الفهرس العام

احتجاجه ( عليه السلام ) على قومه في الحث على المسير إلى الشام لقتال معاوية وفيما أخذ عليهم من العهد والميثاق بالطاعة له حال بيعتهم إياه .


احتجاجه ( عليه السلام ) على معاوية في جواب كتاب كتب إليه في غيره من المواضع وهو من أحسن الحجاج وأصوبها (*).
إحتجاجه ( عليه السلام ) على الخوارج (*) لما حملوه على التحكم ثم أنكروا عليه ذلك ونقموا عليه أشياء فأجابهم ( عليه السلام ) عن ذلك بالحجة وبين لهم أن الخطأ من قبلهم بل وإليهم يعود.


  وجلست في بيتي ، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنطت ، وصببت علي سلاحي وخرجت أريد القتات، حتى أنهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي : ( يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى فإن القاتل والمقتول في النار ) قال علي ( عليه السلام ) : صدقك أفتدري من ذلك المنادي ؟
  قال : لا ، قال ( عليه السلام ) : ذلك أخوك إبليس ، وصدقك أن القاتل والمقتول منهم (1) في النار، فقال الحسن البصري الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى .
  وعن أبي يحيى الواسطي (2) قال : لما افتتح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) اجتمع الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه الألواح ، فكان كلما لفظ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكلمة كتبها ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ بأعلى صوته ـ ما تصنع ؟ فقال نكتب آثاركم لنحدث بها بعدكم ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما أن لكل قوم سامري وهذا سامري هذه الأمة ، أما إنه لا يقول لا مساس ولكن يقول لا قتال .
  روي أنه ( عليه السلام ) لما عزم على المسير إلى الشام لقتال معاوية قال ـ بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ: اتقوا الله عباد الله وأطيعوه ، وأطيعوا إمامكم، فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وإن الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقي ، ناكثا لبيعتي ،

---------------------------
(1) أي القاتل والمقتول من أصحاب الجمل في النار
(2) أبو يحيى الواسطي واسمه سهيل بن زياد الواسطي له كتاب.
لقى أبا محمد العسكري أمه بنت محمد بن نعمان أبي جعفر الأحول الملقب بمؤمن الطاق المتكلم المشهور.
رجال الشيخ ص 476 رجال النجاشي ص 137

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 252 _

  طاغيا في دين الله عز وجل ، وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس ، فجئتموني راغبين إلي في أمركم ، حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني ، فالتويت عليكم لأبلو (1) ما عندكم فراددتموني القول مرارا وراددتكم ، وتداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها حرصا على بيعتي ، حتى خفت أن يقتل بعضكم بعضا ، فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمركم وأمري ، وقلت إن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي ، وقلت والله لا ليتهم وهم يعلمون حقي وفضلي أحب إلي من أن يلوني وهم لا يعرفون حقي وفضلي ، فبسطت لكم يدي فبايعتموني يا معشر المسلمين ، وفيكم المهاجرون والأنصار ، والتابعون بإحسان ، فأخذت عليكم عهد بيعتي ، وواجب صفقتي ، عهد الله وميثاقه ، وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق ، لتقرن لي ، ولتسمعن لأمري ، ولتطيعوني ، وتناصحوني ، وتقاتلون معي كل باغ علي أو مارق إن مرق ، فأنعمتم لي بذلك جميعا ، وأخذت عليكم عهد الله وميثاقه ، وذمة الله وذمة رسوله ، فأجبتموني إلى ذلك جميعا ، وأشهدت الله عليكم ، وأشهدت بعضكم على بعض ، فقمت فيكم بكتاب الله، وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فالعجب من معاوية بن أبي سفيان ينازعني الخلافة، ويجحد لي الإمامة، ويزعم أنه أحق بها مني ، جرأة منه على الله وعلى رسول الله ( صلى لله عليه وآله وسلم ) ، بغير حق له فيها ولا حجة ، ولم يبايعه المهاجرون ولا سلم له الأنصار والمسلمون .
يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي ، أما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة، أما بايعتموني على الرغبة، أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي ؟
  أما بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمر ، فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتى مضيا ونقض علي ولم يف لي ؟! أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم أمري ؟ أما تعلمون أن بيعتي يلزم الشاهد منكم والغائب ؟ فما بال معاية وأصحابه طاغون في بيعتي ؟ ولم لم يفوا لي وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممن

---------------------------
(1) أي لأختبر ما عندكم.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 253 _

  تقدمني ؟ أما سمعتم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الغدير في ولايتي وموالاتي ؟
  فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية القاسط الناكث، وأصحابه القاسطين الناكثين، اسمعوا ما اتلوا عليكم من كتاب الله المنزل، على نبيه المرسل لتتعظوا، فإنه والله أبلغ عظة لكم، فانتفعوا بموعظة الله، وازدجروا عن معاصي الله، فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم أن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (1) ) وقال لهم نبيهم: ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (2) ) أيها الناس إن لكم في هذه الآيات عبرة ، لتعلموا أن الله جعل الخلافة والأمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم، وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه، وزيادة بسطه في العلم والجسم ، فهل تجدون أن الله اصطفى بني أمية على بني هاشم ، وزاد معاوية علي بسطة في العلم والجسم .
  واتقوا الله عباد الله وجاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخطه بعصيانكم له قال الله سبحانه: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعملون إنما المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (3) ) وقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذبوبكم

---------------------------
(1) البقرة: 246
(2) البقرة: 247
(3) المائدة: 78

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 254 _

  ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (1) ) .
  اتقوا الله عباد الله وتحاثوا على الجهاد مع إمامكم فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كثير منكم ، وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض.
  ومن كلامه ( عليه السلام ) يجري مجرى الاحتجاج مشتملا على التوبيخ لأصحابه على تثاقلهم عن قتال معاوية والتفنيد متضمنا اللوم والوعيد.
  أيها الناس إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء فلم تنفروا (2) وأسمعتكم فلم تجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، شهودا بالغيب (3) اتلوا عليكم الحكمة فتعرضون عنها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها، كأنكم حمر مستنفرة فرت من قسورة ، وأحثكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ، ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا ، تضربون الأمثال وتنشدون الأشعار ، وتجسسون الأخبار ، حتى إذا تفرقتم تسألون عن الأخبار جهلا من غير علم ، وغفلة من غير ورع ، وتتبعا من غير خوف ، ونسيتم الحرب والاستعداد لها ، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها ، شغلتموها بالأعاليل والأضاليل ، فالعجب كل العجب ، وكيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم ، وتخاذلكم عن حقكم يا أهل الكوفة أنتم كأم مخالد حملت فأملصت (4) فمات قيمها وطال أيمها (5) وورثها أبعدها ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إن من ورائكم الأغبر الأدبر جهنم الدنيا لا تبقي ولا تذر ، ومن بعده النهاش الفراس، الجموع المنوع ثم ليتوارثنكم من بني أمية عدة ما الآخر منهم بارق بكم من الأول، ما خلا

