الفهرس العام

إحتجاجه ( عليه السلام ) في الاعتذار من قعوده عن قتال من تأمر عليه من الأولين وقيامه إلى قتال من بغي عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين.

إحتجاجه عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجيئ والذهاب والتغيير والزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباته ومحاوراته .


  الحق وتنقاد لأول الغي (1) ؟
  وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أرسل عبد الله بن العباس إلى الخوارج وكان بمرأى منهم ومسمع قالوا له في الجواب:
  إنا نقمنا يا بن عباس على صاحبك خصالا كلها مكفرة ، موبقة ، تدعوا إلى النار أما ( أولها ) فإنه محي اسمه من إمرة المؤمنين (2) ثم كتب بينه وبين معاوية فإذا لم يكن أمير المؤمنين ونحن المؤمنون لسنا نرضى بأن يكون أميرنا.
  وأما ( الثانية ) فإنه شك في نفسه حين قال للحكمين : ( انظروا فإن كان معاوية أحق بها فاثبتاه ، وإن كنت أولى بها فاثبتاني ) فإذا هو شك في نفسه ولم يدر أهو المحق أم معاوية ، فنحن فيه أشد شكا .
  و ( الثالثة ) إنه جعل الحكم إلى غيره وقد كان عندنا أحكم الناس.
  و ( الرابعة ) إنه حكم الرجال في دين الله ولم يكن ذلك إليه.
  و ( الخامسة ) : إنه قسم بيننا الكراع والسلاح يوم البصرة ومنعنا النساء والذرية و ( السادسة ) إنه كان وصيا فضيع الوصية.
  قال ابن عباس: قد سمعت يا أمير المؤمنين مقالة القوم، وأنت أحق بجوابهم فقال: نعم.
  ثم قال: يا بن عباس قل لهم ألستم ترضون بحكم الله وحكم رسوله ؟
  قالوا: نعم .

---------------------------
(1) أي حين عرضت لهم الشبهة من رفع المصاحف.
(2) حين أمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كاتبه أن يكتب: (إن هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان) قال عمرو بن العاص ( اكتب اسمه واسم أبيه ولا تسميه بإمرة المؤمنين فإنما هو أمير هؤلاء وليس هو بأميرنا ) ولما أصروا على ذلك قال أمير المؤمنين: الله أكبر سنة بسنة ومثل بمثل وذكر قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له يوم الحديبية: لك مثلها ثم أمر فكتبوا ، ( هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب...

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 277 _

  قال : ابدأ على ما بدأتم به (1) في بدئ الأمر.
  ثم قال : كنت أكتب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الوحي، والقضايا ، والشروط ، والأمان يوم صالح أبا سفيان ، وسهيل بن عمرو فكتبت :
  بسم الله الرحمن الرحيم
  هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله أبا سفيان صخر بن حرب، وسهيل بن عمرو فقال سهيل: لا نعرف الرحمن الرحيم، ولا نقر أنك رسول الله، ولكنا نحسب ذلك شرفا لك أن تقدم اسمك على أسمائنا وإن كنا أسن منك وأبي أسن من أبيك.
  فأمرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : اكتب ـ مكان بسم الله الرحمن الرحيم :
  ( باسمك اللهم ) فمحوت ذلك وكتبت : ( باسمك اللهم ) ومحوت ( رسول الله ) وكتبت ( محمد بن عبد الله ) فقال لي ( إنك تدعى إلى مثلها فتجيب وأنت مكره (2) ) وهكذا كتبت بيني وبين معاوية وعمرو بن العاص: ( هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص ) فقالا : لقد ظلمناك بأن أقررنا بأنك أمير المؤمنين وقاتلناك ، ولكن اكتب: علي بن أبي طالب ( فمحوت كما محي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإن أبيتم ذلك فقد جحدتم ، فقالوا : هذه لك خرجت منها .
  قال : وأما قولكم ( إني شككت في نفسي حيث قلت للحكمين : انظرا فإن كان معاوية أحق بها مني فاثبتاه ) فإن ذلك لم يكن شكا مني ، ولكن أنصفت في القول، قال الله تعالى : ( وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (3) )

---------------------------
(1) أي ابدأ في الرد على إشكالاتكم مما بدأتم به في عرضها حسب التسلسل ، أو أبدأ معكم بتحكيم القرآن كما بدأتم في أول الأمر .
(2) جاء في قصة الحديبية أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( يا علي إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة والذي بعثني بالحق نبيا لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد ) .
(3) 24 ـ سبأ .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 278 _

  ولم يكن ذلك شكا وقد علم الله أن نبيه على الحق، قالوا : وهذه لك .
  قال : وأما قولكم : ( إني جعلت الحكم إلى غيري وقد كنت عندكم أحكم الناس ) فهذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جعل الحكم إلى سعد يوم بني قريظة وقد كان من أحكم الناس وقد قال الله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (1) ( فتأسيت برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قالوا : وهذه لك بحجتنا .
  قال : وأما قولكم : ( إني حكمت في دين الله الرجال ) فما حكمت الرجال وإنما حكمت كلام ربي ، الذي جعله الله حكما بين أهله، وقد حكم الله الرجال في طائر فقال : ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم (2) ) فدماء المسلمين أعظم من دم طائر قالوا : وهذه لك بحجتنا .
  قال: وأما قولكم : ( إني قسمت يوم البصرة لما ظفرني الله بأصحاب الجمل الكراع والسلاح ومنعتكم النساء والذرية ) فإني مننت على أهل البصرة كما من رسول الله على أهل مكة ، فإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم ، ولم نأخذ صغيرا بكبير فأيكم كان يأخذ عائشة في سهمه ؟ قالوا : وهذه لك بحجتنا .
  قال : وأما قولكم : ( إني كنت وصيا فضيعت الوصية فأنتم كفرتم وقدمتم علي ، وأزلتم الأمر عني ، وليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم ، إنما يبعث الله الأنبياء عليهم السلام فيدعون إلى أنفسهم ، وأما الوصي فمدلول عليه مستغن عن الدعاء إلى نفسه ، وذلك لمن آمن بالله ورسوله ، ولقد قال الله جل ذكره : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (3) ) فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إياه، ولكن كانوا يكفرون بتركهم ، لأن الله تعالى قد نصبه لهم علما وكذلك نصبني علما حيث قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى وأنت مني بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي ) فقالوا : وهذه لك بحجتنا .

