الفهرس العام

إحتجاجه ( عليه السلام ) على بعض اليهود وغيره في أنواع شتى من العلوم

إحتجاجه ( عليه السلام ) على من قال بزوال الأدواء بمداوات الأطباء دون الله سبحانه وعلى من قال بأحكام النجوم من المنجمين وغيرهم من الكهنة والسحرة .


  من هذا ، إنه لين الله له الصم الصخور الصلاب وجعلها غارا ، (1) ولقد غارت الصخرة تحت يده ببيت المقدس لينة حتى صارت كهيئة العجين ، (2) وقد رأينا ذلك والتمسناه تحت رايته.
  قال له اليهودي: هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبل معه لخوفه قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا ، إنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أريز كأريز المرجل على الأثافي من شدة البكاء ، (3) وقد آمنه الله عز وجل من عقابه ، فأراد أن يتخشع لربه ببكائه فيكون إماما لمن اقتدى به ، ولقد قام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه ، يقوم الليل أجمع، حتى عوتب في ذلك فقال الله عز وجل: ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) (4) بل لتسعد به ، ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه ، فقيل له : يا رسول الله أليس الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : بلى أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ولئن سارت الجبال وسبحت معه لقد عمل بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما هو أفضل من هذا : إذ كنا معه على جبل حراء إذ تحرك الجبل فقال له : ( قر فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق شهيد ) فقر الجبل مطيعا لأمره ومنتهيا إلى طاعته ، ولقد مررنا معه بجبل وإذا الدموع تخرج من بعضه ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ما يبكيك يا جبل ؟ فقال : يا رسول الله كان المسيح مر بي وهو يخوف الناس من نار وقودها الناس والحجارة ، وأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة، قال له : ( لا تخف تلك الحجارة الكبريت ) فقر الجبل وسكن وهدأ وأجاب لقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

---------------------------
(1) يظهر من هذا الكلام أن الغار أحدث لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يكن من قبل .
(2) وذلك ليلة المعراج.
(3) الأريز: هو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء ، والمرجل ـ كمنبر ـ : القدر.
والأثافي: الأحجار التي يوضع عليها القدر.
(4) طه ـ 1.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 327 _

  قال له اليهودي: فإن هذا سليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ؟
  فقال علي ( عليه السلام ): لقد كان كذلك، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا إنه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله ، وهو: ميكائيل فقال له : يا محمد عش ملكا منعما وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك ، ويسير معك جبالها ذهبا وفضة ، ولا ينقص لك مما ادخر لك في الآخرة شئ ، فأومى إلى جبرئيل ـ وكان خليله من الملائكة ـ فأشار عليه ، أن تواضع فقال له : بل أعيش نبيا عبدا آكل يوما ولا آكل يومين ، والحق بإخواني من الأنبياء فزاده الله تبارك وتعالى الكوثر، وأعطاه الشفاعة، وذلك أعظم من ملك الدنيا من أولها إلى آخرها سبعين مرة ، ووعده المقام المحمود، فإذا كان يوم القيامة أقعده الله عز وجل على العرش، فهذا أفضل مما أعطي سليمان .
  قال له اليهودي: فإن هذا سليمان قد سخرت له الرياح، فسارت به في بلاده غدوها شهر ورواحها شهر ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا : إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام ، في أقل من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش ، فدنى بالعلم فتدلى من الجنة رفرف أخضر ، وغشى النور بصره فرأى عظمة ربه عز وجل بفؤاده ، ولم يرها بعينه ، فكان كقاب قوسين بينه وبينها أو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى ، وكان فيما أوحى إليه: الآية التي في سورة البقرة قوله : ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير ) (1) وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تبارك وتعالى محمدا ، وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها ، وقبلها رسول الله وعرضها على أمته فقبلوها ، فلما رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنهم لا يطيقونها ،

---------------------------
(1) البقرة ـ 284 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 328 _

  فلما أن سار إلى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه ، فقال: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ـ فأجاب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجيبا عنه وعن أمته ـ والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) (1) فقال جل ذكره لهم الجنة والمغفرة على أن فعلوا ذلك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما إذا فعلت ذلك بنا ، فغفرانك ربنا وإليك المصير، يعني المرجع في الآخرة، قال : فأجابه الله عز وجل قد فعلت ذلك بك وبأمتك ، ثم قال عز وجل: أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الأمم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمتك حق علي أن أرفعها عن أمتك وقال: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت ـ من خير ـ وعليها ما اكتسبت ) (2) من شر فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ لما سمع ذلك ـ : أما إذا فعلت ذلك بي وبأمتي فزدني قال : سل ، قال : ( ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ) (3) قال الله عز وجل لست أؤاخذ أمتك بالنسيان والخطأ لكرامتك علي ، وكانت الأمم السالفة إذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب ، وقد دفعت ذلك عن أمتك وكانت الأمم السالفة إذا أخطأوا أخذوا بالخطأ وعوقبوا عليه ، وقد رفعت ذلك عن أمتك لكرامتك علي ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني ) قال الله تبارك وتعالى له :
  سل ، قال : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) (4) يعني بالأصر : الشدائد التي كانت على من كان من قبلنا ، فأجابه الله عز وجل إلى ذلك ، وقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمتك الآصار التي كانت على الأمم السالفة كنت لا أقبل صلاتهم إلا في بقاع معلومة من الأرض اخترتها لهم وإن بعدت ، وقد جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا ، فهذه من الآصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم، وقد جعلت الماء لأمتك طهورا ، فهذا من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس ، فمن قبلت ذلك منه أرسلت عليه نارا فأكلته فرجع مسرورا ، ومن لم

---------------------------
(1) البقرة ـ 85.
(2 ، 3 ، 4) البقرة ـ 286.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 329 _

  قبل منه ذلك رجع مثبورا (1) وقد جعلت قربان أمتك في بطون فقرائها ومساكينها فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة، ومن لم أقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا، وقد رفعت ذلك عن أمتك وهي من الآصار التي كانت على الأمم من كان من قبلك ، وكانت الأمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار، وهي من الشدائد التي كانت عليهم ، فرفعتها عن أمتك وفرضت صلاتهم في أطراف الليل والنهار ، وفي أوقات نشاطهم ، وكانت الأمم السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا وهي من الآصار التي كانت عليهم ، فرفعتها عن أمتك وجعلتها خمسا في خمسة أوقات، وهي إحدى وخمسون ركعة ، وجعلت لهم أجر خمسين صلاة ، وكانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة وهي من الآصار التي كانت عليهم ، فرفعتها عن أمتك وجعلت الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة فلم يعملها لم تكتب له ، وإن عملها كتبت له حسنة ، وأن أمتك إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشرة ، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه سيئة ، وأن أمتك إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك ، وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم ، وجعلت توبتهم من الذنوب: إن حرمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن أمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم وجعلت عليهم ستورا كثيفة ، وقبلت توبتهم بلا عقوبة ، ولا أعاقبهم بأن أحرم عليهم أحب الطعام إليهم ، وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم إلى الله من الذنب الواحد مائة سنة ، أو ثمانين سنة ، أو خمسين سنة ، ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبه في الدنيا بعقوبة ، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وإن الرجل من أمتك ليذنب عشرين سنة ، أو ثلاثين سنة ، أو أربعين سنة ، أو مائة سنة

