الفهرس العام

إحتجاجه ( عليه السلام ) على زنديق جاء مستدلا عليه بأي من القرآن متشابهة ، تحتاج إلى التأويل، على أنها تقتضي التناقض والاختلاف فيه ، وعلى أمثاله في أشياء أخرى.



  فتناوله علي ( عليه السلام ) فقمحه (1) وعرق عرقا خفيفا ، وجعل الرجل يرتعد ويقول في نفسه : الآن أؤخذ بابن أبي طالب ، ويقال : قتلته ولا يقبل مني قولي إنه هو الجاني على نفسه .
  فتبسم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وقال: يا عبد الله أصح ما كنت بدنا الآن لم يضرني ما زعمت أنه سم .
  ثم قال : فغمض عينيك ، فغمض ، ثم قال : افتح عينيك ففتح ، ونظر إلى وجه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فإذا هو أبيض أحمر مشرب حمرة ، فارتعد الرجل لما رآه .
  وتبسم علي ( عليه السلام ) وقال : أين الصفار الذي زعمت أنه بي .
  فقال: والله لكأنك لست من رأيت ، قبل كنت مضارا ، فإنك الآن مورد .
  فقال علي ( عليه السلام ) : فزال عني الصفار الذي تزعم أنه قاتلي .
  وأما ساقاي هاتان ومد رجليه وكشف عن ساقيه ، فإنك زعمت أني أحتاج إلى أن أرفق ببدني في حمل ما أحمل عليه ، لئلا ينقصف الساقان ، وأنا أريك أن طب الله عز وجل على خلاف طبك ، وضرب بيده إلى اسطوانة خشب عظيمة ، على رأسها سطح مجلسه الذي هو فيه، وفوقه حجرتان ، أحدهما فوق الأخرى وحركها فاحتملها ، فارتفع السطح والحيطان وفوقهما الغرفتان، فغشي على اليوناني.
  فقال علي ( عليه السلام ) : صبوا عليه ماء فصبوا عليه ماء فأفاق وهو يقول: والله ما رأيت كاليوم عجبا .
  فقال له علي ( عليه السلام ) : هذه قوة الساقين الدقيقين واحتمالهما أفي طبك هذا يا يوناني ؟
  فقال اليوناني أمثلك كان محمدا ؟
  فقال علي ( عليه السلام ) : وهل علمي إلا من علمه ، وعقلي إلا من عقله ، وقوتي إلا من قوته ، ولقد أتاه ثقفي وكان أطب العرب، فقال له :

---------------------------
(1) قمحت السويق ـ بالكسر ـ إذا سففته .
أي: تنكسر

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 352 _

  إن كان بك جنون داويتك ؟
  فقال له محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أتحب أن أريك آية تعلم بها غناي من طبك وحاجتك إلى طبي ؟
  قال : نعم .
  قال : أي آية تريد ؟
  قال : تدعو ذلك العذق وأشار إلى نخلة سحوق فدعاه ، فانقلع أصلها من الأرض وهي تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه .
  فقال له : أكفاك ؟
  قال : لا .
  قال : فتريد ماذا ؟
  قال تأمرها أن ترجع إلى حيث جاءت منه، وتستقر في مقرها الذي انقلعت منه .
  فأمرها ، فرجعت واستقرت في مقرها.
  فقال اليوناني لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هذا الذي تذكره عن محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غائب عني ، وأنا أريد أن أقتصر منك على أقل من ذلك ، أتباعد عنك فادعني وأنا لا أختار الإجابة ، فإن جئت بي إليك فهي آية.
  قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنما يكون آية لك وحدك ، لأنك تعلم من نفسك أنك لم ترده ، وأني أزلت اختيارك من غير أن باشرت مني شيئا ، أو ممن أمرته بأن يباشرك ، أو ممن قصد إلى اختيارك وإن لم آمره ، إلا ما يكون من قدرة الله القاهرة ، وأنت يا يوناني يمكنك أن تدعي ويمكن غيرك أن يقول : إني واطأتك على ذلك ، فاقترح أن كنت مقترحا ما هو آية لجميع العالمين .
  قال له اليوناني : إن جعلت الاقتراح إلي فأنا اقترح: أن تفصل أجزاء تلك النخلة ، وتفرقها وتباعد ما بينها ، ثم تجمعها وتعيدها كما كانت :
  فقال علي عليه السلام هذه آية وأنت رسولي إليها ـ يعني إلى النخلة ـ فقل لها :

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 353 _

  إن وصي محمد رسول الله يأمر أجزائك: أن تتفرق وتتباعد .
  فذهب فقال لها : ذلك ، فتفاصلت ، وتهافتت ، وتنثرت ، وتصاغرت أجزائها حتى لم ير لها عين ولا أثر، حتى كأن لم تكن هناك نخلة قط .
  فارتعدت فرائص اليوناني وقال: يا وصي محمد رسول الله قد أعطيتني اقتراحي الأول، فاعطني الآخر، فأمرها أن تجتمع وتعود كما كانت ، فقال: أنت رسولي إليها فعد فقل لها: يا أجزاء النخلة إن وصي محمد رسول الله يأمرك أن تجتمعي كما كنت وأن تعودي .
  فنادى اليوناني فقال ذلك ، فارتفعت في الهواء كهيئة الهباء المنثور ، ثم جعلت تجتمع جزو جزو منها ، حتى تصور لها القضبان ، والأوراق، وأصول السعف وشماريخ الأعذاق، ثم تألفت ، وتجمعت ، وتركبت ، واستطالت ، وعرضت ، واستقر أصلها في مقرها ، وتمكن عليها ساقها ، وتركب على الساق قضبانها ، وعلى القضبان أوراقها ، وفي أمكنتها أعذاقها ، وكانت في الابتداء شماريخها متجردة لبعدها من أوان الرطب، والبسر ، والخلال .
  فقال اليوناني: وأخرى أحب أن تخرج شماريخها أخلالها، وتقلبها من خضرة إلى صفرة وحمرة ، وترطيب وبلوغ ، لتأكل وتطعمني ومن حضرك منها .
  فقال علي ( عليه السلام ) أنت رسولي إليها بذلك ، فمرها به .
  فقال لها اليوناني: ما أمره أمير المؤمنين عليه السلام فأخلت ، وأبسرت ، واصفرت واحمرت ، وترطبت ، وثقلت أعذاقها برطبها .
  فقال اليوناني : وآخرها أحبها أن تقرب من بين يديي أعذاقها، أو تطول يدي لتنالها ، وأحب شئ إلي: أن تنزل إلي إحديهما ، وتطول يدي إلى الأخرى التي هي أختها .
  فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : مد اليد التي تريد أن تنالها وقل: يا مقرب البعيد قرب يدي منها ، واقبض الأخرى التي تريد أن ينزل العذق إليها وقل: يا مسهل العسير سهل لي تناول ما يبعد عني منها ففعل ذلك فقاله ، فطالت يمناه فوصلت إلى