---------------------------
(1) الأحزاب ـ 21.
(2) المائدة ـ 95.
(3) آل عمران ـ 97.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 279 _

  فاذعنوا فرجع بعضهم وبقي منهم أربعة آلاف لم يرجعوا ممن كانوا قعدوا عنه فقاتلهم وقتلهم.
  روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان جالسا في بعض مجالسه بعد رجوعه من نهروان (1) فجرى الكلام حتى قيل له : لم لا حاربت أبا بكر وعمر كما حاربت طلحة والزبير ومعاوية ؟
  فقال علي ( عليه السلام ) إني كنت لم أزل مظلوما مستأثرا على حقي (2) فقام إليه الأشعث بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين لم لم تضرب بسيفك ، ولم تطلب بحقك ؟
  فقال : يا أشعث قد قلت قولا فاسمع الجواب وعه ، واستشعر الحجة، إن لي أسوة بستة من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين .
  أولهم نوح حيث قال : ( رب إني مغلوب فانتصر (3) ) فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.
  وثانيهم لوط حيث قال : ( لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد (4) ) فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.
  وثالثهم إبراهيم خليل الله حيث قال : ( واعتزلكم وما تدعون من دون الله (5) )

---------------------------
(1) النهروان: وهي ثلاث نهروانات ، أعلى وأوسط وأسفل ، وهو : كورة واسعة أسفل من بغداد من شرقي تامرا ، منحدرا إلى واسط ، فيها عدة بلاد متوسطة منها اسكاف وجرجرايا ، والصافية ، وديرقنى وغير ذلك .
مراصد الإطلاع ج 3 ص 1407
(2) استأثر بالشئ على الغير: استبد به وخص به نفسه .
(3) القمر: ـ 10
(4) هود: ـ 80
(5) مريم: ـ 48

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 280 _

  فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر .
  ورابعهم موسى ( عليه السلام ) حيث قال : ( ففررت منكم لما خفتكم (1) ) فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.
  وخامسهم أخوه هارون حيث قال : ( يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني (2) ) فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر وسادسهم أخي محمد خير البشر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث ذهب إلى الغار ونومني على فراشه فإن قال قائل : إنه ذهب إلى الغار لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر .
  فقام إليه الناس بأجمعهم فقالوا : يا أمير المؤمنين قد علمنا أن القول قولك ونحن المذنبون التائبون، وقد عذرك الله.
  وعن إسحاق بن موسى (3) أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : خطب أمير المؤمنين ( عليه السلام )خطبة بالكوفة فلما كان في آخر كلامه قال : ألا وإني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقام إليه أشعث بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلا وقلت : ( والله إني لأولى الناس بالناس فما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله ) ولما ولي تيم (4) وعدي (5) إلا ضربت بسيفك دون ظلامتك ؟
  فقال أمير المؤمنين: يا بن الخمارة قد قلت قولا فاسمع مني والله ما منعني من ذلك إلا عهد أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخبرني وقال لي : ( يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك وتنقض عهدي ، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ) فقلت يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان ذلك كذلك ، فقال : ( إن وجدت أعوانا فبادر إليهم وجاهدهم

---------------------------
(1) الشعراء: 21
(2) الأعراف: 150
(3) إسحاق بن موسى : عده الشيخ في أصحاب الإمام الرضا ( عليهم السلام ) وكان يلقب بالأمين كما في عمدة الطالب وتوفي سنة ( 240 ) كما في منتهى الآمال للشيخ عباس القمي .
(4) تيم : في قريش رهط أبي بكر وهو تيم بن مرة.
(5) عدي : قبيلة من قريش وهم رهط عمر بن الخطاب.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 281 _

  وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوما ( فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ثم آليت يمينا (1) أني لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت ، ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم قالوا :
  لا حاجة لنا به ، ثم أخذت بيد فاطمة ، وابني الحسن والحسين ، ثم درت على أهل بدر ، وأهل السابقة، فأنشدتهم حقي ، ودعوتهم إلى نصرتي ، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط : سلمان ، وعمار والمقداد ، وأبو ذر ، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي ، وبقيت بين حفيرين قريبي العهد بجاهلية عقيل والعباس .
  فقال له الأشعث: كذلك كان عثمان لما لم يجد أعوانا كف يده حتى قتل.
  فقال له أمير المؤمنين: يا بن الخمارة ليس كما قست ، إن عثمان جلس في غير مجلسه ، وارتدى بغير ردائه ، صارع الحق، فصرعه ألحق، والذي بعث محمدا بالحق لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهط لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري ثم قال :
  أيها الناس إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز (2).
  وروى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال : كنت عند أمير المؤمنين بالرحبة (3) فذكرت الخلافة وتقدم من تقدم عليه

---------------------------
(1) آليت: أقسمت.
(2) العفطة من الشاة: كالعطس من الإنسان.
(3) تجد هذه الخطبة في ج 1 من نهج البلاغة ص 25 وهي الخطبة المعروفة ب ( الشقشقية ) لقوله ( عليهم السلام ) في جواب ابن عباس : ( هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت ) وتعرف أيضا ( بالمقمصة ) لقوله ( عليه السلام ) : ( أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ) تسمية للشئ بأشهر ألفاظه كما هو الحال في أسماء سور القرآن الكريم كسورة آل عمران، والرحمن ، والواقعة ، ويس وغيرها .
وهذه الخطبة الجليلة في حسن أسلوبها ، وبديع نظمها ، وفصاحة ألفاظها ، دليل لا يقبل التردد ، ولا يتطرق إليه الشك في كونها صادرة عن مركز الثقل الإلهي ، ومعدن
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 282 _

  فتنفس الصعداء (1) ثم قال:
  أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة (2) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب

---------------------------
<=
الوصاية والإمامة ، فهي حقا كما قيل : ( فوق كلام المخلوق دون كلام الخالق ) وقد رواها الشيخ المفيد في الإرشاد ص 137 وقال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج ص 69 ج 1: حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ( 603 ) قال : قرأت على الشيخ أبي محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة .
إلى أن قال : فقلت له : أتقول إنها منحولة ؟ فقال : لا والله، وإني لأعلم : صدورها منه كما أعلم: أنك ( مصدق ) قال : فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون : إنها من كلام الرضي رحمة الله تعالى فقال : أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب ؟
قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في ( خل ولا خمر ) ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد ولد الرضي قلت : وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ، ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر ابن قبة أحد متكلمي الإمامية ، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب ( الإنصاف ) وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا .
(1) تنفس الصعداء ـ بضم الصاد وفتح المهملتين ـ : المدفوع من التنفس يصعده المتلهف الحزين.
(2) ابن أبي قحافة أبو بكر واسمه عبد الله وفي الجاهلية عتيق واسم أبيه عثمان والضمير في تقمصها عائد إلى الخلافة وإنما لم يذكرها للعلم بها وتقمصها جعلها مشتملة عليه كالقميص كناية عن تلبسه بها .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 283 _

  من الرحى (1) ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلى الطير ، فسدلت ودونها ثوبا (2) وطويت عنها كشحا (3) وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء (4)، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه (5)، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى (6)، فصبرت وفي العين قذى ،