---------------------------
(1) الصف: 10
(2) النفر الخروج إلى الغزو وأصله الفزع.
(3) الشهود: الحضور.
(4) أملصت المرأة: أسقطت.
(5) الأيم: التي مات زوجها.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 255 _

  واحد (1) بلاء قضاه الله على هذه الأمة لا محالة كائن ، يقتلون أخياركم، ويستعبدون أرذالكم، ويستخرجون كنوزكم وذخايركم في جوف حجالكم ، نقمة بما صنعتم من أموركم، وصلاح أنفسكم ودينكم .
  يا أهل الكوفة أخبركم بما يكون قبل أن يكون ، لتكونوا منه على حذر ولتنذروا به اتعظ واعتبر ، كأني بكم تقولون : إن عليا يكذب ، كما قالت قريش لنبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيدها نبي الرحمة، ( محمد بن عبد الله ) فيا ويلكم فعلى من أكذب أعلى الله فأنا أول من عبده ووحده ؟! أم على رسوله فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره ؟! كلا ولكنها لهجة خدعة! كنتم عنها أغنياء، والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لتعلمن نبأها بعد حين ، وذلك إذا صيركم إليها جهلكم ، ولا ينفعكم عندها علمكم ، فقبحا لكم يا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال ، وعقول ربات الحجال (2) ، أما والله أيها الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهوائهم (3) ما أعز الله نصر من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم (4) ولا قرت عين من آواكم ، كلامكم يوهن الصم الصلاب (5) وفعلكم يطمع فيكم عدوكم المرتاب ، ويحكم أي دار بعد داركم تمتعون ومع أي إمام بعدي تقاتلون المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، أصبحت لا أطمع في نصرتكم ، ولا أصدقكم قولكم ، فرق الله بيني وبينكم ، وأعقبني بكم من هو خيرا لي منكم ، وأعقبكم بي من هو شرا لكم مني ، إمامكم يطيع الله وأنتم تعصونه

---------------------------
(1) هو عمر بن عبد العزيز.
(2) الحجال ـ جمع حجلة ـ وهي: الغرفة وربات الحجال النساء .
(3) الأهواء ـ جمع هوى ـ وهو ما تميل إليه النفس محمودا كان أو مذموما ثم غلب في الاستعمال على غير المحمود .
(4) قاساكم: قهركم .
(5) الصم ـ جمع أصم ـ وهو من الحجارة: الصلب المصمت ، والصلاب ـ جمع صليب وهو: الشديد .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 256 _

  وإمام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، والله لوددت أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني واحدا منهم ، والله لوددت أني لم أعرفكم ، ولم تعرفوني ، فإنها معرفة جرت ندما لقد ورثتم صدري غيظا ، وأفسدتم علي أمري بالخذلان والعصيان ، حتى لقد قالت قريش إن عليا رجل شجاع لكن لا علم له بالحروب ، لله درهم هل كان فيهم أحد أطول لها مراسا مني وأشد بها مقاساة (1) لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، ثم هاأنا ذا قد ذرفت على الستين ، لكن لا أمر لمن لا يطاع ، أما والله لوددت أن ربي قد أخرجني من بين أظهركم إلى رضوانه ، وإن المنية لترصدني فما يمنع أشقاها أن يخضبها ؟ ـ وترك يده على رأسه ولحيته ـ عهدا عهده إلي النبي الأمي وقد خاب من افترى، ونجا من اتقى وصدق بالحسنى .
  يا أهل الكوفة قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء ليلا ونهارا ، وسرا وإعلانا ، وقلت لكم اغزوهم فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ، فتواكلتم (2) وتخاذلتم وثقل عليكم قولي ، واستصعب عليكم أمري، واتخذتموه ورائكم ظهريا ، حتى شنت عليكم الغارات، وظهرت فيكم الفواحش والمنكرات ، تمسيكم وتصبحكم ، كما فعل بأهل المثلات من قبلكم ، حيث أخبر الله عز وجل عن الجبابرة العتاة الطغاة، المستصعفين الغوات، في قوله تعالى : ( يذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (3) ) أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لقد حل بكم الذي توعدون .
  عاتبتكم يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم ، وأدبتكم بالدرة فلم تستقيموا لي ، وعاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا ، ولقد علمت أن

---------------------------
(1) أي: أطول ممارسة وأشد معالجة .
(2) أي أحال كل منكم الأمر إلى صاحبه ووكله إليه ولم يتوله أحد منكم .
(3) البقرة: 49 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 257 _

  الذي يصلحكم هو السيف ، وما كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي (1) ولكن سيسلط عليك سلطان صعب ، لا يوقر كبيركم ، ولا يرحم صغيركم ، ولا يكرم عالمكم ، ولا يقسم الفيئ بالسوية بينكم ، وليضربنكم ، وليذلنكم ، وليجرنكم في المغازي، وليقطعن سبلكم ، وليجمعنكم على بابه ، حتى يأكل قويكم ضعيفكم ثم لا يبعد الله من ظلم ، ولقل ما أدبر شئ فأقبل ، وإني لأظنكم على فترة ، وما علي إلا النصح لكم .
  يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين (2) صم ذووا أسماع، وبكم ذووا ألسن ، وعمي ذووا أبصار، لا إخوان صدق عند اللقاء ، ولا إخوان ثقة عند البلاء.
  اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني (3) اللهم لا ترض عنهم أميرا ولا ترضهم عن أمير ، وأمث قلوبهم كما يماث الملح (4) بالماء أما والله لو أجد بدا (5) من كلامكم ومراسلتكم ما فعلت ، ولقد عاتبتكم في رشدكم حتى لقد سئمت الحياة، كل ذلك تراجعون بالهزء من القول، فرارا من الحق، وإلحادا إلى الباطل الذي لا يعز الله بأهله الدين ، وإني لأعلم أنكم لا تزيدونني غير تخسير ، كلما أمرتكم بجهاد عدوكم اثاقلتم إلى الأرض وسألتموني التأخير، وفاع ذي الدين المطول ، (6) إن قلت لكم في القيظ سيروا ، قلتم الحر شديد ، وإن قلت لكم في البرد سيروا ، قلتم القر شديد (7) كل ذلك فرارا عن الحرب ، إذا كنتم عن الحر والبرد تعجزون ، فأنتم عن حرارة السيف أعجز ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