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 354 _

  العذق، وانحطت الأعذاق الأخر فسقطت على الأرض وقد طالت عراجينها .
  ثم قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنك إن أكلت منها ولم تؤمن بمن أظهر لك من عجائبها ، عجل الله عز وجل إليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه وجهالها .
  فقال اليوناني: إني إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد ، وتناهيت في التعرض للهلاك ، أشهد أنك من خاصة الله، صادق في جميع أقاويلك عن الله فأمرني بما تشاء أطعك .
  قال علي عليه السلام: آمرك أن: تقر لله بالوحدانية ، وتشهد له بالجود والحكمة وتنزهه عن العبث والفساد ، وعن ظلم الإماء والعباد ، وتشهد أن محمدا الذي أنا وصيه سيد الأنام ، وأفضل رتبة في دار السلام ، وتشهد أن عليا الذي أراك ما أراك ، وأولاك من النعم ما أولاك، خير خلق الله بعد محمد رسول الله، وأحق خلق الله بمقام محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعده ، وبالقيام بشرايعه وأحكامه ، وتشهد أن أوليائه أولياء الله، وأعدائه أعداء الله، وأن المؤمنين المشاركين لك فيما كلفتك، المساعدين لك على ما أمرتك به خيرة أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وصفوة شيعة علي .
  وآمرك: أن تواسي إخوانك المطابقين لك على تصديق محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتصديقي والانقياد له ولي، مما رزقك الله وفضلك على من فضلك به منهم ، تسد فاقتهم ، وتجبر كسرهم وخلتهم ، ومن كان منهم في درجتك في الإيمان ساويته من مالك بنفسك ، ومن كان منهم فاضلا عليك في دينك آثرته بما لك على نفسك ، حتى يعلم الله منك أن دينه آثر عنك من مالك ، وأن أوليائه أكرم عليك من أهلك وعيالك وآمرك: أن تصون دينك ، وعلمنا الذي أودعناك وأسرارنا التي حملناك ولا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد ، ويقابلك من أهلها بالشتم ، واللعن ، والتناول من العرض والبدن ، ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا ، وعند الجاهلين بأحوالنا ولا تعرض أوليائنا لبوادر الجهال.
  وآمرك : أن تستعمل التقية في دينك ، فإن الله عز وجل يقول: ( لا يتخذ

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 355 _

  المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ) (1) وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن لجأك الخوف إليه وفي إظهار البرائة منا إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات إن خشيت على حشاشتك (2) الآفات والعاهات ، فإن تفضيلك أعدائنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا ، وأن إظهارك برائتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا ، ولأن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها، وما لها الذي به قيامها ، وجاهها الذي به تماسكها ، وتصون من عرف بذلك وعرفت به من أوليائنا وإخواننا من بعد ذلك بشهور وسنين إلى أن يفرج الله تلك الكربة، وتزول به تلك الغمة فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك ، وتنقطع به عن عمل الدين وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها ، فإنك شائط بدمك ودم إخوانك، معرض لنعمتك ونعمهم على الزوال مذل لك ولهم في أيدي أعداء دين الله، وقد آمرك الله بإعزازهم ، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشد من ضرر المناصب لنا ، الكافر بنا وعن سعيد بن جبير (3) قال : استقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دهقان من دهاقين الفرس فقال له ـ بعد التهنية ـ :

---------------------------
(1) آل عمران ـ 28.
(2) الحشاشة: بقية الروح في المريض.
(3) سعيد بن جبير ـ بالجيم المضمومة ـ بن هشام الأسدي الوالبي مولى بني والبة أصله الكوفة نزل مكة تابعي .
عده الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام زين العابدين ( عليهم السلام ) والعلامة في القسم الأول من خلاصته ، روى عن أبي عبد الله ( عليهم السلام ) أنه قال : إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين ( عليهم السلام ) وكان علي ( عليهم السلام ) يثني عليه ، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر وكان مستقيما ، وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال له : أنت شقي بن كسير قال : أمي كانت أعرف باسمي سمتني : ( سعيد بن جبير ) ، قال : ما تقول في أبي بكر وعمر هما في الجنة أو في النار ؟ قال : لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها ، ولو
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 356 _

  يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات ، وتناحست السعود بالنحوس ، وإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء ، ويومك هذا يوم صعب ، قد اتصلت فيه كوكبان ، وانقدح من برجك النيران ، وليس لك الحرب بمكان ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ويحك يا دهقان المنبئ بآثار ، والمحذر من الأقدار ، ما قصة صاحب الميزان ، وقصة صاحب السرطان ، وكم المطالع من الأسد والساعات في المحركات ، وكم بين السراري والذراري ؟
  قال : سأنظر وأومئ بيده إلى كمه ، وأخرج منه أصطرلابا ينظر فيه.
  فتبسم علي ( عليه السلام ) وقال: أتدري ما حدث البارحة ؟ وقع بيت بالصين ، وانفرج برج ماجين ، وسقط سور سرنديب ، وانهزم بطرق الروم بأرمينية ، وفقد ديان اليهود بابلة ، وهاج النمل بوادي النمل، وهلك ملك إفريقية، أكنت عالما بهذا ؟
  قال: لا يا أمير المؤمنين.
  فقال: البارحة سعد سبعون ألف عالم ، وولد في كل عالم سبعون ألفا،