---------------------------
(1) المثبور: الخائب

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 330 _

  ثم يتوب ويندم طرفة عين فاغفر ذلك كله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا أعطيتني ذلك كله فزدني قال : سل ، قال : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) (1) قال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بأمتك ، وقد رفعت عنهم عظم بلايا الأمم، وذلك حكمي في جميع الأمم: أن لا أكلف خلقا فوق طاقتهم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ) (2) قال الله عز وجل : قد فعلت ذلك بتائبي أمتك ثم قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( فانصرنا على القوم الكافرين ) (3) قال الله جل اسمه: إن أمتك في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون، وهم القاهرون، يستخدمون ولا يستخدمون ، لكرامتك علي ، وحق علي أن أظهر دينك على الأديان، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلا دينك ، ويؤدون إلى أهل دينك الجزية.
  قال اليهودي: فإن هذا سليمان سخرت له الشياطين، يعملون له ما يشاء:
  من محاريب ، وتماثيل ؟
  قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ولقد أعطي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أفضل من هذا إن الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها ، ولقد سخرت لنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الشياطين بالإيمان ، فأقبل إليه من الجنة التسعة من أشرافهم، واحد من جن نصيبين ، والثمان من بني عمرو بن عامر من الأحجة (4) منهم شضاه ، ومضاه (5) والهملكان ، والمرزبان ، والمازمان ، ونضاه ، وهاضب ، وهضب ، وعمرو ، وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) (6) وهم التسعة، فأقبل إليه الجن والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم فبايعوه على :

---------------------------
( 1 ، 2 ، 3 ) البقرة ـ 286 .
(4) الأحجة ـ جمع حجيج ـ أي الذين يقيمون الحج ، وفي بعض النسخ: ( الأجنحة ) أي: الرؤساء .
(5) وفي بعض النسخ: ( شضاة ومضاة ) .
(6) الأحقاف ـ 29 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 331 _

  الصوم ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والجهاد ، ونصح المسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططا ، وهذا أفضل مما أعطي سليمان ، فسبحان من سخرها لنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أن كانت تتمرد ، وتزعم أن لله ولد ، ولقد شمل مبعثه من الجن والإنس ما لا يحصى .
  قال له اليهودي: هذا يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) يقال : إنه أوتي الحكم صبيا ، والحلم ، والفهم ، وإنه كان يبكي من غير ذنب ، وكان يواصل الصوم ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا : إن يحيى بن زكريا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهلية ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أوتي الحكم والفهم صبيا بين عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، فلم يرغب لهم في صنم قط ، ولم ينشط لأعيادهم ، ولم ير منه كذب قط ، وكان أمينا، صدوقا ، حليما ، وكان يواصل الصوم الأسبوع والأقل والأكثر فيقال له في ذلك فيقول:
  إني لست كأحدهم ، إني أظل عند ربي ، فيطعمني ، ويسقيني ، وكان يبكي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى تبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم .
  قال له اليهودي فإن هذا عيسى بن مريم يزعمون أنه: تكلم في المهد صبيا ؟
  قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سقط من بطن أمه واضعا يده اليسرى على الأرض، ورافعا يده اليمنى إلى السماء ، يحرك شفتيه بالتوحيد وبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه : قصور بصرى من الشام وما يليها ، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها ، والقصور البيض من اسطخر وما يليها ، ولقد أضائت الدنيا ليلة ولد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى فزعت الجن والإنس والشياطين ، وقالوا حدث في الأرض حدث ، ولقد رأي الملائكة ليلة ولد تصعد ، وتنزل ، وتسبح ، وتقدس ، وتضطرب النجوم وتتساقط ، علامة لميلاده ، ولقد هم إبليس بالظعن في السماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة ، وكان له مقعد في السماء الثالثة، والشياطين يسترقون السمع، فلما رأوا العجائب أرادوا أن يسترقوا السمع ، فإذا هم

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 332 _

  قد حجبوا من السماوات كلها ، ورموا بالشهب ، دلالة (1) لنبوته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  قال له اليهودي: فإن عيسى عليه السلام يزعمون أنه قد أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ؟
  فقال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من ذلك: أبرأ ذا العاهة من عاهته ، بينما هو جالس ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ سأل عن رجل من أصحابه فقالوا : يا رسول الله إنه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ الذي لا ريش عليه ، فأتاه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإذا هو كهيئة الفرخ من شدة البلاء، فقال له : قد كنت تدعو في صحتك دعاء ؟ قال : نعم كنت أقول: ( يا رب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فعجلها لي في الدنيا ) فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ألا قلت : ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) فقالها الرجل فكأنما نشط من عقال ، وقام صحيحا وخرج معنا ، ولقد أتاه رجل من جهينة أجذم يتقطع من الجذام فشكا إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأخذ قدحا من ماء فتفل عليه ، ثم قال : امسح به جسدك ففعل فبرأ حتى لم يوجد عليه شئ ، ولقد أتي النبي بأعرابي أبرص فتفل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فيه عليه فما قام من عنده إلا صحيحا ، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ ذا العاهات من عاهاتهم ، فإن محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينما هو في أصحابه إذ هو بامرأة فقالت : يا رسول الله إن ابني قد أشرف على حياض الموت كلما أتيته بطعام وقع عليه التثاؤب ، فقام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقمنا معه فلما أتيناه قال له : جانب يا عدو الله ولي الله، فأنا رسول الله، فجانبه الشيطان فقام صحيحا وهو معنا في عسكرنا ، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ العميان ، فإن محمدا قد فعل ما هو أكبر من ذلك : إن قتادة بن ربيع كان رجلا صحيحا ، فلما أن كان يوم أحد أصابته طعنة في عينه فبدرت حدقته ، (2) فأخذها بيده ثم أتى بها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا رسول الله إن امرأتي الآن تبغضني ، فأخذها رسول الله من يده ثم وضعها مكانها فلم تكن تعرف إلا بفضل حسنها وفضل ضوئها