---------------------------
(1) قطب الرحا مسمارها الذي عليه تدور فكما أن الرحى لا تدور إلا على القطب وبغيره لا يستقيم لها دوران، فكذلك الخلافة محله منها محل القطب من الرحى: لا تستقيم حركتها ولا تأخذ استقامتها بغيره وهو وحده القادر على تدبير شؤونها وإدارتها حسب المصلحة العامة ووفق الخطة الإلهية الحكيمة.
(2) سدلت : أرخيت ، كناية عن إعراضه عنها، واحتجابه عن طلبها.
(3) الكشح: ما بين الخاصرة والجنب ، أنزل الخلافة منزلة المأكول الذي منع نفسه عنه، فلم يشتمل عليه كشحه.
(4) طفقت: جعلت ، وأخذت ، وشرعت ، وأرتأي أفكر طلبا للرأي الصائب وصال: حمل نفسه على الأمر بقوة ، والطخية : قطعة من الغيم .
أي: جعلت أدير الفكر وأجيله في أمر الخلافة، وأردده في طرفي نقيض إما أن أشهر السيف وأصول على الغاصبين للخلافة ، والمعتدين على حقي ، أو أترك وأصبر ، وفي كلا الحالين خطر فإما القيام والثورة فبيد مقطوعة من غير ناصر ولا معين ، وإما الثاني فلما يؤول إليه الحال: من اختلاط الأمور ، وعدم انتظام الحياة ، والتمييز بين الحق والباطل ، فكما أن الظلمة والعمى لا يهتدي معهما للتمييز بين الأشياء ، فكذلك اضطراب الهيئة الاجتماعية ، وتشابك المشاكل وازدحامها لا يهتدي معه لوجه الحق.
(5) الهرم: شدة كبر السن ، والكدح : سعي المجهود وتلك الشدة ، وذلك الاضطراب ، وهاتيك الأحوال المظلمة وطول مدتها أدت إلى أن: يهرم فيها الكبير ، ويشيب الصغير ، ويتعب المؤمن في تمييز الحقائق وتمحيصها وما يبذله من جهد في سبيل الدفاع عن الحق حتى يلقى ربه .
(6) هاتا: هذه وأحجى أقرب للحجى وهو العقل .
فرأيت الصبر على هذه الحال وترك المقاومة أقرب للعقل ، وألصق بنظام الإسلام
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 284 _

  وفي الحلق شجا (1) أرى تراثي نهبا (2) حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى عمر من بعده ، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته (3)، لشد ما تشطرا ضرعيها (4)، ثم تمثل بقول الأعشى (5)،
شتان ما يومي على كورها      ويـوم  حـيان أخي جابر

  فصيرها في ناحية خشناء يجفو مسها ، ويغلظ كلمها (6)،

---------------------------
<=
وأحفظ لبيضته سيما وهو بعد غض لم ترسخ له قدم في نفوس أتباعه ، والثورة في هذه الحال ربما تؤدي إلى خلاف الغرض ، وتعكس النتيجة ، وتكون سببا للردة ، والرجوع عن الدين ، فترك المقاومة أحجى وأضمن لسلامة الإسلام ، وتحمل الشر الحادث من جراء ذلك أهون .
(1) القذى: الرمد ، والشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه .
أي صبرت ولكن على مضض كما يصبر الأرمد وهو يحس بوجع العين ، وكما يصبر من غص بشئ فهو يكابد الخنق.
(2) يريد بتراثه : الخلافة.
(3) أدلى بها : ألقى بها إليه ، والإقالة : فك العهد والاستقالة : طلب ذلك .
أشار بقوله ( عليه السلام ) : ) يستقيلها ( إلى قول أبي بكر : أقيلوني لست بخيركم )
(4) شد الأمر: صعب وعظم ، وتشطرا : اقتسما ، والضرع : للحيوانات مثل الثدي للمرأة .
(5) هو أعشى قيس واسمه ميمون بن جندل من بني قيس من قصيدة أولها:
علقم ما أنت إلى iiعامر      الناقص الأوتار والواتر

(6) الكلم: الجرح.
كني عن طباع عمر بن الخطاب ( بالناحية الخشناء ) لأنه كان يوصف بالجفاوة وسرعة الغضب ، وغلظ الكلام ، حتى روي أنه أمر أن يؤتى بامرأة لحال اقتضت ذلك ـ وكانت حاملا ـ فلما دخلت عليه أجهزت جنينا لما شاهدته من غلظ طبيعة أبي حفص وظهور القوة الغضبية على قسمات وجهه وشدته في الكلام ، وذلك ما أراده أمير المؤمنين من قوله ( في ناحية خشناء ) ثم إنه عليه السلام وصف تلك الطبيعة بوصفين :
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 285 _

  ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها (1) ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم (2) ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون واعتراض (3) ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة! حتى إذا مضى لسبيله ،

---------------------------
<=
أحدهما : غلظ المواجهة بالكلام وقد قيل : جرح اللسان أشد من وخز السنان.
وثانيهما : جفاوة المس المانعة من ميل الطباع إليه.
(1) عثر : إذا أصابت رجله حجر أو نحوه .
فيه إشارة إلى ما كان عليه عمر بن الخطاب من التسرع في إصدار الأحكام غير الصائبة كأمره برجم المرأة الحامل وطلاق الحائض ، وغيرها من الأمور التي كانت تدعوه للاعتذار بعد أن يتبين له الخطأ بإرشاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد تكرر قوله :
( لولا على لهلك عمر ) و ( لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن ) و ( لا عشت لمعضلة لا تكون لها يا أبا الحسن ).
(2) الصعبة من الإبل: الغير المذللة ، وأشنق لها بالزمام : إذا جذبه إلى نفسه وهو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة ، والخرم الشق ، وأسلس لها : أرخى لها ، وتقحم في الأمر: ألقى نفسه فيه بقوة ، فصاحبها أي: صاحب تلك الطباع الخشنة مثله ـ وهو يتولى شؤون الرعية وتدبير أمورهم ـ كمثل راكب الناقة الصعبة التي لم تذلل ، فهو بين خطرين أن جذبها إليه شق أنفها ، وإن أرخى لها القياد ألقت به في المهالك والناقة الصعبة هي الرعية لأنها لم تألفه وتنفر من طباعه فلا تسقيم له بحال ، أو يكون المراد بالناقة الصعبة هو صاحب تلك الطباع ، وحينئذ يكون المقصود من قوله ( عليه السلام ) إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم إن الذي يريد إصلاح صاحب تلك الطباع واقع بين خطرين فإن أنكر عليه وقع الانشقاق والاختلاف بينهما ، وإن تكره وشأنه أدى به الأمر إلى الإخلال بالواجب .
ووجه ثالث يمكن أن يكون المقصود بالناقة الخلافة فإذا استرجعها بالقوة شق عصا المسلمين وأوقع الخلاف في صفوفهم مما يؤدي بالنتيجة إلى الردة ، وإن تركها وسكت عنها، سارت في غير اتجاهها فهو منها بين خطرين .
(3) مني الناس: ابتلوا ، والخبط الحركة على غير استقامة ، والشماس ـ بكسر
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 286 _