---------------------------
<=
دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها ، قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل ، قال: أيهم أحب إليك ؟ قال : أرضاهم لخالقي ، قال : فأيهم أرضى للخالق قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم ، قال : أبيت أن تصدقني قال : بل لم أحب أن أكذبك.
وكان ثقة مشهورا بالفقه والزهد والعبادة وعلم التفسير وكان أخذ العلم عن ابن عباس ، وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول ، أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟
يعني : سعيد بن جبير ، وكان يسمى جهبذ العلماء ( بالكسر ـ أي: النقاد الخبير ) وكان يقرأ القرآن في ركعتين ، قيل : وما من أحد على الأرض إلا وهو محتاج إلى علمه ، قتله الحجاج سنة ( 95 ) وهو ابن ( 49 ) سنة ولم يبق بعده الحجاج إلا ( 15 ) ليلة ، ولم يقتل أحدا بعده لدعائه عليه حين قتله : ( اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي ) .
رجال الطوسي ص 90 العلامة ص 79 الكشي ص 110 تهذيب التهذيب ج 4 ص 11 سفينة البحار ج 1 ص 621.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 357 _

  والليلة يموت مثلهم ، وهذا منهم ـ وأومى بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثي لعنه الله وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ فظن الملعون: أنه يقول : خذوه ، فأخذ بنفسه فمات ، فخر الدهقان ساجدا .
  فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ألم أروك من عين التوفيق ؟
  قال : بلى يا أمير المؤمنين.
  فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنا وأصحابي لا شرقيون ولا غربيون ، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك ، أما قولك انقدح من برجلك النيران ، فكان الواجب عليك أن تحكم لي به إلا علي ، أما نوره وضياؤه فعندي ، وأما حريقه ولهبه فذاهب عني ، وهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا .
  وروي أنه عليه السلام لما أراد المسير إلى الخوارج قال له بعض أصحابه: إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.
  فقال ( عليه السلام ) : أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء ، وتخوف الساعة التي من سار فيها حاق به الضر ، فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن ، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه ، وينبغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه ، لأنك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر .
  أيها الناس إياكم وتعلم النجوم ، إلا ما يهتدى به في بر أو بحر ، فإنه يدعو إلى الكهانة ، المنجم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، سيروا على اسم الله وهونه ، ومضى فظفر بمراده صلوات الله عليه .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 358 _

  جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) وقال له: لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم .
  فقال له ( عليه السلام ) : وما هو ؟
  قال : قوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) (1) وقوله : ( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) (2) وقوله : ( وما كان ربك نسيا ) (3) وقوله: ( يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) (4) وقوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) (5) وقوله تعالى : ( يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) (6) وقوله : ( إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) (7) وقوله : ( لا تختصموا لدي ) (8) وقوله : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) (9) وقوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) (10) وقوله : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) (11) وقوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) (12) وقوله :
  ( لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا الآيتين ) (13) وقوله :

---------------------------
(1) التوبة ـ 97 .
(2) الأعراف ـ 51 .
(3) مريم ـ 64 .
(4) النبأ ـ 38 .
(5) الأنعام ـ 23 .
(6) العنكبوت ـ 25 .
(7) ص ـ 64 .
(8) ق ـ 28 .
(9) يس ـ 65 .
(10) القيامة ـ 22 .
(11) الأنعام ـ 103 .
(12) النجم ـ 14 .
(13) النبأ ـ 38 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 359 _

  ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) (1) وقوله : ( كلا إنهم يومئذ لمحجوبون ) (2) وقوله : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ) (3) وقوله : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) (4) وقوله : ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) (5) وقوله : ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) (6) وقوله : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) (7) وقوله : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) (8) وقوله : ( فمن ثقلت موازينه ، ومن خفت موازينه ) (9).
  فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فأما قوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته ، فنسيهم في الآخرة أي : لم يجعل لهم من ثوابه شيئا ، فصاروا منسيين من الخير ، وكذلك تفسير قوله عز وجل :
  ( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) يعني بالنسيان : أنه لم يثيبهم كما يثيب أوليائه ، والذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله وخافوه بالغيب .
  وأما قوله: ( وما كان ربك نسيا ) فإن ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى ، ولا يغفل ، بل هو الحفيظ العليم ، وقد تقول العرب: نسينا فلان فلا يذكرنا: أي إنه لا يأمر لهم بخير ، ولا يذكرهم به .
  قال علي ( عليه السلام ) وأما قوله عز وجل : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) وقوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) وقوله عز وجل ( يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) وقوله عز وجل يوم القيامة ( إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) وقوله : ( لا تختصموا

---------------------------
(1) الشورى ـ 51 .
(2) المطففين ـ 15 .
(3) الأنعام ـ 158 .
(4) السجدة ـ 10 .
(5) التوبة ـ 77 .
(6) الكهف ـ 110 .
(7) الكهف ـ 53 .
(8) الأنبياء ـ .
(9) المؤمنون ـ 102 و 103 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 360 _

  لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ) وقوله: ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، المراد: يكفر أهل المعاصي بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، والكفر في هذه الآية: ( البرائة ) يقول : فيبرأ بعضهم من بعض ، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) وقول إبراهيم خليل الرحمن: ( كفرنا بكم ) يعني تبرأنا منكم .
  ثم يجتمعون في مواطن أخر يبكون فيها ، فلو أن تلك الأصوات فيها بدت لأهل الدنيا لا زالت جميع الخلق عن معايشهم ، وانصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله ولا يزالون يبكون حتى يستنفدوا الدموع ، ويفضوا إلى الدماء .
  ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه ، فيقولون : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) وهؤلاء خاصة هم : المقرون في دار الدنيا بالتوحيد ، فلا ينفعهم إيمانهم بالله لمخالفتهم رسله ، وشكهم فيما أتوا به عن ربهم ، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم واستبدا لهم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فكذبهم الله فيما انتحلوه من الإيمان بقوله : ( انظر كيف كذبوا على أنفسهم ) فيختم الله على أفواههم، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود ، فتشهد بكل معصية كانت منهم ، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم : لم شهدتم علينا ؟ قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ .
  ثم يجتمعون في موطن آخر فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه من صعوبة الأمر ، وعظم البلاء فذلك قوله عز وجل : ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه الآية ) .
  ثم يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء الله وأصفياؤه ، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالة التي حملوها إلى أممهم ، وتسأل الأمم فتجحد كما قال الله تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) فيقولون : ( ما جائنا من بشير ولا نذير ) فتشهد

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 361 _

  الرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيشهد بصدق الرسل، وتكذيب من جحدها من الأمم ، فيقول ـ لكل أمة منهم ـ : ( بلى قد جائكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير ) أي: مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم ، كذلك قال الله ـ لنبيه ـ : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فلا يستطيعون رد شهادته ، خوفا من أن يختم الله على أفواههم ، وأن تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون، ويشهد على منافقي قومه ، وأمته ، وكفارهم بإلحادهم ، وعنادهم ، ونقضهم عهده ، وتغييرهم سنته ، واعتدائهم على أهل بيته ، وانقلابهم على أعقابهم ، وارتدادهم على أدبارهم ، واحتذائهم في ذلك سنة من تقدمهم من الأمم الظالمة ، الخائنة لأنبيائها، فيقولون بأجمعهم: ( ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ظالمين ) .
  ثم يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو : ( المقام المحمود ) فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله ، ثم يثني على الملائكة كلهم ، فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد ، ثم يثني على الأنبياء بما لم يثن عليه أحد قبله ، ثم يثني على كل مؤمن ومؤمنة ، يبدأ بالصديقين والشهداء ، ثم الصالحين ، فيحمده أهل السماوات وأهل الأرضين ، فذلك قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظ ونصيب، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ ولا نصيب .
  ثم يجتمعون في موطن آخر ويزال بعضهم عن بعض ، وهذا كله قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه ، نسأل الله بركة ذلك اليوم .
  قال علي ( عليه السلام ) وأما قوله : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل ، بعدما يفرغ من الحساب ، إلى نهر يسمى :
  ( نهر الحيوان ) فيغتسلون منه ، ويشربون من آخر فتبيض وجوههم ، فيذهب عنهم كل أذى وقذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم ، ومنهم يدخلون الجنة فذلك قول الله عز وجل ـ في تسليم

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 362 _

  الملائكة عليهم ـ : ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) فعند ذلك قوله تعالى :
  أثيبوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم الله عز وجل ، فلذلك قوله تعالى :
  ( إلى ربها ناظرة ) والناظرة في بعض اللغة هي : المنتظرة ألم تسمع إلى قوله تعالى :
  ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) أي : منتظرة بم يرجع المرسلون ؟ وأما قوله :
  ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) يعني: محمدا كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز وجل ، وقوله ـ في آخر الآية ـ : ( ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) وأي جبرئيل في صورته مرتين : هذه مرة ، ومرة أخرى، وذلك إن خلق جبرئيل خلق عظيم ، فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم ، ولا صفتهم إلا الله رب العالمين قال علي ( عليه السلام ) وأما قوله : ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) كذلك قال الله تعالى قد كان الرسول يوحي إليه رسل من السماء فتبلغ رسل السماء إلى الأرض وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( يا جبرئيل هل رأيت ربك ؟ ) فقال جبرئيل: ( إن ربي لا يرى ) .
  فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( من أين تأخذ الوحي ؟ ) قال: ( آخذه من إسرافيل ) قال : ( ومن أين يأخذه إسرافيل ؟ ) قال : ( يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين ) قال : ( ومن أين يأخذه ذلك الملك ؟ ) قال : ( يقذف في قلبه قذفا ) .
  فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل ، وكلام ليس بنحو واحد ، منه :
  ما كلم الله به الرسل ، ومنه ما قذف في قلوبهم ، ومنه رؤيا يراها الرسل، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ فهو كلام الله عز وجل .
  قال علي ( عليه السلام ) وأما قوله : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فإنما يعني به يوم القيامة عن ثواب ربهم لمحجوبون ، وقوله تعالى : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) يخبر محمدا عن المشركين