---------------------------
(1) أي متطلبا صلاحكم بفساد ديني .
(2) منيت به: امتحنت واختبرت به .
(3) سئمه: مله .
(4) يماث الملح: يذوب .
(5) لم تجد لك بدا من كذا أي: مخلصا منه.
(6) المطول: الكثير المطل وهو: تأخير أداء الدين بلا عذر.
(7) القر بالضم ـ البرد.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 258 _

  يا أهل الكوفة قد أتاني الصريح يخبرني أن ابن عمر قد نزل الأنبار (1) على أهلها ليلا في أربعة آلاف، فأغار عليهم كما يغار على الروم والخزر ، فقتل بها عاملي ابن حسان ، وقتل معه رجالا صالحين ، ذوي فضل وعبادة ونجدة ، بوأ الله لهم جنات النعيم، وأنه أباحها ، ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام (2) كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فيه تكون سترها ، ويأخذون القناع من رأسها ، والخرص من أذنها، والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها ، والخلخال والميزر عن سوقها ، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء : ( يا للمسلمين! ) فلا يغيثها مغيث ، ولا ينصرها ناصر ، فلو أن مؤمنا مات دون هذا ما كان عندي ملوما ، بل كان عندي بارا محسنا ، واعجبا كل العجب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم ، وفشلكم عن حقكم ، قد صرتم غرضا يرمى (3) ولا ترمون ، وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون ، فتربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلما اجتمعت من جانب تفرقت من جانب .

احتجاجه ( عليه السلام ) على معاوية في جواب كتاب كتب إليه في غيره من المواضع وهو من أحسن الحجاج وأصوبها (*)
.
  أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لدينه ، وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه، فلقد خبأ (4) لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت (5)

---------------------------
(1) الأنبار: بلدة على الشاطئ الشرقي للفرات ويقابلها على الجانب الغربي هيت
(2) العصبة ـ بضم العين ـ : جماعة من الرجال نحو العشرة وقيل من العشرة إلى الأربعين .
(3) الغرض ـ بالتحريك ـ : الهدف الذي يرمى إليه .
(*) تجد هذا الكتاب في ج 3 ص 34 من نهج البلاغة .
(4) خبأه: ستره وأخفاه .
(5) طفق: جعل .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 259 _

  تخبرنا ببلاء الله عندنا ، ونعمته علينا في نبينا ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر (1) ، أو داعي مسدده إلى النضال (2) وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان (3) فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه ، وما أنت والفاضل والمفضول ، والسايس والمسوس ، وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم ، هيهات لقد حن قدح ليس منها (4) وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ، ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك (5)، وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر، فإنك لذهاب في التيه، رواغ عن القصد (6) ألا ترى ـ غير مخبر لك لكن بنعمة الله أحدث ـ : إن قوما استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل ، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل: ( سيد الشهداء ) وخصه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه (7)، أو لا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل ، حتى إذا فعل بواحدنا كما فعل بواحدهم

---------------------------
(1) مثل يضرب لمن يحمل الشئ إلى معدنه لينتفع به فيه وهجر معروفة بكثرة التمر.
(2) المناضلة المرامات يقال : ناضله إذا راماه ، ومسدده : الذي يعلمه الرمي وهو مثل يضرب لمن يتعالم على معلمه ومثله قوله :
أعلمه  الرماية كل iiيوم      فلما اشتد ساعده رماني

(3) يريد أبا بكر وعمر .
(4) القدح: السهم وهذا المثل يضرب لمن يفتخر بشئ ليس فيه .
(5) أربع: توقف وانتظر يقال: ( أربع على نفسك أو على ظلعك ) أي:
توقف ولا تستعجل والظلع العيب ، أي أنت ضعيف فانته عما لا تطيقه ويقصر عنه باعك
(6) أي حائد عن القصد .
(7) هو حمزة بن عبد المطلب عم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد مر ذكره في هامش ص 194 فراجعه .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 260 _

  قيل : ( الطيار في الجنة وذو الجناحين ) (1) ولولا ما نهى الله عن تزكية المرأ نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجها آذان السامعين فدع عنك من مالت به الرمية (2) فأنا صنايع ربنا ، والناس بعد صنايع لنا (3) لم يمنعنا قديم عزنا ، ولا عادى طولنا (4) على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ،

---------------------------
(1) هو جعفر بن أبي طالب ( عليهم السلام ) وقد مر ذكره في هامش ص 172 من هذا الكتاب .
(2) الرمية: الصيد وهو مثل يضرب لمن اعوج غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه والمراد هنا بمن مالت به الرمية الأول والثاني .
(3) قال العلامة المجلسي في ج 8 ص 536 من بحار الأنوار:
قوله ( عليه السلام ) : ( فأنا صنايع ربنا ) هذا كلام مشتمل على أسرار عجيبة من غرائب شأنهم التي تعجز عنها العقول ، ولنتكلم على ما يمكننا إظهاره والخوض فيه فنقول صنيعة الملك: من يصطنعه ويرفع قدره ، ومنه قوله تعالى : ( اصطنعتك لنفسي ) أي اخترتك وأخذتك صنيعتي ، لتنصرف عن إرادتي ومحبتي .
فالمعنى : أنه ليس لأحد من البشر علينا نعمة ، بل الله تعالى أنعم علينا ، فليس بيننا وبينه واسطة ، والناس بأسرهم صنايعنا فنحن الوسائط بينهم وبين الله سبحانه .
ويحتمل أن يريد بالناس بعض الناس أي المختار من الناس ، نصطنعه ونرفع قدره .
وفي ج 3 من شرح النهج لابن أبي الحديد ص 451 قال:
هذا كلام عظيم عال على الكلام ، ومعناه عال على المعاني ، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره ، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا ، فليس بيننا وبينه واسطة ، والناس بأسرهم صنائعنا فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى ، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت وباطنه أنهم عبيد الله، وأن الناس عبيدهم .
وقال محمد بن عبده في ص 36 من ج 3: من نهج البلاغة آل النبي: أسراء إحسان الله عليهم والناس أسراء فضلهم بعد ذلك .
(4) الطول: الفضل ، قال العلامة المجلسي في ص 536 من ج 8 من بحار الأنوار
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 261 _

  فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ، ولستم هناك وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب (1) ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف (2) ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار (3) ومنا خير نساء العالمين ، ومنكم حمالة الحطب (4) في كثير مما لنا عليكم فإسلامنا ما قد سمع ، وجاهليتكم لا تدفع (5) وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا ، وهو قوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقوله تعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة .
  ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلجوا عليهم

---------------------------
<=
( أقول: قد ظهر لك مما سبق أن بني أمية لم يكن لهم نسب صحيح ليشاركوا في الحسب آباءه ( عليه السلام ) مع أن قديم عزهم لم ينحصر في النسب بل أنوارهم ( عليهم السلام ) أول المخلوقات ومن بدو خلق أنوارهم إلى خلق أجسادهم وظهور آثارهم كانوا معروفين بالعز والشرف والكمالات ، في الأرضين والسماوات ، يخبر بفضلهم كل سلف خلفا ، ورفع الله ذكرهم في كل أمة عزا وشرفا .
(1) المكذب: أبو سفيان كان المكذب لرسول الله وعدوه المجلب عليه وقيل المراد به أبو جهل .
(2) أسد الله حمزة ، وأسد الأحلاف قيل هو : أسد بن عبد العزى ، وقيل عتبة بن ربيعة ، وقيل أبو سفيان لأنه حزب الأحزاب ، وحالفهم على قتال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزوة الخندق.
(3) وصبية النار : إشارة إلى الكلمة التي قالها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعقبة بن أبي معيط حين قتله يوم بدر وقال ـ كالمستعطف له ( صلى لله عليه وآله وسلم ) ـ : ( من للصبية يا محمد ) قال : ( النار ) .
(4) حمالة الحطب : أم جميل بنت حرب بن أمية امرأة أبي لهب .
(5) لا تدفع أي : لا تنكر وفي بعض النسخ ( وجاهليتنا ) وحينئذ يكون المعنى شرفنا وفضلنا في الجاهلية لا ينكره أحد.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 262 _

  فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم (1).
  وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت ، وعلى كلهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.
  وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
  وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة (2) في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا في يقينه، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.
  ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتلته ، أم من بذل له نصرته فاستقعده واستكفه ؟
  أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى عليه قدره ؟ كلا والله لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لأخوانهم هلم إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا ، وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له ، فرب ملوم لا ذنب له ، وقد يستفيد الظنة المتنصح ، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
  وذكرت أنه ليس لي ولا لأصحابي عندك إلا السيف ، ولقد أضحكت بعد استعبار ، متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكلين (3) وبالسيوف مخوفين فألبث قليلا يلحق الهيجاء (4) حمل ، فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد

---------------------------
(1) وذلك إن المهاجرين احتجوا يوم السقيفة بأنهم شجرة الرسول ففلجوا ـ أي: ظفروا بهم ـ وظفر المهاجرين بهذه الحجة ظفر لأمير المؤمنين على معاوية وإلا فالأنصار على حقهم من دعوى الخلافة وفي كلا الحالين ليس لمعاوية فيها من نصيب.
(2) الغضاضة: النقص .
(3) ناكلين : متأخرين .
(4) لبث : ـ بتشديد الباء ـ : فعل أمر من ( ليث ) إذا استزاد لبثه ـ أي:
مكثه ، والهيجاء : الحرب ، وحمل ـ بالتحريك ـ : هو حمل بن بدر ، رجل من قشير
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 263 _

  وأنا مرقل (1) نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم (2) متسربلين سرابيل الموت (3) أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ، وقد صحبتهم ذرية بدرية ، وسيوف هاشمية ، قد عرفت مواقع نصالها (4) في أخيك ، وخالك ، وجدك (5) وأهلك ، وما هي من الظالمين ببعيد وكتب أيضا ( عليه السلام ) (6) ـ إلى معاوية :
  أما بعد فإنا كنا نحن وأنت على ما ذكرت من الألفة والجماعة ، ففرق بيننا وبينكم بالأمس إنا آمنا وكفرتم، واليوم إنا استقمنا وفتنتم ، وما أسلم مسلمكم إلا كرها (7) وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله حزبا (8) .
  وذكرت إني قتلت طلحة والزبير ، وشردت بعايشة ، ونزلت بين المصرين (9) وذلك أمر غبت عنه ، فلا الجناية عليك ، ولا العذر فيه إليك ، وذكرت أنك زائري في المهاجرين والأنصار ، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك (10) فإن كان فيك

---------------------------
<=
أغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها وقال :
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل * لا بأس بالموت إذا الموت نزل فصار مثلا يضرب للتهديد بالحرب .
(1) مرقل : مسرع والجحفل : الجيش العظيم.
(2) الساطع ، المنتشر ، والقتام ـ بالفتح : الغبار .
(3) السربال: اللباس أي: لابسين لباس الموت كأنهم في أكفانهم .
(4) النصال: السهام .
(5) أخوه: حنظلة ، وخاله: الوليد بن عتبة ، وجده: عتبة بن ربيعة وهو جده لأمه
(6) تجد هذا الكتاب في ص 134 من ج 3 من نهج البلاغة .
(7) وذلك إن أبا سفيان لم يسلم حتى قبل فتح مكة وإنما دخل الإسلام خوف القتل
(8) أنف الإسلام: إشراف العرب الذين دخلوا فيه قبل الفتح.
(9) المصران: الكوفة والبصرة .
(10) أخوه: عمرو بن أبي سفيان ، أسر يوم بدر .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 264 _

  عجل فاسترفه (1) فإني إن أزرك فذلك جدير أن يكون الله عز وجل إنما بعثني للنقمة منك ، وإن تزرني فكما قال أخو بني أسد .
مستقبلين رياح الصيف تضربهم      بـحاصب  بـين أغوار iiوأنجاد

  وعندي السيف الذي أعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد (2)، وإنك والله ما علمت الأغلف القلب المقارب (3) للعقل ، والأولى أن يقال لك:
إنك رقيت سلما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك ، لأنك نشدت غير ضالتك (4) ورعيت غير سائمتك (5) وطلبت أمرا لست من أهله ، ولا في معدنه ، فما أبعد قولك من فعلك! وقريب ما اشبهت من أعمام وأخوال حملتهم الشقاوة وتمني الباطل، على الجحود بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فصرعوا بمصارعهم حيث عملت لم يدفعوا عظيما ، ولم يمنعوا حريما ، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى ، فلم يماشها الهوينا (6) وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس (7) ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله.

