الناس.
  فقال له رجل : إني سمعت من سلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، أشياء في تفسير القرآن والرواية عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن والأحاديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنتم تخالفونهم ، وتزعمون أن ذلك باطل ، فترى الناس يكذبون متعمدين على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويفسرون القرآن بآرائهم ؟
  قال : فأقبل علي ( عليه السلام ) عليه فقال له : سألت فافهم الجواب : إن في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وخاصا وعاما ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله وهو حي ، حتى قام خطيبا فقال :
  ( أيها الناس قد كثرت علي الكذابة ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) .

---------------------------
(1) الأنفال ـ 41

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 394 _

  وإنما أتاك بالحديث : أربعة رجال ليس لهم خامس .
  رجل منافق : مظهر للإيمان ، متصنع بالإسلام ، لا يتأثم ، ولا يتحرج ، يكذب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متعمدا ، فلو علم الناس: أنه منافق ، كاذب ، لم يقبلوا منه ، ولم يصدقوا قوله ، ولكنهم قالوا : ( صاحب رسول الله، رآه وسمع منه ، ولقف عنه ) فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك الله تعالى عن المنافقين بما أخبرك ، ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان ، فولوهم الأعمال ، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا ، إلا من عصم الله تعالى ، فهذا أحد الأربعة.
  ورجل: سمع من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ، ولم يتعمد كذبا فهو في يديه ، يرويه ، ويعمل به ، ويقول : إنما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه ، لم يقبلوه منه ، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه .
  ورجل ثالث : سمع من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئا يأمر به ، ثم نهى عنه ، وهو لا يعلم ، أو سمعه نهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ، ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه ، وآخر لم يكذب على الله، ولا على رسوله ، مبغض للكذب خوفا لله تعالى ، وتعظيما لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولم يهم به بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به على ما سمعه ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ وجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ موضعه ، وعرف المتشابه والمحكم .
  وقد كان يكون من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الكلام له وجهان : فكلام خاص ، وكلام عام ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله تعالى به ، ولا ما عنى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه ، ولا ما قصد به ، وما خرج من

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 395 _

  أجله، وليس كل أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسأله ويستفهمه ، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي أو الطاري فيسأله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يسمعوا كلامه ، وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه ، وحفظته ، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم ، وعللهم في رواياتهم .
  وعن يحيى الحضرمي (1) قال سمعت عليا عليه السلام يقول:
  كنا جلوسا عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو نائم ورأسه في حجري .
  قيل لي : ما الدجال ؟
  فاستيقظ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) محمر وجهه ، فقال : فيما أنتم ؟
  فقلت له : يا رسول الله سألوني عن الدجال.
  فقال : لغير الدجال أنا أخوف عليكم من الدجال، الأئمة الضالون المضلون يسفكون دماء عترتي ، أنا حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم .

جواب مسائل الخضر ( عليه السلام ) للحسن بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بحضرة أبيه ( عليه السلام )
.
  عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري (2) عن أبي جعفر بن محمد بن علي الثاني ( عليهم السلام ) قال :

---------------------------
(1) يحيى الحضرمي من أصحاب أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) كان هو وابنه عبد الله من شرطة الخميس نقل أن أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) قال لعبد الله بن يحيى الحضرمي ـ يوم الجمل ـ أبشر يا بن يحيى : فإنك وأباك من شرطة الخميس حقا ، لقد أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس ، والله سماكم في السماء: ( شرطة الخميس ) على لسان نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
(2) أبو هاشم الجعفري : داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم البغدادي وكان ثقة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة عند الأئمة ( عليهم السلام ) ، وقد شاهد منهم : الرضا ، والجواد ، والهادي ، والعسكري
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 396 _

  قبل أمير المؤمنين ذات يوم ومعه الحسن بن علي ( عليهما السلام ) ، وسلمان الفارسي ( ره ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) متكئ على يد سلمان ، فدخل المسجد الحرام فجلس ، فأقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فرد ( عليه السلام ) فجلس ثم قال :
  يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل ، إن أخبرتني بهن علمت أن القوم ركبوا من أمرك ما أفضى إليهم أنهم ليسوا بمأمونين في دنياهم ولا في آخرتهم.
  وإن يكن الأخرى علمت أنك وهم شرع سواء .
  فقال أمير المؤمنين عليه السلام: سلني عما بدا لك .
  فقال : أخبرني، عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه ، وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال ؟
  فالتفت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى أبي محمد الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقال : يا أبا محمد أجبه فقال ( عليه السلام ) :