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 363 _

  المنافقين ، الذين لم يستجيبوا لله ولرسوله ، فقال : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) وحيث لم يستجيبوا لله ولرسوله ، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يعني بذلك : العذاب ، يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا خبر يخبر به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنهم ، ثم قال : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية ) يعني: لم تكن آمنت من قبل أن تأتي هذه الآية ، وهذه الآية هي : طلوع الشمس من مغربها ، وقال ـ في آية أخرى ـ :
  ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) يعني : أرسل عليهم عذابا ، وكذلك إتيانه بنيانهم حيث قال : ( فأتى بنيانهم من القواعد ) يعني : أرسل عليهم العذاب .
  قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) وقوله ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) وقوله : ( إلى يوم يلقونه ) وقوله : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ) يعني : البعث، فسماه الله لقاء ، كذلك قوله ( من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت ) يعني : من كان يؤمن أنه مبعوث فإن وعد الله لآت: من الثواب، والعقاب ، فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية ، واللقاء هو : البعث، وكذلك : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) يعني : أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون .
  قال علي ( عليه السلام ) : وأما قوله عز وجل : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) يعني : تيقنوا أنهم يدخلونها ، وكذلك قوله : ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) وأما قوله عز وجل ـ للمنافقين ـ : ( ويظنون بالله الظنونا ) فهو : ظن شك وليس ظن يقين ، والظن ظنان : ظن شك ، وظن يقين ، فما كان من أمر المعاد من الظن فهو ظن يقين ، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك .
  قال علي ( عليه السلام ) : وأما قوله عز وجل: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) فهو : ميزان العدل ، يؤخذ به الخلايق يوم القيامة ، بدين الله تبارك وتعالى ، الخلايق بعضهم من بعض ، ويجزيهم بأعمالهم ، ويقتص للمظلوم من الظالم، ومعنى قوله : ( فمن ثقلت موازينه ، ومن خفت موازينه ) فهو : قلة

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 364 _

  الحساب وكثرته ، والناس يومئذ على طبقات ومنازل ، فمنهم : من يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، لأنهم لم يتلبسوا من أمر الدنيا ، وإنما الحساب هناك على من تلبس بها هاهنا ، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ويصير إلى عذاب السعير ، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلالة، فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ، ولا يعبؤ بهم بأمره ونهيه يوم القيامة وهم في جهنم خالدون ، وتلفح وجوههم النار ، وهم فيها كالحون .
  ومن سؤال هذا الزنديق أن قال أجد الله يقول : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم (1) ).
  ومن موضع آخر يقول: ( والله يتوفى الأنفس حين موتها ) (2) ( والذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) (3) ( وما أشبه ذلك فمرة يجعل الفعل لنفسه ، ومرة لملك الموت، ومرة للملائكة .
  وأجده يقول : ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) (4) ويقول ، ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) (5) أعلم في الآية الأولى: أن الأعمال الصالحة لا تكفر ، وأعلم في الثانية ، أن الإيمان والأعمال الصالحات لا تنفع إلا بعد الاهتداء .
  واجده يقول : ( واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا ) (6) فكيف يسأل الحي من الأموات قبل البعث والنشور .
  واجده يقول : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) (7) فما هذه الأمانة ومن هذا الإنسان ؟ وليس من صفته العزيز العليم التلبيس على عباده .
  واجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله : ( وعصى آدم ربه فغوى ) (8)

---------------------------
(1) السجدة ـ 11 .
(2) الزمر ـ 42 .
(3) النحل ـ 32 .
(4) الأنبياء ـ 94 .
(5) طه ـ 82 .
(6) الزخرف ـ 45 .
(7) الأحزاب ـ 72 .
(8) طه 121 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 365 _

  وبتكذيبه نوحا لما قال : ( إن ابني من أهلي ) (1) بقوله : ( إنه ليس من أهلك ) (2) وبوصفه إبراهيم بأنه: عبد كوكبا مرة، ومرة قمرا، ومرة شمسا، وبقوله في يوسف :
  ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) (3) وبتهجينه موسى حيث قال : ( رب أرني أنظر إليك قال لن تراني الآية ) (4) وببعثه على داود جبرئيل وميكائيل حيث تسور المحراب، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضبا وأظهر خطأ الأنبياء وزللهم ، ووارى اسم من اغتر وفتن خلقا وضل وأضل ، وكنى عن أسمائهم في قوله : ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جائني ) (5) فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء ؟
  واجده يقول : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) (6) ( وهل ينظرون إلا أن يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) (7) ( ولقد جئتمونا فرادى ) (8) فمرة يجيئهم ، ومرة يجيئونه واجده : يخبر أنه يتلو نبيه شاهد منه ، وكان الذي تلاه عبد الأصنام برهة من دهره .
  واجده يقول : ( ولتسألن يومئذ عن النعيم ) (9) فما هذا النعيم الذي يسأل العباد عنه ؟
  وأجده يقول : ( بقية الله خير لكم ) (10) ما هذه البقية ؟
  وأجده يقول : ( يا حسرتي على فرطت في جنب الله ) وأينما تولوا فثم وجه الله ) (11) ( وكل شئ هالك إلا وجهه ) (12) ( وأصحاب اليمين ما أصحاب

---------------------------
(1) هود ـ 45 .
(2) هود ـ 46 .
(3) يوسف ـ 24 .
(4) الأعراف ـ 143 .
(5) الفرقان ـ 27 .
(6) الفجر ـ 22 .
(7) الأنعام ـ 158 .
(8) الأنعام ـ 94 .
(9) التكاثر ـ 8 .
(10) هود ـ 86 .
(11) البقرة ـ 115 .
(12) القصص ـ 28 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 366 _

  اليمين ) (1) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) (2) ما معنى : الجنب، والوجه واليمين ، والشمال ، فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا ؟
  واجده يقول : ( الرحمن على العرش استوى ) (3) ويقول : ( أأمنتم من في السماء ) (4) ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) (5) ( وهو معكم أينما كنتم ) (6) ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) (7) ( وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية ) (8) واجده يقول : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء ) (9) وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء ، ولا كل النساء أيتام فما معنى ذلك ؟
  واجده يقول : ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) (10) فكيف يظلم الله ومن هؤلاء الظلمة ؟
  وأجده يقول : ( إنما أعظكم بواحدة ) (11) فما هذه الواحدة ؟
  وأجده يقول: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (12) وقد أرى مخالفي الإسلام معتكفين على باطلهم ، غير مقلعين عنه ، وأرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين في مذاهبهم ، يلعن بعضهم بعضا ، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم ؟
  واجده قد بين فضل نبيه على سائر الأنبياء ، ثم خاطبه في أضعاف ما أثنى عليه في الكتاب من الازراء عليه ، وانتقاص محله ، وغير ذلك من تهجينه وتأنيبه ، ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء ، مثل قوله : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) (13) وقوله : ( لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم

---------------------------
(1) الواقعة - 27.
(2) الواقعة ـ 41 .
(3) طه ـ 5 .
(4) الملك ـ 16 .
(5) الزخرف ـ 84 .
(6) الحديد ـ 4 .
(7) ق ـ 16 .
(8) المجادلة ـ 7 .
(9) النساء ـ 3 .
(10) الأعراف ـ 160 .
(11) سبأ ـ 46 .
(12) الأنبياء ـ 107 .
(13) الأنعام ـ 35 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 367 _

  شيئا قليلا ) (1) ( إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) (2) وقوله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) (3) وقوله : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) (4) وقال : ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ( وكل شئ أحصيناه في إمام مبين ) (5) فإذا كانت الأشياء تحصى في الإمام وهو وصي النبي فالنبي أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، وهذه كلها صفات مختلفة ، وأحوال متناقضة ، وأمور مشكلة ، فإن يكن الرسول والكتاب حقا فقد قلت لشكي في ذلك ، وإن كانا باطلين فما علي من بأس .
  فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، تبارك وتعالى ، هو الحي الدائم ، القائم على كل نفس بما كسبت ، هات أيضا ما شككت فيه قال : حسبي ما ذكرت يا أمير المؤمنين.
  قال: سأنبئك بتأويل ما سألت ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وعليه فليتوكل المتوكلون.
  فأما قوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها ، وقوله يتوفاكم ملك الموت ، وتوفته رسلنا ، والذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فهو تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يتولى ذلك بنفسه ، وفعل رسله وملائكته فعله ، لأنهم بأمره يعملون ، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه ، وهم الذين قال الله فيهم : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة ، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة ، يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله ، وكل ما يأتون منسوب إليه، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت ، وفعل ملك الموت فعل الله، لأنه يتوفى الأنفس على يد من

---------------------------
(1) الإسراء ـ 74 .
(2) الإسراء ـ 75 .
(3) الأحزاب ـ 37 .
(4) الأحقاف ـ 9 .
(5) يس ـ 12 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 368 _

  يشاء ، ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب على يد من يشاء ، وإن فعل أمنائه فعله، كما قال: وما تشاؤن إلا أن يشاء الله.
  وأما قوله : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ، وقوله وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، فإن ذلك كله لا يغني إلا مع الاهتداء، وليس كل من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنجاة مما هلك به الغواة ، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها ، بالتوحيد ، وإقرارها بالله ونجى ساير المقرين بالوحدانية ، من إبليس فمن دونه في الكفر ، وقد بين الله ذلك بقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وبقوله : الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها ، ومن ذلك : أن الإيمان قد يكون على وجهين : إيمان بالقلب ، وإيمان باللسان ، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله، لما قهرهم بالسيف وشملهم الخوف فإنهم آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، فالإيمان بالقلب هو التسليم للرب ، ومن سلم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل ، فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، ولم يرد بها غير زخرف الدنيا، والتمكين من النظرة، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلا مع الاهتداء إلى سبيل النجاة، وطرق الحق ، وقد قطع الله عذر عباده بتبيين آياته، وإرسال رسله ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولم يخل أرضه من عالم بما يحتاج إليه الخليقة، ومتعلم على سبيل النجاة ، أولئك هم الأقلون عددا، وقد بين الله ذلك في أمم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخر ، مثل قوله ـ في قوم نوح ـ : وما آمن معه إلا قليل ، وقوله ـ فيمن آمن من أمة موسى ـ : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، وقوله ـ في حواري عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل ـ : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ، يعن : بأنهم مسلمون لأهل الفضل فضلهم

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 369 _

  ولا يستكبرون عن أمر ربهم ، فما أجابه منهم إلا الحواريون ، وقد جعل الله للعلم أهلا، وفرض على العباد طاعتهم بقوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وبقوله : ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، وبقوله : اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، وبقوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، وأتوا البيوت من أبوابها ، والبيوت هي : بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء ، وأبوابها أوصيائهم ، فكل من عمل من أعمال الخير فجرى على غير أيدي أهل الاصطفاء ، وعهودهم ، وشرائعهم ، وسننهم ، ومعالم دينهم ، مردود وغير مقبول، وأهله بمحل كفر ، وإن شملتهم صفة الإيمان ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ، فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النجاة لم يغن عنه إيمانه بالله مع دفع حق أوليائه ، وهبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين ، وكذلك قال الله سبحانه : فلم يك ينفعهم أيمانهم لما رأوا بأسنا ، وهذا كثير في كتاب الله عز وجل ، والهداية هي : الولاية كما قال الله عز وجل : ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ، والذين آمنوا في هذا الموضع هم : المؤتمنون على الخلائق من الحجج ، والأوصياء في عصر بعد عصر ، وليس كل من أقر أيضا من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمنا إن المنافقين كانوا يشهدون : أن لا إلا إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويدفعون عهد رسول الله بما عهد به : من دين الله، وعزائمه ، وبراهين نبوته ، إلى وصيه ويضمرون من الكراهة لذلك ، والنقض لما أبرمه منه عند إمكان الأمر لهم ، فيما قد بينه الله لنبيه بقوله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) وبقوله : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) ومثل قوله : ( لتركبن طبقا عن طبق ) أي : لتسلكن سبيل من كان قبلكم من الأمم : في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء، وهذا كثير في كتاب الله عز وجل ، وقد شق على النبي ما يؤول إليه