  فجعلها شور في جماعة زعم أني أحدهم (1) فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنني أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا (2)، فصبرت على طول المحنة ، وانقضاء المدة ، فمال رجل منهم لضغنه ، وصغى الآخر لصهره ، مع هن وهن (3)

---------------------------
<=
الشين ـ كثرة النفار والاضطراب ، والتلون : اختلاف الأحوال ، والاعتراض ضرب من التلون وأصله المشي في عرض الطريق.
(1) خلاصة حديث الشورى: إن عمر بن الخطاب لما طعنه أبو لؤلؤة وأيقن بالموت دعا وجوه الصحابة ، وعرض عليهم موضوع الخلافة ، وأشير فيما أشير عليه بابنه عبد الله فقال : لا لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل ، حسب عمر ما احتقب ، لا أتحملها حيا وميتا ، ثم قال : إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة ( على ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ) فأما سعد فلا يمنعني منه إلا عنفه وفضاضته ، وأما من عبد الرحمن فلأنه قارون هذه الأمة وأما من طلحة فتكبره ونخوته ، وأما من الزبير فشحه ، ولقد رأيته بالبقيع يقاتل على صاع من شعير ، ولا يصلح لهذا الأمر إلا رجل واسع الصدر وأما من عثمان فحبه لقومه وعصبيته لهم ، وأما من علي فحرصه على هذا الأمر ودعابة فيه ، ثم قال : يصلي صهيب بالناس ثلاثة أيام ، وتخلوا الستة نفر في البيت ثلاثة أيام ليتفقوا على رجل منهم ، فإن استقام أمر خمسة وأبى رجل فاقتلوه ، وإن استقر أمر ثلاثة وأبى ثلاثة فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف .
(2) أسف الطائر: إذا دنى من الأرض في طيرانه .
(3) صغا : مال ، والضغن : الحقد ، والهن : على وزن أخ كناية عن شئ قبيح الذي مال لحقده هو : سعد بن أبي وقاص ، والذي مال لصهره عبد الرحمن بن عوف حيث مال إلى عثمان لمصاهرة بينهما .
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد عن جيش الكناني قال : لما صفق عبد الرحمن على يد عثمان بالبيعة في يوم الدار قال له أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) : حركك الصهر وبعثك على ما صنعت ، والله ما أملت منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه ، دق الله بينكما عطر منشم
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 287 _

  إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه (1)، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع (2)، إلى أن انتكث عليه فتله ، وكبت به بطنته ، وأجهز عليه عمله (3) ، فما راعني إلا والناس رسل إلي كعرف الضبع ، ينثالون علي من كل جانب (4) ، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي (5) ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (6) ،

---------------------------
<=
وعطر منشم هو عطر صعب الدق والمراد به هنا الموت ، وهكذا كان فقد بلغ الحال في الخلاف بينهما أن أعلن عثمان تحريم مجالسة عبد الرحمن ، ووجوب نبذه ، وابرأ الذمة ممن يكلمه أو يعاطيه معاطاة أي مواطن يتمتع بحقوقه الاجتماعية .
(1) النفج: النفخ ، والنثل : الروث والمعتلف : موضع الاعتلاف .
(2) الخضم: الأكل بجميع الفم وقيل المضغ بأقصى الأضراس.
قال ابن أبي الحديد ـ في شرحه على النهج ج 1 ص 66 ـ :
وصحت فيه فراسة عمر بن الخطاب ، إذ قد أوطأ بني أمية رقاب الناس ، وأولاهم الولايات وأقطعهم القطايع ، وافتتحت أرمينيا في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان إلى أن قال : وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم وأعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن سيره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم ، وتصدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بموضع سوق بالمدينة يعرف ( بنهروز ) على المسلمين ، فاقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم ، وأقطع مروان فدكا وقد كانت فاطمة طلبتها بعد وفاة أبيها رسول الله تارة بالميراث ، وتارة بالنحلة فدفعت عنها إلى آخر ما ذكره ابن أبي الحديد فليراجع وعمل الحجة الأميني في ج 9 من كتاب الغدير قائمة بمصروفاته على قومه وذويه فلتراجع أيضا .
(3) انتكث: انتقض ، والفتل: برم الحبل ، وكبا الفرس : أسقط لوجهه .
والبطنة : شدة الامتلاء من الطعام ، وأجهز ـ على المريض ـ : قتله وأسرع .
(4) الروع الخلد والذهن وأراعني : أفزعني ، وانثال ـ الشئ ـ إذا وقع يتلو بعضه بعضا
(5) العطاف: الرداء، وعطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركيه ، أي شق قميصه من جانبيه من شدة الازدحام عليه .
(6) ربيضة الغنم: المجتمعة برعاتها .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 288 _

  فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وفسق آخرون (1) ، كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه وتعالى يقول : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (2) ) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكن حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها (3) .
  أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على أولياء الأمر: أن لا يقروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز .
  قال : فقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فقطع كلامه ، فأقبل ينظر إليه فرغ من قرائته ، قال ابن عباس : قلت له : يا أمير المؤمنين لو أطردت مقالتك من حيث أفضيتها .
  قال : يا بن عباس هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت .
  قال ابن عباس : فما أسفت على شئ ولا تفجعت كتفجعي على ما فاتني من كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
  وأمثال هذه الأخبار من كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كثيرة ، أوردنا طرفا منها للإيجاز والاختصار .
  ومما يوضح ما أثبتناه ما روي عن أم سلمة زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنها قالت :
  كنا عند رسول الله تسع نسوة ، وكانت ليلتي ويومي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأتيت الباب فقلت أدخل يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقال : لا .