---------------------------
(1) في بعض النسخ: ( جلالة ) .
(2) الحدقة: سواد العين الأعظم .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 333 _

  على العين الأخرى، ولقد جرح عبد الله بن عبيد (1) وبانت يده يوم حنين ، فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فمسح عليه يده فلم تكن تعرف من اليد الأخرى ، ولقد أصاب محمد ابن مسلم يوم كعب بن أشرف مثل ذلك في عينه ويده ، فمسحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلم تستبينا ، ولقد أصاب عبد الله بن أنيس مثل ذلك في عينه ، فمسحها فما عرفت من الأخرى ، فهذه كلها دلالة لنبوته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون : أنه أحيى الموتى بإذن الله ؟
  قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ومحمد سبحت في يده تسع حصيات تسمع نغماتها في جمودها ، ولا روح فيها لتمام حجة نبوته ، ولقد كلمه الموتى من بعد موتهم، واستغاثوه مما خافوا تبعته ، ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال : ما هاهنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان اليهودي ، وكان شهيدا ، ولئن زعمت أن عيسى كلم الموتى فلقد كان لمحمد ما هو أعجب من هذا : إن النبي لما نزل بالطايف وحاصر أهلها، بعثوا إليه بشاة مسلوخة مطلية بسم ، فنطق الذراع منها فقالت : يا رسول الله لا تأكلني فإني مسمومة فلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله على المنكرين لنبوته ، فكيف وقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشي (2)! ولقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعو بالشجرة فتجيبه ، وتكلمه البهيمة، وتكلمه السباع، وتشهد له بالنبوة، وتحذرهم عصيانه، فهذا أكثر مما أعطي عيسى ( عليه السلام ) .
  قال له اليهودي: إن عيسى يزعمون أنه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد كان له أكثر من هذا: إن عيسى أنبأ قومه بما كان من وراء الحايط ومحمد أنبأ عن مؤتة (3) وهو عنها غائب ووصف

---------------------------
(1) في بعض النسخ: ( بن عتيك ) .
(2) أي: من بعدك ما صار مشويا مطبوخا .
(3) مؤتة ـ بضم الميم وسكون الهمزة وفتح التاء ـ اسم موضع قتل فيه جعفر
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 334 _

  حربهم ومن استشهد منهم وبينة وبينهم مسيرة شهر ، وكان يأتيه الرجل يريد أن يسأله عن شئ فيقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : تقول أو أقول: فيقول : بل قل يا رسول الله فيقول :
  جئتني في كذا وكذا حتى يفرغ من حاجته ، ولقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخبر أهل مكة بأسرارهم بمكة حتى لا يترك من أسرارهم شيئا ، منها : ما كان بين صفوان بن أمية وبين عمير بن وهب ، إذ أتاه عمير فقال : جئت في فكاك ابني فقال له : كذبت بل قلت لصفوان بن أمية وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم : والله للموت أهون علينا من البقاء مع ما صنع محمد بنا ، وهل حياة بعد أهل القليب ، فقلت أنت: لولا عيالي ، ودين علي لأرحتك من محمد ، فقال صفوان : علي أن أقضي دينك ، وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما يصيبهن من خير أو شر ، فقلت أنت:
  فاكتمها علي وجهزني حتى أذهب فأقتله ، فجئت لقتلي ، فقال : صدقت يا رسول الله فأنا أشهد: أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأشباه هذا مما لا يحصى.
  قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون : أنه خلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طيرا بإذن الله ؟
  فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد فعل ما هو شبيه لهذا إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا ، ثم قال للحجر : انفلق فانفلق ثلاث فلق ، يسمع لكل فلقة منها تسبيحا لا يسمع للأخرى ، ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته ، ولكل غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس ، ثم قال لها : انشقي، فانشقت نصفين ، ثم قال لها : التزقي ، فالتزقت ، ثم قال لها : اشهدي لي بالنبوة فشهدت ، ثم قال لها ارجعي إلى مكانك بالتسبيح والتهليل والتقديس ففعلت ، وكان موضعها حيث الجزارين بمكة.
  قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان سياحا ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد كانت سياحته في الجهاد، واستنفر

---------------------------
<=
ابن أبي طالب ( عليه السلام ) والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة فأخبر أصحابه بقتله وهو من على المنبر وقد مر ذكره في هامش ص 172.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 335 _

  في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر وباد ، وأفنى فئاما من العرب (1) من منعوت بالسيف لا يدارى بالكلام (2) ولا ينام إلا عن دم، ولا يسافر إلا وهو متجهز لقتال عدوه .
  قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون : أنه كان زاهدا ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أزهد الأنبياء ( عليهم السلام ) : كان له ثلاثة عشر زوجة سوى من يطيف به من الإماء، ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام ، ولا أكل خبز برقط ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط ، توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم، ما ترك صفراء ولا بيضاء مع ما وطئ له من البلاد، (3) ومكن له من غنائم العباد ، ولقد كان يقسم في اليوم الواحد الثلثمائة ألف وأربعمائة ألف ويأتيه السائل بالعشي فيقول:
  والذي بعث محمدا بالحق ما أمسى في آل محمد صاع من شعير ، ولا صاع من بر، ولا درهم ، ولا دينار .
  قال له اليهودي: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد أنه ما أعطى الله نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وزاد محمدا على الأنبياء أضعاف درجات .
  فقال ابن عباس لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : أشهد يا أبا الحسن إنك من الراسخين في العلم .
  فقال ويحك وما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله عز وجل في عظمته فقال : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (4).