---------------------------
(1) أي استح ولا تستعجل وفي بعض النسخ ( فاسترقه ) بالقاف فيكون المعنى فاخفه ولا تظهره.
(2) أعضضته: جعلته يعضه والمراد ضربته به وهؤلاء قتلهم أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) يوم بدر .
(3) أي: أنت الذي أعرفه ، والأغلف القلب: الذي لا يدرك كأن قلبه في غلاف لا تنفذ إليه المعاني ، ومقارب العقل ناقصه ضعيفه ، كأنه يكاد يكون عاقلا وليس به
(4) الضالة: ما فقدته من مال وغيره ، ونشدت طلبت ، وهذا مثل يضرب لمن يطلب حقا ليس له .
(5) السائمة: الماشية من الحيوان.
(6) الوغى: الحرب ، أي إن تلك السيوف باقية لم تخل منها الحروب ولم ترافقها المساهلة .
(7) أي البيعة له ( عليه السلام ) .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 265 _

  وأما تلك التي تريد (1) فإنها خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال، والسلام لأهله .
  وكتب ( عليه السلام ) إلى معاوية وفي كتاب آخر (2).
  فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة (3)، مع تضييع الحقايق ، واطراح الوثايق، التي هي لله طلبة، وعلى عباده حجة ، فأما إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته ، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك وخذلته حيث كان النصر له والسلام .
  وروى أبو عبيدة (4) قال : كتب معاوية إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إن لي فضائل كثيرة، كان أبي سيدا في الجاهلية ، وصرت ملكا في الإسلام ، وأنا صهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وخال المؤمنين ، وكاتب الوحي.
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أبالفضائل يبغي علي ابن آكلة الأكباد ؟ (5) أكتب إليه يا غلام:

---------------------------
(1) أي الذي تريده من إبقائك واليا في الشام .
(2) تجد هذا الكتاب في ج 3 من نهج البلاغة ص 69 .
(3) وفي نسخة: ( والحيرة المتعبة )
(4) أبو عبيدة معمر ـ كجعفر ـ البصري النحوي اللغوي كان متبحرا في علم اللغة وأيام العرب وأخبارها ويحكى أنه يقول ما التقى فرسان في جاهلية وإسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسهما ، وهو أول من صنف غريب الحديث.
وفي مروج الذهب وفي سنة 211 مات أبو عبيدة العمري معمر بن المثنى كان يرى رأي الخوارج ، وبلغ نحوا من مئة سنة ولم يحضر جنازته أحد من الناس بالمصلى حتى اكترى لها من يحملها ، وله مصنفات حسان في أيام العرب وغيرها منها كتاب المثالب الخ عن الكنى والألقاب ج 1 ص 14
(5) آكلة الأكباد هند أم معاوية وهي التي أخرجت كبد حمزة وجعلت تلوكها كما مر ص 194 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 266 _

مـحمد الـنبي أخي iiوصنوي      وحـمزة سـيد الشهداء iiعمي
وجعفر  الذي يمسي iiويضحى      يـطير  مع الملائكة ابن iiأمي
وبـنت محمد سكني iiوعرسي      مـسوط  لحمها بدمي iiولحمي
وسـبطا أحـمد ولـداي iiمنها      فـأيكم  لـه سـهم iiكـسهمي
سـبقتكم إلـى الإسـلام iiطرا      غـلاما  ما بلغت أوان iiحلمي
وصليت  الصلاة وكنت iiطفلا      مـقرا  بـالنبي في بطن أمي
وأوجـب  لـي ولايته iiعليكم      رسـول  الله يـوم غدير iiخم
فـويل  ثـم ويـل ثـم iiويل      لمن يلقى الإله غدا بظلمي (1)
أنـا الـرجل الذي لا iiتنكروه      لـيوم  كـريهة أو يـوم iiسلم

  فقال معاوية: اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب ( عليه السلام ) .
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال : لما قتل عمار بن ياسر (2) ارتعدت

---------------------------
(1) وفي بعض النسخ: ( لمن يرد القيامة وهو خصمي ) .
(2) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة المذحجي ثم العنسي ، أبو اليقظان حليف بني مخزوم وأمه سمية وهي أول من استشهد في سبيل الله طعنها أبو جهل في قلبها فاستشهدت ، وهو وأبوه وأمه من السابقين الأولين إلى الإسلام .
كان من المستضعفين ، وعذب في الله عذابا شديدا ، أحرقه المشركون بالنار فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يمر به ويمر يده على رأسه ويقول : ( يا نار كوني بردا وسلاما على عمار ، كما كنت على إبراهيم ( عليهم السلام ) ).
عن عثمان بن عفان قال: أقبلت أنا ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخذ بيدي نتماشى في البطحاء حتى أتينا على أبي عمار وعمار وأمه وهم يعذبون ، فقال ياسر: ( الدهر هكذا! ) .
فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( اصبر اللهم اغفر لآل ياسر ، قال وقد فعلت ) ، وروي أن رسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مر بعمار وأهله وهم يعذبون في الله فقال: ( ابشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة ) .
قال الطبرسي في قوله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) إنها نزلت في جماعة أكرهوا وهم عمار وياسر أبوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 267 _

  فرائص خلق كثير ، وقالوا: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( عمار تقتله الفئة الباغية )