---------------------------
(1) مروق السهم : خروجه من الرمية.
المراد بالناكثين للبيعة هم : طلحة والزبير بايعوا ثم نكثوا البيعة ، والمارقين هم : الخوارج والقاسطين أصحاب معاوية .
(2) القصص: 83
(3) الزبرج ـ بكسر الزاء والراء ـ : الزينة.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 289 _

  قالت : فكبوت كبوة شديدة ، مخافة أن يكون ردني من سخط أو نزل في شئ من السماء ، ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثانية فقلت أدخل يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : لا ، فكبوت كبوة أشد من الأولى.
  ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثالثة فقلت : أدخل يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقال ادخلي يا أم سلمة ، فدخلت وعلي جاث بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا كان كذا وكذا فما تأمرني فقال : آمرك بالصبر ، ثم أعاد عليه القول ثانية ، فأمره بالصبر ، ثم أعاد عليه القول ثالثة فأمره بالصبر ، ثم أعاد عليه القول رابعة فقال له : يا علي يا أخي إذا كان ذلك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك ، واضرب به قدما حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم .
  ثم التفت إلي وقال: ما هذه الكآبة يا أم سلمة ، قلت : للذي كان من ردك إياي يا رسول الله، فقال لي والله ما رددتك إلا لشئ خبرت من الله ورسوله ، لكن أتيتيني وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي ، وأمرني أن أوصي بذلك عليا ، يا أم سلمة اسمعي واشهدي ، هذا علي بن أبي طالب عليه السلام وزيري في الدنيا ، ووزيري في الآخرة ، يا أم سلمة اسمعي واشهدي ، هذا علي بن أبي طالب ، وصيي ، وخليفتي من بعدي ، وقاضي عداتي ، والذائد عن حوضي ، اسمعي واشهدي ، هذا علي بن أبي طالب ، سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين، قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ، قلت : يا رسول الله من الناكثون قال : الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة قلت : من القاسطون ؟ قال : معاوية وأصحابه من أهل الشام قلت : من المارقون ؟ قال : أصحاب نهروان .
  وروي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال في أثناء خطبة خطبها بعد فتح البصرة بأيام :
  حاكيا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله ، يا علي إنك باق بعدي ، ومبتلى بأمتي ومخاصم بين يدي الله، فأعدد للخصومة جوابا ، فقلت : بأبي وأمي أنت بين لي ما هذه الفتنة التي ابتلى بها ؟ وعلى ما أجاهد بعدك ؟ فقال : لي إنك ستقاتل بعدي

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 290 _

  الناكثة ، والقاسطة ، والمارقة، وحلاهم وسماهم رجلا رجلا ، وتجاهد من أمتي كل من خالف القرآن وسنتي ، ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين إنما هو أمر الرب ونهيه ، فقلت : يا رسول الله فأرشدني إلى الفلح عند الخصومة يوم القيامة ، فقال: نعم ، إذا كان ذلك كذلك فاقتصر على الهدى ، إذا قومك عطفوا الهدى على الهوى ، وعطفوا القرآن على الرأي ، فتأولوه برأيهم بتتبع الحجج من القرآن لمشتهيات الأشياء الطارية عند الطمأنينة إلى الدنيا ، فاعطف أنت الرأي على القرآن ، وإذا قومك حرفوا الكلمة عند مواضعه عند الأهوال الساهية ، والأمراء الطامحة ، والقادة الناكثة ، والفرقة القاسطة ، والأخرى المارقة أهل الإفك المردي والهوى المطغي ، والشبهة الخالفة ، فلا تنكلن عن فضل العاقبة ، فإن العاقبة للمتقين .
  وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين الخ (1) ) قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لأجاهدن العمالقة ، يعني الكفار والمنافقين فأتاه جبرئيل فقال : أنت أو علي عليه السلام.
  وعن جابر بن عبد الله الأنصاري: (2) قال : إني كنت لأدناهم من رسول

---------------------------
(1) التوبة ـ 73 .
(2) جابر بن عبد الله من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شهد بدرا وأدرك الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) ، وبلغه سلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وممن انقطع لأهل البيت .
روي عن أبي عبد الله ( عليهم السلام ) أنه قال : إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو معتم بعمامة سوداء ، وكان ينادي يا باقر العلم ، يا باقر العلم وكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر فكان يقول لا والله لا أهجر ولكني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( إنك ستدرك رجلا من أهل بيتي ، اسمه اسمي ، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقرا ) فذاك الذي دعاني إلى ما أقول .
رجال العلامة ص 34 رجال الكشي ص 42 ـ 45

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 291 _

  الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حجة الوداع بمنى فقال : لأعرفنكم ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، وأيم الله لو فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم ، ثم التفت إلى خلفه ، فقال ، أو علي ، أو علي ، أو علي ، ثلاث مرات ، فرأينا على أثر ذلك أن جبرئيل عليه السلام غمزه ، فأنزل الله تعالى على أثر ذلك: ( فإما تذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدنا هم فإنا عليهم مقتدرون (1) ) .
  وعن ابن عباس : أن عليا عليه السلام كان يقول ـ في حياة رسول الله ـ إن الله يقول : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (2) ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله، لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، لأني أخوه وابن عمه ، ووارثه ، فمن أحق به مني .
  وعن أحمد بن همام (3) قال : أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر ، فقلت : يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف ، فقال : يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ، ولا تبحثونا ، فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي بكر ، كما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحق بالنبوة من أبي جهل ، قال : وأزيدكم إنا كنا ذات يوم عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجاء علي ( عليه السلام ) ، وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فدخل أبو بكر ، ثم دخل عمر ، ثم دخل علي عليه السلام على أثرهما، فكأنما سفي على وجه رسول الله الرماد ، ثم قال : يا علي أيتقدمانك هذان ، وقد أمرك الله عليهما ، فقال أبو بكر : نسيت يا رسول الله، وقال عمر:
  سهوت يا رسول الله، فقال رسول : ما نسيتما ولا سهوتما ، وكأني بكما قد سلبتماه ملكه ، وتحاربتما عليه ، وأعانكما على ذلك أعداء الله، وأعداء رسوله ، وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها، وذلك لأمر قد قضي ،

---------------------------
(1) الزخرف ـ 41 .
(2) آل عمران ـ 144
(3) لم أعثر على ترجمته في كتب الرجال .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 292 _

  ثم بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى سالت دموعه ، ثم قال : يا علي الصبر الصبر حتى ينزل الأمر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك ، فإذا أمكنك الأمر: فالسيف السيف، القتل القتل ، حتى يفيئوا إلى أمر الله، وأمر رسوله ، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل، وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة .
  وعن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كنت أنا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المسجد بعد أن صلى الفجر، ثم نهض ونهضت معه ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا أراد أن يتجه إلى موضع أعلمني بذلك ، وكان إذا أبطأ في ذلك الموضع صرت إليه لأعرف خبره ، لأنه لا يتصابر قلبي على فراقه ساعة واحدة فقال لي : أنا متجه إلى بيت عائشة ، فمضى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومضيت إلى بيت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فلم أزل مع الحسن والحسين فأنا وهي مسروران بهما ، ثم إني نهضت وسرت إلى باب عائشة ، فطرقت الباب فقالت : من هذا ؟ فقلت لها : أنا علي فقالت : إن النبي راقد ، فانصرفت ، ثم قلت : النبي راقد وعائشة في الدار، فرجعت وطرقت الباب فقالت لي عائشة : من هذا ؟ فقلت لها : أنا علي فقالت : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على حاجة فانثنيت مستحييا من دق الباب، ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبرا ، فرجعت مسرعا فدققت الباب دقا عنيفا، فقالت لي عائشة : من هذا ؟ فقلت : أنا علي فسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : يا عائشة افتحي له الباب ، ففتحت ودخلت ، فقال لي :
  أقعد يا أبا الحسن أحدثك بما أنا فيه ، أو تحدثني بإبطائك عني ، فقلت يا رسول الله حدثني فإن حديثك أحسن ، فقال : يا أبا الحسن كنت في أمر كتمته من ألم الجوع ، فلما دخلت بيت عائشة ، وأطلت القعود ليس عندها شئ تأتي به ، فمددت يدي وسألت الله القريب المجيب ، فهبط علي حبيبي جبرئيل عليه السلام ومعه هذا الطير ووضع إصبعه على طائر بين يديه ، فقال : إن الله عز وجل أوحى إلي: أن آخذ هذا الطير وهو أطيب طعام في الجنة فآتيك به يا محمد ، فحمدت الله عز وجل كثيرا ، وعرج جبرئيل فرفعت يدي إلى السماء فقلت : ( اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 293 _