---------------------------
(1) الفئام ـ بالكسر مهموزا ـ : الجماعة الكثيرة وقد فسر في بعض الأخبار بمائة ألف .
(2) في بعض النسخ: ( لا يبالي ) .
(3) وطئ له : مهد وذلل ويسر .
(4) القلم ـ 4 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 336 _

  عن صالح عن عقبة (1) عن الصادق ( عليه السلام ) قال : لما هلك أبو بكر واستخلف عمر ، خرج عمر إلى المسجد فقعد ، فدخل عليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إني رجل من اليهود، وأنا علامتهم ، قد أردت أن أسئلك عن مسائل إن أخبرتني بها أسلمت قال : وما هي ؟ قال : ثلاث ، وثلاث وواحدة ، فإن شئت سئلتك ، وإن كان في القوم أحد أعلم منك فارشدني ، قال : عليك بذاك الشاب يعني علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأتى عليا ( عليه السلام ) فسأل فقال له : قلت : ثلاثا وثلاثا وواحدة ألا قلت سبعا ؟ قال إني إذا لجاهل ، إن لم تجبني في الثلاث اكتفيت ، قال: فإن أجبتك تسلم ؟
  قال : نعم .
  قال : سل .
  قال : أسألك عن أول حجر وضع على وجه الأرض، وأول عين نبعت، وأول شجرة نبتت ؟
  قال : يا يهودي أنتم تقولون : أول حجر وضع على وجه الأرض الحجر الذي في بيت المقدس ، وكذبتم ، هو : ( الحجر الأسود ) الذي نزل مع آدم ( عليه السلام ) من الجنة قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ( عليه السلام ) .
  قال أمير المؤمنين عليه السلام: وأما العين فأنتم تقولون ، إن أول عين نبعت على

---------------------------
(1) صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عده الشيخ في أصحاب الصادق والكاظم ( عليهما السلام ) وذكره العلامة في القسم الثاني من الخلاصة.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 337 _

  وجه الأرض: العين التي ببيت المقدس، وكذبتم وهي : ( عين الحياة ) التي غسل فيها النون موسى ، وهي العين التي شرب منها الخضر، وليس يشرب منها أحد إلا حي .
  قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى .
  قال علي ( عليه السلام ) وأما الشجرة فأنتم تقولون ، إن أول شجرة نبتت على وجه الأرض الزيتون وكذبتم ، وهي : ( العجوة ) نزل بها آدم ( عليه السلام ) من الجنة.
  قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى عليهما السلام.
  قال : والثلاث الأخرى كم لهذه الأمة من إمام هدى لا يضرهم من خذلهم؟
  قال ، اثني عشر إماما.
  قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى .
  قال : وأين يسكن نبيكم من الجنة ؟
  قال : أعلاها درجة، وأشرفها مكانا : في جنات عدن .
  قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى .
  قال ، فمن ينزل معه في منزله ؟
  قال : اثني عشر إماما .
  قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى .
  قال : قد بقيت السابعة .
  قال ، كم يعيش وصيه بعده ؟ قال ثلاثين سنة .
  قال : ثم هو يموت أو يقتل ؟
  قال : يضرب على قرنه فتخضب لحيته .
  قال : صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ثم أسلم وحسن إسلامه.
  وعن أصبغ بن نباته قال : كنت جالسا عند أمير المؤمنين عليه السلام فجاء ابن الكوا (1) فقال :

---------------------------
(1) ابن الكواء اسمه عبد الله، وهو خارجي ملعون ، قرأ خلف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جهرا : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 338 _

  يا أمير المؤمنين من البيوت في قول الله عز وجل: ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها (1) ) ؟
  قال علي ( عليه السلام ) نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منه ، فمن تابعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها فقال : يا أمير المؤمنين وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ؟
  فقال علي ( عليه السلام ) : نحن أصحاب الأعراف: نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف يوم القيامة بين الجنة والنار ، ولا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه ، وذلك بأن الله عز وجل لو شاء عرف للناس نفسه حتى يعرفوه وحده ويأتوه من بابه ، ولكنه جعلنا أبوابه وصراطه وبابه الذي يؤتى منه ، فقال ـ فيمن عدل عن ولايتنا وفضل علينا غيرنا ـ : ( فإنهم عن الصراط لناكبون ) (2) .
  وعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال أتى ابن الكوا أمير المؤمنين فقال :
  والله إن في كتاب الله آية اشتدت على قلبي ، ولقد شككت في ديني.
  فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ثكلتك أمك وعدمتك ، ما هي ؟
  قال: قول الله تبارك وتعالى : ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) (3) فما هذا الصف ؟ وما هذه الطيور ؟ وما هذه الصلاة ؟ وما هذا التسبيح ؟
  فقال علي ( عليه السلام ) : ويحك يا بن الكوا إن الله خلق الملائكة على صور شتى ألا وإن لله ملكا في صورة ديك ، أبح ، أشهب ، براثنه في الأرضين السفلى ، وعرفه

---------------------------
<=
عملك ولتكونن من الخاسرين ( وكان علي ( عليه السلام ) يؤم الناس وهو يجهر بالقراءة ، فسكت ( عليه السلام ) حتى سكت ابن الكواء، ثم عاد في قراءته فعاد حتى فعل ذلك ثلاثا فلما كان في الثالثة قرأ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) .
(1) البقرة ـ 189 .
(2) المؤمنون ـ 74 .
(3) النور ـ 41 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 339 _

  مثني تحت عرش الرحمن ، له جناح بالمشرق من نار ، وجناح بالمغرب من ثلج فإذا حضر وقت كل صلاة قام على براثنه ، ثم رفع عنقه من تحت العرش، ثم صفق بجناحيه كما تصفق الديكة في منازلكم ، فلا الذي من نار يذيب الثلج ، ولا الذي من الثلج يطفئ النار ، ثم ينادي : ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد النبيين، وأن وصيه خير الوصيين، سبوح ، قدوس ، رب الملائكة والروح ) قال : فتصفق الديكة بأجنحتها في منازلكم بنحو من قوله ، وهو قول الله تعالى : ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) من الديكة في الأرض وعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال : سأل ابن الكوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال :
  أخبرني عن بصير بالليل وبصير بالنهار ؟ وعن أعمى بالليل وأعمى بالنهارؤ ؟
  وعن أعمى بالليل بصير بالنهار ؟ وعن أعمى بالنهار بصير بالليل ؟
  فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ويلك سل عما يعنيك ، ولا تسأل عما لا يعنيك ويلك أما بصير بالليل وبصير بالنهار فهو : رجل آمن بالرسل والأوصياء الذين مضوا ، وبالكتب والنبيين ، وآمن بالله ونبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأقر لي بالولاية فأبصر في ليله ونهاره .
  وأما أعمى بالليل أعمى بالنهار فرجل : جحد الأنبياء والأوصياء ، والكتب التي مضت ، وأدرك النبي فلم يؤمن به ، ولم يقر بولايتي ، فجحد الله عز وجل ونبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعمي بالليل وعمي بالنهار .
  وأم بصير بالليل أعمى بالنهار فرجل : آمن بالأنبياء والكتب ، وجحد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنكرني حقي ، فأبصر بالليل وعمي بالنهار.
  وأما أعمى بالليل وبصير بالنهار فرجل : جحد الأنبياء الذين مضوا ، والأوصياء والكتب ، وأدرك محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فآمن بالله وبرسوله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وآمن بإمامتي وقبل ولايتي ، فعمي بالليل وأبصر بالنهار .
  ويلك يا بن الكوا، فنحن بنو أبي طالب بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه .
  قال الأصبغ فلما نزل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من المنبر تبعته فقلت : يا سيدي