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 370 _

  عاقبة أمرهم، واطلاع الله إياه على بوارهم، فأوحى الله عز وجل إليه، ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ( ولا تأس على القوم الكافرين ) وأما قوله : ( واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا ) فهذا من براهين نبينا التي آتاه الله إياها ، وأوجب به الحجة على سائر خلقه ، لأنه لما ختم به الأنبياء ، وجعله الله رسولا إلى جميع الأمم، وسائر الملل ، خصه الله بالارتقاء إلى السماء عند المعراج وجمع له يومئذ الأنبياء، فعلم منهم ما أرسلوا به وحملوه من : عزائم الله وآياته وبراهينه ، وأقروا أجمعون بفضله ، وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعده وفضل شيعة وصيه من المؤمنين والمؤمنات ، الذين سلموا لأهل الفضل فضلهم ، ولم يستكبروا عن أمرهم ، وعرف من أطاعهم وعصاهم من أممهم، وسائر من مضى ومن غبر ، أو تقدم أو تأخر .
  وأما هفوات الأنبياء عليهم السلام وما بينه الله في كتابه ، ووقوع الكناية من أسماء من اجترم أعظم مما اجترمته الأنبياء ، ممن شهد الكتاب بظلمهم ، فإن ذلك من أدل الدلائل على: حكمة الله عز وجل الباهرة ، وقدرته القاهرة، وعزته الظاهرة لأنه علم : أن براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم ، وأن منهم من يتخذ بعضهم إلها، كالذي كان من النصارى في ابن مريم ، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي تفرد به عز وجل، ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه وفي أمه:
  ( كانا يأكلان الطعام ) يعني : أن من أكل الطعام كان له ثقل : ومن كان له ثقل فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم ، ولم يكن عن أسماء الأنبياء تبجرا وتعزرا (1) بل تعريفا لأهل الاستبصار .
  إن الكناية عن أسماء أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى ، وإنها من فعل المغيرين والمبدلين ، الذين جعلوا القرآن عضين واعتاضوا الدنيا من الدين، وقد بين الله تعالى قصص المغيرين بقوله : ( الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) وبقوله

---------------------------
(1) البجر : العيب ، والتعزير : اللوم والتأديب .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 371 _

  ( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب ) وبقوله : ( إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) بعد فقد الرسول مما يقيمون به أود باطلهم (1) حسب ما فعلته اليهود والنصارى بعد فقد موسى وعيسى من : تغيير التوراة والإنجيل ، وتحريف الكلم عن مواضعه ، وبقوله : ( يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ) يعني : أنهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دل على ما أحدثوه فيه ، وبين عن إفكهم ، وتلبيسهم وكتمان ما عملوه منه ، ولذلك قال لهم : لم تلبسون الحق بالباطل ، وضرب مثلهم بقوله : ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) فالزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن ، فهو يضمحل ، ويبطل ويتلاشى عند التحصيل ، والذي ينفع الناس منه : فالتنزيل الحقيقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، والقلوب تقبله ، والأرض في هذا الموضع فهي :
  محل العلم وقراره .
  وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب ، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر، والملل المنحرفة عن قبلتنا ، وإبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكان له الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الايتمار لهم ، والرضا بهم ، ولأن أهل الباطل في القديم والحديث أكثر عدا من أهل الحق ، فلأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه، وأهل طاعته ، بقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) فحسبك من الجواب عن هذا الموضع ما سمعت ، فإن شريعة التقية تخطر التصريح بأكثر منه.
  وأما قوله : وجاء ربك والملك صفا صفا، وقوله: ( ولقد جئتمونا فرادى ) وقوله: ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض

---------------------------
(1) الأود: الاعوجاج.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 372 _

  آيات ربك " فذلك كله حق ، وليست جيئته جل ذكره كجيئة خلقه ، فإنه رب كل شئ .
  ومن كتاب الله عز وجل يكون تأويله على غير تنزيله ، ولا يشبه تأويله بكلام البشر ، ولا فعل البشر وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إنشاء الله تعالى وهو حكاية الله عز وجل عن إبراهيم ( عليه السلام ) حيث قال : ( إني ذاهب إلى ربي ) فذهابه إلى ربه توجهه إليه في عبادته واجتهاده ، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله ، وقال :
  ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) وقال : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) فإنزاله ذلك : خلقه إياه.
  وكذلك قوله : ( إن كان للرحمن ولد فإنا أول العابدين ) أي: الجاحدين والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره .
  ومعنى قوله : ( فهل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) فإنما خاطب نبينا محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هل ينتظر المنافقون والمشركون إلا أن تأتيهم الملائكة فيعاينونهم ، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يعني بذلك : أمر ربك ، والآيات هي : العذاب في دار الدنيا، كما عذب الأمم السالفة ، والقرون الخالية ، وقال : ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) يعني بذلك : ما يهلك من القرون فسماه إتيانا، وقال : ( قاتلهم الله أنى يؤفكون ) أي لعنهم الله أنى يؤفكون ، فسمى اللعنة قتالا، وكذلك قال : ( قتل الإنسان ما أكفره ) أي: لعن الإنسان، وقال: ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) فسمى فعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعلا له ، ألا ترى تأويله على غير تنزيله ومثل قوله : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) فسمى البعث: لقاء ، وكذلك قوله :
  ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) أي: يوقنون أنهم مبعوثون ، ومثله قوله: ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ) أي: ليس يوقنون أنهم مبعوثون ، واللقاء عند المؤمن: البعث، وعند الكافر: المعاينة والنظر .
  وقد يكون بعض ظن الكافر يقينا ، وذلك قوله : ( ورأى المجرمون النار