  يأكل معي من هذا الطير ) فمكثت مليا فلم أر أحدا يطرق الباب، فرفعت يدي ثم قلت : ( اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني وتحبه وأحبه يأكل معي من هذا الطير ) فسمعت طرق الباب وارتفاع صوتك ، فقلت لعائشة : أدخلي عليا فدخلت ، فلم أزل حامدا لله حتى بلغت إلي إذ كنت تحب الله وتحبني ويحبك الله وأحبك ، فكل يا علي ، فلما أكلت أنا والنبي الطائر، قال لي : يا علي حدثني فقلت : يا رسول الله لم أزل منذ فارقتك أنا وفاطمة والحسن والحسين مسرورين جميعا ، ثم نهضت أريدك فجئت فطرقت الباب فقالت لي عائشة : من هذا ؟ فقلت : أنا علي فقالت :
  إن النبي راقد ، فانصرفت ، فلما أن صرت إلى بعض الطريق الذي سلكته رجعت .
  فقلت : النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راقد وعائشة في الدار لا يكون هذا ، فجئت فطرقت الباب فقالت :
  لي من هذا ؟ فقلت لها : أنا علي فقالت : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على حاجة فانصرفت مستحييا ، فلما انتهيت إلى الموضع الذي رجعت منه أول مرة ، وجدت في قلبي ما لا أستطيع عليه صبرا وقلت : النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على حاجة وعائشة في الدار، فرجعت فدققت الباب الدق الذي سمعته ، فسمعتك يا رسول الله وأنت تقول لها : ادخلي عليا فقال النبي: ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبى الله إلا أن يكون الأمر هكذا ، يا حميراء ما حملك على هذا ؟ قالت : يا رسول الله اشتهيت أن يكون أبي يأكل من هذا الطير فقال لها :
  ما هو بأول ضغن بينك وبين علي ، وقد وقفت لعلي ـ إن شاء الله ـ لتقاتلنه .
  فقالت : يا رسول الله وتكون النساء يقاتلن الرجال ؟
  فقال لها : يا عائشة إنك لتقاتلين عليا ، ويصحبك ويدعوك إلى هذا نفر من أهل بيتي وأصحابي ، (1) فيحملونك عليه ، وليكونن في قتالك له أمر يتحدث به الأولون والآخرون ، وعلامة ذلك أنك تركبين الشيطان ، ثم تبتلين قبل أن تبلغي إلى الموضع الذي يقصد بك إليه ، فتنبح عليك كلاب الحوأب ، فتسألين

---------------------------
(1) يريد بأهل بيته المعنى العام لأهل بيت الرجل أي : أقاربه والمقصود هنا هو : الزبير بن العوام ، وليس المقصود من أهل البيت المعنى الخاص المقصور على الخمسة من أصحاب الكساء ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 294 _

  الرجوع فتشهد عندك قسامة أربعين رجلا: ما هي كلاب الحوأب، فتنصرفين إلى بلد أهله أنصارك ، (1) وهو أبعد بلاد على الأرض من السماء، وأقربها إلى الماء ولترجعن وأنت صاغرة بالغة ما تريدين ، ويكون هذا الذي يردك مع من يثق به من أصحابه ، وإنه لك خير منك له، ولينذرنك بما يكون الفراق بيني وبينك في الآخرة، وكل من فرق علي بيني وبينه بعد وفاتي ففراقه جائز .
  فقالت يا رسول الله ليتني مت قبل أن يكون ما تعدني .
  فقال لها : هيهات هيهات! والذي نفسي بيده ليكونن ما قلت ، حق كأني أراه ثم قال لي : قم يا علي فقد وجبت صلاة الظهر ، حتى آمر بلالا بالأذان فأذن بلال وأقام وصلى وصليت معه ولم يزل في المسجد.

إحتجاجه عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجيئ والذهاب والتغيير والزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباته ومحاوراته
.
  الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعمه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون (2)

---------------------------
(1) وفي نسخة ( فتصيرين ) بدل تنصرفين .
(2) الحمد هو : الثناء على الجميل من نعمة وغيرها ، والبلوغ هو الوصول أو المشارفة ، والمدحة : فعلة من المدح وهي : ( الهيئة ) كالجلسة للجالس ، والركبة للراكب والاحصاء : إنها العدد والإحاطة بالمعدود والمجتهد : من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعه وطاقته في طلبه .
في الجملة الأولى إشارة: إلى العجز عن القيام بالثناء عليه سبحانه كما يستحقه وكما هو أهله ، وهي في معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) وفي الجملة الثانية : اعتراف بالقصور عن القدرة على حصر أنعم الله على تعددها
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 295 _

  الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، (1) الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود ، (2) فطر الخلايق بقدرته ، ونشر الرياح برحمته ، ووتد بالصخور ميدان أرضه ، (3) أول الدين معرفته ،