---------------------------
<=
وصاحب الأمر صلوات الله عليهم أجمعين، وكان منقطعا إليهم، وقد روى عنهم كلهم ، وله أخبار ومسائل ، وله شعر جيد فيهم ( عليهم السلام ) منه قوله في أبي الحسن الهادي ( عليهم السلام ) وقد اعتل:
مـادت  الأرض بي وأدت فؤادي      واعـتـرتني مـوارد iiالـعرواء
حـين  قـيل الإمـام نضو عليل      قـلت نـفسي فـدته كـل iiالفداء
مـرض الـدين لاعتلالك iiواعتل      وغــارت لـه نـجوم الـسماء
عـجبا  أن مـنيت بالداء iiوالسقم      وأنــت  الإمـام حـسم iiالـداء
أنت آسى الأدواء في الدين والدنيا      ومـحـيى الأمـوات iiوالأحـياء

وكان مقدما عند السلطان ، وكان ورعا ، زاهدا ، ناسكا ، عالما ، عاملا ، ولم يكن أحد في آل أبي طالب ( عليهم السلام ) مثله في زمانه في علو النسب ، وذكر السيد ابن طاووس رحمه الله: أنه من وكلاء الناحية الذين لا تختلف الشيعة فيهم ، توفي في ج 1 سنة ( 261 ) عن الكنى والألقاب للقمي ج 1

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 397 _

  أما ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه ، فإن : روحه متعلقة بالريح ، والريح متعلقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة ، فإن أذن الله برد تلك الروح على صاحبها، جذبت تلك الروح الريح ، وجذبت تلك الريح الهواء، فرجعت فسكنت في بدن صاحبها ، وإن لم يأذن الله عز وجل برد تلك الروح على صاحبها ، جذبت الهواء الريح، فجذبت الريح الروح ، فلم ترد على صاحبها إلى وقت ما يبعث .
  وأما ما ذكرت من أمر الذكر والنسيان فإن : قلب الرجل في حق ، وعلى الحق طبق ، فإن صلى الرجل عند ذلك على محمد وآل محمد صلاة تامة ، انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحق ، فأضاء القلب ، وذكر الرجل ما كان نسي ، وإن لم يصل على محمد وآل محمد ، أو نقص من الصلاة عليهم ، انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق ، فأظلم القلب، ونسي الرجل ما كان ذكره .
  وأما ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه وأخواله فإن : الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن ، وعروق هادئة ، وبدن غير مضطرب ، فأسكنت تلك النطفة جوف الرحم خرج الولد يشبه أبه وأمه ، وإن هو أتاها بقلب غير ساكن وعروق غير هادية ، وبدن مضطرب، اضطربت النطفة فوقعت في حال اضطرابها على بعض العروق : فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه ، وإن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله .
  فقال الرجل أشهد أن لا إله إلا الله، ولم أزل أشهد بها ، وأشهد أن محمدا رسول الله، ولم أزل أشهد بذلك ، وأشهد أنك وصي رسول الله القائم بحجته ـ وأشار إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ ولم أزل أشهد بها ، وأشهد أنك وصيه والقائم بحجته ـ وأشار إلى الحسن ( عليه السلام ) ـ وأشهد أن الحسين بن علي وصي أبيك والقائم بحجته بعدك ، وأشهد على علي بن الحسين أنه القائم بأمر الحسين بعده ، وأشهد على محمد ابن علي عليه السلام أنه القائم بأمر علي بن الحسين بعده ، وأشهد على جعفر بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي بعده ، وأشهد على موسى بن جعفر أنه القائم بأمر جعفر بن

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 398 _

  محمد بعده ، وأشهد على علي بن موسى الرضا بأنه القائم بأمر موسى بن جعفر بعده وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن موسى ، وأشهد على علي بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي ، وأشهد على الحسن بن علي أنه القائم بأمر علي بن محمد ، وأشهد على رجل من ولد الحسن بن علي لا يكنى ولا يسمى حتى يظهر أمره فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
  ثم قام فمضى ، فقال أمير المؤمنين للحسن : يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد .
  فخرج في أثره فقال: فما كان إلا أن وضع رجله خارج المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله، فرجعت إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأعلمته .
  فقال ( عليه السلام ) : يا أبا محمد أتعرفه ؟
  قلت ، الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم.
  قال : هو الخضر ( عليه السلام ) .