---------------------------
<=
أبو عمار وأمه فأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثم أخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال قوم: ( كفر عمار ) فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ) .
وجاء عمار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يبكي فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( ما وراك ؟ ) قال يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يمسح عينيه ويقول: ( إن عادوا لك فعد لهم فنزلت الآية.
وشهد بدرا ولم يشهدها ابن مؤمنين غيره وشهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( أبشر يا أبا اليقظان فإنك أخو علي في ديانته ومن أفاضل أهل ولايته ومن المقتولين في محبته تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من الدنيا ضياح من لبن ).
وعن على ( عليهم السلام ) قال: جاء عمار يستأذن على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ( ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب ) ، وقال علي ( عليه السلام ) فيه : ذاك امرأ حرم الله لحمه ودمه على النار وأن تمس شيئا منهما .
وكان رحمه الله من كبار الفقهاء، وكان طويل الصمت طويل الحزن والكآبة، وكان عامة كلامه عائذا بالله من فتنة .
وقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): يا عمار ستكون بعدي فتنة فإذا كان كذلك فاتبع عليا ( عليهم السلام ) وحزبه فإنه مع الحق والحق معه ، يا عمار إنك ستقاتل مع علي صنفين الناكثين والقاسطين ثم تقتلك ( الفئة الباغية ) قلت يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك قال : نعم على رضا الله ورضاي ، ويكون آخر زادك شربة من لبن تشربه ، فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) فقال له يا أخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أتأذن لي في القتال ؟ قال : مهلا رحمك الله، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام، فأجابه بمثله ، فأعاده ثالثا فبكى أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) فنظر إليه عمار فقال : يا أمير المؤمنين إنه اليوم الذي وصف لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )؟ فنزل أمير المؤمنين عن بغلته وعانق عمارا وودعه ، ثم قال : يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيرا فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب كنت ، ثم بكى وبكى عمار ثم برز إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمه الله
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 268 _

  فدخل عمرو على معاوية وقال يا أمير المؤمنين قد هاج الناس واضطربوا ، قال : لماذا قال : قتل عمار فقال: قتل عمار فماذا ؟ قال : أليس قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( تقتله الفئة الباغية ) فقال معاوية : دحضت في قولك أنحن قتلناه ؟ إنما قتله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لما ألقاه بين رماحنا ، فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب عليه السلام قال : فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الذي قتل حمزة لما ألقاه بين رماح المشركين .
  وكتب ( عليه السلام ) (1) إلى عمرو بن العاص في أثناء كتاب:
  فإنك جعلت دينك تبعا لدنيا امرء ظاهر غيه ، مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته ، فاتبعت أثره، وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام (2) يلوذ إلى مخالبه ، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته ، فأذهبت دنياك وآخرتك ولو أخذت بالحق أدركت ما طلبت ، فإن يمكني الله منك ومن ابن أبي سفيان أخبرتكما بما قدمتما (3) فإن نعجز أو تبقيا فما أمامكما شر لكما والسلام .
  وقال ( عليه السلام ) ـ في عمرو جوابا عما قال فيه : عجبا لابن النابغة (4) يزعم

---------------------------
<=
فأتاه أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون إن امرءا لم يدخل عليه مصيبة من قتل عمار فما هو في الإسلام من شئ ثم صلى عليه ثم قال:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي      أرحـني  فـقد أفنيت كل خليل
أراك بـصيرا بـالذين iiأحـبهم      كـأنك تـمضي نـحوهم بدليل

وفي خبر أنه أتي يومئذ بلبن فضحك ثم قال: قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): آخر شراب تشربه من الدنيا مذقة من لبن حتى تموت وقال: والله لو ضربونا حتى بلغونا سعفات هجر لعلمت أننا على الحق وأنهم على الباطل ، ثم قتل رضي الله عنه قتله أبو العادية ( لع ) واحتز رأسه أبو الجوى السكسكي وكان عمره ( ره ) يوم قتل ( 94 ) سنة راجع صفة الصفوة ج 1 ص 175 أسد الغابة ج 4 ص 43 سفينة البحار ج 2 ص 275
(1) تجد هذا الكتاب في ج 3 من نهج البلاغة ص 71 .
(2) الضرغام: الأسد.
(3) وفي بعض النسخ: ( أجزكما ) .
(4) نبغ الشئ: ظهر وإنما سميت أم عمرو: ( النابغة ) لشهرتها بالفجور وتظاهرها به .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 269 _

  لأهل الشام أن في دعابة (1) وأني امرء تلعابة (2) أعانس (3) وأمارس (4) لقد قال باطلا ونطق آثما، أما وشر القول الكذب، إنه يقول فيكذب ويعد فيخلف ويسأل فيحلف ، ويسأل فينجل ويخون العهد، ويقطع الإل (5) فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف ما أخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القوم أسته (6) أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، وإنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه على البيعة آية (7) ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (8).
  وكتب محمد بن أبي بكر (9) إلى معاوية احتجاجا عليه
  بسم الله الرحمن الرحيم
  من محمد بن أبي بكر ، إلى الغاوي معاوية بن صخر ، سلام الله على أهل طاعة الله ممن هو أهل دين الله وأهل ولاية الله.

---------------------------
(1) الدعابة ـ بالضم ـ : المزاح.
(2) تلعابة ـ بالكسر ـ : أي كثير اللعب
(3) العفاس ـ بالكسر ـ اللعب ، وفي بعض النسخ ( أعارس ) من أعرس الرجل إذا دخل بامرأته .
(4) الممارسة: المزاولة والملاعبة .
(5) الإل: ـ بالكسر ـ العهد والقرابة
(6) الأست: العجز أو حلقة الدبر، أشار عليه السلام إلى ما ذكر أرباب السير وصار مضربا للأمثال من كشفه سوئته شاخرا برجليه حين لقيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في بعض أيام صفين ، وقد اختلطت السيوف، واشتد نار الحرب فانصرف عنه أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
(7) أي العطية.
(8) الرضخ: العطاء القليل
(9) محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة ، وأمه أسماء بنت عميس مر لها ذكر في هامش ص 125 ولد بالبيداء في حجة الوداع .
روي أن أبا بكر خرج في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزاة فرأت أسماء بنت
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 270 _