---------------------------
<=
وكثرتها بحيث لا يحيط بها حصر الإنسان ، وهذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى: ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) .
وفي الثالثة: اعتراف بالعجز عن أداء شكر المنعم ، وأداء حقه اللازم على العباد مهما بذلوا من جهد ، فكل حركة وسكون يصدران من الإنسان مستندان إلى وجوده تعالى وهي نعمة منه تعالى على عباده ولذا جاء في الأثر: أن موسى ( عليهم السلام ) سأل ربه قائلا : ( يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكر إلا بنعمة ثانية من نعمك ) فأوحى الله تعالى إليه: ( إذا عرفت هذا فقد شكرتني ) .
(1) الهمم ـ جمع الهمة ـ وهي : العزم والجزم الثابت الذي لا يعتريه فتور.
والنيل: الإصابة ، والفطن ـ جمع فطنة بالكسر ـ وهي : الحذق وجودة استعداد الذهن لتصور ما يرد عليه .
بعد الهمم علوها وتعلقها بالأمور ، العالية أي: إن الهمم وإن علت وبعدت لا يمكن أن تدركه مهما حلقت في سماء المدارك العالية، كما أن الفطن الغائصة في بحار الأفكار هي الأخرى لا تصل إلى كنه حقيقته .
(2) حد الشئ: منتهاه والنعت: الصفة والأجل : المدة المضروبة للشئ ، أي ليس لصفاته الذاتية من القدرة: والاختيار ، والعلم ، والحياة ، حد معين ينتهي إليه ويقف عنده كما هو الحال في الموجودات الممكنة فإنها جميعا لها حد تنقطع إليه وتقف عنده ، كما أنها لا تنعت بنعوت موجودة أي: زائدة متغيرة ، فعلمه مثلا لا ينعت : بالزيادة والنقصان ـ كما هو الحال بالنسبة لنا ـ وقدرته لا توصف بالقوة والضعف بل هو منزه عن كل هذه النعوت وصفاته عين ذاته ، كما أنها أزلية فليس لها وقت معدود ، وأبدية فليس لها أجل ممدود .
(3) فطر: خلق ، والنشر: البسط ، ووتد ـ بالتخفيف والتشديد ـ ثبت .
والميدان ـ بفتح الميم والياء ـ الحركة.
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 296 _

  وكمال معرفته التصديق به ، وكمال تصديقه توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، (1) لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، (2) ومن أشار إليه فقد حده ومن حده فقد عده ، ومن قال : ( فيم ؟ ) فقد ضمنه ، ومن قال : ( على م ؟ ) فقد أخلي منه ، (3) كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شئ لا بمزايلة فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من حلقه ، متوحد إذ لا

---------------------------
<=
أي: سكن الأرض بعد اضطرابها وهي من قوله تعالى: ( وجعلنا الجبال أوتادا ) وقوله: ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) .
(1) أول الدين معرفته أي: إن معرفته سبحانه أساس الطاعة والعبادة ، فما لم ـ يعرف لا يمكن أن يطاع ، ولا تتم معرفته ، ما لم يذعن العبد ويحكم : بوجوب وجوده ولا يذعن ويحكم بوجوب وجوده ، ما لم يؤمن ويحكم له بالوحدانية ، وأنه لا شريك له في ذاته ، لأن الواجب لا يتعدد ، ثم إن كمال هذا التوحيد يكون بالاخلاص له ، وهو : إما جعله خاليا عن النقائص وسلب الجسمية والعرضية وأمثالها عنه ، أو الإخلاص له بالعمل وكمال هذا الإخلاص هو : نفي الصفات الزائدة عنه تعالى فصفاته تعالى عين ذاته ـ علمه ، وقدرته ، وإرادته ، وحياته ، وسمعه ، وبصره ، كلها موجودة بوجود ذاته الأحدية ، وذاته جامعة ومستوعبة لها وهي عينها ، وليست هي على كثرتها وتعدد معانيها وتغاير مفهوماتها زائدة على الذات خارجة عنها .
(2) أي: من وصف الله سبحانه بصفة زائدة على ذاته خارجة عنها ، ( فقد قرنه ) بغيره في الوجود ومن ( قرنه ) بغيره فقد صيره ثانيا لقد يمين يصدق عليهما :
( واجب الوجود ) وحينئذ يكون قد ( جزأه ) لأن كل واحد من القديمين جزء لذلك الواجب، و ( من جزأه ) فقد ( جهله ) إذ جعله في عداد الممكنات، ولم يعرف الوجود الواجب فهو لا يتعدد ولا يتجزأ كما هو ثابت في علم الكلام .
(3) ضمنه: جعله محتويا عليه وأخلي منه : جعله خاليا منه .
( ومن أشار إليه ) سواء بالإشارة العقلية كأن يجعل له حدا منطقيا مركبا من
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 297 _

  سكن يستأنس به ، ولا يستوحش لفقده (1) أنشأ الخلق إنشاءا : وابتدأه ابتداءا بلا روية أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها ، أحال الأشياء لأوقاتها ، ولائم بين مختلفاتها ، وغرز غرائزها ، وألزمها

---------------------------
<=
جنس وفصل ، أو بالإشارة الحسية ( فقد حده ) وذلك أن كل مشار إليه لا بد أن يكون في جهة ما ، وكل ما هو في جهة فلا بد من أطراف وأقطار هي حدوده وينتهي عندها و ( من ) فعل ذلك و ( حده ) ( فقد عده ) في عداد الممكنات ، ومن قال ( فيم ) هو فقد جعله ضمن شئ ومن قال ( على م ) هو فقد جعله مستعل على شئ وغير مستعل على غير وحينئذ يكون قد ( أخلي منه ) ذلك الغير
(1) حدث الشئ: تجدد وجوده ، والمزايلة: المفارقة ، والسكن بفتحتين : ما يسكن إليه من أهل ومال .
هذه الفقرات كل منها مركبة من قضيتين ، إحداهما موجبة، والأخرى سالبة، والفرق بين الفقرتين الأوليتين ( كائن لا عن حدث ) و ( موجود لا عن عدم ) إذ يبدو أن معناهما واحد في نفيهما تجدد الوجود، هو : أن الفقرة الأولى تنفي تجدد الحدوث الزماني يعني أنه كائن منذ الأزل، والثانية تنفي التجدد الذاتي وتثبت وجوب وجوده ( مع كل شئ لا بمقارنة ) كما أنه ( غير كل شئ ) ولكن ( لا بمزايلة ) ومفارقة ، فالمقارنة والمفارقة من الصفات الجسمانية وذاته المقدسة منزهة عن الجسمانيات فهو مع كل شئ بمعنى أنه عالم بكل شئ محيط به ، شاهد عليه ، غير غائب عنه ، ولكن هذه المعية وتلك الغيرية ليست كما هي بالنسبة لنا من المقارنة والمفارقة التي هي من خصائص الجسمية ولوازمها ، وذاته المجردة لا تشبه شيئا من ذوات الموجودات الممكنة فهو ( فاعل ) ولكن ( لا بمعنى الحركات والآلة ) ومن صيق الألفاظ نعبر عن صفاته القدسية بهذه الألفاظ المتعارفة بيننا ، والتي نطلقها عليه كما نطلقها على سائر الممكنات، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ( بصير ) منذ الأزل ( إذ لا منظور إليه من خلقه ) ( متوحد ) في سلطانه وملكوته ( إذ لا سكن يستأنس به ) و ( لا ) أنيس ( يستوحش لفقده ) فالوحشة والأنس من لوازم الطبيعة الحيوانية، وهو منزه عنها .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 298 _