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 340 _

  يا أمير المؤمنين قويت قلبي بما بينت فقال لي : يا أصبغ من شك في ولايتي فقد شك في إيمانه ، ومن أقر بولايتي فقد أقر بولاية الله عز وجل ، ولايتي متصلة : بولاية الله كهاتين ـ وجمع بين إصبعيه ـ يا أصبغ من أقر بولايتي فقد فاز ، ومن أنكر ولايتي فقد خاب وخسر ، وهوى في النار ، ومن دخل في النار لبث فيها أحقابا.
  وعن الأصبغ أيضا قال : قام ابن الكوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وهو على المنبر فقال :
  يا أمير المؤمنين أخبرني عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا ؟ وأخبرني عن قرنيه أمن ذهب كان أم من فضة ؟
  فقال : لم يكن نبيا ، ولا ملكا ، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة ، ولكنه كان عبدا أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصح الله له ، وإنما سمي ( ذا القرنين ) لأنه دعا قومه إلى الله عز وجل فضربوه على قرنه ، فغاب عنهم حينا ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الآخرة وفيكم مثله (1).
  عن الصادق (2) عن آبائه ( عليهم السلام ) أن أمير المؤمنين كان ذات يوم جالسا في

---------------------------
(1) يعني بذلك نفسه سلام الله عليه ، فقد ضربه عمرو بن عبد ود الضربة الأولى والضربة الثانية هي ضرية ابن ملجم لعنه الله، التي كانت شهادته ( عليه السلام ) فيها .
(2) ذكر هذا الحديث العلامة المجلسي في ج 9 من بحار الأنوار ص 15 وذكر له مصدرين هما : الاحتجاج وهو الكتاب الذي بين يديك ، والثاني أمالي ابن الشيخ بهذا السند: عن الحسين بن عبيد الله عن هارون بن موسى عن محمد بن همام عن علي بن الحسين الهمداني عن محمد بن البرقي عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر عن الصادق ( عليه السلام ) عن آبائه ( عليهم السلام ) ... الخ.
وذكره الإمام شمس الدين أبي علي فخار بن معد الموسوي في كتابه الجليل: ( الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب فقال :
وبالإسناد عن الشيخ أبي الفتح الكراجكى ـ رحمه الله ـ قال : حدثنا الشيخ الفقيه
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 341 _

  الرحبة ، والناس حوله مجتمعون ، فقام إليه رجل فقال :
  يا أمير المؤمنين أنت بالمكان الذي أنزلك الله به وأبوك معذب في النار ؟
  فقال له علي بن أبي طالب : مه فض الله فاك ، والذي بعث محمدا بالحق نبيا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم ، أبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار ؟! والذي بعث محمدا بالحق نبيا إن نور أبي يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلايق كلهم إلا خمسة أنوار: نور محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ونوري، ونور الحسن، ونور الحسين، ونور تسعة من ولد الحسين، فإن نوره من نورنا خلقه الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام (1) .

---------------------------
<=
أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثني القاضي أبو الحسين محمد بن عثمان بن عبد الله النصيبي في داره ، قال : حدثنا جعفر بن محمد العلوي، قال : حدثنا عبيد الله أحمد ، قال : حدثنا محمد ين زياد، قال حدثنا مفضل بن عمر عن جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) عن أبيه عن آبائه ( عليهم السلام ) ... الخ.
وذكره الحجة الأميني في ج 7 ص 387 من كتاب الغدير وذكر له عدة مصادر فراجع
(1) شيخ البطحاء، ورئيس مكة ، وشيخ قريش ، أبو طالب بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف ، عم الرسول وكافله ، وأبو الأئمة سلام الله عليهم أجمعين.
اسمه الشريف عبد مناف ، وقيل: ( عمران ) وقيل اسمه: ( كنيته ) والأول أصح لقول عبد المطلب وهو يوصيه برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعده :
أوصيك يا عبد مناف بعدي      بـواحد بـعد أبـيه iiفـرد

وقوله أيضا:
وصـيت  من كنيته iiبطالب      عبد  مناف وهو ذو iiتجارب
بابن الحبيب الأكرم iiالأقارب      بابن الذي قد غاب غير آيب

وأمه فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم ، وهي أم عبد الله والد النبي وأم الزبير بن عبد المطلب وقد انقرض .
وأولد أبو طالب أربعة بنين: طالبا ، وعقيلا ، وجعفرا ، وعليا أمير المؤمنين
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 342 _

إحتجاجه ( عليه السلام ) على من قال بزوال الأدواء بمداوات الأطباء دون الله سبحانه وعلى من قال بأحكام النجوم من المنجمين وغيرهم من الكهنة والسحرة
.
  وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد العسكري عن علي بن الحسن زين العابدين ( عليهم السلام ) أنه قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قاعدا ذات يوم ، فأقبل إليه رجل من اليونانيين المدعين للفلسفة والطب ، فقال له:

---------------------------
<=
( عليه السلام ) ، وكان كل واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين ، وأمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي .
كان أبو طالب ( عليه السلام ) : شيخا ، وسيما ، جسيما ، عليه بهاء الملوك، ووقار الحكماء ، وكانت قريش تسميه : ( الشيخ ) ، وكانوا يهابونه ، ويخافون سطوته ، وكانوا يتجنبون أذية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أيامه، فلما توفي سلام الله عليه ، اجترأوا عليه واضطر إلى الهجرة ؟ من وطنه مكة المكرمة إلى المدينة المنورة .
قيل لأكثم بن صيفي حكيم العرب ممن تعلمت الحكمة والرياسة ، والحلم والسيادة ؟
قال : من حليف الحلم والأدب، سيد العجم والعرب ، أبو طالب بن عبد المطلب.
وجرى ذات يوم كلام خشن بين معاوية بن أبي سفيان وصعصعة وابن الكواء، فقال معاوية : لولا إني أرجع إلى قول أبي طالب لقتلتكم وهو :
قابلت جهلهم حلما ومغفرة * والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
وكان سلام الله عليه مستودعا للوصايا فدفعها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو الذي كفله وحماه من قريش ودافع عنه .
روى عن فاطمة بنت أسد: أنه لما ظهر أمارة وفاة عبد المطلب قال لأولاده: من يكفل محمدا ؟ قالوا : هو أكيس منا ، فقل له يختار لنفسه ، فقال عبد المطلب: يا محمد جدك على جناح السفر إلى القيامة، أي عمومتك وعماتك تريد أن يكفلك ؟ فنظر في وجوههم ثم زحف إلى عند أبي طالب ، فقال له عبد المطلب: يا أبا طالب إني قد عرفت ديانتك وأمانتك ، فكن له كما كنت له .
وروي: أنه قال له : يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد ووجدي به ، أنظر كيف
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 343 _