  أما بعد فإن الله بجلاله وسلطانه خلق خلقا بلا عبث منه ، ولا ضعف به ، في

---------------------------
<=
عميس وهي تحته كان أبا بكر متخضب بالحناء رأسه ولحيته ، وعليه ثياب بيض، فجاءت إلى عائشة فأخبرتها ، فبكت عائشة وقالت: إن صدقت رؤياك فقد قتل أبو بكر إن خضابه الدم وأن ثيابه أكفانه ، فدخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي كذلك فقال: ما أبكاها ؟ فذكروا الرؤيا ، فقال: ليس كما عبرت عائشة ولكن يرجع أبو بكر ، فتحمل منه أسماء بغلام تسميه محمدا يجعله الله تعالى غيظا على الكافرين والمنافقين .
قال ابن أبي الحديد: ونشوه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام وأنه لم يكن يعرف أبا غير على، حتى قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : محمد ابني من صلب أبي بكر، وكان يكنى ( أبا القاسم ) وكان من نساك قريش ، وكان ممن أعان في يوم الدار ، ومن ولده ( القاسم بن محمد ) فقيه أهل الحجاز وفاضلها ، ومن ولد القاسم ( عبد الرحمن ) من فضلاء قريش ويكنى ( أبا محمد ) ومن ولد القاسم أيضا أم فروة تزوجها الإمام الباقر أبو جعفر محمد بن علي ( عليه السلام ).
وكان من حواري أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وخواصه واحد المحامدة التي تأبى أن يعصى الله.
وروي عن حمزة بن محمد الطيار قال: ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ): رحمه الله وصلى عليه ، قال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ يوما من الأيام : أبسط يدك أبايعك ، فقال: أو ما فعلت؟ قال: بلى ، فبسط يده فقال:
أشهد أنك إمام مفترض طاعتك وأن أبي في النار ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : كان النجابة من أمه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها لا من قبل أبيه ، وعن زرارة بن أعين عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : أن محمد بن أبي بكر بايع عليا عليه السلام على البراءة من أبيه.
وعن شعيب عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: سمعته يقول: ما من أهل بيت إلا ومنهم نجيب من أنفسهم ، وانجب النجباء من أهل (بيت سوء) محمد بن أبي بكر .
وينسب إليه قوله :
يـا أبـانا قد وجدنا ما iiصلح      خاب  من أنت أبوه iiوافتضح
إنـما أنـقذني مـنك iiالـذي      أنـقذ  الـدر من الماء iiالملح
يـا  بني الزهراء أنتم iiعدتي      وبكم في الحشر ميزاني رجح

=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 271 _

  قوة ، ولكنه خلقهم عبيدا فمنهم شقي وسعيد ، وغوي ورشيد ، ثم اختارهم على علم منه ، واصطفى وانتخب منهم محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واصطفاه لرسالته ، وائتمنه على وحيه فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وأسلم وسلم ، أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فصدقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ، ووقاه من كل مكروه ، وواساه بنفسه في كل خوف ، وقد رأيتك تساويه وأنت أنت وهو هو المبرز والسابق في كل خير ، وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغضان وتبغيان في دين الله الغوائل ، وتجتهدان على إطفاء نور الله، تجمعان الجموع على ذلك ، وتبذلان فيه الأموال ، وتخالفان عليه القبائل ، على ذلك مات أبوك ، وعليه خلفته أنت ، فكيف لك الويل تعدل عن علي وهو وارث علم رسول الله ووصيه ، وأول الناس له اتباعا وآخرهم به عهدا ؟! وأنت عدوه وابن عدوه ، فتمتع بباطلك ما استطعت ، وتبدد بابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، ثم تستبين لك لمن تكون العاقبة العليا ، والسلام على من اتبع الهدى .

---------------------------
<=
وإذا صـح ولائي iiفيكم      لا أبالي أي كلب قد نبح

وقتل بمصر قتله معاوية بن خديج ـ وكان فيها واليا من قبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ ثم وضعه في جوف حمار ميت وأحرقه .
ولما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام قتل محمد بن أبي بكر حزن لذلك حزنا شديدا حتى ظهر ذلك عليه وتبين في وجهه ، وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه إلى أن قال : ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه وعند الله نحتسبه ...
وقيل له ( عليه السلام ) قد جزعت على محمد جزع شديدا يا أمير المؤمنين فقال : وما يمنعني أنه كان لي ربيبا وكان لبني أخا ، وكنت له والدا، أعده ولدا .
ولما سمعت أمه أسماء بقتله كظمت غيظها حتى شخبت ثدياها دما .
وكان استشهاد سنة (37) هجرية .
سفينة البحار ج 1 ص 312، رجال الكشي ص 60 ، خلاصة العلامة ص 138 ، النجوم الزاهرة ج 1 ص 110 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 272 _

  فأجابه معاوية هذا إلى الزارئ (1) على أبيه محمد بن أبي بكر، سلام على أهل طاعة الله، أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه مع كلام ألفته ورصفته (2) لرأيك فيه ، وذكرت حق علي وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونصرته ومواساته إياه في كل خوف وهول ، وتفضيلك عليا وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فالحمد لله الذي صرف ذلك عنك وجعله لغيرك وقد كنا وأبوك معنا في زمن نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نرى حق علي ( عليه السلام ) لازما لنا ، وسبقه مبرزا علينا ، فلما اختار الله لنبيه ما عنده وأتم له ما وعده ، قبضه الله إليه ، وكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه (3) وخالفه على ذلك ، واتفقا ثم دعواه على أنفسهما، فأبطأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، فبايع وسلم لأمرهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قضى الله من أمرهما ما قضى ، ثم قام بعدهما ثالثهما يهدي بهداهما، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وأصحابك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي حتى بلغتما منه مناكما ، وكان أبوك مهد مهاده فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله ، وإن يك جورا فأبوك سنه ، ونحن شركائه وبهداه اقتدينا ، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا عليا ولسلمنا له ، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك فأخذنا بمثاله ، فعب أباك أو دعه ، والسلام على من تاب وأناب.

إحتجاجه ( عليه السلام ) على الخوارج (*) لما حملوه على التحكم ثم أنكروا عليه ذلك ونقموا عليه أشياء فأجابهم ( عليه السلام ) عن ذلك بالحجة وبين لهم أن الخطأ من قبلهم بل وإليهم يعود
.