  أشباحها، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها ، عارفا بقرائنها وأحنائها (1) وقال عليه السلام في خطبة أخرى: (2) أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه ، جل أن تحله الصفات بشهادة العقول: إن كل من حلته الصفات فهو مصنوع وشهادة العقول: أنه جل جلاله صانع ليس بمصنوع ، بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول يعتقد معرفته ، وبالفكر تثبت حجته ، جعل الخلق دليلا عليه ، فكشف به ربوبيته ، هو الواحد الفرد في أزليته، لا شريك له في إلهيته ، ولا ند له في ربوبيته ، بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور المقترنة

---------------------------
(1) نشأ الشئ: حدث وتجدد ، والابتداء : بمعنى الإنشاء والروية: الفكر والتدبر ، وأجال به : إذا أداره والتجربة : الاختبار ، والهمامة : التردد ، وأحال الأشياء : صرفها وحولها ولائم : أصلح والغريزة : الطبيعة ، والأشباح : الإشخاص والإحاطة : الاستدارة والشمول والأحناء ـ جمع الحنوة ـ : الجانب والناحية .
( أنشأ الخلق إنشاءا ) من غير مادة (وابتدأهم ابتداءا) من دون مثال سبق ( بلا روية أجالها ) ولا فكر أداره ( ولا تجربة استفادها ) ولا خبرة اكتسبها من قبل ( ولا أحدثها ) كالحركة الحادثة لنا إذا أردنا فعل شئ ما ( ولا همامة نفس اضطرب فيها) كما تتردد نفوسنا وتضطرب فكل هذه الأمور من لوازم الجسمية تقدست ذاته عنها ( أحال الأشياء ) ونقلها وصرفها حسب مقتضيات الحكمة والمصلحة ( لأوقاتها) للقضاء والقدر وأصلح و (لائم بين ) ما كان من عالم الغيب، كالأرواح المجردة، وما كان من عالم الشهود كالأجسام المركبة، وغير ذلك من ( مختلفاتها ) كتوفيقه بين سائر العناصر ( وغرز ) للأشياء ( غرائزها ) ثم خص كل جنس أو نوع بغرائزه الخاصة به ( وألزمها أشباحها ) وأشخاصها ( عالما بها قبل ابتدائها ) كما هو عالم بها بعد إيجادها من غير فرق بين الحالين ( محيطا بحدودها وانتهائها ) شاملا بقدرته وعلمه جميع أطرافها.
(2) إرشاد الشيخ المفيد ( قده ) أبو الحسن الهذلي عن الزهري وعيسى بن زيد عن صالح بن كيسان عن أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) قال ـ في الحث على معرفة الله ـ : أول عبادة الله معرفته ... الخ.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 299 _

  علم أن لا قرين له .
  وقال ( عليه السلام ) في خطبة أخرى:
  دليله آياته ، ووجوده إثباته ، ومعرفته توحيده ، وتوحيده تمييزه من خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة ، إنه رب خالق غير مربوب مخلوق ، كل ما تصور فهو بخلافه .
  ثم قال ـ بعد ذلك ـ :
  ليس بآله من عرف بنفسه هو الدال بالدليل عليه ، والمؤدي بالمعرفة إليه .
  وقال ( عليه السلام ) في خطبة أخرى : (1) .
  لا يشمل بحد ، ولا يحسب بعد ، وإنما تحد الأدوات أنفسها ، وتشير الآلات إلى نظائرها ، منعتها منذ القدمة ، وحمتها قد الأزلية ، وجنبتها لولا التكملة ، بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون (2) لا تجري عليه الحركة

---------------------------
(1) تجد هذه الخطبة الجليلة ـ التي هي حقا من معجزات أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) ولو لم تكن له معجزة سواها لكفى ، كما لو لم يكن لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معجزة سوا أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) لكفى ـ في ج 2 ص 142 من نهج البلاغة قال السيد الرضي ( قدس سره ) ( وتجمع هذه الخطبة من أصول العلوم ما لا تجمعه خطبة ) وأولها كما هي مثبتة في النهج:
ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول فاعل لا باضطراب آلة، مقدور لا بجول فكرة ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الأوقات ولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل والحرور بالصرد ، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها ، لا يشمل بحد ... الخ.
(2) ( لا يشمل بحد ) من الحدود المنطقية، المركبة من الجنس والفصل ، وذاته خالية من التركيب أو من الحدود والأبعاد الهندسية التي هي من لوازم الأجسام.
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 300 _

  والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود إليه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه ، إذا لتفاوتت ذلته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء إذا وجد له إمام ، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ، (1) وخرج بسلطان

---------------------------
<=
وذاته تعالى ليست بجسم .
( ولا يحسب بعد ) لعدم المماثل له وواجب الوجود لا يتعدد كما هو ثابت في محله كما أن صفاته عين ذاته غير زائدة عليها فلا تدخل تحت العدد ، ولا بداية لوجوده حتى يقال : كان منذ كذا وكذا ( وإنما تحد الأدوات أنفسها ) لتركبها من جنس وفصل ، ولكونها من الأجسام فتشملها الحدود والأبعاد الهندسية.
( وتشير الآلات إلى نظائرها ) فتدخل تحت العدد وقد ( منعتها ) إطلاق لفظة:
منذ عليها ـ القدمة في قولنا وجدت هذه الآلات والأدوات منذ كذا ، ومتى كان للشئ ابتداء فهو غير قديم .
( وحمتها ـ إطلاق لفظه قد عليها ـ الأزلية ) في قولنا قد وجدت هذه الآلات والأدوات منذ كذا لأن قد تفيد تقريب الزمان الماضي من الحال، ومتى تعين زمن وجود الشئ انتفت أزليته.
( وجنبتها ـ إطلاق كلمة : لولا عليها ـ التكملة ) في قولنا: ما أحسن هذه الآلات والأدوات لولا أن فيها كذا لدلالتها على امتناع كمال الشئ لوجود نقص فيه .
ويمكن أن يكون المعنى: أن قدمه وأزليته وكماله منعت من إطلاق لفظة: ( منذ وقد، ولولا ) على ذاته المقدسة، لدلالتها على الحدوث والابتداء والنقص.
( بها ) بتلك الآلات والأدوات ببديع صنعها ، بإتقانها ، بحكمة تدبيرها ( تجلى صانعها للعقول ) التي هي طبعا بعض تلك الآلات لدلالة الأثر على المؤثر ( وامتنع ) بدليل تجرده وتنزهه عن المادة والجسمية واللون والجهة التي هي من لوازم المرئيات ( عن نظر العيون ).
(1) الحركة سواء كانت بمعناها الفلسفي الذي هو : ( الخروج من القوة إلى الفعل ) أو بمعناها الفيزيائي الذي هو : ( الانتقال من مكان إلى آخر ) فهي تتقوم بالتدرج والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى آخر وتخلع صورة وتلبس أخرى
=>