  يا أبا الحسن بلغني خبر صاحبك وأن به جنونا ، وجئت لأعالجه فلحقته قد

---------------------------
<=
تحفظني فيه ، قال أبو طالب : يا أبه لا توصني بمحمد فإنه ابني وابن أخي، فلما توفي عبد المطلب، كان أبو طالب يؤثره ؟ بالنفقة والكسوة على نفسه ، وعلى جميع أهله.
فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصدع بالأمر امتثالا لقوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر ) ونزل قوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) أجمعت قريش على خلافه فحدب عليه أبو طالب ( عليه السلام ) ومنعه وقال:
والله  لـن يـصلوا إليك بجمعهم      حـتى أوسـد بـالتراب iiدفـينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة      وابـشر  بـذاك وقر منك iiعيونا
ودعـوتني  وزعمت أنك iiناصح      فـلقد  صـدقت وكنت قبل iiأمينا
وعـرضت ديـنا قد عرفت بأنه      مـن  خـير أديـان البرية iiدينا

وروى عن زين العابدين ( عليه السلام ) : أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنده فقالوا : نسألك من ابن أخيك النصف ، قال : وما النصف منه ؟ قالوا :
يكف عنا ونكف عنه ، فلا يكلمنا ولا نكلمه ، ولا يقاتلنا ولا نقاتله ، إلا أن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب ، وزرعت الشحناء ، وأنبتت البغضاء ، فقال : يا بن أخي أسمعت ؟ قال : يا عم لو أنصفني بنوا عمي لأجابوا دعوتي ، وقبلوا نصيحتي ، إن الله تعالى أمرني أن ادعوا إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم ، فمن أجابني فله عند الله: الرضوان والخلود في الجنان ، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فقالوا :
قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء ، فنزل : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد ) قالوا : إن كان صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ، ومن يكفر ، فإن وجدناه صادقا آمنا به فنزل : وما كان الله ليذر المؤمنين ) قالوا : والله لنشتمنك وإلهك فنزل : ( وانطلق الملأ منهم ) قالوا : قل له : فليعبد ما نعبد ، ونعبد ما يعبد ، فنزلت سورة الكافرين.
فقالوا : قل له أرسله الله إلينا خاصة ، أم إلى الناس كافة ؟ قال بل إلى الناس أرسلت كافة :
إلى الأبيض والأسود ، ومن على رؤس الجبال، ومن في لجج البحار، ولأدعون ألسنة فارس والروم ، يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ( فتجبرت قريش واستكبرت وقالت: والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا، ولقلعت الكعبة حجرا حجرا ، فنزلت : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) وقوله تعالى : ( ألم
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 344 _

  مضى لسبيله ، وفاتني ما أردت من ذلك ، وقد قيل لي إنك ابن عمه وصهره وأرى

---------------------------
<=
تر كيف فعل ربك ) فقال المطعم بن عدي : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على أن يتخلصوا مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا .
فقال أبو طالب : والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت على خذلاني ، ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك ، فوثب كل قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم ، ويستهزؤون بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومنع الله رسوله بعمه أبي طلب منهم وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع في بني هاشم ، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقيام دونه إلا أبا لهب .
وله في الدفاع عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مواقف شهيرة وشعر رواه الفريقان ، نذكر فيما يلي نموذجا منها :
منها : ما روى من أن أبا جهل بن هشام جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرميه به ، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد، فقال
أبو طالب: أفيقوا بني غالب وانتهوا      عـن  الـغي من بعض ذا iiالمنطق
وإلا  فــإنــي إذن iiخــائـف      بـوائـق  فــي داركـم iiتـلتقي
تــكـون  لـغـيـركم عـبـرة      ورب  الـمـغـارب والـمـشرق
كـما نـال مـن لان مـن iiقـبلكم      ثـمـود وعــاد ومــاذا iiبـقي
غــداة أتـاهـم بـها iiصـرصر      ونـاقة ذي الـعرش قـد iiتـستقي
فـحـل  عـلـيهم بـها iiسـخطه      مــن  الله فـي ضـربة iiالأزرق
غـــداة  يـعـض iiبـعـرقوبها      حـسـاما  مـن الـهند ذا رونـق
وأعـجب  مـن ذاك فـي أمـركم      عـجائب فـي الـحجر iiالـملصق
بـكـف الـذي قـام مـن iiخـبثه      إلـى الـصابر الـصادق iiالـمتقي
فـأثـبـته الله فـــي iiكــفـه      عـلى  رغـمه الـجائر iiالأحـمق
أحـيـمق مـخـزومكم إذ iiغـوى      لـغـى  الـغـواة ولـم iiيـصدق

ومنها : ما روى عن ابن عباس ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دخل الكعبة ، وافتتح الصلاة فقال أبو جهل : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته ؟ فقام ابن الزبعرى،
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 345 _

  بك صفارا قد علاك ، وساقين دقيقين ، ولما أراهما تقلانك ، فأما الصفار فعندي دوائه

---------------------------
<=
وتناول فرثا ودما وألقى ذلك عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجاء أبو طالب ـ وقد سل سيفه ـ فلما رأوه جعلوا ينهضون فقال : والله لئن قام أحد جللته بسيفي ، ثم قال : يا بن أخي من الفاعل بك ؟ قال : هذا عبد الله فأخذ أبو طالب فرثا ودما وألقى ذلك عليه .
ومنها قوله ( عليه السلام ) يخاطب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مسكنا جأشه طالبا منه إظهار دعوته
لا يـمنعنك مـن حق تقوم به      أيد  تصول ولا سلق بأصوات
فـإن  كفك كفي إن مليت iiبهم      ودون نفسك نفسي في الملمات