---------------------------
(1) زرى عليه عمله: عابه عليه .
(2) رصف الحجارة: ضم بعضها إلى بعض .
(3) ابتز منه الشئ: استلبه قهرا .
(*) قال الشهرستاني ـ في الملل والنحل ـ :
الخوارج: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 273 _

  روي أن رجلا من أصحابه قام إليه فقال: إنك نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فما ندري أي الأمرين أرشد، فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال:   هذا جزاء من ترك العقدة (1)، أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي جعل الله فيه خيرا كثيرا (2) فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قومتكم ، وإن أبيتم تداركتكم (3) لكانت الوثقى ، ولكن بمن وإلى من (4) أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي ؟! كناقش الشوكة بالشوكة ،

---------------------------
<=
سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين ، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان ، ( قال ) اعلم: أن أول من خرج على أمير المؤمنين على ابن أبي طالب ( عليه السلام ) جماعة ممن كان معه في حرب صفين ، وأشدهم خروجا عليه ومروقا من الدين ( الأشعث بن قيس) و ( مسعود بن فدكي التميمي ) و ( زيد بن حصين الطائي ) حين قالوا : ( القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف ) حتى قال : أنا أعلم بما في كتاب الله انفروا إلى بقية الأحزاب انفروا إلى من يقول : كذب الله ورسوله وأنتم تقولون : صدق الله ورسوله قالوا: لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين وإلا لنفعلن بك كما فعلنا بعثمان فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع وولوا مدبرين ، وما بقي منهم إلا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة ، فامتثل الأشتر أمره، وكان من أمر الحكمين أن الخوارج حملوه على التحكم أولا، وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس فما رضي الخوارج بذلك وقالوا: هو منك ، فحملوه على بعث أبي موسى الأشعري ـ على أن يحكما بكتاب الله تعالى ـ فجرى الأمر على خلاف ما رضي به فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا: لم حكمت الرجال ؟ ولا حكم إلا الله.
(1) العقدة: الرأي والحزم أي هذا جزاؤكم حين تركتم الرأي الحازم الذي أمرتكم به فوقعتم في الحيرة والشك من جراء عنادكم واتباعكم أهوائكم.
(2) المكروه: الحرب إشارة إلى قوله تعالى : ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )
(3) يريد ( عليه السلام ) بالاعوجاج : العصيان وبالتقويم الإرشاد فإن أبيتم ولم تسمعوا النصيحة تداركتكم بالاستنجاد بغيركم وأخذتكم بالقوة والقهر .
(4) هذا هو الطريق ولكن ممن استعين في هذا الأمر ، وإلى من أرجع .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 274 _

  وهو يعلم أن ضلعها معها (1) ، اللهم قد ملت أطباء الداء الدوي (2) وكلت النزعة بأشطان الركى (3).
  فقال عليه السلام (4) وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة بعد كلام طويل:
  ألم تقولوا ـ عند رفعهم المصاحف حيلة ، وغيلة ، (5) ومكرا ، وخديعة ـ :
  إخواننا ، وأهل دعوتنا ، استقالونا ، واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه ، فالرأي القبول منهم ، والتنفيس عنهم ، (6) فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان ، وباطنه عدوان وأوله رحمة ، وآخره ندامة ، فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم ، وعضوا على الجهاد بنواجذكم (7) ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق (8)، إن أجيب أضل وإن ترك ذل ، فلقد كنا مع رسول الله وإن القتل ليدور بين الآباء والأبناء، والإخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيمانا، ومضيا على الحق ، وتسليما للأمر ، وصبرا على مضض الجراح (9) ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام

---------------------------
(1) نقش الشوكة إذا استخرجها من جسمه ومنه سمي ( المناقش ) الذي ينقض به .
والضلع ـ بالتحريك ـ الميل والطبع ـ يريد ( عليه السلام ) أن طباع بعضهم تشبه طباع بعضهم الآخر وميولهم متماثلة كما تميل الشوكة لمثلها وهذا مثل للعرب: ( لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها معها) أي إذا استخرجت الشوكة بمثلها فسوف تنكسر في رجلك كما انكسرت الأولى.
(2) الداء الدوى: الشديد .
(3) النزعة: جمع نازع وهو: الذي يستقي الماء ، والشطن هو: الحبل ، والركى جمع ركية وهي: البئر.
(4) تجد هذا الكلام له ( عليه السلام ) في نهج البلاغة ج 2 ص 2 .
(5) الغيلة بالكسر ـ الخديعة.
(6) نفس عنه: فرج عنه .
(7) النواجذ من الأسنان ـ بالذال المعجمة ـ : الضواحك وهي: التي تبدوا عند الضحك
(8) النعيق: صوت الراعي بغنمه يريد ( عليه السلام ) لا تتبعوا كل داع إلى ضلالة .
(9) المضض: وجع المصيبة .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 275 _

  على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج (1) والشبهة والتأويل ، فإذا طعمنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ، ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا ، رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها وقال ( عليه السلام ) ـ في التحكيم (2) :
  إنا لم نحكم الرجال (3) وإنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين ، لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال ولما أن دعانا القوم إلى أن يحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله عز وجل وقد قال الله سبحانه : ( وإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر (4) ) فرده إلى الله أن نحكم بكتابه ، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به وإذا حكم بسنة رسوله فنحن أولادهم به (5) ، وأما قولكم لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم ؟ فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل (6) ويتثبت العالم (7) ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة ولا تؤخذ بإكظامها (8) فتعجل عن تبين

---------------------------
(1) الزيغ: الميل عن الحق.
(2) تجد هذا الكلام في ج 2 ص 7 من نهج البلاغة.
(3) هذا رد على قولهم ـ بعد أن حملوه على التحكيم ـ : ( لم حكمت الرجال لا حكم إلا لله ) فردهم ( عليهم السلام ) بهذا القول لأن القوم إنما دعوه لتحكيم القرآن، لا لتحكيم الرجلين وحيث إن القرآن صامت يحتاج إلى ترجمان اضطر ( عليهم السلام ) إلى تحكيم الرجال والقرآن في الواقع هو الحكم وقد اشترط على الحكمين أن يحكما بكتاب الله وسنة رسوله ، فلما خالفا الشرط بطل تحكيمهما ولم يلزمه اتباع قولهما .
(4) الآية 59 ـ النساء ـ حين دعاه القوم لتحكيم القرآن لم يكن ( عليهم السلام ) ليتخلف حتى ينطبق عليه قوله تعالى ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم وهم معرضون ).
(5) أي: أحق بكتاب الله وأولى برسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
(6) أي ليظهر له وجه الحق.
(7) أي يطمئن قلبه بدفع الشبهة.
(8) الأكظام جمع كظم ـ بالتحريك ـ وهو: مخرج النفس من الحلق.