جوابه عن مسائل جاءت من الروم ثم من الشام الجاري مجرى الاحتجاج بحضرة أبيه ( عليهما السلام )
.
  روى محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ( عليهما السلام ) قال :
  بينا أمير المؤمنين في الرحبة والناس عليه متراكمون ، فمن بين مستفتي، ومن بين مستعدي ، إذ قام إليه رجل فقال :
  السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .
  فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، من أنت ؟
  قال : أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك .

---------------------------
(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته : محمد بن قيس أبو نصير ـ بالنون ـ الأسدي من أصحاب الصادق ( عليه السلام ) ثقة ثقة .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 399 _

  فقال له : ما أنت برعيتي وأهل بلادي ، ولو سلمت علي يوما واحدا ما خفيت علي.
  فقال : الأمان يا أمير المؤمنين.
  فقال : هل أحدثت منذ دخلت مصري هذا ؟
  قال : لا .
  قال : فلعلك من رجال الحرب ؟
  قال : نعم .
  قال : إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس .
  قال : أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلا لك ، أسألك عن شئ بعث به ابن الأصفر إليه ، وقال له : إن كنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمد فأجبني عما أسألك، فإنك إن فعلت ذلك اتبعتك ، وبعثت إليك بالجائزة ، فلم يكن عنده جواب وقد أقلقه فبعثني إليك لأسألك عنها .
  فقال : أمير المؤمنين عليه السلام: قاتل الله ابن آكلة الأكباد، وما أضله وأعماه ومن معه ، حكم الله بيني وبين هذه الأمة ، قطعوا رحمي ، وأضاعوا أيامي، ودفعوا حقي ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي ، يا قنبر علي بالحسن ، والحسين ، ومحمد ، فاحضروا .
  فقال : يا شامي هذان ابنا رسول الله، وهذا ابني، فاسأل أيهم أحببت .
  فقال : اسأل ذا الوفرة يعني : الحسن ( عليه السلام ) فقال له الحسن ( عليه السلام ) : سلني عما بدا لك .
  فقال الشامي : كم بين الحق والباطل ؟ وكم بين السماء والأرض ؟ وكم بين المشرق والمغرب ؟ وما قوس قزح ؟ وما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين وما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين ؟ وما المؤنث ؟ وما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض ؟
  فقال الحسن ( عليه السلام ) : بين الحق والباطل أربع أصابع ، فما رأيته بعينك فهو

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 400 _

  الحق، وقد تسمع بأذنيك باطلا كثيرا .
  فقام الشامي : صدقت .
  قال : وبين السماء والأرض دعوة المظلوم ، ومد البصر ، فمن قال لك غير هذا فكذبه .
  قال : صدقت يا بن رسول الله.
  قال : وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس ، تنظر إليها حين تطلع من مشرقها، وتنظر إليها حين تغيب في مغربها .
  قال : صدقت ، فما قوس قزح ؟
  قال : ويحك لا تقل قوس قزح فإن قزح اسم الشيطان، وهو قوس الله، وهذه علامة الخصب، وأمان لأهل الأرض من الغرق .
  وأما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين فهي عين يقال لها : ( برهوت ) وأما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين فهي عين يقال لها : ( سلمى ) .
  وأما المؤنث فهو الذي لا يدرى أذكر أم أنثى فإنه : ينتظر به فإن كان ذكرا احتلم ، وإن كان أنثى حاضت ، وبدا ثديها ، وإلا قيل له : ( بل على الحايط ) فإن أصاب بوله الحايط فهو ذكر ، وإن انتكص بوله كما ينتكص بول البعير فهي امرأة .
  وأما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض فأشد شئ خلقه الله الحجر، وأشد من الحجر الحديد يقطع به الحجر، وأشد من الحديد النار تذيب الحديد، وأشد من النار الماء يطفي النار، وأشد من الماء السحاب يحمل الماء ، وأشد من السحاب الريح تحمل السحاب ، وأشد من الريح الملك الذي يرسلها ، وأشد من الملك ملك الموت الذي يميت الملك ، وأشد من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت ، وأشد من الموت أمر الله الذي يميت الموت.
  فقال الشامي: أشهد أنك ابن رسول الله حقا ، وأن عليا أولى بالأمر من معاوية ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية ، فبعثها إلى ابن الأصفر.