ومنها قوله يؤنب قريشا ويحذرهم الحرب:
ألا مـن لـهم آخـر الـليل iiمعتم      طـواني وأخـرى النجم لما iiتقحم
طـواني  قـد نامت عيون iiكثيرة      وسـامر أخـرى سـاهر لم iiينوم
لأحـلام  قـوم قـد أرادوا iiمحمدا      بـظلم ومـن لا يتقي البغي iiيظلم
سـعوا سفها واقتادهم سوء iiأمرهم      عـلى خائل من أمرهم غير iiمحكم
رجـاء  أمـور لم ينالوا iiانتظامها      ولـو حـشدوا في كل بدو وموسم
يـرجون مـنه خـطة دون iiنيلها      ضـراب وطـعن بالوشيج iiالمقوم
يـرجون  أن نـسخي بقتل iiمحمد      ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كـذبتم  وبـيت الله حـتى iiتفلقوا      جـماجم تـلقى بـالحطيم iiوزمزم
وتـقطع  أرحـام وتـنسى iiحليلة      حـليلا ويـغشى محرم بعد iiمحرم
هـم الأسد أسد الزأرتين إذا iiغدت      عـلى حـنق لم تخش أعلام iiمعلم
فـيا لـبني فـهر أفـيقوا ولم تقم      نـوائـح قـتلى تـدعى iiبـالتندم
على  ما مضى من بغيكم iiوعقوقكم      وإتـيانكم  فـي أمـركم كل iiمأثم
وظـلم  نبي جاء يدعو إلى iiالهدى      وأمر  أتى من عند ذي العرش iiقيم
فـلا تـحسبونا مـسلميه iiومـثله      إذا كـان فـي قـوم فليس iiبمسلم
فـهـذي مـعاذير وتـقدمة iiلـكم      لـئلا تـكون الـحرب قيل iiالتقدم

ومنها : لما رأى المشركون موقف أبي طالب ( عليه السلام ) من نصرة الرسول وسمعوا أقواله ، اجتمعوا بينهم وقالوا ننافي بني هاشم ، ونكتب صحيفة ونودعها الكعبة: أن
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 346 _

  وأما الساقان الدقيقان فلا حيلة لي لتغليظهما ، والوجه أن ترفق بنفسك في المشي

---------------------------
<=
لا نبايعهم ، ولا نشاريهم ، ولا نحدثهم ، ولا نستحدثهم ولا نجتمع معهم في مجمع ، ولا نقضي لهم حاجة ، ولا نقتضيها منهم ، ولا نقتبس منهم نارا حتى يسلموا إلينا محمدا ويخلوا بيننا وبينه ، أو ينتهي عن تسفيه آبائنا ، وتضليل آلهتنا ، وأجمع كفار مكة على ذلك.
فلما بلغ ذلك أبا طالب ( عليه السلام ) قال ، يخبرهم باستمراره على مناصرة الرسول ومؤازرته له ، ويحذرهم الحرب ، وينهاهم عن متابعة السفهاء:
ألا أبـلغا عـني عـلى ذات iiبينها      لـؤيا  وخـصا من لؤي بني iiكعب
ألـم  تـعلموا أنـا وجـدنا iiمحمدا      نـبيا كـموسى خط في أول iiالكتب
وأن عـلـيه فـي الـعباد iiمـحبة      ولا  حـيف فيمن خصه الله iiبالحب
وأن الــذي لـفقتم فـي iiكـتابكم      يـكون لـكم يـوما كراغية السقب
أفـيقوا  أفيقوا قبل أن تحفر iiالزبى      ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا  تـتبعوا أمـر الغواة iiوتقطعوا      أواصـرنا  بـعد الـمودة iiوالقرب
وتـستجلبوا حـربا عـوانا iiوربما      أمـر عـلى من ذاقه حلب iiالحرب
فـلسنا  وبـيت الله نـسلم أحـمدا      لعزاء  من عض الزمان ولا iiحرب
ولـما تـبن مـنا ومـنكم iiسوالف      وأيـد أبـيدت بـالمهندة iiالـشهب
بـمعترك ضـنك تـرى كسر القنا      به  والضباع العرج تعكف كالسرب
كـأن مـجال الـخيل في iiحجراته      وغـمغمة الأبـطال معركة الحرب
ألـيس  أبـونا هـاشم شـد iiأزره      وأوصـى  بنيه بالطعان وبالضرب

ومنها: أنه كان إذا نامت العيون وأخذ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ممضجعه ، جاءه فانهضه واضجع عليا مكانه فقال له علي ( عليه السلام ) ـ ذات ليلة ـ : يا أبتاه إني مقتول ، فقال أبو طالب
إصبرن يا بني فالصبر iiأحجى      كـل حـي مـصيره iiلشعوب
قـد  بـلوناك والـبلاء iiشديد      لـفداء الـنجيب وابن النجيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب      والـبـاع والـفناء iiالـرحيب
إن تصبك المنون بالنبل iiتترى      مـصيب  منها وغير iiمصيب
كـل حـي وإن تطاول iiعمرا      آخـذ مـن سـهامها iiبنصيب

=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 347 _

  تقلله ولا تكثره ، وفيما تحمله على ظهرك وتحتضنه بصدرك ، أن تقللهما ولا تكثرهما

---------------------------
<=
فقال علي ( عليه السلام ) :
أتأمرني بالصبر في نصر iiأحمد      ووالله  ما قلت الذي قلت iiجازعا
ولكنني أحببت أن ترى iiنصرتي      وتـعلم  أنـي لم أزل لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد      نبي الهدى المحمود طفلا iiويافعا

هذا نزر يسير من مواقف أبي طالب ( عليهم السلام ) ومؤازرته الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومقاومته للمشركين ، وله كثير من أمثالها في دفاعه عن محمد ، وعن دين محمد ، وعن قرآن محمد وعن اتباع محمد ، فهلا يأخذك العجب بعد اطلاعك على هذا وشبهه من أقوال أبي طالب وأفعاله ، ألا تستغرب بعد هذا لو سمعت بعصابة أثرت فيها الروح الأموية الخبيثة، فدفعها خبث عنصرها ، ورداءة نشأتها ، وجرها الحقد إلى القول بأن أبا طالب ( عليهم السلام ) مات كافرا !! وإن تعجب فعجب قولهم : أبو طالب يموت كافرا ؟!!
أبو طالب الذي يقول :
ولقد علمت بأن دين محمد      من خير أديان البرية iiدينا

يموت كافرا ؟!!
أبو طالب الذي يقول ،
لـيعلم خـيار الناس أن iiمحمدا      وزير لموسى والمسيح بن مريم
أتـانا بـهدى مـثل ما أتيا iiبه      فـكل بـأمر الله يهدي iiويعصم

يا لله ويا للعجب قائل هذا يموت كافرا!!
أبو طاب الذي يقول:
ألا تـعلموا أنـا وجـدنا iiمـحمدا      رسولا كموسى خط في أول الكتب

ويقول مخاطبا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ):
أنت النبي محمد      قرم  أغر iiمسود