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 373 _

  فظنوا أنهم مواقعوها ) أي: تيقنوا أنهم مواقعوها ، وأما قوله في المنافقين : ( ويظنون بالله الظنونا ) فليس ذلك بيقين ولكنه شك ، فاللفظ واحد في الظاهر ، ومخالف في الباطن ، وكذلك قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) يعني : استوى تدبيره وعلا أمره ، وقوله ، ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) وقوله : ( هو معكم أينما كنتم ) وقوله : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) فإنما أراد بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه ، وأن فعله فعلهم .
  فافهم عني ما أقول لك ، فإني إنما أزيدك في الشرح لا ثلج في صدرك وصدر من لعله بعد اليوم يشك في مثل ما شككت فيه ، فلا يجد مجيبا عما يسأل عنه ، لعموم الطغيان، والافتنان ، واضطرار أهل العلم بتأويل الكتاب، إلى الاكتتام والاحتجاب ، خيفة أهل الظلم والبغي .
  أما إنه سيأتي على الناس زمان يكون الحق فيه مستورا ، والباطل ظاهرا مشهورا ، وذلك إذا كان أولى الناس به أعدائهم له ، واقترب الوعد الحق، وعظم الإلحاد ، وظهر الفساد ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ، ونحلهم الكفار أسماء الأشرار ، فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس إليه ثم يتيح الله الفرج لأوليائه ، ويظهر صاحب الأمر على أعدائه.
  وأما قوله : ( ويتلوه شاهد منه ) فذلك حجة الله أقامها على خلقه ، وعرفهم أنه لا يستحق مجلس النبي إلا من يقوم مقامه ، ولا يتلوه إلا من يكون في الطهارة مثله ، لئلا يتسع لمن ماسه حس الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق بمقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وليضيق العذر على من يعينه على إثمه وظلمه ، إذ كان الله قد خطر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه ، بقوله لإبراهيم :
  ( لا ينال عهدي الظالمين ) أي: المشركين ، لأنه سمى الظلم شركا بقوله : ( إن الشرك لظلم عظيم ) فلما علم إبراهيم ( عليه السلام ) أن عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام، قال : ( فاجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) واعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين، والكفار على الأبرار، فقد افترى

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 374 _

  إثما عظيما ، إذا كان قد بين في كتابه الفرق بين المحق والمبطل ، والطاهر والنجس والمؤمن والكافر ، وأنه لا يتلوا النبي عند فقده إلا من حل محله صدقا ، وعدلا ، وطهارة ، وفضلا .
  وأما الأمانة التي ذكرتها فهي : الأمانة التي لا تجب ولا تجوز أن تكون إلا في الأنبياء وأوصيائهم ، لأن الله تبارك وتعالى ائتمنهم على خلقه ، وجعلهم حججا في أرضه والسامري ومن أجمع معه وأعانه من الكفار على عبادة العجل عند غيبة موسى ما تم انتحال محل موسى من الطغام ، والاحتمال لتلك الأمانة التي لا ينبغي إلا لطاهر من الرجس ، فاحتمل وزرها ووزر من سلك سبيله من الظالمين وأعوانهم ولذلك قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ومن استن سنة حق كان له : أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ولهذا القول من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاهد من كتاب الله، وهو : قول الله عز وجل في قصة قابيل قاتل أخيه : ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا ) والإحياء في هذا الموضع تأويل في الباطن ليس كظاهره ، وهو من هداها ، لأن الهداية هي : حياة الأبد ، ومن سماه الله حيا لم يمت أبدا ، إنما ينقله من دار محنة إلى دار راحة ومنحة .
  وأما ما كان من الخطاب بالانفراد مرة ، وبالجمع مرة ، من صفة الباري جل ذكره ، فإن الله تبارك وتعالى اسمه، على ما وصف به نفسه بالانفراد والوحدانية ، هو : النور الأزلي القديم الذي ليس كمثله شئ ، لا يتغير ، ويحكم ما يشاء ويختار ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزه ولا نقص منه ما لم يخلقه ، وإنما أراد بالخلق إظهار قدرته ، وإبداء سلطانه ، وتبيين براهين حكمته ، فخلق ما شاء كما شاء ، وأجري فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من أمنائه ، وكان فعلهم فعله ، وأمرهم أمره ، كما قال : ( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ) وجعل السماء والأرض وعاء لمن يشاء من خلقه ، ليميز الخبيث من الطيب، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها ، وليجعل ذلك مثالا

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 375 _

  لأوليائه وأمنائه ، وعرف الخليقة فضل منزلة أوليائه ، وفرض عليهم من طاعتهم مثل الذي فرضه منه لنفسه ، وألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطابا يدل على انفراده وتوحده وبأن له أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله ، فهم : ( العباد المكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) ( هو الذي (1) أيدهم بروح منه ) وعرف الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) وهم : النعيم الذي يسأل العباد عنه ، لأن الله تبارك وتعالى أنعم بهم على من اتبعهم من أوليائهم .
  قال السائل : من هؤلاء الحجج ؟
  قال : هم رسول الله، ومن حل محله من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه ورسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه ، وهم ولاة الأمر الذين قال الله فيهم : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وقال فيهم : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) قال السائل : ما ذاك الأمر ؟
  قال علي ( عليه السلام ) : الذي به تنزل الملائكة في الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، من: خلق ، ورزق ، وأجل ، وعمل ، وعمر ، وحياة وموت ، وعلم غيب السماوات والأرض، والمعجزات التي لا تنبغي إلا لله وأصفيائه والسفرة بينه وبين خلقه ، وهم وجه الله الذي قال : فأينما تولوا فثم وجه الله ( هم بقية الله يعني المهدي يأتي عند انقضاء هذه النظرة ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، ومن آياته : الغيبة والاكتتام ، عند عموم الطغيان ، وحلول الانتقام ، ولو كان هذا الأمر الذي عرفتك بأنه للنبي دون غيره ، لكان الخطاب يدل على فعل ماض ، غير دائم ولا مستقبل ، ولقال : ( نزلت الملائكة ) ( وفرق كل أمر حكيم ) ولم يقل : ( تنزل الملائكة ) ويفرق كل أمر حكيم ( وقد زاد جل ذكره في التبيان ، وإثبات الحجة ، بقوله ـ في أصفيائه وأوليائه ( عليهم السلام ) ـ : ( أن تقول نفس

---------------------------
(1) في بعض النسخ : ( وهم الذين ) .