ويقول:
قل لمن كان من كنانة في العز      وأهـل الـندى وأهل iiالمعالي
قـد أتـاكم من المليك iiرسول      فـاقبلوه  بـصالح iiالأعـمال

ويقول:
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 348 _

  فإن ساقيك دقيقان لا يؤمن عند حمل ثقيل انقصافهما، وأما الصفار فدوائه عندي

---------------------------
<=
فخير بني هاشم iiأحمد      رسول الإله على فترة

وهو الذي يقول:
لـقد  أكـرم الله النبي iiمحمدا      فأكرم خلق الله في الناس أحمد
وشـق لـه مـن اسمه iiليجله      فذو العرش محمود وهذا محمد

ويقول:
إن ابن آمنة النبي محمدا      عندي بمنزلة من iiالأولاد

ويقول:
صدق  ابن آمنة النبي محمد      فـتميزوا غيظا به iiوتقطعوا
إن ابـن آمـنة النبي iiمحمد      سيقوم بالحق الجلي ويصدق

أبو طالب الذي يقول:
يـا شـاهد الله عـلي iiفاشهد      آمـنت  بـالواحد رب iiأحمد
من ظل في الدين فإني مهتدي

كل هذا وأبو طالب مات كافرا !!
إذا كان الإيمان بالتوحيد والإقرار بنبوة محمد لا تكفي في إيمان الرجل، ويكون معتقدها والمقر بها كافرا ، فما هو الإسلام إذن ؟!
إذا كان الذب عن الرسول والاعتراف بنبوته كفرا فما هو الإسلام ؟ طبعا يقول لسان حال تلك العصابة في الجواب:
الإيمان أن تتمكن في نفسك مبادئ أبي سفيان ، وتؤمن بالذي يحلف به أبو سفيان وتقول كما قال : ( ما من جنة ولا نار ) أبو طالب مات كافرا ، وأبو سفيان مات مسلما.
هكذا يقولون كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا !
ويقولون الذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلا !
وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا .
أبو سفيان الذي حزب الأحزاب ضد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والذي ما قامت راية كفر لحرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا وهو قائدها وناعقها ، والذي لم يزل يعلن الحرب والعداء
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 349 _

  وهو هذا ، وأخرج دوائه وقال:

---------------------------
<=
لمحمد ، ودين محمد ، وإله محمد ، وكتاب محمد ، حتى فتح مكة فدخل الإسلام عليه رغم أنفه، ولم يدخل في قلبه ، وأظهر الإسلام وأبطن الكفر ، على العكس مما كان عليه أبو طالب تماما .
أبو سفيان الذي أصر على محو اسم محمد رسول الله يوم صلح الحديبية يموت مسلما وأبو طالب الذي يعترف برسالة محمد ويقول : هو رسول كموسى وعيسى يموت كافرا !
أبو سفيان الذي يقول ـ حين انتهت إليهم الخلافة بمحضر من عثمان ـ :
يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، والذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار يموت مسلما ، والذي يعترف بالبعث والنشور يموت كافرا!
روي عن ابن عباس قال : والله ما كان أبو سفيان إلا منافقا ، ولقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كف بصره ، وفينا علي ( عليه السلام ) ، فأذن المؤذن فلما قال :
أشهد أن محمدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، قال: هاهنا من يحتشم؟ قال واحد من القوم: لا . فقال:
لله در أخي هاشم انظروا أين وضع اسمه، فقال على ( عليهم السلام ): أسخن الله عينك يا أبا سفيان الله فعل ذلك بقوله عز من قائل : ( ورفعنا لك ذكرك ) فقال أبو سفيان : أسخن الله عين من قال : ليس هاهنا من يحتشم .
والعجيب أنهم يقولون عنه إنه مات مسلما ، وأبو طالب مات كافرا ، لعنوا بما قالوا ، نحن أعلم بما يقولون ، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فاصبر على ما يقولون .
وأكثر من هذا عجبا ، وأبعد منه غرابة، ما لفقته تلك العصابة، وافترته على الرسول من أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ وحاشاه ـ قال عنه إنه في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، وإنه منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه.
ولا أدري وليتني أبدا لا أدري لماذا يستحق أبو طالب هذا العذاب ؟
أ لأنه دافع عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أم هو الحقد، والبغض لابن أبي طالب الذي
لعنته بالشام سبعين عاما      لـعن  الله كهلها iiوفتاها

ثم هل تريد أن أزيدك وأزودك من أمثال هذه الأضاليل والأباطيل ، فأذكر لك ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت : كنت عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 350 _

  هذا لا يؤذيك ، ولا يخيسك (1) ولكنه تلزمك حمية من اللحم أربعين صباحا ثم يزيل صفارك .
  فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام: قد ذكرت نفع هذا الدواء لصفاري فهل تعرف شيئا يزيد فيه ويضره ؟ فقال الرجل: بلى حبة من هذا ـ وأشار إلى دواء معه ـ وقال : إن تناوله إنسان وبه صفار أماته من ساعته ، وإن كان لا صفار به صار به صفار حتى يموت في يومه .
  فقال علي ( عليه السلام ) فأرني هذا الضار، فأعطاه إياه.
  فقال له : كم قدر هذا ؟ قال : قدره مثقالين سم ناقع ، قدر كل حبة منه يقتل رجلا .

---------------------------
<=
إذ أقبل العباس وعلي فقال : يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي ، أو قال: ديني.
وفي أخرى بنفس السند عنها أيضا قالت كنت عند النبي فقال : يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا ، فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب.
أسمعت هذا وبعد فهلا ترفع يدك إلى الدعاء وتقول معي: ( اللهم ادخلني النار التي يقطن فيها علي بن أبي طالب ، واجعلني في الضحضاح الذي فيه أبو طالب ، ولا تدخلني الجنة التي يدخل فيها أبو سفيان ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ويزيد بن معاوية فسلام على تلك النار ، ولعنة الله على هذه الجنة ) .
ولـولا  أبـو طالب iiوابنه      لما مثل الدين شخصا iiفقاما
فـذاك بـمكة آوى iiوحامى      وذاك بيثرب خاض الحماما
فـلـله ذا فـاتحا iiلـلهدى      ولـله ذا لـلمعالي iiخـتاما

توفي سلام الله عليه في ( 26 ) رجب في آخر السنة العاشرة من مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورثاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقوله:
أبا  طالب عصمة المستجير      وغيث  المحول ونور iiالظلم
لـقد  هد فقدك أهل iiالحفاظ      فـصلى  عـليك ولي iiالنعم
ولـقاك  ربـك iiرضـوانه      فقد كنت للطهر من خير عم

(1) أي لا ينقصك كناية عن عدم النفع.